→ الجزء الثاني | السيرة الحلبية الجزء الثالث علي بن برهان الدين الحلبي |
الجزء الرابع ← |
باب غزوة بدر الكبرى
ويقال لها بدر العظمى، ويقال لها بدر القتال، ويقال بدر الفرقان: أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل.
«ثم إن العير التي خرج في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها: أي رجوعها من الشأم، فلما سمع بقفولها من الشام ندب المسلمين» أي دعاهم وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب ناس»، أي أجابوا «وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله ﷺ لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله » أي لم يهتم بها، بل قال «من كان ظهره»: أي ما يركبه «حاضرا فليركب معنا» ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه».
ولما خرج إلى بدر قالت له أمّ ورقة بنت نوفل: يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرّض مرضاكم، لعل الله يرزقني الشهادة، فقال لها: قري في بيتك، فإن الله يرزقك الشهادة، وكانت قد قرأت القرآن، فكان رسول الله ﷺ يزورها ويسميها الشهيدة» فكان الناس يقولون لها الشهيدة. فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كانت دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت، فجيء بهما إلى سيدنا عمر، فأمر بصلبهما، فكانا أوّل مصلوب بالمدينة، وقال: صدق رسول الله ﷺ كان يقول «انطلقوا بنا نزور الشهيدة».
فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار: أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله، فبلغه أن رسول الله ﷺ قد استنفر أصحابه للعير، أي ويقال: إنه لقي رجلا فأخبره أنه قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري: أي استأجره بعشيرين مثقالا، ولا يعرف له إسلام، والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة، أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويستنقر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي، اختلف في إسلامها رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب، فقالت له: يا أخي. والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني: أي اشتدت علي وتخوّفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدّثك.
قال: وفي رواية أنها قالت له: لن أحدثك حتى تعاهدني أن لا تذكرها، فإنهم إن سمعوها ـ تعني كفار قريش ـ آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس ا هـ. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح: أي وهو ما بين المحصب ومكة، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا فانفروا يا آل غدر: أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث: أي بعد ثلاثة أيام.
وفي كلام السهيلي: يا آل غُدر بضم الغين والدال جمع غدور، أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم، قالت: فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره: أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت: أي تكسرت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة، فقال لها العباس: والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد، ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة، أي وكان صديقا له ذكرها له أي واستكتمه، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، فتحدث بها ففشا الحديث. قال العباس: فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش فعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال أبو جهل لعنه الله: يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة! فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبأ رجالكم حتى تستنبأ نساؤكم.
وفي رواية: ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء ا هـ. قال أبو جهل: قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه، الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا. وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه: أي يا مأبون، أو يا جبان، أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته بالزعفران، فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك. فقال من حضرهما: ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا، ولقي العباس «رضي الله ع» من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها، قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني أقررتم؟ أي قائلة، أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع، ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟
ثم قلت لهنّ: وأيم الله لأتعرضنّ له، وإن عاد قاتلته، وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه، فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قاله فأوقع به، إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد: أي يعدو، فقلت في نفسي ما له لعنه الله؟ أكل هذا فرق؟ أي خوف مني، فإذا هو يسمع ما لم أسمع، سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، أي قطع أنفه وأذناه، وحول رحله وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش، الليطمة اللطيمة: أي أدركو اللطيمة، وهي العير التي تحمل الطيب والبز، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها. وفي لفظ: إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا، الغوث الغوث. قال العباس: فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر، فتجهز الناس سراعا، أي وفزعوا أشد الفزع؛ وأشفقوا: أي خافوا من رؤيا عاتكة.
ويروى أنهم قالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمنّ غير ذلك، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلا، أي وأعان قويهم ضعيفهم؛ وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج، وقال سهيل بن عمرو: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب، أي خوفا من رؤيا عاتكة، فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد، أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة: أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له اخرج وديني لك، أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا. ومن ثم جاء في لفظ: وكان لاطه بأربعة آلاف درهم، قال أبو عبيد: وسمي الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع.
وفي كلام البلاذري، أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد، فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق، أي ضيق عليه بالطلب، ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا، فأرسله مكانه إلى بدر وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة، حتى إن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا، فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر: أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا عليّ استجمر فإنما أنت من النساء، فقال له: قبحك الله وقبح ما جئت به، أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها. وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك. وفي لفظ أتاه أبو جهل، فقال له: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي، وفي لفظ: وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك، فسر يوما أو يومين، أي ولا مانع من وجود ذلك كله، فتجهز مع الناس.
أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته. فقال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فقال أمية لسعد: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت. وفي لفظ: فخرج أمية به قريبا من نصف النهار، فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف؟ فقال له سعد: أنا سعد بن معاذ. فقال له أبو جهل: أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا وأصحابه؟ وفي لفظ: آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فتلاحيا: أي تخاصم، وسعد يرفع صوته بقوله: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة؟ فصار أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا. فقال سعد لأمية: إليك عني، فإني سمعت محمدا يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال نعم، قال: بمكة؟ قال: لا أدري، قال: والله ما كذب محمد، فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا، فرجع إلى امرأته، فقال: ما تعلمين ما قال أخي اليثربي ـ يعني سعد بن معاذ؟ قالت: وما ذاك؟ قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما جاء الصريخ وأراد الخروج، قالت له امرأته: أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فإني إذن لا أخرج، فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم، فخرج ناويا أن يرجع عنهم.
أي ومعنى كونه قاتله، أنه كان سببا في قتله، وإلا فهو لم يباشر إلا قتل أخيه. وهو أبيّ بن خلف في أحد كما سيأتي. ومن ثم جاء في رواية قال لأمية: إن أصحابه يعني النبي ﷺ يقتلونك.
ويحتمل أن سعد بن معاذ «رضي الله ع» سمعه يقول «أنا أقتل أبيّ بن خلف» ففهم «رضي الله ع» أنه يريد أمية لا أبيا.
أي وفي الإمتاع: أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام استقسموا بالأزلام، فخرج لهم القدح الناهي: أي المكتوب عليه لا تفعل، فأجمعوا على المقام، فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم، وأعانه على ذلك عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
ويقال إن عداسا قال لسيديه عتبة وشيبة ابني ربيعة بأي وأمي أنتما، والله ما تساقان إلا لمصارعكما، فأرادا عدم الخروج، فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش.
ولما فرغوا من جهازهم، أي وكان ذلك في ثلاثة أيام، وقيل في يومين وأجمعوا السير: أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة. وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة. قال ابن إسحاق: وخرجوا على الصعب والذلول: أي لشدة إسراعهم، والصعب: الذي لا ينقاد، والذلول: الذي ينقاد، معهم القيان: أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة: وهي الأمة مطلقا. وقيل المغنية؛ والمراد هنا الثاني، لقوله في الإمتاع: ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين: أي بهجاء المسلمين.
وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف، وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء، وقالوا: نخشى أن يأتونا من خلفنا: أي لأن قريشا كانت قتلت شخصا من كنانة، وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له، فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فذكر أنه من قريش، فلما وَلّى الغلام. قال عامر لقومه: أما لكم في قريش من دم؟ قالوا بلى، فأغراهم به فقتلوه، ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل: فقالت قريش، نعم رجل برجل. ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتلهُ ثم خاط بطنه بسيفه، ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله، أي وكاد ذلك يثنيهم، أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ـ وكان من أشراف بني كنانة ـ وقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس بعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم {وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}.
«ولما خرج رسول الله ﷺ من المدينة ضرب رسول الله ﷺ عسكره ببئر أبي عتبة، أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها».
وفي الإمتاع عسكر ببيوت للسقيا، وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له الماء منها.
وقد جاء أن عبده رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة. وقال «بئر غرس من عيون الجنة» ومن ثم غسل منها كما سيأتي. وغرس: اسم عبد كان يقوم عليها، وقيل غير ذلك.
وأمر حين فصل من بيوت السقيا أن تعدّ المسلمون، فوقف لهم عند بئر أبي عتبة فعدوا، وهي على ميل من المدينة فعرض أصحابه وردّ من استصغر، أي وكان ممن رده أسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت «رضي الله ع»، وردّ عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه، وقتل وعمره ستة عشر عاما. وحينئذ يتوقف في رده، لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا.
وخرج في خمسة وثلاثمائة رجل، من المهاجرين أربعة وستون، وباقيهم من الأنصار. وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين، وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين.
وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب، وقد جرب ذلك. وخلف عثمان على ابنته رقية وكانت مريضة، أي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري: أي ولا مانع من وجود الأمرين، وقد قال «إن لك لأجر رجل وسهمه» أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة، فأمره بالمقام على أمه، فرجع رسول الله ﷺ من بدر وقت توفيت، فصلى على قبرها.
واستعمل أبا لبابة «رضي الله ع» واليا على المدينة ورده من المحل المذكور، أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل. وقيل رده من الروحاء، وهو المشهور: وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم.
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة، وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية، أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك، وكسر بالروحاء خوات بن جبير.
أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة: خرج خوات بن جبير مع رسول الله، فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع، وضرب له رسول الله ﷺ بسهمه. وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا.
وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين: التي تضرب العرب بها المثل فتقول «أشغل من ذات النحيين» وهي خولة « يروى أنه سأله عنها وتبسم، فقال: يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها، وأعوذ بالله من الحور بعد الكور» وروي «أن قال له: ما فعل بعيرك الشارد» يعرّض بهذه القصة، فقال: قيده الإسلام يا رسول الله، وقيل لم يعرض رسول الله ﷺ بهذا القول لتلك القضية، وإنما هو لقضية أخرى هي «أن خوّاتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن، فسألهن أن يفتلن له قيدا لبعيره وزعم أنه شارد؛ وجلس إليهن بهذه العلة، فمر عليه رسول الله ﷺ وهو يتحدث إليهن، فإعرض عنه وعنهن، فلما أسلم سأله رسول الله ﷺ عن ذلك البعير وهو يتبسم. وكسر أيضا الحارث بن الصمة.
وبعث له طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد «رضي الله ع» يتحسسان خبر العير. والتحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أي يحفص عنها بغيره. وجاء «تحسسوا ولا تجسسوا» ولم يحضرا لهذا القتال، بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول «وأجري يا رسول الله؟ فيقول: وأجرك. ودفع اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه رايتان سواداوتان: إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، أي ويقال لها العقاب، وكانت من مرط لعائشة».
وفي كلام بعضهم: كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب، وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله، وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد «والأخرى مع بعض الأنصار» وابن قتيبة اقتصر على الأولى. وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا يردّ ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق، وما سيأتي في غزوة بني قينقاع. عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خيبر.
ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ أعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة» وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان من مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر، ولواء الأوس مع سعد بن معاذ، ولم يذكر الرايتين.
وفي الإمتاع أنه عقد الألوية وهي ثلاثة، لواء يحمله مصعب بن عمير، ورايتان سوداوتان: إحداهما مع علي، والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية، وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية.
وكان خرج من المدينة على غير لواء معقود. وقال في الأصل: والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله ﷺ في العريش أي كما سيأتي، قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر؛ أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق، فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه ليكون معه في العريش ولبس درعه ذات الفضول، وتقلد سيفه العضب.
وحين فصل من بيوت السقيا قال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك، فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا، للرجل البعير والبعيران، واكتسى من كان عاريا، وأصابوا طعاما من أزوادهم، وأصابوا فداء الأسارى، فاغتنى به كل عائل.
وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، ففرح المسلمون بخروجه معهم، فقال له رسول الله «لا يصحبنا إلا من كان على ديننا» أي وفي رواية «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك» أي وسيأتي في أحداثه قال «لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك» لما رد حلفاء عبدالله بن أبي ابن سلول من يهود «وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله، وفي الثالثة قال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال نعم، فأسلم وقاتل قتالا شديدا».
وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما. ولا مخالفة، لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء.
«ولما سار رسول الله ﷺ صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه، يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا».
وذلك «أنه كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفطروا، انتهى وسيأتي في فتح مكة أنه أمرهم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك، فقال أولئك العصاة، وكانت إبل أصحاب رسول الله، أي التي معهم يومئذٍ سبعين بعيرا، فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا، أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله، فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا».
أي وعن عائشة «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر».
وفي الإمتاع: فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا كلامه «فكان رسول الله ﷺ وعلي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا» وفي لفظ «كان أبو لبابة وعلي والنبي ﷺ يعتقبون بعيرا» أي وذلك قبل أن يردّ أبا لبابة للمدينة من الروحاء، وبعد أن رده قام مقامه مرثد، وقيل زيد بن حارثة، وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم.
ويجوز أن كان مع حمزة تارة، ومع النبي ﷺ أخرى، فكان إذا كانت عقبة النبي ﷺ قالا له: أي رفيقاه: اركب حتى نمشي معك، فيقول «ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما».
«وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» يعتقبون بعيرا، أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الأنصاري يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا، فمرّ بهم رسول الله، فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله ﷺ بماء فتمضمض وألقاه في إناء» أي وفي الإمتاع «فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: افتح فاه، فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه، ثم قال: اركبا ومضى فلحقاه؛ وإنه لينفر بهم» أي وأمر بإحصاء من معه، وهو محتمل لأن يكون أمر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد أن رد أبا لبابة «وبعد عدهم في بئر أبي عتبة، فإذا هم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك، وقال عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر» وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير رحمه الله، ومن زاد على ذلك عدّ منهم من رده من الروحاء ومن أسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك، وعدهم ثلاثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال، فالجواب عنه لا يخفى.
وكان في الجيش خمسة أفراس: فرسان له وفرس لمرثد، ويقال له السيل، وفرس للمقداد بن الأسود نسب إليه لأنه تبناه في الجاهلية كما تقدم، ويقال لها سبحة، وفرس للزبير ويقال له اليعسوب، وقيل لم يكن في الجيش إلا فرسان، فرس المقداد وفرس الزبير.
وعن علي «رضي الله ع»: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد.
أقول: يجوز أن يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا إلا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا؛ ويؤيد ما يأتي «أنه لما قسم الغنيمة لم يميز أحدا عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس» لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة «كان الزبير «رضي الله ع» صاحب راية رسول الله ﷺ يوم بدر، وليس على الميمنة يومئذٍ فارس غيره» هذا كلامه. إلا أن يقال كون الزبير فارسا على الميمنة لا يخالف كون المقداد فارسا في محل آخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرّم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا: أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل، والله أعلم.
وفي أثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله ﷺ قال: أفيكم رسول الله ﷺ قالوا نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني بما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلامة بن سلامة بن وقش: لا تسل رسول الله، أقبل عليّ أنا أخبرك عن ذلك، نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة، فقال له رسول الله ﷺ: مه أفحشت على الرجل، ثم أعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران» بكسر الفاء: أي وهو واد قريب من الصفراء أتاه الخبر عن قريش، بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ﷺ أصحابه وأخبرهم الخبر: أي قال لهم إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين، فما تقولون؟ العير أحب إليكم من النفير؟ فقالوا: بلى، أي قالت ذلك طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو. وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنا خرجنا للعير وفي رواية «يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو، فعند ذلك تغير وجه رسول الله » وقد روى ذلك عن أبي أيوب «رضي الله ع» في سبب نزول قوله تعالى {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} وعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل: أي لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف، فوالله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ وهي مدينة بالحبشة ـ لجالدنا: أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه. وفي لفظ «نقاتل عن يمينك وعن يسارك. ومن بين يديك ومن خلفك، قال ابن مسعود: فرأيت وجه رسول الله ﷺ يشرق لذلك وسر بذلك».
وفي الكشاف «فضحك رسول الله، فقال رسول الله ﷺ خيرا ثم دعا له بخير».
هذا، وفي العرائس روي «أن النبي، قال لأصحابه يوم الحديبية حين صد عن البيت إني ذاهب بالهدى، فتأخر عند البيت واستشار أصحابه في ذلك، فقال المقداد بن الأسود أما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكنا نقول إنا معكم مقاتلون، والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك، ولو خضت بحرا لخضناه معك، ولو علوت جبلا لعلوناه معك، ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك، فلما سمع أصحاب رسول الله ﷺ ذلك تابعوه، فأشرق عند ذلك وجه رسول الله ﷺ والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال أشيروا عليّ، فقال عمر يا رسول الله إنها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك، فتأهب لذلك أهبته واعدد لذلك عدته، أي ثم استشارهم ثالثا، فقال أشيروا عليّ أيها الناس ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، وذلك لأنهم عدد الناس: أي أكثرهم عددا ومن ثم قيل: وإنما كرر رسول الله ﷺ الاستشارة: أي في ذلك المجلس ليعرف حال الأنصار، فإنه تخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له حين بايعوه عند العقبة «يا رسول الله إناء براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إليها فأنت في ذمتنا، نمنعك بما نمنع به أبناءنا ونساءنا، ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الأوس. وقيل سعد بن عبادة سيد الخزرج وإنما حكي بصيغة التمريض لأنه قد اختلف في عده في البدريين.
والصحيح أنه لم يشهد بدرا فإنه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحية قبل أن يخرج فأقام أي وضرب له بسهم، فقال: لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله، فقال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار، وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت. وفي لفظ وصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر في الحرب، صدق اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك. وفي لفظ: بعض ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله تعالى، فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك، فسر النبي ﷺ لذلك، أي وأشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير «فوالله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» أي فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك الظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم فعلم القوم أنهم ملاقون القتال وأن العير لا تحصل لهم.
ثم ارتحل رسول الله ﷺ من ذفران حتى نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر «رضي الله ع»، أي وقيل بدل أبي بكر قتادة بن النعمان، وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور: لا أعلم له إسلاما، فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم. فقال الشيخ، لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما فقال له رسول الله ﷺ إذا أخبرتنا أخبرناك فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم، قال فإنه قد بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله ﷺ وأصحابه، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من أنتما فقال رسول الله ﷺ: نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المني، ثم انصرفا عنه. فقال الشيخ من ماء من ماء العراق؟ فهم أن المراد بالماء حقيقته.
أي لكن في الإمتاع «فقال النبي ﷺ نحن من ماء، وأشار بيده إلى العراق. فقال: من ماء العراق» أي وأضيف الماء إلى العراق لكثرته به، وفيه أن هذا من التورية، وقد تقدم في أوائل الهجرة أنه لا ينبغي لنبي أن يكذب ولو صورة، ومنه التورية.
لكن في كلام القاضي البيضاوي وما روي «أنه "عليه الصلاة والسلام قال لإبراهيم "عليه الصلاة والسلام ثلاث كذبات» تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته.
ثم رجع رسول الله ﷺ إلى أصحابه ودعا لهم فقال: اللهم إنهم حفاة فاحملهم اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم، ففتح الله لهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بجمل أو جملين واكتسوا وشبعوا» أخرجه أبو داود عن عمرو بن العاص «رضي الله ع»: أي شبعوا واكتسوا بما أصابوه من كسوة وأزواد قريش.
وفي الإمتاع أن دعاءه المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم، وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم، فأصابوا الأسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع أن يكون دعاؤه بذلك تكرر.
«فلما أمسى بعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه «رضي الله ع» إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا رواية لقريش معها غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص، فأتوا بهما ورسول الله ﷺ قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبي سفيان، فقالا: نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، فلما فرغ رسول الله ﷺ من صلاته قال: إذا صدقاكم ضربتوهما وإذا كذباكم تركتموها، صدقا والله، إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء هذا الكثيب» أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى: أي جانب الوادي المرتفع «فقال لهما رسول الله ﷺ: كم القوم؟ قالا كثير» أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، أي وجهد النبي ﷺ أن يخبراه كم هم فأبيا. قال كم تنحرون؟ أي من الجزر كل يوم؟ قالا يوما تسعا ويوما عشرا، فقال: القوم ما بين التسعمائة والألف» أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضى الله تعالى عنه، فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، وهو من أشراف قريش وخطبائهم، وسيأتي أنه ممن أسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبدود فأقبل رسول الله ﷺ على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ ـ أي قطع ـ كبدها أي أشرافها وعظماءها» وذكر أن مسيرهم وإقامتهم كانت عشر ليال حتى بلغوا الجحفة: أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم، نزلوا بها عشاء: أي وفي الإمتاع أنهم ردوا القيان من الجحفة.
أقول: هذا والذي في مسلم وأبي داود عن أنس «رضي الله ع» «فإذا هم بروايا قريش فيها رجل أسود لبني الحجاج، فجاؤوا به، فكانوا يسألونه عن أبي سفيان فيقول: مالي بأبي سفيان علم، فإذا قال ذلك ضربوه، وإذا قال هذا أبو سفيان تركوه» الحديث.
أي وفي الإمتاع «وأخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي ﷺ وهو يصلي» الحديث.
وقد يقال: لا منافاة، لأن بعض الرواة ذكر الثلاثة، وبعضهم اقتصر على اثنين، وبعضهم اقتصر على واحد، والله أعلم.
وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت «رضي الله ع»». فإنه أسلم في عام خيبر «وأعطاه رسول الله ﷺ من خيبر ثلاثين وسقا، وقيل أسلم بعد الفتح فوضع رأسه فأغفى، ثم قام فزعا، فقال لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف عليّ فقالوا لا، قال: قد وقف عليّ فارس فقال: قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وفلان وفلان، وعد رجالا من أشراف قريش ممن قتل يوم بدر، أي وقال: أسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان، وعدّ رجالا ممن أسر، قال: ثم رأيت ذلك الفارس ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما من خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنه لعب بك الشيطان، ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت أبا جهل قال: قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل» وفي لفظ «قال أبو جهل: هذا نبي آخر من بني المطلب، سيعلم غدا من المقتول، نحن أو محمد وأصحابه، وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل بن هشام عشر جزائر أي بمر الظهران، وكانت جزور منها بعد أن نحرت بها حياة فجالت في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها» كذا في الإمتاع.
ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك، ثم نحر لهم سفيان بن أمية بعسفان تسع جزائر، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر، وساروا من قديد فضلوا بهائم ثم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر، فلما أصبحوا بالأبواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحي تسع جزائر أي ويقال إن الذي نحر لهم بالأبواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر، ونحر لهم الحارث بن عامر ابن نوفل تسعا، ونحر لهم أبو البختري على ماء بدر عشر جزائر، ونحر لهم مقيس الجمحي على ماء بدر تسعا، أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله إلى بدر، وكذا قبل وصول قريش إلى بدر كما يدل عليه الكلام الآتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق إلى ماء بدر «فنزلا قريبا منه عند تلّ هناك، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء وإذا جاريتان يتلازمان: أي يتخاصمان، وتمسك إحداهما الأخرى على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد. فأعمل لهم وأقضيك الذي لك، فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت، ثم خلص بينهما، وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ فأخبراه بما سمعا ثم إن أبا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء، فلقي ذلك الرجل، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما ثم انطلقا».
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففتته، فإذا فيه النوى، فقال: والله علائف يثرب، فرجع إلى أصحابه سريعا فصوّب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله تعالى فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف: أي الملاهي، وقيل الدفوف، وقيل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه أهل اليمن، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وسيأتي في غزاة بدر الموعد أن موسم بدر يكون عند هلال ذي القعدة في كل عام يمكث ثمانية أيام، ويبعد إرادة ذلك لأبي جهل أي إقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوّال.
قال «ولما أرسل أبو سفيان يقول لقريش ما تقدم، أي ورد عليه أبو جهل بما ذكر قال: هذا بغي، والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى» أي وقيل ثلاثمائة، وقائدهم كان الأخنس بن شريق.
وفي كلام ابن الأثير «فلم يقتل منهم» أي من بني زهرة أحد «ببدر» وفي كلام غيره «ولم يشهد بدر أحد من بني زهرة إلا رجلان قتلا كافرين، فإن الأخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، واجعلوا بي حميتها، وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير منفعة لا ما يقول هذا» يعني أبا جهل «وقال لأبي جهل أي وقد خلا به، أترى محمدا يكذب؟ فقال: ما كذب قط، كنا نسميه الأمين، لكن إذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة، ثم تكون فيهم النبوّة فأي شيء يكون لنا؟ فانخنس الأخنس ورجع ببني زهرة» أي واسمه أبيّ وإنما لقب بالأخنس من حين رجع ببني زهرة، فقيل خنس بهم فسمي الأخنس، كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم يوم الفتح، وأعطاه رسول الله ﷺ مع المؤلفة قلوبهم».
ورأيت عن السهيلي «أنه قتل يوم بدر كافرا» وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي: أن قوله تعالى {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} الآية نزلت في الأخنس بن شريق. وفي الإصابة أنه كان من المؤلفة، ومات في خلافة عمر.
وعن السدي «أن الأخنس جاء إلى النبي ﷺ فأظهر إسلامه وقال: الله يعلم إني لصادق ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم، فنزلت {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} إلى قوله: {وبئس المهاد}.
قال ابن عطية، ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت قد أثبته في الصحابة جماعة، ولا مانع أن يكون أسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الإسلام، هذا كلام الإصابة.
وفي كلام ابن قتيبة، ولم يسلم الأخنس، وفي كلام بعضهم: ثلاثة ابن وأبوه وجده شهدوا بدرا الأخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك.
«قال وأراد بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع» انتهى.
ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء، ونزل رسول الله ﷺ والمسلمون بعيدا من الماء، بينهم وبين الماء رحلة، فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب غالبهم، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم، تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وأنكم على الحق وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم عطاش، وتصلون مجنبين، أي وما ينتظر أعداؤكم إلا أن يقطع العطش رقابكم، ويذهب قواكم، فيحكموا فيكم كيف شاءوا».
وفي الكشاف «فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم، فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادي دهسا بالسين المهملة، أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الأقدام، فبعث الله السماء» أي المطر «فأطفأت الغبار»، ولبدت الأرض» أي شدتها للنبي ولأصحابه، أي وطهرهم به وأذهب عنهم رجز الشيطان» أي وسوسته «وشربوا منه وملؤوا الأسقية وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، أي وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به} أي من الأحداث {ويذهب عنكم رجز الشيطان} أي وسوسته {وليربط على قلوبكم} أي يشدّها ويقويها {ويثبت به الأقدام} أي بتلبيد الأرض حتى لا تسوخ في الرمل «وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه أي ويصلوا إلى الماء» أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين.
وعن علي «رضي الله ع» «أصابنا من الليل طس من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه».
وعن عليّ «رضي الله ع» «ما كان فينا أي تلك الليلة قائم إلا رسول الله يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أن يقول، يا حي يا قيوم يكرر ذلك حتى أصبح أي لأن المسلمين أصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقي الشخص على جنبه».
أي وعن قتادة «كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين، نعاس يوم بدر، ونعاس يوم أحد» لأن النعاس هنا كان ليلا قبل القتال؛ وفي أحد كان وقت القتال، وكون النعاس أمنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لا قبله.
هذا وذكر الشمس الشامي أنه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم، وبشرهم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة، وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة، وربما يقتضي أنه حصل لهم النعاس عند المصافة، وإلا فقد يقال إن قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية، أي والحال أنه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة؛ لا في وقت المصافة.
ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك: ولهذا قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: النعاس في المصاف من الإيمان والنعاس في الصلاة من النفاق، أي لأنه في الأول يدل على ثبات الجنان، وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بأمر الصلاة.
«فلما أن طلع الفجر نادى الصلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله ﷺ وحرض على القتال» أي في خطبة خطبها «فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه، إلى أن قال: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله تعالى به الهمّ وينجي به من الغم» الحديث.
«ثم خرج رسول الله ﷺ يبادرهم» أي يسابق قريشا إلى الماء «فسبقهم عليه، حتى جاء أدنى ماء من بدر» أي أقرب ماء إلى بدر من بقية مياهها «فنزل به، فقال له الحباب بن المنذر، يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله تعالى ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل؛ فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم» أي إذا نزل القوم: يعني قريشا كان ذلك الماء أقرب المياه، أي محله أقرب المياه إليهم. قال الحباب: فإني أعرف غزارة مائة وكثرته بحيث لا ينزح، فنزله ثم نغور ما عداه من القلب: أي وهي الآبار غير المبنية، ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون؛ لأن القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب، فقال رسول الله ﷺ: لقد أشرت بالرأي، ونزل جبريل "عليه السلام" على النبي ﷺ فقال: الرأي ما أشار إليه الحباب، فنهض رسول الله ﷺ ومن معه من الناس، فسار حتى أدنى ماء من القوم» أي من المحل الذي ينزل به القوم «فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فغورت» بسكون الواو.
وقال السهيلي: لما كانت القلب عينا جعلها كعين الإنسان، ويقال في عين الإنسان غرتها فغارت، ولا يقال غورتها أي بالتشديد «وبنى حوضا على القليب الذي نزل به فملأه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية، ومن يومئذٍ قيل للحباب ذو الرأي» وظاهر كلام بعضهم أنه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة.
وفيه أن ذلك القليب إذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لأنها إذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم. إلا أن يقال: المعنى لئلا يأتوا إليها من خلفهم، فالغرض قطع أطماعهم من الماء، فليتأمل، واستدل بقوله «بل هو الرأي» على جواز الاجتهاد له في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لأن صورة السبب لا تخصص، وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح.
ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له في الأحكام قوله «إلا الإذخر» عقب ما قيل له إلا الإذخر. قال السبكي: وليس قاطعا، لاحتمال أن يكون أوحي إليه في تلك اللحظة.
هذا، وفي كلام بعضهم أنهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملؤوه وقذفوا فيه الآنية بعد أن استقوا منه، وسيأتي ما يؤيده.
«وقال سعد بن معاذ: يا نبي الله ألا نبني عريشا» أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به «تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولا أطوع لك منهم، لهم رغبة في الجهاد ونية، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، إنما ظنوا أنها العير يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله ﷺ ودعا له بخير، أي وقال: أو يقضي الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بني» أي ذلك العريش «لرسول الله ﷺ أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه».
أي وعن علي «رضي الله ع» «أنه قال لجمع من الصحابة، أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا أنت؛ قال: أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله ﷺ عريشا فقلنا: من مع رسول الله » أي من يكون معه «لئلا يهوي إليه أحد من المشركين، فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرا بالسيف على رأس رسول الله ﷺ لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه» أي ولذلك حكم عليّ أنه أشجع الناس. وبه يرد قول الشيعة والرافضة إن الخلافة لا يستحقها إلا عليّ، لأنه أشجع الناس، أي وهذا كان قبل أن يلتحم القتال، وإلا فبعد التحامه كان عليّ على باب العريش الذي به، وأبو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الأنصار كما سيأتي.
ومما استدل على أن أبا بكر أشجع من علي أن عليا أخبره النبي ﷺ أنه لا يقتله إلا ابن ملجم، فكان إذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم أنه لا قدرة له على قتله، فهو معه كالنائم على فراشه. وأما أبو بكر فلم يخبر بقاتله، فكان إذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل أو لا، ومن هذه حاله يقاسي من التعب ما لا يقاسيه غيره.
ومما يدل على ذلك ما وقع له في قتال أهل الردة، وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك.
«فلما كان الصباح أقبلت قريش من الكثيب» هذا يؤيد القول بأنه سار بأصحابه ليلا يبادرهم إلى الماء، لأن ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم، لأن الظاهر من قول الراوي أقبلت: أي عليهم هم ماكثون.
ويؤيده أيضا ما في مسلم عن أنس «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ قال ليلة بدر» أي بعد أن وصل إلى محل الوقعة «هذا مصرع فلان إن شاء الله غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان ها هنا، وهذا مصرع فلان هاهنا. قال أنس: ما ماط أحدهم عن موضع يده » أي ما تنحى فليتأمل الجمع.
ولما رأى رسول الله ﷺ قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والأسلحة الشاكية أي التامة قال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها» أي كبرها وعجبها وفخرها «تجادلك: أي تعاديك وتخالف أمرك وتكذب رسولك، فنصرك» أي أنجز نصرك «الذي وعدتني» أي وفي لفظ «اللهم إنك أنزلت على الكتاب وأمرتني بالثبات، ووعدتني إحدى الطائفتين، أي وقد فاتت إحداهما وهي العير وإنك لا تخلف الميعاد. اللهم أحبهم» أي أهلكهم «الغداة» وفي رواية «اللهم لا تفلتن أبا جهل فرعون هذه الأمة، اللهم لا تفلتن زمعة بن الأسود، اللهم وإسحاق عين أبي زمعة، وأعم بصر أبي زمعة، اللهم لا تفلتن سهيلا» الحديث.
«ولما اطمأنت قريش أرسلوا عمير بن وهب الجمحي ـ أي «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وشهد أحدا معه فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد» أي انظر لنا عدتهم «فاستجال بفرسه حول عسكر النبي ﷺ ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، ولكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا، فذهب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا» أي وهي في الأصل النوق تبرك على قبر صاحبها، فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت «تحمل المنايا» أي الموت «أي نواضح يثرب تحمل الموت النافع» أي البالغ.
زاد بعضهم: ألا ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تملظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهلهم، زرق العيون كأنهم الحصا تحت الحجف، يعني الأنصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما نرى أن نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم؛ فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فقال: ياأبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس؛ فقام عتبة خطيبا فقال، يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك أكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، أي يا قوم أعصبوها اليوم برأسي، أي اجعلوا عارها متعلقا بي، وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
أي وفي لفظ آخر «أن حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة: تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي» أي الذي قتله واقد بن عبدالله في سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة، وهو أوّل قتيل قتله المسلمون «وتحمل ما أصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبدالله بن جحش» كما سيأتي في السرايا «فإنهم لا يطلبون من محمد إلا ذلك؟ فقال عتبة نعم قد فعلت، أي هو حليفي فعليّ عقله وما أصيب من المال، ونعم ما قلت، ونعم ما دعوت إليه، وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش يقول: يا قوم أطيعوني فإنكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما أخذ من العير، وقد تحملت ذلك.
زاد بعضهم «أنه قال: يا معشر قريش أنشدكم الله في هذه الوجوه التي تضيء ضياء المصابيح» يعني قريشا «أن تجعلوها أندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات» يعني الأنصار، وهذا كما ترى وما يأتي أيضا يضعف قول من قال إنه عقل ابن الحضرمي أي أعطى ديته.
«وقد كان لما رأى قريشا أقبلت من الكثيب وعتبة على جمل أحمر قال: إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر».
أي وفي رواية «إن يكن أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا. ولما رأى رسول الله ﷺ راكب الجمل الأحمر يجيله في صفوف قريش، قال: يا علي ناد حمزة وكان أقربهم إلى المشركين، فقال له رسول الله ﷺ: من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم؟ فقال: هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال» وحينئذ يكون قوله إن يكن في أحد من القوم خير الخ من أعلام نبوته.
«ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية» يعني أبا جهل «قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها» أي أخرجها منه، فقلت له: «يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره» أي رئته كلمة تقال للجبان.
وفي لفظ أنه قال لعتبة، وقد جاء إليه، أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته أي قلت له اعضض على بظر أمك أن قد ملأت رئتك وجوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وقال لحكيم: ما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو أبو حذيفة «رضي الله ع»، فإنه كان ممن أسلم قديما «فقد تخوفكم عليه».
أي وفي رواية أنه قال: يا معشر قريش إنما يشير عليكم عتبة بهذا، لأن ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه، فهو كره أن تقتلوا ابنه وابن عمه، فغضب عتبة وسب أبا جهل وقال، سيعلم أينا أفسد لقومه.
أي ومن غريب الاتفاق أن أم أبان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها أربعة إخوة وعمان، كل منهم حضر بدرا اثنان من إخوتها مسلمان، واثنان مشركان، وواحد من عميها مسلم، والآخر كافر، فالأخوان المسلمان: أبو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان أخاها لأمها، والكافران: الوليد بن عتبة وأبو عزيز، والعم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان أخا لعتبة لأمه، والعم الكافر شيبة بن ربيعة، وكان من حكمة الله تعالى أن الله جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم الله في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم.
ومن ثم جاء عن ابن مسعود «رضي الله ع» أنه قال: لقد قلّوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة، وأنزل الله تعالى {وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم}، ومن ثم قال الله تعالى {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم} أي يرى أولئك الكفار المؤمنين {مثليهم رأي العين}.
أي وقد ذكر أن قباث بن أشيم «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم بعد ذلك ـ قال في نفسه يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها لردّت محمدا وأصحابه. وعنه أنه قال: لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سألت عن رسول الله، فقالوا: هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من أصحابه، فأتيته وأنا لا أعرفه من بينهم، فسلمت عليه فقال «يا قباث أنت القائل يوم بدر: لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا وأصحابه، فقال قباث: والذي بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاي ولا سمعه مني أحد، وما هو إلا شيء هجس في قلبي» وحينئذ يكون معنى قوله «أنت القائل: أي في نفسك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن ما جئت به الحق».
«ولما بلغ عتبة ما قاله أبو جهل قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو» وقد تقدم معنى مصفر استه.
وذكر السهيلي هنا أن هذه الكلمة لم يخترعها عتبة ولا هو أبو عذرتها، فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب، وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة وتعيبه في الحرب أشد العيب. وأظن أن أبا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق، فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وإنما أراد مصفر بدنه، ولكنه قصد المبالغة في الذم، فخص منه بالذكر ما يسوؤه أن يذكر هذا كلامه.
وذكر «أن النبي ﷺ بعث عمر بن الخطاب «رضي الله ع» إليهم يقول: ارجعوا فإنه إن يل هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصفا فأقبلوه، فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم. ثم إن أبا جهل بعث إلى عامر ابن الحضرمي أي أخو المقتول الذي هو عمرو، وقال هذا حليفك: يعني عتبة يريد أن يرجع الناس، وفي لفظ «يخذل الناس عن القتال، وقد تحمل دية أخيك من ماله يزعم أنك قابلها، ألا تستحيي أن تقبل الدية من مال عتبة، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فاذكر مقتل أخيك، وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة» وسيأتي ذلك «فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب، ثم صرخ واعمراه واعمراه، فثارت النفوس» أي وعامر هذا لا يعرف له إسلام.
أي وفي الاستيعاب: عامر بن الحضرمي قتل يوم بدر كافرا، وأما أخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة «رضي الله ع»، أي وقد كان يقال إنه مجاب الدعوة وأنه خاض البحر هو وسريته التي كان أميرا عليها، وذلك في زمن خلافة عمر «رضي الله ع»، يقال يبس حتى رىء الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها، وهي «يا عليّ يا حكيم، يا عليّ يا عظيم، أنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا».
وقد وقع نظير ذلك: أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي، فإنه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدوّ، فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر وإنا عبادك في سبيلك، فأجزنا هذا النهر اليوم. ثم قال: اعبروا بسم الله فعبروا، فلم يبلغ الماء بطون الخيل.
وكذا وقع نظير ذلك لأبي عبيد الثقفي التابعي أمير الجيوش في أيام سيدنا عمر «رضي الله ع» فإن دجلة حالت بينه وبين العدو، فتلا قوله تعالى {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا} ثم سمى الله تعالى، واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه ولما نظر إليهم الأعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا: أي مجانين ثم ولوا مدبرين، فقتلهم المسلمون وغنموا أموالهم» وله أخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم أقف على إسلامه.
وأما أختهم التي هي الصعبة وهي أم طلحة بن عبيدالله فصحابية «رضي الله ع» كانت أولا تحت أبي سفيان بن حرب فطلقها، فخلف عليها عبيدالله، فولدت له طلحة الذي قال في حقه «من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيدالله».
ثم إن الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخو أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد، وكان رجلا شرسا، سيىء الخلق، شديد العداوة لرسول الله «وجاء أنه أول من يعطى كتابه بشماله، كما أن أخاه أبا سلمة أول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنه، أو لأموتن دونه، فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطل قدمه بنصف ساقه» أي أسرع قطعها «فطارت وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحة يريد أن تبر يمينه» فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض، وأقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام. فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، فما شرب منه رجل يومئذٍ إلا قتل كافرا إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر».
وعلى أن هذا الحوض كان وراء ظهره يكون مجيء هؤلاء للحوض من خلفه فليتأمل.
«ثم إن عتبة بن ربيعة التمس بيضة» أي خوذة «ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسع رأسه لعظمها فاعتجر على رأسه ببرد له» أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا، وخرج بين أخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، فخرج إليه فتية من الأنصار، ثلاثة إخوة أشقاء: هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة» وفي رواية «أكفاء كرام، إنما نريد قومنا» أي وفي لفظ «ولكن أخرجوا إلينا من بني عمنا» أي وفي لفظ «أنه أمرهم بالرجوع فرجعوا إلى مصافهم، وقال لهم خيرا» لأنه كره أن تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في أول قتال «وعند ذلك نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال النبي ﷺ: قم يا عبيدة بن الحرث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» وفي لفظ «قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاءوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله، قم يا عبيدة بن الحرث، قم يا حمزة، قم يا علي، فلما قاموا ودنوا قالوا لهم، من أنتم، أي لأنهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح» قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ: قالوا نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسنّ القوم، كان أسنّ من النبي ﷺ بعشر سنين عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما علي فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة فذففاه» بالمهملة والمعجمة «واحتملا صاحبهما فجراه إلى أصحابه، أي وأضجعوه إلى جانب موقفه، فأفرشه رسول الله ﷺ قدمه الشريفة فوضع خده عليها، وقال له رسول الله ﷺ: أشهد أنك شهيد، أي بعد أن قال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فتوفي في الصفراء، ودفن بها عند مرجع المسلمين إلى المدينة».
وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعليّ للوليد، واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فأطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل، ثم مال حمزة وعليّ على شيبة فذففا عليه.
أي ويقال إن شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام، فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فلم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فأهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقة فذفف عليه حمزة.
وقيل بارز عليّ شيبة وبارز عبيدة الوليد. فقد روى الطبراني بإسناد حسن عن علي أنه قال «أعنت أنا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد، فلم يعب النبي ﷺ علينا ذلك».
وقال الحافظ ابن حجر: وهذا أصح الروايات ولكن المشهور أن عليا كرم الله وجهه إنما بارز الوليد، وهذا هو اللائق بالمقام، لأن عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة، بخلاف عليّ والوليد فكانا شابين. وقتل حمزة طعيمة بن عدي أخا المطعم بن عدي وتقدم أن المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة أشهر كافرا.
قيل وهذه المبارزة أول مبارزة وقعت في الإسلام.
وفي الصحيحين عن أبي ذر «أنه كان يقسم قسما إن هذه الآية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر».
وفي البخاري عن علي «رضي الله ع» أنه أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة.
وقيل أول من يقف بين يدي الله للخصومة علي ومعاوية «ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض. وقد كان عدل رسول الله ﷺ صفوف أصحابه بقدح في يده» أي بسهم لا نصل له ولا ريش «فمر بسواد» بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام ابن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء «أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف، فطعنه في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني» أي مكني من القود أي القصاص «من نفسك، فكشف رسول الله ﷺ عن بطنه وقال استقد» أي خذ القود أي القصاص «فاعتنقه فقبل بطنه الشريف، فقال: ما حملك على هذا يا سواد، فقال: يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير».
وفيه أن هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل. وسواد هذا جعله بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي.
أي وفي حديث حسن عن عبد الرحمن بن عوف قال «صفنا رسول الله ﷺ يوم بدر، فبدرت منا بادرة أمام الصف، فنظر إليهم النبي ﷺ فقال معي معي».
أقول: وقع له مع بعض الأنصار: أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية.
ففي أبي داود «أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح، فبينما هو يحدّث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله ﷺ في خاصرته بعود كان في يده» وفي لفظ «بعرجون» وفي آخر «بعصا، فقال أصبرني يا رسول الله» أي أقدني «ومكني من نفسك لأقتص منك، فقال اصبر» أي اقتص «قال: إن عليك قميصا وليس عليّ قميص فرفع رسول الله ﷺ قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه».
أي ومن خصائصه أنه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى. وفيها في محل آخر: ولا تأكل النار شيئا مس جسده، وكذلك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
«ثم لما عدّل الصفوف قال لهم: إن دنا القوم منكم فانضحوهم» أي ادفعوهم «عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم» أي لا ترموهم على بعد، فإن الرمي مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة، أي وقال لهم «لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه. منها: وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله «عَزَّ وجَلّ» به الهم وينجي به من الغم» وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة: أي وقوعها قبل مجيئهم إلى محل القتال وبعد مجيئهم إليه. ولا مانع منه.
«ثم رجع إلى العريش فدخله ومعه أبو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الأنصار، يخافون على رسول الله ﷺ كرة العدوّ أي والجنائب مهيأة لرسول الله ﷺ إن احتاج إليها ركبها. ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين وقال: لا أفر إلا إن فرّ هذا الحجر، وكان أول من خرج من المسلمين مهجع» بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة «مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي بسهم أرسله إليه» ونقل بعض المشايخ أنه أول من يدعى من شهداء هذه الأمة، وأنه قال يومئذٍ «مهجع سيد الشهداء» أي من هذه الأمة، فلا ينافي ما جاء «أن سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا، وقائدهم إلى الجنة وذابح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه» لكن جاء «سيد الشهداء هابيل» إلا أن تجعل الأولية إضافية، فيراد أول أولاد آدم لصلبه.
قيل وكون مهجع أول قتيل من المسلمين لا ينافي كون أول قتيل من المسلمين عمير بن الحمام، لأن ذاك أول قتيل من المهاجرين، وعمير أول قتيل من الأنصار، ولا ينافي ذلك أن أول قتيل من الأنصار حارثة بن قيس: أي قتل بسهم لم يدر راميه.
ففي البخاري عن حميد، قال: سمعت أنسا يقول «أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، قتل بإرسال سهم إليه»، أي فإنه أصابه سهم غرب: أي لا يعرف راميه، وهو يشرب من الحوض.
وفي كلام ابن إسحاق: أول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، ومن بعده حارثة بن سراقة. وقد جاءت أم حارثة وهي عمة أنس بن مالك إلى النبي، فقالت «يا رسول الله حدّثني عن حارثة، فإن يكن في الجنة لم أبك عليه ولكن أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا». وفي رواية «إن يكن في الجنة صبرت، وإن يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: يا أم حارثة إنها ليست بجنة ولكنها جنات، وحارثة في الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة» وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري أن الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالأسماء والصفات، وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من أسمائها: جنة عدن، والفردوس، والمأوى، ودار السلام، ودار الخلد، ودار المقامة ودار النعيم، ومقعد صدق، وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما.
أي وعن الواقدي أنه بلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله ﷺ فأسأله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه وفي رواية: «أصبر وأحتسب، وإن كان ابني في النار بكيته».
وفي رواية: «ترى ما أصنع، فلما قدم رسول الله ﷺ من بدر جاءت أمه فقالت: يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت أن أبكي عليه، ثم قلت لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته، فقال النبي ﷺ: هبلت» وفي رواية «ويحك أو هبلت، أجنة واحدة إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى ودعا رسول الله ﷺ بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت ثم أمرهما ينضحان في جيوبهما ففعلنا فرجعتا من عند النبي ﷺ وما بالمدينة امرأتان أقر عينا منهما ولا أسر».
وقد كان حارثة سأل رسول الله ﷺ أن يدعو له بالشهادة، فقد جاء أنه قال لحارثة يوما وقد استقبله «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله حقا، قال: انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة، قال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري، فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم عبد: أي أنت عبد بذر الله الإيمان في قلبه قال: فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله ﷺ بذلك، وقال أبو جهل وأصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا، لنا العزى ولا عزى لكم، ونادى منادي رسول الله ﷺ: الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار».
أقول: سيأتي وقوع مثل ما قال أبو جهل وأصحابه من أبي سفيان وأنه أجيب بمثل هذا الجواب في يوم أحد، والله أعلم.
«وصار رسول الله ﷺ يناشد ربه ما وعده من النصر» أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري. عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ قال وهو في قبة يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك» الحديث ويقول «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد» أي وفي مسلم «أنه قال: اللهم: إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض» قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم أحد.
قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى، والردّ على غلاة القدرية الذين يزعمون أن الشر غير مراد لله ولا مقدور له.
وذكر الإمام النووي أن كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور. وفي كتب التفسير والمغازي أنه يوم أحد، ولا معارضة بينهما، فقاله في اليومين هذا كلامه.
أي يجوز أن يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم أحد. وفي رواية: «اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لأنه علم أنه آخر النبيين، فإذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة». وفي لفظ آخر «اللهم لا تودّع مني ولا تخذلني، أنشدك ما وعدتني» لأنه كان وعده النصر وفي رواية «ما زال يدعو ربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك تناشدك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك» أي وفي رواية «والله لينصرنك الله، وليبيضن وجهك» أي وفي لفظ «قد ألححت على ربك» وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافي الإلحاح في الدعاء لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وإنما قال أبو بكر ما ذكر لأنه شق عليه تعب النبي ﷺ في إلحاحه بالدعاء، لأنه «رضي الله ع» رقيق القلب شديد الإشفاق على رسول الله.
وقيل لأن الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي ﷺ كان في مقام الخوف، لأن الله يفعل ما يشاء، وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي.
وحين رأى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أي متتابعين. وقيل ردفا لكم ومددا لكم. وقيل وراء كل ملك ملك آخر.
ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «أمدّ الله نبيه يوم بدر بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة، فأمده الله تعالى بالملائكة ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل؟ » وجاء «أمدّه الله بثلاثة آلاف: ألف مع جبريل، وألف مع ميكائيل وألف مع إسرافيل» وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن علي بإسناد فيه ضعف.
وقيل وعدهم الله تعالى أن يمدهم بألف ثم زيدوا في الوعد بألفين، ثم زيدوا في الوعد بألفين أيضا.
وقيل أمدهم الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ثم أكملهم بخمسة آلاف، قال الله تعالى {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين} أي ألف من جبريل، وألف مع ميكائيل، وألف مع إسرافيل {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين} فإن ذلك كان يوم يدر على ما عليه الأكثر، وقيل يوم أحد كان الإمداد فيه بذلك: أي بثلاثة آلاف، ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة آلاف معلقا على شرط، وهو التقوى، والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الإمداد بما زاد على الثلاثة آلاف.
وهذا الثاني هو الذي في النهر لأبي حيان، كان المدد يوم بدر بألف من الملائكة، ويوم أحد بثلاثة آلاف، ثم بخمسة لو صبروا عن أخذ الغنائم فلم يصبروا، فلم تنزل، هذا كلامه، وهو واضح لأن عدم صبرهم عن أخذ الغنائم وعدم امتثال أمره إنما كان في أحد لا في بدر.
وروى البيهقي عن حكيم بن حزام «رضي الله ع» أن يوم بدر وقع نمل من السماء قد سدّ الأفق، فإذا الوادي يسيل نملا، أي نازلا من السماء فوقع في نفسي أن هذا شيء أيد به وهي الملائكة.
أي وروي بسند حسن عن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود مبثوث حتى امتلأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم. والبجاد: كساء مخطط من أكسية الأعراب، وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين.
قال: وإنما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي ولأصحابه، وإلا فجبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط، وأهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة، وليهابهم العدّ وبعد ذلك، حيث يعلمون أن الملائكة تقاتل معهم.
وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر، وإنما كانوا يكثرون السواد، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم.
وجاء «لولا أن الله حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات أهل الأرض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع أصواتهم».
وجاء في حديث مرسل «ما رؤى الشيطان أحقر ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة إلا ما رىء يوم بدر» أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر.
وجاء «إن إبليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين» أي مشركي الجنّ في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته، وقال للمشركين {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} ا هـ أي كما قال لهم ذلك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة، وقد تقدم أنه كان وحده. ولا منافاة لجواز أن يكون جنده لحقوا به بعد «قال: فلما رأى جبريل والملائكة» وفي رواية: وأقبل جبريل إلى إبليس فلما رآه وكانت يد في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام أخو أبي جهل انتزع يده من يده الرجل، ثم نكص على عقبه وتبعه جنده، فقال له الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال {إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب} وتشبث به الحارث بن هشام «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك وقال له: والله لا أرى إلا خفافيش يثرب، فضربه إبليس في صدره فسقط، وعند ذلك قال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فإنهم قد عجلوا، واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال، وصار يقول: لا تقتلوهم خذوهم باليد.
وذكر السهيلي أنه يروى أن من بقي من قريش وهرب إلى مكة وجد سراقة بمكة، فقالوا له: يا سراقة خرقت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما علمت بشيء من أمركم، وما شهدت، وما علمت، فما صدّقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله، فعلموا أنه إبليس هذا كلامه.
قال قتادة: صدق إبليس في قوله {إني أرى ما لا ترون} وكذب في قوله {إني أخاف الله} والله ما به مخافة من الله.
قال في ينبوع الحياة: ولا يعجبني هذا، فإن إبليس عارف بالله، ومن عرف الله خافه، أي وإن لم يكن إبليس خافه حتى الخوف.
قيل وإنما خاف أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين}.
ورأيت عن سيدي علي الخواص أنه لا يلزم من قول إبليس ذلك أن يكون معتقدا له بالباطن كما هو شأن المنافقين.
ورأيت عن وهب أن اليوم المعلوم الذي أنظر فيه إبليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم. والمشهور أنه منظر إلى يوم القيامة، ويدل لذلك ما روي أن إبليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك إياي، وخاف إن يخلص إليه القتل.
هذا، وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم أن سيدنا عيسى "عليه السلام" يقتل إبليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته، ويرى المسلمين دمه في حربته.
وفي كلام بعضهم: ولعل المراد بيوم القيامة الذي أنظر أليه إبليس ليس نفخة البعث بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من أهل السموات وأهل الأرض، قيل إلا حملة العرش وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم إسرافيل ثم ملك الموت فهو آخر من يموت.
وفي كلام بعضهم: الصعق أعم من الموت، أي فالمراد ما يشمل الغشي وذهاب الشعور، أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت، وإنما يحصل له غشي وذهاب شعور، ويكون المستثنى من القسم الأول من تقدم ذكره من الملائكة، ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه، فإنه جوزي بذلك: أي بعدم الغشي وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور.
وفيه أنه لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال «فأكون أوّل من رفع رأسه» أي أفاق من الغشي «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوام العرش فلا أدري أرفع رأسه» أي أفاق «من الغشي قبلي، أو كان ممن استثنى الله فلم يصعق». وفي رواية «فإذا موسى متعلق بقائمة العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أم كان ممن استثنى الله؟ » ولعل بعض الرواة ضم هذا الخبر لخبر الشيخين «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ، فإذا موسى الخ» وفيه نظر لأن المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت.
ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا إشكال جزمه بأنه أوّل من تنشق عنه الأرض.
وأجاب شيخ الإسلام بما يفيد أنهما خبران لا خبر واحد حيث قال: لتردد كان قبل أن يعلم أنه أوّل من تنشق عنه الأرض، أي فهما حديثان لا حديث واحد.
فإن قيل قوله «لا تخيروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق، فإذا موسى» الحديث يقتضي أنه ليس أفضل من موسى.
قلنا هو كقوله «من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب» وذلك منه تواضع؛ أو كان قبل أن يعلم أنه أفضل الخلق أجمعين. وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة، وإذا خرجت قتلته بوطئها.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» أن إبليس إذا مرّت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة، وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها أهل السموات والأرض فتكون اورض كالسفينة في البحر تضربها الأمواج، وتسير الجبال كسير السحاب، وتنشق السماء، وتكسف الشمس، ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} وبقوله تعالى {إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها} الآية، وقال تعالى {ففزع من في السمات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قيل وهم الشهداء.
فقد جاء «إن الأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا: يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله {إلا من شاء الله} فقال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء {وهم أحياء عند ربهم يرزقون} وقاهم الله فزع ذلك اليوم وأمنهم منه».
واقتصاره على ذكر الشهداء وسكوته عن الأنبياء لما هو معلوم من الأصل أن مقام الأنبياء أرقى من مقام الشهداء، وإن كان قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. ومن ثم قيل: الرزق خاص بالشهداء، ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم.
ويقال إنه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجنّ سبعون، أي لكن لم يثبت أنهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد.
«ثم إن رسول الله ﷺ خفق خفقة أي مالت رأسه من النعاس ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه» وفي لفظ «آخذ برأس فرسه يقوده على ثناياه النقع» أي الغبار «وهو يقول: أتاك نصر الله إذ دعوته».
أي وفي رواية «أن جبريل "عليه الصلاة والسلام أتى النبي ﷺ بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته، عليه درعه وقال: يا محمد إن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى أرضيت».
أي ولا مانع من تعدد رؤيته لجبريل "عليه الصلاة والسلام، وأن هذه بعد تلك، وأن المرة الأولى مساقها يقتضي أنها كانت مناما، وأن الغبار في المرة الثانية كان أكثر منه في المرة الأولى بحيث علا على ثناياه.
«ثم خرج رسول الله ﷺ من العريش إلى الناس فحرضهم وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام» بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم «وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ» كلمة تقال لتعظيم الأمر والتعجب منه «ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل» أي وفي رواية «أنه قال: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فقال عمير ابن الحمام بخ بخ، فقال رسول الله ﷺ: لم تبخبخ» أي مم تتعجب «فقال: رجاء أن أكون من أهلها» أي وفي رواية «ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فأخذ تمرات فجعل يلوكهن ثم قال. والله إن بقيت حتى ألوكهن» وفي لفظ إن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول:
ركضنا إلى الله بغير زاد ** إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على لجهاد ** وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبرد والرشاد ولا زال يقاتل حتى قتل «رضي الله ع» وسيأتي في غزاة أحد مثل هذا لبعض الصحابة أبهمه جابر «رضي الله ع» في ألقاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل.
فعن جابر «رضي الله ع» قال: «قال رجل للنبي يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: في الجنة، قال: فألقى تمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل» أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وسيأتي ما في ذلك.
وقال عوف بن الحارث بن عفراء «يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده» أي ما يرضيه غاية الرضا «قال: غمسه يده في العدو حاسرا» أي لا درع له ولا مغفر «فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل «رضي الله ع»» فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه.
وقد جاء أنه قال في طلحة بن الغمر «اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه» أي ألقه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في أنفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة وإظهار البشر، فهي من جوامع كلمه التي أوتيها.
وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة أخت سودة بنت زمعة أم المؤمنين «رضي الله ع» بسيفين «ثم أخذ رسول الله ﷺ حفنة من الحصباء» بالمد «أمره بذلك جبريل "عليه الصلاة والسلام» كما جاء في بعض الروايات: أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها «فتناولها ».
وفي رواية «أنه قال لعلي كرم الله وجهه ناولني فاستقبل بها قريشا، ثم قال: شاهت الوجوه» أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم «اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم، ثم نفخهم» أي ضربهم بها «فلم يبق من المشركين رجل إلا ملأت عينه» وفي رواية «وأنفه وفمه لا يدري أين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه» أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون.
هذا، والمحفوظ المشهور أن ذلك إنما كان في حنين، لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} نزل يوم بدر، هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة، قال هذا البعض، وقد فعل "عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه.
وفي رواية «أنه أخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم؛ وحصاة بين أيديهم، فقال: شاهت الوجوه؛ فانهزم القوم» وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبدالله «رضي الله ع» وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فأخذهن رسول الله ﷺ فرمى بهن في وجوه المشركين، أي يمنة ويسرة وبين أيديهم وحين رمى بذلك قال لأصحابه: شدوا فكانت الهزيمة، وأنزل الله تعالى {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
وقد يقال: لا مانع من اجتماع الأمرين، وكل منهما مراد من الآية. قال، وقاتل رسول الله ﷺ يومئذٍ بنفسه قتالا شديدا. وكذلك أبو بكر «رضي الله ع» كما كان في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين انتهى.
أقول: كذا نقل بعضهم عن الأموي، ويتأمل ذلك، فإني لم أقف عليه في كلام أحد غيره، وكأنّ قائل ذلك فهم مباشرته للقتال مما تقدم عن علي «رضي الله ع» «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله، وكان أشد الناس بأسا» ولا دلالة في ذلك، والله أعلم.
نعم ذكر ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون رؤى رسول الله ﷺ في أثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الآية {سيهزم الجمع ويولون الدبر} وهذه الآية ذكر في الإتقان أنها مما تأخر حكمه عن نزوله، فإنها نزلت بمكة، وكان ذلك يوم بدر.
فعن عمر «رضي الله ع»: قلت أيّ جمع، فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله ﷺ في آثارهم مصلتا السيف يقول {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فكانت ليوم بدر، أخرجه الطبراني في الأوسط، ولو قاتل لجرح أو قتل من قاتله، ولو وقع ذلك لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله.
