→ سنة تسع وأربعين | البداية والنهاية – الجزء الثامن الحسن بن علي بن أبي طالب ابن كثير |
سنة خمسين من الهجرة ← |
أبو محمد القرشي الهاشمي، سبط رسول الله ﷺ ابن ابنته فاطمة الزهراء، وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه، ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة، فحنكه رسول الله بريقه وسماه حسنا، وهو أكبر ولد أبويه.
وقد كان رسول الله ﷺ يحبه حبا شديدا حتى كان يقبل ذبيبته وهو صغير، وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه.
وربما جاء رسول الله ﷺ ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيُقره على ذلك ويطيل السجود من أجله.
وربما صعد معه إلى المنبر، وقد ثبت في الحديث أنه عليه السلام بينما هو يخطب، إذ رأى الحسن والحسين مقبلين فنزل إليهما فاحتضنهما وأخذهما معه إلى المنبر وقال: «صدق الله { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن: 15] إني رأيت هذين يمشيان ويعثران فلم أملك أن نزلت إليهما» ثم قال: «إنكم لمن روح الله، وإنكم لتبجلون وتحببون».
وقد ثبت في صحيح البخاري: عن أبي عاصم، عن عمر ابن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، أن أبا بكر صلى بهم العصر بعد وفاة رسول الله بليالٍ، ثم خرج هو وعلي يمشيان فرأى الحسن يلعب مع الغلمان فاحتمله على عنقه، وجعل يقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.
قال: وعلي يضحك.
وروى سفيان الثوري وغير واحد قالوا: ثنا وكيع، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جحيفة يقول: رأيت النبي ﷺ وكان الحسن بن علي يشبهه.
ورواه البخاري ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، قال وكيع: لم يسمع إسماعيل من أبي جحيفة إلا هذا الحديث.
وقال أحمد: ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا زمعة، عن ابن أبي مليكة قالت: كانت فاطمة تنقر للحسن بن علي وتقول: بأبي شبه النبي ليس شبيها بعلي.
وقال عبد الرزاق وغيره: عن معمر، عن الزهري، عن أنس قال: كان الحسن بن علي أشبههم وجها برسول الله ﷺ.
ورواه أحمد: عن عبد الرزاق بنحوه.
وقال أحمد: ثنا حجاج، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هانئ، عن علي قال: الحسن أشبه برسول الله ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه برسول الله ما أسفل من ذلك.
ورواه الترمذي من حديث إسرائيل وقال: حسن غريب.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ، عن علي قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله ﷺ من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس به ما أسفل من ذلك.
وقد روي عن ابن عباس، وابن الزبير، أن الحسن بن علي كان يشبه النبي ﷺ.
وقال أحمد: ثنا حازم بن الفضيل، ثنا معتمر، عن أبيه، قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن أبي عثمان النهدي، يحدثه أبو عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: كان النبي ﷺ يأخذني فيقعدني على فخده، ويقعد الحسن على فخده الأخرى، ثم يضمنا ثم يقول: «اللهم ارحمهما فإني أرحمهما».
وكذا رواه البخاري، عن النهدي، عن محمد بن الفضيل أخو حازم به، وعن علي بن المديني، عن يحيى القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي تميمة، عن أبي عثمان، عن أسامة.
وأخرجه أيضا: عن موسى بن إسماعيل ومسدد، عن معتمر، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن أسامة فلم يذكر أبا تميمة، والله أعلم.
وفي رواية: «اللهم إني أحبهما فأحبهما».
وقال شعبة: عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: رأيت النبي ﷺ والحسن بن علي عاتقه، وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه». أخرجاه من حديث شعبة.
ورواه علي بن الجعد، عن فضيل بن مرزوق، عن عدي، عن البراء، فزاد: «وأحب من أحبه».
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال أحمد: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال للحسن بن علي: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه».
ورواه مسلم: عن أحمد، وأخرجاه من حديث شعبة، وقال أحمد: ثنا أبو النضر، ثنا ورقاء، عن عبيد الله، عن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن أبي هريرة.
قال: كنت مع النبي ﷺ في سوق من أسواق المدينة، فانصرف وانصرفت معه، فجاء إلى فناء فاطمة، فقال: أي لكع، أي لكع، أي لكع، فلم يجبه أحد، فانصرف وانصرفت معه إلى فناء فقعد.
قال: فجاء الحسن بن علي - قال أبو هريرة: ظننا أن أمه حبسته لتجعل في عنقه السخاب - فلما دخل التزمه رسول الله، والتزم هو رسول الله، ثم قال: «إني أحبه وأحب من يحبه» ثلاث مرات.
وأخرجاه من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد الله به.
