→ مالك بن يخامر | البداية والنهاية – الجزء الثامن ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ابن كثير |
وهذه ترجمة مصعب بن الزبير ← |
ففيها: كان مقتل مصعب بن الزبير، وذلك أن عبد الملك بن مروان سار في جنود هائلة من الشام قاصدا مصعب بن الزبير، فالتقيا في هذه السنة، وقد كانا قبلها يركب كل واحد ليلتقي بالآخر فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده.
فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك وبعث بين يديه السرايا، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر، فاستجاب له بعضهم.
وقد كان مصعب سار إلى الحجاز فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك، فأنب الكبراء من الناس وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم، وإقرارهم لهم على ذلك، وهدم دور بعضهم، ثم شخص إلى الكوفة، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه ووصل عبد الملك إلى مسكِن.
وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان فقال: نعم - وهم جماعة كثيرة من الأمراء - وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية.
وخرج مصعب وقد اختلف عليه أهل العراق، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك، وقال: لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده، ومن الذلة لعبيد الله بن زياد.
وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه:
وإن الأولى بألطف من آل هاشمٍ * تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أصحابه أن يقيم بالشام وأن يبعث إلى مصعب جيشا، فأبى وقال: لعلي إن بعثت رجلا شجاعا كان لا رأي له، ومن له رأي ولا شجاعة له، وإني أجد من نفسي بصيرا بالحرب والشجاعة.
وإن مصعبا في بيت شجاعة، أبوه أشجع قرشي، وأخوه لا تجهل شجاعته، وهو شجاع ومعه من يخالفه، ولا علم له بالحرب، وهو يحب الدعة والصفح، ومعي من ينصح لي ويوافقني على ما أريد.
فسار بنفسه فلما تقارب الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات، فجاء إبراهيم بن الأشتر إلى مصعب فألقى إليه كتابا مختوما وقال: هذا جاءني من عبد الملك، ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه، وله نيابة العراق.
وقال لمصعب: أيها الأمير! إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا، فإن أطعتني ضربت أعناقهم.
فقال له مصعب: إني لو فعلت ذلك لم ينصحنا عشائرهم بعدهم.
فقال: فابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه، فإن كانت لك النصرة ضربت أعناقهم، وإن كانت عليك خرجوا بعد ذلك.
فقال له: يا أبا النعمان، إني لفي شغل عن هذا.
ثم قال مصعب: رحم الله أبا بحر - يعني: الأحنف - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن.
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن، فحمل إبراهيم بن الأشتر - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش مصعب على محمد بن مروان، وهو أمير مقدمة الشام - فأزالهم عن موضعهم، فأردفه عبد الملك بعبد الله بن يزيد بن معاوية، فحملوا على ابن الأشتر ومن معه فطحنوهم، وقتل ابن الأشتر رحمه الله وعفا عنه، وقتل معه جماعة من الأمراء.
وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى عبد الملك بن مروان، وجعل مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم، فلا يتحرك أحد.
فجعل يقول: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم، وتفاقم الأمر واشتد القتال، وتخاذلت الرجال، وضاق الحال، وكثر النزال.
قال المدائني: أرسل عبد الملك أخاه إلى مصعب يعطيه الأمان، فأبى وقال: إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا.
قالوا: فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال: يا ابن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان.
فقال له مصعب: قد أمنك عمك فامض إليه.
فقال: لا يتحدث نساء قريش إني أسلمتك للقتل.
فقال له: يا بني فاركب خيل السبق فالحق بعمك فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول ههنا.
فقال: والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك، ولا أقتل إلا معك، ولكن إن شئت ركبت خيلك وسرنا إلى البصرة فإنهم على الجماعة.
فقال: والله لا يتحدث قريش بأني فررت من القتال.
فقال لابنه: تقدم بين يدي حتى أحتسبك، فتقدم ابنه فقاتل حتى قتل.
وأُثخن مصعب بالرمي فنظر إليه زائدة بن قدامة وهو كذلك فحمل عليه فطعنه وهو يقول: يا ثارات المختار.
ونزل إليه رجل يقال له: عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي فقتله وحز رأسه، وأتى به عبد الملك بن مروان، فسجد عبد الملك وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها وقال: لم أقتله على طاعتك ولكن بثأر كان لي عنده، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه.