وسيأتي في أحد عن النور «أنه لم يقتل بيده الشريفة قط أحد إلا أبي بن خلف لا قبله ولا بعده» وإلى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله:
ورمى بالحصا فأقصد جيشا ** ما العصا عنده وما الإلقاء
أي ورمى بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها، أي شيء إلقاء عصا موسى "عليه الصلاة والسلام على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرميّ به لا يقاربه ذلك الإلقاء ولا يدانيه، لأن ذاك وجد له نظير وهو إلقاء السحرة الحبال والعصي، والرمي بالحصا لم يوجد له نظير.
أي وقال حينئذ «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» كما في الإمتاع «فلما وضع القوم أيديهم يأسرون نظر رسول الله ﷺ إلى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم، فقال له رسول الله ﷺ: لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال: أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل» أي الإكثار منه والمبالغة فيه أحب إليّ من استبقاء الرجال.
وذكر بعضهم أن النبي ﷺ قال لأصحابه «إنكم قد عرفتم أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا إكراها لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله» أي بل يأسره وذكر أبا البختري بن هشام، أي فقال «من لقي أبا البختري فلا يقتله» أي لأنه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن عبد المطلب، فقال أبو حذيفة «رضي الله ع»: أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس؟ أي لأنه تقدم أن أباه عتبة وعمه شيبة وأخاه الوليد أول من قتل من الكفار مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قد قتل منها جماعة، لئن لقيته يعني العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة، فبلغت أي تلك المقالة رسول الله، فقال رسول الله ﷺ لعمر: يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟ فقال عمر: والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله ﷺ بأبي حفص: يا رسول الله دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فوالله لقد نافق، فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذٍ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة وهم أربعمائة وخمسون، وقيل ستمائة «رضي الله ع».
ولقي المجذر «رضي الله ع» أبا البختري فقال له «إن رسول الله ﷺ قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي قال له جنادة بن مليحة، فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله ﷺ إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي، أي يقتل حرصا على الحياة، فقتله المجذر أي بعد أن قاتله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته».
أقول: لعل المجذر فهم أن ما عدا من نهى عن قتله يقتل وإن استأسر حتى قال ما نحن بتاركي زميلك، أي ولا بد من قتله وإن استأسر، فكان ذلك حاملا لأبي البحتري على أن لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبة والله أعلم.
أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبد الرحمن بن أبي بكر «رضي الله ع» وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وقيل عبد العزى، فسماه رسول الله ﷺ عبد الرحمن وكان من أشجع قريش وأشدهم رماية، وكان أسن ولد أبيه وكان صالحا وفيه دعابة، فلما أسلم قال لأبيه لقد أهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي أعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لي لم أصدف أي أعرض عنك، فالمراد بكونه أهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك، فلا ينافي ما قيل إن عبد الرحمن ابن أبي بكر يوم بدر دعا إلى البراز، فقام إليه أبوه أبو بكر ليبارزه، فقال له رسول الله «متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما علمت أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري».
أي وفي بعض السير أن الصديق قال لولده عبد الرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم: أين مالي يا خبيث؟ فقال له عبد الرحمن كلاما معناه: لم يبق إلا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجري وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال، أي وهذا يدل على أن الصديق «رضي الله ع» ترك مالا عند أهله لما هاجر، وهو قد يخالف ما تقدم عن ابنته أسماء من قولها: إن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم إلى الغار، فدخل علينا جدي أبو قحافة الحديث، ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو أمتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة.
ويروى عن ابن مسعود أن الصديق «رضي الله ع» دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، فقال له النبي «متعنا بنفسك، أما علمت أنك مني بمنزلة سمعي وبصري» فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} ولا مانع من التعدد حتى في نزول الآية، لكن يبعد نزولها في أحد أيضا كون أبي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها أولا في بدر.
ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع: إنه لم يثبت أن أبا بكر دعا ابنه للمبارزة، وإنما هو شيء ذكر في كتب التفسير، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} فالآية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر أن سببها أن أبا بكر سمع والده أبا قحافة يذكر النبي ﷺ بشر فلطمه لطمة سقط منها، فأخبر أبو بكر النبي، فقال له لا تعد لمثلها، فقال: والله لو حضرني السيف لقتلته به.
وفي كلام الزمخشري أن عبد الرحمن أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة أميال، وحمل على أعناق الرجال إلى مكة، وقدمت أخته عائشة «رضي الله ع» من المدينة فأتت قبره فصلت عليه.
أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، فإن أباه قصده ليقتله فولى عنه أبو عبيدة لينكفّ عنه فلم ينكف عنه، فرجع عليه وقتله وأنزل الله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} الآية.
وعن عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» قال: لقد لقيت أمية بن خلف وكان صديقا لي في الجاهلية ومعه: أي مع أمية ابنه عليّ أي آخذ بيده وكان عليّ ممن أسلم والنبي ﷺ بمكة قبل أن يهاجر، ففتنهم أقاربهم عن الإسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم، وأنزل الله تعالى فيهم {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم} الآية، أي وهم الحرث بن ربيعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، والعاص بن منبه، وعلي بن أمية المذكور.
وفي السيرة الهشامية: وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله ﷺ بمكة فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة حبستهم آباؤهم وعشريتهم بمكة، وفتنوهم فافتتنوا: أي رجعوا عن الإسلام، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا جميعا، وسياقه كما ترى يقتضى أنهم لم يرجعوا إلى الكفر إلا بعد الهجرة، وسياق ما قبله ربما يقتضى أنهم رجعوا إلى الكفر قبل أن يهاجر.
قال عبد الرحمن بن عوف: وكان معي أدراع استلبتها أي فأنا أحملها، فلما رآني أمية ناداني باسمي الأوّل يا عبد عمرو فلم أجبه، لأنه كان قال لي لما سماني رسول الله ﷺ عبد الرحمن، أترغب عن اسم سماك به أبوك؟ فقلت: نعم. قال: الرحمن لا أعرفه، ولكني أسميك بعبد الإله كما تقدم فلما ناداني بعبد الإله، قلت نعم.
أي وظاهر السياق يقتضي أنه عرف أنه المراد بذلك، وأنه ترك إجابته قصدا، حيث جعله عبدا للصنم. ويحتمل وهو الأقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته أنه المراد بذلك الاسم، لكونه هجر بالمرة، فلما ناداه أمية بما ذكر عرفه وعرف أنه المراد بذلك لما ذكر «وعند ذلك قال له أمية: هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قلت نعم، فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه عليّ وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، ثم قال لي: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ أي كانت في درعه بحيال صدره. قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب. قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت أمشي بهما، فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام أي كما تقدم، فقال بلال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. فقلت: أي بلال، أفبأسيري؟ أي تفعل ذلك بهما، قال: لا نجوت إن نجا وكررت وكرر ذلك، ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا وكرر ذلك، فأحاطوا بنا فأصلت رجل السيف» أي سله من غمده «وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فضربوهما بأسيافهم فهبروهما».
أقول: الذي في البخاري عن عبد الرحمن بن عوف «أن بلالا لما استصرخ الأنصار، قال: خشيت أن يلحقونا فخلفت لهم ابنه لأشغلهم به فقتلوه ثم أتونا حتى لحقوا بنا، وكان أمية رجلا ثقيلا» أي كما تقدم «فقلت ابرك، فألقيت نفسي عليه لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، فأصاب أحدهم رجلي بسيفه» أي ظهر قدمه.
وفي كلام ابن عبد البر. قال ابن هشام: قتل أمية بن خلف معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وحبيب بن أساف اشتركوا فيه.
قال ابن إسحاق: وابنه علي قتله عمار بن ياسر وحبيب بن أساف، هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وتزوَّج بنت خارجة بعد أن توفي عنها أبو بكر الصديق «رضي الله ع»؛ وهو جد حبيب شيخ مالك «رضي الله ع» والله أعلم.
وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري أي وفي رواية: لما كان يوم بدر حصل لي درعان ولقيني أمية، فقال: خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين، فألقيت الدرعين فأخذتهما، فلما قتلا صار يقول: يرحم الله بلالا فلا درعيّ ولا أسيريّ، أي لأنه جعل في هذه الغزاة أن كل من أسر أسيرا فهو له كما تقدم وسيأتي: أي فله فداؤه، وهو يخالف ما عليه أئمتنا أن مال فداء الأسرى ورقابهم إذا استرقوا كسائر أموال الغنيمة، إلا أن يقال ذاك كان في صدر الإسلام ترغيبا في الجهاد، ثم استقر الأمر على ما قاله فقهاؤنا، أي وقال رسول الله «من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي كرّم الله وجهه: أنا قتلته، فكبر رسول الله ﷺ وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه» أي فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء، فقال «اللهم اكفني نوفل بن خويلد» وفي كلام بعضهم ما يفيد أن قتل علي كرّم الله وجهه له كان بعد أن أسره جبار بن صخر، فقد جاء «أن جبارا بينما هو يسوقه إذ رأى عليا، فقال: يا أخا الأنصار من هذا واللات والعزى؟ إنه ليريدني، فقال: هذا علي بن أبي طالب، فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله، ثم أمر رسول الله ﷺ بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال: إن خفى عليكم» أي بأن قطع رأسه وأزيل عن جثته «انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مائدة لعبدالله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أسن منه: أي أكبر منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش» أي خدش «على أحديهما جحشا لم يزل أثره به».
أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم إنه صارع أبا جهل، فإنه لم يصح أنه صارعه، ولعل هذا الأثر هو الذي عناه ابن مسعود «رضي الله ع» بقوله: لما قتلت أبا جهل لعنه الله، وقلت لرسول الله. قتلت أبا جهل، فقال لي عقيل وهو أسير عند النبي ﷺ: كذبت ما قتلته؛ فقلت له: بل أنت الكذاب الآثم يا عدوّ الله، قد والله قتلته، قال: فما علامته؟ قلت: إن بفخذة حلقة كحلقة الجمل المحلق، قال صدقت، وكان أبو جهل، قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه، لأنه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال: اللهم أقطعنا للرحم وأتانا بما لا نعرف فأخنه: أي أهلكه الغداة، أي زاد بعضهم: اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك، وفي لفظ: اللهم أولانا بالحق فانصره اليوم، فأنزل الله تعالى {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}.
أقول: كون أبي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله وأتانا بما لا نعرف، إذ هو نص فيه.
وفي تفسير سهل أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم انصر أفضل الدينين عندك وارضاهما لك، أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين، اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث، فنزل {إن تستفتحوا} يعني تستنصروا {فقد جاءكم الفتح}.
وفي أسباب النزول للواحدي أن المشركين حين أرادوا الخروج من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدي الفئتين، وأكرم الحزبين، وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى الآية.
وقد روي عن النبي «أنه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين» والله أعلم.
قال معاذ بن عمرو بن الجموح: رأيت أبا جهل وقد أحاطوا به وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه: أي أسرعت قطعه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، والمرضخة: بالخاء المعجمة وبالمهملة. وقيل الرضخ بالمعجمة: كسر الرطب، وبالمهملة كسر اليابس، وضربني ابنه أي عكرمة «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جسمي، وأجهضني القتال: أي شغلني عنه، فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأستحسها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت عليها حتى طرحتها. وفي رواية «أنه جاء بها إلى رسول الله ﷺ فبصق عليها، أي ولصقها فلصقت» وإلى ذلك يشير الإمام السبكي في تائيته، لكن قال ابن عفراء: ولا منافاة لجواز أن يكون معاذ بن عمرو بن الجموح بن عفراء، وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله:
وبانت بها كف ابْن عفراء فاشتكى ** إليك فعادت بعد أحسن عودة
إلا أن قوله بها يرجع لغزاة أحد، وقد علمت أن ذلك إنما هو ببدر، واحتمال تكرر ذلك في أحد وفي بدر لشخص واحد بعيد، إلا أن يثبت النقل بذلك، ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء، فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة: أي مات لا ينافيه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد صار في حالة من مات بأن صار إلى حركة المذبوح، ومن ثم جاء في بعض الروايات حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط إلى الأرض: أي إلى جنبه، وإلا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضي غالبا أن يسقط إلى جنبه، ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل. قال عبدالله بن مسعود «رضي الله ع»: ورأيت أبا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال: وبم أخزاني؟ أعار عليَّ رجل قتلتموه: أي ليس بعار على رجل قتلتموه. وفي رواية: أعمد من رجل قتلتموه، أي أنا سيد رجل قتلتموه، لأن عميد القوم سيدهم: أي فلا عار عليّ في قتلكم إياي.
وجاء أنه قال: لو غير أكار قتلني، والأكار: الزراع يعني الأنصار لأنهم كانوا أصحاب زرع: أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان أحب إليّ وأعظم لشأني، ولم يكن عليّ في ذلك نقص، لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا، أخبرني لمن الديرة؟ أي النصرة والظفر اليوم. زاد في رواية، لنا أو علينا؟ قلت لله ولرسول الله. وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة، والدبرة: الهزيمة في القتال.
ومما يدل للأول ما تقدم من قول أبي جهل: أخبرني على من كانت الدبرة لنا أو علينا؟ وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك «رضي الله ع» مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي «أن رسول الله ﷺ وقف على القتلى والتمس أبا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال: اللهم لا تعجزني فرعون هذه الأمة، فسعى له الرجال حتى وجده ابن مسعود الحديث. وفي الصحيحين عن أنس «رضي الله ع» لما قال رسول الله «من ينظر لنا ما صنع أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود «رضي الله ع» فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد» ولمسلم «برك» أي وهو المراد من الأول كما تقدم، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل» الحديث، وأخذه بلحيته لا ينافي وضع رجله على رقبته، لجواز أن يكون جمع بينهما. قال ابن مسعود: ثم احتززت رأسه.
وفي رواية رويت عن ابن مسعود «رضي الله ع» قال «لما ضربته بسيفي لم يغن شيئا فبصق في وجهي وقال خذ سيفي فاحتزّ به رأسي من عرشي، ليكون أنهى للرقبة، والعرش: عرق في أصل الرقبة، ففعلت كذلك، ثم جئت به إلى رسول الله، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدوّ الله أبي جهل، فقال رسول الله ﷺ: الله الذي لا إله غيره، أي ورددها ثلاثا» وروى الطبراني «آلله قتلت أبا جهل» بنصب الجلالة، وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين، ومثل النصب الرفع والجر «قال: قلت نعم والله الذي لا إله غيره، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله ﷺ فحمد الله تعالى» أي ويقال إنه سجد خمس سجدات شكرا، ويقال إنه قال «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الإحزاب وحده» وكون أبي جهل بصق في وجه ابن مسعود «رضي الله ع» وقال له خذ سيفي الخ، ينافي كونه وصل إلى حركة المذبوح، إلا أن يقال يجوز أن يكون في أول الأمر كان كذلك ثم تراجعت إليه روحه حتى قدر على ما ذكر فليتأمل، مع ما يأتي.
قيل وبهذا أي بحمل رأس أبي جهل إلى رسول الله ﷺ يردّ على الزهري قوله: لم يحمل إلى النبي ﷺ رأس قط ولا يوم بدر وحمل رأس لأبي بكر «رضي الله ع» فأنكره. ويجاب بأن البيهقي رحمه الله قال: ما روي من حمل رأس أبي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل إلى محل لا من بلد إلى بلد، أي من بلد الكفر إلى دار الإسلام: أي الذي أنكره أبو بكر «رضي الله ع»، فإنه أنكر نقل الرأس من بلد الكفر إلى بلد الإسلام.
وقد جوّزه من أئمتنا الماوردي والغزالي إذا كان في ذلك مكايدة للكفار. وفي النور: تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم إليه: أبو جهل، وسفيان بن خالد، وكعب بن الأشرف، ومرحب اليهودي، والأسود العنسي على ما روي، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة: أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي.
وفي وضع ابن مسعود «رضي الله ع» رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له: إن صدقت رؤياي لأطأنّ رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاه.
وفي رواية أن ابن مسعود «رضي الله ع» وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة: أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق، ومن ثم يقال بيضة لها سابغ، فضربه فوقع رأسه بين يديه.
وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف رديء فجعلت ألقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة؟ ألست برويعينا بمكة؟ فقتله ثم سلبه، فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح، وإنما هي أحدار: أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط: أي آثار سود كسمة النار: أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه، فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله.
ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه، فأتى النبي ﷺ فأخبره، فقال: ذاك ضرب الملائكة، أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى {فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} أي مفصل، فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار. ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات، لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود، وتلك الآثار في الأعناق، والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة، وينبغي أن يكون هذا: أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم، فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف.
فعن بعض الصحابة «رضي الله ع»: كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع، وفسر بعضهم الأعناق بالرؤوس، وهو غير مناسب لما ذكر هنا.
وروي عن سهل بن حنيف عن أبيه «رضي الله ع» قال «لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك» أي يرفعه عليه «فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف» ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا، وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم.
وفي رواية عن ابن مسعود «رضي الله ع» قال «انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، قال: هل هو إلا رجل قتله قومه، قال: فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده، فبدر» أي سقط سيفه «فأخذته فضربته حتى قتلته، ثم خرجت حتى أتيت النبي ﷺ كأنما أقلّ من الأرض» أي أحمل من شدة الفرح «فأخبرته، فقال: الله الذي لا إله إلا هو» وفي لفظ تقدم «لا إله غيره ردده ثلاثا» وفي رواية عن ابن مسعود «فاستحلفني ثلاث مرات، ثم قال: الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا: أي خمس سجدات شكرا» كما تقدم.
وفي رواية: صلى ركعتين. قال ابن مسعود «رضي الله ع»: ثم إنه خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة» زاد في لفظ «ورأس قاعدة الكفر، ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة» ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة.
أقول: يجوز أن يكون المضيّ إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه استعظاما لقتله، أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله ﷺ: فلا مخالفة؛ وقد قال له النبي ﷺ يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى» أي وعيد على وعيد «فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا، وإني لأعز من مشى بين جبليها، فأنزل الله تعالى {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى} وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بن ربيعة لما سأل رسول الله ﷺ عن أمر القيامة فأخبره به، فقال: لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك، أو يجمع الله هذه العظام؟ فأنزل الله تعالى {أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه} الآيات، والله أعلم.
وعن قتادة «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال «إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل، قتله الله شر قِتله» بكسر القاف الهيئة. قتلته الملائكة، وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة، وقد ذمنه: أي أجهز عليه ابن مسعود وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح. ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث، وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم.
وفي مسلم عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، نظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام؟ قلت نعم، وما حاجتك به؟ قال: بلغني أنه كان يسب رسول الله، والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده: أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا: أي الأقرب أجلا، فغمزني الآخر فقال مثلها، فعجبت لذلك، أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب: أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس: أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر، فقلت لهما ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسالأن عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح، ثم انصرفا إلى رسول الله ﷺ فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، قال: هل مسحتما سيفيكما؟ قال لا، فنظر رسول الله ﷺ في السيفين، فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه: أي ما عدا سيفه لهما، فلا ينافي ما سبق من أعطائه لابن مسعود «رضي الله ع»، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بن الحارث، فهما: أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحرث ابنا عفراء، غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح، والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء.
وقول الحافظ ابن حجر: إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضي ذلك، لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء.
ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي، أن عمرو بن الجموح وابني عفراء: أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل، لأن معاذا الثاني ابن الحرث، فكل من عمرو بن الجموح والحرث تزوج عفراء، وكل سمى ولده منها بمعاذ. ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه قال «رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة، ولما قيل له: يا رسول الله من قتله معهما، قال الملائكة، ولم يقل عمرو بن الجموح» لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة، وهم معوذ ومعاذ، وعامر، وأربعة من بكر بن عبد ياليل، وهم خالد وأساس وعاقل وعامر، واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه، وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح، فقد تقدم أن عوف بن الحارث بن عفراء قال «يا رسول الله ما يضحك الرب الخ» ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح، وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ، وعن الإمام النووي، فعليك بالتأمل. وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
أقول: أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه، ولا ينافي ذلك قوله لهما «كلاكما قتله» لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد، لأن له مشاركة ما في قتله، لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق.
ويرده كونه أشركهما في سلبه، ومن ثم قال فقهاؤنا: يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل: أي بعد ذلك، فقد أعطى رسول الله ﷺ سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود، لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا، وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه، وذلك لأن النبي ﷺ نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح، قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده، وقوله: كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل، فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل بن الأشرف، ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه.
وفي الإمتاع أنه قال «يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر، فقيل: يا رسول الله من قتله معهما؟ قال: الملائكة، وذففه ابن مسعود» وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله «إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة» أن غيرهما شاركهما في ذلك، فليتأمل.
وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبدالله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه علم ذلك وأقره؛ وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة.
أي وأما ما تقدم من أمره لحمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة، وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم: معاذ ومعوذّ وعوف بنو عفراء، وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة، فلم يرضوا بمبارزتهم، فعند ذلك أمر من ذكر بمبارزتهم، وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبدالله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل، ذكر أبي جهل اشتباه، وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة، وكيف يبارز ثلاثة واحدا؟ فليتأمل.
وجاء في الحديث «إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل، فالحمد لله الذي صدق وعده، ونصر دينه» والله أعلم.
وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء، أي وقيل حمراء.
قال بعضهم: وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر، وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض، وبعضهم بعمائم سود، فلا منافاة.
وذكر أن عمامة جبريل "عليه السلام" يوم أغرق فرعون كانت سوداء، قال وفي رواية «سيماهم عمائم سود» وعند ابن مسعود «رضي الله ع» «كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر» ا هـ أي وبيض وسود.
وفي كلام بعضهم: نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر، ورواية بيض وسود ضعيفة.
وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس «رضي الله ع» قال «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل، فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور» أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك».
في الجامع الصغير «كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر» وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم. وما جاء «كان على الزبير «رضي الله ع» ببدر عمامة صفراء معتجرا بها، فقال: نزلت الملائكة عليّ بسيما أبي عبدالله» يعني الزبير «رضي الله ع»، لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر.
وقد ذكر أن الزبير «رضي الله ع» قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه.
وقد سئل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} ما السمة التي كانت عليهم؟ فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها.
وعن مكحول وغيره أنها العمائم. وعن ابن عباس «رضي الله ع» أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم، وفي سنده رجل ضعيف. وعنه أيضا عمائم سود، وفي سنده متروك، ثم قال: ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه، أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا. وكان شعار الأنصار: أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط «أحد أحد» أي وشعار المهاجرين يومئذٍ «يا بني عبد الرحمن».
أي وعن زيد بن علي قال: كان شعار النبي ﷺ أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره «يا منصور أمت» ويقال «أحد أحد» وشعار الخزرج «يا بني عبدالله» وشعار الأوس «يا بني عبيدالله».
وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذٍ «يا منصور أمت».
أي وقد يقال: لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات، لأن المراد بالجميع المجموع، لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا.
وعن علي «رضي الله ع» قال: كان سيما الملائكة: أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض، أي وفي لفظ: بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها.
أي ولا منافاة، لجواز أن يكون بعضهم كذا، وبعضهم كذا، وعند ذلك قال «سوّموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت» فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها، ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» قال «حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة» أي الغلبة «فننهب مع من ينهب، فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: اقدم حيزوم، فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه» أي غشاؤه «فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت» وأقدم بضم الدال من التقدم: كلمة يزجر بها الخيل، وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل، ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب، وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري، نسبة إلى سامر، قرية أو طائفة: ما ألقاه في العجل الذي صاغه من حلى القبط فكان له خوار: أي صوت، فكان إذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا، قال في النهر: الظاهر أنه قامت به الحياة.
وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الحوار. وفي كلام بعضهم: فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس، وإذا نزل عليها جبريل "عليه السلام" علمت الملائكة أن نزوله للرحمة، وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب، أي وحينئذ فنزول جبريل "عليه السلام" عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين، وإن كان عذابا على الكافرين، ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب.
ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة، وإليه ذهب السهيلي رحمه الله، فقال: والحياة أيضا فرس لجبريل "عليه السلام".
قال الحافظ ابن حجر: ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فرس بلقاء أثني، أي خطوتها ـ كما في العرائس ـ مدّ البصر، وهي التي كان جبريل "عليه السلام" والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي.
هذا، وفي أثر مرسل أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم؟ فقال جبريل "عليه السلام": يا محمد ما كل أهل السماء أعرف.
قال ابن كثير: وهذا الأثر يردّ قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل "عليه السلام"، أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم، ولا يعرف ذلك القائل، وكأنّ الحافظ ابن كثير رحمه الله فهم من قوله من القائل الخ، أن ذلك الفرس لذلك القائل، نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ، أو أن ذلك الأثر سقط من لفظة لفرسه، والأصل من القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه، اتجه ما فهمه ابن كثير رحمه الله فليتأمل، قال: وفي رواية «جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: اقدم حيزوم، فنزلوا على ميمنة رسول الله، ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته، فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي ﷺ وأسلمت» ومن ثم ذكر في الصحابة.
وفي النور: هذا الرجل مذكور في الصحابة، وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس «رضي الله ع» بهذه المعجزة للنبي يشعر بإسلامه هذا كلامه.
وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس «رضي الله ع».
وقد جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
أي وعن علي «رضي الله ع» «هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، ثم جاءت أخرى كذلك، فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة» أي لعلها أمامه أخذا من قوله «وكانت الثانية ميكائيل، نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله » وفي ذلك سكوت عن الرابعة، أي زاد في الإمتاع «وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة».
وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل، وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة، ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي «رضي الله ع»، فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك، ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا، وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر، لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد، وسيأتي ذلك مع زيادة. قال بعضهم: ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر، أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة، وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين.
ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص «أنه رأى عن يمين رسول الله ﷺ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام، يقاتلان كأشد القتال».
قال الإمام النووي رحمه الله: فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافا لمن زعم اختصاصه، فإن هذا صريح في الرد عليه.
أقول: يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه، وفي غيره كان عنه خاصته، فلا منافاة؛ ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي، وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبد الرحمن بن عوف. وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر.
وقد يقال: مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا، وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل، والله أعلم.
وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها ـ ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله ﷺ جذلا من حطب: أي أصلا من أصول الحطب وقال له قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله ﷺ هزه فعاد في يده سيفا، طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديد، فقاتل به «رضي الله ع» حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون.
ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله. ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة. وعكاشة، مأخوذ من عكش على القوم: إذا حمل عليهم، والعكاشة: العنكبوت، وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبدالله بن جحش.
وانكسر سيف سلمة بن أسلم «رضي الله ع» فأعطاه رسول الله ﷺ قضيبا كان في يده: أي عرجونا من عراجين النخل وقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده.
قال: وعن خبيب بن عبد الرحمن قال «ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه، فتفل عليه رسول الله ﷺ ولأمه ورده فانطبق».
وعن رفاعة بن مالك «رضي الله ع» قال «لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق عليها رسول الله ﷺ ودعا لي، فما آذاني منها شيء» ا هـ.
ثم أمر رسول الله ﷺ بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله ﷺ قبل وجودها؟ فعن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ كان يرينا مصارع أهل بدر يقول: هذا مصرع عتبة بن ربيعة، وهذا مصرع شيبة بن ربيعة، وهذا مصرع أمية بن خلف، وهذا مصرع أبي جهل بن هشام، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى، أي ويضع يده الشريفة على الأرض، فما تنحى أحدهم عن موضع يده» كما تقدم عن أنس، وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الواقعة، إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة.
وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة، هذا كلامه، إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه وصل بدرا في النهار. والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا. ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة.
ثم أمر أن يطرحوا فطرحوا في القليب، إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل: أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه، وبه قال أئمتنا، بل قالوا: يجوز إغراء الكلاب على جيفته.
وفي سنن الدارقطني «كان من سنته في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا» أي ولكثرة جيف الكفار كره أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر، وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار، فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي.
«ولما ألقي عتبة والد أبي حذيفة «رضي الله ع» في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن» بفتح الطاء «له رسول الله، فقال له: لعلك دخلك من شأن أبيك شيء، فقال: لا والله، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام، فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله ﷺ بخير وقال له خيرا».
أقول: وذكر فقهاؤنا أن النبي ﷺ نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك، والله أعلم.
«ثم جاء رسول الله ﷺ حتى وقف على شفير القليب» أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا، أي وفي الصحيحين عن أنس «رضي الله ع» «كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشدّ عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركي» أي وهو القليب «وجعل يقول: يا فلان بن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا».
وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم، فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام» وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل.
واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته. وأجيب بأنه كان قريبا من القليب «بئس عشيرة النبي، كنتم كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فقال عمر «رضي الله ع»: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها. وفي رواية أجسادا قد أجيفوا. وفي لفظ: قد جيفوا، فقال: ما أنتم بأسمع، وفي رواية: لأسمع لما أقول منهم، وفي رواية: لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستيطعون أن يردوا شيئا».
وعن قتادة «رضي الله ع» أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله ﷺ توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة.
أقول: والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور؛ لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به، أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفنى وإن اضمحل الجسم بأكل التراب، أو بأكل السباع أو الطير أو النار، وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويردّ سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث. والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا، بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده، وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا، ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الاختيارية، فلا يخالف ما حكي عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية هذا كلامه، والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء «رضي الله ع»: أي شهداء المعركة، أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الاختيارية.
فقد روى البيهقي رحمه الله في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس «رضي الله ع» أن النبي ﷺ قال «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون «وجاء» إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة».
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة «رضي الله ع» «لينزلن عيسى ابن مريم "عليه السلام"، ثم إن قام على قبري وقال: يا محمد لأجبته» ومن ثم قال الإمام السبكي: حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا، ويشهد له صلاة موسى "عليه السلام" في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا، وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام.
ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشراب، وأما الادراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار، أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام، وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه، لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل، ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء، وبهذا يردّ قول بعضهم في الاستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة ووصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، ولأنه قال في مرض موته «لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم» فثبت كونه حيا في قبره بنص القرآن، إما من عزم اللفظ أو من مفهوم الموافقة.
ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس، لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة، إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة، إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم، وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار، وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل.
والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «سرنا مع رسول الله ﷺ بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال: أيّ واد هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق، فقال: كأني أنظر إلى موسى "عليه الصلاة والسلام واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي، ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: كأني أنظر إلى يونس "عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا» وقد جاء في موسى "عليه السلام" «أنه كان على بعير» وفي رواية «على ثور» ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى. ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع، لأنه مما يتلذذ به كالأكل والشرب.
ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي رحمه الله ونفعنا ببركاته، قال في كتابه المسمى (بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون) وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة، وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك، ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك، لما تقدم من أنهم أجلّ وأعظم، وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة. وقد علمت جواب من منع القياس.
ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء «رضي الله ع» يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون. ووقع الخلاف هل ينكحون؟ فقيل نعم. وقيل لا، وأنهم يثابون على صلاتهم وصومهم وحجهم، ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت، بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه، ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء، وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم.
على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله «حبب إليّ من دنياكم النساء والطيب» حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا، فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للاستلذاذ وحظوظ النفس، وهو "عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك.
وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية.
وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة، لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث، لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا، ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا.
وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله «فضلت على الناس بأربع وعدّ منها كثرة الجماع» وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم، وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة، ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح، ومنه قول بعضهم: أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي.
ومن ثم قال ابن العربي رحمه الله تعالى: رؤية المصطفى "عليه الصلاة والسلام بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة، وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها.
ومنه قوله «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى عليّ روحي حتى أرد "عليه السلام"» أي إلا قوى تعلق روحي، وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يردّ عليه سلامه إلا وقد قوي تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف، والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم، كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض، وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها، وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها، وقد أوضحت ذلك في (النفحة العلوية في الأجوبة الحلبية عن الأسئلة القروية) وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل القرى المصرية، وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى. ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر «رضي الله ع» قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم، وإنه ما من أحد يصلي عليّ صلاة إلا بلغنيها، وإني سألت ربي «عَزَّ وجَلّ» أن لا يصلي عليّ أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها» وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها أنكرت قوله لقد سمعوا ما قلت وقالت، إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق، وقالت: إنما أراد النبي ﷺ أي بقوله في حق أهل القليب «ما أنتم بأسمع منهم» أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق، أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا، ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى {إنك لا تسمع الموتى} الآية، وبقوله {وما أنت بمسمع من في القبور}.
ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته، لأنه إذا قوي تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم، كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع، وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي رحمه الله بقوله نظما:
سماع موتى كلام الخلق قاطبة ** جاءت به عندنا الآثار في الكتب
وآية النفي معناها سماع هدى ** لا يقبلون ولا يصغون للأدب
لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع.
ثم بعث رسول الله ﷺ عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» بشيرا لأهل العالية: أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال، وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى، وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله والمسلمين، فجعل عبدالله بن رواحة ينادي في أهل العالية: يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله ﷺ وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، أي ويقولان: قتل فلان وفلان، أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش، وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها، قال أسامة بن زيد «رضي الله ع» فأتانا الخبر حين سوّينا التراب على رقية بنت رسول الله، أي ولما عزي فيها رسول الله ﷺ قال «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» وفي رواية «من المكرمات دفن البنات» ويعجبني قول الباخرزي رحمه الله تعالى:
القبر أخفى سترة للبنات ** ودفنها يروى من المكرمات
أما رأيت الله عز اسمه ** قد وضع النعش بجنب البنات
وجاء عثمان «رضي الله ع» من رقية هذه بولد يقال له عبدالله فاكتنى به؛ وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو، وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي.
فقد روي «أنه رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية «رضي الله ع»، فقال له: مالي أراك لهفانا مهموما، فقال له: يا رسول الله وهل دخل علي أحد ما دخل عليّ انقطع الصهر بيني وبينك، فبينما هو يحاوره إذ قال: هذا جبريل "عليه السلام" يأمرني عن الله «عَزَّ وجَلّ» أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها، فزوجه إياها، ولما تزوجها دخل عليها رسول الله ﷺ فقال: يا بنية أين أبو عمرو؟ قالت: خرج لبعض حاجاته قال: كيف رأيت بعلك؟ قالت: يا أبت خير بعل وأفضله، فقال: يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأبيك محمد» وجاء «عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا» وجاء عن ابن عباس «رضي الله ع» قال رسول الله «قال لي جبريل "عليه السلام": إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» ولتزوجه ببنتي رسول الله ﷺ قيل له ذو النورين، ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره «رضي الله ع»، ومن ثم لما سأل رسول الله ﷺ عليا عنه قال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين.
ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال «زوجوا عثمان، لو كان لي ثالثة لزوجته إياها، وما زوجته إلا بوحي من الله» وجاء أنه قال له «لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة» وأم عثمان بنت عمته أروى بنت عبد المطلب، توأمة عبدالله أبي النبي.
قال: وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة «رضي الله ع»: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، قد قتل محمد وغالب أصحابه، وهذه ناقتة عليها زيد بن حارثة لا يدري ما يقول من الرعب، قال أسامة: فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل، فأخبرني بما أخبره، به، فقلت: أحق ما تقول، قال: أي والله حق ما أقول يا بني، فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق، فقلت: أنت المرجف برسول الله ﷺ لنقدمنك إلى رسول الله ﷺ إذا قدم فيضرب عنقك، فقال: إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه، انتهى. أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة.
ثم أقبل رسول الله ﷺ راجعا إلى المدينة، فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل، أي الغنيمة، وكانت مائة وخمسين من الإبل، وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة، ونادى منادي رسول الله «من قتل قتيلا فله سلبه، ومن أسر أسيرا فهو له» أي كما تقدم، ولعله تكرر ذلك منه مرتين: مرة للتحريض على القتال، ومرة عند القسمة، فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الاختلاف فيه، فادّعى من قاتل العد وصده أنهم أحق به، وادعى من جمعه أنهم أحق به، وادعى من كان يحرس رسول الله ﷺ في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم، أي لأن سعد بن معاذ «رضي الله ع» قام على باب العريش الذي به وأبو بكر «رضي الله ع» في نفر من الأنصار، وفي رواية عن عبادة بن الصامت «أن جماعة خرجت في أثر العدو وعند انهزامه، وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها، وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به في العريش خوفا أن يصيب العدّ ومنه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش؛ فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها، وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم».
أي وكون جماعة أحدقوا به بعد انهزام العدوّ، قد يقال: لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن سعد «أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله ﷺ في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية {سيهزم الجمع ويولون الدبر} لجواز أن يكون خرج في أثرهم برهة من الزمان، ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم، فأنزل الله تعالى سورة الأنفال {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}.
فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه، وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين، وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمي فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين: أي رده عليهم من الكفار، فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد، ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك. ومنه قول بعضهم: كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة، وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء، كان يعطي من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف، فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة، وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم، فجعله إلى رسول الله ﷺ: أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله ﷺ خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها، ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة، أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس: واحد له يفعل فيه ما أحب، والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية، والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة.
وسيأتي في سرية عبدالله بن جحش لنخلة «أنه خمس العير الذي جاء به عبدالله كذلك، فجعل خمس ذلك لله، وأربعة أخماسه للجيش» وقيل عبدالله هو الذي خمسها كذلك، وأقرّه على ذلك، وهي أول غنيمة في الإسلام وأوّل غنيمة خمست، فكان تخميسها قبل نزول الآية، لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها، قال بعضهم: وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين، وذلك في قوله تعالى {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} فأحل الغنيمة لهم.
أقول: وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر، ويضعف ما سبق من أنه خمسها، أو أن عبدالله هو الذي خمسها قبل بدر، وأقرّه على ذلك، وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمة بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد، الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء، وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم، وسيأتي التصريح بذلك، وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان، دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم، حتى هو كان سهمه كسهم واحد منهم، أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي، وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» «يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف» أراد بالفارس فيه القوى.
ففي مسند الإمام أحمد، قال سعد بن أبي وقاص «قلت: يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء، فقال رسول الله ﷺ ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم» وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف، فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل.
وقد أسهم لمن لم يحضر، كمن أمره بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان «رضي الله ع»، فإنه خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي ﷺ كما تقدم، أو لما كان به «رضي الله ع» من الجدري على ما تقدم، ولهذا عدّ من البدريين، وأبي لبابة لأنه خلفه على أهل المدينة، وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية، ولمن أرسله لكشف أمر العدوّ يتجسس خبره فلم يجيء إلا وقد انقضى القتال، وهما طلحة بن عبيدالله وسعيد ابن زيد كما تقدم، والحارث بن حاطب، أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات ابن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم.
وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وضرب لعثمان «رضي الله ع» يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره، رواه أبو داود عن ابن عمر قال الخطابي: هذا خاص بعثمان، لأنه كان يمرّض ابنة رسول الله ﷺ هذا كلامه.
وأسهم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب، فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لا حق له.
وتنفل زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار؛ أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر، وقيل كان لعمه نبيه، وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل، أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل، ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس، لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة.
وتنفل أيضا جمل أبي جهل وكان مهريا، ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدي الحديبية كما سيأتي، وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا، لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق «رضي الله ع» «كان لرسول الله ﷺ صفي من المغنم حضر أو غاب» قال بعضهم: وهو محسوب من سهمه، وقيل يكون زائدا عليه، إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس، وهذا كان قبل ذلك، فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم، أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة، ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس ومما بعده. والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم، والنشيطة: ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا، وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس، كذا في شرح الحماسة للتبريزي.
قال: وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة، وأمر عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء.
أي وفي الإمتاع «أنه نظر إلى النضر وهو أسير، فقال النضر لليسير الذي بجانبه: محمد والله قاتلي، فإنه نظر إليّ بعينين فيهما الموت، فقال له: والله ما هذا منك إلا رعب، وقال النضر لمصعب بن عمير «رضي الله ع»: يا مصعب أنت أقرب من هذا إليّ رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين، هو والله قاتلي، فقال مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا، وتقول في نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه.
وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره، وكان المقداد «رضي الله ع» أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله أسيري، فقال له رسول الله ﷺ: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول، وقد رثته أخته، وقيل بنته «رضي الله ع» فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات:
- أمحمد يا خير ضنء كريمة * والذي رأيته في الحماسة:
أمحمد ولأنت ضنء نجيبة ** في قومها والفحل فحل معرق
أي له عرق في الكرم، والضنء: الولد
ما كان ضرك لو مننت وربما ** منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
وحين سمع ذلك رسول الله ﷺ بكى حتى أخضل أي بلّ لحيته، وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه، أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر، وليس معناه الندم، لأنه لا يفعل إلا حقا.
أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسنّ المهاجرين، وقيل كان من مسلمة الفتح، وربما يدل له أنه أمر له بمائة بعير من غنائم حنين، فجاءه شخص يبشره بذلك، فقال: لا آخذها، فإني أحسب أن رسول الله ﷺ لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام، فقيل له إنها عطية رسول الله ﷺ فقبلها، وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة.
ثم قتل عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها، قال وحين قدم للقتل: من للصبية يا محمد؟ ، قال النار.
وجاء عن عباس «رضي الله ع» «أن عقبة لما قدم للقتل نادى: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي ﷺ: بكفرك وافترائك على رسول الله » أي وفي لفظ «ببزاقك في وجهي» أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله ﷺ فأبى رسول الله ﷺ أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، وكان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة، قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه، فشهدت له الشهادة وليست في نفسي، فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك، فقال له رسول الله «لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف» كذا في الكشاف، وفي لفظ آخر «بكفرك، وفجورك، وعتوّك على الله ورسوله، وأنزل الله فيه {ويوم يعضّ الظالم على يديه} الآية».
وذكر ابن قتيبة «أنه لما أمر بقتل عقبة، أي وقد قال: يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم! أي وأنا واحد منكم، قال له: يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله ﷺ: هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية» وفي رواية «قال له: إنما أنت يهودي من أهل صفورية» أي فليس هو من قريش: أي لا رحم بيني وبينك: أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبي معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية، ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش، وقيل كان عبدا لأمية فتبناه. فلما مات أمية خلفه على زوجته.
ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية «رضي الله ع» سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه: كم عمرك؟ قال أربعون ومائتا سنة قال: كيف رأيت الزمان؟ فقال سنيات بلاء، وسنيات رخاء، يهلك والد، ويخلف مولود، فلولا الهالك لامتلأت الدنيا، ولولا المولود لم يبق أحد، فقال له: هل رأيت عبد المطلب؟ قال نعم، أدركته شيخا وسيما منسما جسيما، يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم، فقال له: هل رأيت أمية بن عبد شمس؟ يعني جده، قال نعم: رأيته أخفش أزرق ذميما، يقوده عبده ذكوان، فقال: ويحك كف، فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه. فقال: أنتم تقولون ذلك.
والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت، وقيل علي «رضي الله ع»، أي وقيل صلب على الشجرة.
أقول: قال محمد بن حبيب الهاشمي: هو أول مصلوب في الإسلام، ورده ابن ابن الجوزي بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن المراد بالثاني، أول مصلوب من المسلمين، وبالأول أول مصلوب من الكفار.
وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون، ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة، ولا فرعون يوسف بن يعقوب وهو ثاني الفراعنة، وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى "عليه السلام"ط، وكان هلاكه على يده.
وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، أي لأنه ممن قتل معهما صبرا، وفيه نظر، فقد تقدم أن القاتل له حمزة «رضي الله ع» في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان سبب قتله لطعيمة المذكور.
ثم سار رسول الله ﷺ حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم. أي وروي عن ابن عباس أنه قال: «لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي، فقالت: الحمد لله يا محمد الذي سلمك كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه، فأنطق الله الجدي فقال: يا محمد لا تأكلني فإني مسموم» أي بخلاف ما وقع له في خبير، فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي، وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها.
ولما قدم أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنتئه بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء، أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به، فوالله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «أولئك الملأ من قريش» أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة بالدفوف والولائد جمع وليدة: وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
وتلقاه أسيد بن الحضير، فقال: الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك.
«ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله ﷺ فوقفوا، بجاء رسول الله ﷺ ومعه عليّ، فقالوا: يا رسول الله فقدناك، فقال إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه، ثم لما قدمت الأسارى فرّقهم بين الصحابة وقال: استوصوا بهم خيرا».
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش، أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء، وكان من أفصح قريش لسانا، وكان جالسا في الحجر: والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني، فسألوه، أي قالوا: ما فعل صفوان، فقال: هو ذاك الجالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وعن عكرمة مولى ابن عباس «رضي الله ع» قال «قال أبو رافع مولى رسول الله ﷺ: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب» أي ثم وهبه العباس له وسيأتي الكلام عليه في السرايا، وكان العباس «رضي الله ع» أسلم وأسلمت زوجته: أي أم الفضل، قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم، وهي أم أولاده، وهم: عبدالله؛ وعبيدالله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وأمّ حبيب.
قيل رآها وهي تدب بين يديه فقال: إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي: فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس، قال أبو رافع: وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه، لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم، أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما، وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح.
فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرّنا ذلك، فوالله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشر حتى جلس عندنا، فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر، فقال له أبو لهب: هلمّ إلي عندك الخبر، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم والله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما يقوم لها شيء، قال أبو رافع: فقلت والله تلك الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته: أي وأثبته: أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب سيده، تعني العباس، فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمي بالعدسة: أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمى بالعدسة إلا سبع ليال: أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون، قتلته، فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه، أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن، فلما خافوا السبة: أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر.
وفي رواية: حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. وعن عائشة «رضي الله ع» «أنها كانت إذ مرت بموضعه، ذلك غطت وجهها».
أقول: قال في النور: وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة، أي الآن ليس بقبر أبي لهب، وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة، وذلك في دولة بني العباس، فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام، فصلبا في ذلك الموضع، فصار يرجمان إلى الآن، والله أعلم.
فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا، وجزّ النساء شعورهن، وكنّ يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة، ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم، وتواصوا على ذلك، وكان الأسود بن زمعة بن المطلب أصيب له في بدر ثلاثة، ولداه وولد ولده، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي ﷺ عليه بذلك، لأنه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي ﷺ وأصحابه، إذا رآهم يقول: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر، ويكلم رسول الله ﷺ بما يشق عليه، فدعا عليه رسول الله ﷺ بالعمى، وتقدم ذلك؛ وتقدم سبب عماه.
وفي كلام بعضهم كان دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم، وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر، فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله ﷺ فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل، فقال لغلامه انظر هل أحل النحب: أي البكاء، هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي، فإن جوفي قد احترق، فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فأنشد من أبيات
أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود
والسهود بضم السين المهملة: عدم النوم. والبكر: الفتى من الإبل. والجدود: بضم الجيم جمع جد بفتحها، وهو الحظ والسعد، وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو:
ألا قد ساد بعدهمو رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا
يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش. قال: وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله ﷺ: ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم؟ أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له.
وقد يقال: لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه، ولعله لا يخالف ما تقدم أنه. لما أراد قتل النضر قال المقداد «رضي الله ع» وكان أسره: يا رسول الله أسيري، فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية «استشار أبا بكر وعمر وعليا» أي وفي رواية «أبا بكر وعمر وعبدالله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء؟ فقال أبو بكر «رضي الله ع»: يا رسول الله أهلك وقومك» وفي رواية «هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا، فقال رسول الله ﷺ: ما تقول يا ابن الخطاب؟ قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما أرى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب» وفي لفظ «نسيب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس «رضي الله ع» فيضرب عنقه، حتى يعلم أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» أي وقال ابن رواحة «رضي الله ع» «أنظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس «رضي الله ع» وهو يسمع: ثكلتك رحمك، فدخل رسول الله ﷺ أي ولم يرد عليهم، فقال بعض الناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة، ولم يقل قائل يأخذ بقول عمر، ثم خرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله ليلين قلوب أقوام
فيه حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدنّ قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة« لعله لا ينزل إلا بالرحمة، فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا، ومن ثم جاء في الحديث «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر» «ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول {فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}».
قيل إن قوله {فإنك أنت العزيز الحكيم} من مشكلات الفواصل، إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم.
ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه. والحكيم: هو الذي يضع الشيء في محله.
«ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل، نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى» أي أغلب أحوالك ذلك، فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض الأوقات كما تقدم «ومثلك في الأنبياء مثل نوح "عليه الصلاة والسلام إذ قال {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} ومثلك في الأنبياء مثل موسى "عليه الصلاة والسلام إذ قال {ربنا اطمس على أموالهم وأشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}».
قال الجلاد السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى: ومن خصائصه أن من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس? هذا كلامه.
وقد علمت أن أبا بكر «رضي الله ع» شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل، ولينظر من شبه من أصحابه بيوسف، ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان «رضي الله ع»، ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس.
ثم قال لأبي بكر وعمر: «لو توافقتما ما خالفتكما، فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق».
وقد وقع له أنه قال مثل ذلك لهما. وقد اختلفا في تولية شخصين أراد تولية أحدهما على بني تميم، فقال أبو بكر: يا رسول الله استعمل فلانا، وقال عمر: يا رسول استعمل فلانا، فقال رسول الله ﷺ: أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما عليّ أحيانا، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} الآية؛ واستدل بقوله مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن، وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره، ونسبة الاختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر «رضي الله ع» لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة «رضي الله ع»، لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة؛ وعدم ذكر عليّ «رضي الله ع» مع إدخاله في الاستشارة وكذا عبدالله بن جحش على ما تقدم، لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما، أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الاستشارة.
وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله «استشار رسول الله ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد مكنكم منهم، قال: فقام عمر «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبي، ثم عاد فقال: يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالأمس، فقام عمر «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، فأعرض عنه، ثم عاد فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء، قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل الفداء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله ﷺ فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال يا رسول الله: ما يبكيكما؟ » وفي لفظ «ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله ﷺ: إن كاد لمَسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب».
وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس «رضي الله ع» «أنه قال لعمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء» أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء: أي إرادة أخذه «لقد عرض عليّ عقابهم أدنى» أي أقرب «من هذه الشجرة» لشجرة قريبة منه «وأنزل الله تعالى {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} الآيات».
أقول: قال بعضهم: في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الاجتهاد للأنبياء، لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا، وإذا أخطؤوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب.
وأجاب ابن السبكي رحمه الله بأن ذلك من خصائصه، أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه.
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ. وفيه أن بعد نبينا "عليه الصلاة والسلام عيسى "عليه الصلاة والسلام أنه يوحى إليه.
ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة، لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه.
وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الاستدراك، وتقدم جواز الاجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب، واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة «رضي الله ع» وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء، وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر، فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأى رسول الله ﷺ إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم. فقال له رسول الله ﷺ لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال، ومن ثم قال «لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ» كما سيأتي. وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار باحراقهم بالنار.
وفي الأصل «أن جبريل "عليه الصلاة والسلام نزل على النبي ﷺ في أسارى بدر فقال: إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، فنادى منادي النبي ﷺ في أصحابه فجاؤوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال: إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم، وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم، فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم. فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى، يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر «رضي الله ع» على أخذ الفداء، ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الإستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر، وأن بكاءه كان بعد هذه الاستشارة الثانية، وقول صاحب الهدى بكاؤه وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم.
أقول: وفيه أن هذا يشكل عليه قوله «لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب أو إلا ابن الخطاب، وسعد بن معاذ» فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء. وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين، واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب، على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبدالله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى، وذلك قبل بدر بأزيد من عام؛ إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته. وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه.
ورأيت فيها عن ابن عباس «رضي الله ع» «لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم».
وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا، ومن ثم جاء كما يأتي «أن رجلا قال: يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال له: إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم» والله أعلم، ولا ينافي قتل سبعين منهم في قابل: أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه، وهو مالك بن عبيدالله أخو طلحة بن عبيدالله، وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء، لأن المنكر عدم قتل أولئك السبعين الذي أسروا.
قال بعضهم: اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها} هم أهل أحد: أي قد أصبتم يوم بدر مثلى من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، والله أعلم.
وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلاء يتغالى محمد وأصحابه في الفداء، فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي، بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم، وقد كان قال لأصحابه «رضي الله ع» لما رأى أبا وداعة أسيرا: إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه، أي فكان أول أسير فدي، واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة. قال الزبير بن كبار: زعموا أنه كان شريكا للنبي بمكة.
أي والمشهور أن شريكه إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه، وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه «أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشرك كان لا يداري، ولا يماري» وفي رواية أنه لما قال «أنا أعلمكم به قال: صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكك فنعم الشريك، لا تداري ولا تماري» وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى، وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم، وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف، ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة، فإذا تعلموا كان ذلك فداءه.
وجاء جبير بن مطعم وهو كافر: أي إلى المدينة يسأل النبي ﷺ: في أسارى بدر فقال له «لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه» وفي رواية «لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر» وفي رواية «في هؤلاء النتنى لتركتهم له» لأن المطعم كان أجار النبي ﷺ لما قدم من الطائف، وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك.
وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية: أي أسره عليّ بن أبي طالب «رضي الله ع» فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال: أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة يعني ابنه، وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين «رضي الله ع»، وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم، فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا نبي عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو، فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله ﷺ فأخبروه خبر سعد بن النعمان، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم، ففعل رسول الله ﷺ فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى، والظاهر أنه مات على شركه.
وكان في الأسارى زوج بنت النبي ﷺ زينب «رضي الله ع»، وهو أبو العاص بن الربيّع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة. قال في الأصل: ختن رسول الله، أي بناء على ما تقوله العامة أن ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها، ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله ﷺ ختن أبي العاص ولا ختن عليّ لإيهامه النقص.
وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتدا. وفي عبارة أو بدل الواو، ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا، وحيدرة: اسم عليّ «رضي الله ع»، وأبو العاص أسلم بعد ذلك كما سيأتي، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أمّ المؤمنين «رضي الله ع» وأبو ولدها عليّ الذي أردفه خلفه يوم فتح مكة، ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها في الصلاة، أي وكان يحبها حبا شديدا.
فعن عائشة «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ أهديت له هدية فيها قلادة من جذع، فقال: لأدفعنها إلى أحب أهلي إليّ، فقالت النساء: ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله ﷺ أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها» وتزوجها عليّ بعد موت خالتها فاطمة «رضي الله ع» بوصية من فاطمة، زوجها له الزبير بن العوام، وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير، ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده، وكان تزويجها للمغيرة بوصية من عليّ «رضي الله ع»، فإنه لما حضرته الوفاة قال لها: إني لا آمن أن يخطبك معاوية، وفي لفظ هذا الطاغية بعد موتي، فإن كان لك في الرجال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا، فلما انقضت عدّتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار، فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة نوفل: إن هذا الرجل أرسل يخطبني، فإن كان لك حاجة فيّ فأقبل، فجاء وخطبها من الحسن بن علي، أي فزوجها منه.
أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام، لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب «رضي الله ع» في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة «رضي الله ع» أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع، ولا يعلم لعمرو هذا إسلام «فلما رأى تلك القلادة رسول الله ﷺ رق لها رقة شديدة، وقال للصحابة: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا، قالوا نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها القلادة، وشرط عليه رسول الله ﷺ أن يخلي سبيل زينب» أي أن تهاجر إلى المدينة.
أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله ﷺ كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي ﷺ قبل الدخول بهما رقية وأمّ كلثوم كما تقدم، وقالوا له: نزوجك أيّ امرأة من قريش شئت، فأبى ذلك، وقال: والله لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أن لي بها امرأة من قريش، فشكر له رسول الله ﷺ ذلك وأثنى عليه بذلك خيرا، فلما وصل أبو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت.
وقد كان أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما: تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها.
أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع أخا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا، فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار ابن الأسود «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، ونخس البعير بالرمح فوقعت وألقت حملها.
وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع، وقيل خالد بن عبد قيس. ثم إن كنانة برك ونثر كنانته وأخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهما، فجاء إليه أبو سفيان في رجال من قريش، وقال له: كف عنا نبلك حتى نكلمك فكف، ثم قال له: إنك لم تصب في فعلك، فإنك خرجت بالمرأة جهارا على رؤوس الأشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت زينب علانية على رؤوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذلّ أصابنا، وأن ذلك منا من ضعف ووهن، ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، ولكن ارجع بها حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل، وأقامت ليالي ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه.
وفي رواية «أنه قال لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيء بزينب؟ قال بلى يا رسول الله، قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا، فقال: لمن ترعى؟ قال لأبي العاص، قال: فلمن هذه الغنم؟ قال لزينب بنت محمد، فتكلم معه، ثم قال له: هل إن أعطيتك شيئا تعطها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال نعم، فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي إلى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته، فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل، قالت: فأين تركته؟ قال بمكان كذا وكذا، فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه، فلما جاءته قال لها زيد: اركبي بين يديّ على بعيري: قالت لا، ولكن اركب أنت بين يدي، فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر. وكان يقول زينب أفضل بناتي أصيبت بي» أي بسببي.
ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الإمام سراج الدين البلقيني في فتاويه في حق فاطمة «رضي الله ع» حيث قال: وقد روى البزار في مسنده من طريق عائشة «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ قال لفاطمة: هي خير بناتي، لأنها أصيبت فيّ» هذا كلامه، ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه. وقد يقال إصابتها بسبب موته في حياتها.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها أي فهو من أعلام نبوته، أو أن قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات.
وقد سئل الإمام البلقيني رحمه الله تعالى هل بقية بناته، أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهنّ على بعض ولم يجب عن ذلك، ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد. وبهذا: أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن إسحاق أما بناته فكلهنّ أدركن الإسلام وأسلمن وهاجرن معه، إلا أن يقال المراد اشتركن معه في الهجرة، وتقدم ما في قوله وأسلمن، وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء «أن زينب بنت رسول الله ﷺ «رضي الله ع» أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة» الحديث ولعلها تصحيف، وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع، ويدل لذلك أنه قال في هذه الرواية «إن رأيتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه» ولم يقل أسيريها، وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري.
وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها، فقد سئل سعد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية، فقال الأسود بن المطلب وسهيل بن عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو ابن سعيد وعبدالله بن الزبير.
ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي: الخطباء من بني مروان، عتبة ابن أبي سفيان أخو معاوية، وعبد الملك بن مروان: ومما يؤثر عن عتبة: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم. وقال عمر «رضي الله ع» لرسول الله ﷺ: دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه، أي لأنه كان أعلم، والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال له رسول الله ﷺ: لا أمثل به فيمثل الله تعالى بي. وإن كنت نبيا، وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك: فإنه لما مات رسول الله ﷺ أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد «رضي الله ع» وتوارى، فقام سهيل بن عمرو «رضي الله ع» خطيبا، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم ذكر وفاة رسول الله، وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت، ألم تعلموا أن الله قال {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآيات، وتلا آيات أخر، ثم قال: والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم: يعني أبا سفيان، فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم، لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم، وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة، وإن الله ناصر من نصره ومقوّ دينه، وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر «رضي الله ع» وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به.
وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد «رضي الله ع»، وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل، فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات، فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا، وكان في الأسارى الوليد بن الوليد أخو خالد بن الوليد، أفتكه أخواه هشام وخالد، فلما افتدي أسلم، فعاتبوه في ذلك، فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر، ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه، وكان النبي ﷺ يدعو له في القنوت كما تقدم، ثم أفلت ولحق بالنبي ﷺ في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي «رضي الله ع»، وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم: أي التي يقال لها في الحرب العقاب، ويقال لها راية الرؤساء، ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم، وكانت لأبي سفيان أو لرئيس مثله، ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه، وفدى نفسه.
وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه إمامنا الشافعي «رضي الله ع» الذي هو ولد السائب لقي النبي ﷺ وهو مترعرع فأسلم، وكان في الأسارى وهب بن عمير «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وأسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول الله ﷺ وأصحابه بمكة «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم، فقال عمير والله صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي كنت آتي محمدا حتى أقتله، فإن لي فيهم علة ابني أسير في أيديهم، فاغنتمها صفوان، وقال له عليّ دينك أنا أقضيه عنك؛ وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا، قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك، قال افعل ثم إن عميرا أخذ سيفه وشحذه، بالمعجمة: أي سنه وسمه: أي جعل فيه السم، ثم انطلق حتى قدم المدينة فبينما عمر بن الخطاب «رضي الله ع» في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر إذ نظر إلى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف، فقال: هذا الكلب عدوّ الله عمير ما جاء إلا بشر، فدخل عمر «رضي الله ع» على رسول الله ﷺ فقال: يا نبي الله، هذا عدوّ الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال: فأدخله عليّ، فأقبل عمر «رضي الله ع» حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه، والحمالة بكسر الحاء المهملة: العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله ﷺ فاجلسوا عنده، فإن هذا الخبيث غير مأمون، ثم دخل به على رسول الله، فلما رآه رسول الله ﷺ «رضي الله ع» آخذ بحمالة سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا ثم قال عمير: أنعموا صباحا، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم. فقال رسول الله ﷺ: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك يا عمير، فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف، قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا، قال: أصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش. ثم قلت لولا دين عليّ وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لا أعلم ما أتاك به إلا الله تعالى، فالحمد الله الذي هدانا للإسلام وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله ﷺ فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله، فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم، فأذن له رسول الله ﷺ فلحق بمكة وأسلم ولده وهب «رضي الله ع».
وكان صفوان حين خرج عمير يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا.
أي ولما قدم عمير لم يبدأ بصفوان، بل بدأ ببيته وأظهر الإسلام ودعا إليه، فبلغ ذلك صفوان، فقال: قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ، ولا أكلمه أبدا. ولا أنفعه ولا عياله بنافعة.
ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه: أنت سيد من سادتنا، رأيت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فلم يجبه صفوان بكلمة، وعند فتح مكة هو الذي استأمنه لصفوان كما سيأتي.
وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني: شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي، فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها.
وكان في الأسارى العباس عم النبي، أي وقد شدوا وثاقه فأنّ فلم يأخذه نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله؟ قال: لأنين العباس، فقام رجل وأرخى وثاقه، وفعل ذلك بالأسارى كلهم، والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو، وكان ذميما أي بالمهملة: صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس «رضي الله ع»: لو أخذته بكفك لوسعته كفك، فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخدمة أي وهو جبل من جبال مكة، أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين، وكنت بيد أبي عزيز بن عمير. قال: وفي رواية أن النبي ﷺ سأل كعبا وقال له: كيف أسرت العباس؟ قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه ملك كريم، أي وفي رواية «أن العباس «رضي الله ع» لما قيل له ما تقدم قال: والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم، فقال الذي جاء به: والله أنا الذي أسرته يا رسول الله، فقال: اسكت فقد أيدك الله بملك كريم.
وفي الكشاف أن العباس عمّ رسول الله ﷺ لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا، فكساه عبدالله بن أبيّ ابن سلول قميصه، وجعل فداء العباس أربعمائة أوقية. وفي رواية مائة أوقية. وفي رواية أربعين أوقية من ذهب. وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية، أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث.
وفي رواية «أنه قال له: افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو، ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية» وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط، وقال للنبي «تركتني فقير قريش ما بقيت» وفي لفظ «تركتني أسأل الناس في كفي، فقال له رسول الله ﷺ: فأين المال الذي دفعته لأم الفضل؟ يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبدالله وقثم» وفي كلام ابن قتيبة «فللفضل كذا، ولعبدالله كذا، وقثم كذا، فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل» زاد في رواية «وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله».
وفي رواية «أن العباس قال للنبي: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له: كيف تكون فقير قريش، وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل، وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت».
وفي رواية «أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقال: أشهد أن الذي تقوله قد كان، وما اطلع عليه إلا الله» وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس «رضي الله ع» وزوجته أم الفضل كانا مسلمين، بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة «رضي الله ع»، وكانا يكتمان إسلامهما، وأن أبا رافع كان كذلك.
ومما يؤيد إسلام العباس «رضي الله ع» أنه جاء في بعض الروايات «أن العباس «رضي الله ع» قال: علام يأخذ منا الفداء وكنا مسلمين؟ أي وفي رواية: كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي ﷺ: الله أعلم بما تقول إن يك حقا فإن الله يجزيك؛ ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا. وقد أنزل الله تعالى {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا} أي إيمانا {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} أي من الفداء الآيات، فعند ذلك: أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خيرا منها مائة عبد» وفي لفظ «أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به، أي يتجر فيه، وإني لأرجو من الله المغفرة» أي وهذا القول من العباس «رضي الله ع» يدل على تأخر نزول هذه الآيات.
وجاء «أن العباس «رضي الله ع» خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم به المشركين، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي ﷺ أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأبى وقال: أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك» وجاء في بعض الروايات «أن العباس «رضي الله ع» لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله، فبلغ ذلك النبي، فقال لعمر: لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، زعمت الأنصار أنهم قاتلوه، فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس، فقالوا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله ﷺ رضي، فقالوا: إن كان رضي فخذه فأخذه عمر، فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم، فوالله لأن تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب».
أي وفي أسباب النزول للواحدي: لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ عليّ له من القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له عليّ: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحيي الكعبة، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله تعالى {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} الآية.
وجاء أنه قال للمسلمين: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله تعالى {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله} الآية.
وذكر بعضهم أن العباس «رضي الله ع» كان رئيسا في قريش، وإليه عمارة المسجد الحرام، فكان لا يدع أحد يتشبب فيه، ولا يقول فيه هجرا. والتشبيب: ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر: الكلام الفاحش، فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس، وكانوا عونا له على ذلك.
ومن ثم قيل في العباس: هذا والله هو الشرف: يطعم الجائع، ويؤدب السفيه، فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم. وقيل وسوطه معد لسفهائهم، وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الأولى.
والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الرواية الأولى، ولا ينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى آخره، ما تقدم عن مولاه أبي رافع، من أن العباس كان مسلما، ومن قوله للنبي إنه كان مسلما، ومن إتيانه بالشهادتين عنده، لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره، ولم يظهر النبي ﷺ إسلام العباس رفقا به، لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش، وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم.
ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه: أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح، وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله ﷺ فيكتب له مقامك بمكة خير لك.
أي وفي رواية «استأذن العباس «رضي الله ع» النبي ﷺ في الهجرة، فكتب إليه: يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه، فإن الله «عَزَّ وجَلّ» يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوّة» فكان كذلك.
وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب «افد نفسك يا نوفل، قال: ما لي شيء أفدي به نفسي، قال: افد نفسك من مالك الذي بجدة» وفي لفظ «بأرماحك التي بجدة فقال: أشهد أنك رسول الله، والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله» أي وفدى نفسه ولم يفده العباس.
ويدل لذلك ما رواه البخاري عن أنس «أن النبي ﷺ أتى بمال من البحرين» أي من خراجهما «فقال انثروه في المسجد، فكان أكثر مال أتي به رسول الله » أي كان مائة ألف «وكان أول خراج حمل إليه وكان يأتي في كل سنة».
وحينئذ لا يعارض هذا قوله لجابر «لو قد جاء مال البحرين أعطيتك فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله » لأن المراد أنه لم يقدم في تلك السنة. ولما نظر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله ﷺ إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى أحدا إلا أعطاه، فجاءه العباس، فقال: يا رسول الله أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو، فقال: خذ فحثى في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إليّ، قال لا قال: فارفعه أنت علي، قال لا، فنثر منه، ولا زال يفعل كذلك حتى بقي ما يقدر على رفعه على كاهله أي بين كتفيه، ثم انطلق وهو يقول: إنما أخذت ما وعد الله فقد أنجز فما زال يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفي.
ومنّ رسول الله ﷺ على نفر من الأسارى بغير فداء، منهم أبو عزة عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي ﷺ والمسلمين بشعره، فقال: يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله، أي وفي رواية قال له: إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن ففعل وأعتقه، وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا. أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا.
ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره، فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي.
أي فعلم أن أسرى بدر؛ منهم من فدي ومنهم من خلي سبيله من غير فداء، وهو أبو العاص، وأبو عزة، ووهب بن عمير؛ ومنهم من مات؛ ومنهم من قتل وهو النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم.
ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله ﷺ ببدر فرح فرحا شديدا. فعن جعفر بن أبي طالب «رضي الله ع» أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم، فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال لهم: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله «عَزَّ وجَلّ» قد نصر نبيه، وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة، فقال له جعفر مالك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا الله «عَزَّ وجَلّ» تواضعا عندما أحدث لهم نعمة.
وفي رواية: كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا، فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه أحدثت هذا التواضع.
وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث الله تواضعا، وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث.
قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستأصل وجوههم، قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة «رضي الله ع» ـ فإنهما أسلما بعد ذلك ـ إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي. فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى. وفي الأصل هنا ما يوافقه.
وفيه أن عمرو بن أمية الضمري لم يكن أسلم بعد، أي لأنه كما في الأصل شهد بدرا وأحدا مع المشركين. وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة، وأسر في ذلك وجزت ناصيته وأعتق، وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي. قال: فلما وصل عمرو وعبدالله إلى النجاشي ردهما خائبين.
أي فعن عمرو بن العاص قال: دخلت على النجاشي فسجدت له، فقال: مرحبا بصديقي أهديت لي من بلادك شيئا؟ فقلت نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع، وأمر أن يكتب ويتحفظ به، قال عمرو: فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمري. وهو رسول عدو لنا قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطينه فأقتله، فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننت أنه قد كسره، فجعلت أتقى الدم بثيابي. وفي رواية: ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه، ظننت أنه قد كسره. وقد يجمع بوقوع الأمرين منه، وعند ذلك قال عمرو: فأصابني من الذل ما لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه، ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه، فقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول الله رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله؟ قلت وتشهد أنت أيها الملك أنه رسول الله، فقال: نعم أشهد أنه رسول الله ﷺ أشهد بذلك عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق. قلت له: أفتبايعني له على الإسلام، قال: نعم، فمدّ يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد كساني، فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل من صاحبك قضاء لحاجتك؟ يعنون قتل عمرو بن أمية الضمري، فقلت لهم: كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه، قالوا: الرأي ما رأيت وفارقتهم. وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبدالله جماعة آخرون من قريش. ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبدالله بن ربيعة، ويؤيد الأول ما يأتي فليتأمل.
وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت، فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشعبية، وهو محلّ معروف كان موردة لجدة: أي كان ترسي به السفن قبل وجود جدة كما تقدم، فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة: اسم محل، إذا رجلان وهما خالد ابن الوليد وعثمان بن أبي طلحة، فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي أريد، فتوجهنا إلى المدينة.
فقد علمت ما في إرسال عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا، لأنه شهد مع الكفار أحدا.
ومن ثم قال في الأصل هنا: فلما كان شهر ربيع الأول، وقيل المحرم سنة سبع، أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله ﷺ كتب رسول الله ﷺ إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به عمرو بن أمية الضمري، فلما قرىء عليه الكتاب أسلم، وكتب إليه رسول الله ﷺ أن يزوجه أم حبيبة ففعل. وكتب إليه رسول الله ﷺ أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل، وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابي رسول الله ﷺ في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام، والثاني في تزويجه "عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وقيل إرسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها.
وسيأتي ذكر كتابي النبي ﷺ إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك، هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه.
ثم رأيت صاحب النور قال: قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة؛ يعنون من الهجرة، وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبدالله بن ربيعة: أي عقب بدر، حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله ﷺ إلى آخر ما تقدم هذا كلامه.
أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم. وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه، أي بعث له عمرو بن أمية لأجل أن يظهر إسلامه ويعلن به بين قومه، أي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه. ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبدالله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له: أنت فارقت ديننا، وأظهروا له المخاصمة، فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها، وكونوا كما أنتم، فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم، وإن ظفرت فأقيموا. ثم عمد إلى كتاب فكتب: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له، فقال: يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم؟ قالوا بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا، وزعمت أن عيسى عبد، قال: فماذا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال: هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا، وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك.
ويذكر أن عليا «رضي الله ع» وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين، وكان يقال له نيزر مولى علي كرم الله وجهه.
ويقال إن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن منّ الله عليّ بالإسلام.
على أن ابن الجوزي رحمه الله ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر.
فعن عمرو بن العاص «رضي الله ع»: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا، وإني قد رأيت رأيا فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا هو الرأي، فقلت: اجمعوا ما يهدى له وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا إليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري بعثه رسول الله ﷺ في شأن جعفر وأصحابه الحديث.
وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبدالله بن ربيعة عقب بدر، فيكون وفود عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات: مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة، ومرة مع عبدالله بن ربيعة عقب بدر، وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب، وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة.
وحينئذ لا يشكل إرسال عمرو بن أمية للنجاشي، لأنه كان مسلما حينئذ، فيكون ذكر مجيء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة.
ثم رأيته في (الإمتاع) قال: وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة. وكان رسول الله ﷺ يرسل عمرو بن أمية الضمري في أموره لأنه كان من رجال النجدة، أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه، وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع. وفي الأصل أنه أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب.
أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال «دعاني رسول الله ﷺ وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي: التمس صاحبا، قال: فجاءني عمرو بن أمية، فقال: بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا، قلت: أجل، قال: فأنا لك صاحب، قال: فجئت رسول الله، فقلت: وجدت صاحبا، فقال: من؟ قلت: عمرو بن أمية الضمري، فقال: إذا هبط بلاد قومه فاحذروه، فإنه قد قال القائل: أخوك البكري ولا تأمنه، وقد أسلم عبدالله ولده قبل أبيه عمرو بن العاص «رضي الله ع»، روي «أنه قال فيهما وفي أم عبدالله: نعم البيت عبدالله وأبو عبدالله وأم عبدالله» وكان يفضل عبدالله على أبيه، لأنه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلاهم وعلمائهم، ومن أكثرهم رواية.
وذكر ابن مرزوق رحمه الله «أن ابن عمرو «رضي الله ع» مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئنّ، فناداه يا عبدالله، قال: فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه: لا تفعل يا عبدالله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله » رواه الطبراني في الأوسط. زاد السيوطي في الخصائص «فأتيت النبي » فأخبرته قال: أو قد رأيته؟ قلت نعم، قال: ذاك عدوّ الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة».
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن الشعبي «أن رجلا قال للنبي: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد» وفي لفظ «بعمود حديد حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، فقال رسول الله ﷺ: ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة».
ومما جاء في فضل من شهد بدرا «أن جبريل "عليه السلام" أتى النبي ﷺ فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها، قال جبريل "عليه السلام": وكذلك من شهد بدرا من الملائكة» وفي رواية «إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم» وجاء بعض الصحابة «رضي الله ع» إلى النبي، فقال «يا رسول الله إن ابن عمي نافق، أي وقد كان من أهل بدر، أتأذن لي أن أضرب عنقه؟ فقال: إنه شهد بدرا، وعسى أن يكفر عنه» وفي رواية «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «اطلع الله على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، أو قال: فقد وجبت لكم الجنة» أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب، أي وهو يفيد أن ما يقع منهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه، لأنه إذا وقع يقع مغفورا، وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه، وهذا كما لا يخفي بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا، ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمر في أيام عمر جلده وكان بدريا.
لا يقال: إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة، وإنما حد عمر «رضي الله ع» قدامة زجرا عن شرب الخمر. لأنا نقول: بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع مغفورا، لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة، وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا، لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة.
هذا، وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح (جمع الجوامع) أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم. وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر «رضي الله ع»، وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة «رضي الله ع»، فكان خالا لحفصة ولأخيها عبدالله، وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين، فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها، فأخبر عمر أن قدامة سكر، قال: وإني رأيت حدّا من حدود الله حقا عليّ أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال أبو هريرة: فشهد أبو هريرة «رضي الله ع» أنه رآه سكران، أي قال: لم أره يشرب، ولكني رأيته سكران يقيء، فأحضر قدامة، فقال له الجارود: أقم عليه الحد، فقال له عمر «رضي الله ع»: أخصم أنت أم شاهد؟ فصمت ثم عاوده، فقال له عمر «رضي الله ع»: لتمسكن أو لأسوءَنك، فقال: ليس في الحق. وفي لفظ: أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءَني، فأرسل عمر «رضي الله ع» إلى زوجته قدامة أب بعد أن قال له أبو هريرة «رضي الله ع»: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد يعني زوجته، فجاءت فشهدت على زوجها بأنه سكر، فقال عمر لقدامة: أريد أن أحدك، فقال: ليس لك ذلك، لقول الله «عَزَّ وجَلّ» {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا}، فقال له عمر: أخطأت التأويل، فإن بقية الآية {إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك، ثم أمر به فحد، فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا، ففي قوم استيقظ عمر «رضي الله ع» من نومه فزعا، فقال: عجلوا بقدامة، أتاني آت، فقال: صالح قدامة فإنه أخوك، فاصطلحا.
أي وقد احتج بهذه الآية أيضا جمع من الصحابة شربوا الخمر، وهم أبو جندل، وضرار بن الخطاب، وأبو الأزور، فأراد أبو عبيدة «رضي الله ع» وهو وال بالشام أن يحدهم، فقال أبو جندل {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك، وقال: خصمني أبو جندل بهذه الآية. فكتب عمر لأبي عبيدة: إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم، فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم، قال أبو الأزور لأبي عبيدة: دعنا نلقي العدوّ غدا، فإن قتلنا فذاك، وإن رجعنا إليكم فحدونا، فلقوا العدوّ فاستشهد أبو الأزور وحدّ الآخران.
وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي «أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله ﷺ فحده أربعا أو خمسا أي من المرات، فقال رجل من القوم اللهم العنه، ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد! فقال "عليه الصلاة والسلام: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله» ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه.
وعند الإمام أحمد رحمه الله عن حفصة «رضي الله ع»، قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله تعالى أحد شهد بدرا والحديبية» ولعل الواو بمعنى أو. ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» عن النبي، قال «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر «أن عبد لحاطب جاء إلى رسول الله ﷺ يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: كذبت، لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية» لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه: أي الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب.
وفي الطبراني عن رافع بن خديج «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر «والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد أن أرذل العمر أو يردّ إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة».
وكان يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم. ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي وهو جالس في صفة ضيقة ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي ﷺ فقال: لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين: قم يا فلان، قم يا فلان بعدد الواقفين، فعرف رسول الله ﷺ الكراهة في وجه من أقامه، فقال: «رحم الله رجلا يفسح لأخيه، فنزل قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا} الآية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك» أي ولعل المراد يجلسونهم مكانهم.
وفي الخصائص الصغرى: وخصّ أهل بدر من أصحابه بأن يزادوا في الجنازة على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم.
وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيدالله بن عبدالله ليسمع منه، فبلغ عبيدالله أن عمر ينتقص عليا «رضي الله ع»، فأتاه عمر فأعرض عبيدالله عنه وقام ليصلي، فجلس عمر ينتظره، فلما سلم أقبل عليه، وقال له: متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم، ففهمها عمر وقال: معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود، فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرّم الله وجهه إلا بخير.
غزوة بني سليم
ولما قدم رسول الله ﷺ من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه، يريد بني سليم. واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم.
أي وفي رواية أبي داود لأن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والأحكام، فإن الضرير لا يجوز له أن يحكم بين الناس، لأنه لا يدرك الأشخاص ولا يثبت الأعيان، ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم، أي فأمر القضايا والأحكام يجوز أن يكون فرضه لسباع فلا مخالفة. فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر، أي وقيل لهذا الماء الكدر، لأن به طيرا في ألوانها كدرة، فأقام على ذلك ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا، أي وكان لواؤه أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكان في تلك السنة تزويج عليّ بفاطمة «رضي الله ع»: أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب، ودخل بها في ذي الحجة. وقيل بعد أن تزوّجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف، أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى. وكان عمرها خمس عشرة سنة، وكان سن عليّ يومئذٍ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر، أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار. ولما خطبها عليّ قال «إن عليا يخطبك فسكتت» أي وفي رواية قال لها «أي بنية إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين؟ فبكت، ثم قالت: كأنك يا أبت إنما أدخرتني لفقير قريش، فقال: والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى أذن لي الله فيه من السماء، فقالت فاطمة «رضي الله ع»: رضيت بما رضي الله ورسوله».
وقد كان خطبها أبو بكر ثم عمر فسكت. وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء، فجاءا أي أبو بكر وعمر «رضي الله ع» إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها، قال علي «فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته فقلت: تزوّجني فاطمة، قال: وعندك شيء؟ قلت فرسي وبدني: أي درعي، قال: أما فرسك فلا بدّ لك منها، وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال: أي بلال ابتع لنا بها طيبا.
وفي رواية «لما خطبها قال له ماتصدقها» وفي لفظ «هل عندك شيء تستحلها به؟ قال: ليس عندي شيء، قال: فأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟ قال عندي، فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة وثمانين درهما. ثم إن عثمان «رضي الله ع» رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء عليّ بالدرع والدراهم إلى رسول الله ﷺ فدعا لعثمان بدعوات».
وفي فتاوى الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي «رضي الله ع» يباع بأربعمائة درهم ليلة عرسه على فاطمة «رضي الله ع» فقال عثمان: هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا، فدفع لغلام علي أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه، فلما أصبح عثمان وجد في داره أربعمائة كيس، في كل كيس أربعمائة درهم، مكتوب على كل درهم: هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان، فأخبر جبريل النبي ﷺ بذلك، فقال: هنيئا لك يا عثمان.
وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه، فباعه بستة دراهم، فسأله سائل فأعطاه إياه، فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة، فقال: يا أبا الحسن اشتر هذه الناقة، قال: ما معي ثمنها، قال: إلى أجل، فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه، فقال: أتبيع هذه الناقة؟ قال نعم، قال: بكم اشتريتها؟ قال: بمائة، قال: آخذها بمائة ولك من الربح ستون، فباعها له، فعرض له جبريل فقال: بعت الناقة؟ قال نعم، قال: ادفع إليّ ديني، فدفع له مائة ورجع بستين، فقالت له فاطمة: من أين لك هذا؟ قال: ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين، ثم جاء إلى النبي ﷺ فأخبره بذلك، فقال: البائع جبريل والمشتري ميكائيل، والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة: له أصل أم لا؟
فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح، أي وهي تصدق بأن ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع.
ولما أراد أن يعقد خطب خطبة منها «الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، الذي خلق الخلق بقدرته، وميزهم بحكمته، ثم إن الله «عَزَّ وجَلّ» جعل المصاهرة نسبا وصهرا وكان ربك قديرا. ثم إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ على أربعمائة مثقال فضة، أرضيت يا علي؟ قال رضيت» بعد أن خطب علي كرّم الله وجهه أيضا خطبة منها: الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه: أي وفي رواية أنه قال «يا عليّ اخطب لنفسك، فقال عليّ الحمد لله الذي لا يموت، وهذا محمد رسول الله ﷺ زوّجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربعمائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا. قالوا: ما تقول يا رسول الله؟ قال: أشهدكم أني قد زوجّته» كذا رواه ابن عساكر. قال الحافظ ابن كثير: وهذا خبر منكر. وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها.
ولما تمّ العقد دعا بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتهبوا.
وقول علي كرم الله وجهه: نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: قيل لعلي: ألا تتزوج بنت رسول الله، فقال مالي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة: يعني غير الصحيح الدين، ولا المتهم في الإسلام: أي لا أخشى الفاحشة إذا لم أتزوج. وليلة بنى بها قال لعلي: لا تحدث شيئا حتى تلقاني، فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعليّ في جانب آخر، وجاء رسول الله ﷺ فقال لفاطمة ائتيني بماء، فقامت تعثر في ثوبها. وفي لفظ في مرطها من الحياء، فأتته بقعب فيه ماء، فأخذه رسول الله ﷺ ومج فيه، ثم قال لها: تقدمي، فتقدمت، فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال: اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. ثم قال: ائتوني بماء، فقال علي كرم الله وجهه: فعلمت الذي يريد، فقمت وملأت القعب فأتيته به، فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به، ثم قال: اللهم بارك فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في شملهما: أي الجماع، وتلا: قل هو الله أحد والمعوذتين، ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركة، وكان فراشها إهاب كبش: أي جلده، وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض انكشفت رؤوسهما.
ثم مكث ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة. وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة، فقال لهما: كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما، فأخذ علي كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة «رضي الله ع» الأخرى فوضعتها كذلك.
وقالت له في بعض الأيام: يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، فقال لها يا بنية اصبري، فإن موسى بن عمران "عليه الصلاة والسلام أقام مع امرأته عشر سنين ليس لهم فراش إلا عباءة قطوانية: أي وهي نسبة إلى قطوان: موضع بالكوفة، أي ولعل العباءة التي كانت تجلب من ذلك الموضع كانت صفيقة. وعن علي «رضي الله ع»: لم يكن لي خادم غيرها.
وعنه «رضي الله ع» «لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ وأني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار» ولعل المراد في السنة.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي «رضي الله ع» أي من ثنائه عليه.
وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعنون عليه من الخوارج وغيرهم، فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في عليّ. نزل في عليّ ثلثمائة آية.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: كل ما تكلمت به في التفسير فإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه.
ومن كلماته البديعة الوجيزة: لا يخافنّ أحد إلا ذنبه، ولا يرجونّ إلا ربه، ولا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم، ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم. ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن أقول الله أعلم.
ومن ذلك: العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف علمهم عملهم، يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله.
وقال لعلي «يهلك فيك رجلان: محب مطرٍ، وكذاب مفترٍ مكره لك يأتي بالكذب المفترى» وقال له «يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم» وجاء أنه قال «إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا بنتهم علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها».
غزوة بني قينقاع
بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها، فهي مثلثة النون، والضم أشهر: قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود، وكانوا صاغة، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت «رضي الله ع» وعبدالله بن أبيّ ابن سلول. فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد أي لأنه كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه، وأن لا يظاهروا عليه عدوه.
وقيل على أن لا يكونوا معه ولا عليه. وقيل على أن ينصروه على من دهمه من عدوه أي كما تقدم، فهم أول من غدر من يهود؟ فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله ﷺ قدمت امرأة من العرب يجلب لها: أي وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرهما فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم. أي وفي الإمتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الأنصار، أي ومعلوم أن الأنصار كانوا بالمدينة، أي وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن تكون زوجة بعض الأنصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها، فجعلوا أي جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها. قال وفي رواية: خله بشوكة وهي لا تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون أي وتقدم وقوع مثل ذلك، وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول.
ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أي وقال لهم «ما على هذا أقررناهم» تبرأ عبادة بن الصامت «رضي الله ع» من حلفهم، أي قال: يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبدالله بن أبي ابن سلول أي لم يتبرأ من حلفهم كما تبرأ منه عبادة بن الصامت، أي وفيه نزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض} إلى قوله {فإن حزب الله هم الغالبون} فجمعهم وقال لهم «يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة» أي ببدر «وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم، قالوا: يا محمد إنك ترى أنا قومك أي تظننا أنا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة، إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» وفي لفظ «لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا» أي لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا، فأنزل الله تعالى {قل للذين كفروا ستغلبون} الآية، أي وأنزل الله {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} الآية فتحصنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله ﷺ ولواؤه وكان أبيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب «رضي الله ع». قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذٍ.
وقد قدّمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب، ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية تسمى بهذا الاسم، ويقال لها راية الرؤساء، لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس، وكانت في زمنه مختصة بأبي سفيان «رضي الله ع»، لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر. والأخرى مع بعض الأنصار، وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة «رضي الله ع».
واستخلف على المدينة أبا لبابة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، لأن خروجه كان في نصف شوّال، واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام، فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، فسألوا رسول الله ﷺ أن يخلي سبيلهم، وأن يجلوا من المدينة: أي يخرجوا منها، وأن لهم نساءهم والذرية وله الأموال، أي ومنها الحلقة التي هي السلاح. والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع، وخمست أموالهم أي مع كونها فيئا له لأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين، فكان له ولأصحابه الأربعة الأخماس.
أقول: ولا يخفى أن من جملة أموالهم دورهم، ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها، وعلم أنه جعل هذا الفيء كالغنيمة. ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه يقسم خمسة أقسام، له أربعة منها، والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له منها قسم، فيكون له أربعة أخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس، منها واحد لذوي القربى، وآخر لليتامى، وآخر للمساكين، وآخر لابن السبيل، فجميع مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله، وأربعة أسهم لأربعة أصناف، هم: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولعل إمامنا الشافعي «رضي الله ع» رأى أن ذلك كان أكثر أحواله وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا، ثم استقل به: أي لم يعط الجيش منه، وقد جعل سهم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل من أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم.
ولما فعل ذلك جاء إليه جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان من بني عبد شمس فقالا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا» وفي لفظ «ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة» وفي رواية «أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنو المطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبم فضلتهم علينا؟ فقال رسول الله ﷺ: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا، وشبك بين أصابعه» زاد في رواية «أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام» أي لأن الصحيفة إنما كتبت على بني هاشم والمطلب، لأنهم هم الذين قاموا دونه ودخلوا الشعب.
وبعده صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد؟ وخمس الخامس لمصالح المسلمين، والخمس الثاني منه لذوي القربى، والخمس الثالث منه لليتامى، والخمس الرابع منه للمساكين، والخمس الباقي منه لابن السبيل.
ثم لا يخفى أنه إذا كان مع الجيش وغنم شيء بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه أن يختار من ذلك قبل قسمته، ويقال لهذا الذي يختاره الصفيّ والصفية كما تقدم.
أقول: وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر «رضي الله ع» خلافه، وتقدم هل صفيه كان محسوبا عليه من سهمه أو لا؟ قيل نعم، وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه، لأن ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة، فكان سهمه كسهم واحد من الجيش، فصفيه يكون زائدا على ذلك.
وأما سهمه بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله ﷺ أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله ﷺ: ويحك أرسلني وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت «رضي الله ع» وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم».
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة «رضي الله ع»، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله ﷺ من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم: أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ «رضي الله ع» والله تعالى أعلم.
وأما سهمه بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة، فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف، هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه؟ فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم، والله أعلم.
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله ﷺ أن يكتفوا فكتفوا فأراد قتلهم، فكلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول وألح عليه؛ أي فقال: يا محمد أحسن في مواليّ فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ من خلفه، أي وتلك الدرع هي ذات الفضول، فقال له رسول الله ﷺ: ويحك أرسلني وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه، ثم قال: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر، فقال: خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم، وتركهم من القتل، أي وقال له: خذهم لا بارك الله لك فيهم، وأمر أن يجلوا من المدينة؛ أي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت «رضي الله ع» وأمهلهم ثلاثة أيام فجلوا منها بعد ثلاث، أي بعد أن سألوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث، فقال: لا ولا ساعة واحدة، وتولى إخراجهم، وذهبوا إلى أذرعات بلدة بالشام، أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته في قوله لابن أبيّ «لا بارك الله لك فيهم».
ويذكر أن ابن أبيّ قبل خروجهم جاء إلى منزله يسأله في إقرارهم فحجب عنه، فأراد الدخول، فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه، فانصرف مغضبا، فقال بنو قينقاع: لا نمكث في بلد يفعل فيه بأبي الحباب هذا ولا تنتصر له وتأهبوا للجلاء. قال: وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة «رضي الله ع»، أي ولا مانع أن يكونا: أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم.
ووجد في منازلهم سلاحا كثيرا، أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود أموالا وأشدهم بأسا، وأخذ رسول الله ﷺ من سلاحهم ثلاث قسيّ، قوسا يدعى الكتوم: أي لا يسمع له صوت إذا رمى به، وهو الذي رمى به يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي وسيأتي ما فيه، وقوسا يدعى الروحاء، وقوسا يدعى البيضاء، وأخذ درعين: درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة، ويقال إنها درع داود التي لبسها حين قتل جالوت، والأخرى يقال لها فضة، وثلاث أرماح، وثلاثة أسياف: سيف يقال له قلعي، وسيف يقال له بتار، والآخر لم يسم انتهى أي وسماه بعضهم بالحيف، ووهب درعا لمحمد بن مسلمة، ودرعا لسعد بن معاذ «رضي الله ع» والله تعالى أعلم.
غزوة السويق
لما أصاب قريشا في بدر ما أصابهم نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة: أي لا يأتي النساء، ولعل هذه العبارة وهي لا يمس رأسه ماء من جنابة وقعت من بعض الصحابة. مراده بها ما ذكر من أنه لا يأتي النساء. ويؤيده ما جاء في بعض الروايات: لا يمس النساء والطيب حتى يغزو محمدا؛ أو أن ذلك قاله أبو سفيان، بناء على أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة.
ومن ثم ذكر الدميري أن الحكمة في عدم بيان الغسل في آية الوضوء كون الغسل من الجنابة كان معلوما قبل الإسلام بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فهو من الشرائع القديمة.
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغتسلون من الجنابة، ويغسلون موتاهم ويكفنونهم، ويصلون عليهم؛ وهو أن يقوم وليه بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه ويثني عليه، ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن.
وما ذكره الدميري تبع فيه السهيلي حيث قال: إن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم وإسماعيل، كما بقي فيهم الحج و النكاح، فكان الحدث الأكبر معروفا عندهم، ولذلك قال تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} فلم يحتاجوا إلى تفسيره. وأما الحدث الأصغر فلما لم يكن معروفا عندهم قبل الإسلام لم يقل وإن كنتم محدثين فتوضؤوا، بل قال {فاغسلوا} الآية.
فخرج أبو سفيان في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد. ثم أتى لبني النضير: أي وهم حي من يهود خيبر ينسبون إلى هارون أخي موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام تحت الليل، فأتى حيي بن أخطب، أي وهو من رؤساء بني النضير وهو أبو صفية أم المؤمنين «رضي الله ع»، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له، لأنه خافه، فانصرف عنه وجاء إلى سلام بن مشكم سيد بني النضير أي وصاحب كنزهم: أي المال الذي كانوا يجمعونه ويدخرونه لنوائبهم وما يعرض لهم أي وكان حليا يعيرونه لأهل مكة، فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به، ثم خرج إلى أصحابه، فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية من المدينة فحرقوا نخلا منها ووجدوا رجلا من الأنصار. قال في الإمتاع: وهذا الأنصاري هو معبد بن عمرو وحليفا لهم فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين، فعلم بهم الناس، فخرج رسول الله ﷺ في طلبهم في مائتين من المهاجرين والأنصار: أي واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر. وكان خروجه لخمس خلون من ذي الحجة.
وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب أي لأجله، فجعلوا يلقون جرب السويق أي وهو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن ليسفّ، تارة بماء، وتارة بسمن، وتارة بعسل وسمن وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون ولم يلحقوا بهم، وانصرف رسول الله راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام.
غزوة قرقرة الكدر
ويقال قرقرة الكدرة ويقال قراقر. فبلغ رسول الله ﷺ أن جمعا من بني سليم وغطفان بقرقرة الكدر: أي لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم كما تقدم. وقرقرة الكدر: أرض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بها ذلك الموضع، كما تقدم أن الماء الذي بأرضهم الذي بلغه ولم يجد به أحدا منهم يسمى الكدر، لوجود ذلك الطير به، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل لواءه عليّ بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم، وتقدم في تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أمّ مكتوم وتقدم ما فيه، فلما سار إليه أي إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم في بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة، منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروا بها إلى المدينة، فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها، فأخرجه خمسة وقسم الأربعة الأخماس على أصحابه، فخص كل رجل منهم بعيران، ووقع يسار في سهمه، فأعتقه لأنه رآه يصلي أي وقد أسلم، وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره، أي وفي كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة.
وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة، فعلم أنه غزا بني سليم؛ وأنه وصل إلى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به، وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أمّ مكتوم. وهنا وقع الجزم بالثاني، وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم.
وظاهر هذا يدل على التعدد، وجرى عليه الأصل، أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض. فعلى هذا يكون غزا بني سليم مرتين: مرة وصل فيه لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم، ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم، ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض، أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء.
وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر، فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة، أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها، فليتأمل. والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية؛ وسنذكرها.
غزوة ذي أمر
بتشديد الراء: اسم ماء، أي وسماها الحاكم غزوة أنمار، ويقال إنها غزوة غطفان.
بلغ رسول الله أن رجلا يقال له دعثور بضم الدال وإسكان العين المهملتين ثم مثلثة مضمومة ابن الحارث: أي الغطفاني من بني محارب جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بذي أمر: أي وهو موضع من ديار غطفان، أي ولعل به ذلك الماء المسمى بما ذكر كما تقدم، يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة، فخرج إليهم رسول الله ﷺ في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وأصاب أصحابه رجلا منهم: أي يقال له جبار، وقيل حباب بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله، فأخبره من خبرهم، أي وقال له: لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك إليهم هربوا في رؤوس الجبال، وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله ﷺ للإسلام فأسلم وضمه إلى بلال، أي وأخذ به ذلك الرجل طريقا وهبط به عليهم، فسمعوا بمسير رسول الله ﷺ فهربوا في رؤوس الجبال: أي فبلغوا ماء يقال له ذو أمرّ، فعسكر به، وأصابهم مطر أي كثير بلّ ثياب رسول الله ﷺ وثياب أصحابه فنزع رسول الله ﷺ ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا، واضطجع أي بمرأى من المشركين واشتغل المسلمون في شؤونهم فبعث المشركون دعثورا الذي هو سيد القوم وأشجعهم المجمع لهم: أي فقالوا له: قد انفرد محمد فعليك به أي وفي لفظ أنه لما رآه قال: قتلني الله إن لم أقتل محمدا، فجاء دعثور ومعه سيفه حتى قام على رأس رسول الله، ثم قال: من يمنعك مني اليوم؟ وفي رواية الآن، فقال رسول الله ﷺ الله، دفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده، أي بعد وقوعه على ظهره، فأخذ السيف رسول الله ﷺ وقال له: من يمنعك مني؟ قال لا أحد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أتى قومه أي بعد أن أعطاه سيفه فجعل
يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفع في صدره فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك فأسلمت، ونزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم} الآية، ثم أقبل رسول الله ﷺ إلى المدينة ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة.
غزوة بحران
بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة، وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم.
لما بلغه أن بيحران: موضع بالحجاز معروف، بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه لستٍ خلون من جمادي الأولى، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، أي وكان قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم تفرقوا، فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك، فأطلق الرجل، وأقام بذلك المحل أياما، ثم رجع ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال.
وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات: مرة عقب بدر، وهذه الغزوة، وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة.
وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان «رضي الله ع»، على أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ بعد موت أختها رقية، وتقدم وقت موتها.
وعقد على حفصة بنت عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر، بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء، فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال له رسول الله «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان» فتزوج عثمان أم كلثوم، وتزوّج حفصة.
وتزوّج أيضا زينب بنت خزيمة في رمضان. وتزوّج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة.
وقيل تزوّجها في السنة الرابعة، وصححها في الأصل. وقيل في الخامسة، وكان اسمها برة بفتح الموحدة، واسم أمها بُرة بضمها، فغير اسمها وسماها زينب، وقال لها «لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا، ولكن قد سميته جحشا» أي والجحش في اللغة السيد.
وقد كان جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة، فقالت: لست بناكحته، قال: بل فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر: أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا، فأنزل الله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الآية، فقالت عند ذلك رضيت.
وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي فزوّجها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله ﷺ فزوجها عبده فنزلت الآية.
أي وعن مقاتل «أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوّج زينب جاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله اخطب علي؟ قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، فقال له: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نسبا، فقال: يا رسول الله ﷺ إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، قال: إنها امرأة لسناء» أي فصيحة، والمراد لسانها طويل، فذهب زيد إلى علي «رضي الله ع»، فحمله على أن يكلم له النبي، فانطلق معه عليّ إلى النبي ﷺ فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل، ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي ﷺ يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فانكحوه، وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله. ثم بعد ذلك جاء بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: ليس هو هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله، أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم، أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها إلى أن طلقها.
فعنها «رضي الله ع»: لما وقعت في قلب النبي ﷺ لم يستطعني زيد وما امتنعت منه، وصرف الله تعالى قلبه عني، وجاءه يوما وقال له: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك، فقال: استطالت عليّ، فقال له إذن طلقها فطلقها. فلما انقضت عدّتها أرسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها عليّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي: أي أستخيره. فبينا رسول الله ﷺ جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوّجه زينب، فسريّ عنه وهو يبتسم، وهو يقول: من يذهب إلى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء؟ وجاء إليها رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن، قالت: دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد؛ قال: الله المزوج، وجبريل الشاهد، أي وأنزل الله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك} الآية، فهذه الآية نزلت في زيد «رضي الله ع» وقد قالها في حق ولده أسامة، فقد جاء «أحب أهلي إليّ من أنعم الله وأنعمت عليه أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب» فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامة الإسلام. ونعمة النبي ﷺ عليهما العتق، لأن عتق أبيه عتق له تأمل.
وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكا إليه زيد قال له {أمسك عليك زوجك واتق الله} وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره، وهو ما أعلمه الله به من أنك ستتزوّجها، فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به {وتخشى الناس} أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه {والله أحق أن تخشاه} في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه.
وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوّج النبي ﷺ إياها لإزالة حرمة التبني. قال تعالى {لئلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم}. وأولم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاة وأطعم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فشق ذلك على رسول الله.
ففي البخاري «فجعل النبي ﷺ يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون» وفي البخاري أيضا «فخرج النبي، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، ثم دخل حجر نسائه كلهنّ يقول كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي ﷺ فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس «رضي الله ع»: وكان النبي ﷺ شديد الحياء، فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب». قال في الكشاف وهي أدب الله تعالى به الثقلاء.
وفي مسلم عن عائشة «رضي الله ع» قالت «خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع: محل كان أزواجه يخرجن إليه بالليل للتبرز، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله ﷺ في بيتي ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله تعالى إليه، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة «رضي الله ع»، فأنزل الله الحجاب، وفيه أنه تقدم عنها أن قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب.
وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجنّ للبراز فلا ترى أشخاصهنّ، والحجاب المتقدم عدم رؤية شيء من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل.
وعن عائشة «رضي الله ع» قالت «دخلت على زينب بنت جحش وعندي رسول الله، فأقبلت عليه، فقالت له: ما كل واحدة منا عندك إلا على خلاء: أي على ما أردت، ثم أقبلت عليّ تسبني فردعها النبي ﷺ فلم تنته. فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله ﷺ يتهلل سرورا» أي وفي يوم غضب رسول الله ﷺ على زينب لقولها في صفية بنت حيي: تلك اليهودية، فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان معها.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت «أرسل أزواج النبي ﷺ فاطمة بنت النبي ﷺ تستأذن والنبي ﷺ معي، فأذن لها فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة» أي أن تعدل بينهنّ وبينها «فقال النبي ﷺ: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى، قال فأحبي هذه يعنيني، فقامت فاطمة فخرجت فجاءت أزواج النبي ﷺ فحدثتهنّ بما قالت وبما قال لها فقلن لها: ما أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى النبي، فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا.
فأرسل أزواج النبي ﷺ زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها، فدخلت فقالت: يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت: أي زينب بي تسمعني ما أكره، فطفقت أنظر إلى النبي ﷺ حتى يأذن لي فيها، فلم أزل حتى عرفت أن النبي ﷺ لا يكره أن أنتصر، فوقعت بها أسمعها ما تكره، فتبسم النبي ﷺ وقال لها: إنها ابنة أبي بكر» أي محل الفصاحة والشهامة.
وسبب ذلك أي طلبهنّ أن يعدل بينهن وبين عائشة أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله.
غزوة أحد
وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور. وشذ من قال سنة أربع. وأحد جبل من جبال المدينة، قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك، وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزة ومن فيه من الشهداء. وهو على نحو ميلين، وقيل على ثلاثة أميال من المدينة؛ يقال إن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، وفيه قبض، فواراه موسى به. وكانا قدما حاجين أو معتمرين.
وعن ابن دحية أن هذا باطل بيقين، وأن نص التوراة أنه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام.
وقد يقال لا مخالفة، لأنه يقال المدينة شامية، وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم.
قال «إن أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه، إذا مررتم به فكلوا من شجره ولو من عضاهه» أي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك. والقصد الحث على عدم إهمال الأكل من شجرة تبركا به.
وقال «أحد ركن أركان من أركان الجنة» أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية «على باب من أبواب الجنة» ولا يخالف ما قبله، فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب. وفي رواية «جبل من جبال الجنة» ولا مانع أن تكون المحبة من الجبل على حقيقتها، وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود "عليه السلام"، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها {وإن منها لما يهبط من خشية الله}.
وقيل هو على حذف مضاف: أي يحبنا أهله وهم الأنصار. أو لأن اسمه مشتق من الأحدية، وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال. وقيل أفضلها عرفة. وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى. وقيل قاف.
ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبدالله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية «رضي الله ع»، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ورجال أخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا، وإلى من كان له تجارة في تلك العير: أي التي كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم: أي قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا: أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال، فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينار أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار. وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار، وأنزل الله تعالى في تلك {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}.
وتجهزت قريش من والاهم من قبائل كنانة وتهامة. وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك، ولك عليّ إن رجعت أن أغنيك، وأن أصبت أجعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ أي وأخذ علي أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال بلى فأعنا بلسانك.
فخرج أبو عزة ومسافع يستنقران الناس بأشعارهما. فأما مسافع فلا يعلم له إسلام، لكن في كلام ابن عبد البر: مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة، وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره. وأما أبو عزة فظفر به رسول الله ﷺ بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد: أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا، وتقدم استطرادا، ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي، وتقدم استطرادا.
ودعا جبير بن مطعم بن عدي «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطىء بها، فقال له: أخرج مع الناس، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي فأنت عتيق، أي لأن حمزة هو القاتل له. وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة، وإن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإني لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق، وخرج معهم النساء بالدفوف.
وفي كلام سبط بن الجوزي: وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا، هذا كلامه. وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة: أي مع أزواجهن. ومنهنّ هند زوج أبي سفيان «رضي الله ع»، فإنها أسلمت بعد ذلك. أي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة «رضي الله ع»، فإنهما أسلما بعد ذلك، وسلافة مع زوجها طلحة ابن أبي طلحة، وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم، يحرضنهم على القتال، وعدم الهزيمة والفرار. وبلغ رسول الله ﷺ ذلك أرسل به إليه عمه العباس، أي بعد أن راودوه على الخروج معهم، فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشيء، وذلك في كتاب جاء إليه وهو بقباء، أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك، فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا، ونزل على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس، أي فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، فلما خرج رسول الله ﷺ من عنده قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله؟ فقال لها: لا أم لك وأنت وذاك؟ فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله، فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه فأخبره خبرها وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال له رسول الله ﷺ خلّ عنها.
وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل. وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش، وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس. قال في الأصل: والأحابيش الذين حالفوا قريشا، وهم: بنو المصطلق وبنو الهون ابن خزيمة، اجتمعوا عند حبشي، وهو جبل بأسفل مكة، وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي مكانه، فسموا أحابيش باسم الجبل. وقيل سموا بذلك لتحبشهم: أي تجمعهم، وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة آلاف بعير وسبعمائة ذرع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة: أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه، أي وأرجفت اليهود والمنافقون، فبعث رسول الله ﷺ عينين له: أي جاسوسين فأتيا رسول الله ﷺ بخبرهم.
ويقال إن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاءوا إلى النبي ﷺ وأخبروه خبرهم وانصرفوا. ولما وصلوا: أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه، والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان «رضي الله ع»، فقالت: لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها: أي جزء من أجزائها، فقال بعض قريش: لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم، وحرست المدينة، وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله حتى أصبحوا.
ورأى رسول الله ﷺ رؤيا قال: «رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذبابة سيفي: أي وهو ذو الفقار «ثلما» بإسكان اللام. وفي لفظ «وكأن ظبة سيفي انكسرت» وفي لفظ «ورأيت سيفي ذا الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته، وهما مصيبتان. ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة» وفي رواية «ورأيت أني في درع حصينة أي وأني مردف كبشا. قال بعد أن قيل له ما أولتها؟ قال: قال: فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون» وفي لفظ «أولت البقر بقرا يكون فينا. وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي» أي وفي رواية «من عترتي يقتل» وفي رواية «رأيت أن سيفي ذا الفقار فلّ، فأولته فلا فيكم» أي وفلول السيف كسور في حده، وقد حصل في حد سيفه كسور، وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان ذلك علامة على وجود الأمرين. وأما الدرع الحصينة فالمدينة: أي وأما الكبش فإني أقتل كبش القوم: أي حاميهم وقال لأصحابه: إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها، أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فهي كالحصن، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار. قال: ووافق على ذلك عبدالله ابن أبي سلول، أي فإن رسول الله ﷺ أرسل يستشيره ولم يستشره قبل ذلك، قال: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها إلا أصبنا منه، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرّ مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كماجاؤوا. ا هـ.
وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه دعا عبدالله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره، فقال: يا رسول الله أخرج بنا إلى هذه الأكالب، إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ، وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد. وقال رجال: أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدوّ وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر، أخرج بنا إلى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا، أي فيكون ذلك جراءة منهم علينا، والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا.
وفي لفظ أن الأنصار قالوا: يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبد المطلب. وقال للنبي: والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، كل ذلك ورسول الله ﷺ كاره للخروج، فلم يزالوا برسول الله ﷺ حتى وافق على ذلك، فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثم صلّى بالناس العصر وقد حشدوا: أي اجتمعوا؛ وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله ﷺ بيته ومعه أبو بكر وعمر «رضي الله ع» فعمماه وألبساه، وصف الناس ينتظرون خروجه، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله ﷺ على الخروج فردّوا الأمر إليك، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله ﷺ وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع، وهما: ذات الفضول، وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم، وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه سعد بن عبادة «رضي الله ع» حين سار إلى بدر، وهي التي مات عنها وهي مرهونة عند اليهودي، وأفتكها أبو بكر «رضي الله ع»، وأظهر الدرع وحزم وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه: وأنكر الإمام أبو العباس ابن تيمية أنه تمنطق حيث قال: لم يبلغنا أن النبي ﷺ شد وسطه بمنطقة.
وقد يقال: مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها. وفيه رد على بعضهم في قوله: كان له منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة، والطرف من فضة.
وقد يقال: لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل.
وتقلد السيف، وألقى الترس في ظهره، أي وفي رواية: فركب فرسه السكب، وتقلد القوس، وأخذ قناته بيده، أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك، فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك. ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت. وفي رواية: فإن شئت فاقعد، أي وقال: قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه، أي وفي رواية: حتى يقاتل.
وأخذ منه أن يحرم على النبي نزع لأمته إذا لبسها حتى يلحق العدوّ ويقاتل، وبه قال أئمتنا: أي وقيل إنه مكروه واستبعد. وقوله «وما ينبغي لنبي» يقتضي أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك، أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن، وذلك ممتنع على الأنبياء قاله في النور.
وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له، لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات.
وعقد ثلاثة ألوية: لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير، ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل بيد مصعب بن عمير، أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين؟ فقيل طلحة بن أبي طلحة: أي من بني عبد الدار، فأخذه من علي ودفعه لمصعب بن عمير، أي لأن مصعب ابن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم؛ وسيأتي. ولواء للخزرج. كان بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن عبادة.
وخرج في ألف، وقيل تسعمائة، ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبدالله ابن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة، فبقي سبعمائة من أصحابه منهم مائة دارع. وخرج السعدان أمامه يعدوان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، أي وسار إلى أن وصل رأس الثنية، أي وعندها وجد كتيبة كبيرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء حلفاء عبدالله بن أبي ابن سلول من يهود، فقال: أسلموا؟ فقيل لا، فقال: إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك فردهم: أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع، فلا يقال هذا إنما يأتي على أن إجلاء بني قينقاع كان بعد أحد، لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدّم، لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع.
وسار وعسكر بالشيخين، وهما أطمان: أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فردّ جمعا: أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة، بل أربع عشرة سنة، كذا نقل عن إمامنا الشافعي «رضي الله ع»، ونقل عنه بعضهم أنه قال: لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة: منهم عبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأسيد بن ظهير، وعرابة بن أوس، خلافا لمن أنكر صحبته، وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ** إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ماراية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين
وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب: إن بيوتنا عورة كما سيأتي، وأبو سعيد الخدري، وسعد بن خيثمة «رضي الله ع»، أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار، ورافع بن خديج، وسمرة بن جندب.
ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل له إنه رام، وأصيب في ذلك اليوم بسهم، فقال رسول الله ﷺ: أنا أشهد له يوم القيامة، ومات في زمن عبد الملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح، وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه: أجاز رسول الله ﷺ رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه، فأعلم بذلك رسول الله، فقال تصارعا، فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه.
وممن رده يوم أحد لصغر سنه سعد ابن حبتة، عرف بأمه حبتة؛ فلما كان يوم الخندق رآه يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله؛ فكان عما لأربعين، وخالا لأربعين، وأبا لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة «رضي الله ع»، وتقدم في بدر أنه رد زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم. وأسيد بن ظهير، فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس، فأذن بلال بالمغرب، فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه، ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات، واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر، ونام رسول الله، أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال: من يحفظنا الليلة حتى كان السحر.
وجاء أنه قال «لقد رأيت» أي في النوم «الملائكة تغسل حمزة «رضي الله ع»، وأدلج رسول الله في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط» حائط بين المدينة وأحد، ومن ذلك المكان رجع عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلاثمائة رجل، وهو يقول: عصاني وأطاع الولدان ومن لا أرى له علما ما ندري علام نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس فرجعوا، فتبعهم عبدالله بن عمرو ابن حرام وهو والد جابر «رضي الله ع»، وكان في الخزرج كعبدالله بن أبي يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة: قومكم ونبيكم: أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وأبوا إلا الانصراف، فقال لهم: أبعدكم الله أي أهلككم الله أعداء الله، فسيغني الله تعالى عنكم نبيه. وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا، إلا أن يقال على فرض أنه يقع قتالا، علام نقتل أنفسنا.
فلما رجع عبدالله بن أبي ابن سلول بمن معه، قالت طائفة: نقتلهم، وقالت طائفة أخرى: لا نقتلهم وهما أن يقتتلا، والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج، فأنزل الله تعالى {فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم} أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبدالله بن أبي قد خذل، هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله، وأنزل قوله تعالى {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} الآية فبقي مع رسول الله ﷺ سبعمائة رجل.
ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله: ويقال إن النبي ﷺ أمرهم بالانصراف لكفرهم، بمكان يقال له الشوط، لأن الذين ردهم لكفرهم حلفاء عبدالله بن أبيّ ابن سلول من يهود، وكان رجوعهم قبل الشوط. والذين رجع بهم عبدالله كانوا منافقين، ورجوعه بهم كان من الشوط، ولم يكن مع المسلمين يومئذٍ إلا فرسان: فرس لرسول الله، وفرس لأبي بردة. وقيل لم يكن معهم فرس، أي وهذا القيل نقله في (فتح الباري) عن موسى بن عقبة وأقرّه. وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي: يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود: أي يهود المدينة، ولعلهم عنوا بهم بني قريظة، لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الأوس.
وقال بعضهم: كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين، فقال: لا حاجة لنا فيهم.
أقول: وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله «إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» والله أعلم.
وقال لأصحابه: من يخرج بنا على القوم من كثيب: أي من طريق قريب لا يمرّ بنا عليهم، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب، أي في وجوههم، ويقول: إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي، وفي يده حفنة من تراب وقال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك، فابتدر إليه سعد بن زيد فضربه بالقوس في رأسه فشجه، وأراد القوم قتله، فقال رسول الله ﷺ: لا تقتلوه، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر» أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه: أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبدالله بن أبيّ، فهمّ بهم أسيد بن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله ﷺ بترك ذلك ومضى رسول الله ﷺ حتى نزل الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. قال: واستقبل المدينة، وصف المسلمين في جبل أحد: أي بعد أن بات به تلك الليلة، وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام، وصلى رسول الله ﷺ بأصحابه صفوفا، وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد.
ومن جملة ما ذكر فيها «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا». وفي رواية «إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض» بالرفع، وعليها فالمستثنى محذوف: أي إلا أربعة. وما ذكر بدل منها، قال «ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غني حميد، ما أعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه، وإنه قد نفث: أي أوحى وألقى «في روعي» بضم الراء أي قلبي «الروح الأمين» أي الذي هو جبريل «إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله ربكم وأجملوا» أي أحسنوا «في طلب الرزق، لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله، والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم» انتهى.
أي ولما أقبل خالد بن الوليد «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة ابن أبي جهل «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم، بعث رسول الله ﷺ الزبير بن العوام وقال له: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه، وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين، لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلا فرس أو إلا فرسان.
أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال، لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال، وكان الرماة خمسين رجلا، وأمر عليهم عبدالله بن جبير وقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا.
أي وفي رواية «إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم» زاد في رواية «وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا». قال وفي رواية أنه قال: أي للرماة «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل. فإن الخيل لا تقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» انتهى.
وأخرج رسول الله ﷺ سيفا أي وكان مكتوبا في أحدى صفحتيه.
في الجبن عار وفي الإقبال مكرمة ** والمرء بالجبن لا ينجو من القدر
وقال «من يأخذ هذا السيف بحقه، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم من جملتهم علي «رضي الله ع» قام ليأخذه، فقال: اجلس، وعمر «رضي الله ع» فأعرض عنه والزبير «رضي الله ع»، أي وطلبه ثلاث مرات، كل ذلك ورسول الله ﷺ يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال تضرب به في وجه العدوّ حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه، فدفعه إليه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب» أي يمشي مشية المتكبر «وحين رآه رسول الله ﷺ يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن» أي لأن فيها دليلا على عدم الاكتراث بالعدوّ.
وعند اصطفاف القوم نادى أبو سفيان بن حرب: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين بني عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم، ولعنوه أشد اللعن. قال: وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعا للبراز، فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاثا، فقام إليه الزبير، فوثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه، فاقتتلا فوق البعير، فقال رسول الله ﷺ: الذي يلي حضيض الأرض مقتول، فوقع المشرك، فوقع عليه الزبير فذبحه، فأثنى عليه رسول الله ﷺ وقال «لكل نبي حواري، وإن حواري الزبير» وقال «لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه» لما رأى من إحجام الناس عنه انتهى.
وخرج رجل من المشركين بين الصفين، أي وهو طلحة بن أبي طلحة، وأبو طلحة والده اسمه عبدالله بن عثمان بن عبد الدار، وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين، لأن اللواء كان لوالدهم عبد الدار كما تقدم. وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد. فقال: يا أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النار؟ أو أعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم، واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إليّ بعضكم، فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين، فقتله علي «رضي الله ع».
أي وفي رواية: فالتقيا بين الصفين فبدره عليّ فصرعه أي قطع رجله ووقع على الأرض وبدت عورته. فقال: يا بن عمي أنشدك الله والرحم، فرجع عنه ولم يجهز عليه. فقال له بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم، وعرفت أن الله قد قتله.
وفي رواية قال له رسول الله «ما منعك أن تجهز عليه؟ فقال: ناشدني الله والرحم، فقال: اقتله، فقتله».
أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين: الأولى حمل على بسر بن أرطأة، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته، فانصرف عنه. والثانية حمل على عمرو بن العاص، فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرّم الله وجهه.
فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة، وعثمان هذا هو أبو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره، فرجع حمزة وهو يقول: أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبد المطلب، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة؛ فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة بن أبي طلحة الذي قتله علي «رضي الله ع»، فرماه عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فقتله، ثم حمله أخو مسافع وهو الحرث بن طلحة، فرماه عاصم فقتله، أي فكانت أمهما وهي سلافة معهما، وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه ويضع رأسه في حجرها فتقول له: يا بني من أصابك؟ فيقول: سمعت رجلا حين رماني يقول: خذها وأنا ابن أبي الأفلح، فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر، وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الإبل.
وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع، فحمله أخو مسافع وأخو الحرث وهو كلاب ابن طلحة، فقتله الزبير، أي وقيل قزمان، فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة، فقتله طلحة بن عبيدالله، فكل من مسافع والحرث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة؛ وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد.
وعند ذلك حمله أرطأة بن شرحبيل، فقتله علي بن أبي طالب، وقيل حمزة، فحمله شريح بن قارظ، فقتل أي ولم يعرف قاتله، ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف ابن هاشم بن عبد الدار، فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم، فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم: أي وكان حبشيا، فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه: أي قتله قزمان. وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي.
وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء: أي لواء المشركين من بني عبد الدار يحرضهم على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم تركتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا؟ ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان.
قال ابن قتيبة: ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبد الدار {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون}.