وقال أحمد: ثنا حماد الخياط، ثنا هشام بن سعد، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن أبي هريرة.
قال: خرج رسول الله إلى سوق بني قينقاع متكئا على يدي، فطاف فيها، ثم رجع فاحتبى في المسجد، وقال: «أين لكاع، ادعوا لي لكاع» فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته فأدخل فمه في فمه، ثم قال: «اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه» ثلاثا.
قال أبو هريرة: ما رأيت الحسن إلا فاضت عينيّ، أو قال دمعت عينيّ، أو بكيت.
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقد رواه الثوري، عن نعيم، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذكر مثله، أو نحوه.
ورواه معاوية بن أبي برود، عن أبيه، عن أبي هريرة بنحوه، وفيه زيادة.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا.
ورواه عثمان بن أبي اللباب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة بنحوه، وفيه زيادة.
وروى أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي نحوا من هذا السياق.
وقال سفيان الثوري وغيره: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ: «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني» غريب من هذا الوجه.
وقال أحمد: ثنا ابن نمير، ثنا الحجاج - يعني: ابن دينار - عن جعفر بن إياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة قال:
خرج علينا رسول الله ومعه حسن وحسين هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك لتحبهما.
فقال: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». تفرد به أحمد.
وقال أبو بكر ابن عياش: عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ يصلي، فجاء الحسن والحسين، فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد، فأراد الناس زجرهما، فلما سلم قال للناس: «هذان ابناي، من أحبهما فقد أحبني».
ورواه النسائي من حديث: عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن عاصم به.
وقد ورد عن عائشة، وأم سلمة أميّ المؤمنين، أن رسول الله اشتمل على الحسن والحسين وأمهما وأبيهما فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».
وقال محمد بن سعد: ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، ثنا شريك، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله.
قال: قال رسول الله ﷺ: «من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي».
وقد رواه وكيع، عن الربيع بن سعد، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر، فذكر مثله، وإسناده لا بأس به، ولم يخرجوه.
وجاء من حديث علي وأبي سعيد وبريده أن رسول الله قال: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما».
وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن عمرو، ثنا إسماعيل ابن عياش، حدثني عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعد بن راشد، عن يعلى بن مرة.
قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله، فجاء أحدهما قبل الآخر فجعل يده تحت رقبته ثم ضمه إلى إبطه، ثم جاء الآخر فجعل يده إلى الأخرى في رقبته ثم ضمه إلى إبطه، وقبّل هذا، ثم قبّل هذا.
ثم قال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»، ثم قال: «أيها الناس إن الولد مبخلة مجبنة مجهلة».
وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي خيثم، عن محمد بن الأسود بن خلف، عن أبيه: أن رسول الله أخذ حسنا فقبله، ثم أقبل عليهم فقال: «إن الولد مبخلة مجبنة».
وقال ابن خزيمة: ثنا عبدة بن عبد الله الخزاعي، ثنا زيد بن الحباب ح، وقال أبو يعلى أبو خيثمة: ثنا زيد بن الحباب، حدثني حسين بن واقد، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال:
كان رسول الله ﷺ يخطب، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر.
ثم قال: «صدق الله! { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ }، رأيت هذين الصبين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته».
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث الحسين بن واقد.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقد رواه محمد الضمري، عن زيد بن أرقم، فذكر القصة للحسن وحده.
وفي حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، أن رسول الله صلى بهم إحدى صلاتي العشي فسجد سجدة أطال فيها السجود، فلما سلم قال الناس له في ذلك، قال: «إن ابني هذا - يعني: الحسن - ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».
وقال الترمذي: عن أبي الزبير، عن جابر، قال: دخلت على رسول الله وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما على أربع، فقلت: نعم الحمل حملكما فقال: «ونعم العدلان هما». على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال أبو يعلى: ثنا أبو هاشم، ثنا أبو عامر، ثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال: خرج رسول الله وهو حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل: يا غلام، نعم المركب ركبت، فقال رسول الله: «ونعم الراكب هو».
وقال أحمد: حدثنا تليد بن سليمان، ثنا أبو الحجاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.
قال: نظر رسول الله إلى علي وحسن وحسين وفاطمة فقال: «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».
وقد رواه النسائي من حديث أبي نعيم، وابن ماجه من حديث وكيع، كلاهما عن سفيان الثوري، عن أبي الحجاف داود بن أبي عوف، قال وكيع: وكان مريضا - عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله قال عن الحسن والحسين: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني». وقد رواه أسباط عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم فذكره.
