→ ترجمة مروان بن الحكم | البداية والنهاية – الجزء الثامن خلافة عبد الملك بن مروان ابن كثير |
ثم دخلت سنة ست وستين ← |
بويع له بالخلافة في حياة أبيه، فلما مات أبوه في ثالث رمضان منها جددت له البيعة بدمشق ومصر وأعمالهما، فاستقرت يده على ما كانت يد أبيه عليه، وقد كان أبوه قبل وفاته بعث بعثين:
أحدهما: مع عبيد الله بن زياد إلى العراق لينتزعها من نواب ابن الزبير، فلقي في طريقه جيش التوابين مع سليمان بن صرد عند عين الوردة، فكان من أمرهم ما تقدم، من ظفره بهم، وقتله أميرهم وأكثرهم.
والبعث الآخر: مع جيش بن دلجة إلى المدينة ليرتجعها من نائب ابن الزبير، فسار نحوها، فلما انتهى إليها هرب نائبها جابر بن الأسود بن عوف، وهو ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، فجهز نائب البصرة من قبل ابن الزبير وهو الحارث بن عبد الله بن ربيعة، جيشا من البصرة إلى ابن دلجة بالمدينة، فلما سمع بهم حُبيش بن دلجة سار إليهم.
وبعث ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد نائبا عن المدينة، وأمره أن يسير في طلب حُبيش، فسار في طلبهم حتى لحقهم بالربذة، فرمى يزيد بن سياه حُبيشا بسهم فقتله، وقتل بعض أصحابه وهزم الباقون، وتحصن منهم خمسمائة في المدينة، ثم نزلوا على حكم عباس بن سهل فقتلهم صبرا، ورجع فلُّهم إلى الشام.
قال ابن جرير: ولما دخل يزيد بن سياه الأسواري قاتل حبيش بن دلجة إلى المدنية مع عباس بن سهل كان عليه ثياب بياض وهو راكب برذونا أشهب، فما لبث أن اسودت ثيابه ودابته مما يتمسح الناس به ومن كثرة ما صبوا عليه من الطيب و المسك.
وقال ابن جرير: وفي هذه السنة اشتدت شوكة الخوارج بالبصرة.
وفيها: قتل نافع بن الأزرق وهو رأس الخوارج ورأس أهل البصرة، مسلم بن عبيس فارس أهل البصرة، ثم قتله ربيعة السلوطي وقتل بينهما نحو خمسة أمراء، وقتل في وقعة الخوارج قرة بن إياس المزني أبو معاوية، وهو من الصحابة.
ولما قتل نافع بن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبيد الله بن ماحوز، فسار بهم إلى المدائن فقتلوا أهلها، ثم غلبوا على الأهواز وغيرها، وجبوا الأموال وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين، ثم ساروا إلى أصفهان وعليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فالتقاهم فهزمهم، ولما قتل أمير الخوارج ابن ماحوز كما سنذكر، أقاموا عليهم قطري بن الفجاءة أميرا.
ثم أورد ابن جرير قصة قتالهم مع أهل البصرة بمكان يقال له: دولاب، وكانت الدولة للخوارج على أهل البصرة، وخاف أهل البصرة من الخوارج أن يدخلوا البصرة، فبعث ابن الزبير فعزل نائبها عبد الله بن الحارث المعروف: بببّة، بالحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف: بالقباع.
وأرسل ابن الزبير المهلب بن أبي صفرة الأزدي على عمل خراسان، فلما وصل إلى البصرة قالوا له: إن قتال الخوارج لا يصلح إلا لك.
فقال: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى خراسان، ولست أعصي أمره.
فاتفق أهل البصرة مع أميرهم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على أن كتبوا كتابا على لسان ابن الزبير إلى المهلب يأمره فيه بالمسير للخوارج ليكفهم عن الدخول إلى البصرة، فلما قرىء عليه الكتاب اشترط على أهل البصرة أن يقوي جيشه من بيت مالهم، وأن يكون له ما غلب عليه من أموال الخوارج، فأجابوه إلى ذلك.
ويقال: إنهم كتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأمضى لهم ذلك وسوّغه، فسار إليهم المهلب.
وكان شجاعا بطلا صنديدا، فلما أراد قتال الخوارج أقبلوا إليه يزفون في عدة لم ير مثلها من الدروع والزرود والخيول والسلاح، وذلك أن لهم مدة يأكلون تلك النواحي، وقد صار لهم تحمل عظيم مع شجاعة لا تدانا، وإقدام لا يسامى، وقوة لا تجارى، وسبق إلى حومة الوغى.
فلما تواقف الناس بمكان يقال له: سل وسل أبرى اقتتلوا قتالا شديدا عظيما، وصبر كل من الفريقين صبرا باهرا، وكان في نحو من ثلاثين ألفا، ثم إن الخوارج حملوا حملة منكرة، فانهزم أصحاب المهلب لا يلوي والد على ولد، ولا يلتفت أحد إلى أحد، ووصل إلى البصرة فُلاّ لهم.
وأما المهلب فإنه سبق المنهزمين فوقف لهم بمكان مرتفع، وجعل ينادي: إلى عباد الله، فاجتمع إليه من جيشه ثلاثة آلاف من الفرسان الشجعان، فقام فيهم خطيبا فقال في خطبته:
أما بعد، أيها الناس، فإن الله تعالى ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، وأنتم فرسان الصبر وأهل النصر، وما أحب أن أحدا ممن انهزموا معكم الآن: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالا } [التوبة: 47] .