ولما صرع صاحب لواء المشركين: أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي ﷺ وأصحابه: أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش: أي حاميهم الذي رآه النبي ﷺ في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال: أوّلت ذلك أني أقتل كبش الكتيبة، فهذا كبش الكتيبة.
وعند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة، فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم: أي أزالوهم عن أثقالهم، أي وكان شعار المسلمين يومئذٍ: أمت أمت، وشعار الكفار: يا للعزى، وهي شجرة كانوا يعبدونها: يا لهبل، وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك، وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أوّل الأمر كان داخل الكعبة ثم أخرج منها وجعل بجانبها.
أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، فقال: من يبارز؟ فنهض إليه أبو بكر شاهرا سيفه، فقال له رسول الله ﷺ شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك، وتقدم طلب عبد الرحمن للمبارزة أيضا في يوم بدر، وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز، وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين: أي طلب المبارزة من الصدّيق لولده عبد الرحمن، وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق.
وقد وقع الصديق «رضي الله ع» أن العرب لما ارتدت بعد موته خرج مع الجيش شاهرا سيفه، فأخذ علي «رضي الله ع» بزمام راحلته وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك كما قال لك رسول الله ﷺ يوم أحد: شم سيفك، ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا، فرجع وأمضى الجيش.
وفي أوّل الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات، كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة، وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم: أي أضعفوهم قتلا، فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن
ويها بني عبد الدار ** ويها حماة الأدبار
صُربا بكل بتار وويها: كلمة إغراء وتحريض، كما تقول: دونك يا فلان. والأدبار: الأعقاب، أي الذين يحمون أعقاب الناس، والبتار: السيف القاطع، ويقلن:
نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق
مشى القطا النوازق ** والمسك في المفارق
والدر في المخانق ** إن تقبلوا نعانق
ونفرش النمارق ** أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
والطارق: النجم، قال تعالى {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب} قيل هو زحل: أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم. واعترض بأنها لو أرادت النجم قالت: نحن بنات الطارق.
ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق، وحينئذ فليس المراد بطارق النجم، وإنما هو الرجل المعروف، كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف.
وعن بعضهم قال: جلست بمكة وراء الضحاك، فسئل عن قول هند يوم أحد: نحن بنات طارق، ما طارق؟ فقلت: هو النجم، فقال لي: كيف ذلك؟ فقلت له: قال الله تعالى {والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق} والنمارق: الوسائد الصغار.
والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه، والوامق المحب، أي فراق غير محب، لأن غير المحب لا يرجع إذا غضب، بخلاف المحب. ومن ثم قيل: غضب المحب في الظاهر مهابة سيف، وفي الباطن كسحابة صيف.
قال: وكان إذا سمع ذلك: أي تحريض هند بما ذكر يقول «اللهم بك أحول» بالحاء المهملة، أي أمنع «وبك أصول، وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» انتهى.
أي وفي رواية «كان رسول الله ﷺ إذا لقي العدو قال: اللهم بك أصاول؛ وبك أحاول» أي أطالب.
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس. فعن الزبير قال: وجدت، أي غضبت، في نفسي حين سألت رسول الله ﷺ السيف: أي الذي قال فيه: من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، فقلت: والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء: أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها {نصر من الله وفتح قريب} وفي طرفها الآخر: الجبانة في الحرب عار، ومن فرّ لم ينج من النار، فعصب بها رأسه فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها، فجعل لا يلقي أحدا إلا قتله أي وكان إذا كلّ ذلك السيف يشحذه: أي يحده بالحجارة، ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل، وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذنف عليه: أي أسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند: أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها.
قال أبو دجانة: رأيت إنسانا يحمس الناس: أي بالسين المهملة حمسا شديدا: أي يشجعهم، وبالشين المعجمة: يوقد الحرب ويثيرها، فعمدت إليه، فلما حملت عليه بالسيف ولول: أي دعا بالويل: أي قال: يا ويلاه، فعلمت أنه امرأة، فأكرمت سيف رسول الله ﷺ أن أضرب به امرأة.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا، ومرّ به سباع بن عبد العزى، فقال له حمزة: هلم أي أقبل، يا ابن مقطعة البظور، لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة.
أي وفي البخاري «يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحادّ الله ورسوله؟ » أي تحاربهما وتعاندهما.
وفيه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز، فخرج إليه حمزة، فشدّ عليه، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله. وفي رواية: فكان كأمس الذاهب. أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة.
وفيه أنه سيأتي عن الأصل: وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا، وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه. قال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة: يهدم وبالدال المعجمة: يقطع. أي وقد عثر حمزة، فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته بالمثلثة: وهو موضوع تحت السرة وفوق العانة. وفي لفظ: فندرته حتى خرجت من بين رجليه، فأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئته فأخذت حربتي، ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي في شيء حاجة غيره.
أي وفي لفظ آخر: كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله ﷺ بسيفين وهو يقول: أنا أسد الله، فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره، فانكشفت الدرع عن بطنه، فطعنه وحشي الحبشي بحربته.
ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد، ولم يقدر أحد يدنو منه، انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء، ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف، وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهنّ، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم، ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم أن لا يفارقوه، ونهاهم أميرهم عبدالله بن جبير، فقالوا له: انهزم المشركون فما مقامنا هاهنا؟ وانطلقوا ينتهبون. وثبت عبدالله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال: لا أجاوز أمر رسول الله. فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم، فكرّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع» فإنهما أسلما بعد ذلك، فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبدالله بن جبير أي ومثلوا به. ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين. فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر، إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها: يا للعزى يا لهبل، ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون. وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا، وخلوا من أسروا، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار: أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل، وعند الاختلاط وهو: أمت أمت مما أصابهم من الدهش والحيرة، ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم، فلاثوا، أي بالمثلثة: استداروا به واجتمعوا عنده، ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة إن محمدا قد قتل. وقيل المنادي بذلك إبليس: أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل ابن سراقة، وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما، وكان من أهل الصفة. قيل وهو الذي غير النبي ﷺ اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول، وشهدت له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ. وقيل المنادي بذلك إزب العقبة، قال ذلك ثلاث مرات، أي لأنه لما بلغ رسول الله ﷺ ما صرخ الشيطان به قال: هذا إزب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي، والإزب: القصير كما تقدم.
وقد ذكر أن عبدالله بن الزبير رأى رجلا طوله شبران على رحله فقال: ما أنت؟ قال إزب، قال: ما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب، أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة، وهم ابن قمئة، وإبليس وإزب العقبة، فرجعت الهزيمة على المسلمين، أي وقال قائل: يا عباد الله أخراكم: أي احترزوا من جهة أخراكم، فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها. وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله ﷺ ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم. وقال آخرون: إن كان رسول الله ﷺ قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء.
أي وفي (الإمتاع) أن ثابت بن الدحداح: قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار «رضي الله ع».
وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة وخارجة بن زيد ورفاعة ابن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم رجعوا إلى رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: ذهبتم فيها عريضة، وأنزل الله تعالى {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، ولقد عفا الله عنهم} قال: وقال جماعة: ليت لنا رسولا إلى عبدالله بن أبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة، فلقيتهم أم أيمن «رضي الله ع» فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم: هاك المغزل فاغزل به، وهلم سيفك ا هـ: أي أعطني سيفك، أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان: طائفة لم تدخل المدينة، وأخرى دخلتها. وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى.
أي فقد جاء «أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي الجرحى فوقعت وتكشفت فأغرق عدوّ الله في الضحك، فشق ذلك على رسول الله ﷺ فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به، فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد» أجاب الله دعوته، أي وفي رواية: «اللهم استجب لسعد إذا دعاك، فكان مجاب الدعوة. وقد يقال: لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة.
وقال رجال: أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبدالله ابن أبي ابن سلول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول.
وفي النهر أن فرقة قالوا نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين.
قال: وعن الزبير بن العوام «رضي الله ع». قال: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ يوم أحد حين اشتدّ علينا الخوف وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير. أي ويقال ابن بشير، وكان ممن شهد العقبة: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا فحفظتها، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا} الآية.
وعن كعب بن عمرو الأنصاري «رضي الله ع». قال: لقد رأيتني يومئذٍ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله ﷺ وقد أصابنا النعاس أمنة منه، أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن، ما منهم أحد إلا غط غطيطا، حتى إن الجحف: أي الدرق تتناطح. ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر، وإن المشركين لتحثنا ا هـ وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لا فيه على ما تقدم. وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان.
وثبت لما تفرقت عنه أصحابه، وصار يقول: إليّ يا فلان، إليّ يا فلان أنا رسول الله، فما يعرّج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه.
أي وفي الإمتاع أنه قال «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، أنا ابن العواتك» فليتأمل. فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد.
وثبت مع رسول الله ﷺ جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمرّ بين يدي النبي ﷺ يحوز عنه بحجفته. وكان رجلا راميا شديد الرمي، فنثر كنانته بين يدي رسول الله، أي وصار يقول: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، فلم يزل يرمي بها. وكان الرجل يمرّ بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول انثرها لأبي طلحة، أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة، وصار رسول الله ﷺ يشرف: أي ينظر إلى القوم. وفي لفظ: ليرى مواضع النبل، فيقول له أبو طلحة: يا نبي الله بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك انتهى، أي ويتطاول أبو طلحة بصدره يقي رسول الله ﷺ.
واستدل بذلك على أن من خصائصه أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته على حياته. قال: فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره، وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله: نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد: نحري دون نحرك، ولا زال يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا: أي ذهب منها قطع.
وفي رواية: رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، والسية: ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر. قال: وما زال يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس، فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له. فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: مده يبلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس، ورمى بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم ا هـ.
أي وأنكر الإمام أبو العباس بن تيمية كونه رمى عن قوسه حتى صارت شظايا، أي لأنه يبعد وجود رميه من غير إصابة، ولو أصاب أحد لذكر، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقاتل جماعة من أصحابه منهم سعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه. قال سعد: لقد رأيته: يعني النبي ﷺ يناولني النبل ويقول «ارم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارم به. وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم أيمن.
قال: وفي رواية عن سعد قال «أجلسني رسول الله ﷺ أمامه، فجعلت أرمي وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوّك، ورسول الله ﷺ يقول: اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته، وأجب دعوته، حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله ﷺ ما في كنانته» ا هـ أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم.
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر «رضي الله ع»، أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة، فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا وأثنى عليه معروفا، حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال: لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. فلما بلغ سعدا ذلك قال: اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره، وأدم فقره، وأعم بصره، وعرضه للفتن، فعمي، وافتقر، وكبر سنه، وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة؛ فإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ يقول: شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قيل لسعد: لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة؟ فقال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين جاءت، ومن أين خرجت؟ أي لأنه جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «تليت عند رسول الله ﷺ هذه الآية {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} فقام سعد بن أبي وقاص وقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال: والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما».
وقد جاء في الحديث «من كان مأكله حراما، ومشربه حراما، وملبسه حراما فأنى يستجاب له» فليتأمل هذا الجواب.
وقد يقال: مراد سعد بقوله: ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة.
ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب. ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل، وجوابه بقوله «والذي نفس محمد بيده» تقرير لما فهمه سعد «رضي الله ع» أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل.
والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي ﷺ له بذلك، ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة، لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي ﷺ له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل.
وفي الشرف «أن سعدا «رضي الله ع» رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله ﷺ يقول له ارم فداك أبي وأمي، ففداه في ذلك اليوم ألف مرة».
وعن على كرم الله وجهه «ما سمعت رسول الله ﷺ قال فداك أبي وأمي إلا لسعد «رضي الله ع»» وفي رواية «فما جمع أبويه لأحد إلا لسعد «رضي الله ع»».
قال في النور: الرواية الأولى أصح، لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع، أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبدالله بن الزبير «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ جمع لأبيه الزبير «رضي الله ع» بين أبويه، أي قال له فداك أبي وأمي كسعد» أي وذلك في يوم الخندق حيث أتاه بخير بني قريظة، وكذا الرواية الثانية لا تخالف، لأنها محمولة على سماعه.
وعلى الأخذ بظاهرها، وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور: ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد.
وكان يفتخر بسعده فيقول: «هذا سعد خالي، فليرني امرؤ خاله» لأن سعدا «رضي الله ع» كان من بني زهرة، وكانت أم النبي ﷺ منهم كما تقدم: أي «وكان «رضي الله ع» إذا غاب يقول رسول الله ﷺ: مالي لا أرى الصبيح المليح الفصيح؟ ».
ولما كف بصره «رضي الله ع» قيل له: لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك، فقال: قضاء الله أحب إليّ من بصري.
ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» دعا بخلق جبة من صوف فقال: كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر، وإنما كنت أخبئها لهذا.
وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف «رضي الله ع»، وكان ممن ثبت مع النبي ﷺ في هذا اليوم الذي هو يوم أحد. قال بعضهم: وكان بايعه يومئذٍ على الموت، فثبت معه حتى انكشف الناس عنه، وجعل ينضح بالنبل يومئذٍ عن رسول الله ﷺ وقال: نبلوا سهيلا: أي أعطوه النبل.
وجاء «أن خاله وهو الأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي ﷺ فقال النبي ﷺ: يا خالي ادخل، فدخل فبسط له رداءه وقال: اجلس عليه إن الخال والد، يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر، فإنه إذا ذكر فقد شكر» وقال له «ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به؟ قال بلى، قال: إن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق».
وعن أم عمارة المازنية «رضي الله ع»: أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور، زوج زيد بن عاصم «رضي الله ع» قالت «خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ما أسقي به الجرحى، فانتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو في أصحابه والربح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله. فقمت أباشر القتال، وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إليّ ورؤى على عاتقها جرح أجوف له غور، فقيل لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة، لما ولى الناس عن رسول الله ﷺ أقبل يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، فضربني هذه الضربة وضربته ضربات، ولكن عدو الله كان عليه درعان».
قال: وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد بن عاصم وابناهما خبيب وعبدالله «رضي الله ع» وقال لهم رسول الله «رحمكم الله أهل البيت». وفي رواية «بارك الله فيكم أهل بيت» قالت له أم عمارة «رضي الله ع»: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة: أي وعند ذلك قالت «رضي الله ع»: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا».
وقال في حقها «ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني» ا هـ أي وقد جرحت «رضي الله ع» اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف، وعبدالله ابنها «رضي الله ع» هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله.
فعنها «رضي الله ع» قالت: يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة، وما كان لي ناهية: أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا، وإذا ابني عبدالله بن زيد يمسح سيفه بثيابه، فقلت: أقتلته؟ فقال نعم، فسجدت لله شكرا.
ولا ينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي. فعن وحشي «رضي الله ع» قال: قال لي رسول الله ﷺ: أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف وأسلم كما سيأتي «يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله، فلما كان خروج المسلمين لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولي الصديق «رضي الله ع» ا لخلافة وارتدت العرب، خرجت معهم فأخذت حربتي، فلما رأيته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى، كلانا يريده، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله قال بعضهم: والأنصاري هو عبدالله بن زيد أي كما تقدم، وقيل غيره.
أي وفي كلام بعضهم: اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة، وعبدالله بن زيد، ووحشي «رضي الله ع». وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله الاقتصار على وحشي وأبي دجانة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى. وذكر ابن كثير أن ما يروى عن أبي دجانة «رضي الله ع» من ذكر الحرز المنسوب إليه إسناده ضعيف لا يلتفت إليه.
وقد نقل عن وحشي «رضي الله ع» أنه قال: قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسين سنة.
وذكر أن أبا دجانة «رضي الله ع» تترس دون رسول الله ﷺ فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل.
وقاتل دونه زيادة ابن عمارة حتى أثبتته الجراحة: أي أصابت مقاتله، فقال: أدنوه مني فوسده قدمه الشريف، فمات «رضي الله ع» وخده على قدمه الشريف.
وقاتل مصعب بن عمير «رضي الله ع» دون رسول الله ﷺ حتى قتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله؛ فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.
وقيل القاتل لمصعب «رضي الله ع» أبي بن خلف لعنه الله، فإنه أقبل نحو النبي ﷺ وهو يقول أين محمد لا نجوت إن نجا، فاستقبل مصعب بن عمير «رضي الله ع» فقتل مصعبا، فاعترضه رجال من المسلمين؟ فأمرهم رسول الله ﷺ أن يخلوا طريقه، أي فأقبل وهو يقول يا كذاب أين تفر، وتناول النبي الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي، فخدشه بها في عنقه خشدا غير كبير احتقن الدم: أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش، فقال قتلني والله محمد، فقالوا: ذهب والله فؤادك، أي وفي لفظ: ذهب والله عقلك، إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها، فما هذا والله ما بك من بأس، ما أخدعك، إنما هو خدش، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز؟ أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفة كما تقدم. وفي لفظ: لو كان بربيعة ومضر أي وفي لفظ: بأهل الأرض لماتوا أجمعون. إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي في مكة: يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا بفتح الراء: هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله ﷺ أنا أقتلك إن شاء الله، فحقق الله تعالى قول نبيه.
هذا، وعن سعيد بن المسيب «رضي الله ع» أن أبي بن خلف قال حين أفتدي: أي من الأسر ببدر: والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا، فبلغت رسول الله ﷺ فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
أقول: يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي ﷺ والله أعلم. وفي رواية «أبصر ترقوته» بالفتح لا بالضم «من فرجة من سابغة الدرع» وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم «فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا» بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها «من أضلاعه» أي وهو المناسب لما في بعض الروايات «أن النبي ﷺ طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح، وإنه لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمة، وقيل من الزبير بن العوام «رضي الله ع» انتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقه».
أقول: ولا مخالفة بين كون الطعنة في عنقه وكونها في ترقوته، لأن الترقوة في أصل العنق.
ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه بالطعنة وناهيك بعزمه، لأن كون الخدش في الظاهر، أي بحسب ما يظهر للرائي والشدة في الباطن أقوى في النكاية. ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا، وكونه خار كالثور الذي يذبح، وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات، لكن رأيت في رواية أنه ضرب تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه.
وقد يقال يجوز أن تكون الحربة نفذت من المكان المذكور. قال في النور: ولم يقتل بيده الشريفة قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات عدوّ الله وهم قافلون به إلى مكة: أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء، وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ.
فعن ابن عمر «رضي الله ع» أنه قال «إني لأسير ببطن رابغ بعد هدّو من الليل إذا نار تأجج لي لهبها، وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذب بها يصيح العطش، وناداني: يا عبدالله، فلا أدري أعرف اسمي، أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه يا عبدالله؟ فالتفت إليه، فقال: اسقني، فأردت أن أفعل، وإذا رجل وهو الموكل بعذابه يقول: لا تسقه هذا قتيل رسول الله، هذا أبيّ بن خلف لعنه الله» رواه البيهقي.
ويدل لهذا ما جاء في الحديث «كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة» وجاء «أشدّ الناس عذابا من قتله نبي» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله، فسحقا لأصحاب السعير». وفي رواية «اشتد غضب الله «عَزَّ وجَلّ» على رجل قتله رسول الله ﷺ في سبيل الله» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مأمورون باللطف والشفقة على عباد الله، فما يحمل الواحد منهم على قتل شخص إلا أمر عظيم ورسول الله ﷺ أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله.
وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله ﷺ في سبيل الله كان قاصدا قتله، وقد اتفق ذلك لأبيّ بن خلف لعنه الله، وقد تقدم أن ابن مرزوق رحمه الله ذكر أن ابن عمر مرّ ببدر فإذا رجل يعذب ويئن، فناداه يا عبدالله، فالتفت إليه فقال اسقني، فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه. لا تفعل يا عبدالله، فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله ﷺ أي أصحابه، رواه الطبراني في الأوسط، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضي التعدد فإنه ذكر فيها أن ابن عمر «رضي الله ع» ذكر ذلك: أي مروره ببدر للنبي، وأنه قال له ذلك أبو جهل، وذلك عذابه إلى يوم القيامة. وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر.
ووقع في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين: أي التي حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملائكة «رضي الله ع»، واسم أبي عامر عبد عمرو، مات كافرا بأرض الروم، فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون، فأغمي عليه، وجحشت: أي خدشت ركبتاه، فأخذ علي كرم الله وجهه بيده، ورفعه طلحة بن عبيدالله حتى استوى قائما.
وكان سبب وقوعه أن ابن قمئة لعنه الله علاه بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف، فشكا منه شهرا أو أكثر، وقذف بالحجارة حتى وقع لشقه، ورماه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» بحجر، فكسر رباعيته اليمنى السفلى، وشق شفته السفلى: أي ودعا عليه بقوله «اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا». وقد استجاب الله تعالى ذلك، وقتله في ذلك اليوم حاطب بن أبي بلتعة «رضي الله ع».
قال حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله ﷺ قلت لرسول الله ﷺ أين توجه عتبة؟ فأشار النبي ﷺ إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله، فقال لي: رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين: أي ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد بقليل، لكن يخالف القول بأنه مات بعد أن أسلم بعد الفتح وأنه أثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا وهو أهتم: أي ساقط مقدّم أسنانه أي التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه، وكسرت البيضة أي الخوذة على رأسه وشج وجهه الشريف، شجه عبدالله بن شهاب الزهري «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وهو جد الإمام الزهري رحمه الله. ويجوز أن يكون من قبل أمه، أي ويقال له عبدالله الأصغر، أي ولعل هذا حصل منه قبل أو بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله ﷺ واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع.
وجدّ الإمام الزهري من قبل أبيه يقال له عبدالله بن شهاب، ويقال له عبدالله الأكبر «رضي الله ع» كان من مهاجري الحبشة، توفي بمكة قبل الهجرة. وأشار صاحب الهمزية رحمه الله إلى أن هذه الشجة لم تشنه بل زادته جمالا بقوله:
مظهر شجة الجبين على البر ** ء كما أظهر الهلال البراء
ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ** لجمال له الجمال وقاء
فهو كالزهر لاح من سجف الأكـ ** ـمام والعود شق عنه اللحاء
أي مظهر وجهه الشريف أثر جرح جبينه: أي جبهته مع برئها ظهورا كظهور الهلال ليلة استهلاله، ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح، فأعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر، فهو: أي ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعود الذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره، وقال حسان «رضي الله ع» في وصف جبينه الشريف:
متى يبتدُ في الداجي البهيم جبينه ** يلحْ مثل مصباح الدجى المتوقد
وجرحت وجناتِه بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله، وقال له لما ضربه: خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله ﷺ: أقمأك الله «عَزَّ وجَلّ»: أي صغرك وأذلك. وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه، فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل: أي أعلى الجبل، فإخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع. وفي رواية: فسلط الله عليه تيس جبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة.
أقول: ويمكن الجمع بأنه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله، لعنة الله عليه، والله أعلم.
«ولما جرح وجه رسول الله ﷺ صار الدم يسيل على وجهه الشريف، وجعل يمسح الدم. وفي لفظ: ينشف دمه وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم» أي وفي رواية «اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله، فأنزل الله تعالى {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} أي وفي رواية «صار يقول: اللهم العن فلانا وفلانا: أي اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية».
فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى {والله يعصمك من الناس}. أجيب بأن هذه الآية نزلت بعد أحد.
وعلى تسليم أنها نزلت قبله، فالمراد عصمته من القتل. قال الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله: لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين له، وعلى قدر ما يقاسيه منهم. وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا أحد أكثر أجرا من نبينا محمد فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له في كثير من طائعي أمة أجابته، ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الإجابة.
وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والد أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» دم رسول الله ﷺ ثم ازدرده، فقال رسول الله «من مس دمي دمه لم تصبه النار».
وفي رواية أنه قال «من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة. وفي لفظ «من سره أن ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلى مالك بن سنان «رضي الله ع»» ولم ينقل أنه أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولا أنه غسل فمه من ذلك، كما لم ينقل أنه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية «رضي الله ع» بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله.
فعنها «رضي الله ع» أنها قالت «قام رسول الله ﷺ من الليل إلى فخارة أي تحت سريره فبال فيها فقمت وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي ﷺ قال: يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها، فقالت: والله لقد شربت ما فيها، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: لا يجفر» بالجيم والفاء «بطنك بعده أبدا» وفي لفظ «لاتلج النار بطنك» وفي أخرى «لا تشتكي بطنك» أي ويجوز أنه قال: هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها، فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن «رضي الله ع» وفي رواية بدل فخارة «إناء من عيدان» بالفتح: الطوال من النخل، فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن «رضي الله ع»، ولا مانع منه.
وقد شرب بوله أيضا امرأة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو، كانت تخدم أم حبيبة «رضي الله ع»؛ جاءت معها من الحبشة: أي ومن ثم قيل لها بركة الحبشية.
وفي كلام ابن الجوزي: بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي، هذا كلامه.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة، وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة، كانت تكنى بأم يوسف، فقال لها حين علم أنها شربت ذلك «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه.
وفي رواية أنه قال لها «لقد احتظرت من النار بحظار» وشرب دمه أيضا أبو طيبة الحجام، وعليّ كرم الله وجهه، وكذا عبدالله بن الزبير «رضي الله ع».
فعن عبدالله بن الزبير قال «أتيت النبي ﷺ وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبدالله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد، قال فشربته، فلما رجعت قال: يا عبدالله ما صنعت؟ قلت: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس، قال: لعلك شربته، قلت نعم، قال: ويل للناس منك وويل لك من الناس» وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة.
ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبد الملك بن مروان قال له يوما: أريد أن تعطيني سيف أخي عبدالله، فقال له عبد الملك: هو بين السيوف ولا أميزه، فقال له عروة: إذا حضرت السيوف ميزته أنا، فأمر عبد الملك باحضارها، فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد، وقال هذا سيف أخي، فقال له عبد الملك: كنت تعرفه قبل الآن؟ قال لا، فقال كيف عرفته؟ قال بقول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب
وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته، حيث لم يأمره بغسل فمه، ولم يغسل هو فمه، وأن شربه جائز حيث أقر على شربه.
وما أورده في الاستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه ثم ازدرد دمه، فقال له النبي «أما علمت أن الدم كله حرام» أي شربه غير صحيح، فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله. على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم.
ونزع أبو عبيدة عامر بن عبدالله الجراح «رضي الله ع» إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله ﷺ فسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى.
وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة. وقيل طلحة بن عبيدالله، ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها، وكان أشدّهم لذلك أبو عبيدة «رضي الله ع».
قال بعضهم: ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم ير قط أهتم أحسن من أبي عبيدة، لأن ذلك الهتم حسن فاه.
وكان أوّل من عرف رسول الله ﷺ بعد الهزيمة، وقول القائل قتل رسول الله ﷺ كعب بن مالك. قال: عرفت عينيه تزهران، أي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر، وهو ما يجعل على الرأس من الزرد، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله، فأشار إليّ أن أنصت.
وعن بعض الصحابة قال: لما صرخ الشيطان قتل محمد لم يشك في أنه حق، وما زلنا كذلك حتى طلع رسول الله ﷺ بين السعديين فعرفناه بتكفيه إذا مشي، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا، فلما عرف المسلمون رسول الله ﷺ نهضوا به ونهض معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث ابن الصمة «رضي الله ع».
وفي خصائص العشرة للزمخشري؛ وثبت يعني الزبير «رضي الله ع» مع رسول الله ﷺ يوم أحد وبايعه على الموت، هذا كلامه فليتأمل.
وقول بعض الرافضة انهزم الناس. كلهم عن رسول الله ﷺ إلا عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع، وقوله: وتعجبت الملائكة من شأن عليّ، وقول جبريل "عليه السلام" وهو يعرج إلى السماء «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ» قوله وقتل عليّ كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة، فكان الفتح فيها على يديه وقال: أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ، فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني، ثم قال: أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان.
ولما أخبرت النبيّ فقال: يا علي أما تعرف الرجل؟ فقلت: لا، ولكن شبهته بدحية الكلبي، فقال: يا علي أقرّ الله عينك فإنه جبريل "عليه السلام"، جميعه رده الإمام أبو العباس ابن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول.
قال: وأقبل عثمان بن عبدالله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله ﷺ وهو متوجه للشعب، وهو يقول: لا نجوت إن نجا، فوقف رسول الله ﷺ فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة «رضي الله ع»، فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك وذفف عليه وأخذ درعه ومغفره فقال رسول الله «الحمد لله الذي أحانه» أي أهلكه.
وأقبل عبيدالله بن جابر العامري يعدو فضربه الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه. ووثب أبو دجانة «رضي الله ع» إلى عبيدالله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله ﷺ انتهى.
ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى فم الشعب خرج عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به عن وجهه الشريف الدم وهو يقول: «اشتدّ غضب الله على من أدمى وجه نبيه» أي والسياق يقتضي أنه قال ذلك أيضا بعد قوله «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم» ونزول تلك الآية، فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف.
قال: ثم أراد رسول الله ﷺ أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع: أي لأنه ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه عليه درعان، فجلس تحت طلحة بن عبيدالله فنهض به حتى استوى عليها، فقال رسول الله «أوجب طلحة» أي فعل شيئا استوجب به الجنة حين صنع برسول الله ﷺ ما صنع انتهى.
أي وقيل إن طلحة «رضي الله ع» كان في مشيه اختلاف لعرج كان به، فلما حمل النبي ﷺ تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه فذهب عرجه ولم يعد إليه.
وفي رواية أنه انطلق حتى أتى أصحاب الصخرة: أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة: أي التي في الشعب، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال رسول الله ﷺ: أنا رسول الله، ففرحوا بذلك وفرح رسول الله ﷺ الذي وجد في أصحابه من يمنع: أي ولعل هذا الذي أراد رميه لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة.
قال: وعطش عطشا شديدا: أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته، لأنه وجد له ريحا فعافه: أي كرهه فخرج محمد بن مسلمة «رضي الله ع» يطلب له ماء فلم يجد. فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله ﷺ ودعا له بخير.
وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهنّ فاطمة بنت النبي، فلما لقيت رسول الله ﷺ اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته، وعليّ كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير: أي معمول من البردي فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى، أي لأن البردي له فعل قويّ في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا.
وفي حديث غريب أنه داوى جرحه بعظم بال أي محرق.
وقد يقال: يجوز أن يكون الراوي ظنّ ذلك البردي المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية. وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون.
وعارضه أيضا بأنه كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ: أي ينقطع الدم من جرحه، وكوى أسعد بن زرارة «رضي الله ع» لمرض الذبحة.
ففي كلام بعضهم: كان موت أسعد بن زرارة «رضي الله ع» بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي ﷺ بيده وقال: بئس الميتة لليهود؛ يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا.
وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء، أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء، وإذا لم يكو العضو عطب وبطل، وهو محمل قوله «لم يتوكل من اكتوى» أو على من يفعله مع قيام غيره من الأدوية مقامه.
ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين «رضي الله ع» وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى أي لبواسير كانت به فكان يصبر على ألمها، فلما ترك الكيّ عادت الملائكة إلى سلامها عليه، لأن ذلك قادح في التوكل.
وما في البخاري عن ابن عباس «رضي الله ع» عن النبيّ أنه قال «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكيّ» وفي رواية «وما أحبّ أن أكتوي» أي فالنهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي.
قال في الهدى: وأراد بقوله: وأنا أنهى إلى آخره: أي أنه لا يؤتى بالكيّ إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم أخره.
قيل والفصد داخل في شرطة المحجم. والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد، هذا كلامه.
وبينا رسول الله ﷺ في الشعب مع أولئك النفر من أصحابه إذا علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوّة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل، أي ونزل قوله تعالى {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} أي لا تضعفوا عن الحرب، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.
ولعل هذا كان قبل أن يعلو الصخرة كما تقدم. أو لعل الجبل كان أعلى من تلك الصخرة.
قال: وفي بعض الروايات أنه قال لسعد «ارددهم، قال: كيف أردهم وحدي؟ فقال له ارددهم» قال سعد «رضي الله ع»: فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته، ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته، فهبطوا من مكانهم، فقلت: هذا سهم مبارك، فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي، وكان بعده عند بنيه انتهى.
أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا: أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم. وما قبله الدال على أن الزادّ لهم عمر بن الخطاب «رضي الله ع» وجماعة من المهاجرين.
وروي عنه أنه قال «لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه حتى كان بعد» أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه، فظننت أنه ملك، أي وفي رواية عنه أنه قال «رميت بسهم فرده عليّ رسول الله ﷺ وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يرده عليّ رسول الله ﷺ فقلت: هذا سهم دم» أي يصيب «فجعلته في كنانتي لا يفارقني».
أقول: ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما، لأن قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته لا من كنانته كما قد يتبادر، ولا بين قوله فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمي بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له، بل يناوله له رسول الله، ويرده عليه. ولا منافاة بين قوله: حتى واليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله: ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات، لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم.
وصلى رسول الله ﷺ ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته. وصلى المسلمون خلفه قعودا: أي ولعلّ ذلك كان بعد انصراف عدوهم. وإنما صلى المسلمون خلفه قعودا موافقة له وقد نسخ ذلك.
أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما أصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب، فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا؛ فقد جاء أنه وجد بطلحة «رضي الله ع» نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه. وفي رواية أنامله. وعند ذلك قال حسن، فقال له: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جوّ السماء» زاد في لفظ «ولرأيت بناءك الذي بني الله لك في الجنة وأنت في الدنيا».
وفي البخاري عن قيس بن أبي حازم قال «رأيت يد طلحة بن عبيدالله شلاء وقى بها رسول الله ﷺ يوم أحد» أي من سهم، وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشى عليه؛ ونضح أبو بكر «رضي الله ع» الماء في وجهه حتى أفاق، فقال ما فعل رسول الله؟ قال له أبو بكر: هو بخير، وهو أرسلني إليك، فقال: الحمد لله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة.
وكان يقال لطلحة «رضي الله ع» الفياض، سماه بذلك رسول الله ﷺ في غزوة العشيرة كما تقدم. وسماه طلحة الجود في أحد، لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم. وسماه في أحد أيضا طلحة الخيظر.
وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة. قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر، وجرح في رجله فكان يعرج منها.
وأصاب كعب بن مالك «رضي الله ع» سبعة عشر جراحة. وفي رواية عشرون جراحة قال عاصم بن عمر بن قتادة: كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو، أي يظهر الإسلام يقال له قزمان، وكان ذا بأس وقوة، وكان رسول الله ﷺ إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل. وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين. ولما أخبر بذلك قال إنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، وأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر، فيقول بماذا أبشر؟ فوالله: ما قاتلت إلا على أحساب قومي: أي على شرفهم ومفاخرهم: أي مناصرة لهم، ولولا ذلك ما قاتلت: أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر أعدائهما.
أي وفي رواية أن قتادة «رضي الله ع» قال له: هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق؟ فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين، ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا، فلما اشتدت عليه الجراحة أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه: أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق: أي وفي رواية: فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه. قال في النور: وهو الصحيح، ولا مانع أن يكون فعل كلا من الأمرين، أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا.
وقد جاء: سئل رسول الله ﷺ عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله «من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» فنص عليه، وحينئذ قال فيه رسول الله «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة».
ففيه إشارة إلى باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره. وقال «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:
وقلت لشخص يدعي الدين إنه ** بنار فألقى نفسه للمنية
هذا وفي كلام ابن الجوزي عن أبي هريرة «رضي الله ع» قال «شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر، فقال لرجل ممن يدّعي الإسلام: هذا من أهل النار، فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت إنه من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات، فقال النبيّ كما قال: إلى النار. ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه، فأخبر النبي ﷺ فقال: الله أكبر، أشهد أني عبدالله ورسوله، فأمر بلالا فنادى في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين، هذا كلامه فليتأمّل، فإن تعدّد الشخص المسمى بهذا الاسم فيه بعد. ولعلّ ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي. وقوله «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» عام فيدخل في كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيى بهما قلوبا؛ ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران.
وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل. قال بعضهم: كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل، فلما كان يوم خروج النبي ﷺ إلى أحد جاء إلى المدينة، فسأل عن قومه، فقيل له بأحد، فبدا له في الإسلام: أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته، وركب فرسه، فغدا ـ بالغين المعجمة ـ حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة: جانبهم وناحيتهم، فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا والله إن هذا الأصيرم، فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك، أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله، ثم جئت وقاتلت حتى أصابني ما أصابني، ثم لم يلبث أن مات في أيديهم فذكروه لرسول الله ﷺ فقال: «إنه لمن أهل الجنة» وكان أبو هريرة يقول: حدّثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل: يعني الأصيرم. ويصدق عى هذا قوله "عليه الصلاة والسلام «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار» الحديث.
أي وممن يدخل الجنة ولم يصلّ الأسود الراعي لبعض يهود خيبر، الذي جاء للنبي وقال: يا رسول الله أعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر.
وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق «رضي الله ع»، وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله ﷺ الفاسق كما تقدم، وكان هو وعبدالله بن أبي سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوّجين للرياسة على أهلها.
وكان أبو عامر من الأوس، ويقال له ابن صيفي، وكان عبدالله من الخزرج. فعبدالله بن أبي أظهر الإسلام. وأما أبو عامر فأصرّ على الكفر إلى أن مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله ﷺ حيث دعا عليه بذلك. وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
ومات ابن صيفي على الصفة التي ** ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة
وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله ﷺ ومعه خمسون غلاما، وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس، فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه: أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما جاء مع قريش نادى: يا معشر الأوس أنا أبو عامر، وقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، أي وفي لفظ قالوا له: لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق. ولا مانع من صدور الأمرين منهم، فلما سمع ردّهم عليه قال لعنه الله: لقد أصاب قومي بعدي شرّ، ثم قاتل قتالا شديدا. وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، التي وقع في إحداها رسول الله ﷺ كما تقدم، أي وكان هو أوّل من أثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين، واستأذن ولده حنظلة «رضي الله ع» رسول الله ﷺ في قتله فنهاه عن قتله.
وسبب قتل حنظلة «رضي الله ع» أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة «رضي الله ع» يريد ذبحه فرآه شدّاد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصابه شدّاد بن الأسود، فحمل عليه فقتله، فقال رسول الله «إن صاحبكم، يعني حنظلة، لتغسله الملائكة» أي وفي رواية «رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول رأس المنافقين أخت ولده عبدالله «رضي الله ع»، فقالت: خرج جنبا فقال رسول الله ﷺ: لذلك غسلته الملائكة» فإنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد، وقد كان استأذن رسول الله ﷺ في ذلك: أي في الدخول بها، فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله ﷺ فلزمته، فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله ﷺ بالخروج إلى العدّو فعجل عن الغسل إجابة للداعي.
وفي رواية أنها قالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة: أي الصياح بالخروج للعدّو. وفي لفظ: الهائعة. وفي لفظ: الهيعة، من الهياع: وهو الصياح الذي فيه فزع. وقد جاء في الحديث «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه» فلما سمع هيعة طار إليها.
وفي رواية: وقد كان غسل أحد شقيه، فخرج ولم يغسل الشق الآخر. وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت. وجاء أنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع، قالت: لأني رأيت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت، فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبدالله بن حنظلة «رضي الله ع» في تلك الليلة. وعبدالله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم لما خلعوا يزيد بن معاوية. وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة «رضي الله ع» لكون والده معهم الذي هو أبو عامر الراهب لعنه الله.
وفي الإمتاع: وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين، فقال له «يا أبا قتادة إن قريشا أهل أمانة، من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه، وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم. لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله. فقال أبو قتادة: والله يا رسول الله ما غضبت إلا لله ولرسوله، فقال: صدقت، بئس القوم كانوا لنبيهم» قال: وجاء «أنه همّ أن يدعو عليهم، فنزلت الآية المذكورة أي {ليس لك من الأمر شيء} فكف عن الدعاء عليهم» أي وفيه أنها نزلت بعد قوله «اللهم العن فلانا وفلانا» إلى آخر ما تقدم عن بعض الروايات، إلا أن يقال أراد المداومة على الدعاء عليهم. وعن أبي سعيد الساعدي قال: ذهبنا إلى حنظلة «رضي الله ع» فإذا رأسه يقطر ماء انتهى.
أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه دعا عليهم وبين كونه همّ بالدعاء عليهم، لأنه يجوز أن يكون المراد همّ بتكرير الدعاء عليهم. وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جابر «رضي الله ع» قال: «قال رجل يوم أحد لرسول الله ﷺ إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل» قال في طرح التثريب، قال الخطيب: كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد، فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد، ولا توجيه لذلك، بل التضعيف تفسير هذه بهذه: أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين. هذا كلامه، وقد تقدّم في غزاة بدر الحوالة على هذه فليتأمل، أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي؛ ورسول الله ﷺ يرى ذلك ويسمعه، فقال رسول الله «هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري» فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول: أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال: خذها وأنا الغلام الأنصاري، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «أحسنت يا أبا عبدالله» وكان يومئذٍ لا ولد له.
وقتل عمرو بن الجموح «رضي الله ع»، وكان أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله ﷺ المشاهد. فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه وقالوا له: قد عذرك الله، فأتى رسول الله ﷺ فقال: إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك، فوالله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله: «أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك، وقال لبنيه: ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة» فأخذ سلاحه وخرج وأقبل على القبلة وقال: اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني خائبا إلى أهلي فقتل، فقال رسول الله «والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبرّه. منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته» أي كشف له عن حاله يوم القيامة، أي وفي رواية أنه قال «يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ فمرّ عليه رسول الله ﷺ وقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة».
أقول: لكن يمكن الجمع بأنه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة. وعمرو بن الجموح «رضي الله ع» كان في الجاهلية على أصنامهم: أي سادنا لها، وكان في الإسلام يولم عنه إذا تزوج.
وقد وقع منه مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي «فإنه لما كسرت أخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص، وأمر رسول الله ﷺ بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع، وصار كلما يقول: كتاب الله القصاص، يقول والله لا تكسر ثنية الربيع، فرضي القوم بالأرش، فقال رسول الله: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» وقال ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك «رضي الله ع». فعن أنس «رضي الله ع» أن النبي ﷺ قال «ربّ أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبرّه منهم البراء بن مالك» ومصداق ذلك ما وقع له «رضي الله ع» في مقاتلة الفرس، فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له: يا براء أقسم على ربك، فقال: أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد، فحمل «رضي الله ع» وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس، ثم قتل البراء «رضي الله ع».
ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس «رضي الله ع» عند بعض حصون العدوّ بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الإنسان، فكان من جملة من خطف أنس «رضي الله ع»، فأقبل البراء «رضي الله ع» وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة، ثم نظر إلى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم، ونجى الله أنسا «رضي الله ع» بذلك وقال ما تقدم في حق أويس القرني «رضي الله ع».
فعن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرنيّ، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» وفي رواية خطابا لعمر «رضي الله ع» «يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم، له أمّ هو بها بار لو أقسم على الله لأبرّه فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» والله أعلم.
وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهو خلاد «رضي الله ع». وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبدالله والد جابر «رضي الله ع»، فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة، فلقيتها عائشة «رضي الله ع» وقد خرجت في نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة «رضي الله ع»: جاء خبر الجيش، فقالت: أما رسول الله ﷺ فصالح وكل مصيبة بعده جلل، واتخذ الله من المؤمنين شهداء. ثم قالت لها: من هؤلاء؟ قالت: أخي عبدالله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح «رضي الله ع»، فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلى المدينة يبرك، وإن وجه إلى أرض أحد نزع، فرجعت إلى النبي ﷺ وأخبرته، فقال: إن الجمل مأمور فقبرهم بأحد، وقال لهند «يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن» ولعلّ هذا كان قبل أن ينادي بردّ القتلى إلى مضاجعهم. قال جابر «رضي الله ع»: كان أبي أول قتيل للمسلمين، قتله أبو الأعور السلمي.
وفي الصحيح أن عائشة «رضي الله ع» وأم سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم.
أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شأن عائشة بعد وصولها لأحد، أي وقد كان خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الآطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين، فقال أحدهما لصاحبه: لا أبالك، ما ننتظر؟ فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمأ حمار، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله ﷺ لعل الله يرزقنا الشهادة، فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما. فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلف عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه.
وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس «رضي الله ع» أن الذي قتله خطأ هو عتبة ابن مسعود أخو عبدالله بن مسعود «رضي الله ع»، وعتبة هو أول من سمى المصحف مصحفا. وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه. فأراد رسول الله ﷺ أن يديه فتصدق حذيفة «رضي الله ع» بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله ﷺ خيرا. واسم اليمان حسيل، وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جدّه اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لأنه أصاب دما في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية: أي وهم أهل المدينة.
ومما يؤثر عن حذيفة «رضي الله ع»، أنه قيل له: من ميت الأحياء؟ قال: الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه.
وفي الكشاف: وعن حذيفة «رضي الله ع» أنه استأذن رسول الله ﷺ في قتل أبيه وهو في صف المشركين أي قبل أن يسلم، فقال له: دعه يليه غيرك. هذا كلامه، ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار، كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله قبل الإسلام فليتأمل.
ثم إن هندا زوجة أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن: أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم، واتخذن من ذلك قلائد، وبقرت: أي شقت هند بطن سيدنا حمزة «رضي الله ع»، أخرجت كبده فلاكتها: أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها: أي تبتلعها، فلفظتها أي ألقتها من فيها أي لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة «رضي الله ع» لتأكلن من كبده. ولما بلغ رسول الله ﷺ أنها أخرجت كبد حمزة قال: هل أكلت منه شيئا؟ قالوا لا قال: إن الله قد حرّم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقرّ في جوفها لم تمسها النار.
وفي رواية «لو أدخل بطنها لم تمسها النار» لأن حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيء من جسده النار.
أي ورأيت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت.
وقد يقال: لا منافاة، لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة. قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة «رضي الله ع» وأخرج كبده وجاء بها إلى هند، أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك، قالت سلني، فقال: هذه كبد حمزة فأعطته ثيابها وحليها، ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير. وجاء بها إلى مصرع حمزة «رضي الله ع» فجدعت أنفه وأذنيه، أي وفي لفظ: فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه وقطعت أذنيه، ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها، واستمرّت كذلك حتى قدمت مكة.
وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع.
ثم إن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا. ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخاري أنه أشرف. وفي رواية كان بأسفل الجبل.
وقد يقال: لا مخالفة لجواز وقوع الأمرين معا، ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال: أي ومعنى سجال: مرّة لنا ومرّة علينا، يوم أحد بيوم بدر، وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه، أو للأزلام، لأنه استقسم بها عند خروجه إلى أحد، فخرج الذي يحب وهو أفعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية لكلمة وهي أمر: أي ارتفع عن لومها: أي النفس أو الأزلام يقال: عال عني: أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ: يوم لنا ويوم علينا، ويوم نساء ويوم نسرّ، حنظلة بحنظلة وفلان بفلان.
أي وقد جاء أنه قال: الحرب سجال، وقد قال تعالى {إن يمسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس} وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق.
ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في القوم. وفي رواية في قتلاكم مثلة لم آمر بها ولم تسرني. وفي رواية: والله ما رضيت وما سخطت، وما أمرت وما نهيت: وفي لفظ: ما أمرت ولا نهيت، ولا أحببت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ: أما إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال: أما إنه إن كان كذلك لم نكرهه. ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة «رضي الله ع» ويقول ذقه عقق: أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه، جعل إسلامه عقوقا، فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يفعل بابن عمه ما ترون، فقال أبو سفيان: اكتمها عني فإنها زلة. وقال أبو سفيان: اعل هبل أي أظهر دينك، أو ازدد علوا فقال رسول الله، قم يا عمر فأجبه، فقل: الله أعلى وأجلّ، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك، لقد خبنا إذا وخسرنا، وهبل هذا تقدّم أنه صنم، وتقدم الكلام عليه.
ورأيت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى أنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة، وبلط الملوك فوقه البلاط. ثم قال أبو سفيان: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله «الله مولانا ولا مولى لكم» ثم قال أبو سفيان لعمر، أي بعد أن قال له: هلم يا عمر. فقال له رسول الله ﷺ: ائته فانظر ما شأنه فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟ قال عمر «رضي الله ع»: لا وإنه ليسمع كلامك الآن. قال أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبرّ: أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي، فقال قتلت محمدا كما تقدّم.
وفي رواية أن أبا سفيان نادى: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله ﷺ أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة قالها ثلاثا. ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا. وفي رواية: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب: ثم أقبل على أصحابه. فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم، إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر «رضي الله ع» نفسه أن قال: كذبت والله يا عدّو الله إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، ثم نادى أبو سفيان: إن موعدكم بدر العام المقبل، فقال رسول الله ﷺ لرجل من أصحابه: قل نعم بيننا وبينكم موعد.
ثم بعث رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وقيل سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع». فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل: أي جعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا الإبل: أي ركبوا مطاها: أي ظهورها لأن المطا الظهر فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزهم. قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع»: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، أي بعد أن تشاوروا في نهب المدينة. فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا، أي وقال لهم. فإنكم لا تدرون ما يغشاكم وفزع الناس لقتلاهم، فقال رسول الله ﷺ: هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع: أفي الأحياء هو أم في الأموات، أي زاد في رواية فإني رأيت الأسنة قد أشرعت إليه. فقال رجل من الأنصار: أي وهو أبي كعب، وقيل محمد بن مسلمة، وقيل زيد بن حارثة، وقيل غير ذلك. ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم. قال: أنا أنظر لك يا رسول الله. أي وفي رواية: قال للمرسل: إن رأيت سعد بن الربيع فأقره مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله ﷺ كيف تجدك. فنظر فوجد جريحا وبه رمق أي بقية روح. فقال له: إن رسول الله ﷺ أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة، وإني قد أنفذت مقاتلي، فأبلغ رسول الله ﷺ عني السلام، وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. وفي رواية: شفر يطرف أي يتحرك. قال: ثم لم أبرح حتى مات، فجئت رسول الله ﷺ فأخبرته
خبره، أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله ﷺ يدور بين القتلى فقال له: ما شأنك؟ قال: بعثني رسول الله ﷺ لآتيه بخبرك. قال: فاذهب إليه الحديث.
وفي رواية إن محمد بن مسلمة «رضي الله ع» نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى، فلم يجبه حتى قال إن رسول الله ﷺ أرسلني أنظر ما صنعت، فأجابه بصوت ضعيف الحديث. أي وفي رواية: اقرأ على قومي مني السلام، وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله ﷺ ليلة العقبة فوالله ما لكم عند الله عذر الحديث. وفيه قال رسول الله «رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا» وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله ﷺ من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية، وهي قوله تعالى {فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} وفي ذلك نزلت: أي اثنتان فما فوقهما. أي وحينئذ لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين، بجامع أن للواحدة منهما النصف.
ودخلت بنت له على أبي بكر «رضي الله ع» فألقى لها رداءه لتجلس عليه، فدخل عمر «رضي الله ع» فسأله عنها. فقال: هذه ابنة من هو خير مني ومنك. قال: ومن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت، هذه ابنة سعد بن الربيع «رضي الله ع».
وخرج رسول الله يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب «رضي الله ع». فقال له رجل: رأيته بتلك الصخرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن أنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي، فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك، فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين، أي وكان قد قال للنبي: يا رسول الله إني غبت عن أوّل قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء: يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء: يعني المشركين. ولما سمع قتل رسول الله، قال: ما تصنعون بالحياة بعده، موتوا على ما مات عليه رسول الله. ثم استقبل القوم. أي وقال لسعد بن معاذ: هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد، وقاتل «رضي الله ع» حتى قتل. أي ووجدوا فيه بضعا وثمانين جراحة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح، أو رمية بسهم. ولما قتل مثل به المشركون، فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه.
قال ابن أخيه أنس بن مالك «رضي الله ع»: لما نزل قوله تعالى {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الآية، قلنا إن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين «رضي الله ع».
فجاء رسول الله ﷺ نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه، أي وقطعت مذاكيره، فنظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه. أي وقال «لن أصاب بمثلك، ما وقفت موقفا أغيظ لي من هذا، وقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمتك، فعولا للخيرات، وصولا للرحم، أما والله لأمثلنّ بسبعين» وفي رواية «بثلاثين رجلا منهم مكانك» وفي رواية «لئن ظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ولما رأى المسلمون جذع رسول الله ﷺ على عمه قالوا: لئن أظفرنا الله تعالى بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: إن الله تعالى أنزل في ذلك {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله} الآية، فعفا رسول الله ﷺ وصبر، ونهى عن المثلة، وكفر عن يمينه، وكان نزول هذه الآيات بعد أن مثل بالعرنيين. وستأتي قصتهم في السرايا.
واعترضه ابن كثير رحمه الله بأن هذه الآيات مكية وقصة أحد في المدينة بعد الهجرة بثلاث سنوات، فكيف يلتئم هذا مع هذا، هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فليتأمل. وعن ابن مسعود «رضي الله ع» «ما رأينا رسول الله ﷺ باكيا أشد من بكائه على حمزة «رضي الله ع»، وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق» أي شهق «حتى بلغ به الغشي يقول: يا عم رسول الله، وأسد الله، وأسد رسول الله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات، يا حمزة يا ذابّ» أي بالذال المعجمة «يا مانع عن وجه رسول الله » أي قال ذلك لا مع البكاء. فلا يقال هذا من الندب المحرم وهو تعديد محاسن الميت، لأن ذلك مخصوص بما إذا قارنه البكاء وليس من نعي الجاهلية المكروه: وهو النداء بذكر محاسن الميت؛ على أن النداء بذلك محل كراهته إذا كان على وجه التفاخر والتعاظم، ولم يكن وصفا لنحو صالح للحث على سلوك طريقته.
وقال «جاءني جبريل "عليه السلام"، وأخبرني بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع: حمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله. وأمر الزبير «رضي الله ع» أن يرجع أمه صفية أخت حمزة «رضي الله ع» عن رؤيته، فقال لها: يا أمه إن رسول الله ﷺ يأمرك أن ترجعي، فدفعت في صدره وقالت: لم؟ وقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله فما أرضاني بما كان في الله من ذلك» أي أنا أشد رضا بذلك من غيري «لأحتسبن، ولأصبرنّ إن شاء الله تعالى، فجاء الزبير «رضي الله ع»، فأخبره بذلك، فقال: خل سبيلها، فجاءت واسترجعت واستغفرت له».
وفي رواية «إن صفية لقيت عليا والزبير «رضي الله ع»، فقالت لهما: ما فعل حمزة: فأرياها أنهما لا يدريان» أي رحمة بها «فجاءت النبي ﷺ فقال: إني أخاف على عقلها فوضع يده الشريفة على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت» أي لما رأته، أي وفي رواية «لما منعها عليّ والزبير «رضي الله ع» قالت: لا أرجع حتى أرى رسول الله. فلما رأته قالت: يا رسول الله أين ابن أمي حمزة؟ قال: هو في الناس. قالت: لا أرجع حتى أنظر إليه، فجعل الزبير «رضي الله ع» يحبسها، فقال: دعها فلما رأته بكت وصارت كلما بكت بكى، ثم أمر به فسجي ببرده» وفي رواية «قال ألا كفن؟ فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه، ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه. فقال: يا جابر هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي» وهذا يدل على أن والد جابر «رضي الله ع» استمر لم يقبر إلى ذلك الوقت، وهو خلاف ظاهر سياق ما تقدم.
وفي رواية «وجاءت صفية معها بثوبين لحمزة، فكان أحدهما لحمزة، والآخر لرجل من الأنصار» ولعله والد جابر «رضي الله ع»، ولعله لما جاءت صفية بالثوبين جعل أحدهما لحمزة، والآخر لوالد جابر، وترك ثوبي الرجلين.
وفي رواية «كفن حمزة «رضي الله ع» بنمرة، كانوا إذا مدوها على رأسه انكشفت رجلاه، وإن مدوها على رجليه انكشفت رأسه، فمدوها على رأسه، وجعلوا على رجليه الإذخر» وفي لفظ «الحرمل» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما والمشهور حديث النمرة.
وقد يقال: إنما اختار النمرة على الثوب، لأنه كان بها دم الشهادة أو أراد أن لا يكون لأحد على حمزة «رضي الله ع» منة. ويؤيد الأول ما يأتي «ولم يكفنوا إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها» فليتأمل، فإن السياق يقتضي أن ذلك إنما هو عن احتياج، وسيأتي ما يصرح به وسيأتي ما يعارضه فليتأمل.
وعن عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع». قال: قتل مصعب بن عمير «رضي الله ع» يوم أحد، وكفن في وبرة إن غطى بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه.
وفي رواية «قتل مصعب بن عمير، فلم يترك إلا نمرة إذا غطينا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله ﷺ: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر».
وكان مصعب بن عمير هذا قبل الإسلام فتى مكة شبابا وجمالا ولباسا وعطرا ولما أسلم «رضي الله ع» تشعث.
وعن عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» أنه كان صائما وقد جيء له بطعامه، فقال: قتل مصعب بن عمير «رضي الله ع» وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقد بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا من الدنيا ما أعطينا، وخشيت أن أكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
وعن أنس «رضي الله ع» قال: قلت الثياب، وكثرت القتلى، فكان الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنون في قبر واحد.
وقال في حق حمزة «رضي الله ع» «لولا أن تجزع صفية ونساؤنا» أي يتطاول جزعهن ويدوم. وفي رواية «لولا تجد صفية في نفسها» أي يطول ذلك «وتكون سنة من بعدي لتركنا حمزة ولم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع» وفي رواية «حتى تأكله العافية ويحشر من بطونها، ليشتد غضب الله على من فعل به ذلك ثم صلى عليه فكبر أربع تكبيرات، ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى جنب حمزة أي واحد بعد واحد فيصلي على كل واحد منهم مع حمزة، ثم يرفع ويؤتى بآخر فيصلي عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه اثنتين وسبعين صلاة». وفي رواية «اثنتين وتسعين صلاة» وهذا غريب وسبعين ضعيف.
والرواية الأولى تقتضي أن جملة من قتل بأحد اثنان وسبعون. والرواية الثانية تقتضي أنهم كانوا اثنين وتسعين.
وقوله واحدا بعد واحد قد يخالف ما تقدم عن أنس «رضي الله ع»، من جعل الرجلين أو الثلاثة في كفن واحد فليتأمل.
وجاء «أنه كان يصلي على عشرة عشرة» أي يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلي عليهم. ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه، ويؤتى بتسعة أخرى فيوضعون إلى جنب حمزة فيصلي عليهم، حتى فعل ذلك سبع مرات، وحينئذ يكون جملة من قتل ثلاثة وستين. وسيأتي الكلام على عدتهم، وقيل كبر عليهم، كبر تسعا وسبعا وخمسا أي بعد أن كبر على حمزة وحده أربعا فلا ينافي ما تقدم. ولم أقف على عدد المرات التي كبر فيها ما ذكر.
وجاء أن قتلى أحد لم يغسلهم، ولم يصل عليهم ولم يكفنهم إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها أي غير الجلود، أخذا مما يأتي: أي ولا يضر تتميم ستر بعضهم بالإذخر. وحينئذ لا يكون تكفين حمزة بنمرته، ومصعب ببردته وتتميم تكفينهما بالاذخر عن احتياج كما تقدم عن عبد الرحمن بن عوف. وعن أنس «رضي الله ع» أي وقال مغلطاي: وصلي على حمزة والشهداء من غير غسل، وهذا أي دفنهم من غير غسل إجماع إلا ما شذ به بعض التابعين وفيه نظر ظاهر.
وقد جاء أنه قال «لقد رأيت الملائكة تغسل حمزة» وتقدم أن هذا السياق يقتضي أن هذه رؤيا نوم. وحينئذ يظهر التوقف فيما روي عن ابن عباس «رضي الله ع» قتل حمزة جنبا، فقال رسول الله ﷺ ما ذكر. ولعل الراوي عن ابن عباس ذكر حمزة بدل حنظلة غلطا.
أما الصلاة عليهم؛ فقال إمامنا الشافعي «رضي الله ع»: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي ﷺ لم يصل على قتلى أحد.
وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك: أي بما روى هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه؛ أي فإن من رواة ذلك الحديث الدالة على أنه صلى عليهم سعيد بن ميسرة عن أنس «رضي الله ع». وقد قال فيه البخاري إنه يروى المناكير. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، ومن جملة رواته: أي رواة ذلك الحديث مقسم عن ابن عباس «رضي الله ع». وقد قال فيه البخاري: منكر الحديث، ومن ثم ذكر ابن كثير أن الذي في البخاري «أمر بدفن شهداء أحد بدمائهم ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا». وهو أثبت من صلاته عليهم.