وقال بقية: عن بجير بن سعيد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معدي كرب، قال: سمعت رسول الله يقول: «الحسن مني والحسين من علي». فيه نكارة لفظا ومعنى.
وقال أحمد: ثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن عوف، عن عمير بن إسحاق.
قال: كنت مع الحسن بن علي فلقينا أبو هريرة فقال: أرني أقبّل منك حيث رأيت رسول الله يقبّل، فقال: بقميصه، قال: فقبّل سرته.
تفرد به أحمد، ثم رواه عن إسماعيل بن علية، عن ابن عوف.
وقال أحمد: ثنا هاشم بن القاسم، عن جرير، عن عبد الرحمن أبي عوف الجرشي، عن معاوية.
قال رأيت رسول الله يمص لسانه - أو قال شفته يعني: الحسن بن علي - وإنه لن يُعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله ﷺ. تفرد به أحمد.
وقد ثبت في الصحيح عن أبي بكرة.
وروى أحمد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
وقد تقدم هذا الحديث في دلائل النبوة، وتقدم قريبا عند نزول الحسن لمعاوية عن الخلافة، ووقع ذلك تصديقا لقوله ﷺ.
هذا، وكذلك ذكرناه في كتاب دلائل النبوة ولله الحمد والمنة.
وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه.
وكذلك عمر ابن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه: أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما.
وقد كان الحسن بن علي يوم الدار - وعثمان بن عفان محصور - عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف عن عثمان فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييبا لقلب علي، وخوفا عليه رضي الله عنهم.
وكان علي يكرم الحسن إكراما زائدا، ويعظمه ويبجله، وقد قال له يوما: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟
فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك، فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبا وعليّ يسمع، فأدى خطبة بليغة فصيحة.
فلما انصرف جعل علي يقول ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.
وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعم عليه.
وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما، رضي الله عنهما وأرضاهما.
وكان ابن الزبير يقول: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي.
وقال غيره: كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله يجلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله.
ولما نزل لمعاوية عن الخلافة من ورعه صيانة لدماء المسلمين، كان له على معاوية في كل عام جائزة، وكان يفد إليه، فربما أجازه بأربعمائة ألف درهم، وراتبه في كل سنة مائة ألف.
فانقطع سنة عن الذهاب، وجاء وقت الجائزة فاحتاج الحسن إليها - وكان من أكرم الناس - فأراد أن يكتب إلى معاوية ليبعث بها إليه.
فلما نام تلك الليلة رأى رسول الله في المنام فقال له: «يا بني أتكتب إلى مخلوق بحاجتك؟» وعلمه دعاء يدعو به.
فترك الحسن ما كان همّ به من الكتابة، فذكره معاوية وافتقده، وقال: ابعثوا إليه بمائتي ألف فلعل له ضرورة في تركه القدوم علينا، فحملت إليه من غير سؤال.
قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: الحسن بن علي مدني ثقة.
حكاه ابن عساكر في تاريخه.
قالوا: وقاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله مرتين، وحج خمسا وعشرين مرة ماشيا وإن الجنائب لتقاد بين يديه.
وروى ذلك البيهقي من طريق عبيد الله بن عمير، عن ابن عباس وقال: علي بن زيد بن جدعان.
وقد علق البخاري في صحيحه: أنه حج ماشيا والجنائب تقاد بين يديه.
وروى داود بن رشيد، عن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: حج الحسن بن علي ماشيا والجنائب تقاد بين يديه ونجائبه تقاد إلى جنبه.
وقال العباس بن الفضل: عن القاسم، عن محمد بن علي قال: قال الحسن بن علي: إني لأستحي من ربي أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة إلى المدينة على رجليه.
قالوا: وكان يقرأ في بعض خطبه سورة إبراهيم، وكان يقرأ كل ليلة سورة الكهف قبل أن ينام، يقرأها من لوح كان يدور معه حيث كان من بيوت نسائه، فيقرأه بعد ما يدخل في الفراش قبل أن ينام رضي الله عنه.
وقد كان من الكرم على جانب عظيم
قال محمد بن سيرين: ربما أجاز الحسن بن علي على الرجل الواحد بمائة ألف.
وقال سعيد بن عبد العزيز: سمع الحسن رجلا إلى جانبه يدعو الله أن يملكه عشرة آلاف درهم، فقام إلى منزله فبعث بها إليه.
وذكروا أن الحسن رأى غلاما أسود يأكل من رغيف لقمة، ويطعم كلبا هناك لقمة، فقال له: ما حملك على هذا؟
فقال: إني أستحي منه أن آكل ولا أطعمه.
فقال له الحسن: لا تبرح من مكانك حتى آتيك، فذهب إلى سيده فاشتراه واشترى الحائط الذي هو فيه، فأعتقه وملّكه الحائط.
فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له.
قالوا: وكان كثير التزوج، وكان لا يفارقه أربع حرائر، وكان مطلاقا مصداقا.
يقال: إنه أحصن سبعين امرأة.
وذكروا أنه طلق امرأتين في يوم، واحدة من بني أسد، وأخرى من بني فزارة - فزارية - وبعث إلى كل واحدة منهما بعشرة آلاف، وبزقاق من عسل.
وقال للغلام: اسمع ما تقول كل واحدة منهما.
فأما الفزارية فقالت: جزاه الله خيرا، ودعت له.
وأما الأسدية فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
فرجع الغلام إليه بذلك فارتجع الأسدية وترك الفزارية.
وقد كان علي يقول لأهل الكوفة: لا تزوجوه فإنه مطلاق.
فيقولون: والله يا أمير المؤمنين لو خطب إلينا كل يوم لزوجناه منا من شاء ابتغاء في صهر رسول الله ﷺ.
وذكروا أنه نام مع امرأته خولة بنت منظور الفزاري -وقيل: هند بنت سهيل - فوق إجار فعمدت المرأة فربطت رجله بخمارها إلى خلخالها، فلما استيقظ قال لها: ما هذا؟
فقالت: خشيت أن تقوم من وسن النوم فتسقط فأكون أشأم سخلة على العرب، فأعجبه ذلك منها، واستمر بها سبعة أيام بعد ذلك.
وقال أبو جعفر الباقر: جاء رجل إلى الحسين بن علي فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفا فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن فاستعان به فقضى حاجته، وقال: لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليّ من اعتكاف شهر.
وقال هشيم: عن منصور، عن ابن سيرين قال: كان الحسن بن علي لا يدعو إلى طعامه أحدا يقول: هو أهون من أن يدعى إليه أحد.
وقال أبو جعفر: قال علي: يا أهل الكوفة، لا تزوجوا الحسن بن علي فإنه مطلاق.
فقال رجل من همذان: والله لنزوجنه، فما رضي أمسك، وما كره طلق.
وقال أبو بكر الخرائطي - في كتاب مكارم الأخلاق -: ثنا ابن المنذر - هو إبراهيم - ثنا القواريري، ثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد بن سيرين قال:
تزوج الحسن بن علي امرأة فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم.
وقال عبد الرزاق: عن الثوري، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: متع الحسن بن علي امرأتين بعشرين ألفا وزقاق من عسل، فقالت إحداهما - وأراها الحنفية - متاع قليل من حبيب مفارق.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عمر، عن أبيه، عن علي بن الحسين قال: كان الحسن بن علي مطلاقا للنساء، وكان لا يفارق امرأة إلا وهي تحبه.
وقال جويرية بن أسماء: لما مات الحسن بكى عليه مروان في جنازته.
فقال له الحسين: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه؟
فقال: إني كنت أفعل إلى أحلم من هذا، وأشار هو إلى الجبل.
وقال محمد بن سعد: أنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن ابن عون، عن محمد بن إسحاق قال: ما تكلم عندي أحد كان أحب إليّ إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي.
وما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة، فإنه كان بينه وبين عمرو بن عثمان خصومة فقال: ليس له عندنا إلا ما رغم أنفه، فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط.
قال محمد بن سعد: وأنا الفضل بن دكين، أنا مساور الجصاص، عن رزين بن سوار قال: كان بين الحسن ومروان خصومة، فجعل مروان يغلظ للحسن وحسن ساكت، فامتخط مروان بيمينه.
فقال له الحسن: ويحك! أما علمت أن اليمنى للوجه، والشمال للفرج؟ أفٍ لك.
فسكت مروان.
وقال أبو العباس: محمد بن يزيد المبرد، قيل للحسن بن علي: إن أبا زر يقول: الفقر أحب إليّ من الغنى، والسقم أحب إليّ من الصحة، فقال: رحم الله أبا زر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمنَ أن يكون في غير الحالة التي اختار الله له.
وهذا أحد الوقوف على الرضا بما تعرف به القضاء.
وقال أبو بكر محمد بن كيسان الأصم: قال الحسن ذات يوم لأصحابه:
إني أخبركم عن أخٍ لي كان من أعظم الناس في عيني، وكان عظيم ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجا عن سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجا عن سلطان فرجه، فلا يستخف له عقله ولا رأيه.
وكان خارجا عن سلطان جهله فلا يمد يدا إلا على ثقة المنفعة، ولا يخطو خطاة إلا لحسنة، وكان لا يسخط ولا يتبرم.