ثم قال: عزمت على كل رجل منكم إلا أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا إلى عسكرهم فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيولهم في طلب إخوانكم، فوالله إني لأرجو أن لا ترجع خيولهم إلا وقد استبحتم عسكرهم، وتقتلوا أميرهم.
ففعل الناس ذلك، فزحف بهم المهلب بن أبي صفرة على معشر الخوارج فقتل منهم خلقا كثيرا نحوا من سبعة آلاف، وقتل عبيد الله بن الماحوز في جماعة كثيرة من الأزارقة، واحتاز من أموالهم شيئا كثيرا.
وقد أرصد المهلب خيولا بينه وبين الذين يرجعون من طلب المنهزمين، فجعلوا يقتطعون دون قومهم، وانهزم فلهم إلى كرمان وأرض أصبهان، وأقام المهلب بالأهواز حتى قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة، وعزل عنها الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة كما سيأتي قريبا.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة وجّه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.
قلت: محمد بن مروان هذا هو والد مروان الحمار وهو مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر خلفاء بني أمية، ومن يده استلبت الخلافة العباسيون كما سيأتي.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة عزل ابن الزبير أخاه عبيد الله عن إمرة المدينة وولاها أخاه مصعبا، وذلك أن عبيد الله خطب الناس فقال في خطبته: وقد رأيتم ما صنع الله بقوم صالح في ناقة قيمتها خمسمائة درهم.
فلما بلغت أخاه قال: إن هذا لهو التكلف، وعزله.
ويسمى عبيد الله مقِّوم الناقة لذلك.
قال ابن جرير: وفي آخرها عزل ابن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي، وولى عليها عبد الله بن مطيع الذي كان أمير المهاجرين يوم الحرة، لما خلعوا يزيد.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان الطاعون الجارف بالبصرة.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان في سنة أربع وستين.
وقد قيل: إنما كان في سنة تسع وستين، وهذا هو المشهور الذي ذكره شيخنا الذهبي وغيره، وكان معظم ذلك بالبصرة، وكان ذلك في ثلاثة أيام، فمات في أول يوم من الثلاثة من أهل البصرة سبعون ألفا، وفي اليوم الثاني منها: إحدى وسبعون ألفا، وفي اليوم الثالث منه ثلاثة وسبعون ألفا.
وأصبح الناس في اليوم الرابع موتى إلا قليل من آحاد الناس، حتى ذكر أن أم الأمير بها ماتت فلم يوجد لها من يحملها، حتى استأجروا لها أربعة أنفس.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا عبيد الله، ثنا أحمد بن عصام، حدثني معدي، عن رجل، يكنى أبا النفيد، وكان قد أدرك من هذا الطاعون، قال: كنا نطوف بالقبائل، وندفن الموتى، فلما كثروا لم نقو على الدفن، فكنا ندخل الدار وقد مات أهلها فنسد بابها عليهم.
قال: فدخلنا دارا ففتشناها فلم نجد فيها أحدا حيا فسددنا بابها، فلما مضت الطواعين كنا نطوف فنفتح تلك السدد عن الأبواب، ففتحنا سدة الباب الذي كنا فتشناه - أو قال الدار التي كنا سددناه - وفتشناها فإذا نحن بغلام في وسط الدار طري دهين، كأنما أخذ ساعتئذ من حجر أمه.
قال: فبينما نحن وقوف على الغلام نتعجب منه إذ دخلت كلبة من شق في الحائط فجعلت تلوذ بالغلام والغلام يحبو إليها حتى مص من لبنها.
قال معدي: وأنا رأيت ذلك الغلام في مسجد البصرة وقد قبض على لحيته.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة بنى عبد الله بن الزبير الكعبة البيت الحرام، يعني: أكمل بناءها وأدخل فيها الحجر، وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قال ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثني عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني، أبو محمد، حدثني زياد بن جبل: أنه كان بمكة يوم كان عليها ابن الزبير، فسمعته يقول:
حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر أن رسول الله ﷺ قال لعائشة: «لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم فأزيد في الكعبة من الحجر».
قال: فأمر ابن الزبير فحفروا فوجدوا تلاعا أمثال الإبل، فحركوا منها تلعة - أو قال صخرة - فبرقت برقة فقال: أقروها على أساسها، فبناها ابن الزبير وجعل لها بابين يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر.
قلت: هذا الحديث له طرق متعددة عن عائشة في الصحاح، والحسان، والمسانيد، وموضوع سياق طرق ذلك في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
وذكر ابن جرير في هذه السنة حروبا جرت بين عبد الله بن خازم بخراسان، وبين الحرشي ابن هلال القزيعي يطول تفصيلها.
قال: وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير، وكان على المدينة مصعب بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله بن مطيع، وعلى البصرة الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي.
وممن توفي فيها من الأعيان: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل أبو محمد السهمي، كان من خيار الصحابة وعلمائهم وعبادهم، وكتب عن النبي ﷺ كثيرا، أسلم قبل أبيه، ولم يكن أصغر من أبيه إلا باثني عشرة سنة.
وكان واسع العلم مجتهدا في العبادة، عاقلا، وكان يلوم أباه في القيام مع معاوية، وكان سمينا، وكان يقرأ الكتابين القرآن والتوراة.
وقيل: إنه بكى حتى عمي، وكان يقوم الليل ويصوم يوما ويفطر يوما ويصوم يوما.
استنابه معاوية على الكوفة، ثم عزله عنها بالمغيرة بن شعبة، توفي في هذه السنة بمصر.
وقتل بمكة عبد الله بن سعدة الفزاري، له صحبة، نزل دمشق.
وقيل: إنه من سبي فزارة.