→ مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير | البداية والنهاية – الجزء الثامن وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي ابن كثير |
فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة ← |
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عفرة بن عميرة بن عوف بن ثقيف الثقفي.
أسلم أبوه في حياة النبي ﷺ، ولم يره، فلهذا لم يذكره أكثر الناس في الصحابة، وإنما ذكره ابن الأثير في الغابة.
وقد كان عمر بعثه في جيش كثيف في قتال الفرس سنة ثلاث عشرة، فقتل يومئذ شهيدا، وقتل معه نحو من أربعة آلاف من المسلمين، كما قدمنا، وعرف ذلك الجسر به، وهو الجسر على دجلة ويقال له: إلى اليوم جسر أبي عبيد.
وكان له من الولد صفية بنت أبي عبيد، وكانت من الصالحات العابدات.
وهي زوجة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكان عبد الله لها مكرما ومحبا، وماتت في حياته.
وأما أخوها المختار هذا فإنه كان أولا ناصبيا يبغض عليا بغضا شديدا، وكان عند عمه في المدائن، وكان عمه نائبها.
فلما دخلها الحسن بن علي خذله أهل العراق وهو سائر إلى الشام لقتال معاوية بعد مقتل أبيه، فلما أحس الحسن منهم بالغدر فرَّ منهم إلى المدائن في جيش قليل، فقال المختار لعمه: لو أخذت الحسن فبعثته إلى معاوية لاتخذت عنده اليد البيضاء أبدا.
فقال له عمه: بئس ما تأمرني به يا ابن أخي، فما زالت الشيعة تبغضه حتى كان من أمر مسلم بن عقيل بن أبي طالب ما كان، وكان المختار من الأمراء بالكوفة، فجعل يقول: أما لأنصرنه.
فبلغ ابن زياد ذلك، فحبسه بعد ضربه مائة جلدة، فأرسل ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يتشفع فيه، فأرسل يزيد إلى ابن زياد فأطلقه وسيره إلى الحجاز في عباءة، فصار إلى ابن الزبير بمكة فقاتل معه حين حصره أهل الشام قتالا شديدا، ثم بلغ المختار ما قال أهل العراق فيه من التخبيط، فسار إليهم وترك ابن الزبير.
ويقال: إنه سأل ابن الزبير أن يكتب له كتابا إلى ابن مطيع نائب الكوفة ففعل، فسار إليها، وكان يظهر مدح ابن الزبير في العلانية ويسبه في السر، ويمدح محمد بن الحنفية ويدعو إليه، وما زال حتى استحوذ على الكوفة بطريق التشيع وإظهار الأخذ بثأر الحسين.
وبسبب ذلك التفت عليه جماعات كثيرة من الشيعة وأخرج عامل ابن الزبير منها، واستقر ملك المختار بها، ثم كتب إلى الزبير يعتذر إليه ويخبره أن ابن مطيع كان مداهنا لبني أمية، وقد خرج من الكوفة، وأنا ومن بها في طاعتك، فصدقه ابن الزبير لأنه كان يدعو إليه على المنبر يوم الجمعة على رؤوس الناس، ويظهر طاعته.
ثم شرع في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد.
فقتل منهم خلقا كثيرا، وظفر برؤوس كبار منهم كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف الذين ولوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخولي بن يزيد الأصبحي، وخلق غير هؤلاء.
وما زال حتى بعث سيف نقمته إبراهيم بن الأشتر في عشرين ألفا إلى ابن زياد، وكان ابن زياد حين التقاه في جيش أعظم من جيشه - في أضعاف مضاعفة - كانوا ثمانين ألفا.
وقيل: ستين ألفا، فقتل ابن الأشتر ابن زياد وكسر جيشه، واحتاز ما في معسكره، ثم بعث برأس ابن زياد ورؤوس أصحابه مع البشارة إلى المختار، ففرح بذلك فرحا شديدا، ثم إن المختار بعث برأس ابن زياد، ورأس حصين بن نمير ومن معهما إلى ابن الزبير بمكة، فأمر ابن الزبير بها فنصبت على عقبة الحجون.