كان إذا جامع العلماء يكون على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم، وكان إذا غُلب على الكلام لم يُغلب على الصمت، كان أكثرهم دهره صامتا، فإذا قال يذر القائلين.
وكان لا يشارك في دعوى، ولا يدخل في مراء، ولا يدلي بحجة، حتى يرى قاضيا يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول تفضلا وتكرما، كان لا يغفل عن إخوانه ولا يستخص بشيء دونهم.
كان لا يكرم أحدا فيما يقع العذر بمثله، كان إذا ابتداه أمران لا يرى أيهما أقرب إلى الحق نظر فيما هو أقرب إلى هواه فخالفه.
رواه ابن عساكر والخطيب.
وقال أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري: ثنا بدر بن الهيثم الحضرمي، ثنا علي بن المنذر الطريفي، ثنا عثمان ابن سعيد الدارمي، ثنا محمد بن عبد الله أبو رجاء - من أهل تستر - ثنا شعبة بن الحجاج الواسطي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث الأعور أن عليا سأل ابنه - يعني الحسن - عن أشياء من المروءة فقال: يا بني ما السداد؟.
قال: يا أبة السداد دفع المنكر بالمعروف.
قال: فما الشرف؟.
قال: اصطناع العشيرة، وحمل الجريرة.
قال: فما المروءة؟.
قال: العفاف وإصلاح المرء ماله.
قال: فما الدنيئة؟.
قال: النظر في اليسير ومنع الحقير.
قال: فما اللوم؟.
قال: احتراز المرء نفسه وبذله عرسه.
قال: فما السماحة؟.
قال: البذل في العسر واليسر.
قال: فما الشح؟.
قال: أن ترى ما في يديك سرفا، وما أنفقته تلفا.
قال. فما الإخاء؟.
قال: الوفاء في الشدة والرخاء.
قال: فما الجبن؟.
قال: الجرأة على الصديق، والنكول عن العدو.
قال: فما الغنيمة؟.
قال: الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا.
قال: فما الحلم؟.
قال: كظم الغيظ، وملك النفس.
قال: فما الغنى؟.
قال: رضى النفس بما قسم الله لها، وإن قلّ، فإنما الغنى غنى النفس.
قال: فما الفقر؟.
قال: شره النفس في كل شيء.
قال: فما المنعة؟.
قال: شدة البأس ومقارعة أشد الناس.
قال: فما الذل؟.
قال: الفزع عند المصدوقية.
قال: فما الجرأة؟.
قال: موافقة الأقران.
قال: فما الكلفة؟.
قال: كلامك فيما لا يعنيك.
قال: فما المجد؟.
قال: أن تعطي في الغرم وأن تعفو عن الجرم.
قال: فما العقل؟.
قال: حفظ القلب كل ما استرعيته.
قال: فما الخرق؟.
قال: معاداتك إمامك، ورفعك عليه كلامك.
قال: فما الثناء؟.
قال: إتيان الجميل، وترك القبيح.
قال: فما الحزم؟.
قال: طول الأناة، والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هو الحزم.
قال: فما الشرف؟.
قال: موافقة الإخوان، وحفظ الجيران.
قال: فما السفه؟.
قال: اتباع الدناة، ومصاحبة الغواة.
قال: فما الغفلة؟.
قال: تركك المسجد، وطاعتك المفسد.
قال: فما الحرمان؟.
قال: تركك حظك وقد عرض عليك.
قال: فمن السيد؟.
قال: الأحمق في المال المتهاون بعرضه، يشتم فلا يجيب، المتحرن بأمر العشيرة هو السيد.
قال: ثم قال علي: يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول:
«لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أفضل من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء، ورأس الإيمان الصبر، وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الطرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحب الفخر».
ثم قال علي: يا بني لا تستخفن برجل تراه أبدا، فإن كان أكبر منك فعدّه أباك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك.
فهذا ما سأل علي ابنه عن أشياء من المروءة.
قال القاضي أبو الفرج: ففي هذا الخبر من الحكمة، وجزيل الفائدة ما ينتفع به من راعاه، وحفظه ووعاه وعمل به وأدب نفسه بالعمل عليه، وهذبها بالرجوع إليه، وتتوفر فائدته بالوقوف عنده.
وفيما رواه أمير المؤمنين وأضعافه عن النبي ﷺ ما لا غنى لكل لبيب عليم، وقدرة حكيم، عن حفظه وتأمله، والمسعود من هدي لتلقيه، والمجدود من وفق لامتثاله وتقبله.
قلت: ولكن إسناد هذا الأثر وما فيه من الحديث المرفوع ضعيف، ومثل هذه الألفاظ في عبارتها ما يدل ما في بعضها من النكارة على أنه ليس بمحفوظ، والله أعلم.
