→ كعب بن عمرو أبو اليسر | البداية والنهاية – الجزء الثامن ثم دخلت سنة ست وخمسين ابن كثير |
سنة سبع وخمسين ← |
وذلك في أيام معاوية.
ففيها: شتى جُنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن بن مسعود. ويقال:
فيها: غزا في البحر يزيد بن سمرة، وفي البر عياض بن الحارث.
وفيها: اعتمر معاوية في رجب، وحج بالناس فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
وفيها: ولى معاوية سعيد بن عثمان بلاد خراسان، وعزل عنها عبيد الله بن زياد، فسار سعيد إلى خراسان والتقى مع الترك عند صغد سمرقند، فقتل منهم خلقا كثيرا، واستشهد معه جماعة منهم فيما قيل: قثم بن العباس بن عبد المطلب.
قال ابن جرير: سأل سعيد بن عثمان بن عفان معاوية أن يوليه خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد.
فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورقاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له، ووالله لأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له معاوية: أما بلاء أبيك عندي فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور ولست بلائم لنفسي في التشمير.
وأما فضل أبيك على أبيه، فأبوك والله خير مني وأقرب برسول الله ﷺ، وأما فضل أمك على أمه، فما لا ينكر، فإن امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وأما فضلك عليه فوالله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك - يعني أن الغوطة لو ملئت رجالا مثل سعيد بن عثمان - كان يزيد خيرا وأحب إليّ منهم.
فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين ابن عمك وأنت أحق من نظر في أمره، وقد عتب عليك فيَّ فأعتبه.
فولاه حرب خراسان، فأتى سمرقند فخرج إليه أهل الصغد من الترك فقاتلهم وهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، فأقام بالترمذ ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.
وفيها: دعا معاوية الناس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون ولي عهده من بعده، - وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة بن شعبة - فروى ابن جرير: من طريق الشعبي، أن المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة، فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص.
فلما بلغ ذلك المغيرة كأنه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون ولي العهد، فسأل ذلك من أبيه.
فقال: من أمرك بهذا؟
قال: المغيرة، فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، ورده إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك.
وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك، فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك، وهو عُبيد بن كعب بن النميري - وكان صاحبا أكيدا لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أولا.
فكلمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإن تركه خير له من السعي فيه، فانزجر يزيد عما يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتفقا على ترك ذلك في هذا الوقت.
فلما مات زياد وكانت هذه السنة، شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك، فبايع له الناس في سائر الأقاليم، إلا عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس.
فركب معاوية إلى مكة معتمرا، فلما اجتاز بالمدينة - مرجعه من مكة - استدعى كل واحد من هؤلاء الخمسة فأوعده وتهدده بانفراده، فكان من أشدهم عليه ردا وأجلدهم في الكلام، عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وكان ألينهم كلاما عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ثم خطب معاوية وهؤلاء حضور تحت منبره، وبايع الناس ليزيد وهم قعود ولم يوافقوا ولم يظهروا خلافا، لمّا تهددهم وتوعدهم، فاتسقت البيعة ليزيد في سائر البلاد.
ووفدت الوفود من سائر الأقاليم إلى يزيد، فكان فيمن قدم الأحنف بن قيس، فأمره معاوية أن يحادث يزيد، فجلسا ثم خرج الأحنف فقال له معاوية: ماذا رأيت من ابن أخيك؟
فقال: إنا نخاف الله إن كذبنا ونخافكم إن صدقنا، وأنت أعلم به في ليله ونهاره، وسره وعلانيته، ومدخله ومخرجه، وأنت أعلم به بما أردت، وإنما علينا أن نسمع ونطيع، وعليك أن تنصح للأمة.
وقد كان معاوية لما صالح الحسن عهد للحسن بالأمر من بعده، فلما مات الحسن قوي، أمر يزيد عند معاوية، ورأى أنه لذلك أهلا، وذاك من شدة محبة الوالد لولده.
ولما كان يتوسم فيه من النجابة الدنيوية، وسيما أولاد الملوك ومعرفتهم بالحروب وترتيب الملك والقيام بأبهته، وكان ظن أن لا يقوم أحد من أبناء الصحابة في هذا المعنى.
ولهذا قال لعبد الله بن عمر فيما خاطبه به: إني خفت أن أذر الرعية من بعدي كالغنم المطيرة ليس لها راعٍ.