وقد كانوا نصبوها بالمدينة، وطابت نفس المختار بالملك، وظن أنه لم يبق له عدو ولا منازع، فلما تبين ابن الزبير خداعه ومكره وسوء مذهبه، بعث أخاه مصعبا أميرا على العراق، فسار إلى البصرة فجمع العساكر فما تم سرور المختار حتى سار إليه مصعب بن الزبير من البصرة في جيش هائل، فقتله واحتز رأسه وأمر بصلب كفه على باب المسجد.
وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشرط على البريد، إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعد العشاء فوجد عبد الله يتنفل، فما زال يصلي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس، فلما كان قريب الفجر قال: ما جاء بك؟
فألقى إليه الكتاب فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين معي الرأس.
فقال: ألقه على باب المسجد.
فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين.
فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق.
ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها، وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقا، بل كان كاذبا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عيسى القارئ، أبو عمير بن السدي، عن رفاعة القباني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك.
قال: فأردت أن أضرب عنقه.
قال: فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمر بن الحمق، قال: قال رسول الله ﷺ: «أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن حماد بن سلمة، حدثني عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد.
قال: كنت أقوم على رأس المختار فلما عرفت كذبه هممت أن أسل سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثا حدثناه عمر بن الحمق.
قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من آمن رجلا على نفسه فقتله أعطى لواء غدر يوم القيامة».
ورواه النسائي، وابن ماجه، من غير وجه عن عبد الملك بن عمير وفي لفظ لهما: «من أمن رجلا على دم فقتله فأنا بري من القاتل، وإن كان المقتول كافرا». وفي سند هذا الحديث اختلاف.
وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه.
فقال: صدق، قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } [الأنعام: 121] .
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل.
قال: فقال لي: اخرج فحدث الناس، قال: فخرجت فجاء رجل، فقال: ما تقول في الوحي؟
فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [يوسف: 3] .
وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا } [الأنعام: 112] .
قال: فهموا أن يأخذوني.
فقلت: ما لكم وذاك! إني مفتيكم وضيفكم.
فتركوني، وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه.
وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم: أن أباها دخل على المختار بن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر لو شفت رأي جبريل وميكائيل.
فقال له زيد: خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفترٍ على الله ورسوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن إسحاق بن يوسف، ثنا ابن عوف الصديق الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر الصديق، بعد ما قتل ابنها عبد الله بن الزبير، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل.
فقالت له: كذبت، كان بارا بالوالدين، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله ﷺ أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير.
هكذا رواه أحمد بهذا السند واللفظ.
وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الفضائل، عن عقبة بن مكرم العمي البصري، عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل، عن أبي عقرب واسمه معاوية بن سلم، عن أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال: «إن في ثقيف كذابا ومبيرا».
وفي الحديث قصة طويلة في مقتل الحجاج ولدها عبد الله في سنة ثلاث وسبعين كما سيأتي.
وقد ذكر البيهقي هذا الحديث في دلائل النبوة: وقد ذكر العلماء أن الكذاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة، وأسرّ إلى أخصائه أنه يوحى إليه، ولكن ما أدري هل كان يدّعي النبوة أم لا؟
وكان قد وضع له كرسي يعظم ويحف به الرجال ويستر بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنه كان ضالا مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين، كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129] .
وأما المبير: فهو القتّال وهو الحجاج بن يوسف الثقفي نائب العراق لعبد الملك بن مروان، الذي انتزع العراق من يد مصعب بن الزبير، كما سيأتي بيانه قريبا.
وذكر الواقدي: أن المختار لم يزل مظهرا موافقة ابن الزبير حتى قدم مصعب إلى البصرة في أول سنة سبع وستين وأظهر مخالفته فسار إليه مصعب فقاتله، وكان المختار في نحو من عشرين ألفا.
وقد حمل عليه المختار مرة فهزمه، ولكن لم يثبت جيش المختار حتى جعلوا ينصرفون إلى مصعب ويدعون المختار، وينقمون عليه ما هو فيه من الكهانة والكذب، فلما رأى المختار ذلك انصرف إلى قصر الإمارة فحاصره مصعب فيه أربعة أشهر، ثم قتله في رابع عشر من رمضان سنة سبع وستين، وله من العمر سبع وستون سنة فيما قيل.