وقد ذكر الأصمعي والعتبي والمدائني وغيرهم: أن معاوية سأل الحسن عن أشياء تشبه هذا، فأجابه بنحو ما تقدم، لكن هذا السياق أطول بكثير مما تقدم، فالله أعلم.
وقال علي بن العباس الطبراني: كان على خاتم الحسن بن علي مكتوبا:
قدم لنفسك ما استطعت من التقى * إن المنية نازلة بك يا فتى
أصبحت ذا فرح كأنك لا ترى * أحباب قلبك في المقابر والبلى
قال الإمام أحمد: حدثنا مطلب بن زياد بن محمد، ثنا محمد بن أبان، قال: قال الحسن بن علي لبنيه وبني أخيه: تعلموا فإنكم صغار قوم اليوم وتكونوا كبارهم غدا، فمن لم يحفظ منكم فليكتب.
ورواه البيهقي: عن الحاكم، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه.
وقال محمد بن سعد: ثنا الحسن بن موسى، وأحمد بن يونس قالا: ثنا زهير بن معاوية، ثنا أبو إسحاق، عن عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي: إن هذه الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة.
قال: كذبوا، والله! ما هؤلاء بالشيعة، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله.
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني أبو علي سويد الطحان، ثنا علي بن عاصم، ثنا أبو ريحانة، عن سفينة، عن النبي ﷺ قال: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة».
فقال رجل كان حاضرا في المجلس: قد دخلت من هذه الثلاثين ستة شهور في خلافة معاوية.
فقال: من هاهنا أتيت تلك الشهور كانت البيعة للحسن بن علي، بايعه أربعون ألفا أو اثنان وأربعون ألفا.
وقال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: بايع الحسن تسعون ألفا فزهد في الخلافة وصالح معاوية، ولم يسل في أيامه محجمة من دم.
وقال ابن أبي خيثمة: وحدثنا أبي، ثنا وهب بن جرير قال: قال أبي: فلما قُتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه، وأحبوه أشد من حبهم لأبيه.
وقال ابن أبي خيثمة: ثنا هارون بن معروف، ثنا ضمرة، عن ابن شوذب قال: لما قتل علي سار الحسن في أهل العراق، وسار معاوية في أهل الشام، فالتقوا فكره الحسن القتال، وبايع معاوية على أن جعل العهد للحسن من بعده.
قال: فكان أصحاب الحسن يقولون: يا عار المؤمنين.
قال: فيقول لهم: العار خير من النار.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا العباس بن هشام، عن أبيه قال: لما قُتل علي بايع الناس الحسن بن علي فوليها سبعة وأحد عشر يوما.
وقال غير عباس: بايع الحسن أهل الكوفة، وبايع أهل الشام معاوية بإيلياء بعد قتل علي، وبويع بيعة العامة ببيت المقدس يوم الجمعة من آخر سنة أربعين.
ثم لقي الحسن معاوية بمسكن - من سواد الكوفة - في سنة إحدى وأربعين فاصطلحا، وبايع الحسن معاوية.
وقال غيره: كان صلحهما ودخول معاوية الكوفة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين.
وقد تكلمنا على تفصيل ذلك فيما تقدم بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وحاصل ذلك أنه اصطلح مع معاوية على أن يأخذ ما في بيت المال الذي بالكوفة، فوفى له معاوية بذلك، فإذا فيه خمسة آلاف ألف.
وقيل: سبعة آلاف ألف، وعلى أن يكون خراج.
وقيل: دار أبجرد له في كل عام، فامتنع أهل تلك الناحية عن أداء الخراج إليه، فعوضه معاوية عن كل ستة آلاف ألف درهم في كل عام، فلم يزل يتناولها مع ماله في كل زيادة من الجوائز والتحف والهدايا، إلى أن توفي في هذا العام.
وقال محمد بن سعد: عن هودة بن خليفة، عن عوف، عن محمد بن سيرين قال: لما دخل معاوية الكوفة، وبايعه الحسن بن علي قال أصحاب معاوية لمعاوية:
مرْ الحسن بن علي أن يخطب فإنه حديث السن عيني، فلعله يتلعثم فيتضع في قلوب الناس.
فأمره فقام فاختطب فقال في خطبته: أيها الناس، لو اتبعتم بين جابلق وجابرس رجلا جده نبي غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنا قد أعطينا بيعتنا لمعاوية، ورأينا أن حقن دماء المسلمين خير من إهراقها، والله ما أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين - وأشار إلى معاوية - فغضب من ذلك، وقال: ما أردت من هذه؟
قال: أردت منها ما أراد الله منها.
فصعد معاوية وخطب بعده.
