وروى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ بعث بكتابه مع رجل إلى كسرى، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.
قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يمزقوا كل ممزق.
وقال عبد الله بن وهب: عن يونس، عن الزهري، حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري، أن رسول الله ﷺ قام ذات يوم على المنبر خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه وتشهد، ثم قال: «أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم».
فقال المهاجرون: يا رسول الله أنا لا نختلف عليك في شيء أبدا فمرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى فأمر كسرى بإيوانه أن يزين، ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله ﷺ أن يقبض منه.
فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله ﷺ.
فقال كسرى: ادنه، فدنا فناوله الكتاب، ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة، فقرأه فإذا فيه: من محمد بن عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس.
قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله ﷺ بنفسه، وصاح، وغضب، ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج.
فلما رأى ذلك قعد على راحلته، ثم سار، ثم قال: والله ما أبالي على أي الطريقين أكون، إذ أديت كتاب رسول الله ﷺ.
قال ولما ذهب عن كسرى ثورة غضبه، بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.
فلما قدم شجاع على النبي ﷺ أخبره بما كان من أمر كسرى، وتمزيقه لكتاب رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «مزق كسرى ملكه».
وروى محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي سلمة، أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله ﷺ قال: «مزق ملكه».
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن حميد، حدثنا سلمة، حدثنا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب قال: وبعث عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب معه:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وأمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.
قال: فلما قرأه شقه وقال: يكتب إلي بهذا وهو عبدي؟!
قال: ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن، أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز، رجلين من عند جلدين فليأتياني به.
فبعث باذام قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا - بكتاب فارس وبعث معه رجلا من الفرس يقال له خرخسرة، وكتب معهما إلى رسول الله ﷺ، يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى.
وقال لأبا ذويه: إيتِ بلاد هذا الرجل وكلمه وائتني بخبره.
فخرجا حتى قدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف، فسألوه عنه فقال: هو بالمدينة.
واستبشر أهل الطائف - يعني وقريش بهما - وفرحوا وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك كفيتم الرجل.
فخرجا حتى قدما على رسول الله ﷺ فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
ودخلا على رسول الله ﷺ وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويلكما من أمركما بهذا؟».
قالا: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى -.
فقال رسول الله ﷺ: «ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي».
ثم قال: «ارجعا حتى تأتياني غدا».
قال: وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، من ليلة كذا وكذا من الليل، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله.
قال: فدعاهما فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا، ونخبر الملك باذام.
قال: «نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء».
ثم أعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذام، فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأيا.
فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه أما بعد: فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم، ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذي كان كسرى قد كتب فيه، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس من كان منهم باليمن.
قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.
فقال له باذام: هل معه شرط؟
قال: لا.
قال الواقدي رحمه الله: وكان قتل كسرى على يدي ابنه شيرويه، ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة من سنة سبع من الهجرة، لست ساعات مضت منها.
قلت: وفي شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر الحرام، وهو قول بعض الشعراء:
قتلوا كسرى بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن
وقال بعض شعراء العرب:
وكسرى إذ تقاسمه بنوه *بأسياف كما اقتسم اللحام
تمخضت المنون له بيوم * أتى ولكل حاملة تمام
وروى الحافظ البيهقي من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبي بكرة أن رجلا من أهل فارس أتى رسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «إن ربي قد قتل الليلة ربك» يعني كسرى.
قال: وقيل له - يعني النبي ﷺ -: إنه قد استخلف ابنته فقال: «لا يفلح قوم تملكهم امرأة».
قال البيهقي: وروى في حديث دحية بن خليفة الكلبي أنه لما رجع من عند قيصر، وجد عند رسول الله ﷺ رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له: إلا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لأفعلن بك.
فبعث إليه فلما قرأ النبي ﷺ كتاب صاحبهم تركهم خمس عشرة ليلة ثم قال لهم: «اذهبوا إلى صاحبكم أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة» فوجدوه كما قال.
قال: وروى داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي نحو هذا.
ثم روى البيهقي من طريق أبي بكر بن عياش، عن داود بن أبي هند، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أقبل سعد إلى رسول الله ﷺ فقال: «إن في وجه سعد خبرا».
فقال: يا رسول الله هلك كسرى.
فقال: «لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس، ثم العرب».
قلت: الظاهر أنه لما أخبر رسول الله ﷺ بهلاك كسرى لذينك الرجلين - يعني الأميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام - فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وشاع في البلاد.
وكان سعد بن أبي وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله ﷺ فأخبره بوفق إخباره عليه السلام، وهكذا بنحو هذا التقدير ذكره البيهقي رحمه الله.
ثم روى البيهقي من غير وجه، عن الزهري: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق فلم يفجأ كسرى إلا برجل يمشي وفي يده عصا.
فقال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
فقال كسرى: نعم، لا تكسرها.
فولى الرجل.
فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه، فقال: من أذن لهذا الرجل علي؟
فقالوا: ما دخل عليك أحد.
فقال: كذبتم.
قال: فغضب عليهم وتهددهم، ثم تركهم.
قال: فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، قال: يا كسرى هل لك في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
قال: نعم لا تكسرها.
فلما انصرف عند دعا حجابه قال لهم كالمرة الأولى، فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا، فقال له: هل لك يا كسرى في الإسلام قبل أن أكسر هذه العصا؟
فقال: لا تكسرها لا تكسرها فكسرها، فأهلك الله كسرى عند ذلك.
وقال الإمام الشافعي: أنبا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فوالذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».
أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة، وأخرجاه من حديث الزهري به.
قال الشافعي: ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله ﷺ مزقه، فقال رسول الله ﷺ: «يمزق ملكه».
وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول الله ﷺ ووضعه في مسك، فقال رسول الله ﷺ: «ثبت ملكه».
قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتي الشام والعراق للتجارة، فأسلم من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكي العراق والشام إلى رسول الله ﷺ، فقال: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده».
قال: فباد ملك الأكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك في الجملة ببركة دعاء رسول الله ﷺ حين عظموا كتابه، والله أعلم.
قلت: وفي هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام، وكانت العرب تسمي قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، والنجاشي لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية، وفرعون لمن ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند، ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد ذكرناها في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وروى مسلم: عن قتيبة وغيره، عن أبي عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر الأبيض».
وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك، وزاد: وكنت أنا وأبي فيهم، فأصبنا من ذلك ألف درهم.