قالوا: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال عبد الملك: لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة، وكان من أحب الناس إليّ، ولكن هذا الملك عقيم.
وقال: لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى: لو اعتصمت ببعض القلاع وكاتبت من بعد عنك مثل المهلب بن أبي صفرة وغيره فقدموا عليك، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم، فإنك قد ضعفت جدا.
فلم يرد عليه جوابا، ثم ذكر ما جرى للحسين بن علي، وكيف قتل كريما ولم يلق بيده، ولم يجد من أهل العراق وفاء.
وكذلك أبوه وأخوه، ونحن ما وجدنا لهم وفاء، ثم انهزم أصحابه وبقي في قليل من خواصه، ومال الجميع إلى عبد الملك، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا، وكان خليلا له قبل الخلافة.
فقال لأخيه محمد: اذهب إليه فأمنه.
فجاءه فقال له: يا مصعب قد أمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك، فاذهب حيث شئت من البلاد، ولو أراد بك غير ذلك لكان أنزله بك، فأنشدك الله في نفسك.
فقال مصعب: قضي الأمر، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا.
فتقدم ابنه عيسى فقاتل، فقال محمد بن مروان: يا ابن أخي لا تقتل نفسك.
ثم ذكر من قوله ما تقدم، ثم قاتل حتى قتل رحمه الله، ثم ذكر من قتل منهم بعده كما تقدم.
قال: ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال: والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم.
ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة، متى تلد النساء مثل مصعب؟
ثم أمر بمواراته ودفنه هو وابنه وإبراهيم بن الأشتر في قبور بمسكن بالقرب من الكوفة.
قال المدائني: وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور.
وقال: المدائني: سنة ثنتين وسبعين والله أعلم.
قالوا: ولما قتل عبد الملك مصعبا ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود من رؤساء القبائل وسادات العرب.
وجعل يخاطبهم بفصاحة وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة، وبايعه أهل العراق، وفرق العمالات في الناس، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحري أربعين يوما، ثم عزله وولى أخاه بشر بن مروان عليها.
وخطب عبد الملك يوما بالكوفة فقال في خطبته:
إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ولم يغرز ذنبه في الحرم.
ثم قال لهم: إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة، وبالشدة على أهل المعصية، فاسمعوا له وأطيعوا.
وأما أهل البصرة فإنهم لما بلغهم مقتل مصعب، تنازع في إمارتها أبان بن عثمان بن عفان، وعبيد الله بن أبي بكرة، فغلبه أبان عليها، فبايعه أهلها فكان أشرف الرجلين.
قال أعرابي: والله لقد رأيت رداء أبان مال عن عاتقه يوما فابتدره مروان وسعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه.
وقال غيره: مد أبان يوما رجله فابتدرها معاوية وعبد الله بن عامر أيهما يغمزها.
قال: فبعث عبد الملك خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد واليا عليها - يعني: على البصرة - فأخذها من أبان واستناب فيها عبيد الله بن أبي بكرة، وعزل أبانا عنها.
قالوا: وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لأهل الكوفة فأكلوا من سماطه، ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث.
فقال له عبد الملك: ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم؟ ولكن كما قال الأول:
وكل جديد يا أميم إلى البلى * وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ الناس من الأكل نهض فدار في القصر وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال القصر، ومن بنى أماكنه وبيوته، ثم عاد إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول:
اعمل على مهلٍ فإنك ميتٌ * واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى * وكأن ما هو كائنٌ قد كان
قال ابن جرير: وفيها: رجع عبد الملك كما زعم الواقدي إلى الشام.
وفيها: عزل ابن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة وولى عليها طلحة بن عبد الله بن عوف، وكان هو آخر أمرائه عليها، حتى قدم عليها طارق بن عمرو مولى عثمان من جهة عبد الملك.
وفيها: حج بالناس عبد الله بن الزبير ولم يبق له ولاية على العراق.
قال الواقدي: وفيها: عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر لحسان العاني على غزو إفريقية، فسار إليها في عدد كثير، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روما عبّاد أصنام.
وفيها: قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة.
وفيها: خرج عبد الله بن ثور في اليمامة.