→ صفة ابن عباس | البداية والنهاية – الجزء الثامن ثم دخلت سنة تسع وستين ابن كثير |
وهذه ترجمة الأشدق ← |
ففيها: كان مقتل عمرو بن سعيد الأشدق الأموي، قتله عبد الملك بن مروان، وكان سبب ذلك أن عبد الملك ركب في أول هذه السنة في جنوده قاصدا قرقيسيا ليحاصر زفر بن الحارث الكلابي الذي أعان سليمان بن صرد على جيش مروان حين قاتلوهم بعين وردة.
ومن عزمه إذا فرغ من ذلك أن يقصد مصعب بن الزبير بعد ذلك، فلما سار إليها استخلف على دمشق عمرو بن سعيد الأشدق، فتحصن بها وأخذ أموال بيت المال.
وقيل: بل كان مع عبد الملك ولكنه انخذل عنه في طائفة من الجيش وكر راجعا إلى دمشق في الليل، ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلبي، وزهير بن الأبرد الكلبي، فانتهوا إلى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم نائبا من جهة عبد الملك.
فلما أحس بهم هرب وترك البلد، فدخلها عمرو بن سعيد الأشدق فاستحوذ على ما فيها من الخزائن، وخطب بالناس فوعدهم العدل والنصف والعطاء الجزيل والثناء الجميل.
ولما علم عبد الملك بما فعله الأشدق كر راجعا من فوره، فوجد الأشدق قد حصن دمشق وعلق عليها الستائر والمسوح، وانحاز الأشدق إلى حصن رومي منيع كان بدمشق فنزله.
فحاصره عبد الملك وقاتله الأشدق مدة ستة عشر يوما، ثم اصطلحا على ترك القتال، وعلى أن يكون ولي العهد بعد عبد الملك، وعلى أن يكون لكل عامل لعبد الملك عامل له، وكتبا بينهما كتاب أمان، وذلك عشية الخميس.
ودخل عبد الملك إلى دمشق إلى دار الإمارة على عادته، وبعث إلى عمرو بن سعيد الأشدق يقول له: ردَّ على الناس أعطياتهم التي أخذتها من بيت المال.
فبعث إليه الأشدق: أن هذا ليس إليك، وليس هذا البلد لك فاخرج منه.
فلما كان يوم الاثنين بعث عبد الملك إلى الأشدق يأمره بالإتيان إلى منزله بدار الإمارة الخضراء، فلما جاءه الرسول صادف عنده عبد الله بن يزيد بن معاوية وهو زوج ابنته أم موسى بنت الأشدق، فاستشاره عمرو في الذهاب إليه.
فقال له: يا أبا سعيد والله لأنت أحب إليّ من سمعي وبصري، وأرى أن لا نأتيه، فإن تبيعا الحميري ابن امرأة كعب الأحبار قال: إن عظيما من عظماء بني إسماعيل يغلق أبواب دمشق فلا يلبث أن يقتل.
فقال عمرو: والله لو كنت نائما ما تخوفت أن ينبهني ابن الزرقاء، وما كان ليجترئ على ذلك مني، مع أن عثمان بن عفان أتاني البارحة في المنام فألبسني قميصه.
وقال عمرو بن سعيد: أبلغه السلام وقل له: أنا رائح إليك العشية إن شاء الله.
فلما كان العشي - يعني: بعد الظهر - لبس عمرو درعا بين ثيابه وتقلد سيفه ونهض فعثر بالبساط، فقالت امرأته وبعض من حضره: إنا نرى أن لا تأتيه، فلم يلتفت إلى ذلك ومضى في مائة من مواليه.
وكان عبد الملك قد أمر بني مروان فاجتمعوا كلهم عنده، فلما انتهى عمرو إلى الباب أمر عبد الملك أن يدخل وأن يحبس من معه عند كل باب طائفة منهم.
فدخل حتى انتهى إلى صرحة المكان الذي فيه عبد الملك، ولم يبق معه من مواليه سوى وصيف، فرمى ببصره فإذا مروان عن بكرة أبيهم مجتمعون عند عبد الملك، فأحس بالشر فالتفت إلى ذلك الوصيف فقال له همسا: ويلك انطلق إلى أخي يحيى فقل له فليأتني.
فلم يفهم عنه وقال له: لبيك.
فأعاد عليه ذلك فلم يفهم أيضا، وقال: لبيك.
فقال: ويلك أغرب عني في حرق الله وناره.
وكان عند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل، وقبيصة بن ذؤيب، فأذن لهما عبد الملك بالانصراف، فلما خرجا غلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك فرحب به وأجلسه معه على السرير، ثم جعل يحدثه طويلا.
ثم إن عبد الملك قال: يا غلام خذ السيف عنه.
فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين.
فقال له عبد الملك: أوتطمع أن تتحدث معي متقلدا سيفك؟
فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدثا ساعة.
ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية.
قال: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأت عيني منك، وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة.
فقالت بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين.
فقال: ثم أطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أمية.
فقال بنو مروان: بر يمين أمير المؤمنين.
فقال عمرو: بر قسمك يا أمير المؤمنين، فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها، فقام الغلام فجمعه فيها.
فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس.
فقال عبد الملك: أمكرا يا أبا أمية عند الموت؟ لاها الله إذا ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولما نخرجها منك إلا صعدا.
ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته، فقال عمرو: أذكرك الله أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك.
فقال عبد الملك: والله لو أعلم أنك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلد قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه.