وأما حديث عتبة بن عامر: أي الذي رواه الشيخان وأبو داود والنسائي وهو أن رسول الله ﷺ صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت: أي دعا لهم كدعائه للميت كالمودع للأحياء والأموات أي حين علم قرب أجله، أي فذلك كان توديعا لهم بذلك. قال: قال السهيلي رحمه الله: لم يرد عن رسول الله ﷺ أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية في أحد، وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده ا هـ.
وفي النور «أنه صلى على أعرابي في غزوة أخرى». وفي البخاري عن جابر «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصلِّ عليهم» بكسر اللام. وفي رواية «ولم يصلَّ عليهم» بفتح اللام.
لا يقال: خبر جابر لا يحتج به لأنه نفي، وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات. لأنا نقول: شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها على الشاهد ولم تكن بحضوره وإلا فتقبل بالاتفاق. وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما.
واستدل أئمتنا على أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبا بقصة حنظلة «رضي الله ع»، لأن تغسيل الملائكة لا يكتفي به في إسقاط الحرج عن المكلفين من الإنس لعدم تكليفهم، بخلاف تغسيل الجن فإنهم مكلفون ودفنوا بثيابهم، ونزع عنهم الحديد والجلود.
أي وأسلم وحشي «رضي الله ع» بعد ذلك، فإنه في يوم فتح مكة فرّ إلى الطائف. ثم وفد مع أهل الطائف لما وفدوا ليسلموا. وقد قيل له بعد أن ضاقت عليه: ويحك والله إنه لا يقتل أحدا من الناس دخل دينه. قال وحشي: فلم يرعه إلا أني قائم على رأسه أشهد شهادة الحق. فقال لي: أنت وحشي؛ وسألني كيف قتلت حمزة فأخبرته. ثم قال: ويحك، غّيبْ عني وجهك فلا أراك. وفي رواية: لا ترني وجهك. وفي رواية: تفل في وجهي ثلاث تفلات. وقيل تفل في الأرض وهو جد مغضب: أي وحينئذ لحق بالشام. وكان وحشي لا يزال يحد في الخمر في زمن عمر «رضي الله ع» حتى خلع من الديوان قال عمر «رضي الله ع»: قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة «رضي الله ع»: أي لم يكن ليتركه من الابتلاء. وهذا أي تكرر حدّه في شرب الخمر. وإخراجه من ديون المجاهدين من أقبح أنواع الابتلاء، عافانا الله من ذلك.
وروي الدارقطني في صحيحه عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه كان يقول: عجبت لقاتل حمزة كيف ينجو؛ أي من الابتلاء، حتى بلغني أنه مات غريقا في الخمر. أي وذلك مع ما تقدم ابتلاء فظيع له «رضي الله ع».
وممن مثل به عبدالله بن جحش بدعوة دعاها على نفسه. فقال: أي قبل أحد بيوم: اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني. فإذا لقيتك قلت: يا عبدالله فيم جدع أنفك وأذنك؟ فأقول فيك وفي رسولك. فيقول الله: صدقت، قال: وليس هذا من تمنى الموت المنهيّ عنه انتهى، أي لأن المنهى عنه أن يكون ذلك لضرّ نزل به فليتأمل.
وجاء أن عبدالله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد، فأعطاه رسول الله ﷺ عرجون نخلة، فصار في يده سيفا، وكان يسمى العرجون. ودفن هو وخاله حمزة «رضي الله ع» في قبر واحد، أي وإنما كان حمزة خاله، لأن أم عبدالله أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله، وكان القاتل له أبو الحكم بن الأخنس بن شريق، وأبو الحكم هذا قتل كافرا يوم أحد. وقال دفنوا عبدالله بن عمرو أي وهو والد جابر «رضي الله ع» وعمرو بن الجموح وهو زوج عمة جابر «رضي الله ع» في قبر واحد لما بينهما من الصفاء. وعبدالله بن عمرو هذا قد أصابه جرح في وجهه ومات ويده على جرحه، فأميطت يده عن وجهه فانبعث الدم، فردت يده إلى مكانها فسكن.
ويقال إن السيل حفر قبر عبدالله بن عمرو والد جابر «رضي الله ع» وعمرو بن الجموح فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس. وأنه أزيلت يد عمرو عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت. وكان ذلك بعد الواقعة لست وأربعين سنة.
وعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» أنه قال: استصرخنا إلى قتلانا بأحد، وذلك حين أجرى معاوية «رضي الله ع» العين في سوط مقبرة شهداء أحد، وأمر الناس بنقل موتاهم فأخرجناهم رطابا تنثني أطرافهم، وذلك على رأس أربعين سنة، ولعله وما قبله لا يخالف قول السهيلي وذلك بعد ثلاثين سنة، وأصابت المسحاة قدم حمزة «رضي الله ع» فانبعث دما.
وذكر أنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك. وفي لفظ نحو خمسين سنة مع أن أرض المدينة سبخة يتغير الميت في قبره من ليلته: أي لأن الأرض لا تأكل لحوم شهداء المعركة كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. زاد بعضهم: قارىء القرآن، والعالم، ومحتسب الأذان. ويدل للأخير ما في الطبراني من حدث عبدالله بن عمرو «رضي الله ع»: المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه لا يدود في قبره أي كشهيد المعركة لا يأكله الدود في القبر. وقد نظم هؤلاء الشيخ التتائي المالكي رحمه الله تعالى فقال:
لا تأكل الأرض جسما للنبي ولا ** لعالم وشهيد قتل معترك
ولا لقارىء قرآن ومحتسب ** أذانه لإله مجري الفلك
ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع «رضي الله ع» في قبر واحد، لأنه كان ابن عمه وولده خارجة وهو زيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت.
ذكر أن خارجة أخذته الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمرّ به صفوان بن أمية بن خلف فعرفه فأجهز عليه، وقال: الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد. قتلت خارجة بن زيد، وقتلت أوس بن أرقم، وقتلت أبا نوفل، ودفن النعمان ابن مالك وعبد بني الحسحاس في قبر واحد، وربما دفنوا ثلاثة في قبر، وصار يقول «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» وكان يقول «انظروا أكثر هؤلاء جمعا» أي حفظا للقرآن «فقدموه في القبر» أي في اللحد.
واحتمل ناس من المدينة قتلاهم إلى المدينة، فردهم ليدفنوا حيث قتلوا وبه استدل أئمتنا رحمهم الله على حرمة نقل الميت قبل دفنه من محل موته إلى محل أبعد من مقبرة محل موته.
وفيه أنهم قالوا: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، نص على ذلك إمامنا الشافعي رحمه الله.
وقد يجاب بأن هذا مخصوص بغير الشهيد. أما هو فالأفضل دفنه بمحل موته ولو بقرب ما ذكر كما بحث ذلك بعض المتأخرين من أئمتنا. ويشهد له ما هنا.
ولا يشكل دفن اثنين أو ثلاثة في لحد على قول فقهائنا بحرمة جمع اثنين في لحد ولو الوالد وولده، لأن محل ذلك حيث لا ضرورة ككثرة الموتى ومشقة الحفر لكل واحد كما هنا.
ثم رأيت في بعض السير: وقد ثبت في صحيح البخاري «أن رسول الله ﷺ كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد». وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد.
وفي رواية «فحملوهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها، فجاء منادي رسول الله ﷺ: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا لم يكن دفن فردّ ومن دفن أبقوه.
ولما أشرف على قتلى أحد قال «أنا شهيد على هؤلاء، وما من جرح بجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
وفي رواية «إنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه» أي لون الكلم أي الجرح «لون الدم، وريحه ريح مسك» أي وفي رواية عن ابن عباس «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا» أي يمتنعوا عن الحرب «فقال الله «عَزَّ وجَلّ»: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» على رسوله هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء} الآية.
وقد بينت في (النفخة العلوية) أن الأرواح في البرزخ متفاوتة في مستقرها أعظم تفاوت، فلا تعارض بين الأدلة الدالة على تلك الأقوال المختلفة، وحينئذ تكون أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كونها في الملأ الأعلى متفاوتة فيه، وأرواح المؤمنين غير الشهداء أو غير الأطفال. منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي. وأرواح الأطفال في حواصل عصافير الجنة عند جبال المسك. وأرواح الشهداء منهم من تكون روحه على باب الجنة. ومنهم من تكون داخلها، وحينئذ إما أن تكون في جوف طير أخضر أو طير أبيض. ومنهم من تكون روحه على صورة الطير.
وفي كلام القرطبي رحمه الله قال علماؤنا: أرواح الشهداء طبقات مختلفة، ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون، أي وتقدّم الكلام على رزقهم.
أي ومن جملة من قتل من الصحابة يوم أحد أبو جابر أي كما تقدّم فقال لجابر «رضي الله ع» «يا جابر ألا أخبرك ما كلم الله تعالى أحد قط» لعل المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق «إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا، فقال: سلني أعطك، فقال: أسألك أن أردّ إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب «عَزَّ وجَلّ»: إنه سبق مني أنهم لا يرجعون إلى الدنيا. قال: أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا} الآية. أي ولا مانع من تعدد النزول للآية فلا يخالف ما تقدم قريبا.
أي وعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» قال «لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي ﷺ ينهوني والنبي ﷺ لم ينهني، وقال النبي: «تبكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة عليهم السلام مظلة له بأجنحتها حتى رفع» أي وسيأتي أن جابرا «رضي الله ع» لم يحضر القتال.
وعن بشير بن عفراء «رضي الله ع» قال «أصيب أبي يوم أحد، فمرّ بي النبي ﷺ وأنا أبكي، فقال: أما ترضى أن تكون عائشة أمك، وأكون أنا أباك».
ومرّ رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار قد أصيب زوجها وأخوها وأبوها وفي رواية: «وابنها يوم أحد، فلما نعوا لها، قالت: ما فعل رسول الله ﷺ: أي ما فعل به، قالوا: خير يا أم فلان، وهو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة. والجلل كما يقال للشيء الصغير يقال للشيء الكبير، فهو من الأضداد. وفي لفظ «أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى. وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك، فلم تكترث بذلك، بل صارت تقول: ما فعل رسول الله؟ فيقولون: أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه، ثم جعلت تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب».
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته. أي فأرادوا قطعها، فسألوا رسول الله، فقال: «لا فدعاه فردها رسول الله ﷺ بيده» أي أخذها بيده الشريفة «وردها إلى موضعها» أي براحته الشريفة «وقال: اللهم اكسه جمالا فكانت أحسن عينيه وأحدّهما نظرا؛ وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى».
أي وجاء في قتادة «رضي الله ع» أنه قال «كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي عن وجه رسول الله ﷺ فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي، فأخذتها» أي رفعتها «بيدي أي وقلت: يا رسول الله إن لي امرأة أحبها وأخشى أن تراني تقذرني أي وقال له إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت رددتها ودعوت الله تعالى لك، فقال: يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل، وعطاء جليل، وإني مغرم بحب النساء. وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني، ولكن تردها وتسأل الله تعالى لي الجنة فردها ودعا لي بالجنة».
وجاء عن قتادة «رضي الله ع» «أنه لما رآها في كفي» أي مرفوعة دمعت عينا رسول الله ﷺ وقال: اللهم قِ قتادة كما وقى وجه نبيك بوجهه، فاجعلها أحسن عينيه وأحدّهما نظرا، أي بعد أن ردها إلى موضعها براحته الشريفة» كما تقدم، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:
وأعادت على قتادة عينا ** فهي حتى مماته النجلاء
أي وأعادت تلك الراحة الشريفة على قتادة بن النعمان «رضي الله ع» عينا له ذهبت، فهي إلى مماته الواسعة: أي الكثيرة النظر.
قال الشيخ ابن حجر الهيتمي: ويجمع بين رواية العين الواحدة ورواية الثنتين. أي فقد جاء في حديث غريب «أصيبت عيناي فسقطتا على وجنتي، فأتيت رسول الله ﷺ فأعادهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان» بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة وبعضهم أن الساقط ثنتان، فأخبر كلّ بحسب علمه.
ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة، وبها تترجح رواية إحدى الثنتين، هذا كلامه فليتأمل. وكون ذلك كان يوم أحد هو المشهور. وقيل يوم الخندق.
وقد حكى أبو عمر بن عبد البر أن رجلا من ولد قتادة قدم على عمر بن عبد العزيز «رضي الله ع»؛ فقال له: من الرجل؟ فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ** فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها ** فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد
فقال عمر بن عبد العزيز:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فوصله عمر وأحسن جائزته.
ورمى كلثوم بن الحصين بسهم في نحره، فجاء إلى رسول الله ﷺ فبصق عليه فبرأ. وحضرت الملائكة عليهم السلام يوم أحد ولم تقاتل.
قال: ويؤيده قول مجاهد رحمه الله: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، لكن جاء عن سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» قال «رأيت عن يمين رسول الله ﷺ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال؛ وما رأيناهما قبل ولا بعد، أي وهما جبريل وميكائيل عليهما السلام » ولا منافاة، فقد قال البيهقي رحمه الله: لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم أي فلا ينافي أنهم قاتلوا عنه خاصة ا هـ.
أقول: ويجوز أن يكون المراد بمقاتلتهما دفعهما عنه. وفيه أنه جاء عن الحارث بن الصمة «رضي الله ع» قال «سألني رسول الله ﷺ وهو في الشعب عن عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع»، فقلت: رأيته في جنب الجبل، فقال: الملائكة تقاتل معه. قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن، فإذا بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت؟ قال: أما هذا وهذا فأنا قتلتهما. وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره، فقال صدق الله ورسوله» أي ومقاتلة الملائكة عن خصوص عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» لا ينافي مقاتلتهم يوم بدر عن عموم القوم.
وفي الإمتاع، كان قد نزل قبل أن يخرج إلى أحد قوله تعالى {ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين} فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله ﷺ بملك واحد يوم أحد، فليتأمل والله أعلم.
ولما قتل مصعب بن عمير «رضي الله ع» وسقط اللواء أخذه ملك في صورة مصعب: أي فإنه لما قطعت يده اليمنى أخذ اللواء بيده اليسرى، أي وهو يقول {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية، فلما قطعت جثى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهو يقول {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية، ولم تكن هذه الآية نزلت، بل قالها لما سمع قول القائل قتل محمد، وإنما نزلت: أي بعد قوله في ذلك اليوم كما في الدرّ فهو من القرآن الذي نزل على لسان بعض الصحابة ثم قتل، أي وهذا لا ينافي ما تقدم، من أنه قاتل دونه، فقتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله، أو قتله أبيّ بن خلف لعنه الله، لأنه يجوز أن يكون قتله هو على هذه الكيفية المذكورة.
ثم رأيت في بعض الروايات أن ابن قمئة فعل به هذه الكيفية، أي ثم قتله، وجعل رسول الله ﷺ يقول للملك الذي على صورة مصعب، تقدم يا مصعب، فالتفت إليه الملك فقال: لست بمصعب، فعرف أنه ملك أيد به.
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» لما سمع النبي ﷺ يقول: أقدم مصعب، قال: يا رسول الله، ألم يقتل مصعب؟ قال: بلى ولكن ملك قام مقامه وتسمى باسمه، أي فلا ينافي ذلك قول الملك له لما قال له تقدم يا مصعب: لست بمصعب، لأن مراده لست بمصعب الذي هو صاحبكم.
ورأيت في رواية أنه لما سقط اللواء أخذه أبو الروم أخو مصعب، ولم يزل في يده حتى دخل المدينة، فليتأمل، ووجود هذا الملك يخالف ما تقدم عن الإمتاع، من أنه لم يمدّ بملك واحد.
ولما أراد أن يتوجه إلى المدينة ركب فرسه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، أي ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أحد قال: اصطفوا حتى أثنى عليّ ربي «عَزَّ وجَلّ»، فاصطف الرجال خلفه صفوفا، وخلفهم النساء. فقال «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث.
ثم توجه للمدينة، فلقيته حمنة بنت جحش بنت عمته أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين «رضي الله ع»، فقال لها احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: خالك حمزة، قالت {إنا الله وإنا إليه راجعون} غفر الله له، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: أخاك عبدالله بن جحش، قالت {إنا لله وإنا إليه راجعون} غفر الله له، هنيئا له الشهادة. ثم قال لها: احتسبي، قالت: من يا رسول الله؟ قال: زوجك مصعب ابن عمير، فقالت: واحزناه وصاحت وولولت، فقال رسول الله ﷺ: إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: لم قلت هذا؟ قالت: تذكرت يتم بنيه فراعني، فدعا لها ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم الخلف، فتزوّجت طلحة بن عبيدالله، فكان أوصل الناس لولدها وولدت له محمد بن طلحة.
قال: وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله ﷺ وهو على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بلجامها. فقال له سعد: يا رسول الله أمي؛ فقال: مرحبا بها، فوقف لها، فدنت حتى تأملت رسول الله، فعزاها رسول الله ﷺ بابنها عمرو بن معاذ. فقالت: أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة: أي استقليتها؛ ودعا رسول الله ﷺ لأهل من قتل بأحد: أي بعد أن قال لأم سعد: يا أم سعد أبشري، وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا، وقد شفعوا في أهلهم جميعا، قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: يا رسول الله ادع لمن خلفوا. فقال: اللهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
وسمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهنّ، أي وأبنائهنّ وإخوانهنّ. فقال: حمزة لا بواكي له، أي وبكى، ولعله «رضي الله ع» لم يكن له بالمدينة لا زوجة ولا بنت، فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله ﷺ يبكين حمزة بين المغرب والعشاء. أي وكذلك أسيد ابن حضير أمر نسائه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله ﷺ يبكين حمزة.
أي ولما جاء بيته حمله السعدان وأنزلاه عن فرسه ثم اتكأ عليهما حتى دخل بيته، ثم أذن بلال لصلاة المغرب، فخرج رسول الله ﷺ على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين، فصلى، فلما رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاء، فقال: ما هذا؟ فقل نساء الأنصار يبكين حمزة، فقال: رضي الله عنكن وعن أولادكن، وأمر أن تردّ النساء إلى منازلهن.
وفي رواية: خرج عليهنّ، أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء فإن بلالا أذن بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله، فلما ذهب ثلث الليل نادى بلال: الصلاة يا رسول الله، فقام من نومه وخرج وهنّ على باب المسجد يبكين حمزة «رضي الله ع». ولا يخالف ما سبق، لأن بيت عائشة «رضي الله ع» كان ملاصقا للمسجد، فقال لهنّ: ارجعن رحمكنّ الله، لقد واسيتن معي، رحم الله الأنصار، فإن المواساة فيهم كما علمت قديمة.
أي ولا منافاة، لأنه يجوز أن يكون الأمر عند رجوعه من صلاة المغرب كان لطائفة وبعد ثلث الليل كان لطائفة أخرى، وصارت الواحدة من نساء الأنصار بعد لا تبكي على ميتها إلا بدأت بالبكاء على حمزة «رضي الله ع» ثم بكت على ميتها. ولعل المراد بالبكاء النوح، وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة.
وجاء أنه نهى نساء الأنصار عن النوح، وقال له الأنصار: يا رسول الله، بلغنا أنك نهيت عن النوح، وإنما هو شيء نندب به موتانا، ونجد فيه بعض الراحة، فائذن لنا فيه، فقال: إن فعلن، فلا يخمشن، ولا يلطمن، ولا يحلقن شعرا، ولا يشققن جيبا.
وجاء أنه في يوم أحد دفع عليّ كرمّ الله وجهه سيفه لفاطمة «رضي الله ع» وقال لها اغسليه غير ذميم، فقال: إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعدّد جماعة، أي منهم سهل بن حنيف وأبو دجانة.
وما روي عن عكرمة عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه في يوم أحد دفع سيفه ذا الفقار لابنته فاطمة «رضي الله ع» وقال: اغسلي عنه دمه، لقد صدقني اليوم، وناولها علي كرم الله وجهه سيفه وقال: وهذا فاغسلي عنه دمه، فوالله لقد صدقني اليوم، فقال لعلي كرم الله وجهه: لئن صدقت القتال لقد صدق معك سهيل بن حنيف وأبو دجانة.
وعن ابن عقبة لما رأى رسول الله ﷺ سيف علي كرم وجهه مختضبا دما، قال: إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث ابن الصمة وسهل بن حنيف. وكونه دفع سيفه لابنته فاطمة «رضي الله ع» رده الإمام أبو العباس بن تيمية، بأنه لم يقاتل في ذلك اليوم بسيف، لكن في النور أن هذا الحديث لم يتعقبه الذهبي. قال: ففيه ردّ على ابن تيمية هذا كلامه فليتأمل.
والأكثر على أن الذين قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعون: أربعة من المهاجرين، وهم: حمزة ومصعب وعبدالله بن جحش وشماس بن عثمان، وقيل ثمانون: أربعة وسبعون من الأنصار وستة من المهاجرين. قال الحافظ ابن حجر: لعل الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة. والسادس ثقيف بن عمرو حليف بني عبد شمس، وعدهم في الأصل ستة وتسعين، وهذا لا يناسب ما تقدم في بدر من قوله: إن شئتم أخذتم منهم الفداء، ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك، وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وقيل اثنان وعشرون.
أقول: انظر هذا ما تقدم من أن حمزة وحده قتل واحدا وثلاثين. ورأيت في الطبقات لمولانا الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله ببركاته، أن أويسا القرني كان مشغولا بخدمة والدته، فلذلك لم يجتمع بالنبيّ.
وقد روي أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال: والله ما كسرت رباعيته حتى كسرت رباعيتي ولا شجّ وجهه الشريف حتى شجّ وجهي، ولا وطىء ظهره حتى وطىء ظهري، قال: هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال هذا كلامه، ولم أقف على أنه عليه الصلاة و السلام وطىء ظهره في غزوة أحد، فإن مجموع ما دلت عليه الأخبار أنه شجّ وجهه، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهى منكبه، وجحشت ركبته.
ثم رأيت بعض المؤرخين ذكر أن سيدنا عمر «رضي الله ع» سمع بعد وفاة النبيّ يقول وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضلك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقد قال تعالى {من يطع الرسول فقد أطاع الله} بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال {عفا الله عنك لم أذنت لهم} إلى أن قال: فلقد وطىء ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
ومما يدل على أن أويسا لم يجتمع بالنبيّ ما تقدم من قوله «خير التابعين رجل يقال له أويس القرني» وما أخرجه البيهقي عن عمر «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال «سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر» وفي رواية أن عمر قال لأويس استغفر لي، فقال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله؟ فقال له عمر «رضي الله ع»: سمعت رسول الله ﷺ يقول «إن خير التابعين رجل يقال له أويس» والمراد من خير التابعين كما في بعض الروايات، فلا ينافي ما نقل عن أحمد بن حنبل وغيره أن أفضل التابعين سعيد بن المسيب.
ومما يدل على أن أويسا لم يكن موجودا في زمنه ما جاء في الجامع الصغير سيكون بعدي في أمتي رجل يقال له أويس القرني، وإن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر».
وفي أسد الغابة أن أويسا أدرك النبي ﷺ ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعي الكوفة، وكان يسخر به.
ووفد رجل ممن كان يسخر به مع جماعة من أهل الكوفة على عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقال له عمر: إن رسول الله ﷺ قد قال «إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس القرني وقد كان به بياض، فدعا الله تعالى فأذهب عنه إلا قدر الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم» فأقبل ذلك الرجل لما قدم الكوفة إلى أويس قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس: ما هذا بعادتك؟ قال: سمعت عمر «رضي الله ع» يقول: كذا وكذا فاستغفر لي، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي ولا تذكر قول عمر لأحد فالتزم له ذلك فاستغفر له، وقتل أويس يوم صفين مع عليّ كرم الله وجهه.
ولما وصل المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور، وصاروا يظهرون أقبح القول، أي ومنه: ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط؛ أصيب في بدنه، وأصيب في أصحابه، ويقولون: لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل.
واستأذنه عمر في قتل هؤلاء المنافقين، فقال: أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلى، ولكن تعوذا من السيف، فقد بان أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم، فقال: نهيت عن قتل من أظهر ذلك، وصار ابن أبيّ لعنه الله يوبخ ابنه عبدالله «رضي الله ع» وقد أثبته الجراحة فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله والمسلمين خير.
قال: وكانت عادة عبدالله بن أبيّ ابن سلول إذا جلس يوم الجمعة على المنبر قام فقال: «أيها الناس: هذا رسول الله ﷺ بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس» فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك، فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له: اجلس عدو الله، والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت، فخرج وهو يتخطى رقاب الناس وهو يقول: كأني إنما قلت هجرا، وقال له بعض الأنصار: ارجع يستغفر لك رسول الله، فقال: والله ما أبتغي أن يستغفر لي، وأنزل الله تعالى قصة أحد في آل عمران، وهي قوله تعالى {وإذ غدوت من أهلك تبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال} الآية.
غزوة حمراء الأسد
لما كان صبيحة قدومه من أحد أذن مؤذنه أن يخرجوا خلف قريش، وأن لا يخرج إلا من حضر أحدا، وذلك إرهابا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم: أي يضعفهم عن عدوهم.
قال: وقيل لأنه بلغه أن أبا سفيان يريد أن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله، فقد بلغه أن المشركين قالوا له: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا.
أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف الله في قلوب الرعب.
ويذكر أن عبدالله بن عوف جاء إلى النبي ﷺ صبيحة قدومه من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به؛ فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال: أرشدهم صفوان، وما كان يرشد فدعا رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر رضي عنهما، وذكر لهما الخبر: أي ما أخبر به عبدالله بن عوف فقالا: يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية. فلما انصرف رسول الله ﷺ من صلاة الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي إن رسول الله ﷺ يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس، انتهى.
وعند تهيئة للخروج جاء جابر بن عبدالله «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله إنما تخلف عن أحد، لأن أبي خلفني على أخوات لي سبع، أي وقيل وهو الصحيح إنهن تسع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله، لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستحلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة، فأئذن لي يا رسول الله معك، فأذن له رسول الله ﷺ ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبدالله بن أبي قال له أنا راكب معك، فأبى ذلك عليهم رسول الله.
ودعا رسول الله ﷺ بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لأبي بكر الصديق «رضي الله ع» واستخلف على المدينة ابن أم. مكتوم. وركب رسول الله ﷺ فرسه: أي المسمى بالسكب، ولم يكن مع أصحابه فرس سواه، وعليه الدرع والمغفر وما يرى إلا عيناه وخرج الناس معه: أي جميع من كان معه في أحد.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت في قوله تعالى {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} الآية، قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي كان أبوك الزبير «رضي الله ع» وأبو بكر لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا. قال ابن كثير وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذي خرجوا مع رسول الله ﷺ إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقي، هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم.
قال: والظاهر أنه لا تخالف، لأن معنى قولها يعني عائشة: أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم: أي لم يلتفتوا لذلك، والمراد دواء غير تكميد جراحهم بالنار، وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع، ويتباع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع، فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك: أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة.
فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير «رضي الله ع»، وعقبة بن عامر «رضي الله ع». ومنهم من كان به عشر جراحات، وهو خراش بن الصمة «رضي الله ع» ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك «رضي الله ع». ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيدالله، وقطعت أصبعه. قيل السبابة، وقيل البنصر فشلت بقية أصابع يه وهي اليسرى. وفي رواية أنامله كما تقدم. ومنهم من كان به عشرون جراحة، وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم: أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة».
وخرج رسول الله ﷺ وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته وشفته السفلى قد جرحت من باطنها: أي وفي المنتقى: وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة، وتلقاه طلحة بن عبيدالله «رضي الله ع»، فقال له يا طلحة أين سلاحك؟ فقال: قريب، فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به، وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة. يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله ﷺ مني بجراحي. ثم أقبل عليّ رسول ا فقال: يا طلحة أين ترى القوم، فقلت: بالسفالة، فقال رسول الله ﷺ: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا. وقال لعمر بن الخطاب «رضي الله ع» «يا بن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن» ا هـ.
وكان دليله في السير ثابت بن الضحاك، وليس هو أخا جبير، وقيل أخوه، ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد: أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال، أي وقيل عشرة أميال.
وعن رجل من الأنصار قال «شهدت أحد أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو، فقال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله » وفي لفظ «إن تركنا غزوة مع رسول الله ﷺ لفسق والله ما لنا من دابة نركبها، فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبة ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد، أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران، فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر مع طائفة، فلما أتي بهما إلى رسول الله ﷺ قال لهما ما حبسكما؟ فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما بخير وقال لهما: إن طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم» أي هذان الرجلان عبدالله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع، والحامل له عبدالله.
وأقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم. قال جابر بن عبدالله «رضي الله ع»: وكان عامة زادنا التمر.
وحمل سعد بن عبادة «رضي الله ع» ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء. ولقي كفار قريش معبدا الخزاعي، وكان يومئذٍ مشركا بالروحاء، وكان رأى خروجه خلف قريش، فأخبرهم بخروج رسول الله ﷺ لطلبهم، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة. قال: لما كان بحمراء الأسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه، فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت لغيرك. ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا على أن لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا: أي يأخذوا ثأرهم منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فانصرفوا سراعا ا هـ.
أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله ﷺ وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة، فلما بلغوا رسول الله ﷺ ذلك، قال: : حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} الآية، وقال «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله ﷺ بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين، فانصرف إلى المدينة، وظفر في حمراء الأسد ببي عزة الشاعر الذي من عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته؛ وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم، فنقض العهد، وخرج مع قريش لأحد، وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله بأشعاره كما تقدم. فدعا رسول الله ﷺ لا يفلت فأسر. ثم قيل: إن المشركين لما نزلوا بحمراء الأسد تركوه نائما، فاستمرّ حتى ارتفع النهار، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة، وقيل أسره عمير بن عبدالله.
وفي النور: لا أستحضر أحدا في الصحابة اسمه عمير بن عبدالله، فلما جيء به إليه قال: يا محمد أقلني وامنن علي؛ ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة. وفي لفظ: تمسح لحيتك تجلس بالحجز، تقول خدعت محمدا. وفي لفظ: سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد. وفي لفظ: يا عاصم بن ثابت. وفي لفظ: يا زبير، وقال «لا يلدغ» بالدال المهملة والغين المعجمة. وفي لفظ «لا يلسع المؤمن من حجر مرتين» فضرب عنقه.
وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح. قال بعضهم: وهو أول رأس حمل في الإسلام، أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا، لإمكان أن يراد أن رأس أبي عزة أوّل رأس حمل إلى المدينة على رمح. ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار، وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده. فلما ولي معاوية «رضي الله ع» فر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات، فأخبر بذلك زياد والي العراق، فأرسل من حز رأسه وأرسل به إلى معاوية، فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد.
قال بعضهم في معنى هذا المثل: أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين: إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم، وهذا المثل لم يسمع من غيره. ومورده أن شخصا جرد سيفه وقصد النبي ﷺ فضربه ليقتله فاخطأت الضربة، فقال: كنت مازحا يا محمد فعفا عنه، ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك، فأمر بقتله وقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
وأمر في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه، وقد كان لجأ إلى ابن عمه عثمان بن عفان «رضي الله ع»: أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه، فقالت أم كلثوم بنت النبي ﷺ زوج عثمان من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت: ليس هو هاهنا، فقال: أرسلي إليه. فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه، فجاء عثمان، فلما نظر إليه قال: أهلكتني وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني، فأدخله عثمان «رضي الله ع» منزله وصيره في ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله، فسمع رسول الله ﷺ يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم «رضي الله ع» بأنه في ذلك المكان، فأخرجوه وأتوا به رسول الله، فأمر بقتله، فقال عثمان «رضي الله ع»: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه وأجله ثلاثا، وأقسم إن وجده بعدها قتله.
وخرج رسول الله ﷺ إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا يستعلم أخبار رسول الله ﷺ ليأتي بها قريشا، فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله ﷺ إلى المدينة فخرج معاوية هاربا، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر «رضي الله ع»، فرمياه حتى قتلاه، وقد كان بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا: أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال، فوجداه به فقتلاه. وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله، وكان بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الأسد فقتلوهما فوجدهما النبي ﷺ قتيلين بحمراء الأسد فدفنهما في قبر واحد. ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد.
وجاءه جبريل "عليه السلام" بعد رجوعه إلى المدينة، بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذّر، وتقدم أنه بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن زياد، وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت، لأن سويدا كان قد قتل زيادا أبا المجذر، في الجاهلية، فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام، وكان ذلك سببا لوقعة بغاث، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلم الحارث بن سويد، وأسلم المجذر ابن زياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه كما تقدم، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، قيل وقتل أيضا قيس بن زيد. فنهض رسول الله ﷺ إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه وهو شدة الحر في يوم حار، فخرج إليه الأنصار من أهل قباء «رضي الله ع» ومنهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورّس. وفي لفظ في ملحفة مورسة. وفي لفظ في ثوبين مضرّجين. وفي لفظ ممرّضين، فأمر رسول الله ﷺ عويمر بن ساعدة بضرب عنقه، أي فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه، وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك، فقدم ليضرب عنقه، فقال الحارث: لم يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بن زياد وقيس بن زيد، فما راجعه الحارث بكلمة، فضرب عنقه. قال: وفي رواية أن الحارث قال: والله قتلته: أي المجذر، وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية من الشيطان، وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، فلم يقبل منه النبي ﷺ ذلك انتهى. ولم يذكر قتل قيس بن زيد، ولعله اكتفى بذلك في قتله الحارث، ويعلم استحقاقه القتل بقتل قيس بن زيد بطريق أولى.
أي وكان في هذه السنة الثالثة مولد الحسن بن علي «رضي الله ع»، وسماه حربا، فسماه رسول الله ﷺ الحسن، أي لأنه لما جاء قال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قال عليّ حربا يا رسول الله، فقال: هو حسن، وحنكه بتمر.
وكان في هذه السنة تحريم الخمر. وقيل كان تحريمها في السنة الرابعة وهو محاصر لبني النضير. وقيل كان تحريمها بين الحديبية وخيبر. وقيل كان بخيبر قال «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» وفي رواية «الكرمة والنخلة» وفي رواية «الكرم والنخل» كذا في مسلم. ولعل ذكر الكرم كان قبل النهي عنه، وإلا ففي مسلم «لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم لرجل المسلم وفي رواية «فإن الكرم قلب المؤمن» أو قيل ذلك بيانا للجواز إشارة إلى أن النهي للتنزيه.
وقد حرمت الخمر ثلاث مرات:
لأولى في قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر} أي القمار {قل فيهما إثم كبير} فإنه قدم المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون القمار، فسألوه عن ذلك فنزلت الآية. الثانية أن بعض الصحابة صلى بأصحابه صلاة المغرب وهو سكران فخلط في القراءة، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون} ثم أنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} فكف الناس عن شربها.
وقد جاء أن حمزة «رضي الله ع» لما شربها قال للنبي ومن معه هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ أي ففي البخاري «أن حمزة «رضي الله ع» لما شرب الخمر خرج فوجد ناقتين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعلاهما بالسيف وبقر خواصرها، ثم أخذ من أكبادهما وجبّ سناميهما. قال علي كرم الله وجهه: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبيّ الله وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر، فخرج ومعه زيد، فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرفع حمزة «رضي الله ع» بصره وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي ﷺ يقهقر حتى خرج وذلك قبل تحريم الخمر، ولكون السكر كان مباحا لم يرتب على قول حمزة مقتضاه مع أن من قال لنبي أنت عبدي أو عبد أبي كفر.
واعترض القول بأنها في السنة الرابعة، بأن أنس بن مالك كان ساقيا لها، فلما سمع المنادي بتحريمها أراقها.
وفي البخاري عن أنس «رضي الله ع»: وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا: أي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبيّ بن كعب وأبا عبيدة ابن الجراح «رضي الله ع»، إذا جاء رجل وقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس فأهريقت. وفي لفظ قال أنس «رضي الله ع»: فقمت إلى مهراس فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
وفي مسلم عن أبي طارق «رضي الله ع» أنه قال: يا رسول الله إنما أصنعه: أي الخمر للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء، وإراقة الخمر حينئذ مع أنها كانت مباحة فهي محترمة تغليظ وتوكيد للتحريم وفطم للنفوس، لأن إراقتها لم تكن بأمر منه.
وسئل الحافظ السيوطي رحمه الله عن حكمة رجوعه القهقري، فأجاب بأنه لعله كان من خوف الوثوب عليه إرشادا لمن يخاف الوثوب، أو كان مقصوده مداومته لحظه، أو أن الراوي أراد بالقهقري مطلق الرجوع إلى المنزل لا بالظهر.
وأنس «رضي الله ع» لم يكن خادما للنبي حينئذ: أي في السنة الرابعة بل بعدها. وحينئذ يكون القول بأن كونه في الثالثة أشكل.
وأشكل من هذا ما حكاه ابن هشام في قصة الأعشى بن قيس أنه خرج إلى رسول الله، فلما كان بمكة اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله، فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال: إن يحرم الخمر. فقال اوعشى: أما هذه إن في النفس منها لغلالات، ولكني منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم، فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي، هذا كلامه لما علمت أن الخمر لم تحرم بمكة وإنما حرمت بالمدينة في السنة الثالثة أو الرابعة. وأجاب بعضهم بأن الأعشى أراد المدينة فاجتاز بمكة، فعرض له بعض كفار قريش.
واعترض بأنه قيل إن القائل له ذلك أبو جهل لعنه الله وكان في دار عتبة بن ربيعة وأبو جهل قتل ببدر في السنة الثانية.
وأجيب بأنه على تسليم صحة ذلك بأنه يجوز أن يكون أبو جهل لعنه الله قصد صد الأعشى عن الإسلام بطريق التقول والافتراء، لأنه كان يعرف ميل الأعشى إلى الخمر وعدم صبره على تركها، فاختلق هذا القول من عنده ليمنعه بذلك عن الإسلام.
أقول: لما حرمت الخمر قال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم أي لأن جماعة شربوها صبح يوم أحد قتلوا من يومهم شهداء، فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} وكون أنس «رضي الله ع» لم يكن خادما للنبي إلا بعد السنة الرابعة يخالف ما سبق أن عند قدومه المدينة جاءت به أمه ليخدمه.
وفي البخاري عن أنس «رضي الله ع» قال «قدم النبي ﷺ المدينة ليس له خادم، ثم أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك فخدمته في السفر والحضر» وتقدم الجمع بين كون الآتي به أبا طلحة والآتي به أمه.
وفي البخاري أيضا عن أنس «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ قال لأبي طلحة: التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حين أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله ﷺ إذا نزل».
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون لم يأمر أنسا بالخروج معه إلى خيبر لظنه أن أمه لا تسمح له بذلك، فلما قال لأبي طلحة ما ذكر جاء إليه بأنس «رضي الله ع»، والله أعلم.
غزوة بني النضير
وهم قوم من اليهود بالمدينة. وفي كلام بعضهم: بنو النضير هؤلاء حي من يهود خيبر، أي وقريتهم كان يقال لها زهرة.
كانت تلك الغزاة في ربيع الأول: أي من السنة الرابعة. وقيل كانت قبل وقعة أحد، قال: وبه قال البخاري. قال ابن كثير: والصواب إيرادها بعد أحدكما كما ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره من أئمة المغازي انتهى.
أمر النبي ﷺ الناس بالتهيؤ لحرب بني النضير والسير إليهم
واختلف في سبب ذلك؟ فمن جملة ما قيل: إنه ذهب إليهم ليسألهم كيف الدية فيهم؟ أي لأنه كان بينهم وبين بني عامر قبيلة الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند رجوعه من بئر معونة غيلة حلف وعقد.
وقيل ذهب إليهم ليتسعين بهم في دية الرجلين المذكورين، أي وكان أخذ العهد على اليهود أن يعاونوه في الديات.
وقيل لأخذ دية الرجلين منهم، لأن بني النضير كانوا حلفاء لقوم الرجلين المذكورين وهم بنو عامر، كذا في الأصل فليتأمل. فإن فيه أخذ الدية من حلفاء المقتول وسار إليهم في نفر من أصحابه: أي دون العشرة، فيهم أبو بكر وعمر وعلي «رضي الله ع»، فقالوا له: نعم يا أبا القاسم حتى تطعم وترجع بحاجتك، وكان جالسا إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة، فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال أحد ساداتهم: أنا لذلك أي وهو عمرو بن جحاش، وقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به، إنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه، فلما صعد ذلك الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام رسول الله ﷺ: أي مظهرا أنه يقضي حاجته، وترك أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه، فقاموا في طلبه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من أصحابه، فقاموا في طلبه لما استبطؤوه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه، فقالوا: رأيته داخل المدينة، فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه، فأخبرهم رسول الله ﷺ بما أرادت بنو النضير. وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وجاء وحي بالذي أضمرت بنو النـ ** ـنضير وقد هموا بإلقاء صخرة
أي وفي رواية لما رأوا قلة أصحابه قالوا نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة، فنبيعهم من قريش. أي ولا مانع من وجود الأمرين.
وقيل السبب في خروجه إليهم أنهم أرسلوا إليه أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك، وليخرج منا ثلاثون حبرا فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه قال بعضهم لبعض: كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون كل يحب أن يموت قبله، فأرسلوه إليه أن أخرج في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا، فإن آمنوا بك اتبعناك ففعل، واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير لأخ لها مسلم تعلمه بذلك، فأعلم أخوها النبي ﷺ بذلك فرجع، ولا مانع من وجود ذلك مع ما تقدم، لكن في السيرة الهشامية أن خبر ذلك بلغه قبل وصوله إليهم فرجع، فبينما بنو النضير على ذلك: أي على إرادة إلقاء الحجر والتهيؤ لإلقائه، إذ جاء جاءٍ من اليهود من المدينة فقال لهم: ما تريدون؟ فذكروا له الأمر، فقال لهم: أي محمد؟ قالوا: هذا محمد، فقال لهم: والله لقد تركت محمدا داخل المدينة، فأسقط في أيديهم وقالوا: قد أخبر بأمرنا، فأرسل إليهم محمد بن مسلمة «رضي الله ع» أن أخرجوا من بلدي يعني المدينة لأن قريتهم من أعمالها، فلا تساكنوني بها، فقد هممتم بما هممتم به من الغدر. أي وأخبرهم بما هموا به من ظهور عمرو بن جحاش على ظهر البيت ليطرح الصخرة، فسكتوا ولم يقولوا حرفا، قال: ويقول لكم: قد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه، واقتصاره على ذلك لا ينافي ما تقدم من إرادة قتله أيضا، قيل وأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} ولا ينافي ذلك ما تقدم من نزولها في حق دعثور في غزوة ذي أمرّ، لجواز تكرار النزول، فأرسلوا في إحضار الإبل، فأرسل إليهم المنافقون أن لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم: إن قوتلتم فلكم علينا النصر، وإن أخرجتم لن نتخلف عنكم، خصوصا عبدالله بن أبي ابن سلول لعنه الله، فإنه أرسل لهم: لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم، وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان، فطمع بنو النضير فيما قال ابن أبي، فأرسلوا لرسول الله ﷺ: إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك، فأظهر رسول الله ﷺ التكبير وكبر المسلمون لتكبيره وقال: حاربت يهود. قال: والمتولي أمر ذلك سيد بني النضير حيي بن أخطب والدصفية أم المؤمنين «رضي الله ع»، وقد نهاه أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم وقال له: منتك نفسك والله يا حيي الباطل، فإن قول ابن أبي ليس بشيء، وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا فيجلس في بيته ويتركك؛ ألا ترى أن أرسل إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة أن تمدكم بنو قريظة، فقال له: لا ينقض رجل واحد منا العهد فأيس من بني قريظة. وأيضا قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم أي حصونهم، وانتظروا ابن أبي فجلس في بيته وسار إليهم محمد حتى نزلوا على حكمه. فإذا كان ابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروهم. أي فإنه إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس، فكيف يقبل قوله، فقال حيي: نأبى إلا عداوة محمد وإلا قتاله. قال سلام: فهو والله جلاؤنا من أرضنا، وذهاب أموالنا وشرفنا، وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا، فأبى حيي إلا محاربة رسول الله. وقالت له بنو النضير: أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك، فأرسل إلى رسول الله ﷺ بما ذكر ا هـ، فتهيأ الناس لحربهم. فلما اجتمع الناس خرج رسول الله ﷺ بهم، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وحمل رياته علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وسار بالناس حتى نزل وصلى بهم العصر بفنائهم، وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنبل والحجارة.
أي وفي كلام بعضهم أنه أمر أصحابه «رضي الله ع» بالمسير إلى بني النضير فسار بهم إليهم، فوجدهم ينوحون على كعب بن الأشرف أي الآتي قتله في السرايا، قالوا: يا محمد داعية إثر داعية وباكية إثر باكية، ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك، فقال لهم: اخرجوا من المدينة، قالوا: الموت أهون من ذلك ثم تبادروا بالحرب، هذا كلامه.
قال: ولما جاء وقت العشاء رجع رسول الله ﷺ إلى بيته في عشرة من أصحابه عليه الدرع وهو على فرس، واستعمل على العسكر علي بن أبي طالب ويقال أبا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم ويكبرون حتى أصبحوا ثم أذن بلال بالفجر، فغدا رسول الله ﷺ في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس، وأمر بلالا فضرب القبة، وهي قبة من خشب عليها مسوح، فدخل فيها، وكان رجل من يهود يقال له غزول، وكان أعسر راميا يبلغ نبله ما لا يبلغه نبل غيره، فوصل نبله تلك القبة، فأمر بها فحولت. وفي ليلة من الليالي فقد علي «رضي الله ع» قرب العشاء، فقال الناس: يا رسول الله ما نرى عليا، فقال: دعوه أي اتركوه، فإنه في بعض شأنكم، فعن قليل جاء برأس الرجل الذي يقال له غزول الذي وصل نبله قبته، كمن لي عليّ حين خرج يطلب غرة من المسلمين ومعه جماعة، فشد عليه فقتله وفرّ من كان معه، فأرسل رسول الله ﷺ مع عليّ أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة، فأدركوا أولئك الجماعة الذين كانوا مع غزول وفروا من عليّ فقتلوهم انتهى.
وذكر بعضهم أن أولئك الجماعة كانوا عشرة، وأنم أتوا برؤوسهم فطرحت في بعض الآبار. وفي هذا ردّ على بعض الرافضة حيث ادعى أن عليا هو القاتل لأولئك العشرة، وأمر رسول الله ﷺ بقطع النخل، أي ويحرقها بعد أن حاصرهم ست ليال وقيل خمسة عشر يوما: أي وقيل عشرين ليلة، وقيل ثلاثا وعشرين ليلة، وقيل خمسا وعشرين ليلة. وكان سعد بن عبادة «رضي الله ع» في تلك المدة يحمل التمر للمسلمين: أي يجاء به من عنده. قال: واستعمل رسول الله ﷺ على قطع النخل أبا ليلى المازني وعبدالله بن سلام. وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبدالله يقطع اللين ويقال له اللون، وهو ما عدا العجوة، والبرني من أنواع التمر بالمدينة، ومن أنواع تمر المدينة الصيحاني.
وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. قال: خرجت مع رسول الله ﷺ فصاحت نخلة بأخرى: هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى، فقال يا علي إنما سمي نخل المدينة أي هذا النوع صيحانيا، لأنه صاح بفضلي، وهو حديث مطعون فيه، قيل إنه كذب. والبرن بالفارسية: حمل مبارك أو جيد.
وفي شرح مسلم للنووي أنها مائة وعشرون نوعا. أي وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد السمهودي أن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعا وثلاثين نوعا، ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدناها أكثر مما ذكره النووي. قال: ولعل ما زاد على ما ذكره حدث بعد ذلك.
أي وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغب فلا تكاد تنحصر. فقد نقل أن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم سلجماسة إبراهيم بن هلال يسأله عن حصر أنواع التمر بتلك البلدة، فأرسل إليه حملا أو حملين من كل نوع تمرة واحدة، وكتب إليه هذا ما تعلق به علم الفقير {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
ثم رأيت في نشق الأزهار أن بهذه البلدة رطبا يسمى البتوني، وهو أخضر اللون، وأحلى من عسل النحل، ونواه في غاية الصغر، وكانت العجوا خير أموال بني النضير، أي لأنهم كانوا يقتاتونها.
وفي الحديث «العجوة من الجنة، وثمرها يغذي أحسن غذاء»أي وتقدم أن آدم نزل بالعجوة من الجنة.
وفي البخاري «من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر» أي وقد جاء في عجوة العالية شفاء وأنها ترياق أول البكرة من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سمّ ولا سحر».
أي وفي كلام بعضهم: العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني تضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي ﷺ بيده الشريفة بالمدينة. أي وقد علمت أنها في نخل بني النضير.
وفي العرائس عن ابن عباس «رضي الله ع» «هبط آدم من الجنة بثلاثة أشياء: بالآسة، وهي سيدة ريحان الدنيا. والسنبلة، وهي سيدة طعام الدنيا. والعجوة، وهي سيدة ثمار الدنيا».
وروي عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء، وإنها ترياق أول البكرة، وعليكم بالتمر البرني فكلوه فإنه يسبح في شجره، ويستغفر لآكله» هذا كلام العرائس.
وفي حديث وفد عبد القيس «أن رسول الله ﷺ قال لهم ذلك، وذكر البرني أنه من خير تمركم، وأنه دواء وليس بداء» وجاء «بيت لا تمر فيه جياع أهله» قال ذلك مرتين.
ولما قطعت العجوة شق النساء الجيوب، وضربن الخدود، ودعون بالويل، أي وذلك البعض الذي حرق كان بمحل يعرف بالبويرة ا هـ أي والبويرة تصغير بورة. وهي هنا الحفرة، ويقال لها البولة باللام بدل الراء وعند ذلك نادوه أي يا محمد. وفي رواية: يا أبا القاسم. قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ أي وفي رواية: ما هذا الفساد؟ وفي لفظ قالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أفمن الصلاح قطع النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ وقالوا للمؤمنين: إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون. وحينئذ وقع في نفوس بعض المسلمين من ذلك شيء، فأنزل الله تعالى {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين} أي في قولهم إن ذلك من الفساد.
قال بعضهم: جميع ما قطعوا وحرقوا ست نخلات، ولا زال عبدالله بن أبي ابن سلول يبعث لبني النضير أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم، أي ومعه على ذلك جمع من قومه، فانتظروا ذلك، فخذلهم ولم يحصل لهم منه شيء، أي وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صوريا يقولان لحيي أين نصر بن أبيّ الذي زعمت؟ فيقول حيي: ما أصنع، هي ملحمة كتبت علينا، ولزم رسول الله ﷺ حصارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله ﷺ أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة: أي آلة الحرب ففعل، فاحتملوا النساء والصبيان، وحملوا من أموالهم غير الحلقة ما استقلت به الإبل وكانت ستمائة بعير، فكان الرجل يهدم بيته عما استحسن من خشبه كبابه وكنجاف به أي أسكفته فيضعه على ظهره بغيره فينطلق به.
أي وفي لفظ: صاروا ينقضون العمد والسقوف، وينزعون الخشب حتى الأوتاد، وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا.
وفي رواية: جعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصنهم، ويهدم الآخرون ما يليهم. قال: وفي رواية أنهم خرجوا مظهرين التجلد: خرجت النساء على الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة، وخلفهم القيان بالدفوف والمزامير، ومنهم سلمى أم وهب.
وقال ابن إسحاق أم عمرو صاحبة عروة بن الورد الذي قيل فيه: من قال إن حاتما أسمح العرب فقد ظلم عروة بن الورد. أغار عروة على قومها فسباها ثم اتخذها حليلة له فجاءت منه بأولاد.
ثم إن بعض بني النضير اشتراها من عروة بعد أن سقاه الخمر، ثم لما أفاق ندم. ثم اتفق هو ومن اشتراها على أن تكون عند من تختاره، فخيرها فاختارت من اشتراها.
وقيل إن قومها جاؤوا إليه بفدائها، فخيرها وكان لا يظن أن تختار عليه أحدا، فاختارت قومها فندم.
وعند مفارقتها له قالت له: والله ما أعلم امرأة من العرب أرخت سترا على بعل مثلك، أغض طرفا ولا أندى كفا، ولا أغنى غناء، وإنك لرفيع العماد، كثير الرماد، خفيف على ظهور الخيل، ثقيل على متون الأعداء، وأحنى على الأهل والجار، وما كنت لأوثر عليك أهلي لولا أني كنت أسمع بنات عمك يقلن: قالت أم عروة وفعلت أم عروة فأجد من ذلك الموت، والله لا يجامع وجهي وجه أحد من أهلك فاستوص ببنيك خيرا، ثم تزوجت في بني النضير، وشقوا سوق المدينة وصف لهم الناس، فجعلوا يمرون قطارا في أثر قطار، وإن سلام بن أبي الحقيق رافع جلد جمل أي أو ثور أو حمار مملوء حليا، وينادي بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل، وحزن المنافقون لخروجهم أشد الحزن انتهى.
وهذا الحلي كانوا يعيرونه للعرب من أهل مكة وغيرهم، وكان يكون عند آل أبي الحقيق، وسيأتي في غزوة خيبر أنه عبر عن هذا الحلي بالآنية والكنز وأنه كان سببا لقتل ولدي أبي الحقيق لما كتماه عنه.
فمنهم من سار إلى خبير، أي ومن جملة هؤلاء أكابرهم حيي بن أخطب، وسلام ابن أبي الحقيق، وكنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق. فلما نزلوا خيبر دان لهم أهلها.
ومنهم من سار إلى الشام: أي إلى أذرعات. وكان فيهم جماعة من أبناء الأنصار، لأن المرأة من الأنصار كان إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش لها ولد تهوده، فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك: لا ندع أبناءنا، وأنزل الله تعالى {لا إكراه في الدين} وهي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام، وإلا فإكراه الكفار الحربيين على الإسلام سائغ، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: وهما يامين بن عمير، وأبو سعد ابن وهب. قال أحدهما لصاحبه: والله إنك لتعلم أنه رسول الله ﷺ فما ننتظر أن نسلم فنأمن على دمائنا وأموالنا، فنزلا من الليل وأسلما فأحرزا أموالهما. أي وجعل يامين لرجل من قيس جعلا أي وهو عشرة دنانير، وقيل خمسة أوثق من تمر على قتل عمرو بن جحاش الذي أراد أن يلقي الحجر على رسول الله، فقتله غيلة أي بعد أن قال رسول الله ﷺ ليامين: ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما همّ به من شأني؟ فسر بذلك النبي، ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر، ولذلك كان يسميها ابن عباس «رضي الله ع» سورة بني النضير كما في البخاري.
وفي كلام السبكي رحمه الله: لم يختلفوا أن سورة الحشر نزلت في بني النضير. وقد أشار لقصتهم صاحب الهمزية بقوله
خدعوا بالمنافقين وهل ينـ ** ـفق إلا على السفيه الشقاء
ونهيتم وما انتهت عنه قوم ** فأبيد الأمار والنهاء
أسلموهم لأوّل الحشر لا ميـ ** ـعادهم صادق ولا الإيلاء
سكن الرعب والخراب قلوبا ** وبيوتا منهم نعاها الجلاء
أي وخدعهم قول المنافقين إنهم يكونون معهم وينصرونهم على النبي، وما يروج الشقاء إلا على السفيه.
والمراد بالمنافقين عبدالله بن بي ابن سلول ومن كان معه على النفاق، لأنه كما تقدم لا زال يرسل لهم أن اثبتوا وتمنعوا، فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم. ونهاهم عن موافقته سلام بن مشكم، فلم ينتهوا أسلمهم أولئك المنافقون لأول الحشر. وهو أي الحشر جلاؤهم وخروجهم من ديارهم، فميعادهم لهم بأن ينصروهم على النبي، غير صادق وكذا حلفهم لهم على ذلك غير صادق أيضا.
ذكر موسى بن عقبة أنهم كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قبلها، فلذلك قال لأول الحشر. والحشر: الجلاء.
وقيل المراد بالحشر، فإنهم قالوا إلى أين نخرج يا محمد؟ قال: إلى الحشر، يعني أرض المحشر. والحشر الثاني: هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن، فتحشر الناس إلى الموقف.
وقيل الحشر الثاني لهم كان على يد سيدنا عمر «رضي الله ع»، أجلاهم من خيبر إلى تيمياء وأريحاء، وسيأتي ذكره. وسكن الرعب: وهو خشية انتقامه منهم قلوبهم، وسكن الخراب بيوتهم. وقد أخبر تلك البيوت بموت أهلها خروجهم وجلاؤهم من أرضهم، وأنزل الله تعالى {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} وهم بنو النضير {لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم} أي في خذلانكم {أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون: لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} مثلهم {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين} ووجد من الحلقة: أي آلة السلاح خمسين درعا، وخمسين بيضة، وثلاثمائة وأربعين سيفا، ولم يخمس ذلك رسول الله ﷺ أي كما خمس أموال بني قينقاع. قال: وقد قال له عمر «رضي الله ع»: يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت: أي كما فعلت في بني قينقاع، فقال رسول الله ﷺ: لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين بقوله تعالى {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان أي فكان أموال بني النضير وعقارهم فيئا لرسول الله ﷺ خاصة، وتقدم التنبيه على ذلك في غزوة بني قينقاع، وفسرت القرى بالصفراء ووادي القرى أي ثلث ذلك كما في الإمتاع وينبع، وفسرت القرى ببني النضير وخيبر: أي بثلاث حصون منها. وهي الكتيبة والوطيح وسلالم كما في الإمتاع، وفدك: أي نصفها كما في الإمتاع، ذكره الرافعي في شرح مسند إمامنا الشافعي «رضي الله ع».
أقول: قال بعضهم: وهذا أول فيء حصل لرسول الله. ويرده ما تقدم في غزوة بني قينقاع، إلا أن يقال: المراد أوّل فيء اختص به ولم يقسمه قسمة الغنيمة على ما تقدم.
ثم دعا الأنصار الأوس والخزرج فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين، من إنزالهم في منازلهم، وإيثارهم على أنفسهم بأموالهم. ثم قال لهم: إن إخوانكم المهاجرين ليس لهم أموال، فإن شئتم قسمت هذه الأموال: أي التي أفاء الله عليّ وخصني بها مع أموالكم بينكم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة، فقالوا: بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت.
وفي رواية: إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله على من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم: أي الأرض والنخل، لأنه لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديكم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار: أي النخل، فآثروهم بمتاع من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة ويكفونه العمل، ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة، لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وإن أحببتم أعطيتهم أي وخرجوا من دوركم، أي وأموالكم، فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ. فقالا: يا رسول الله بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا، بل نحب أن تقسم ديارنا وأموالنا على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وعشائرهم وخرجوا حبا لله ولرسوله، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله. فقال رسول الله ﷺ: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار. زاد في رواية: وأبناء أبناء الأنصار. وقال أبو بكر «رضي الله ع» جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا، أي وأنزل الله تعالى فيهم {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} أي ولو كان بهم فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به، فقسم رسول الله ﷺ ذلك بين المهاجرين. أي وفي كلام بعضهم أنه لم يعم المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين: أي وهما سهل بن حنيف وأبو دجانة «رضي الله ع»، وبعضهم ضم إليهما ثالثا وهو الحارث بن الصمة ونظر فيه بعضهم بأنه قتل في بئر معونة.
وأعطى سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم، وكان يزرع أرضهم التي تحت النخل، فيدّخر من ذلك قوت أهله سنة، وما فضل يجعله في الكراع: أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى.
أقول: فيه تصريح بأنه لم يقسم الأرض، ويحتمل أن المراد بقوله كان يزرع أرضهم التي تحت النخل: أي بعض أرضهم، ويدل له ما يأتي، ولم أقف على كيفية زرعه للأرض من مزارعة أو غيرها.
وفي الخصائص الكبرى عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: كان نخل بني النضير لرسول الله ﷺ خاصة، أعطاه الله تعالى إياه وخصه بها، فأعطى أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار.
وهذا السياق يدل على أن مراده بنخل بني النضير أموالهم كما تقدم في الروايات، لا خصوص النخل.
ثم رأيت في عبارة بعضهم: وأكثر الروايات على أن أموال بني النضير: أي من مواشيهم كالخيل ومزارعهم وعقارهم حق لرسول الله ﷺ خاصة له، خصه الله تعالى بها، لم يخمسها ولم يسهم منها لأحد، وأعطى منها ما أراد ووهب العقار للناس. وأعطى أبا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وصهيبا وأبا سلمة بن عبد الأسد ضياعا معروفة من ضياع بني النضير.
ولعل المراد بالضياع الأراضي، ويدل لذلك ما في البخاري «أقطع رسول الله ﷺ الزبير أرضا من أراضي بني النضير» كما أن ذلك هو المراد بقول الإمتاع وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله ﷺ جعلها حبسا لنوائبه. وكان ينفق على أهله منها وكانت صدقاته منها.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون أعطى بعض أراض وأبقى بعضها يزرع له. ولما أعطى المهاجرين أمرهم بردّ ما كان للأنصار لاستغنائهم عنهم ولأنهم لم يكونوا ملكوهم ذلك، وإنما كانوا دفعوا لهم تل النخيل لينتفعوا بثمرها، وظنت أم أيمن أن ذلك ملك لها فامتنعت من رده، أي لأن أم أنس كانت أعطته نخلات، فأعطاها رسول الله ﷺ أم أيمن ولم ينكر عليها ذلك تطيبيا لقلبها لكونها حاضنته، وصار يعطيها وهي تمتنع من رده إلى أن أعطاها عشرة أمثاله أو قريبا من ذلك.
