→ فصل أمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقتل وليدا | البداية والنهاية – الجزء الرابع غزوة أوطاس ابن كثير |
من استشهد يوم حنين وأوطاس ← |
وكان سببها أن هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم فيهم الرئيس مالك بن عوف النصري، فلجأوا إلى الطائف فتحصنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له أوطاس، فبعث إليهم رسول الله ﷺ سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الأشعري فقاتلوهم فغلبوهم.
ثم سار رسول الله ﷺ بنفسه الكريمة، فحاصر أهل الطائف كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون يوم حنين أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم إلى نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله ﷺ من سلك الثنايا.
قال: فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهان السلمي ويعرف بابن الدغنة - وهي أمه - دريد بن الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه في شجار لهم، فإذا برجل فأناخ به، فإذا شيخ كبير، وإذا دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد بي؟
قال: أقتلك.
قال: ومن أنت؟
قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمي، ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا.
قال: بئس ما سلحتك أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار، ثم اضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال.
ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلك دريد بن الصمة، قرب والله يوم منعت فيه نساءك، فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف، فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القراطيس من ركوب الخيل أعراء.
فلما رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إياه، فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا.
ثم ذكر ابن إسحاق ما رثت به عمرة بنت دريد أباها، فمن ذلك قولها:
قالوا قتلنا دريدا قلت قد صدقوا * فظل دمعي على السربال منحدر
لولا الذي قهر الأقوام كلهم * رأت سليم وكعب كيف يأتمر
إذن لصبحهم غبا وظاهرة * حيث استقرت نواهم جحفل ذفر
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله ﷺ في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم، فناوشوه القتال، فرمى أبو عامر فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري وهو ابن عمه، فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم الله عز وجل.
ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم فأصاب ركبته فقتله، وقال:
إن تسألوا عني فإني سلمه * ابن سمادير لمن توسمه
أضرب بالسيف رؤوس المسلمه
قال ابن إسحاق: وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر وحديثه: أن أبا عامر الأشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر.
ثم جعلوا يحملون عليه وهو يقول ذلك، حتى قتل تسعة وبقي العاشر، فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه.
فقال الرجل: اللهم لا تشهد عليَّ، فكف عنه أبو عامر فأفلت، فأسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي ﷺ إذا رآه قال: «هذا شريد أبي عامر».
قال: ورمى أبا عامر؛ أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث، من بني جشم بن معاوية، فأصاب أحدهما قلبه، والآخر ركبته فقتلاه، وولى الناس أبا موسى، فحمل عليهما فقتلهما، فقال رجل من بني جشم بن معاوية يرثيهما:
إن الرزية قتل العلا * ء وأوفى جميعا ولم يسندا
هما القاتلان أبا عامر * وقد كان داهية أربدا
هما تركاه لدى معرك * كأن على عطفه مجسدا
فلم ير في الناس مثليهما * أقل عثارا وأرمى يدا
وقال البخاري: ثنا محمد بن العلاء، وحدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله ﷺ من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرمى أبو عامر في ركبته، رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته.
قال: فانتهيت إليه فقلت: يا عم من رماك؟
فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولى، فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟
فكف فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك.
قال: فانتزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء.
قال: يا ابن أخي أقرئ رسول الله ﷺ السلام، وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات، فرجعت فدخلت على رسول الله ﷺ في بيته على سرير مرمل وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقوله: قل له استغفر لي.
قال: فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو من الناس».
فقلت: ولي فاستغفر.
فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما».
قال أبو بردة: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى رضي الله عنهما.
ورواه مسلم، عن أبي كريب محمد بن العلاء، وعبد الله بن أبي براد، عن أبي أسامة به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبا سفيان - وهو الثوري - عن عثمان البتي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا نساء من سبي أوطاس ولهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي ﷺ فنزلت هذه الآية: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 24] .
قال: فاستحللنا بها فروجهن.
وهكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عثمان البتي به.
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة عن، أبي الخليل، عن أبي سعيد الخدري.
وقد رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة، زاد مسلم، وشعبة، والترمذي من حديث همام، عن يحيى ثلاثتهم عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد:
أن أصحاب رسول الله ﷺ أصابوا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك، فكان أناس من أصحاب رسول الله ﷺ كفوا وتأثموا من غشيانهن، فنزلت هذه الآية في ذلك: { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم }
وهذا لفظ أحمد بن حنبل، فزاد في هذا الإسناد أبا علقمة الهاشمي وهو ثقة، وكان هذا هو المحفوظ، والله أعلم.
وقد استدل جماعة من السلف بهذه الآية الكريمة على أن بيع الأمة طلاقها.
روى ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن البصري وخالفهم الجمهور مستدلين بحديث بريرة حيث بيعت، ثم خيرت في فسخ نكاحها أو إبقائه، فلو كان بيعها طلاقها لها لما خيرت.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير بما فيه كفاية وسنذكره إن شاء الله في (الأحكام الكبير)، وقد استدل جماعة من السلف على إباحة الأمة المشركة بهذا الحديث في سبايا أوطاس، وخالفهم الجمهور وقالوا: هذه قضية عين، فلعلهن أسلمن أو كن كتابيات، وموضع تقرير ذلك في (الأحكام الكبير) إن شاء الله تعالى.