→ فصل رد رسول الله عليه السلام ابنته زينب على زوجها أبي العاص | البداية والنهاية – الجزء الرابع سنة ثمان من الهجرة النبوية ابن كثير |
طريق إسلام خالد بن الوليد ← |
إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة
قد تقدم طرف من ذلك فيما ذكره ابن إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي، وذلك في سنة خمس من الهجرة، وإنما ذكره الحافظ البيهقي ها هنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي:
أنبأنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانبا معاندا، حضرت بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت.
قال: فقلت في نفسي: كم أُوِضع؟ والله ليظهرن محمدا على قريش! فلحقت بمالي بالرهط وأقللت من الناس - أي من لقائهم - فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله ﷺ في الصلح، ورجعت قريش إلى مكة جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شيء خير من الخروج، وأنا بعد نائي عن الإسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم، فقدمت مكة وجمعت رجالا من قومي وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني، ويقدمونني فيما نابهم.
فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟
قالوا: ذو رأينا ومدرهنا في يمن نفسه وبركة أمر.
قال: قلت: تعلمون أني والله لأرى أمر محمد أمرا يعلو الأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا.
قالوا: وما هو؟
قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا.
قالوا: هذا الرأي.
قال: قلت: فاجمعوا ما نُهديه له - وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم - فحملنا أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله ﷺ قد بعثه بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.
فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش، وكنت قد أجزأت عنها حتى قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟
قال: قلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا.
ثم قدمته فأعجبه، وفرق منه شيئا بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به، فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلا خرج من عندك وهو رسول عدو لنا، قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك، ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك.
قال: فاستحيا وقال: يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رسول الله من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله؟
قال عمرو: فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق، والعرب، والعجم، وتخالف أنت؟
ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟
قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قلت: أتبايعني له على الإسلام؟
قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم، وكساني ثيابا - وكانت ثيابي قد امتلأت بالدم فألقيتها - ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك، وقالوا: هل أدركت من صاحبك ما أردت؟
فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة، وقلت أعود إليه.
فقالوا: الرأي ما رأيت.
قال: ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت تدفع.
قال: فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة، وخرجت من السفينة ومعي نفقة، فابتعت بعيرا، وخرجت أريد المدينة، حتى مررت على مر الظهران.
ثم مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير، يريدان منزلا، وأحدهما داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين.
قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال: قلت: أين تريد؟
قال: محمدا، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طعم، والله لو أقمت لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها.
قلت: وأنا الله قد أردت محمدا، وأردت الإسلام.
فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعا في المنزل، ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنس قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح يا رباح يا رباح، فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين، وظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد.
وولى مدبرا إلى المسجد سريعا، فظننت أنه بشر رسول الله ﷺ بقدومنا، فكان كما ظننت، وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا على أظلعنا عليه، وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا.
فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة، فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه.
قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر.
فقال: «إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» قال فوالله ما عدل بي رسول الله ﷺ وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد بن جعفر شيخ الواقدي: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب، فقال: أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو بن العاص نحو ذلك.
قلت: كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد عن مولاه حبيب قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع، وسياق الواقدي أبسط وأحسن.
قال الواقدي، عن شيخه عبد الحميد: فقلت ليزيد بن أبي حبيب: وقت لك متى قدم عمرو وخالد؟
قال: لا إلا أنه قال قبل الفتح.
قلت: فإن أبي أخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان، وسيأتي عند وفاة عمرو من صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه، وكيفية حسن صحبته لرسول الله ﷺ مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الإمارة بعده عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضي الله عنه.