وذكر هذا في بني النضير يخالف ما في مسلم أن ذلك كان عند فتح خيبر، حيث ذكر أنه لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارها، وذكر قصة أم أيمن، فليتأمل والله أعلم.
غزوة ذات الرقاع
أي وتسمى غزوة الأعاجيب: أي لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وغزوة محارب وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار.
عن ابن إسحاق رحمه الله: ثم أقام رسول الله ﷺ بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الأول. وقال غيره: شهري ربيع وبعض جمادي. ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة، حين بلغه أنهم جمعوا الجموع: أي من غطفان لمحاربته، فخرج في أربعمائة من أصحابه «رضي الله ع»، أي وقيل سبعمائة وقيل ثمانمائة.
أي واحتج البخاري رحمه الله على أن هذه الغزاة كانت بعد خيبر بما رواه عن أبي موسى «رضي الله ع» مما يدل على أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وهو «خرجنا مع رسول الله ﷺ ستة نفر بيننا بعير، فنقبت أقدامنا، نقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرلجنا الخرق: فسميت غزاة ذات الرقاع.
وإذا ثبت أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع، وثبت أنه لم يجيء إليه من الحبشة إلا بخيبر لزم أن تكون غزوة ذات الرقاع بعد خيبر، إلا أن يدعي تعدد غزوة ذات الرقاع مرتين، وأنها كانت قبل خيبر وبعدها، والتي وجدت فيها صلاة الخوف هي الثانية. أي والسبب في تسميتها ذات الرقاع ما تقدم عن أبي موسى «رضي الله ع»، وحيث كانت بعد خيبر يلزم أن تكون بعد الخندق، لقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت، أي لأنها لو كانت شرعت لصلاها، ولم يؤخر الصلاة كما سيأتي، وسيأتي الجواب عن ذلك.
وقد ذكرها الشمس الشامي رحمه الله تعالى بعد خيبر، والأصل لم يذكر ماتقدم عن البخاري، بل رواه بالمعنى، فقال: روينا في صحيح البخاري من حديث أبي موسى «رضي الله ع» أنهم نقبت أقدامهم، فلفوا عليها الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع. قال: وجعله: أي البخاري حديث أبي موسى هذا حجة على أن غزوة ذات الرقاع متأخرة عن خيبر، لأن أبا موسى إنما قدم في خيبر لا دلالة فيه على ذلك، أي لأنه يجوز أن يكون قول أبي موسى «رضي الله ع» إنهم نقبت أقدامهم: يعني الصحابة، فيكون هذا مما رواه أبو موسى عمن شاهد الوقعة من الصحابة. وفيه أن هذا لا يأتي مع قول البخاري عن أبي موسى «فنقبت قدماي وسقطت أظفاري» إذ هو صريح في أن أبا موسى «رضي الله ع» حضرها، والأصل تبع في تقديمها على خيبر شيخه الدمياطي، وتابعه أيضا في رواية ما تقدم عن البخاري بالمعنى. ونظر الدمياطي في رواية أبي موسى: أي التي في البخاري التي رواه عنه بالمعنى، بأنها مخالفة لما عليه أهل المغازي من تقديمها على خيبر.
قال الحافظ ابن حجر: وادعى الدمياطي غلط الحديث الصحيح، وأن جميع أهل السير على خلافة، والاعتماد على ما في الصحيح أي من تأخيرها من خيبر أولى، لأن أصحاب المغازي مختلفون في زمانها. قال: والبخاري مع روايته عن أبي موسى الصريحة في تأخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة خيبر، قدم غزوة ذات الرقاع على خيبر. قال: ولا أدري، هل تعمد ذلك تسليما لأصحاب المغازي أنها كانت قبل خيبر، أو أن ذلك من الرواة عنه، أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين: أي واحدة قبل خيبر، والثانية بعدها كما قدمناه. أي وقدمنا أن سبب التسمية في الثانية ما ذكر عن أبي موسى «رضي الله ع»، وأما في الأولى فأحد الأسباب الآتية.
قال في الإمتاع: وقد قال بعض من أرخ: إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة، فواحدة كانت قبل الخندق، وأخرى بعدها: أي وبعد خيبر.
ولم غزا استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري. وقيل عثمان بن عفان «رضي الله ع». قال ابن عبد البر: وعليه الأكثر. أي وقد نظر في الأول، بأن أبا ذرّ «رضي الله ع» لما أسلم بمكة رجع إلى بلاد قومه، فلم يجيء حتى مضت بدر وأحد والخندق.
أقول: وهذا النظر بناء على أنها كانت قبل الخندق، وأما على أنها كانت بعد الخندق وبعد خيبر فلا يتأتي هذا النظر، والله أعلم.
وسار حتى بلغ نجدا فلم يجد بها أحدا ووجد نسوة فأخذهنّ وفيهن جارية وضيئة. ثم لقي جمعا فتقارب الجمعان ولم يكن بينهما حرب.
وقد خاف بعضهم بعضا: أي خاف المسلمون أن تغير المشركون عليهم وهم غارون أي غافلون حتى صلى رسول الله ﷺ بالناس صلاة الخوف، وكانت أول صلاة للخوف صلاها.
قال وفي رواية «حانت صلاة الظهر فصلاها بأصحابه، فهمّ بهم المشركون، فقال قائلهم: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هي أحبّ إليهم من أبنائهم، أي وهي صلاة العصر، فنزل جبريل "عليه السلام" على رسول الله ﷺ فأخبره، فصلى صلاة العصر صلاة الخوف» ا هـ.
أقول: سيأتي هذا كله بعينه في غزوة الحديبية التي هي صلاة الخوف بعسفان. ولا مانع من تعدد ذلك. ويحتمل أنه من الاشتباه على بعض الرواة، والله أعلم.
وكان العدوّ في غير جهة القبلة، ففرقهم فرقتين: فرقة وقفت في وجه العدوّ، وفرقة صلى بها ركعة، ثم عند قيامه للثانية فارقته وأتمت بقية صلاتها، ثم جاءت ووقفت في وجه العدوّ، وجاءت تلك الفرقة التي كانت في وجه العدوّ واقتدت به في ثانيته فصلى بها ركعة، ثم قامت وهو في جلوس التشهد، وأتمت بقية صلاتها ولحقته في جلوس التشهد وسلم بها. وهذه الكيفية في ذات الرقاع رواها الشيخان، ونزل بها القرآن، وهو قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية.
أي وفي كلام بعضهم: فصلى بهم النبيّ صلاة الخوف، صلى بطائفة ركعتين، وبالأخرى أخريين. وسيأتي أن هذه صلاته ببطن نخل وفي الخصائص الصغرى: وخص بصلاة الخوف فلم تشرع لأحد من الأمم قبلنا، وبصلاة شدة الخوف عند التحام القتال.
أي وفي هذه الغزوة نزل ليلا، وكانت تلك الليلة ذات ريح. وكان نزوله في شعب استقبله فقال: من رجل يكلؤنا: أي يحفظنا هذه الليلة، فقام عباد بن بشر «رضي الله ع» وعمار بن ياسر «رضي الله ع»، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤكم، فجلسا على فم الشعب، فقال عباد بن بشر لعمار بن ياسر: أنا أكفيك أول الليل وتكفيني آخره، فنام عمار «رضي الله ع» وقام عباد «رضي الله ع» يصلي، وكان زوج بعض النسوة التي أصابهنّ رسول الله ﷺ غائبا، فلما جاء أخبر الخبر فتتبع الجيش، وحلف لا ينثني حتى يصيب محمدا أو يهريق في أصحاب محمد دما، فلما رأى سواد عباد قال: هذا ربيئة القوم، ففوّق سهما فوضعه فيه، فانتزعه عباد فرماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه، فرماه بآخر فانتزعه، فلما غلبه الدم قال لعمار اجلس فقد أثبت، فلما رأى ذلك الرجل عمار أجلس علم أنه قد نذر به، فهرب، فقال عمار: أي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمي به، فقال: كنت أقرأ في سورة: أي في سورة الكهف فكرهت أن أقطعها.
وفي لفظ: جعل شخصين من أصحابه يقال هما عباد بن بشر من الأنصار وعمار بن ياسر من المهاجرين في مقابلة العدو، فرمى أحدهما بسهم فأصابه ونزفه الدم وهو يصلي، ولم يقطع صلاته بل ركع وسجد ومضى في صلاته، ثم رماه بثان وثالث وهو يصيبه ولم يقطع صلاته أي وهو عباد بن بشر كما تقدم. وقد قال عباد اعتذارا عن إيقاظ صاحبه: لولا أني خشيت أن أضيع ثغرا أمرني به رسول الله ﷺ ما انصرفت ولو أتى على نفسي.
أقول: وبهذه الواقعة استدل أئمتنا على أن النجاسة الحادثة من غير السبيلين لا تنقض الوضوء، لأنه علم ذلك ولم ينكره.
وأما كونه صلى مع الدم فلعلّ ما أصاب ثوبه وبدنه منه قليل؛ ولا ينافي ذلك ما تقدم في الرواية قبل هذه «فلما غلبه الدم» إذ يجوز مع كونه كثيرا أنه لم يصب ثوبه ولا بدنه إلا القليل منه والله أعلم.
ويقال إن رجلا من القوم: أي وهو غورث بالغين المعجمة مكبرا على الأشهر وقيل غويرث بالتصغير والمهملة ابن الحارث، قال لهم: ألا أقتل لكم محمدا، قالوا بلى، وكيف تقتله؟ قال: أفتك به أي أجيء إليه على غفلة، فجاء إليه وسيفه في حجره، فقال: يا محمد أرني أنظر إلى سيفك هذا؟ فأخذه من حجره فاستله، ثم جعل يهزه ويهمّ فيكبته الله: أي يخزيه، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا بل يمنعني الله تعالى منك، ثم دفع السيف إليه فأخذه وقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: أعاهدك على أني لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك، قال: فخلى رسول الله، سبيله فجاء إلى قومه، فقال: جئتكم من عند خير الناس، وأسلم هذا بعد، وكانت له صحبة.
وفي رواية: جاء إليه وهو جالس وسيفه في حجره، فقال: يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم، فأخذه فاستله، ثم جعل يهزه، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال: لا، وما أخاف منك، قال: وفي يدي السيف؟ قال: لا، يمنعني الله تعالى منك، ثم غمد سيف رسول الله فرده عليه.
وهذه واقعة غير واقعة دعثور المتقدمة في غزوة ذي إمرّ، فهما واقعتان: إحداهما مع دعثور، والثانية مع غورث، فقول أصله والظاهر أن الخبرين واحد فيه نظر ظاهر فليتأمل.
قال: وفي رواية: لما قفل رسول الله ﷺ راجعا إلى المدينة أدركته القائلة يوما بواد كثير العضاة: أي الأشجار العظيمة التي لها شوك، وتفرق الناس في العضاة: أي الأشجار يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ تحت ظل شجرة أي ظليلة. قال جابر «رضي الله ع»: تركناها للنبي، فعلق سيفه فيها، فنمنا نومة فإذا رسول الله ﷺ يدعونا، فجئنا إليه فوجدنا عنده أعرابيا جالسا، فقال: إن هذا قد اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده مصلتا: أي مسلولا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت الله، قال ذلك ثلاث مرات ولم يعاقبه ا هـ.
وهذه الرواية مع ما قبلها يقتضي سياقهما أنهما واقعتان لا واقعة واحدة. ويبعد أن يكون ذلك الأعرابي هو غورث صاحب الواقعة الأولى، فيكون تعدد منه هذا الفعل مرتين، أي وأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم} وتقدم أن سبب نزولها إرادة إلقاء الحجر عليه من بعض أهل بني النضير لعنهم الله، وتقدم أنه لا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب.
وفي الشفاء: قيل كان رسول الله ﷺ يخاف قريشا، فلما نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همّ قوم} الآية، استلقى ثم قال: من شاء فليخذلني.
أي وفيه أن هذا لا يحسن إلا عند نزول آية {والله يعصمك من الناس} إلا أن يقال: هو علم من ذلك أن الله مانع له ممن يريده بسوء وإن كان يجوز أن يمنعه من شخص دون آخر فليتأمل.
وإنما لم يعاقب ذلك الأعرابي حرصا على استئلاف قلوب الكفار ليدخلوا في الإسلام.
وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة. وبعث جعال بن سراقة إلى المدينة مبشرا بسلامته وسلامة المسلمين، أي وكان «رضي الله ع» من أهل الصفة، وهو الذي تمثل به إبليس لعنه الله يوم أحد حين نادى إن محمدا قد قتل كما تقدم.
وأبطأ جمل جابر بن عبدالله «رضي الله ع» فنخسه. وفي لفظ أنه حجنه بمحجنه فانطلق متقدما بين يدين الركب. وفي رواية: فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله ﷺ حياء منه لا يسبقه: أي وهو ينازعني خطامه مع أني كنت أرجو أن يستاق معنا. ثم قال له: أتبيعنيه؟ فابتاعه منه: أي بأوقية، وقيل بأربع أواق وقيل بخمس أواق، وقيل بخمسة دنانير، وقيل بأربعة دنانير بعد أن أعطاه فيه أولا درهما ممازحا له، فقال له جابر «رضي الله ع»: تبيعني يا رسول الله؟ وفي رواية: لا زال يزيده درهما درهما، فيقول جابر: آخذته بكذا والله يغفر لك يا رسول الله، قال بعضهم: كأنه أراد باعطائه درهما درهما أن يكثر استغفاره له، وقال له: لك ظهره إلى المدينة. وفي رواية وشرط لي ظهره إلى المدينة أي واستغفر لجابر «رضي الله ع» في تلك الليلة خمسا وعشرين مرة، وقيل سبعين مرة، فلما وصل المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل أي وقيل إن هذه القصة: أي إبطاء جمل جابر «رضي الله ع» إنما كانت في رجوعه من مكة إلى المدينة. وقيل كانت في رجوعه من غزوة تبوك.
أي والذي في البخاري عن جابر بن عبدالله «رضي الله ع». قال «كنت مع النبي ﷺ في سفر، فكنت على جمل ثقال، إنما هو في آخر القوم، فمرّ به النبي، فقال: من هذا؟ فقلت: جابر بن عبدالله، قال: فمالك؟ قلت: إني على جمل ثقال، قال: أمعك قضيب؟ قلت نعم، قال: أعطنيه، فضربه فزجره، فكان من ذلك المكان من أول القوم، قال: بعنيه، قلت: بل هو لك يا رسول الله، قال: بل بعنيه، فقد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره إلى المدينة، فلما قدمت المدينة قال: يا بلال اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا، قال جابر «رضي الله ع»: وأعطاني الجمل وسهمي مع القوم».
وفي لفظ عن جابر قال: دخل لنبي فدخلت إليه، فعلفت الجمل في ناحية البلاط، فقلت: يا رسول الله هذا جملك، فخرج فجعل يطوف بالجمل. قال: الثمن والجمل لك، وفي لفظ: إنما باعه له بوقية: أي ذهب، وأنه استثنى حملانه إلى أهله، فلما قدم المدينة وأنقده الثمن وانصرف أرسل على أثره وقال له: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك.
وعن جابر «رضي الله ع» أنه اشتراه بطريق تبوك بأربع أواق وفي لفظ: بعشرين دينارا، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، فإن التعدد بعددها بعيد.
قيل وسميت ذات الرقاع باسم شجرة كانت في ذلك المحل يقال لها ذات الرقاع، أو لأنهم رقعوا راياتهم، أو لأنهم لفوا على أقدامهم الخرق لما حصل لهم الحفاء كما تقدم، أو لأن الصلاة رقعت فيها، أو لأن الجبل الذي نزلوا به كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع فيه بقع حمر وسود وبيض، واستغربه الحافظ ابن حجر.
قال الإمام النووي رحمه الله: ويحتمل أنها سميت بالمجموع، قال: وفي هذه الغزوة جاءته امرأة بدوية بابن لها. فقالت: يا رسول الله هذا ابني، قد غلبني عليه الشيطان، ففتح فاه فبزق فيه وقال: أخسأ عدوّ الله أنا رسول الله، ثم قال: شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه، أي فكان كذلك.
وفيها أيضا: جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه، فعجب الناس من ذلك، فقال رسول الله ﷺ: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه، والله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه.
وفيها أيضا: جيء له بثلاث بيضات من بيض النعام، فقال لجابر دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات، قال جابر «رضي الله ع»: فعملتهنّ، ثم جئت بهنّ في قصعة، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته: أي إلى الشبع؛ والبيض في القصعة كما هو.
وفيها أيضا: جاء جمل يرفل: أي حتى وقف عنده وأرغى، فقال رسول الله ﷺ: أتدرون ما قال هذا الجمل؟ هذا جمل يستعيذ بي على سيده يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين وأنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، قال جابر «رضي الله ع»: فقلت لا أعرفه، قال: إنه سيدلك عليه. قال جابر: فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه، فجئته به، فكلمه في شأن الجمل ا هـ.
وعن عبدالله بن جعفر «رضي الله ع» أن النبي ﷺ دخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل، فلما رأى النبي ﷺ حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي، فمسح عليه فسكن. ثم قال: من رب هذا الجمل، فجاء فتى من الأنصار، فقال: هذا لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله «عَزَّ وجَلّ» في هذه البهيمة التي ملكك الله، فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه.
وفي رواية: كنا جلوسا مع النبي ﷺ إذا بعير أقبل حتى وقف على هامة رسول الله ﷺ فرَغا، فقال له النبي ﷺ: أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، إن الله تعالى قد أمن عائذنا ولن يخيب لائذنا، فقلنا: يا رسول الله، ما يقول هذا البعير؟ قال: يريد أهله نحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم، فبينما نحن كذلك إذا أقبل أصحابه يتعاودون، فلما نظر إليهم البعير عاد إلى هامة رسول الله ﷺ فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نجده إلا بين يديك. فقال لهم رسول الله ﷺ أما إنه يشكو، فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: يقول إنه ربي فيكم سنين وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ، فإذا كان الشتاء حملتم عليه إلى موضع الدفء، فلما كبر استفحلتموه فرزقكم الله إبلا سليمة. فلما أدركته هذه السنة الجدبة هممتم بنحره وأكل لحمه، فقالوا: والله يا رسول الله قد كان ذلك، فقال لهم رسول الله ﷺ ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه، فقالوا لرسول الله ﷺ: إنا لا نتعبه ولا ننحره، فقال رسول الله ﷺ: كذبتم، قد استغاث بكم فلم تغيثوه، وأنا أولى بالرحمة منكم لأن الله قد نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين فاشتراه منهم بمائة درهم، وقال له: آمين، ثم رغا الثانية، فقال له آمين. ثم رغا الثالثة، فقال له آمين، ثم رغا الرابعة، فبكى النبي ﷺ فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ فقال: قال جزاك الله خيرا أيها النبي عن الإسلام والقرآن قلت: آمين، قال: سكن الله رعب أمتك كما سكنت قلبي، قلت: آمين، قال: حقن الله دماء أمتك كما حقنت دمي، قلت آمين، قال: لا جعل الله بأسهم بينهم شديدا، فبكيت لأني سألت ربي فيها: أي في هذه الرابعة فمنعني إعطاءها. وقوله للجمل اذهب كيف شئت، لا يناسب ما عليه أئمتنا من عدم جواز إرسال الدواب تقرّبا إلى الله تعالى لأنه في معنى سوائب الجاهلية، إلا أن يقال: المراد بقوله له اذهب كيف شئت، أي أنت آمن في سائر أحوالك مما شكوت منه.
ورأيت في كلام ابن الجوزي رحمه الله ما يؤيد ذلك، وهو أن رسول الله ﷺ وسمه سمة نعم الصدقة ثم بعث به. وعليه لا إشكال، وإلى قصة الجمل أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
ورب بعير قد شكا لك حاله ** فأذهبت عنه كل كل وثقلة
وفي هذه: أعني السنة الرابعة تزوّج أم سلمة هند «رضي الله ع» بعد موت أبي سلمة بن عبد الأسد «رضي الله ع». وما روي عن ابن عمر «رضي الله ع» أنه قال: تزوّجها سنة اثنتين ليس بشيء، قيل وفيها شرع التيمم.
غزوة بدر الآخرة
ويقال لها بدر الموعد: أي لموعد أبي سفيان «رضي الله ع»، حيث قال حين منصرفه من أحد: موعد ما بيننا وبينكم بدر: أي موسمها، فقال رسول الله ﷺ لعمر بن الخطاب «رضي الله ع»: قل نعم إن شاء الله تعالى كما تقدم.
لما قدم رسول الله ﷺ من غزوة ذات الرقاع أقام بقية جمادي الأولى إلى آخر رجب، ثم خرج رسول الله ﷺ في شعبان وعليه اقتصر الأصل وقيل خرج في شوّال، وقيل في مستهل ذي القعدة كل ذلك في سنة أربع. من الوهم قول موسى بن عقبة رحمه الله: إنها كانت في شعبان سنة ثلاث لما علمت أنها بعد أحد، وأحد كانت في شوّال سنة ثلاث، والحافظ الدمياطي قدّم هذه الغزوة على غزوة ذات الرقاع، وتبعه الشمس الشامي وصاحب الإمتاع.
وكان وصوله إلى بدر هلال ذي القعدة، وهذا لا يناسب إلا اقول بأن خروجه كان في شوّال، وكان ذلك موسما لبدر في كل سنة يحضره الناس ويقيمون به ثمانية أيام كما تقدمت الحوالة عليه. وحين خرج من المدينة استخلف عليها عبدالله بن عبدالله بن أبي ابن سلول «رضي الله ع»، وقيل عبدالله بن رواحة «رضي الله ع»، وخرج في ألف وخمسمائة من أصحابه، وكان الخيل عشرة أفراس.
وعند تهيؤ المسلمين للخروج قدم نعيم بن مسعود الأشجعي، أي وكان ذلك قبل إسلامه «رضي الله ع»، وأخبر قريشا أن المسلمين تهيأوا للخروج لقتالهم ببدر، فكره أبو سفيان الخروج لذلك، وجعل لنعيم إن رجع إلى المدينة وخذل المسلمين عن الخروج لبدر عشرين بعيرا. وفي لفظ عشرة من الإبل وحمله على بعير، أي وقال له أبو سفيان إنه بدا لي أن لا أخرج، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا، فيزيدهم ذلك جراءة، فلأن يكون الخلف من قبلهم أحب إليّ من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة، وأعلمهم أنا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا، ولك عندي من الإبل كذا وكذا أدفعها لك على يد سهيل بن عمرو، فجاء نعيم إلى سهيل بن عمرو، فقال له: يا أبا يزيد تضمن لي هذه الإبل وانطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال نعم، فقدم نعيم المدينة وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان أي وصار يطوف فيهم حتى قذف الرعب في قلوب المسلمين، ولم يبق لهم نية في الخروج، واستبشر المنافقون أي واليهود، وقالوا: محمد لا يفلت من هذا الجمع، فجاء أبو بكر وعمر «رضي الله ع» إلى النبي ﷺ وقد سمعا ما أرجف به المسلمون وقالا له: يا رسول الله، إن الله مظهر نبيه ومعز دينه، وقد وعدنا القوم موعدا لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن، فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة فسر رسول الله ﷺ بذلك، ثم قال: والذي نفسي بيده لأخرجن وأن لم يخرج معي أحد، فأذهب الله عنهم ما كانوا يجدون، وحمل لواء رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وخرج المسلمون معهم بتجارات إلى بدر، فربحت الضعف.
ثم إن أبا سفيان قال لقريش: لقد بعثنا نعيما ليخذل أصحاب محمد عن الخروج، ولكن نخرج نحن فنسير ليلة أو ليلتين ثم نرجع، فإن كان محمد لم يخرج وبلغه أنا خرجنا فرجعنا، لأنه إن لم يخرج كان هذا لنا عليه، وإن خرج أظهرنا أن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب، قالوا: نعم ما رأيت، فخرج أبو سفيان في قريش: أي وهم ألفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مَجَنة، أي بفتح الميم والجيم وتشديد النون: وهو سوق معروف من ناحية مرّ الظهران، وقيل إلى عفان، ثم قال: يا معشر قريش لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه الماء، وإن عامكم هذا عام جدب، وإني راجع فارجعوا، فرجع الناس، فسماهم أهل مكة جيش السويق، يقولون: إنما خرجتم لتشربوا السويق.
وأقام رسول الله ﷺ على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده مدة الموسم التي هي ثمانية أيام، أي فإنه انتهى إلى بدر هلال ذي القعدة كما تقدم، وقام السوق صبيحة الهلال، فأقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة. أي وصار المسلمون كلما سألوا عن قريش وقيل لهم قد جمعوا لكم يقولون: حسبنا الله ونعم الوكيل، حتى قيل لهم لما قربوا من بدر: إنها قد امتلأت من الذين معهم أبو سفيان يرعبونهم ويرهبونهم، فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما قدموا بدرا وجدوا أسواقا لا ينزاعهم فيها أحد، فأنزل الله تعالى {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فالمراد بالناس الأول: نعيم نزل منزلة الجماعة.
وعن إمامنا الشافعي «رضي الله ع» أن القائلين ذلك كانوا أربعة، ولا مانع أن يكون هؤلاء الأربعة من المنافقين لعنهم الله، وافقوا نعيما على ما قال حتى إن قائلهم قال للمسلمين: إنما أنتم لهم أكلة رأس، وإن ذهبتم إليهم لا يرجع منكم أحد.
وقيل القائلون ركب من عبد القيس، كانوا قاصدين المدينة للميرة، فجعل لهم أبو سفيان حمل أبعرتهم زبيبا إن هم خذلوا المسلمين وأرجفوهم. ولا مانع من وجود ذلك كله.
هذا، وقد نقل ابن عطية رحمه الله عن الجمهور أن هذه الآية الواقعة المذكورة إنما كانت بحمراء الأسد عند انصرافه من أحد فليتأمل.
ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى المدينة، أي وبلغ قريشا خروج المسلمين لبدر وكثرتهم، وإنهم كانوا أصحاب الموسم: أي والمخبر لهم بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي، فإنه بعد انقضاء الموسم خرج سريعا إلى مكة وأخبرهم بذلك. فقال صفوان بن أمية لأبي سفيان: قد والله نهيتك يومئذٍ أن تعد القوم، وقد اجترؤوا علينا ورأوا أنا أخلفناهم، وإنما خلفنا الضعف.
غزوة دومة الجندل
بضم الدال ويجوز فتحها، واقتصر الحافظ الدمياطي على الأول: أي وأما دومة بالفتح لا غير فموضع آخر، ومن ثم قال الجوهري: الصواب الضم، وأخطأ المحدثون في الفتح. سميت بدومي بن إسماعيل "عليه السلام"، لأنه كان نزلها: وهي بلدة بينها وبين دمشق خمس ليال، وهي أقرب بلاد الشام إلى المدينة، وبينها وبين المدينة خمس أو ست عشرة ليلة: أي وهي بقرب تبوك، بلغ رسول الله ﷺ أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة فندب رسول الله ﷺ الناس لذلك، فخرج في ألف من المسلمين، أي وذلك في أواخر السنة الرابعة.
وذكر بعضهم أنها كانت في ربيع الأول من السنة الخامسة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: إنها كانت على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجرته: أي واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة: أي يقال له مذكور «رضي الله ع». فلما دنا منهم جاء إليهم الخبر فتفرقوا، فهجم على ماشيتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب، ونزل رسول الله ﷺ بساحتهم، فلم يلق بها أحدا، وبعث السرايا فرجعت ولم تلق منهم أحدا: أي ورجعت كل سرية بإبل، وأخذ محمد بن مسلمة رجلا منهم وجاء به إلى النبي، فسأله رسول الله، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم، فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورجع رسول الله ﷺ المدينة.
وفي رجوعه وادع: أي صالح عيينة بن حصن واسمه حذيفة الفزاري أن يرعى بمحل بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا، أي لأن أرضه كانت أجدبت، ولما سمن حافره وخفه، وانتقل إلى أرضه غزا على لقاح رسول الله ﷺ بالغابة كما سيأتي، وقيل له بئس ما جزيت به محمدا، أحلك أرضه حتى سمن حافرك وخفك، وتفعل معه ذلك، فقال: هو حافري، وقيل له عيينة لأنه أصابته لقوة فجحظت عيناه وسمي عيينة، وعيينة هذا أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف، وكان من المؤلفة كما سيأتي، وكان يقال له الأحمق المطاع، كان يتبعه عشرة آلاف فتى.
ودخل على النبي ﷺ بغير إذن وأساء الأدب، فصبر النبي ﷺ على جفوته، وقال فيه «إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» وقيل إن ذلك إنما قيل في مخرمة بن نوفل: أي ولا مانع من تعدد ذلك، وقد ارتد عيينة بعد ذ لك في زمن الصديق «رضي الله ع»: فإنه لحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ وآمن به. فلما هرب طليحة أسره خالد بن الوليد «رضي الله ع» وأرسل به إلى الصديق في وثاق فلما دخل المدينة صار أولاد المدينة ينخسونه بالحديد ويضربونه، ويقولون: أي عدو الله كفرت بالله بعد إيمانك، فيقول: والله ما كنت آمنت، فمن عليه الصديق فأسلم، ولم يزل مظهر للإسلام.
وفي سنة أربع نزلت آية الحجاب لأزواجه، وكان فيها قصر الصلاة، وولادة الحسين «رضي الله ع». ووقع أنه لما ولد سماه علي كرم الله وجهه حربا، فلما جاء قال «أروني ابني، ما سميتموه؟ قالوا: حربا، قال: بل اسمه حسين» أي كما فعل ذلك بالحسن كما مر، فلما ولد الثالث جاء النبي ﷺ فقال: «أروني ابني، ما سميتموه؟ قال علي كرم الله وجهه: سميته حربا، فقال بل هو محسن ثم قال: إني سميتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر».
ومن المستظرف ما حكاه بعضهم، قال: وقع بين الحسن والحسين كلام فتهاجرا، فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن على الحسين وأكب على رأسه يقبله، فقال له الحسين: إن الذي منعني من ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني، فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به، ورجم اليهوديين الزانيين، وفرض الحج، وقيل فرض في الخامسة، وقيل في السادسة، وقيل في السابعة، وقيل في الثامنة، وقيل في التاسعة، وقيل في العاشرة.
قيل وفيها أي الرابعة شرع التيمم، أي كما تقدم. وقيل شرع في الغزوة التي تلي هذه وهي غزوة بني المصطلق. وقيل كان في غزوة أخرى، أي وفي غيبته في هذه الغزوة ماتت أم سعد بن عبادة، وكان ابنها «رضي الله ع» معه، ولما قدم المدينة صلى على قبرها، وذلك بعد شهر، وقال له سعد: يا رسول الله أتصدق عنها؟ قال نعم، قال أيّ الصدقة أفضل؟ قال: الماء فحفر بئرا، وقال هذه لأم سعد «رضي الله ع».
غزوة بني المصطلق
ويقال لها غزوة المريسيع، ويقال لها غزوة محارب، وقيل محارب غيرها. ويقال لها غزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة، أي كما قيل بذلك كذلك في غزوة ذات الرقاع كما تقدم.
وبنو المصطلق: بطن من خزاعة، وهم بنو جذيمة، وجذيمة هو المصطلق، من الصلق: وهو رفع الصوت. والمريسيع: اسم ماء من مياههم، أي من ماء خزاعة مأخوذة من قولهم: رسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد، وذلك الماء في ناحية قديد.
وسببها أنه بلغه أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك كما سيأتي، جمع لحرب رسول الله ﷺ من قدر عليه من قومه ومن العرب، فأرسل بريدة بالتصغير ابن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين في آخره موحدة كما تقدم، أي ليعلم علم ذلك.
قال: واستأذن بريدة رسول الله ﷺ أن يقول ما يتخلص به من شرهم، أي وإن كان خلاف الواقع فأذن له رسول الله، فخرج حتى ورد عليهم ورأى جمعهم، فقالوا له: من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني، فنكون يدا واحدة حتى نستأصلهم، فقال له الحارث: فنحن على ذلك؛ فعجل علينا، قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمع كثير من قومي، فسروا بذلك منه ورجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره خبر القوم انتهى. فندب رسول الله ﷺ الناس إليهم، فأسرعوا الخروج، وكان في شعبان لليلتين خلتا منه سنة خمس من الهجرة، وقيل أربع كما في البخاري نقلا عن ابن عقبة، وعليه جرى الإمام النووي في الروضة. قال الحافظ ابن حجر: وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة فكتب سنة أربع، لأن الذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس، وقيل سنة ست، وأن عليه أكثر المحدثين، وقادوا الخيل وهي ثلاثون فرسا عشرة للمهاجرين: أي منها فرسان له اللزاز والظرب، وعشرون للأنصار «رضي الله ع»: واستخلف على المدينة زيد بن حارثة «رضي الله ع». وقيل أبا ذر الغفاري «رضي الله ع». وقيل نميلة تصغير نملة ابن عبدالله الليثي «رضي الله ع»، وخرج معه من نسائه عائشة وأم سلمة «رضي الله ع»: أي وخرج معه ناس كثير من المنافقين لم يخرجوا في غزوة قط مثلها منهم عبدالله بن أبي ابن سلول، وزيد بن الصلت ليس لهم رغبة في الجهاد، وإنما غرضهم أن يصيبوا من عرض الدنيا مع قرب المسافة، وسار حتى بلغ محلا نزل به، فأتي برجل من عبد القيس فسلم على رسول الله، فقال له أين أهلك؟ قال: بالروحاء، قال أين تريد؟ قال: إياك جئت لأمن بك، وأشهد أن ما جئت به حق: وأقاتل معك عدوك. فقال رسول الله ﷺ: الحمد لله الذي هداك للإسلام، وسأل رسول الله ﷺ: أي الأعمال أحب؟ فقال رسول الله ﷺ: الصلاة لأوّل وقتها. فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها.
وأصاب عينا للمشركين كان وجهه الحارث ليأتيه بخبر رسول الله، فسأله رسول الله ﷺ عنهم، فلم يذكر من شأنهم شيئا، فعرض عليه الإسلام فأبى، فأمر رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب «رضي الله ع» أن يضرب عنقه، فلما بلغ الحارث مسير رسول الله ﷺ وأنه قتل عينه سيىء بذلك ومن معه، وخافوا خوفا شديدا، وتفرق عنه جمع كثير ممن كان معه، وانتهى رسول الله ﷺ إلى المريسيع فضربت له قبة من أدم، وكان معه فيها عائشة وأم سلمة «رضي الله ع» فتهيأ المسلمون للقتال، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر «رضي الله ع». وقيل لعمار بن ياسر، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة «رضي الله ع»، أي وأمر رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب «رضي الله ع» أن يقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ففعل عمر ذلك بأبوا فتراموا بالنبل ساعة. ثم أمر رسول الله أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية؛ واستاق إبلهم وشياههم، فكانت الإبل ألفي بعير، والشاء خمسة آلاف شاة، واستعمل على ذلك مولاه شقران، أي بضم الشين المعجمة، واسمه صالح، وكان «رضي الله ع» حبشيا، وكان السبي مائتي أهل بيت. وفي كلام بعضهم كانوا أكثر من سبعمائة، وكانت برة بنت الحارث الذي هو سيد بني المصطلق في السبي.
وقيل أغار عليهم رسول الله ﷺ وهم غافلون، فقتل مقاتلتهم، وسبي سبيهم، أي وهذا القول هو الذي في صحيح البخاري: أي ومسلم، والأول هو الذي في السيرة الهشامية.
وجمع بأنه يجوز أن يكون لما أغار عليهم ثبتوا وصفوا للقتال، ثم انهزموا، ووقعت الغلبة عليهم، أي وقتل منهم من قاتل ولم يستأسر. وكان شعار المسلمين: أي علامتهم التي يعرفون بها في ظلمة الليل أو عند الاختلاط «يا منصور أمت» تفاؤلا بأن يحصل لهم النصر بعد موت عدوهم.
وأمر رسول الله ﷺ بالأسارى فكتفوا، واستعمل عليهم بريدة «رضي الله ع». ثم فرق السبي، فصار في أيدي الناس.
أي وفي هذا دليل لقول إمامنا الشافعي «رضي الله ع» في الجديد: يجوز استرقاق العرب، لأن بني المصطلق عرب من خزاعة خلافا لقوله في القديم إنهم لا يسترقون لشرفهم. وقد قال في الأمّ: لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هكذا: أي لا يجري الرق على عربي.
وبعث أبا ثعلبة الطائي إلى المدينة بشيرا من المريسيع، أي وجمع المتاع الذي وجده في رحالهم والسلام والنعم والشاء، وعدلت الجزور بعشرة من الغنم، ووقعت برة بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس، وابن عم له، فجعل ثابت لابن عمه نخلات له بالمدينة في حصته من برة، وكاتبها أي على تسع أواق من ذهب، فدخلت عليه، فقالت له: يا رسول الله إني امرأة مسلمة: أي أسلمت لأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وإني برة بنت الحارث سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، وخلصني ثابت من ابن عمه بنخلات في المدينة، وكاتبني على ما لا طاقة لي به، وإني رجوتك فأعني في مكاتبتي، فقال لها رسول الله ﷺ: أو خير من ذلك؟ قالت: ما هو؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، فأرسل آسول الله إلى ثابت بن قيس فطلبها منه، فقال ثابت «رضي الله ع»: هي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأدى رسول الله ﷺ ما كان كاتبها عليه وأعتقها وتزوجها، أي وهي ابنة عشرين سنة، وسماها جويرية: أي وكان اسمها برة، وكذلك ميمونة، وزينب بنت جحش كان اسم كل منهما برة فغير، وكذا كان اسم بنت أم سلمة برة فسماها زينب. ويذكر أن عليا كرم الله وجهه هو الذي أسرها.
أقول: ولا مانع أن يكون عليّ كرّم الله وجهه أسرها ثم وقعت في سهم ثابت وابن عمه «رضي الله ع» عند القسمة، لأنه لم يثبت في هذه الغزوة أنه جعل الأسرى لمن أسرهم كما وقع في بدر، إلا ما يأتي من قول أبي سعيد الخدري «رضي الله ع»: ورغبنا في الفداء وقد يقال: رغبوا في الفداء بعد القسمة والله أعلم.
قال: وعن عائشة «رضي الله ع» قالت «كانت جويرية امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فبينما النبي ﷺ عندي ونحن على الماء: أي الذي هو المريسيع، إذ دخلت جويرية تسأله في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي، وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله إني امرأة مسلمة الحديث» ا هـ وإنما كرهت ذلك لما جبلت عليه النساء من الغيرة. ومن ثم جاء «أنه خطب امرأة فأرسل عائشة «رضي الله ع» لتنظر إليها، فلما رجعت إليه قالت: ما رأيت طائلا، فقال: بلى لقد رأيت خالا في خدّها فاقشعرت منه كل شعرة في جسدك، أي وفي لفظ آخر عن عائشة «رضي الله ع» «فما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء لتستعين رسول الله ﷺ على كتابتها فنظرت إليها فرأيت على وجهها ملاحة وحسنا، فأيقنت أن رسول الله ﷺ إذا رآها أعجبته علما منها بموقع الجمال منه، فما هو إلا أن كلمته، فقال لها: خير من ذلك، أنا أؤدي كتابتك وأتزوجك، فقضى عنها كتابتها وتزوجها» والملاح أبلغ المليح، والمليح، مستعار من قولهم طعام مليح: إذا كان فيه الملح بمقدار ما يصلحه.
قال الأصمعي رحمه الله: الحسن في العينين، والجمال في الأنف، والملاحة في الفم. وهذا السياق يدل على أنه تزوجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، ويأيده ما يأتي عنها «رضي الله ع».
قال الشمس الشامي رحمه الله: ونظر رسول الله ﷺ لجويرية حتى عرف من حسنها ما دعاه لتزوجها، لأنها كانت أمة مملوكة: أي لأنها مكاتبة، ولو كان غير مملوكة: أي حرة ما ملأ عينه منها، أو أنه نوى نكاحها، أو أن ذلك كان قبل آية الحجاب.
أقول: تبع في هذا السهيلي رحمه الله. وقد قدمنا أن من خصائصه جواز نظر الأجنبية والخلوة بها لأمنه من الفتنة، فلا يحسن قوله ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها.
ومن خصائصه حرمة نكاح الأمة، فلا يحسن قوله أو أنه نوى نكاحها، وأن نزول آية الحجاب كان في سنة ثلاث على الراجح.
ومذهب الشافعي «رضي الله ع» حرمة نظر سائر بدن الأمة الأجنبية كالحرة على الراجح عند الشافعية ومنهم الشمس الشامي، فلا يحسن قوله لأنها كانت أمة مملوكة، والله أعلم.
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع»، قال «غزونا مع رسول الله ﷺ غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب أي واقتسمناها وملكناها، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا نستمتع ونعزل، فقلنا نفعل ذلك» وفي لفظ «فأصبنا سبايا وبنا شهوة للنساء، واشتدت علينا العزوبة، وأحببنا الفداء، وأردنا أن نستمتع ونعزل، وقلنا: نعزل ورسول الله ﷺ بين أظهرنا فسألناه عن ذلك، فقال: «لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة» أي نفسا «قدّرها هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون». وفي لفظ «ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنما هو القدر» وفي رواية «ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه» أي ما عليكم حرج في عدم فعل العزل: وهو الإنزال في الفرج، لأن العزل الإنزال خارج الفرج، فيجامع حتى إذا قارب الإنزال نزع فأنزل خارج الفرج «ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة» أي عزلتم أم لا فلا فائدة في عزلكم، لأن الماء قد يسبق العزل إلى الرحم فيجيء الولد، وقد ينزل في الفرج ولا يجيء الولد.
وكون ذلك كان في بني المصطلق هو الصحيح، خلافا لما نقل عن موسى بن عقبة رحمه الله تعالى أن ذلك كان في غزوة أوطاس. وقول أبي سعيد «رضي الله ع»: «قد طالت علينا العزبة واشتهينا النساء» أي لعل أبا سعيد الخدري «رضي الله ع» ومن تكلم على لسانه كان في المدينة أعزب، وإلا فأيام تلك الغزوة لم تطل، فإنها كانت ثمانية وعشرين يوما قال أبو سعيد «رضي الله ع»: فقدم علينا وفدهم: أي بالمدينة. ففي الإمتاع وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوا الذرية والنساء، كل واحد بست فرائض، ورجعوا إلى بلادهم.
قال أبو سعيد «رضي الله ع»: وخرجت بجارية أبيعها في السوق: أي قبل أن يقدم وفدهم في فدائهم فقال لي يهودي: يا أبا أسعيد تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة هي في الأصل ولد الغنم، فقلت: كلا، إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الوأدة الصغرى: أي المرة من الوأد، وهو أن يدفن الرجل بنته حية، الموؤودة البنت تدفن في القبر وهي حية، كانت الجاهلية خصوصا كندة تفعل ذلك، فجئت إلى رسول الله. فأخبرته، فقال: كذبت يهود، كذبت يهود، زاد في رواية «لو أراد الله «عَزَّ وجَلّ» أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه» وبهذا مع ما تقدم من نفي الحرج استدل أئمتنا رحمهم الله على جواز العزل مع الكراهة في كل امرأة سرية أو حرة في كل حال، سواء رضيت أم لا؛ وقال جمع بحرمته، قالوا لأنه طريق إلى قطع النسل، وفي مسلم ما يوافق ما قالته يهود. ففي مسلم «سألوه عن العزل، فقال رسول الله ﷺ: ذلك الوأد الخفي» أي بمثابة دفن البنت حية الذي كان يفعله الجاهلية خوف الإملاق أو خوف حصول العار.
إلا أن يقال: هذا كان منه قبل أن يوحي إليه بحل ذلك ثم نسخ فلا مخالفة. ويدل لذلك ما في مسلم أيضا عن جابر «رضي الله ع»: «كنا نعزل على عهد رسول الله ﷺ والقرآن ينزل فلم ينهنا». وفي رواية «أن رجلا أتى النبي ﷺ فقال إن لي جارية هي خادمنا وساقيتنا في النخل، وأنا أكره أن تحمل، فقال: أعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل ثم أتاه فقال: يا رسول الله إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها» فقد أرشده إلى العزل الذي لا يكون معه الولد غالبا، وأخبر بأن ذلك لا يمنع وجود ما قدر لها من حصول الولد.
وعن عبدالله بن زياد «رضي الله ع». قال «أفاء» أي غنم «رسول الله، في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث، وقدم رسول الله ﷺ المدينة، فأقبل أبوها في فدائها، فلما كان بالعقيق نظر إلى أبله التي يفدي بها ابنته فرغب في بعيرين منها كانا من أفضلها، فعقبهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أقبل على رسول الله ﷺ فقال يا محمد أصبتم ابنتي. وفي رواية قال؛ يا رسول الله كريمة لا تسبي وهذا فداؤها، فقال له رسول الله ﷺ: فأين البعيران اللذان عقبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله، ما اطلع على ذلك إلا الله وأسلم» ولعله دخل بالأمان إلى المدينة. وفي رواية: أنه أسلم قبل ذلك وأسلم معه ابنان وناس من قومه وعليه فيكون قوله فأسلم: أي أظهر إسلامه، وعند ذلك أمره بأن يخيرها، فقالت: أحسنت وأجملت، فقال لها أبوها: يا بنية لا تفضحي قومك، قالت اخترت الله ورسوله. وفيه كيف يأمره بتخييرها بعد أن تزوجها، كما تقدم أن مقتضى السياق أنه تزوجها وهم على الماء.
ثم رأيت الإمام أبا العباس بن تيمية أنكر مجيء أبيها وتخييرها فليتأمل.
وفي الاستيعاب: أن عبدالله بن الحارث أخا جويرية بنت الحارث زوج النبي ﷺ قدم على النبي ﷺ في فداء أسارى بني المصطلق وغيب في الطريق ذودا وجارية سوداء، فكلم رسول الله ﷺ في فداء الأسارى. فقال له رسول الله ﷺ: نعم فما جئت به؟ قال: ما جئت بشيء قال: فأين الذود والجارية السوداء الذي غيبت في موضع كذا؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما كان معي أحد ولا سبقني إليك أحد فأسلم. وفيه ما تقدّم في أبيه فقال رسول الله ﷺ: لك الهجرة حتى تبلغ برك الغماد، هذا كلامه. والذود: من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر.
والمتبادر من هذا السياق أنه جاء بذلك الذود وتلك الجارية للفداء، فعنّ له أن يسأل في الفداء من غير شيء، فغيب ذلك الذود وتلك الجارية طمعا في أنه يجيبه لذلك لمكان أخته عنده. ويحتمل أن العبارة فيها اختصار، وحينئذ يكون الأصل في قوله فما جئت به المال الزائد على هذا الذي جئت به، فيكون الذود والجارية بعض ما جاء به للفداء؛ فقال: ما جئت بشيء: أي زائد على هذا الذي جئت به لأنه يبعد أن يطلب الفداء من غير شيء فليتأمل.
وفي لفظ أنه لما جاء أبوها في فدائها دفعت إليه ابنته جويرية وأسلمت وحسن إسلامها فخطبها النبي ﷺ إلى أبيها، فزوّجه إياها وأصدقها أربعمائة درهم.
وفي الإمتاع يقال: إن النبي ﷺ جعل صداقها عتق كل أسير من بني المصطلق. ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها، ولا يخفى أن مجيء أبيها في فدائها وتزويجها للنبي مخالف لسياق ما تقدم أنه تزوجها وهم على الماء، ويحتاج للجمع بين ما ذكر وبين ما روي أنه لما رأى المسلمون أنه تزوج جويرية قال في حق بني المصطلق: أصهار رسول الله ﷺ فأعتقوا ما بأيديهم منهم.
وعبارة الإمتاع: ولما تزوّجها، خرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نساءهم، فقالوا أصهار النبي ﷺ فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي.
وعن جويرية «رضي الله ع» قالت: لما أعتقني رسول الله ﷺ وتزوّجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله سبحانه وتعالى.
أقول: وذكر بعضهم أن ليلة دخوله بها طلبتهم منه فوهبهم لها ويحتاج للجمع، ويقال في الجمع بين ما تقدم من فدائهم وإطلاقهم من غير فداء بأنه يجوز أن يكون الفداء وقع لبعضهم قبل عتق جويرية والتزوّج بها، فلما تزوّجها أطلق بعضهم الآخر الباقي، فالفداء وقع لبعضهم والإعتاق وقع لبعضهم الآخر، فإن السبي كان لأهل مائتي بيت. ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان السبي منهم من منّ عليه رسول الله ﷺ بغير فداء ومنهم من افتدى. ويؤيد ذلك ما يأتي في كلام عائشة «رضي الله ع» أن الإعتاق كان لأهل مائة بيت، أي فيكون الفداء لأهل مائة بيت والإطلاق في الفداء لأهل المائة الأخرى، ويكون مراد جويرية «رضي الله ع» بقولها «ما كلمته في قومي» أي فيمن بقي منهم.
ثم لا يخفى أن مجيء أبيها أو أخيها ومجيء وفدهم لفدائهم مخالف لما تقدم من أنه أسر سائرهم: الرجال والنساء والذرية، ولم يفلت منهم أحد، ويبعد غياب هؤلاء خصوصا أباها الذي كان يجمع القوم، فعليك أن تتنبه للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها والله أعلم. ثم بعد ذلك أسلم بنو المصطلق. وبعد بعامين بعث إليهم رسول الله ﷺ الوليد بن عقبة بن أبي معيط لأخذ الصدقة: أي وكان بينهم وبينه شحناء في الجاهلية، فخرجوا للقائه وهم متقلدون السيوف فرحا وسرورا بقدومه، فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففر راجعا، وأخبر رسول الله ﷺ بأنهم ارتدوا، فهمّ "عليه الصلاة والسلام بقتالهم: أي وأكثر المسلمون ذكر غزوهم، فعند ذلك قدم وفدهم وأخبروا بأنهم خرجوا إليه ليكرموه ويؤدوا ما عليهم من الصدقة.
أي وفي رواية أنه أرسل إليهم خالد بن الوليد فأخبروه الخبر. وعند إرساله قال له أرمقهم عند الصلاة فإن كان القوم تركوا الصلاة فشأنك بهم، فدنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا المغرب، ثم لما غاب الشفق أذن مؤذنهم ثم أقام الصلاة فصلوا العشاء، ثم لما كان جوف الليل فإذا هم يتهجدون ثم عند طلوع الفجر أذن مؤذنهم وأقام الصلاة فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء النهار فإذا هم بنواصي الخيل في ديارهم. فقالوا ما هذا؟ قيل خالد بن الوليد. فقالوا يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني، أتى النبي ﷺ فقيل له إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله، فجثوا يبكون وقالوا معاذ الله، وهذا الوليد بيننا وبينه شحناء في الجاهلية، وإنما خرجنا بالسيوف خشية أن يكافئنا بالذي كان بيننا وبينه، فرد الخيل عنهم ورجع إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة} الآيتين.
قال ابن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله {إن جاءكم فاسق بنبأ} نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله ﷺ إلى بني المصطلق لأخذ صدقاتهم: أي ونزل فيه وفي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} أي فكان يدعى الفاسق، وبعثه لأخذ صدقات بني المصطلق يرد قول من قال إنه ممن أسلم يوم الفتح، وكان قد ناهز الحلم.
أي ويرد ما روى بعضهم عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله ﷺ مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم ويدعو لهم بالبركة فأتي بي إليه وأنا مضمخ بالخلوق، فلم يمسح على رأسي، ولم يمنعه من ذلك من إلا وجود الخلوق.
ويرد ذلك أيضا ما سيأتي أنه خرج هو وأخوه عمارة ليرد أختهما أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة: هدنة الحديبية.
والوليد هذا كان أخا عثمان بن عفان لأمه وولاه الكوفة: أي وعزل عنها سعد بن أبي وقاص، فلما قدم الوليد الكوفة على سعد «رضي الله ع» قال له: والله ما أدري أصرت كيسا بعدنا أم حمقنا بعدك، فقال له: لا تجزعنّ أبا إسحاق وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال سعد: أراكم ـ يعني بني أمية ـ ستجعلونها والله ـ يعني الخلافة ـ ملكا، وعند ذلك قال الناس: بئسما فعل عثمان «رضي الله ع»، عزل سعدا الهين اللين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق كما تقدم.
ولقي الوليد ابن مسعود «رضي الله ع» فقال له: ما جاء بك؟ فقال: جئت أميرا. فقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس؟ وكان الوليد شاعرا ظريفا حليما شجاعا كريما، شرب الخمر ليلة من أول الليل إلى الفجر، فلما أذن المؤذن لصلاة الفجر خرج إلى المسجد وصلى بأهل الكوفة الصبح أربع ركعات، وصار يقول في ركوعه وسجوده اشرب واسقني، ثم قاء في المحراب، ثم سلم وقال: هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود «رضي الله ع» لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا، وأخذ فردة خفه وضرب بها وجه الوليد، وحصبه الناس، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح، وإلى ذلك يشير الحطيئة بقوله:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ** أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم ** أأزيدكم سكرا وما يدري
ولما شهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان بن عفان «رضي الله ع» استقدمه، وأمر به فجلد: أي أمر عليا كرم الله وجهه أن يقيم عليه الحدّ فجلده. وقيل: فقال عليّ كرم الله وجهه لابن أخيه عبدالله بن جعفر «رضي الله ع»: أقم عليه الحدّ أي بعد أن أمر ابنه الحسن «رضي الله ع» بذلك فامتنع، فأخذ عبدالله «رضي الله ع» السوط وجلده وعليّ كرم الله وجهه يعدّ عليه حتى بلغ أربعين. فقال لعبدالله: أمسك، جلد رسول الله ﷺ في الخمر أربعين وجلد أبو بكر «رضي الله ع» أربعين، وجلد عمر «رضي الله ع» ثمانين، وكل سنة. وهذا: أي ما فعلته من جلده أربعين أحبّ إليّ من جلد عمر ثمانين.
هذا، وفي البخاري أن عبدالله جلده ثمانين. وأجيب عنه بأن السوط كان له رأسان وحينئذ يكون قوله «وكل سنة» أي طريقة، فأربعون طريقته. وطريقة الصديق «رضي الله ع»، والثمانون طريقة عمر «رضي الله ع» رآها اجتهادا مع استشارته لبعض الصحابة في ذلك، لما رآه من كثرة شرب الناس للخمر.
وبعد أن جلده وعزله عن الكوفة أعاد سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع».
ولما أراد سعد أن يصعد المنبر قال: لا أصعد عليه حتى تغسلوه من آثار الوليد الفاسق فإنه نجس فغسلوه كما تقدم.
وأرسال الوليد بن عقبة لبني المصطلق كان ينبغي أن يذكر في السرايا، وكذا إرسال خالد «رضي الله ع» لهم.
قالت عائشة «رضي الله ع»: لا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية، أعتق بتزويجها لرسول الله ﷺ أهل مائة بيت، أي ومن المعلوم أن هذا كان قبل سبايا أوطاس الذين أطلقوا بسبب أخته من الرضاعة على ما سيأتي في بعض الروايات وقيل في حقها: ما عرفت امرأة هي أيمن على قومها منها.
وذكرت جويرية «رضي الله ع» أنها قبل قدومه عليهم بثلاث ليال رأت كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجرها. أي وعنها «رضي الله ع» قالت: فكرهت أن أخبر بها أحدا من الناس، فلما سبينا رجوت الرؤيا.
قال وعنها «رضي الله ع» أنها قالت: لما أتانا رسول الله ﷺ ونحن على المريسيع، فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به فلبثت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوّجني رسول الله ﷺ ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين، أي وهذا مما يؤيد ما تقدّم من أنه تزوّجها وهم على الماء الذي هو المريسيع، وكان رجل منهم ممن أسلم وحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولا بعد انتهى. وهو يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانت مددا لهم في هذه الغزوة.
ولم يقتل في غزوة بني المصطلق من المسلمين إلا رجل واحد قتله رجل من الأنصار خطأ يظنه من العدوّ، والمقتول هشام بن صبابة «رضي الله ع».
أقول: وهذا مجمل قول الحافظ الدمياطي رحمه الله في سيرته: إنه لم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد فاعتراض صاحب الهدى عليه بأن هذا وهم لأنهم لم يكن بينهم قتال ليس في محله، لأنه فهم أن الرجل قتله الكفار، وقد علمت أنه إنما قتله شخص من الأنصار يظنه من العدوّ، والله أعلم، وقدم أخو هذا المقتول من مكة على رسول الله ﷺ مظهرا الإسلام وقال: جئت أطلب دية أخي، فأمر له رسول الله ﷺ بدية أخيه، فأخذها مائة من الإبل، وأقام عند رسول الله ﷺ غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدا، ويوم فتح مكة أهدر رسول الله ﷺ دمه، فقتل في ذلك اليوم كما سيأتي.
وما هنا هو الصحيح خلافا لما يأتي عن الأصل في فتح مكة أن قتل أخيه كان في غزوة ذي قرد ثم بعد انقضاء الحرب وهم على الماء اختصم أجير لعمر بن الخطاب «رضي الله ع» أي كان يقود له فرسه يقال له جهجاه «رضي الله ع» مع رجل من حلفاء الخزرج، قيل حليف عمرو بن عمرو، وقيل حليف عبدالله بن أبيّ ابن سلول، وهو سنان بن فروة «رضي الله ع»، أي فضرب أجيرُ عمر «رضي الله ع» حليف الخزرج فسال الدم، وفي لفظ: كسعه، أي دفعه، فنادى حليف الخزرج؛ يا معشر الأنصار، أي وقيل قال: يا للخزرج، ونادى أجير عمر يا معشر المهاجرين، وقيل قال: يا لكنانة يا لقريش، فأقبل جمع من الجيشين، وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة، فخرج رسول الله ﷺ فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ فأخبر بالحال. أي فقالوا رجل من المهاجرين ضرب رجلا من الأنصار. فقال: دعوها، أي تلك الكلمة التي هي يا لفلان فإنها منتنة، أي مذمومة لأنها من دعوى الجاهلية، وجاء «من دعا دعوى الجاهلية كان من محشي جهنم» أي مما يرمى به فيها «قيل: يا رسول الله وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم، قال: وإن صام وإن صلى وزعم أنه مسلم» وقال «لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما، إن كان ظالما فلينهه فإنه ناصر، أي له، وإن كان مظلوما فلينصره» أي يزيل ظلامته، ثم كلموا ذلك المضروب فترك حقه، فسكنت الفتنة وانطفت ثائرة الحرب.
وجهجاه هذا روى عنه عطاء بن يسار أن النبي ﷺ قال «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» وهو المراد بهذا الحديث في كفره وإسلامه، لأنه شرب حلاب سبع شياه قبل أن يسلم ثم أسلم، فلم يستتم حلاب شاة واحدة، أي وسيأتي نظير ذلك لثمامة الحنفي.
ونقل أبو عبيد أن الرجل الذي قال فيه رسول الله ﷺ هذه المقالة هو أبو بصرة الغفاري، أي ولا مانع أن يكون قال ذلك في حق الرجل المذكور أيضا، فقد تكرر منه ذلك ثلاث مرات لرجال ثلاثة أكل كل واحد منهم في الكفر أكثر مما أكل في الإسلام.
قال ابن عبد البر رحمه الله: وجهجاه هذا هو الذي تناول عصا رسول الله ﷺ من يد عثمان «رضي الله ع» وهو يخطب فكسرها على ركبته، فأخذته أكلة في ركبته فمات منها، هذا كلامه.
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه انتزع تلك العصا من عثمان حين أخرج من المسجد ومنع من الصلاة فيه؛ وكان هو أحد المعينين عليه هذا كلامه.
وقد يقال: لا مخالفة بين كونه أخذ العصا منه وهو يخطب وبين كونه أخذها حين أخرج من المسجد، لأنه يجوز أن يكون أخرج من المسجد في أثناء الخطبة وأخذت العصا منه حينئذ.
وعند تخاصم الرجلين غضب عبدالله بن أبيّ ابن سلول، وكان عنده رهط من قومه من الخزرج من المنافقين، وكان عندهم زيد بن أرقم «رضي الله ع» وهو غلام حديث السن، فقال عبدالله بن أبيّ لعنه الله: والله ما رأيت كاليوم مذلة، أو قد فعلوها؟ نافرونا، أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا، أي وأنكرونا ملتنا، والله ما أعدّنا: أي أظننا يعني معاشر الأنصار وقريش. وفي رواية: وجلابيب قريش، هؤلاء يعني معاشر المهاجرين إلا كما قال الأول، أي الأقدمون في أمثالهم: سمن كلبك يأكلك، أي ويقولون: أرجع كلبك يتبعك، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما سمعت أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز نفسه، وبالأذل النبي.
وفي الاستيعاب أن عبدالله بن أبيّ قال ذلك في غزوة تبوك، هذا كلامه، وفيه نظر ظاهر.