فقال له ابن عمر: إذا بايعه الناس كلهم بايعته ولو كان عبدا مجدع الأطراف.
وقد عاتب معاوية في ولايته يزيد، سعيد بن عثمان بن عفان وطلب منه أن يوليه مكانه.
وقال له سعيد فيما قال: إن أبي لم يزل معتنيا بك حتى بلغت ذروة المجد والشرف، وقد قدمت ولدك عليّ وأنا خير منه أبا وأما ونفسا.
فقال له: أما ما ذكرت من إحسان أبيك إليّ فإنه أمر لا ينكر، وأما كون أبيك خير من أبيه فحق، وأمك قرشية وأمه كلبية فهي خير منها، وأما كونك خيرا منه فوالله لو ملئت إلى الغوطة رجالا مثلك، لكان يزيد أحب إليّ منكم كلكم.
وروينا عن معاوية أنه قال يوما في خطبته: اللهم إن كنت تعلم أني وليته لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته، وإن كُنت وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته.
وذكر الحافظ ابن عساكر: أن معاوية كان قد سمر ليلة فتكلم أصحابه في المرأة التي يكون ولدها نجيبا، فذكروا صفة المرأة التي يكون ولدها نجيبا.
فقال معاوية: وددت لو عرفت بامرأة تكون بهذه المئابة؟.
فقال أحد جلسائه: قد وجدت ذلك يا أمير المؤمنين.
قال: ومن؟
قال: ابنتي يا أمير المؤمنين.
فتزوجها معاوية فولدت له يزيد بن معاوية فجاء نجيبا ذكيا حاذقا.
ثم خطب امرأة أخرى فحظيت عنده وولدت له غلاما آخر، وهجر أم يزيد فكانت عنده في جنب داره، فبينما هو في النظارة ومعه امرأته الأخرى، إذ نظر إلى أم يزيد وهي تسرحه.
فقالت امرأته: قبحها الله وقبح ما تسرح.
فقال: ولم؟ فوالله إن ولدها أنجب من ولدك، وإن أحببت بينت لك ذلك، ثم استدعى ولدها.
فقال له: إن أمير المؤمنين قد عنَّ له أن يطلق لك ما تتمناه عليه فاطلب مني ما شئت.
فقال: أسأل من أمير المؤمنين أن يطلق لي كلابا للصيد وخيلا ورجالا يكونون معي في الصيد.
فقال: قد أمرنا لك بذلك، ثم استدعى يزيد، فقال له كما قال لأخيه.
فقال يزيد: أو يعفيني أمير المؤمنين في هذا الوقت عن هذا؟.
فقال: لا بد لك أن تسأل حاجتك؟.
فقال: أسأل - وأطال الله عمر أمير المؤمنين - أن أكون ولي عهده من بعده، فإنه بلغني أن عدل يوم في الرعية كعبادة خمسمائة عام.
فقال: قد أجبتك إلى ذلك.
ثم قال لامرأته: كيف رأيت؟ فعلمت وتحققت فضل يزيد على ولدها.
وقد ذكر ابن الجوزي في هذه السنة وفاة أم حرام بنت ملحان الأنصارية امرأة عبادة بن عُبادة بن الصامت، والصحيح الذي لم يذكر العلماء غيره أنها توفيت سنة سبع وعشرين، في خلافة عثمان.
وكانت هي وزوجها مع معاوية حين دخل قبرص، وقصتها بغلتها فماتت هناك وقبرها بقبرص.
والعجب أن ابن الجوزي أورد في ترجمتها حديثها المخرج في الصحيحين في قيلولة النبي ﷺ في بيتها، ورؤياه منامه قوما من أمته يركبون ثبج البحر مثل الملوك على الأسرة غزاة في سبيل الله، وأنها سألته أن يدعو لها أن تكون منهم فدعا لها، ثم نام فرأى كذلك.
فقالت: ادعو الله أن يجعلني منهم.
فقال: «لا! أنت من الأولين».
وهم الذين فتحوا قبرص فكانت معهم، وذلك في سنة سبع وعشرين، ولم تكن من الآخرين الذين غزوا بلاد الروم سنة إحدى وخمسين مع يزيد بن معاوية ومعهم أبو أيوب.
وقد توفي هناك فقبره قريب من سور قسطنطينية وقد ذكرنا هذا مقرارا في دلائل النبوة.