→ ثم دخلت سنة ست وستين | البداية والنهاية – الجزء الثامن فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه ابن كثير |
مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسينا ← |
ثم شرع المختار يتتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله، وكان سبب ذلك أن عبيد الله بن زياد كان قد جهزه مروان من دمشق ليدخل الكوفة، فإن ظفر بها فليبحها ثلاثة أيام، فسار ابن زياد قاصدا الكوفة فلقي جيش التوابين فكان من أمرهم ما تقدم.
ثم سار من عين وردة حتى انتهى إلى الجزيرة فوجد بها قيس غيلان، وهم من أنصار ابن الزبير، وقد كان مروان أصاب منهم قتلى كثيرة يوم مرج راهط، فهم إلب عليه، وعلى ابنه عبد الملك من بعده، فتعوق عن المسير سنة وهو في حرب قيس غيلان بالجزيرة.
ثم وصل إلى الموصل فانحاز نائبها عنه إلى تكريت، وكتب إلى المختار يعلمه بذلك فندب المختار يزيد بن أنس في ثلاثة آلاف اختارها.
وقال له: إني سأمدك بالرجال بعد الرجال.
فقال له: لا تمدني إلا بالدعاء.
وخرج معه المختار إلى ظاهر الكوفة فودعه ودعا له وقال له: ليكن خبرك في كل يوم عندي، وإذا لقيت عدوك فناجزك فناجزه، ولا تؤخر فرصة.
ولما بلغ مخرجهم ابن زياد جهز بين يديه سريتين، إحداهما مع ربيعة بن مخارق ثلاثة آلاف، والأخرى مع عبد الله بن حملة ثلاثة آلاف، وقال: أيكم سبق فهو الأمير، وإن سبقتما معا فالأمير عليكم أسنكما.
فسبق ربيعة بن مخارق إلى يزيد بن أنس فالتقيا في طرف أرض الموصل مما يلي الكوفة، فتواقفا هنالك، ويزيد بن أنس مريض مدنف، وهو مع ذلك يحرض قومه على الجهاد، ويدور على الأرباع، وهو محمول مضنى وقال للناس: إن هلكت فالأمير على الناس عبد الله بن ضمرة الفزاري، وهو رأس الميمنة، وإن هلك فمسعر بن أبي مسعر رأس الميسرة، وكان ورقاء بن خالد الأسدي على الخيل.
وهو وهؤلاء الثلاثة أمراء الأرباع، وكان ذلك في يوم عرفة من سنة ست وستين عند إضاءة الصبح، فاقتتلوا هم والشاميون قتالا شديدا، واضطربت كل من الميمنتين والميسرتين، ثم حمل ورقاء على الخيل فهزمها وفر الشاميون وقتل أميرهم ربيعة بن مخارق.
واحتاز جيش المختار ما في معسكر الشاميين، ورجع فرارهم فلقوا الأمير الآخر عبد الله بن حملة، فقال: ما خبركم؟
فأخبروه فرجع بهم وسار بهم نحو يزيد بن أنس فانتهى إليهم عشاء، فبات الناس متحاجزين، فلما أصبحوا توافقوا على تعبئتهم، وذلك يوم الأضحى من سنة ست وستين، فاقتتلوا قتالا شديدا.
فهزم جيش المختار جيش الشاميين أيضا، وقتلوا أميرهم عبد الله بن حملة، واحتووا على ما في معسكرهم، وأسروا منهم ثلاثمائة أسير، فجاؤوا بهم إلى يزيد بن أنس وهو على آخر رمق، فأمر بضرب أعناقهم.
ومات يزيد بن أنس من يومه ذلك وصلى عليه خليفته ورقاء بن عامر ودفنه، وسقط في أيدي أصحابه وجعلوا يتسللون راجعين إلى الكوفة، فقال لهم ورقاء: يا قوم، ماذا ترون؟
إنه قد بلغني أن ابن زياد قد أقبل في ثمانين ألفا من الشام، ولا أرى لكم بهم طاقة، وقد هلك أميرنا، وتفرق عنا طائفة من الجيش من أصحابنا، فلو انصرفنا راجعين إلى بلادنا، ونظهر أنا إنما انصرفنا حزنا منا على أميرنا لكان خيرا لنا من أن نلقاهم فيهزموننا ونرجع مغلوبين، فاتفق رأي الأمراء على ذلك، فرجعوا إلى الكوفة.
فلما بلغ خبرهم أهل الكوفة، وأن يزيد بن أنس قد هلك، أرجف أهل الكوفة بالمختار وقالوا: قتل يزيد بن أنس في المعركة وانهزم جيشه، وعما قليل يقدم عليكم ابن زياد فيستأصلكم ويشتف خضراكم.
ثم تمالؤا على الخروج على المختار، وقالوا: هو كذاب، واتفقوا على حربه وقتاله وإخراجه من بين أظهرهم، واعتقدوا أنه كذاب.
وقالوا: قد قدم موالينا على أشرافنا، وزعم أن ابن الحنفية قد أمره بالأخذ بثأر الحسين وهو لم يأمره بشيء، وإنما هو متقول عليه، وانتظروا بخروجهم عليه أن يخرج من الكوفة إبراهيم بن الأشتر فإنه قد عينه المختار أن يخرج في سبعة آلاف للقاء ابن زياد.
فلما خرج ابن الأشتر اجتمع أشراف الناس ممن كان في جيش قتلة الحسين وغيرهم في دار شبث بن ربعي، وأجمعوا أمرهم على قتال المختار، ثم وثبوا فركبت كل قبيلة مع أميرها في ناحية من نواحي الكوفة، وقصدوا قصر الإمارة، وبعث المختار عمرو بن ثوبة بريدا إلى إبراهيم بن الأشتر ليرجع إليه سريعا.
وبعث المختار إلى أولئك يقول لهم: ماذا تنقمون؟ فإني أجيبكم إلى جميع ما تطلبون، وإنما يريد أن يثبطهم عن مناهضته حتى قدم إبراهيم بن الأشتر، وقال: إن كنتم لا تصدقونني في أمر محمد بن الحنفية فابعثوا من جهتكم وأبعث من جهتي من يسأله عن ذلك.
ولم يزل يطاولهم حتى قدم ابن الأشتر بعد ثلاث فانقسم هو والناس فرقتين، فتكفل المختار بأهل اليمن، وتكفل ابن الأشتر بمضر، وعليهم شبث بن ربعي، وكان ذلك بإشارة المختار، حتى لا يتولى ابن الأشتر بقتال قومه من أهل اليمن فيحنو عليهم وكان المختار شديدا عليهم.
ثم اقتتل الناس في نواحي الكوفة قتالا عظيما، وكثرت القتلى بينهم من الفريقين، وجرت فصول وأحوال حربية يطول استقاؤها، وقتل جماعة من الأشراف منهم عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الكندي، وسبعمائة وثمانين رجلا من قومه، وقتل من مضر بضعة عشر رجلا.
ويعرف هذا اليوم بجبانة السبيع، وكان ذلك يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، ثم كانت النصرة للمختار عليهم، وأسر منهم خمسمائة أسير.
فعرضوا عليه فقال: انظروا من كان منهم شهد مقتل الحسين فاقتلوه، فقتل منهم مائتان وأربعون رجلا، وقتل أصحابه منهم من كان يؤذيهم ويسيء إليهم بغير أمر المختار، ثم أطلق الباقين، وهرب عمرو بن الحجاج الزبيدي، وكان ممن شهد قتل الحسين فلا يدري أين ذهب من الأرض.