وقد رواه غير واحد، وقدمنا أن معاوية عتب على أصحابه.
وقال محمد بن سعد: ثنا أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن يزيد قال:
سمعت جبير بن نفير الحضرمي يحدث عن أبيه قال: قلت للحسن بن علي: إن الناس يزعمون أنك تريد الخلافة؟.
فقال: كانت جماجم العرب بيدي، يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله، ثم أثيرها ثانيا من أهل الحجاز.
وقال محمد بن سعد: أنا علي بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم قال:
دخل رجل على الحسن بن علي وهو بالمدينة، وفي يده صحيفة فقال: ما هذه؟
فقال: ابن معاوية يعدنيها ويتوعد.
قال: قد كنت على النّصف منه.
قال: أجل، ولكن خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا، أو ثمانون ألفا، أو أكثر أو أقل، تنضح أوداجهم دما، كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه.
وقال الأصمعي: عن سلام بن مسكين، عن عمران بن عبد الله قال:
رأى الحسن بن علي في منامه أنه مكتوب بين عينيه «قل هو الله أحد»، ففرح بذلك، فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: إن كان رأى هذه الرؤيا فقلّ ما بقي من أجله.
قال: فلم يلبث الحسن بن علي بعد ذلك إلا أياما حتى مات.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن صالح العتكي، ومحمد بن عثمان العجلي قالا: ثنا أبو أسامة، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق.
قال: دخلت أنا ورجل آخر من قريش على الحسن بن علي، فقام فدخل المخرج ثم خرج، فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود، ولقد سقيت السم مرارا، وما سقيت مرة هي أشد من هذه.
قال: وجعل يقول لذلك الرجل: سلني قبل أن لا تسألني.
فقال: ما أسألك شيئا يعافيك الله.
قال: فخرجنا من عنده، ثم عدنا إليه من الغد.
وقد أخذ في السوق، فجاء حسين حتى قعد عند رأسه فقال: أي أخي! من صاحبك؟
قال: تريد قتله.
قال: نعم!.
قال: لئن كان صاحبي الذي أظن لله أشد نقمة.
وفي رواية: فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وإن لم يكنه ما أحب أن تقتل بي بريئا.
ورواه محمد بن سعد، عن ابن علية، عن أبي عون.
وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني عبد الله بن جعفر، عن أم بكر بنت المسور.
قالت: الحسن سقي مرارا كل ذلك يفلت منه، حتى كانت المرة الآخرة التي مات فيها، فإنه كان يختلف كبده، فلما مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهرا.
وقال الواقدي: وحدثنا عبدة بنت نائل، عن عائشة قالت: حد نساء بني هاشم على الحسن بن علي سنة.
قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن حسن قال: كان الحسن بن علي كثير نكاح النساء، وكان قل ما يحظين عنده، وكان قل امرأة تزوجها إلا أحبته وضنت به.
فيقال: أنه كان سُقي سما، ثم أفلت، ثم سُقي فأفلت، ثم كانت الآخرة توفي فيها.
فلما أحضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف إليه: هذا رجل قطع السم أمعاءه.
فقال الحسين: يا أبا محمد أخبرني من سقاك؟
قال: ولما يا أخي؟
قال: أقتله والله قبل أن أدفنك، ولا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلف الشخوص إليه.
فقال: يا أخي إنما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميه.
وقد سمعت بعض من يقول: كان معاوية قد تلطف لبعض خدمه أن يسقيه سما.
قال محمد بن سعد: وأنا يحيى بن حمال أنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أم موسى أن جعدة بنت الأشعث بن قيس سقت الحسن السم، فاشتكى منه شكاة، قال: فكان يوضع تحته طشت ويرفع آخر نحوا من أربعين يوما.
وروى بعضهم: أن يزيد بن معاوية بعث إلى جعدة بنت الأشعث: أن سمي الحسن، وأنا أتزوجك بعده.
ففعلت، فلما مات الحسن، بعثت إليه فقال: إنا والله لم نرضك للحسن افنرضاك لأنفسنا؟.
وعندي أن هذا ليس بصحيح، وعدم صحته عن أبي معاوية بطريق الأولى والأحرى، وقد قال كثير نمرة في ذلك:
يا جعد بكِّيه ولا تسأمي * بكاء حقٍ ليس بالباطل
لن تستري البيت على مثله * في الناس من حاف ولا ناعل
أعني الذي أسلمه أهله * للزمن المستخرج الماحل
كان إذا شبت له ناره * يرفعها بالنسب الماثل
كما يراها بائس مرمل * أو فرد قوم ليس بالآهل
تغلي بنيَّ اللحم حتى إذا * أنضج لم تغل على آكل
قال سفيان بن عيينة: عن رقبة بن مصقلة، قال لما احتضر الحسن بن علي قال:
أخرجوني إلى الصحن أنظر في ملكوت السموات.