والجلابيب: جمع جلبيب ما يجلب من بلد إلى غيره يعني أغراب. وقيل شبهوا بالجلابيب التي هي الأزر الغلاظ القليلة القيمة.
ثم أقبل على من حضر من قومه. فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، أي ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقتلتم دونه، يعني النبي، فأيتمتم أولادكم، وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد، فسمع ذلك زيد بن أرقم «رضي الله ع» على ما هو الصحيح، وقيل سفيان بن تيم، فمشى به إلى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر وعنده عمر ابن الخطاب «رضي الله ع»، أي ونفر من المهاجرين والأنصار.
وفي البخاري عن زيد بن أرقم «رضي الله ع» «فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فذكره للنبي؛ فدعاني فحدثته، فكره رسول الله ﷺ ذلك وتغير وجهه، وقال له: يا غلام لعلك غضبت عليه، قال: والله يا رسول الله لقد سمعته منه، قال: لعله أخطأ سمعك، ولامه من حضر من الأنصار، وقالوا: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل».
أي وفي البخاري «فكذبني رسول الله ﷺ: وأصابني همّ لم يصبني مثله قط، وجلست في البيت» أي الخباء «فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله ﷺ ومقتك، فقال زيد: والله لقد سمعت ما قال، ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله، وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه ما يصدق حديثي».
أي وقيل إن زيد بن أرقم «رضي الله ع» قال لابن أبيّ لما قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل: أنت والله الذليل المنقص في قومك: ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال له ابن أبيّ لعنه الله: اسكت، فإنما كنت ألعب، فعند تغير وجه رسول الله ﷺ استأذنه عمر «رضي الله ع» في أن يقتل ابن أبي، والتمس منه أن يأمر غيره بقتله إذا لم يأذن له في ذلك.
أي فعن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» قال: لما كان من أمر ابن أبيّ ما كان، جئت رسول الله ﷺ وهو في فيء شجرة: أي ظلها، عنده غليم أسود يغمز ظهره أي يكبسه. فقلت يا رسول الله كأنك تشتكي ظهرك: فقال تقحمت بي الناقة: أي ألقتني الليلة، فقلت يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنق ابن أبيّ، أو مر محمد بن مسلمة بقتله. أي وفي رواية مر به عباد بن بشر فيلقتله، فقال له رسول الله ﷺ: كيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه.
وفي لفظ أن عمر «رضي الله ع» قال له رسول الله ﷺ: إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريا؛ فقال: ترعد له أذن وأنف كثيرة بيثرب يعني المدينة، ولعل تسميته لها بذلك إن كان بعد النهي لبيان الجواز.
ويبعد أن يكون ذلك كان قبل النهي عن ذلك ولكن آذن بالرحيل، وكان ذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها.
أي وفي رواية: لما شاع الخبر ولم يكن للناس حديث في ذلك اليوم. أي الوقت إلا ذلك، أذن بالرحيل، وكانت ساعة لم يكن رسول الله ﷺ يرحل فيها، أي لشدة الحر، فارتحل الناس وسار رسول الله ﷺ فجاءه أسيد بن حضير «رضي الله ع» فحياه بتحية النبوّة وسلم عليه، أي قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وقال: يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، أي فإنه كان لا يرحل إلا إن برد الوقت، فقال له رسول الله ﷺ: أما بلغك ما قال صاحبكم، فقال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال عبدالله بن أبي ابن سلول، قال وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل، قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك. وفي رواية لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي، فإنه ليرى أنك استلبته ملكا، وقد تقدم الاعتذار عنه بذلك في غير ما مرة.
ثم سار رسول الله ﷺ بالناس سيرا حثيثا أي صار يضرب راحلته بالسوط في مراقها: أي مارق من جلد أسفل بطنها، وسار يومهم ذلك وليلتهم، وصدر ذلك اليوم الثاني حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله بن أبي بن سلول.
قال وذهب بعض الأنصار الذين سمعوا قول النبي ﷺ ورده على الغلام إلى ابن أبي لعنه الله. فقال له: يا أبا الحباب إن كنت قلت ما نقل عنك فأخبر به النبي ﷺ فليستغفر لك، ولا تجحده فينزل فيك ما يكذبك وإن كنت لم تقله فائت رسول الله ﷺ فاعتذر له واحلف له ما قلته، فحلف بالله العظيم ما قاله من ذلك شيئا، ثم مشى إلى رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ يا ابن أبيّ إن كانت سبقت منك مقالة فتب، فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد، وما تكلمت به انتهى.
أي وفي لفظ أنه أرسل إلى ابن أبي فأتاه، فقال له: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني عنك؟ فقال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإن زيدا لكاذب، فقال من حضر رسول الله ﷺ من الأنصار: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.
أي، وفي لفظ أنهم قالوا: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا يصدق عليه كلام غلام.
ثم إن عبدالله «رضي الله ع» ولد عبدالله بن أبي ابن سلول، أي وكان اسمه الحباب، فسماه يوم موت أبيه عبدالله لما بلغه مقالة عمر «رضي الله ع» من قتل أبيه، جاء إلى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أبي يعني والده فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني أن أحمل لك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالده مني، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال رسول الله ﷺ: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا.
قال وفي رواية، فمرني، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النار، فعفوك أفضل، ومنتك أعظم، فقال رسول الله ﷺ ما أردت قتله، ولا أمرت به ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا، فقال عبدالله: يا رسول الله إن أبي كانت أهل هذه البحيرة أي المدينة، اتفقوا على أن يتوّجوه عليهم، فجاء الله «عَزَّ وجَلّ» بك فوضعه ورفعنا بك، أي زاد في رواية: ومعه قوم أي من المنافقين يطيفون به ويذكرونه أمورا قد غلب الله عليها، وتقدم أنه وقع لعبدالله «رضي الله ع» مثل ذلك مع أبيه.
روى الدارقطني مسندا «أن رسول الله ﷺ مر على جماعة فيهم عبدالله ابن أبي، فسلم عليهم ثم ولى، فقال عبدالله: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبدالله، فاستأذن رسول الله ﷺ في أن يأتيه برأس أبيه، فقال لا ولكن بر أباك، ولما كان رسول الله ﷺ بقرب المدينة هاجت ريح شديدة تخوفوها كادت تدفن الراكب» أي خافوا أن تكون لأمر حدث بالمدينة على أهلهم، فإن مدة الموادعة التي كانت بينه وبين عيينة بن حصن كان ذلك حين انقضائها، فخافوا على المدينة منه «فقال: ليس عليكم منه» يعني من عيينة بن حصن «بأس، ما بالمدينة من نقب» أي باب «إلا وملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكن تعصف هذه الريح لموت عظيم من الكفار» وفي رواية «لموت منافق» وفي لفظ «مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة» فكان كما قال مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة بن التابوت وكان كهفا للمنافقين، كان من عظماء يهود بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهرا، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله:
وقد عصفت ريح فأخبرت أنها ** لموت عظيم في اليهود بطيبة
قال: وفي رواية أن النبي ﷺ أخبر بموته، فقد جاء أن عبادة بن الصامت قال لابن أبي: يا أبا حباب مات خليلك قال: أيّ خليل؟ قال: من موته فتح للإسلام وأهله، قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة. قال: واويلاه من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قال، قلت: رسول الله ﷺ أخبرنا أنه مات هذه الساعة، فحزن حزنا شديدا. انتهى وذكر أهل المدينة أن هذه الريح وجدت بالمدينة، وأنه لما دفن عدّو الله سكنت.
أقول لكن في كلام ابن الجوزي رفاعة بن زيد بن التابوت، وهو عمّ قتادة بن النعمان، قد ذكر عنه قتادة «رضي الله ع» ما يدل على صحة إسلامه.
أي وقد يقال: جاز أن يكون أظهر ذلك لقتادة ليظن به ما ظنه من صحة إسلامه.
قال ابن الجوزي: ولهم رفاعة بن التابوت في الصحابة ذكره في الإصابة. قال: جاء ذكره في حديث مرسل، كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه، ولكن من قبل ظهره، إلا الحمس فإنها كانت تأتي البيوت من أبوابها، فدخل رسول الله ﷺ حائطا ثم خرج من بابه، فأتبعه رجل يقال له رفاعة بن التابوت ولم يكن من الحمس. فقالوا: يا رسول الله نافق رفاعة فقال له رسول الله ﷺ: ما حملك على ما صنعت ولم تكن من الحمس؟ قال: فإن ديننا واحد، فنزلت {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} وسيأتي نحو هذه القصة لقطبة بن عامر ولعلها وقعت لهما.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم «إن ريحا عظيمة هبت فقال النبي ﷺ إنها هبت لموت منافق عظيم النفاق» وهو رفاعة بن التابوت، فهو آخر غير هذا. فقد جاء من وجه آخر «رافع بن التابوت» أي فذكر رفاعة بدل رافع من تصرف بعض الرواة.
وذكر في الإصابة أن رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان «رضي الله ع» لم يوصف بأنه ابن التابوت كما ذكره ابن الجوزي، أي فوصفه بابن التابوت من تصرف بعض الرواة، فليتأمل والله أعلم.
وعن جابر «رضي الله ع» قال «كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فهاجت ريح منتنة فقال النبي ﷺ: إن ناسا من المنافقين اغتابوا ناسا من المؤمنين فلذلك هاجت هذه الريح» ولم يعين جابر السفرة، فيحتمل أن تكون هي هذه الغزوة وهو ظاهر سياقها فيها.
ويحتمل أن تكون غيرها، وفقدت ناقة رسول الله ﷺ القصواء من بين الإبل: أي ليلا. فجعل المسلمون يطلبونها من كل وجه، فقال زيد بن الصلت وكانت منافقا كما علمت من بني قينقاع وكان بمجمع من الأنصار: أي يذهب هؤلاء في كل وجه، قالوا يطلبون ناقة رسول الله ﷺ قد ضلت، قال: أفلا يخبره الله بمكانها، أي وفي لفظ: كيف يدعي أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ولا يخبره الذي يأتيه بالوحي، فأنكر عليه القوم؛ وقالوا قاتلك الله يا عدّو الله نافقت، وأرادوا قتله فعمد هاربا إلى رسول الله ﷺ متعوذا به. فقال رسول الله ﷺ ـ وذلك الرجل يسمع: إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله ﷺ وقال: ألا يخبره الله بمكانها، والله قد أخبرني بمكانها، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإنها في الشعب مقابلكم، قد مسك زمامها بشجرة، فاعمدوا نحوها، فذهبوا فأتوا بها من حيث قال، فقام ذلك الرجل سريعا إلى رفقائه، فقالوا له حين دنا لا تدن منا، فقال لهم: أنشدكم الله، هل أتى أحد منكم محمدا فأخبره خبري، قالوا: لا والله، ولا قمنا من مجلسنا، فقال: إني وجدت ما تكلمت به عنده، فأشهد أن محمدا رسول الله كأني لم أسلم إلا اليوم فقالوا له: فاذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، فذهب إليه واعترف بذنبه واستغفر له، قال: ويقال إنه لم يزل فشلا أي جبانا حتى مات ووقع مثل هذا أي هبوب الريح وإضلال ناقته في غزوة تبوك.
وأوقع السباق بين الإبل، فسابق بلال «رضي الله ع» على ناقته القصواء فسبقت غيرها من الإبل، وسابق أبو سعيد الساعدي «رضي الله ع» على فرسه الذي يقال له الظراب فسبق غيره من الخيل ا هـ.
أي وجاء أن ناقته العضباء كانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال «حقّ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» ا هـ.
أقول في الإمتاع: أنه في هذه الغزوة تسابق مع عائشة «رضي الله ع» فتحزمت بقبائها، وفعل كذلك رسول الله ﷺ ثم استبقا فسبقها رسول الله ﷺ وقال لها: هذه بتلك التي كنت سبقتني، يشير إلى أن جاء إلى بيت أبي بكر «رضي الله ع» فوجد مع عائشة شيئا فطلبه منها فأبت وسعت، وسعى خلفها فسبقته.
هذا. وفي كلام ابن الجوزي عن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت «خرجت مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال للناس: تقدموا فتقدموا. ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى حملت اللحم وخرجت معه في سفرة أخرى. فقال للناس: تقدموا، فتقدموا. ثم قال لي تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك» فليتأمل.
قال: ولما انتهى رسول الله ﷺ إلى وادي العقيق تقدّم عبدالله «رضي الله ع» ابن عبدالله بن أبيّ ابن سلول وجعل يتصفح الركاب حتى مرّ أبوه، فأناخ به ثم وطىء على يد راحلته، فقال أبوه ما تريد يا لكع، فقال: والله لا تدخل حتى تقرّ أنك الذليل وأن رسول الله ﷺ العزيز، حتى يأذن لك رسول الله، لتعلم أيضا الأعز من الأذل، أنت أو رسول الله؛ فصار يقول لأنا أزل من الصبيان، لأنا أزل من النساء، حتى جاء رسول الله ﷺ قال: خلّ عن أبيك، فخلى عنه.
أي وفي لفظ أنه لما جاء قال له ابنه: وراءك قال: مالك ويلك قال: والله لا تدخلها يعني المدينة حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم اليوم من الأعز من الأذل: وفي لفظ: حتى تقول رسول الله ﷺ الأعز وأنت الأذل، فقال له: أنت من بين الناس، فقال: نعم أنا من بين الناس، وانصرف إلى النبي، وشكا له ما صنع ابنه «رضي الله ع»، فأرسل إلى ابنه أن خلّ عنه. وفي لفظ قال له ابنه «رضي الله ع»: لئن لم تقرّ لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك، فقال: ويحك أفاعل أنت؟ قال نعم، ولما رأى منه الجد قال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول الله ﷺ لابنه: جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا.
وأنزل الله تعالى سورة المنافقين. قال زيد بن أرقم «رضي الله ع»: رأيت رسول الله ﷺ تأخذه البرحاء، ويعرق جبينه الشريف، وتثقل يدا راحلته، فقلت: إن رسول الله ﷺ يوحى إليه، ورجوت أن ينزل الله تصديقي. فلما سري عن رسول الله ﷺ أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول: وعت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك، وكذب المنافقين. وفي رواية «هذا الذي أوفى الله بأذنه، ونزل {وتعيها أذن واعية} فكان يقال لزيد بن أرقم «رضي الله ع» ذو الأذن الواعية».
وذكر بعض الرافضة أن قوله تعالى {وتعيها أذن واعية} جاء في الحديث أنها نزلت في علي كرم الله وجهه. قال الإمام ابن تيمية: وهذا حديث موضوع باتفاق أهل العلم: أي وعلى تقدير صحته لا مانع من التعدد.
وصار قوم عبدالله بن أبي عند نزول سورة المنافقين يعاتبونه ويعنفونه، ولما بلغه أي بغض قومه له ومعاتبتهم له، قال لعمر «رضي الله ع»: كيف ترى يا عمر، إني والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته، فقال عمر «رضي الله ع»: وقد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري ا هـ.
وجاء «أنه لما نزلت سورة المنافقين وفيها تكذيب ابن أبيّ، قال له أصحابه: اذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أعطي زكاة أموالي فأعطيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فأنزل الله تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم} الآية».
وفي تفسير القرطبي عند قوله تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر} قال السدي: نزلت في عبدالله ابن أبيّ، جلس إلى النبي ﷺ فشرب رسول الله، فقال له: بالله يا رسول الله، أما أبقيت فضلة من شرابك أسقها أبي لعل الله يطهر بها قلبه، فأفضل له فأتاه بها؟ فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال هي فضلة من شراب النبي ﷺ جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه، فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله بالله أما أذنت لي في قتل أبي، فقال النبي ﷺ: بل ترفق به وتحسن إليه.
وقد جاء أن ابنه «رضي الله ع» قال: يا رسول الله ذرني أسقي والدي من وضوئك لعل قلبه أن يلين، فتوضأ وأعطاه فذهب به إلى أبيه، فسقاه وقال له هل تدري ما سقيتك؟ قال: نعم، سقيتني بول أمك، قال: لا والله لكن سقيتك بول رسول الله » وقدم رسول الله ﷺ المدينة هلال رمضان، فكانت غيبته ثمانية وعشرين ليلة.
قال: وفي هذه الغزوة جاءت امرأة بابن لها وقالت يا رسول الله هذا ابني غلبني عليه الشيطان، ففتح فم الولد وبزق فيه وقال: اخسأ عدو الله، أنا رسول الله، قال ذلك ثلاثا. ثم قال للمرأة: شأنك بابنك، لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه».
وفي هذه الغزوة «جاء شخص بثلاث بيضات له من بيض النعام فقال لجابر «رضي الله ع» دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات. قال جابر: فعملتهنّ ثم جئت بهنّ، فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد، فجعل كلّ من رسول الله ﷺ وأصحابه يأكل من ذلك بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته والبيض كما هو».
وفي هذه الغزوة «جاء جمل إلى رسول الله ﷺ يرفل» أي يختال في مشيه «وصوت، فقال: تدرون ما يقول هذا الجمل؟ هذا يستعيذني على سيده، يقول: إنه كان يحرث عليه، وإنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به، فقلت: لا أعرفه، قال: إنه سيدلك عليه، فخرج بين يديّ حتى وقف على صاحبه فجئت به إلى النبي ﷺ فكلمه في شأن الجمل» ا هـ.
أقول: وقد تقدمت هذه الأمور الثلاثة التي هي قصة ابن المرأة، وقصة البيض، وقصة الجمل في ذات الرقاع، والتعدد فيهما حتى لأجل هذه الأمور سميت كل منهما بغزوة الأعاجيب بعيد. والذي أراه أنه اشتباه من بعض الرواة فليتأمل.
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك: أي الكذب على عائشة الصديقة المبرأة المطهرة «رضي الله ع» قالت «لما دنونا من المدينة قافلين» أي راجعين «أذن ليلة بالرحيل، فقمت وذهبت لأقضي حاجتي حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عقد لي من جزع أظفار» كذا بالألف عند البخاري. وفي رواية «ظفار» بغير ألف. قال القرطبي: ومن قيده بالألف فقد أخطأ، أي ولعل المراد خالف الرواية، وفي لفظ «ظفاريّ» أي بياء النسبة. وفي لفظ «الجزع الظفري».
وقد يقال: لا مانع من وقوع هذه الألفاظ من الصديقة في أوقات مختلفة. قال بعضهم: الجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وآخره عين مهملة خرز «وظفار» بالظاء المعجمة كوبار مبنية على الكسر: قرية من قرى اليمن كان ثمنه يسيرا. وفي كلام بعضهم: كان يساوي اثني عشر درهما «قد انقطع، فالتمست عقدي» أي ذهبت إلى التماسه في المحل الذي قضيت فيه حاجتي وحبسني التماسه «أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي» هو بتخفيف الحاء: أي يجعلون هودجها على الرحل/ «فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لقلة أكلهنّ» أي لأن السمن وكثرة اللحم غالبا تنشأ عن كثرة الأكل «وساروا». أي وعن عائشة «رضي الله ع» أن الذي كان يرحل هودجها ويقود بعيرها أبو مويهبة مولى رسول الله، وكان رجلا صالحا. ولا يخالف هذا قولها وأقبل الرهط إلى آخره. وقولها في بعض الروايات «ولم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه» لأنه يجوز أن جماعة كانوا يعاونون أبا مويهبة في ذلك «فوجدت عقدي، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، وأقمت بمنزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان السلمي خلف الجيش»: أي لأنه كان على ساقة الجيش يتخلف عن الجيش ليلتقط ما يسقط من المتاع. وقيل كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتحل الناس.
وقد جاء «أن زوجته شكته إلى النبي ﷺ وقالت له: إنه لا يصلي الصبح، فقال: يا رسول الله إني امرؤ ثقيل النوم لا أستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال له رسول الله ﷺ: إذا استيقظت فصلّ» أي وفي رواية «شكته إلى النبي ﷺ أنه يضربها، فقال: إنها تصوم بغير إذني، فقال لها لا تصومي إلا باذنه قالت: إنه ينام عن الصلاة، أي صلاة الصبح، قال إنه شيء ابتلاه الله به، فإذا استيقظ فليصلّ» وهذا يدل على أنه كان يعلم من حاله أنه ينام عن صلاة الصبح «قالت إنه إذا سمعني أقرأ يضربني فقال: إن معي سورة ليس معي غيرها هي تقرؤها، قال: لا تضربها، فإن هذه السورة لو قسمت في الناس لوسعتهم» أي وهذا الجواب منه يدل على أن صفوان ظنّ أن امرأته إذا قرأت تلك السورة شاركته في ثوابها فليتأمل.
«فأدلج: أي سار ليلا فأصبح عند منزلي» أي على خلاف عادته «فرأى سوادا» أي شخص إنسان نائم «فأتاني فعرفني، فاستيقظت باسترجاعه» أي بقوله: {إنا لله وإنا إليه راجعون} أي لأن تخلف أمّ المؤمنين عن الرفقة في مضيعة: مصيبة أي مصيبة، قالت: فخمرت وجهي بجلبابي» وهو ثوب أقصر من الخمار، ويقال له المقنعة تغطي بها المرأة رأسها: أي لأن ذلك كان بعد نزول آية الحجاب أي {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية أي لأنه تقدم أن ذلك كان في سنة ثلاث على الراجح عند الأصل.
وفي الإمتاع وذكر بعض علماء الأخبار أن تزوجه زينب التي نزلت آية الحجاب بسببها كان في ذي القعدة سنة خمس، ولا يخفى أن هذا القول ينافيه ما يأتي عن عائشة «رضي الله ع» من قولها «إن زينب هي التي كانت تساميني من أزواج النبي » إذ هو صريح في أنها كانت زوجة له قبل هذه الغزوة بناء على أن هذه الغزوة كانت سنة ست.
«قالت والله ما كلمني» وفي لفظ «والله ما يكلمني كلمة، وما سمعت منه كلمة» أي فلا كلمها ولا كلم نفسه، قيل استعمل الصمت أدبا لهول هذا الأمر الذي هو فيه، فلم يقع منه غير الاسترجاع حين أناخ ناقته فوطىء على يدها فركبتها. وفي رواية «ثم قرب البعير، فقال اركبي أي وفي لفظ قال أمه قومي فاركبي، وأخذ برأس البعير» وجاء «أنها لما ركبت، قالت حسبي الله ونعم الوكيل».
وفي سيرة ابن هشام «أنه لما قال لها ما خلفك يرحمك الله؟ قالت فما كلمته» أي ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات الثلاث وما قبلها على تقدير صحتها.
وقد يقال إنها لم تسمع منه غير استرجاعه ولا كلمها ولا تكلم قبل أن يقرب إليها البعير كما علمت، فلما قرب البعير إليها، قال لها: يا أمه قومي فاركبي» لأن إناخة البعير وتقريبه ليس صريحا في الإذن لها في الركوب. فأتى بذلك اللفظ الدالّ على مزيد احترامها وإجلالها وتعظيمها. وبعض الرواة اقتصر على قولها اركبي «وبعد أن ركبت، أي وحصلت الطمأنينة، واندفعت الريبة، قال لها متعجبا لا مستفهما: ما خلفك؟ قالت: فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا، وذلك في نحر الظهيرة» أي وسطها «وهو بلوغ الشمس منتهاها من الارتفاع».
وبهذه الواقعة استدل فقهاؤنا على أنه يجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا وجدها منقطعة ببرية أو نحوها. بل يجب استصحابها إذا خاف عليها لو تركها.
هذا، وفي الخصائص الصغرى، وفي معاني الآثار للطحاوي رحمه الله. قال أبو حنيفة كان الناس لعائشة «رضي الله ع» محرما، فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك.
أي وقوله وليس غيرها من النساء كذلك يشمل بقية أزواج النبي، وحينئذ فليتأمل الفرق بينها وبين بقية أمهات المؤمنين فيما ذكر. وفيما سيأتي عن بعضهم أن من قذف عائشة يقتل، ويحدّ في غيرها من أزواجه حدين.
«قالت عائشة «رضي الله ع»: فلما نزلنا هلك من هلك بقول البهتان والافتراء، والذي تولى كبره» أي معظمه عبدالله بن أبيّ ابن سلول، أي فإنه كان أول من أشاعه في العسكر، أي فإنه كان ينزل مع جماعة المنافقين مبتعدين من الناس «فمرت عليهم. فقال من هذه؟ قالوا: عائشة وصفوان. فقال: فجربها ورب الكعبة، وفي لفظ «ما برئت منه وما برىء منها» وفي لفظ «والله ما نجت منه ولا نجا منها، وصار يقول: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت. ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم لها لشدّة عداوته لرسول الله » أي والذي في البخاري «كان يتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه» أي يستخرجه بالبحث عنه.
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون هو أول من أشاعه عند دخول المدينة، ثم صار يستخرجه بالبحث عنه ليكثر إشاعته «قالت: فقدمنا المدينة، فاشتكيت» أي مرضت «حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك» أي ووصل الخبر إلى النبي ﷺ وإلى أبويّ ولا أشعر بشيء من ذلك، وكان يريبني أني لا أعرف من رسول الله ﷺ اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي أي حين أمرض، واللطف بضم اللام وسكون الطاء. وقيل بفتح اللام والطاء، وهو من الإنسان الرفق، ومن الله التوفيق «إنما يدخل عليّ فيسلم» أي وعندي أمي تمرضني، ثم يقول: كيف تيكم» أي لا يزيد على ذلك «ثم ينصرف، فلذاك الذي يريبني حتى خرجت بعدما نقهت» بكسر القاف وفتحها «أي أول ما أفقت من المرض، فخرجت معي أمّ مسطح وهي بنت خالة أبي بكر» أي وما في لفظ «وكان مسطح ابن خالة أبي بكر هو على ضرب من التجوز والمسامحة «وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر» وكان فقيرا ينفق عليه أبو بكر، قالت: وخروجنا كان إلى المحل الذي تخرج إليه النساء ليلا، أي لضاء حاجة الإنسان، وذلك قبل أن تتخذ الكنف» أي فإن أزواج النبي ﷺ كنّ يخرجن بالليل إذا تبرزن نحو المنصع: وهو محل متسع. قالت: فلما فرغنا من شأننا وأقبلت عثرت أم مسطح في مرطها» أي إزارها «فقالت: تعس مسطح» بفتح العين وكسرها: هلك مسطح تعني ولدها، ومسطح في الأصل عمود الخيمة: قلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: يا هنتاه» بفتح الهاء الأولى وسكون النون وضم الهاء الثانية: أي يا هذه «أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك: فازددت مرضا على مرضي» أي عاودني المرض وازددت عليه» أي وفي لفظ «فخرّت مغشيا عليها».
وفي رواية «خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح قد حملت السطل وفيه ماء فعثرت ووقع السطل منها، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك، فسكتت ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، فقلت: أي أم تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح فنهرتها، فقالت: والله ما أسبه إلا فيك، فقلت: في أي شأني؟ فبقرت» أي كشفت لي الحديث، فقلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم، فأخذتني حمى نافضة ورجعت إلى بيتي، فلما رجعت إلى بيتي مكثت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، ودخل عليّ رسول الله ﷺ وقال بعد أن سلم: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي بيت أبويّ؟ وأنا أريد أن أتثبت الخبر من قبلهما، أي لأن أمها فارقتها لما نقهت من المرض، وذهبت إلى بيتها، فلا ينافي ما سبق من قولها: وعندي أمي تمرّضني «قالت: فأذن لي رسول الله ﷺ فجئت أبويّ، أي وأرسل معي الغلام، فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل وأبا بكر فوق يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك؟ فأخبرتها» فذهابها إلى أبويها كما علمت كان بعد أن صحت من المرض وبعد إخبار أم مسطح لها بالقصة.
والذي في السيرة الهشامية يفيد أنه كان قبل ذلك، وهو أنها «رضي الله ع» قالت: «كان كلما يدخل يقول: «كيف تيكم» لا يزيد على ذلك حتى وجدته في نفسي، فقلت: يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه: لو أذنت لي؟ قال: لا عليك، قالت: فانتقلت إلى أمي تمرضني ولا علم لي بشيء مما كان حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم» أي بيوت الأخلية «نعافها ونكرهها، إنما كنا نذهب في فسح المدينة، فخرجت ليلة ومعي أم مسطح بنت خالة أبي بكر، أذ عثرت في مرطها، فقالت: تعس مسطح، قلت: بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا، قالت: أو ما بلغك الخبر يا ابنة أبي بكر؟ قلت: وما الخبر؟ فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك. قلت: أو قد كان هذا، قالت: نعم، والله لقد كان، فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي» فليتأمل الجمع بين ما في السيرة الهشامية وما في غيرها على تقدير صحتهما.
«قالت: وقلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدّثوا به لا تذكرين لي من ذلك شيئا» الحديث. وفي رواية «فقلت لأمي يا أماه يتحدّث الناس» وفي لفظ «قلت لأمي يغفر الله لك، تحدّث الناس بما تحدثوا ألا تذكرين لي من ذلك شيئا؟ قالت: يا بنية هوّني عليك» وفي لفظ «خفضي عليك الشأن، فوالله لقلما ما كانت امرأة قط وضيئة» أي جميلة «عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها» أي القول في تنقيصها.
وفيه أن ضرائرها أمهات المؤمنين لم يكنّ السبب في إشاعة ذلك ولم ينقصنها به، إلا أن يقال ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك «وعند ذلك قالت: فقلت: سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا؟ أي وقلت قد علم به أبي؟ قالت نعم، قلت: ورسول الله؟ قالت: نعم، فاستعبرت وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي، فنزل فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع» أي لا يرتفع «ولا اكتحلت بنوم في الليلة الثانية كذلك، ولما أصبحت أصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي أي وهما يبكيان وأهل الدار يبكون، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي» وسمعت من بعض الشيوخ أن هرّة كانت بالبيت جالسة تبكي أيضا «فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ﷺ فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني، فتشهد رسول الله ﷺ حين جلس. ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه».
قال بعضهم: دعاها إلى الاعتراف ولم يأمرها بالستر، أي مع أنه المطلوب ممن أتى ذنبا لم يطلع عليه.
وفي لفظ. «قال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله، فإن كنت قارفت» أي اكتسبت «سواء مما يقول الناس، فتوبي إلى الله تعالى، فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده. قالت: فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دمعي» أي ارتفع «حتى ما أحس منه بقطرة. فقلت لأبي: أجب رسول الله ﷺ فيما قال. قال: فوالله لا أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله. فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله؟ » وفي لفظ «قلت لأبوي: ألا تجيبان رسول الله ﷺ فقالا: والله لا ندري بماذا نجيبه؟ فقلت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم» وفي لفظ «لا أجد لي مثلا إلا قول أبي يوسف رحمه الله، أي والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه، إذ يقول: {فصبر جميل والله المستعان}.
أي وفي رواية كما في البخاري «مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه {والله المستعان على ما تصفون} وفي لفظ {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} وبذلك استدل على جواز ضرب المثل من القرآن أيضا «ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى»، وفي لفظ «قرآنا يقرأ به في المسجد ويصلى به، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. وكنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ رؤيا في النوم يبرئني الله بها، أي وعند ذلك قال أبو بكر «رضي الله ع»: ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل عليّ، والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا يعبد الله، فيقال لنا في الإسلام. وأقبل على عائشة مغضبا، فأخذ رسول الله ﷺ ما كان يأخذه عند نزول الوحي» أي من شدة الكرب «فسجي أي غطي، بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه» وفي لفظ «قالت عائشة «رضي الله ع»: فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت، فوالله ما فزعت، لأني قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سري عن رسول الله ﷺ أي وأخبر بما أخبر حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا» أي خوفا «من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سري عن رسول الله ﷺ سري عنه وهو يضحك، وإنه لينحدر منه العرق كالجمان» وهي حبوب مد حرجة تجعل من الفضة أمثال اللؤلؤ «فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم، فكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما إن الله قد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله» وفي لفظ «قال أبشري يا عائشة فقد أنزل الله تعالى براءتك، قلت: نحمد الله لا نحمد أحدا. قالت عائشة «رضي الله ع»: نزلت تلك الآيات في يوم شات. قالت: وتناول رسول الله ﷺ درعي، فقلت بيده هكذا: أي أدفع يده عن درعي «فأخذ أبو بكر النعل ليعلوني بها فمنعته، فضحك رسول الله ﷺ وقال له: أقسمت عليك لا تفعل» وفي رواية: «لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر «رضي الله ع» فقبل رأسها، فقالت له: هلا كنت عذرتني. فقال: أي بنية أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلت بما لا أعلم؟ » ولا مخالفة بين هذه الرواية وما قبلها، لجواز أن يكون ما قبلها بعدها، وأنزل الله تعالى {إن الذين جاءوا بالإفك} الآيات العشر أي وفي تفسير البيضاوي الثمانية عشر.
قال السهيلي: وكان نزول براءة عائشة «رضي الله ع» بعد قدومهم المدينة: أي من الغزوة المذكورة لسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسرين، فمن نسبها «رضي الله ع» إلى الزنا كغلاة الرافضة كان كافرا لأن في ذلك تكذيبا للنصوص القرآنية ومكذبها كافر.
وفي حياة الحيوان عن عائشة «رضي الله ع» «لما تكلم الناس في الإفك رأيت في منامي فتى فقال لي: مالك؟ قلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعي بهذه يفرج الله عنك. قلت: وما هي؟ قال: قولي: يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. قالت: فقلت ذلك فانتبهت وقد أنزل الله فرجي».
قال بعضهم: برأ الله تعالى أربعة بأربعة. برّأ يوسف "عليه السلام" بشاهد من أهل زليخة. وبرأ موسى "عليه السلام" من قول اليهود فيه إن له أدرة بالحجر الذي فرّ بثوبه وبرّأ مريم بإنطاق ولدها. وبرأ عائشة بهذه الآيات.
«وكان أبو بكر «رضي الله ع» ينفق على مسطح لقرابته منه أي كما تقدم ولفقره، فحلف لا ينفق عليه، أي فإنه قال: والله لا أنفق على مسطح أبدا ولا أنفعه بنفع أبدا بعدما قال لعائشة وأدخل علينا».
وفي لفظ «أخرجه من منزله وقال له: لا وصلتك بدرهم أبدا، ولا عطفت عليك بخير أبدا، فأنزل الله تعالى {ولا يأتل أولوا الفضل} أي الفضيلة والإفضال {منكم والسعة} أي في الرزق {أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} وعند ذلك قال النبي ﷺ لأبي بكر «رضي الله ع»: أما تحب أن يغفر الله لك. قال أبو بكر «رضي الله ع»: والله إني لأحب أن يغفر لي، فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه. وقال: والله إني لا أنزعها عنه أبدا».
وفي معجم الطبراني الكبير والنسائي «أنه أضعف له في النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف» أي أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك «أي وكفر عن يمينه».
وبهذا وبما في الصحيح من قوله «من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه».
استدّل فقهاؤنا على أن الأفضل في حق من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه أن يحنث ويكفر عن يمينه.
وهنا لطيفة، وهي: أن ابن المقري رحمه الله منع عن ولده النفقة تأديبا له على أمر وقع منه، فكتب إلى والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات:
لا تقطعنّ عادة برّ ولا ** تجعل عقاب المرء في رزقه
فإن أمر الإفك من مسطح ** يحط قدر النجم من أفقه
وقد جرى منه الذي قد جرى ** وعوتب الصدّيق في حقه
فكتب إليه والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات:
قد يمنع المضطر من ميتة ** إذا عصى بالسير في طرقه
لأنه يقوى على توبة ** تكون إيصالا إلى رزقه
لو لم يتب مسطح من ذنبه ** ما عوتب الصديق في حقه
ووصف الله تعالى الصديق بأولي الفضل موافق لوصفه له بذلك، فقد جاء أن عليا كرّم الله وجهه دخل على النبيّ وأبو بكر الصدّيق «رضي الله ع» جالس عن يمين رسول الله، فتنحى أبو بكر عن مكانه وأجلس عليا كرّم الله وجهه بينه وبين النبيّ، فتهلل وجه رسول الله ﷺ فرحا وسرورا. وقال «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل».
وعنها «رضي الله ع» «أنها قالت: لما استلبث الوحي عنه » أي أبطأ عليه ولم ينزل «استشار الصحابة، فقال له عمر «رضي الله ع»: من زوّجها لك يا رسول الله؟ قال: الله تعالى، قال: أفتظن أن الله دلس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت، ودعا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأسامة بن زيد «رضي الله ع» ليستأمرهما في فراق أهله» أي تعني نفسها «فأما أسامة بن زيد، فقال: أهلك» أي الزم أهلك «يا رسول الله، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإنك لتقدر أن تستخلف» وفي لفظ «قد أحل الله لك فطلقها وانكح غيرها، وإن تسأل الجارية تصدقك» يعني بريرة «رضي الله ع»، أي لأنها كانت تخدم عائشة إما قبل شرائها لها أو بعده وقبل عتقها لها كان بعد الفتح «فدعا رسول الله ﷺ بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه» بالغين المعجمة والصاد المهملة بينهما ميم مكسورة: أي أعيبه «عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن وهي الدابة التي تألف البيوت ولا تخرج للمرعى، وهي هنا الشاة «فتأكله».
وفي لفظ «فدعا رسول الله ﷺ بريرة فسألها، فقام إليها عليّ كرم الله وجهه فضربها ضربا شديدا، وجعل يقول لها: أصدقي رسول الله ﷺ فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله» أي وضربها كما قال السهيلي ولم تستوجب ضربا، ولا استأذن رسول الله ﷺ في ضربها، لأنه اتهمها في أنها خانت الله ورسوله، فكتمت من الحديث ما لا يسعها كتمه، هذا كلامه.
والذي في البخاري «وانتهرها بعض الصحابة. فقال: أصدقي رسول الله، فقالت: سبحان الله، والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصانع على تبر الذهب الأحمر».
وفي الإمتاع «جاء رسول الله ﷺ لبريرة وسألها. فقالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله لا أعلم عليها إلا خيرا، والله يا رسول الله لئن كانت على غير ذلك ليخبرك الله بذلك».
أي وبريرة هذه روى عنها عبد الملك بن مروان. فقد ذكر أنه قال: كنت أجالس بريرة «رضي الله ع» بالمدينة قبل أن آتي إلى هذا الأمر يعني الخلافة، فكانت تقول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا، وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر يعني الخلافة، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق». «قالت عائشة «رضي الله ع»: وكان رسول الله ﷺ يسأل زينب بنت جحش أم المؤمنين عن أمري، يقول: ماذا علمت أو رأيت، فتقول: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري» أي أصون سمعي من أن أقول سمعت ولم أسمع، وأصون بصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر «ما علمت إلا خيرا» أي وفي رواية «حاشا سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا، والله ما أكلمها، وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله ». وفي لفظ «تناصيني» أي تعادلني من أزواج النبي ﷺ في المنزلة والمحبة عنده «فعصمها الله تعالى» أي ولهذا جعلها في النور أفضل نسائه بعد عائشة وخديجة حيث قال: والذي يظهر أن أفضلهن: أي زوجاته بعد خديجة وعائشة زينب بنت جحش.
«وقالت عائشة «رضي الله ع» في وصفها: لم أر امرأة قط خيرا من زينب في الدين، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتقرب به إلى الله، ما عدا سورة» أي حدة «تسرع فيها الفيئة» أي ترجع عنها سريعا «قالت عائشة «رضي الله ع»: وقد قام رسول الله ﷺ أي عند استلباث الوحي وتأخره في الناس وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذوني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق» وفي رواية «فاستعذر من عبدالله بن أبي ابن سلول، فقال وهو على المنبر: من يعذرني أن ينصفني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ـ يعني صفوان ـ ما علمت عليه إلا خيرا، أي وزاد في رواية «ولا يدخل بيتي». وفي لفظ «بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي يقولون عليه غير الحق. فقام سعد بن معاذ: أي سيد الأوس فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد احتملته الحمية» وفي لفظ «أجهلته الحمية. وكان قبل ذلك رجلا صالحا»: أي لما ذكر سعد بن معاذ الخزرج الذين هم قوم سعد بن عبادة غضب سعد بن عبادة لأجلهم وحملته الحمية لهم على أن يجهل» أي قال قول الجهل «فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ كما تقدم. فقال لسعد ابن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه وأنفك راغم. فإنك منافق تجادل عن المنافقين» أي والمراد بكونه منافقا أنه يفعل فعل المنافقين، ومن ثم لم ينكر ذلك إن كان سمعه، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، لأنه كان بين الحيين قبل الإسلام مشاحنة ومحاربة كما تقدم ورسول الله ﷺ قائم على المنبر «فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكنوا، قالت: وأنا لا أعلم بشيء من ذلك».
أقول فيه إن سعد بن معاذ لم يقل إنه إن كان من الخزرج نقتله، بل قال نفعل فيه ما أمر به النبي، فلا يحسن ردّ سعد بن عبادة عليه بما ذكر.
ثم رأيت بعضهم ذكر أن الأظهر عندي أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه، وإنما أراد الإنكار على ابن معاذ في كونه يقتل شخصا من قومه الذين هم الأوس مع أنه يظهر الإسلام لأنه لم يكن يقتل من يظهر الإسلام، فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تقدر على فعله حيث لم يأمرك بذلك النبي، وإنما انتصر أسيد بن حضير لسعد بن معاذ نصرة للنبي في مثل هذه الحالة العظيمة التي طلب النبي ﷺ فيها من يعذره من ذلك القائل، وإنكاره على سعد بن عبادة إنما هو إنكار ظاهر لفظه وإن كان لباطنه مخلص حسن، وكم من لفظ ينكر إطلاقه على قائله وإن كان في الباطن له مخلص هذا كلامه.
ثم رأيت في السيرة الهشامية أن المتكلم أسيد بن حضير، وأنه قال يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا أمرك، فوالله إنهم لأهل لأن نضرب أعناقهم، فقام سعد بن عبادة فقال: كذبت لعمر الله، والله ما تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك يعني الأوس ما قلت هذا: أي لأن عبدالله بن أبي ابن سلول من الخرزج، وكذا حسان بن ثابت «رضي الله ع»، بناء على أنه كان من أصحاب الإفك.
وفي البخاري «أن سعد بن معاذ قال: ائذن لي يا رسول الله أن أضرب أعناقهم، فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان من رهط ذلك الرجل» أي من الخزرج «فقال: كذبت، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم» وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وقول البخاري «وكانت أم حسان إلى آخره» يشعر بأن حسان لم يكن من الخزرج، وهو يخالف ما تقدم وما سيأتي أنه من الخزرج، إلا أن يقال وصفه بذلك على المسامحة لكون أمه منهم فليتأمل، ولا يخفى أن ذكر المنبر يخالف ما في الأصل من أن اتخاذ المنبر كان في السنة الثامنة، وقصة الإفك كانت في السنة الخامسة أو السادسة. وفي النور: المراد بالمنبر شيء مرتفع، قال: وإلا فالمنبر إنما اتخذ في السنة الثامنة، أي فيكون المراد المنبر الذي اتخذ في السنة الثانية كان من الطين، والذي كان من خشب إنما اتخذ في السنة الثامنة، وقد بينا ذلك مبسوطا والله أعلم.
ثم بعد نزول آيات الإفك أي وهي {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة} إلى قوله {أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} خرج إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم الآيات وأمر بجلد أصحاب الإفك، أي وهم: عبدالله بن أبيّ، ومسطح، وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وأخوها عبيدالله بالتصغير ابن جحش ويقال له أبو أحمد، كان ضريرا. أي وكان يدور مكة أعلاها وأدناها في أيّ محل من غير قائد، وكان شاعرا وهو ابن عمة أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي. وأما أخوها عبدالله مكبرا فقد قتل يوم أحد كما تقدم، وزاد بعضهم خامسا وهو زيد بن رفاعة. وفيه أنه تقدم أنهم لما قدموا المدينة وجدوه قد مات، إلا أن يقال. إن لهم زيد بن رفاعة غيره فيجوز أن يكون هو ذلك، ويقال وحسان بن ثابت «فجلدوا الحد وهو ثمانون».
وقال بعضهم: وذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية، أي أنه القائل أنا أعذرك وهم من بعض الرواة، وإنما المتكلم بذلك أسيد بن حضير أي كما تقدم عن السيرة الهشامية، لأن سعد بن معاذ مات بعد بني قريظة.
قال في الأصل: لو اتفق أهل المغازي على أن غزوة الخندق وبني قريظة متقدمة على غزوة بني المصطلق لكان الوهم لازما ولكنهم مختلفون أقول: أي فالوهم لا يلزم إلا من جعل هذه الغزوة التي هي غزوة بني المصطلق متأخرة عن بني قريظة، ويذكر فيها سعد بن معاذ كالأصل. ومن ثم قال ابن إسحاق بأنها بعد بني قريظة. روى عن عائشة بدل سعد بن معاذ أسيد بن حضير. قال في الإمتاع: وهذا هو الصحيح، والوهم لم يسلم منه أحد من بني آدم.
وفيه أن مما يدل على تقدمها، وأن ذكر سعد بن معاذ ليس من الوهم في شيء ما ذكره في الكتاب المذكور الذي هو في الإمتاع أن رسول الله ﷺ مكث أياما. ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه ثم انصرفوا، فمكث أياما ثم أخذ بيد سعد بن عبادة في نفر فانطلقوا حتى دخلوا منزل سعد بن معاذ فتحدثوا ساعة وقرّب لهم سعد بن معاذ طعاما فأصابوا منه، ثم خرجوا، فذهب من أنفسهم ما كان، وأن ذكر سعد بن معاذ وقع في الصحيحين وغيرهما والله أعلم.
وذكر أن صفوان بن المعطل «رضي الله ع» الذي كان الإفك بسببه ظهر أنه كان حصورا لا يأتي النساء، أي إنما معه مثل الهدبة: أي عنين.
وقد قال الشيخ محيي الدين: الحصور عندنا العنين، أي ويدل له ما في البخاري «أنه «رضي الله ع» ما كشف كنيف امرأة قط» أي سترها، لأن الكنيف الساتر.
وقد جاء في تفسير وصف يحيى بن زكريا بحصورا أنه أهوى إلى الأرض وأخذ قذاة. وقال: كان ذكره ـ يعني يحيى "عليه السلام" مثل هذه القذاة، ولعل المراد التشبيه في الارتخاء وعدم الشدة، فلا يخالف ما قبله، لكن في النهر: الحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، أي وربما يؤيد ذلك ما جاء «أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة. رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء. وامرأة جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال. والذي يضل الأعمى. ورجل حصور، ولم يجعل الله حصورا إلا يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام» فالحصور وصف مذموم إلا في يحيى "عليه السلام" خصوصية له دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا فقد امتنّ سبحانه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوله {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية}، قيل وهذا الوصف جاء ليحيى من أثر همة والده زكريا رحمه الله، فإنه لما شهد مريم منقطعة عن الأزواج أحب أن يرزقه الله ولدا: مثلها أي منقطعا عن الزوجات، فجاء يحيى "عليه السلام" حصورا، ويؤيد ذلك ما في (أنس الجليل) وكان يحيى "عليه السلام" لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما للرجال، كذا قيل، وهو غير مرضيّ.
وقد تكلم القاضي عياض رحمه الله في الشفاء على معنى كون يحيى حصورا بما حاصله، أن هذا الذي قيل نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب لا يأتيها، فكأنه حصر عنها، وأنه حصر نفسه عن الشهوات قمعا لها، هذا كلامه فليتأمل.
أي وعلى الأول لا ينافي ذلك كون صفوان كان متزوّجا، لما تقدم أن زوجته شكته للنبي: أي على أن ابن الجوزيّ نقل عن شيخه ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى أن صفوان «رضي الله ع» إنما تزوّج بعد حديث الإفك.
ومما يدل على أن حسان «رضي الله ع» لم يكن من أصحاب الإفك تبرؤه مما نسب إليه في أبيات مدح بها عائشة «رضي الله ع» منها:
مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل سوء وباطل
فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم ** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ** لآل رسول الله زين المحافل
ومن ثم قال ابن عبد البر: وقد أنكر قوم كون حسان «رضي الله ع» خاض في الإفك، وأنه جلد.
وجاء أن عائشة «رضي الله ع» برأته من ذلك. أي فقد ذكر الزبير بن بكار، أنه قيل لعائشة «رضي الله ع» وقد قالت في حق حسان «رضي الله ع»: إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله ﷺ: أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك؟ قالت: لم يقل شيئا ولكنه القائل:
فإن كان ما قد قيل عني قلته ** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وقد قال مثل هذا البيت أنس بن زنيم، وقد بلغه أن النبي ﷺ أهدر دمه لما بلغه أنه هجاه، فجاء إليه معتذرا وأنشده أبياتا منها:
ونُبيْ رسول الله إني هجوته ** فلا رفعت سوطي إليّ إذن يدي
ولكن في رواية أنها كانت تأذن لحسان بن ثابت وتلقي له الوسادة وتقول: لا تقولوا لحسان إلا خيرا، فإنه كان يرد عن النبي ﷺ بلسانه. وقد قال تعالى {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} وقد عمي، والعمى عذاب عظيم، والله قادر على أن يحيل ذلك ويغفر لحسان ويدخله الجنة.
وفيه أنه سيأتي عن عائشة وغيرها أن الذي تولى كبره عبدالله بن أبيّ ابن سلول كما تقدم إلا أن يقال كبره مقول بالتشكيك، والذي بلغ فيه الغاية عبدالله بن أبي ابن سلول فليتأمل.
وعن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا على سريره، فلما بلغ {والذي تولى كبره} جلس ثم قال: يا أبا بكر من تولى كبره، أليس علي بن أبي طالب؟ قال الزهري: فقلت في نفسي: ماذا أقول؟ إن قلت لا، لا آمن أن ألقى منه شرا، وإن قلت نعم جئت بأمر عظيم. ثم قلت لنفسي: لقد عوّدني الله على الصدق خيرا، فقلت لا، فضرب بقضيبه السرير. قال: فمن؟ يكرر ذلك مرارا، قلت: لكن عبدالله بن أبي بن سلول.
ووقع لسليمان بن يسار مع هشام بن عبد الملك نحو ذلك؛ فإن سليمان بن يسار رحمه الله دخل على هشام بن عبد الملك. فقال له: يا أبا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبدالله بن أبيّ. قال: كذبت هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك، لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبدالله وعلقمة رحمهم الله، عن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت: الذي تولى كبره عبدالله بن أبيّ.
وعن عائشة «رضي الله ع» «أنه ذكر عندها حسان بسوء فنهتهم، وقالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق» وفي البخاري «كانت عائشة «رضي الله ع» تنكر أن يسب عندها حسان وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء
فبهذا البيت يغفر الله تعالى له».
وذكر بعضهم أن الذين كانوا يهجون رسول الله ﷺ من مشركي قريش عبدالله بن الزبعري، وأبو سفيان ابن عمه، وعمرو بن العاص، وضرار بن الحارث.
ولما أراد حسان «رضي الله ع» أن يهجوهم، قال له رسول الله ﷺ: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان ابن عمي؟ فقال له: والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال له ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك. فكان يجيء إلى أبي بكر ليوقفه على أنسابهم، فجعل حسان يهجوهم، فلما سمعوا هجوه. قالوا: إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة: وعاش حسان «رضي الله ع» مائة وعشرين سنة، نصفها في الجاهلية، ونصفها في الإسلام، وعاش والده مائة وعشرين سنة، وكذا جده ووالد جدّه.
قال بعضهم: ولا يعرف أربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم غيرهم، ولم يشهد حسان مع النبي ﷺ مشهدا، لأنه كان يخشى الموت، فكان ينسب للجبن. ومن ثم جعل يوم الخندق مع النساء والذراري في الآطام. وما وقع له مع صفية عمته في أمر اليهودي قتلته في ذلك المكان، وما قاله لها يدل على أنه كان جبانا شديد الجبن.
ويردّ إنكار بعض العلماء كونه جبانا قال: إذ لو صح ذلك لهجى به، فإنه كان يهاجي الشعراء، وكانوا يردون عليه، فما عيره أحد منهم به ولا وسمه به، ولعله كان به علة اقتضت جعله مع الذراري في الآطام منعته من شهود القتال، هذا كلامه.
وقد يقال: على تسليم أنه لم يهج بالجبن يجوز أن يكون لكونه كان لا بتأثر بوصفه بذلك.
وذكر بعضهم أن حسان «رضي الله ع» شلت يداه بضربة ضربها له صفوان بسيف لما هجاه فذكر ذلك حسان لرسول الله، فدعا حسان وصفوان، أي وأظهر التغيظ على صفوان بسبب إظهاره السلاح على حسان وضربه به، فقال صفوان: يا رسول الله آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب فضربته، فقال رسول الله ﷺ لحسان: يا حسان أحسن فيما أصابك، قال: هي لك. وفي رواية قال: كل حق لي قبل صفوان فهو لك، فقال له: قد أحسنت وقبلت ذلك منك، وأعطاه رسول عوضا منها حديقة له، يقال لها بئرَحا بفتح الراء في الأحوال الثلاثة مع قصرحا. قيل لها ذلك لأن الإبل يقال لها إذا وردت وزجرت عن الماء حا، حا.
وفيه أنه كان القياس أن يقال بئرحا بضم الراء في حالة الرفع وحدها، إلا أن يقال المجموع اسم مركب، وكانت هذه البئر لأبي طلحة «رضي الله ع» فتصدق بها على رسول الله ليضعها حيث شاء، ثم باعها حسان من معاوية بمال عظيم.
أقول: الذي في البخاري: «كان أبو طلحة «رضي الله ع» أكثر أنصاري بالمدينة مالا؛ وكان أحب أمواله إليه بئرحا، وهي حديقة كانت مستقبلة المسجد. وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويستظل بها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة «رضي الله ع» إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن الله يقول في كتابه {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وإن أحب أموالي إليّ بئرحا، وإنه صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: بخ بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، قد قبلناها منك، ورددناها عليك، وأرى أن تجعلها في الأقربين. قال: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمة» وفي لفظ آخر في البخاري «قال لأبي طلحة: اجعله لفقراء أقاربك. فجعل لحسان وأبيّ بن كعب».
وفيه أن أبيّ بن كعب كان غنيا، وبين في البخاري وجه قرابتهما من أبي طلحة، فذكر أن حسان يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس وأبي يجتمع معه في الأب السادس، وذكر بعضهم أن أبيّ بن كعب كان ابن عمة أبي طلحة.
وفي الإمتاع أنه أعطى حسان تلك الحديقة وأعطاه سيرين جاريته أخت مارية أمّ ولده إبراهيم، فجاءت منه بابنه عبد الرحمن، وكان يفتخر بأنه ابن خالة إبراهيم ابن النبي. وقد روت سيرين هذه عن النبيّ حديثا قالت «رأى رسول الله ﷺ خللا في قبر ابنه إبراهيم فأصلحه وقال: إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه» وأعطاه سعد بن عبادة «رضي الله ع» بستانا كان يتحصل منه مال كثير.
وحاصل ما في الإمتاع فيما وقع بين حسان وصفوان: أن حسان «رضي الله ع» لما قال:
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كبروا ** وابن القريعة أمسى بيضة البلد
قال صفوان: ما أراه إلا عناني أي بالجلابيب، وتقدم أن ابن أبيّ ابن سلول قد قالها في حق المهاجرين، والقريعة بالقاف: جدة حسان «رضي الله ع»، وقيل أمه. وقريعة الشيء: خياره، وقريعة القبيلة لسيدها، واستعمل بيضة البلد في الذم بقرينة المقام، وإلا فكما تستعمل في الذم تستعمل في المدح. ويقال: فلان بيضة البلد: أي واحد في قومه عظيم فيهم. فعند ذلك خرج صفوان مصلتا السيف وجاء إلى حسان وهو في نادي قومه الخزرج وضربه، فلقي بيده فوقع السيف فيها، فقام قومه وأوثقوا صفوان رباطا، ثم إنه حلّ وجيء به إلى رسول الله، فقال حسان «رضي الله ع»: يا رسول الله شهر عليّ السيف في نادي قومي ثم ضربني ولا أراني إلا ميتا من جراحتي، فقال لصفوان: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ لحسان، فقال صفوان ما تقدم. ثم قال لقوم حسان: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به، فحبسوه، فبلغ ذلك سيد الخزرج سعد بن عبادة، فأقبل على قومه ولامهم على حبسه، فقالوا: أمرنا رسول الله ﷺ بحبسه وقال لنا: إن مات صاحبكم فاقتلوه. فقال سعد: والله إن أحبّ الأمر إلى رسول الله ﷺ العفو عنه، ولكن رسول الله ﷺ قضى بالحق، والله لا أبرح حتى يطلق، فاستحيا القوم وأطلقوه، وأخذه سعد وانطلق به إلى منزله وكساه حلة، وجاء به إلى المسجد، فلما رآه قال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كساه؟ قالوا سعد بن عبادة. قال: كساه الله من ثياب الجنة. ثم إن رسول الله ﷺ كلم حسان «رضي الله ع» في العفو عن صفوان. فقال: يا رسول الله كل حق لي قبل صفوان فهو لك. فقال: قد أحسنت وقبلت ذلك. ثم أعطاه أرضا له وسيرين جاريته أخت مارية أم ولده إبراهيم وأعطاه أيضا سعد ابن عبادة «رضي الله ع» حائطا كان يتحصل منه مال كبير بما عفا عن حقه.
وقيل إنما أعطاه سيرين لذبه عن رسول الله ﷺ بشعره. فقد قال ابن عبد البر رحمه الله: إعطاء رسول الله سيرين أخت مارية لحسان ابن ثابت يروى من وجوه، أكثرها أن ذلك ليس بسبب ضرب صفوان له بل لذبه بلسانه عن رسول الله.
قيل وكان لسان حسان يصل لجبهته وإلى نحره. وكذلك كان أبوه وجده، وكان حسان «رضي الله ع» يقول على لسانه: والله لو وضعته على صخر لفلقه أو شعر لحلقه. وقد عمي مسطح أيضا.
أي وقد روى أصحاب السنن الأربعة عن عائشة «رضي الله ع» أنه أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم. قال الترمذي حسن غريب. أي والمرأة حمنة بنت جحش، والرجلان أخوها عبيدالله أبو أحمد ابن جحش ومسطح.
ولم يحدّ الخبيث عبدالله بن أبيّ ابن سلول، لأن الحدّ كفارة وليس من أهلها. وقيل لأنه لم تقم عليه البينة بذلك بخلاف أولئك. وقيل لأنه كان لا يأتي بذلك على أنه من عنده بل على لسان غيره.
وفي الطبراني ومعجم النسائي عن عائشة «رضي الله ع» أن عبدالله بن أبيّ ابن سلول جلد مائة وستين أي حدّ حدّين. قال عبدالله بن عمر «رضي الله ع»: وهكذا يفعل بكل من قذف زوجة نبيّ. أي ولعل المراد أنه يجوز أن يفعل به ذلك فلا ينافي ما تقدم من أن الحدّ كان ثمانين جلدة.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «ما زنت». وفي لفظ «لم تبغ امرأة نبيّ قط». وأما قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط {فخانتاهما} فالمراد آذتاهما. قالت امرأة نوح "عليه السلام" في حقه إنه لمجنون. وامرأة لوط "عليه السلام" دلت على أضيافه.
قيل: إنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام، ولم يجز أن تكون فاجرة، أي زانية لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم، فيجب أن لا يكون معه منقص ينفرهم عنه والكفر غير منقص عندهم. وأما الفجور فمن أعظم النقصان.
وفي الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه فلا توبة له ألبتة، كما قاله ابن عباس وغيره، ويقتل كما نقله القاضي عياض وغيره. وقيل يختص القتل بمن قذف عائشة، ويحد في غيرها حدين.
وقد وقع أن الحسن بن زيد الراعي من أهل طبرستان. وكان من العظماء، كان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف، وكان يرسل في كل سنة إلى بغداد عشرين ألف دينار تفرق على أولاد الصحابة. فحضر عنده رجل من أشياع العلويين، فذكر عائشة «رضي الله ع» بالقبيح. فقال الحسن لغلامه: يا غلام اضرب عنق هذا، فنهض إليه العلويون وقالوا: هذا رجل من شيعتنا. فقال: معاذ الله، هذا طعن على رسول الله ﷺ قال الله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} فإن كانت عائشة «رضي الله ع» خبيثة فإن زوجها يكون خبيثا، وحاشاه من ذلك، بل هو الطيب الطاهر، وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السماء، يا غلام اضرب عنق هذا الكافر، فضرب عنقه.
وفي كتاب (الإشارات) للفخر الرازي أنه في تلك الأيام التي تكلم فيها بالإفك كان أكثر أوقاته في البيت، فدخل عليه عمر «رضي الله ع»، فاستشاره في تلك الواقعة، فقال: يا رسول الله أنا أقطع بكذب المنافقين، وأخذت براءة عائشة «رضي الله ع» من الذباب، لأن الذباب لا يقرب بدنك؛ فإذا كان الله تعالى صان بدنك أن يخالطه الذباب لمخالطته للقاذورات فكيف أهلك؟ .
