→ صعصعة بن ناجية | البداية والنهاية – الجزء الثامن جبلة بن الأيهم الغساني ابن كثير |
سنة أربع وخمسين ← |
ملك نصارى العرب وهو جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن أبي شمر، واسمه المنذر بن الحارث.
وهو: ابن مارية ذات القرطين.
وهو: ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، واسمه: كعب أبو عامر بن حارثة بن امرئ القيس، ومارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة.
ويقال غير ذلك في نسبه، وكنيته جبلة أبو المنذر الغساني الجفني، وكان ملك غسان، وهم نصارى العرب أيام هرقل.
وغسان أولاد عم الأنصار أوسها وخزرجها، وكان جبلة آخر ملوك غسان، فكتب إليه رسول الله ﷺ، كتابا مع شجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله ﷺ.
وقال ابن عساكر: إنه لم يسلم قط، وهكذا صرح به الواحدي وسعيد بن عبد العزيز.
وقال الواقدي: شهد اليرموك مع الروم أيام عمر بن الخطاب ثم أسلم بعد ذلك في أيام عمر، فاتفق أنه وطء رداء رجل من مزينة بدمشق، فلطمه ذلك المزني، فدفعه أصحاب جبلة إلى أبي عبيدة فقالوا: هذا لطم جبلة.
قال أبو عبيدة: فيلطمه جبلة.
فقالوا: أو ما يقتل؟.
قال: لا!.
قالوا: فما تقطع يده؟.
قال: لا، إنما أمر الله بالقود.
فقال جبلة: أترون أني جاعل وجهي بدلا لوجه مازني جاء من ناحية المدينة؟ بئس الدين هذا.
ثم ارتد نصرانيا، وترحل بأهله حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشق عليه وقال لحسان: إن صديقك جبلة ارتد عن الإسلام.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم قال: ولِمَ؟
قال: لطمه رجل من مزينة.
فقال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه.
ورواه الواقدي عن معمر وغيره، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وساق ذلك بأسانيده إلى جماعة من الصحابة.
وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقد روى ابن الكلبي وغيره: أن عمر لما بلغه إسلام جبلة فرح بإسلامه، ثم بعث يستدعيه ليراه بالمدينة.
وقيل: بل استأذنه جبلة في القدوم عليه فأذن له، فركب في خلق كثير من قومه.
قيل: مائة وخمسين راكبا.
فلما سلم على عمر رحب به عمر وأدنى مجلسه، وشهد الحج مع عمر في هذه السنة، فبينما هو يطوف بالكعبة إذ وطء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف ذلك الرجل.
ومن الناس من يقول: إنه قلع عينه، فاستعدى عليه الفزاري إلى عمر ومعه خلق كثير من بني فزارة، فاستحضره عمر فاعترف جبلة.
فقال له عمر: أقدته منك؟
فقال: كيف، وأنا ملك وهو سوقة؟.
فقال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالتقوى.
فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
فقال عمر: دع ذاعنك، فإنك إن لم ترضِ الرجل أقدته منك.
فقال: إذا أتنصر.
فقال: إن تنصرت ضربت عنقك.
فلما رأى الحد قال: سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهمّ الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية، فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقا جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سمّاره، فمكث عنده دهرا.
ثم إن عمر كتب كتابا إلى هرقل مع رجل يقال له: جثامة بن مساحق الكناني.
فلما بلغ هرقل كتاب عمر بن الخطاب قال له هرقل: هل لقيت ابن عمك جبلة؟.
قال: لا!.
قال: فالقه، فذكر اجتماعه به وما هو فيه من النعمة والسرور والحبور الدنيوي، في لباسه وفرشه ومجلسه وطيبه وجواريه، حواليه الحسان من الخدم والقيان، ومطعمه وشرابه وسروره وداره التي تعوض بها عن دار الإسلام.
وذكر أنه دعاه إلى الإسلام والعود إلى الشام فقال: أبعد ما كان مني من الارتداد؟.
فقال: نعم! إن الأشعث بن قيس ارتد وقاتلهم بالسيوف، ثم لما رجع إلى الحق قبله منه وزوجه الصديق بأخته أم فروة.