فأخرجوا فراشه، فرفع رأسه فنظر، فقال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس عليّ.
قال: فكان مما صنع الله له أنه احتسب نفسه عنده.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: لما اشتد بسفيان الثوري المرض جزع جزعا شديدا، فدخل عليه مرحوم بن عبد العزيز فقال: ما هذا الجزع يا أبا عبد الله؟ تقدم على رب عبدته ستين سنة، صمت له، صليت له، حججت له، قال: فسري عن الثوري.
وقال أبو نعيم: لما اشتد بالحسن بن علي الوجع جزع فدخل عليه رجل فقال له:
يا أبا محمد، ما هذا الجزع؟ ما هو إلا أن تفارق روحك جسدك، فتقدم على أبويك علي وفاطمة، وعلى جديك النبي ﷺ وخديجة، وعلى أعمامك حمزة وجعفر، وعلى أخوالك القاسم الطيب ومطهر وإبراهيم، وعلى خالاتك رقية وأم كلثوم وزينب، قال: فسرى عنه.
وفي رواية: أن القائل له ذلك الحسين، وأن الحسن قال له: يا أخي إني أدخل في أمر من أمر الله لم أدخل في مثله، وأرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قط.
قال: فبكى الحسين رضي الله عنهما.
رواه عباس الدوري، عن ابن معين، ورواه بعضهم عن جعفر بن محمد، عن أبيه فذكر نحوهما.
وقال الواقدي: ثنا إبراهيم بن الفضل، عن أبي عتيق قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:
شهدنا حسن بن علي يوم مات وكادت الفتنة تقع بين الحسين بن علي ومروان بن الحكم، وكان الحسن قد عهد إلى أخيه أن يدفن مع رسول الله، فإن خاف أن يكون في ذلك قتال أو شر فليدفن بالبقيع.
فأبى مروان أن يدعه - ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية - ولم يزل مروان عدوا لبني هاشم حتى مات.
قال جابر: فكلمت يومئذ حسين بن علي فقلت: يا أبا عبد الله اتق الله ولا تثر فتنة، فإن أخاك كان لا يحب ما ترى، فادفنه بالبقيع مع أمه ففعل.
ثم روى الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن عمر قال:
حضرت موت الحسن بن علي فقلت للحسين بن علي: اتق الله، ولا تثر فتنة ولا تسفك الدماء، وادفن أخاك إلى جانب أمه، فإن أخاك قد عهد بذلك إليك، قال: ففعل الحسين.
وقد روى الواقدي: عن أبي هريرة نحوا من هذا.
وفي رواية: أن الحسن بعث يستأذن عائشة في ذلك، فأذنت له.
فلما مات لبس الحسين السلاح، وتسلح بنو أمية، وقالوا: لا ندعه يدفن مع رسول الله ﷺ، أيدفن عثمان بالبقيع، ويدفن الحسن بن علي في الحجرة؟
فلما خاف الناس وقوع الفتنة أشار سعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، على الحسين أن لا يقاتل، فامتثل ودفن أخاه قريبا من قبر أمه بالبقيع، رضي الله عنه.
وقال سفيان الثوري: عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي حازم قال: رأيت الحسين بن علي قدّم يومئذ سعيد بن العاص فصلى على الحسن وقال: لولا أنها سنة ما قدمته.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني مساور مولى بني سعد بن بكر قال: رأيت أبا هريرة قائما على مسجد رسول الله يوم مات الحسن بن علي، وهو ينادى بأعلا صوته:
يا أيها الناس مات اليوم حب رسول الله فابكوا.
وقد اجتمع الناس لجنازته حتى ما كان البقيع يسع أحدا من الزحام.
وقد بكاه الرجال والنساء سبعا، واستمر نساء بني هاشم ينحن عليه شهرا، وحدّت نساء بني هاشم عليه سنة.
قال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن يحيى، ثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال:
قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ومات لها حسن، وقتل لها الحسين رضي الله عنهم.
وقال شعبة: عن أبي بكر بن حفص قال: توفي سعد، والحسن بن علي في أيام بعد ما مضى من إمارة معاوية عشر سنين.
وقال علية: عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: توفي الحسن وهو ابن سبع وأربعين، وكذا قال غير واحد، وهو أصح.
والمشهور أنه مات سنة تسع وأربعين كما ذكرنا.
وقال آخرون: مات سنة خمسين.
وقيل: سنة إحدى وخمسين أو ثمان وخمسين.