وفي رواية أنه قال له: أما علمت يا عمرو وأنه لا يجتمع فحلان في شرك؟.
فلما تحقق عمرو ما يريد من قتله قال له: أغدرا يا ابن الزرقاء؟ وأسمعه كلاما رديئا بشعا، وبينما هما كذلك إذ أذن مؤذن للعصر، فقام عبد الملك ليخرج إلى الصلاة.
وأمر أخاه عبد العزيز بن مروان بقتله، وخرج عبد الملك وقام إليه عبد العزيز بالسيف.
فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن لا تلي ذلك مني، وليتولّ ذلك غيرك، فكف عنه عبد العزيز.
ولما رأى الناس عبد الملك قد خرج وليس معه عمرو، أرجف الناس بعمرو، فأقبل أخوه يحيى بن سعيد في ألف عبدٍ لعمرو بن سعيد وأناس معهم كثير، وأسرع عبد الملك الدخول إلى دار الإمارة.
وجاء أولئك فجعلوا يدقون باب الإمارة ويقولون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية، وضرب رجل منهم الوليد بن عبد الملك في رأسه بالسيف فجرحه، فأدخله إبراهيم بن عدي صاحب الديوان بيتا، وأحرزه فيه، ووقعت خبطة عظيمة في المسجد، وضجت الأصوات.
ولما رجع عبد الملك وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبه وسب أمه - ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك -فقال له: ناشدني الله والرحم، وكان ابن عمّه عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام أتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئا، ثم ثنى فلم تغن شيئا.
فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال: أدارع أيضا؟ إن كنت معدا، يا غلام، ائتني بالصمصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصرع، ثم جلس على صدره فذبحه، وهو يقول:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
قالوا: وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جدا، بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا، فوضوعه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قبله صاحب دنيا ولا آخرة.
ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فخرج إلى الناس فألقاه بين أظهرهم، وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدر من الأموال تحمل، فألقيت بين الناس، فجعلوا يختطفونها.
ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك من الناس إلى بيت المال.
ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزعيزعة بعد ما خرج عبد الملك إلى الصلاة فالله أعلم.
وقد دخل يحيى بن سعيد - أخو عمرو بن سعيد - دار الإمارة بعد مقتل أخيه بمن معه فقام إليهم بنو مروان فاقتتلوا، وجرح جماعات من الطائفتين، وجاءت يحيى بن سعيد صخرة في رأسه أشغلته عن نفسه وعن القتال.
ثم إن عبد الملك بن مروان خرج إلى المسجد الجامع فصعد المنبر فجعل يقول: ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم.
فأتاه إبراهيم بن عدي الكناني فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس.
ثم أمر عبد الملك بيحيى بن سعيد أن يقتل، فتشفع فيه أخوه عبد العزيز بن مروان، وفي جماعات آخرين معه كان عبد الملك قد أمر بقتلهم، فشفعه فيهم وأمر بحبسه فحبس شهرا، ثم سيره وبني عمرو بن سعيد وأهليهم إلى العراق، فدخلوا على مصعب بن الزبير فأكرمهم وأحسن إليهم.
ثم لما انعقدت الجماعة لعبد الملك بعد مقتل ابن الزبير، وفدوا عليه فكاد يقتلهم فتلطف بعضهم في العبارة حتى رق لهم رقة شديدة.
فقال لهم عبد الملك: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، وأما أنتم فما أرغبني فيكم وأوصلني لقرابتكم، وأرعاني لحقكم، فأحسن جائزتهم وقربهم.
وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إليّ بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو.
فقالت: إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله.
وقد كان مروان بن الحكم وعد عمرو بن سعيد هذا أن يكون ولي العهد من بعد ولده عبد الملك، كلاما مجردا، فطمع في ذلك وقويت نفسه بسبب ذلك، وكان عبد الملك يبغضه بغضا شديدا من حال الصغر، ثم كان هذا صنيعه إليه في الكبر.
قال ابن جرير: وذكر أن خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم: أعجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرته حتى قتلته؟
فقال:
وأدنيته مني ليسكن روعه * فأصول صولة حازمٍ مستمكن
غضبا ومحمية لديني إنه * ليس المسيء سبيله كالمحسن
قال خليفة بن خياط: وهذا الشعر للضبي بن أبي رافع، تمثل به عبد الملك.
وروى ابن دريد: عن أبي حاتم، عن الشعبي أن عبد الملك قال: لقد كان عمرو بن سعيد أحب إليّ من دم النواظر، ولكن الله لا يجتمع فحلان في الإبل إلا أخرج أحدهما الآخر، وأنا لَكَما قال أخو بني يربوع:
أجازي من جزاني الخير خيرا * وجازى الخير يجزى بالنوال
وأجزي من جزاني الشر شرا * كما تحذا النعال على النعال
قال خليفة بن خياط: وأنشد أبو اليقظان لعبد الملك في قتله عمرو بن سعيد:
صحت ولا تشلل وضرت عدوها * يمين أراقت مهجة ابن سعيد
وجدت ابن مروان ولا نبل عنده * شديدٌ ضرير الناس غر بليد
هو ابن أبي العاصي لمروان ينتهي * إلى أسرةٍ طابت له وجدود
وكان الواقدي يقول: أما حصار عبد الملك لعمرو بن سعيد الأشدق فكان في سنة تسع وستين، رجع إليه من بطنان فحاصره بدمشق، ثم كان قتله في سنة سبعين والله أعلم.