قال: فالتهى عنه بالطعام والشراب، وعرض عليه الخمر فأبى عليه، وشرب جبلة من الخمر شيئا كثيرا حتى سكر، ثم أمر جواريه المغنيات فغنينه بالعيدان من قول حسان يمدح بني عمه من غسان، والشعر في والد جبلة اخر ملوك الغساسنة:
لله در عصابةٍ نادمتهم * يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم * قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم * بردى يصفّق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمةٌ أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم * لا يسألون عن السواد المقبل
قال: فأعجبه قولهن ذلك.
ثم قال: هذا شعر حسان بن ثابت الأنصاري فينا وفي ملكنا.
ثم قال لي: كيف حاله؟
قلت: تركته ضريرا شيخا كبيرا.
ثم قال لهن: أطربنني، فاندفعن يغنين لحسان أيضا:
لمن الديار أوحشت بمغان * بين أعلا اليرموك فالصمان
فالقريات من بلامس فداريـ*ـا فكساء لقصور الدواني
فقفا جاسمٍ فأودية الصـ*ـفر مغنى قبائلٍ وهجان
تلك دار العزيز بعد أنيسٍ * وحلوكٍ عظيمة الأركان
صلوات المسيح في ذلك الديـ*ـر دعاء القسيس والرهبان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهـ*ـر محاه تعاقب الأزمان
قد أراني هناك حق مكينٍ * عند ذي التاج مجلسي ومكاني
ثكلت أمهم وقد ثكلتهم * يوم حلوا بحارث الحولاني
وقددنا الفصح فالولائد ينظمـ*ـن سراعا أكلة المرجان
ثم قال: هذا لابن الفريعة حسان بن ثابت فينا وفي ملكنا وفي منازلنا بأكناف غوطة دمشق.
قال: ثم سكت طويلا، ثم قال لهن: بكينني، فوضعن عيدانهن ونكسن رؤوسهن وقلن:
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوةٌ * وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ * وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ * أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعةٍ * وقد يصبر العود الكبير على الدبر
قال: فوضع يده على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته بدموعه وبكيت معه، ثم استدعى بخمسمائة دينار هرقلية فقال: خذ هذه فأوصلها إلى حسان بن ثابت، وجاء بأخرى فقال: خذ هذه لك.
فقلت: لا حاجة لي فيها ولا أقبل منك شيئا وقد ارتددت عن الإسلام.
فيقال: إنه أضافها إلى التي لحسان، فبعث بألف دينار هرقلية، ثم قال له: أبلغ عمر بن الخطاب مني السلام وسائر المسلمين.
فلما قدمت على عمر أخبرته خبره فقال: ورأيته يشرب الخمر؟
قلت: نعم!
قال: أبعده الله، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته.
ثم قال: وما الذي وجه به لحسان؟
قلت: خمسمائة دينار هرقلية، فدعا حسانا فدفعها إليه، فأخذها وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ * لم يغرهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها * كلا ولا منتصرا بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده * إلا كبعض عطية المحروم
وأتيته يوما فقرب مجلسي * وسقا فرواني من المذموم
ثم لما كان في هذه السنة من أيام معاوية بعث معاوية عبد الله بن مسعدة الفزاري رسولا إلى ملك الروم، فاجتمع بجبلة بن الأيهم، فرأى ما هو فيه من السعادة الدنيوية والأموال من الخدم والحشم والذهب والخيول.
فقال له جبلة: لو أعلم أن معاوية يقطعني أرض البثينة فإنها منازلنا، وعشرين قرية من غوطة دمشق ويفرض لجماعتنا، ويحسن جوائزنا، لرجعت إلى الشام.
فأخبر عبد الله بن مسعدة معاوية بقوله، فقال معاوية: أنا أعطيه ذلك، وكتب إليه كتابا مع البريد بذلك، فما أدركه البريد إلا وقد مات في هذه السنة قبحه الله.
وذكر أكثر هذه الأخبار الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم وأرخ وفاته هذه السنة - أعني: سنة ثلاث وخمسين - وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه فأطال الترجمة وأفاد.
ثم قال في آخرها: بلغني أن جبلة توفي في خلافة معاوية بأرض الروم بعد سنة أربعين من الهجرة.