ودخل عليه عثمان «رضي الله ع» فاستشاره، فقال له عثمان: يا رسول الله أخذت براءة عائشة «رضي الله ع» من ظلك، إني رأيت الله تعالى صان ظلك أن يقع على الأرض: أي لأن شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر، لئلا يوطأ بالأقدام. فإذا صان الله ظلك فكيف بأهلك. أي وقد أشار إلى ذلك الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله:
لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى ** على الأرض ملقى فانطوى لمزية
وهنا لطيفة لابأس بها: وهي أن عبدالله بن عمر «رضي الله ع» كان مسافرا وكان يسايره يهودي، فلما أراد المفارقة قال عبدالله «رضي الله ع» لليهودي: بلغني أنكم تدينون بإيذاء المسلمين، فهلا قدرت على شيء من ذلك معي وأقسم عليه، فقال: إن أمنتني أخبرتك، فأمنه، فقال: لم أقدر عليك في شيء أكثر من أني كنت إذا رأيت ظلك وطئته بقدمي وفاء بأمر ديننا.
ودخل عليه علي كرم الله وجهه فاستشاره، فقال له علي كرم الله وجهه: أخذت براءة عائشة من شيء هو أنا صلينا خلفك وأنت تصلي بنعليك، ثم إنك خلعت إحدى نعليك فقلنا ليكون ذلك سنة لنا، قلت لا، إن جبريل "عليه السلام" أخبرني أن في تلك النعل نجاسة، فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف تكون بأهلك؟ فسرّ بذلك، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن خلع إحدى نعليه في أثناء الصلاة لنجاسة بها واستمر في الصلاة.
وعن أبي أيوب الأنصاري «رضي الله ع» أنه قال لزوجته أم أيوب: ألا ترين ما يقال: أي من الإفك؟ فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تهمّ بسوء لمحرم رسول الله؟ قال لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله، فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وفي السيرة الشامية أن أبا أيوب «رضي الله ع» قالت له زوجته أم أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال بلى، وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت: لا، والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.
وجاء أن ابن عباس «رضي الله ع» دخل على عائشة «رضي الله ع» في مرض موتها فوجدها وجلة من القدوم على الله، فقال لها: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، فغشي عليها من الفرح بذلك، لأنها كانت تقول متحدثة بنعمة الله عليها: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة. لقد نزل جبريل "عليه السلام" بصورتي في راحته حين أمر رسول الله أن يتزوجني. ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري. ولقد توفي وإن رأسه في حجري. ولقد قبر في بيتي وإن الوحي ينزل عليه في أهله فيفرقون منه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحاف واحد، وأبي «رضي الله ع» خليفته وصديقه. ولقد نزلت براءتي من السماء، ولقد خلقت طيبة عن طيب. ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما».
قيل وفي هذه الغزوة فقدت عائشة «رضي الله ع» عقدها أيضا فاحتبسوا على طلبه، أي فأرسل رسول الله ﷺ في طلبه رجلين من المسلمين أي أحدهما أسيد بن حضير، فحضرت الصلاة أي صلاة الصبح وكانوا على غير ماء. زاد في رواية: وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم. وهذا القيل نقله إمامنا الشافعي «رضي الله ع» عن عدة من أهل المغازي. أي وعليه يكون سقط عقدها في تلك الغزوة مرتين لاختلاف القضيتين باختلاف سياقهما.
والصحيح أن ذلك كان في غزوة أخرى أي متأخرة عن هذه الغزوة. فعن عائشة «رضي الله ع» قالت: لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي ﷺ في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس، أي فإنه بعث رجالا في طلبه، وهو لا يخالف ما سبق أنه أرسل في طلبه رجلين، وطلع الفجر، فلقيت من أبي بكر «رضي الله ع» ما شاء الله، أي لأن الناس جاؤوا لأبي بكر «رضي الله ع» وشكوا إليه ما نزل بهم، فجاء إليها ورسول الله ﷺ واضع رأسه الشريف على فخذها قد نام، فقال لها: حبست رسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، جعل يطعن بيده في خاصرتها ويقول: يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء. قالت: فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي: أي لأنه كان إذا نام لا يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ، لأنهم لا يدرون ما يحدث له في نومه، فقال حين أصبح. وفي لفظ: فاستيقظ وحضرت الصلاة فالتمس الماء فلم يجد فأنزل الله تعالى الرخصة بالتيمم. وفي لفظ: فأنزل الله تعالى آية التيمم أي التي في المائدة. ففي بعض الروايات فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية.
وقيل المراد بالآية آية النساء، لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء، وآية النساء لا ذكر للوضوء فيها، فيتجه تسميتها بآية التيمم، وكلام الواحدي رحمه الله في أسباب النزول يدل عليه. فقال أبو بكر عند ذلك: والله يا بنية إنك كما علمت مباركة، أي وقال لها ما أعظم بركة قلادتك، وقال أسيد بن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أي وفي رواية إنه قال لها جزاك الله خيرا، فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله منه مخرجا وللمسلمين فيه خير، أي وهذا ربما يفيد تكرر وقوع ما تكرهه، وأن في ذلك خيرا للمسلمين فليتأمل.
وفي لفظ قال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وإنما قال أسيد بن حضير ما قال دون غيره، لأنه كان رأس من بعث في طلب العقد، أي بل تقدم في بعض الروايات الاقتصار على بعثه لطلب ذلك. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، أي أقمناه من مبركه فوجدنا العقد تحته.
أقول في النور: أعلم أن العقد سقط مرتين: مرة كان لها ومرة كان لأختها أسماء استعارته. وبهذا يجمع بين الأحاديث التي في المسألة، هذا كلامه فليتأمل وينظر تلك الأحاديث، وما هي أي وكون هذا العقد لأسماء أختها لا يخالف ذلك قولها عقدي، لأن الإضافة تأتي لأدنى ملابسة، أي فعقد أسماء كان في المرة الثانية. وفي البخاري أيضا أن آية التيمم نزلت بعد أن صلوا بلا وضوء.
فعن عائشة «رضي الله ع». «أنها استعارت من أسماء «رضي الله ع» قلادة فهلكت: أي ضاعت، فبعث رسول الله ﷺ رجلا فوجدها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى آية التيمم». وقد ترجم البخاري عن تلك بقوله باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا، وقوله «فبعث رجلا فوجدها» يجوزأن يكون هذا الرجل هو الذي أقام البعير أو من جملة من أقامه، فلا يخالف ما سبق مما يدل أن الذين بعثهم في طلبه لم يجدوه.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث لذلك، فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره، ولذا أسند الفعل إلى واحد منهم، وكأنهم لم يجدوا العقد أولا. فلما رجعوا ونزلت آية التيمم، وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد «رضي الله ع» هذا كلامه.
قيل وفي هذه الغزوة خرجوا عن الطريق، وأدركهم الليل بقرب واد وعر، فهبط جبريل "عليه السلام" وأخبره أن طائفة من كفار الجن بهذا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه، فدعا بعلي كرّم الله وجهه وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم.
قال الإمام ابن تيمية: وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله ﷺ وعلى عليّ كرم الله وجهه. قال ابن تيمية: ومن هذا ما روي في عام الحديبية أنه قاتل الجن في بئر ذات العلم، وهي بئر في الجحفة، وهو حديث موضوع عند أهل المغازي.
أي وجاء في سبب مشروعية التيمم غير ما ذكر. ففي الطبراني عن أسلع، قال: «كنت أخدم رسول الله ﷺ وأرحل له ناقته، فقال لي ذات يوم: يا أسلع قوم فارحل، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة أي ولا ماء، فسكت رسول الله، فأتاه جبريل بآية الصعيد: أي التراب، فقال رسول الله ﷺ: قم يا أسلع فتيمم، فأراني التيمم: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت، ثم رحلت له حتى مر بماء، فقال: يا أسلع أمسّ هذا جلدك».
وفي الإمتاع: نزلت آية التيمم طلوع الفجر، فمسح المسلمون أيديهم بالأرض، ثم مسحوا بأيديهم إلى المناكب، أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذه الرواية.
وفي هذه السنة الخامسة خسف القمر، فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه صلاة الخسوف حتى انجلى القمر، وصارت اليهود تضرب بالطساس ويقولون سحر القمر.
غزوة الخندق
ويقال لها غزوة الأحزاب: أي وهي الغزوة التي ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين وثبت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين: أي وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق والشقاق والمعاندين.
وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم كما تقدم سار منهم جمع من كبرائهم، منهم سيدهم حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين «رضي الله ع»، وعظيمهم سلام بن مشكم، ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس، وأبو عامر الفاسق، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم على حرب رسول الله ﷺ وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله. أي ونكون معكم على عداوته. فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا. وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد.
زاد في رواية: فقال لهم: لكن لا نأمنكم إلا أن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا. فقالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول والعلم، أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه. وفي رواية: نحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقالوا: أنتم أهدى سبيلا، أي لأنكم تعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية؛ وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم، أي فأنتم أولى بالحق منه، فأنزل الله تعالى فيهم {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} الآيات، فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطهم لما دعوهم إليه من حرب رسول الله.
وعند ذلك خرج من بطون قريش خمسون رجلا وتحالفوا، وقد ألصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها، أن لا يخذل بعضهم بعضا، ويكونون كلهم يدا واحدة على محمد ما بقي منهم رجل، وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية رحمه الله بأبيات ذم فيها اليهود لعنهم الله بأمور بقوله:
لا تكذب أن اليهود وقد زا ** غوا عن الحق معشر لؤماء
جحدوا المصطفى وآمن بالطا ** غوت قوم هم عندهم شرفاء
قتلوا الأنبياء واتخذوا العجـ ** ـل ألا إنهم هم السفهاء
وسفيه من ساءه المن والسلـ ** ـوى وأرضاه الفوم والقثاء
ملئت بالخبيث منهم بطون ** فهي نار طباقها الأمعاء
لو أريدوا في حال سبت بخير ** كان سبتا لديهم الأربعاء
هو يوم مبارك قيل للتصر ** يف فيه من اليهود اعتداء
فبظلم منهم وكفر عدتهم ** طيبات في تركهن ابتلاء
أي لا تكذب أن اليهود والحال أنهم قد مالوا عن الحق قوم لؤماء، واللئيم: الدني الأصل، الشحيح النفس. ومن عظيم لؤمهم أنهم جحدوا نبوته ورسالته والحال أنه قد آمن بالطاغوت، وهو كل ما عبد من دون الله؟ مأخوذ من الطغيان قوم هم عندهم شرفاء وهم كفار قريش.
ورد أن اليهود قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا، ومن جملة من قتلوا زكريا ويحيى، واتخذوا العجل إلها يعبدونه، ومن يفعل ذلك لا سفيه غيره، ومن أرضاه الفوم والقثاء بدل المنّ وهو نوع من الحلواء، والسلوى: نوع من الطير، سفيه بلا شك، ملئت بالحرام كالربا بطون منهم، فبطونهم نار لاشتمالها على ما يؤدي إلى تلك النار، طباق تلك النار المصارين، ولو أراد الله لليهود في حال سبتهم الذي اختاروا تعظيمه على ما تقدم خيرا لكان يوم الأربعاء يوم سبتهم لأنه يوم خلق فيه النور؛ فاختيار يوم السبت دون يوم الأربعاء لسبتهم: أي سكوتهم عما عدا العبادة دليل على أنه تعالى لم يرد بهم الخير، ويوم السبت ابتداء الله فيه خلق العالم، خلافا لهم حيث قالوا إن ذلك أي ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت. قالوا: فنحن نستريح فيه كما استراح الرب تعالى فيه وقالوا: فإن الله لا يقضي يوم السبت شيئا من خلق ولا رزق ولا رحمة ولا عذاب ولا إحياء ولا إماتة، ومن مات يوم السبت يكون محي اسمه من اللوح المحفوظ قبل ذلك، وقد كذبهم الله تعالى بقوله {كل يوم هو في شأن} فكان فيه منهم ظلم وعدوان لأجل التصريف فيه بغبر العبادة، فبسبب ظلم وكفر حاصل منهم فيه فاتتهم طيبات كانت حلالا لهم، فحرمها الله تعالى عليهم، فكان في ذلك ابتلاء لهم.
ونقل عن ابن حجر الهيتمي رحمه الله، أنه بحث استحباب صوم يوم الأربعاء، لما ذكر من أنه خلق فيه النور فليتأمل.
ثم جاء أولئك إلى غطفان ودعوهم وحرضوهم على حرب رسول الله، وقالوا لهم: إنا سنكون معكم، وإن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم عليه، فتجهزت قريش، أي وأتباعها من القبائل، وغطفان أي وأتباعها، وقائد قريش أبو سفيان بن حرب وكانوا أربعة آلاف، ومعهم ثلاثمائة فرس أي وألف أو خمسمائة بعير، وعقد اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة المقتول والده الذي هو طلحة يوم أحد، وكذا عماه: أي عما عثمان بن طلحة وهما عثمان بن أبي طلحة وأبو سعيد بن أبي طلحة وعثمان بن أبي طلحة هو أبو شيبة كما تقدم، فشيبة ابن عم عثمان بن طلحة، وقتل يوم أحد أخوه عثمان بن طلحة الأربعة، وهم: مسافع بن طلحة، والحارث بن طلحة، وكلاب بن طلحة؟ والجلاس بن طلحة، وعثمان بن طلحة هذا، أي الحامل لواء قريش أسلم بعد ذلك، ويقال له الحجبي لأنه كان من بني عبد الدار وهم سدنة الكعبة، وبنو عبد الدار كان لهم ولأبيهم حمل لواء قريش عند الحرب دون غيرهم كما تقدم.
أي وقائد غطفان عيينة بن حصن الفزاري في بني فزارة أي وهم ألف، وتقدم أن عيينة أسلم بعد ذلك، ثم ارتد بعد إسلامه وأخذ أسيرا في زمن خلافة الصديق «رضي الله ع»، ثم أسلم وكان قبل إسلامه يتبعه عشرة آلاف قناة. وكان عنده جفوة وغلظة، ومن ثم قال في حقه «إنه الأحمق المطاع» وقال فيه «إن شر الناس من ودعه الناس اتقاء شره».
أي وقائد بني مرة أي وهم أربعمائة الحارث بن عوف المري، وأسلم بعد ذلك: أي وقيل لم تحضر بنو مرة.
وقائد بني أشجع أبو مسعود بن رخيلة، بضم الراء وفتح الخاء المعجمة وأسلم بعد ذلك.
أي وقائد بني سليم وهم سبعمائة سفيان بن عبد شمس لا يعلم إسلامه.
أي وقائد بني أسد طليحة بن خويلد الأسدي، وأسلم بعد ذلك: أي بعد أن كان ارتد بعد إسلامه، ثم حسن إسلامه، وكانت أشجع وبنو أسد تتمة العشرة آلاف. فقد قال بعضهم: كانت الأحزاب عشرة آلاف، وهم ثلاث عساكر، وملاك أمرها لأبي سفيان: أي المدبر لأمرها والقائم بشأنها.
ولما تهيأت قريش للخروج أتى ركب من خزاعة في أربعة ليال حتى أخبروا رسول الله، فلما سمع رسول الله ﷺ بما أجمعوا عليه ندب الناس: أي دعاهم، وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم، أي قال لهم: هل نبرز من المدينة أن نكون فيها؟ فأشير عليه بالخندق، أي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي «رضي الله ع». فقال: يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا، أي فإن ذلك كان من مكايد الفرس، وأول من فعله من ملوك الفرس ملك كان في زمن موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، فأعجبهم ذلك، فضرب على المدينة الخندق.
أي وعند ذلك ركب رسول الله ﷺ فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعا ينزل له، وجعل سلعا خلف ظهره، وأمرهم بالجد ووعدهم بالنصر إن هم صبروا. فعمل فيه رسول الله ﷺ مع المسلمين، أي وحمل التراب على ظهره الشريف، ودأب المسلمون يبادرون قدوم العدو. قال: واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرارين ومكاتل، وكان من جملة من يعمل في الخندق جعال أو جعيل بن سراقة؛ وكان رجلا دميما قبيح الوجه، صالحا من أصحاب الصفة. وهو الذي تمثل به الشيطان يوم أحد، وقال إن محمدا قد قتل كما تقدم، فغير اسمه وسماه عمرا، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيل عمرا ** وكان للبائس يوما ظهرا
وصار رسول الله ﷺ إذا قالوا عمرا قال عمرا، وإذا قالوا ظهرا قال ظهرا انتهى، أي وسياق أسد الغابة يدل على أن هذا الذي غير رسول الله ﷺ اسمه وسماه عمرا غير جعيل المذكور، وحصل للصحابة «رضي الله ع» تعب وجوع لأنه كان في زمن عسرة وعام مجاعة.
ولما رأى رسول الله ﷺ ما بأصحابه من النصب والجوع قال متمثلا بقول ابن رواحة «رضي الله ع»:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره
قيل: وإنما قال ابن رواحة لا هم إن العيش من غير ألف ولام فقد غيره على ما هو عادته كما تقدم، وفي لفظ:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ** فبارك في الأنصار والمهاجره
وفي لفظ * فأكرم الأنصار والمهاجرة * وتقدم في بناء المسجد:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره
زاد في الإمتاع:
اللهم العن عضلا والقاره ** هم كلفوني أنقل الحجاره
وفي لفظ: هم كلفونا ننقل الحجارة، قال الحافظ ابن حجر ولعله كان «والعن إلهي عضلا والقارة» أي والتغيير منه. وفي لفظ:
اللهم لا خير إلا خير الآخره ** فارحم المهاجرين والأناصره
وفي لفظ * فانصر الأنصار والمهاجرة * وأجابوه «رضي الله ع» بقولهم:
نحن الذين بايعوا محمدا ** على الجهاد ما بقينا أبدا
وقال متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار جلد بطنه الشريف:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلنْ سكينة علينا ** وثبت الأقدام إذ لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا
يمد بها صوته مكررا لها: أبينا أبينا. ولما بدأ بالحفر في الخندق قال: بسم الإله وبه بدينا، بكسر الدال:
ولو عبدنا غيره شقينا ** يا حبذا ربا وحب دينا
وفي الإمتاع أنه قال ما تقدم عنه في بناء المسجد وهو:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبرّ ربنا وأطهر
وتقدم الكلام عليه وعلى إنشاده الشعر في الكلام على بناء المسجد.
أي ورأيت «أن عمار بن ياسر «رضي الله ع» حين كان يحفر في الخندق جعل رسول الله ﷺ يمسح رأسه ويقول: ابن سمية تقتلك الفئة الباغية» أي كما تقدم له في بناء المسجد، وصار الشخص منهم إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر ذلك لرسول الله ﷺ ويستأذنه في اللحوق بها، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبة في الخير، وتباطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعف، وصار الواحد منهم يتسلل إلى أهله من غير استئذان له، أي وكان زيد بن ثابت ممن ينقل التراب فقال رسول الله ﷺ في حقه «أما إنه نعم الغلام» وغلبته عينه فنام في الخندق، فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو نائم. فلما قام فزع على سلاحه. فقال له رسول الله «يا بار قد نمت حتى ذهب سلاحك. ثم قال: من له علم بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة: أنا يا رسول الله وهو عندي. فقال: ردّه عليه، ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا» وإليه استند أئمتنا في تحريم أخذ متاع الغير مع عدم علمه بذلك.
واشتد على الصحابة «رضي الله ع» في حفر الخندق كدية، أي محل صلب، فشكوا ذلك لرسول الله ﷺ فأخذ المعول وضرب فصارت كثيبا أهيل أو أهيم: أي رملا سائلا. وفي رواية «أنه دعا بماء ثم تفل عليه ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء أي رشه على تلك الكدية» قال بعض الحاضرين: فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب: أي الرمل، ما ترد فأسا ولا مسحاة، وهي المجرفة من الحديد.
أي وكان أبو بكر وعمر «رضي الله ع» ينقلان التراب في ثيابهما إذا لم يجدا مكاتل من العجلة.
وعن سلمان الفارسي «رضي الله ع» قال: ضربت في ناحية من الخندق فغلظت عليّ ورسول الله ﷺ قريب مني. فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى، ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أو قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت نعم. قال أما الأولى، فإن الله تعالى فتح عليّ بها اليمن وأما الثانية، فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة، فإن الله فتح عليّ بها المشرق.
قال: وقد ذكر أن سلمان الفارسي «رضي الله ع» تنافس فيه المهاجرون والأنصار. فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: سلمان منا. فقال رسول الله «سلمان منا أهل البيت» ولذلك يشير بعضهم بقوله:
لقد رقي سلمان بعد رقه ** منزلة شامخة البنيان
وكيف لا والمصطفى قد عده ** من أهل بيته العظيم الشان
وإنما وقع التنافس في سلمان «رضي الله ع»، لأنه كان رجلا قويا يعمل عمل عشرة رجال في الخندق، أي فكان يحفر في كل يوم خمسة أذرع في عمق خمسة أذرع حتى أصيب بالعين، أصابه بالعين قيس بن صعصعة فلبط به: أي بلام مضمومة فموحدة مكسورة فطاء مهملة: صرع فجأة، وتعطل عن العمل، فأخبر النبي ﷺ بذلك، فقال «مروه فليتوضأ وليغتسل، ويكفىء الإناء خلفه ففعل، فكأنما نشط» أي حل «من عقال» وفي لفظ «فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه في ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة، ويكفىء الإناء خلف ظهره».
وذكر «أنه لما اشتدت تلك الكدية على سلمان أخذ المعول من سلمان، وقال: بسم الله، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة، فخرج نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف ليل مظلم، فكبر رسول الله، وقال: أعطيت مفاتيح اليمن، إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنها أنياب الكلاب. ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، فخرج نور من قبل الروم، فكبر رسول الله، وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها» أي زاد في رواية «الحمر. ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر، وبرق برقة فكبر، وقال: أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب في مكاني هذا» أي وفي رواية «إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، وجعل يصف لسلمان أماكن فارس، ويقول سلمان: صدقت يا رسول الله، هذه صفتها، أشهد أنك رسول الله، ثم قال رسول الله ﷺ: هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان» ا هـ.
أي وعند ذلك قال جمع من المنافقين. منهم معتب بن قشير: ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق: أي الخوف، لا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء} الآية.
وقيل في سبب نزولها أنه لما فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ وهم أعزّ وأمنع من ذلك.
ولما فرغ رسول الله ﷺ من حفر الخندق أقبلت قريش ومن معها، وكانوا عشرة آلاف كما تقدم، فنزلت قريش بمجمع الأسيال وغطفان ومن معهم إلى جانب أحد، وكان المسلمون ثلاثة آلاف.
أي وقد قال ابن إسحاق: سبعمائة، ووهم في ذلك. وقال ابن حزم: إنه الصحيح الذي لا شك فيه ولا وهم، وعسكر بهم إلى سفح سلع: وهو جبل فوق المدينة، أي فجعل ظهر عسكره إلى سلع كما تقدم، و الخندق بينه وبين القوم، أي وضربت له قبة من أدم.
قال: وكان يعقب فيها بين ثلاثة من نسائه عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش، فتكون عائشة عنده أياما. أي فإنه مكث في عمل الخندق بضع عشرة ليلة، وقيل أربعا وعشرين ليلة، أي وقيل عشرين ليلة، وقيل قريبا من شهر، وقيل شهرا.
قال بعضهم: وكونه قريبا من شهر هو أثبت الأقاويل. وقيل أثبت الأقاويل أنها كانت خمسة عشر يوما، وبه جزم النووي رحمه الله في الروضة، وسائر نسائه في بني حارثة، وجعل النساء والذراري في الآطام، وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم من بلغ ومن لم يبلغ يعملون فيه، فلما التحم الأمر أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله، وأجاز من بلغ خمس عشرة سنة.
فمن أجازه عبدالله بن عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب «رضي الله ع» ا هـ وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فصارت كالحصن.
وفي كلام بعضهم: كان أحد جوانب المدينة عورة، وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدوّ منه، فاختار ذلك الجانب للخندق.
واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم «رضي الله ع». وأرسل سليطا وسفيان بن عوف طليعة للأحزاب فقتلوهما، فأتي بهما رسول الله ﷺ فدفنهما في قبر واحد، فهما الشهيدان القرينان. وأعطى لواء المهاجرين لزيد بن حارثة ولواء الأنصار لسعد بن عبادة، وبعث مسلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير تخوفا على الذراري من بني قريظة، أي لما بلغه أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد كما سيأتي، أي وأنهم يريدون الإغارة على المدينة، فإن حيي بن أخطب أرسل إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل، وإلى غطفان أن يأتيه منهم ألف رجل أخرى ليغيروا على المدينة، وجاء الخبر بذلك إلى رسول الله، فعظم البلاء، وصار الخوف على الذراري أشدّ من الخوف على أهل الخندق.
ولما نظر المشركون إلى الخندق قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، وصار المشركون يتناوبون، فيغدو أبو سفيان في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو جبيرة بن وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويفترقون مرة، ويجتمعون أخرى، ويناوشون أصحاب رسول الله ﷺ: أي يقربون منهم، ويقدمون رجالهم فيرمون، ومكثوا على ذلك المدة المتقدمة، ولم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى.
وفي تلك المدّة أقبل نوفل بن عبدالله بن المغيرة على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله: أي اندقت عنقه. أي وفي لفظ: وأما نوفل بن عبدالله، فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا. وقيل رمي بالحجارة، فجعل يقول: قتلة أحسن من هذه يا معشر العرب؟ فنزل إليه علي كرم الله وجهه فقتله: أي ضربه بالسيف فقطعه نصفين، وكبر ذلك على المشركين، فأرسلوا إلى رسول الله ﷺ: إنا نعطيك الدية على أن تدفعه إلينا فندفنه. فردّ عليهم رسول الله ﷺ بأنه خبيث الدية، فلعنه الله ولعن ديته، ولا نمنعكم أن تدفنوه، ولا أرب: أي غرض لنا في ديته.
وقيل أعطوا في جثته عشرة آلاف، أي وفي رواية أنهم أرسلوا إليه: أن أرسل إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفا، فقال رسول الله ﷺ لا خير في جثته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجسد خبيث الدية. وفي لفظ: إنما هي جيفة حمار.
ثم إن عدوّ الله حيي بن أخطب سيد بني النضير، كان يقول لقريش في مسيره معهم إن قومي بني قريظة معكم وهم أهل حلقة وافرة، وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا، فقال له أبو سفيان: ائت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد، فعند ذلك خرج حيي لعنه الله حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة وولي عهدهم الذي عاهدهم عليه رسول الله، أي المتقدّم ذكره، فدق عليه باب حصنه، فأبى أن يفتح له وألح عليه في ذلك. فقال له: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. فقال له: ويحك افتح لي أكلمك، فقال: ما أنا بفاعل، فغاظه، فقال له: والله ما أغلقت دوني إلا تخوّفا على جشيشتك، أي بالجيم المفتوحة والشين المعجمة ـ وهي البر يطحن غليظا، ويقال له الدشيش ـ أن آكل معك منها ففتح له. فقال له: ويحك يا كعب، جئت بعز الدهر، جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال، وبغطفان حتى أنزلتهم بجانب أحد، قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه. فقال له كعب: جئتني والله بذلّ الدهر، وكل ما يخشى، فإني لم أر في محمد إلا صدقا ووفاء. وفي لفظ: جئتني بجهام: أي سحاب قد هراق ماء: أي لا ماء فيه، يرعد ويبرق، وليس فيه شيء، ويحك يا حيي، دعني وما أنا عليه. فلم يزل حيي بكعب حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يقتلوا محمدا أن يكون معه في حصنه ويصيبه ما أصابه، فعند ذلك نقض كعب العهد، وبريء مما كان بينه وبين رسول الله ﷺ ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد، وجمع رؤساء قومه وهم الزبير بن مطا، وشاس بن قيس، وعزال بن ميمون، وعقبة بن زيد، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد وشق الكتاب الذي كتبه رسول الله، فلجم الأمر لما أراد الله من هلاكهم. وكان حيي بن أخطب في اليهود يشبه بأبي جهل في قريش.
فلما انتهى الخبر بذلك إلى رسول الله ﷺ: أي أخبره بذلك عمر بن الخطاب «رضي الله ع». فقال: يا رسول الله بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت، فاشتدّ الأمر على رسول الله، وشق عليه ذلك. وأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وأرسل معهما ابن رواحة وخوات بن جبير. وأسقطهما في الإمتاع وذكر بدلهما أسيد بن حضير. وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه دون القوم، أي ورّوا وكنوا في كلامكم بما لم يفهمه القوم، أي لئلا يحصل لهم الوهن والضعف، وإلا فاجهروا بذلك بين الناس. فإن اللحن العدول بالكلام عن الوجه المعروف عند الناس إلى وجه لا يعرفه إلا صاحبه؛ كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول على الصواب المعروف، ومنه قول القائل «وخير الحديث ما كان لحنا» فخرجوا حتى أتوا بني قريظة فوجدوهم قد نقضوا العهد ونالوا من رسول الله، أي قالوا من رسول الله؟ تبرؤوا من عقده وعهده، وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه، أي وقيل سعد بن عبادة أي وكان فيه حدة وشاتموه أي ولا مانع من وجود الأمرين. وقال سعد بن معاذ لسعد بن عبادة: أو بالعكس؟ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى، أي أقوى من المشاتمة. ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله ﷺ فكنوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة: غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، وسيأتي خبر ذلك في السرايا. فقال رسول الله ﷺ: الله أكبر، أي وقال: أبشروا يا معاشر المسلمين نصرة الله تعالى وعونه، وتقنع بثوبه واضطجع ومكث طويلا، فاشتدّ على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع ثم رفع رأسه، فقال: أبشروا بفتح الله ونصره، أي ولعل هذا: أي إرسال السعدين ومن معهما كان بعد إرساله الزبير إليهم ليأتي بخبرهم، هل نقضوا العهد استثباتا للأمر.
فعن عبدالله بن الزبير «رضي الله ع». قال: كنت يوم الأحزاب أنا وعمرو بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسان بن ثابت. أي وكان حسان مع النساء، ومن جملتهم صفية بنت عبد المطلب، واتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن. فقالت صفية لحسان: يا حسان لا آمن هذا اليهودي أن يدلهم على عورة الحصن فيأتوا إلينا، فانزل فاقتله. قال حسان «رضي الله ع»: يا بنت عبد المطلب قد عرفت ما أنا بصاحب هذا. قالت: فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتيته من خلفه فضربته بالعمود حتى قتلته، وصعدت الحصن فقلت: يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: يا بنة عبد المطلب مالي بسلبه حاجة. أي وهذا يدل على ما قيل إن حسان بن ثابت كان من أجبن الناس كما تقدم. قال عبدالله بن الزبير «رضي الله ع»: فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا. فلما رجعت، قلت يا أبت رأيتك تختلف إلى بني قريظة. قال: رأيتني يا بني؟ قلت نعم. قال: كان رسول الله ﷺ قال: من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فلما رجعت جمع لي رسول الله ﷺ أبويه. فقال: فداك أبي وأمي أخرجه الشيخان.
أي وفي كلام ابن عبد البر رحمه الله ثبت عن الزبير «رضي الله ع» أنه قال: جمع لي رسول الله ﷺ أبويه مرتين: يوم أحد، ويوم بني قريظة، فقال: ارم فداك أبي وأمي. وقال ولعل ذلك كان في أحد «إن لكل نبي حواريا، وإن حواريّ الزبير» وقال «الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي» ويذكر أن الزبير «رضي الله ع» كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج. وكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك درهما واحدا وذلك من أعلام نبوّته. فقد جاء أنه لما نزل قوله تعالى {ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم} قال له الزبير: يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: أما إنه سيكون، وقد جعله سبعة من الصحابة وصيا على أولادهم، فكان يحفظ على أولادهم ما لهم وينفق عليهم من ماله، وهؤلاء السبعة: منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والمقداد وابن مسعود.
وعظم عند ذلك البلاء على المسلمين لما وصل إليهم الخبر: أي خبر نقض بني قريظة العهد. ولا منافاة بين بلوغهم الخبر وما تقدم من عدم الإفصاح به، لأنهم جاءهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المسلمون كل الظن، وأنزل الله تعالى {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} وظهر النفاق من المنافقين حتى قال بعضهم: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، فأنزل الله تعالى {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}.
ولما رأى رسول الله ﷺ شدة الأمر بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري في أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه. فجاءا مستخفيين من أبي سفيان فوافقاه على ذلك، أي بعد أن طلبا النصف فأبى عليهما إلا الثلث، فرضيا وكتبا بذلك صحيفة.
أي وفي رواية: أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان «رضي الله ع» الصلح. فلما أراد رسول الله ﷺ أن يوقع الصلح على ذلك، بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة «رضي الله ع»، فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه، فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ أي وفي لفظ: إن كان أمرا من السماء فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي، فما لهم عندنا إلا السيف. فقال رسول الله ﷺ: لو أمرني الله ما شاورتكما، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمرّ ما. فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم: أي غطفان على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أي وإن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نقطعهم أموالنا. أي وفي لفظ: نعطي الدنية مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله ﷺ: فأنت وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحى ما فيها من الكتابة. أي وهذا إنما يناسب الرواية الأولى، وكذا ما جاء في لفظ. «فقال رسول الله ﷺ شق الكتاب، فشقه سعد، وقال لعيينة و الحارث: ارجعا بيننا وبينكم السيف رافعا صوته. ثم قال لسعد ليجهدوا علينا».
ثم إن طائفة من المشركين أقبلوا: أي وأكرهوا خيولهم على اقتحام الخندق من مضيق به وفيهم عكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك. وفيهم هبيرة بن أبي وهب أي وهو زوج أم هانىء أخت علي كرم الله وجهه «رضي الله ع»، وأبو أولادها، مات على كفره. وضرار بن الخطاب وعمرو بن عبد ود. أي قيل ونوفل بن عبدالله، وكان عمرو بن عبد ود عمره إذ ذاك تسعين سنة، فقال: من يبارز، فقام علي كرم الله وجهه وقال: أنا له يا نبي الله. فقال له اجلس إنه عمرو بن عبد ود. ثم كرر عمرو النداء وجعل يوبخ المسلمين ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزنّ لي رجلا وأنشد أبياتا منها
ولقد بححت من الندا ** ء يجمعكم هل من مبارز
إن الشجاعة في الفتى ** والجود من خير الغرائز
فقام علي كرم الله وجهه، فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: اجلس إنه عمرو بن عبد ود. ثم نادى الثالثة، فقام علي كرم الله وجهه فقال: أنا له يا رسول الله، فقال: إنه عمرو فقال وإن كان عمرا، فأذن له رسول الله ﷺ وأنشد سيدنا عليّ أبياتا منها:
لا تعجلن فقد أتا ** ك مجيب قولك غير عاجز
ذو نية وبصيرة ** والصدق منجي كل فائز
وفي رواية أنه أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته. وقال «اللهم أعنه عليه، أي وفي لفظ: اللهم هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين».
زاد في رواية «أنه رفع عمامته إلى السماء. وقال: إلهي أخذت عبيدة مني يوم بدر وحمزة يوم أحد، وهذا عليّ أخي وابن عمي» الحديث، فمشى إليه علي كرّم الله وجهه، فقال له: يا عمرو إنك كنت قد عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين: أي خصلتين إلا أخذتها منه. قال له أجل: أي نعم، فقال له علي كرّم الله وجهه: فأنا أدعوك إلى الله وإلى رسول الله، وإلى الإسلام فقال: لا حاجة لي بذلك. قال له عليّ: فإني أدعوك إلى البراز.
قال وفي رواية: إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاثة إلا قبلتها. قال: أجل، فقال عليّ: فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتسلم لرب العالمين، فقال: يا ابن أخي أخر عني هذه. قال: وأخرى، ترجع إلى بلادك، فإن يك محمد صادقا كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذبا كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبدا، كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت، أي فإنه نذر لما أفلت هاربا يوم بدر وقد جرح أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا. قال: فالثالثة ما هي؟ قال البراز، فضحك عمرو وقال: إن هذه لخصلة ما كنت أظن أحدا من العرب يروّعني بها ا هـ ثم قال له عند طلب المبارزة: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، فقال علي كرّم الله وجهه: ولكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك: أي أخذته الحمية.
وفي رواية أن عمرا قال له: من أنت أي لأن عليا كرّم الله وجهه كان مقنعا بالحديد، قال: عليّ، قال ابن عبد مناف؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أشد منك، فإني أكره أن أهريق: أي أسيل دمك، أي وزاد في رواية: فإن أباك كان لي صديقا، أي وفي لفظ: كنت له نديما، فقال علي: وأنا والله ما أكره أن أهريق دمك، فغضب، فقال له علي كرّم الله وجهه: كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن أنزل معي، فاقتحم عن فرسه وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، فعقر فرسه وضرب وجهه، وأقبل على عليّ كرّم الله وجهه، فاستقبله علي بدرقته فضربه عمرو فيها فقدّها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، فضربه علي كرم الله وجهه على حبل عاتقه أي وهو موضع الرداء من العنق فسقط وكبر المسلمون، فلما سمع رسول الله ﷺ التكبير عرف أن عليا كرم الله وجهه قتل عمرا لعنه الله.
أي وذكر بعضهم أن النبي ﷺ عند ذلك قال «قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين» قال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا من الأحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف، وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ومنهم الأنبياء. قال: بل إن عمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة.
أقول: ويردّ قوله إن عمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة قول الأصل. وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما: أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه، أي ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا، واستدلاله بقوله وكيف يكون إلى آخره فيه نظر، لأن قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين.
وفي تفسير الفخر أنه قال لعلي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبد ود «كيف وجدت نفسك معه يا علي؟ قال: وجدته لو كان أهل المدينة كلهم في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم».
وفي كلام السهيلي رحمه الله: ولما أقبل علي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبد ود على رسول الله ﷺ وهو متهلل، قال له عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: هلا سلبته درعه، فإنه ليس في العرب درع خير منها؟ قال: إني حين ضربته استقبلني بسوءته فاستحييت يا ابن عمي أن أسلبه، هذا كلامه.
وعندي أن هذا اشتباه من بعض الرواة، لأن هذه الواقعة لعلي كرم الله وجهه إنما كانت في يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة كما تقدم وعمرو بن عبد ود لم يشهد أحدا كما تقدم عن الأصل فليتأمل.
قال: وذكر ابن إسحاق أن المشركين بعثوا إلى رسول الله ﷺ يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف، فقال رسول الله ﷺ: هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى، وحين قتل عمرو رجع من وصل الخندق من المشركين بخيلهم هاربين، فتبعهم الزبير «رضي الله ع» وضرب نوفل بن عبدالله بالسيف فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه، فقيل له: يا أبا عبدالله ما رأينا مثل سيفك، فقال والله ما هو السيف ولكنها الساعد، أي وفيه أنه تقدم أن نوفل بن عبدالله وقع في الخندق فاندقت عنقه إلى آخر ما تقدم، لكني رأيت بعضهم قال: إن وقوع نوفل في الخندق ورميه بالحجارة وقتل عليّ كرم الله وجهه له في الخندق غريب من وجهين فليتأمل.
وحمل الزبير «رضي الله ع» على هبيرة بن أبي وهب وهو زوج أم هانىء أخت علي بن أبي طالب كما تقدم، فضرب ثغر فرسه فقطعه، وسقطت درع كان محقبها الفرس: أي جعلها على مؤخر ظهرها، فأخذها الزبير، وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه وهو منهزم انتهى.
أي وفي رواية: ثم حمل ضرار بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب «رضي الله ع» وهبيرة بن أبي وهب على علي كرم الله وجهه فأقبل عليّ عليهما فأما ضرار فولى هاربا ولم يثبت، وأما هبيرة فثبت ثم ألقى درعه وهرب وكان فارس قريش وشاعرها.
وذكر أن ضرار بن الخطاب لما هرب تبعه أخوه عمر بن الخطاب وصار يشتد في أثره، فكرّ ضرار راجعا وحمل على عمر «رضي الله ع» بالرمح ليطعنه ثم أمسك وقال: يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلي عندك غير مجزيّ بها فاحفظها.
أي ووقع له مع عمر «رضي الله ع» مثل ذلك في أحد، فإنه التقى معه، فضرب عمر «رضي الله ع» بالقناة ثم رفعها عنه وقال له: ما كنت لأقتلك يا ابن الخطاب، ثم منّ الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه، وكان شعار المسلمين «حم? لا ينصرون» أي ولعل المراد بالمسلمين الأنصار، فلا يخالف ما في الإمتاع، وكان شعار المهاجرين «يا خيل الله».
وفيه خرجت طائفتان للمسلمين ليلا لا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدوّ فكانت بينهم جراحة وقتل ثم نادوا بشعار الإسلام «حم? لا ينصرون» فكف بعضهم عن بعض.
وقد يقال: يجوز أن تكون الطائفتان كانتا من الأنصار جاؤوا، فقال رسول الله «جراحكم في سبيل الله، ومن قتل فهو شهيد» وبهذا استدل أئمتنا على أن من قتله مسلم خطأ في الحرب يكون شهيدا.
ورمي سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله: وهو عرق في الذراع تتشعب منه عروق البدن، ولعله محل الفصد الذي يقال له المشترك، أي ويقال لهذا العرق عرق الحياة. أي رماه ابن العرقة اسم جدّته، سميت بذلك لطيب عرقها، وقال خذها وأنا ابن العرقة، فلما بلغ رسول الله ﷺ ذلك قال: عرّق الله وجهه في النار، وقيل قائل ذلك سعد «رضي الله ع»، وعند ذلك قال سعد: اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم يعني قريشا فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني. وفي لفظ: حتى تشفيني من بني قريظة، وفي لفظ: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه وكذبوه.
وفي يوم استمرت المقاتلة، قيل من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصلّ ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. أي وصار المسلمون يقولون: ما صلينا، فيقول: ولا أنا، فلما انكشف القتال جاء إلى قبته وأمر بلالا فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد كل صلاة إقامة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات.
وعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» «فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء».
أقول: في الرواية الأولى ما يشهد لقول إمامنا الشافعي: يندب أن يؤذن للأولى من الفوائت ويقيم لما عداها إذا قضاها متوالية، وكونه يؤذن للأولى من الفوائت هو ما ذهب إليه في القديم وهو المفتي به.
وفي الرواية الثانية دليل على أنه يؤذن لكل من الفوائت إذا قضاها متوالية، ولم يقل به إمامنا، فإنه جاء عن ابن مسعود «رضي الله ع» مرسلا لأنه رواه عنه ابنه أبو عبيدة ولم يسمع منه لصغر سنه.
وروى إمامنا الشافعي «رضي الله ع» بإسناد صحيح، عن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» قال «حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هويّ» أي طائفة «من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى {وكفى الله المؤمنين القتال} فدعا رسول الله ﷺ بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك» أي وفي لفظ «فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها، وهو دليل لعدم ندب الأذان للفائتة، وهو ما ذهب إليه إمامنا الشافعي «رضي الله ع» في الجديد وهو مرجوح.
وجمع الإمام النووي في شرح المهذب بين رواية إلى الليل ورواية حتى ذهب هويّ من الليل بأنهما قضيتان جرتا في أيام الخندق، قال: فإنها كانت خمسة عشر يوما، أي على ما تقدّم.
وفيه أن كونهما قضيتين أمر واضح لاخفاء فيه، لأن في الأولى وفي يوم استمرت المقاتلة إلى الليل، وفي الثانية حتى كفينا القتال، فمع ذلك كيف يظن أنهما قضية واحدة حتى يحتاج إلى الجمع، وظاهر سياق هذه الروايات أنه صلى الأربع صلوات بوضوء واحد وبه صرّح البغوي في تفسير سورة المائدة، وحينئذٍ يحتاج للجمع بينه وبين ما يأتي في فتح مكة.
وروى الطحاوي، واستدل به مكحول والأوزاعي على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال أن الشمس ردت له بعد ما غربت حين شغل عن صلاة العصر حتى صلى العصر، وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن رواته ثقات.
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» «أنه جاء يوم الخندق بعد ما كادت الشمس تغرب، فقال رسول الله ﷺ: والله ما صليتها ـ يعني العصر ـ فنزلنا مع النبي ﷺ بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب» وهذه الرواية تقتضي أنه لم يفته إلا العصر وأنه صلاها بعد الغروب.
قال الإمام النووي رحمه الله: وطريق الجمع أن هذا كان في بعض أيام الخندق، وكون صلاة العصر هي الوسطى قد جاء في بعض الروايات «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس، ملأ الله أجوافهم» وفي لفظ «بطونهم وقبورهم نارا» والذي في البخاري ومسلم وأي داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح «ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس» وكون الوسطى هي صلاة العصر هو قول من تسعة عشر قولا ذكرها الحافظ الدمياطي في مؤلف له سماه (كشف الغطا عن الصلاة الوسطى) وفي الينبوع أن كون الصلاة الوسطى هي العصر هو الذي أعتقده والله أعلم.
قال وجاء «أنه صلى المغرب، فلما فرغ قال: أحد منكم علم أني صليت العصر؟ قالوا: يا رسول الله ما صلينا» أي لا نحن ولا أنت «فأمر المؤذن فأقام الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب» قيل وكان ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} ا هـ.
أقول: يحتاج إلى الجواب عن إعادة المغرب. وقد يقال: أعادها مع الجماعة، وأن قوله {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} يرشد إلى أن المراد بصلاة الخوف صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع التي نزل فيها قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية كما تقدم، فلا ينافي ما تقدم من صلاته في الرقاع بناء على تقدمها على هذه الغزوة التي هي غزوة الخندق.
وحينئذٍ يندفع الاستدلال على أن ذات الرقاع متأخرة عن الخندق بقولهم ولم تكن شرعت صلاة الخوف: أي صلاة ذات الرقاع، وإلا لصلاها في الخندق، ولم يخرج الصلاة عن وقتها لما علمت أن المراد بصلاة الخوف التي لم تشرع زمن الخندق صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع. وسقط القول بأن الآية التي نزلت في صلاة ذات الرقاع منسوخة، فتركه تلك الصلاة في الخندق، لأن الخندق وإن لم يلتحم فيه القتال إلا أنهم لا يأمنون هجوم العدوّ عليهم، فلو صلوها لكانت تلك الصلاة صلاة شدة الخوف لا صلاة ذات الرقاع، لأن شرطها أمن هجوم العدو، وصلاة شدة الخوف إما أن يلتحم فيها القتال أو يخافوا هجوم العدو.
وقول بعضهم أن ابن إسحاق وهو إمام أهل المغازي ذكر أنه صلى صلاة الخوف بعسفان، وذكر أنها قبل الخندق، فتكون صلاة عسفان منسوخة أيضا فيه نظر ظاهر، لأن صلاة عسفان إنما كانت في الحديبية كما سيأتي. وعلى تسليم أن صلاة عسفان كانت قبل الخندق، فتلك يشترط فيها الأمن من هجوم العدوّ والله أعلم.
قال: ثم إن طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميتا منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيرا لقريش محملة شعيرا وتمرا وتبنا، حملها ذلك حيي بن أخطب شدادا وتقوية لقريش فأتوا بها رسول الله ﷺ فتوسع بها أهل الخندق.
ولما بلغ أبا سفيان ذلك قال: إن حييا لمشؤوم، فطع بنا ما نجد ما نحمل عليه إذا رجعنا.
ثم إن خالد بن الوليد كرّ بطائفة من المشركين يطلب غرّة للمسلمين: أي غفلتهم، فصادف أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين فناوشوهم: أي تقاربوا منهم ساعة، وكان في أولئك المشركين وحشي قاتل حمزة «رضي الله ع»، فزرق الطفيل بن النعمان فقتله، ثم بعد ذلك صاروا يرسلون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة: أي الإغارة، فأقام المسلمون في شدة من الخوف.
أي وفي الصحيحين «ودعا رسول الله ﷺ على الأحزاب. فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب. اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم، وزلزلهم» أي وقام في الناس فقال «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية فإن لقيتم العدوّ فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» أي السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله تعالى. ودعا بقوله «يا صريخ المكروبين، يا مجيب المضطرين، اكشف همي وغمي وكربي، فإنك ترى ما نزل بي وبأصحابي. وقال له المسلمون «رضي الله ع»: هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم، قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، فأتاه جبريل "عليه السلام" فبشره أن الله يرسل عليهم ريحا وجنودا، وأعلم رسول الله ﷺ أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلا شكرا شكرا».
وجاء أن دعاءه عليهم كان يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء واستجيب له ذلك اليوم الذي هو يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف السرور في وجهه أي ومن ثم كان جابر «رضي الله ع» يدعو في مهماته في ذلك اليوم في ذلك الوقت، ويتحرى ذلك.
والأحاديث والآثار التي جاءت بذم يوم الأربعاء محمولة على آخر أربعاء في الشهر، فإن في ذلك اليوم ولد فرعون وادعى الربوبية وأهلكه الله فيه، وهو اليوم الذي أصيب فيه أيوب "عليه الصلاة والسلام بالبلاء.
قال: وكان يختلف إلى ثلمة في الخندق. والثلمة: الخلل في الحائط فعن عائشة «رضي الله ع» قالت: وكان يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن تؤتي المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله ﷺ في حضني صار يقول «ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله ﷺ: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص: سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك، فقال عليك هذه الثلمة فاحرسها، ونام رسول الله ﷺ حتى غط، وقام في قبته يصلي لأنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» ومن ثم لما نعي لابن عباس أخوه قثم وهو في سفر استرجع وتنحى عن الطريق وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس وتلا {واستعينوا بالصبر والصلاة}.
ثم خرج من قبته، فقال: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، ثم نادى: يا عباد بن بشر، قال: لبيك؛ قال هل معك أحد، قال: نعم أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله، وكان ألزم الناس لقبة رسول الله ﷺ يحرسها، فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم. ثم قال: اللهم ادفع عنا شرهم، وانصرنا عليهم، واغلبهم لا يغلبهم غيرك. وإذا أبو سفيان في خيل يطوفون بمضيق من الخندق، فرماهم المسلمون حتى رجعوا.
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله ﷺ أي ليلا، فقال: يا رسول الله إني أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت. قال وفي رواية أن نعيما لما سارت الأحزاب سار مع قومه: أي غطفان وهو على دينهم، فقذف الله في قلبه الإسلام، فخرج حتى أتى رسول الله ﷺ بين المغرب والعشاء فوجده يصلي، فلما رآه جلس. ثم قال له النبي ﷺ: ما جاء بك يا نعيم؟ قال: جئت أصدقك، وأشهد أن ما جئت به حق فأسلم انتهى. فقال رسول الله ﷺ: إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة بفتح الخاء وسكون الدال المهملة: أي ينقضي أمرها بالمخادعة. فقال له نعيم: يا رسول الله إني أقول: أي ما يقتضيه الحال وإن كان خلاف الواقع. قال: قل ما بدا لك فأنت في حل.
فخرج نعيم «رضي الله ع» حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما. قال: فلما رأوني رحبوا بي وعرضوا علي الطعام والشراب. فقلت: إني لم آت لشيء من هذا، إنما جئتكم تخوفا عليكم لأشير عليكم برأي، يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم. فقال لهم: اكتموا عني، قالوا: نفعل. قال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ولبني النضير من إجلائهم وأخذ أموالهم، وإن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم، وبها أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم، لا تقدرون على أن ترحلوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهر تموهم: أي عاونتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم، فإن رأوا نهزة: أي فرصة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين بلدكم، والرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم، أي سبعين رجلا يكونون بأيديكم ثقة لكم، على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه: أي قاتلوه. قالوا له: لقد أشرت بالرأي والنصح، ودعوا له وشكروا، وقالوا: نحن فاعلون. قال: ولكن اكتموا عني، قالوا: نفعل.
ثم خرج «رضي الله ع» حتى أتى قريشا، فقال لأبي سفيان ومن معه من أشراف قريش: قد عرفتم ودي لكم وفراقي لمحمد، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا. قالوا: نفعل، قال: تعلمون أن معشر يهود: يعني بني قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد: أي من نقض عهده. وقد أرسلوا إليه، أي وأنا عندهم أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان رجالا من أشرافهم، أي سبعين رجلا فنعطيكهم فتضرب أعناقهم؟ أي وتردّ جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم: يعنون بني النضير، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم، فإن بعثت إليكم يهود يطلبون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا، و احذروهم على أسراركم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفا. قالوا: لا نذكر.
ثم خرج «رضي الله ع» حتى أتى غطفان. فقال: يا معشر غطفان، إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إليّ ولا أراكم تتهمونني، قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم. قال: فاكتموا عليّ، قالوا نعم، فقال لهم، مثل ما قال لقريش وحذرهم.
فلما كان ليلة السبت، أرسل أبو سفيان رؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان. فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز: أي نقاتل محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه. فأرسلوا إليهم: إن اليوم: أي الذي يلي هذه الليلة يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدي في السبت، ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا، أي سبعين رجلا، فقالوا: صدق والله نعيم.
وفي رواية أن بني قريظة أرسلت لقريش قبل مجيء رسل قريش إليهم رسولا يقول لهم: ما هذا التواني، والرأي أن تتواعدوا على يوم يكونون معكم فيه لكنهم لا يخرجون حتى ترسلوا إليهم رهنا سبعين رجلا من أشرافكم، فإنهم يخافون إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتموهم، فلم ترد لهم قريش جوابا. وجاءهم نعيم وقال لهم: كنت عند أبي سفيان، وقد جاءه رسولكم. فقال لو طلبوا مني عناقا ما دفعتها لهم، فاختلفت كلمتهم، أي وجاء حيي بن أخطب لبني قريظة فلم يجد منهم موافقة له وقالوا: لا نقاتل معهم حتى يدفعوا إلينا سبعين رجلا من قريش وغطفان رهنا عندنا، وبعث الله تعالى ريحا عاصفا، أي وهي ريح الصبا في ليال شديدة البرد، فنقلت بيوتهم، وقطعت أطنابها، وكفأت قدورهم على أفواهها، وصارت الريح تلقي الرجال على أمتعتهم.
وفي رواية: دفنت الرجال وأطفأت نيرانهم. أي وأرسل الله إليهم الملائكة زلزلتهم. قال تعالى {فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} ولم تقاتل الملائكة بل نفثت في روعهم الرعب. وقال «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» وفي لفظ «نصر الله المسلمين بالريح، وكانت ريحا صفراء ملأت عيونهم ودامت عليهم».
ثم إن رسول الله ﷺ بلغه اختلاف كلمتهم، وكانت تلك الليلة شديدة البرد والريح في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وسيأتي أنها لم تجاوز عسكر المشركين، وشديدة الظلمة بحيث لا يرى الشخص أصبعه إذا مدها.
فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون إن بيوتنا عورة: أي من العدو، لأنها خارج المدينة، وحيطانها قصيرة يخشى عليها السرقة، فائذن لنا أن نرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا فيأذن لهم.
قيل ولم يبق معه تلك الليلة إلا ثلاثمائة، وقال: من يأتينا بخبر القوم: فقال الزبير «رضي الله ع»: أنا. قال ذلك ثلاثا والزبير يجيبه بما ذكر. فقال النبي «لكل نبي حواري» أي ناصر «وإن حواري الزبير» أي وهذا قاله له أيضا عند إرساله لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد أو لا؟ كما تقدم. وسيأتي قول ذلك له أيضا في خيبر. وفي الحديث «حواري الزبير من الرجال وحواري من النساء عائشة» وفي رواية «أنه قال إلا رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة» وفي لفظ «يكون معي يوم القيامة» وفي لفظ «يكون رفيق إبراهيم يوم القيامة» قال ذلك ثلاثا فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد، فدعا حذيفة بن اليمان. قال: فلم أجد بدّا من القيام حيث فوّه باسمي، فجئته فقال: تسمع كلامي منذ اليلة ولا تقوم؟ فقلت: لا، والذي بعثك بالحق إن قدرت. أي ما قدرت على ما بي من الجوع والبرد والخوف، فقال: اذهب حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا. قال حذيفة: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني. وقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فقمت مستبشرا بدعاء رسول الله، كأني احتملت احتمالا، وذهب عني ما كنت أجد من الخوف والبرد، وعهد إليّ أن لا أحدث حدثا. وفي رواية «أما سمعت صوتي؟ قلت نعم. قال: فما منعك أن تجيبني؟ قلت البرد. قال: لا برد عليك حتى ترجع» كما يدل على ذلك الرواية الآتية «فقال له: إن في القوم خبرا فائتني بخبر القوم» قال: وفي رواية «إنه لما كرر قوله: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة؟ ولم يجبه أحد. قال أبو بكر «رضي الله ع»: يا رسول الله حذيفة. قال حذيفة: فمر عليّ رسول الله ﷺ وما عليّ جنة من العدو والبرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتيّ، وأنا جاث على ركبتي. فقال: من هذا؟ قلت: حذيفة، فقال رسول الله ﷺ: حذيفة، قال حذيفة «رضي الله ع»: فتقاصرت بالأرض. قلت: بلى يا رسول الله. قال: قم، فقمت. فقال: إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم. فقلت: والذي بعثك بالحق ما قمت إلا حياء منك من البرد. قال: لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إليّ. فقلت: والله ما بي أن أقتل، ولكن أخشى أن أوسر. فقال: إنك لن تؤسر. اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فمضيت كأني أمشي في حمام» مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار وهو عربي «قال حذيفة: فلما وليت دعاني، فقال لي: لا تحدثن شيئا» وفي رواية، لا ترم بسهم ولا حجر، ولا تضربن بسيف حتى تأتيني. فجئت إليهم ودخلت في غمارهم، فسمعت أبا سفيان يقول: يا معشر قريش ليتعرف كل امرىء منكم جليسه، واحذروا الجواسيس والعيون، فأخذت بيد جليسي على يميني وقلت من أنت؟ فقال: معاوية بن أبي سفيان، وقبضت يد من على يساري. وقلت: من أنت، قال عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، والله إنكم لستم بدار مقام. ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم، أي فإنه لما ركبه كان معقولا، فلما ضربه وثب على ثلاثة قوائم، ثم حل عقاله. فقال له عكرمة بن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم تذهب وتترك الناس، استحيى أبو سفيان وأناخ جمله وأخذ بزمامه وهو يقوده. وقال ارحلوا، فجعل الناس يرحلون وهو قائم. ثم قال لعمرو بن العاص: يا أبا عبدالله نقيم في جريدة من الخيل بإزاء محمد وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب، فقال عمرو: أنا أقيم، وقال لخالد بن الوليد: ما ترى أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضا أقيم، فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار جميع العسكر. قال حذيفة «رضي الله ع»: ولولا عهد رسول الله ﷺ إليّ حين بعثني إن لا أحدث شيئا لقتلته؟ يعني أبا سفيان بسهم، وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاشتدوا راجعين إلى بلادهم».
وفي رواية «فدخلت العسكر، فإذا الناس في عسكرهم يقولون الرحيل الرحيل لا مقام لكم والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم، وتضربهم بالحجارة، والريح لا تجاوز عسكرهم، فلما انتصفت الطريق إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمين، فخرج إليّ منهم فارسان وقالا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم. قال حذيفة: ثم أتيت رسول الله ﷺ فوجدته قائما يصلي فخبرته، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، أي وفي رواية «فأخبرته الخبر فضحك حتى بدت ثناياه في سواد الليل، وعاودني البرد، فجعلت أقرقف، فأومأ إلى رسول الله ﷺ بيده فدنوت منه، فسدل عليّ من فضل شملته فنمت ولم أزل نائما حتى الصبح» أي طلوع الفجر «فلما أن أصبحت» أي دخل وقت صلاة الصبح «وقال لي رسول الله ﷺ: قم يا نومان: أي يا كثير النوم، لأن النبي ﷺ إنما قال له: لابأس عليك من برد حتى ترجع إليّ».
أي ومن هذا أي إرسال حذيفة «رضي الله ع» وما تقدّم: أي من إرسال الزبير «رضي الله ع» تعلم أن ذلك كان في الخندق، ولا مانع منه، لأنه يجوز أن يكون عدل عن إرسال الزبير، واختار حذيفة لأمر قام عنده، من جملة ذلك كون الزبير «رضي الله ع» كان عنده حدة وشدة لا يملك نفسه أن يحدث بالقوم ما نهى عنه حذيفة «رضي الله ع»، وحينئذٍ يرد قول بعضهم إن الزبير إنما أرسل لكشف أمر بني قريظة هل نقضوا العهد أم لا؟ لا لكشف أمر قريش، وحذيفة «رضي الله ع» ذهب لكشف أمر قريش هل ارتحلوا أولا، وقد اشتبه الأمر على بعض الناس فظنهما قضية واحدة فليتأمل ذلك.
وكان يقال لحذيفة «رضي الله ع» صاحب سر رسول الله ﷺ الذي لا يعلمه غيره. فقد قال حذيفة «رضي الله ع» «لقد حدثني رسول الله ﷺ بما كان وبما يكون حتى تقوم الساعة» أي وتقدم أن ابن مسعود «رضي الله ع» كان يقال له أيضا صاحب سرّ رسول الله.
وقد ذكر ابن ظفر في (ينبوع الحياة) في تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اذكرو نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} وهبت ريح الصبا ليلا، فقلعت الأوتاد، وألقت عليهم الأبنية، وكفأت القدور، وسفت عليهم التراب، ورمتهم بالحصا، وسمعوا في أرجاء: أي نواحي معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح: أي من الملائكة، فصار سيد كل حي يقول لقومه: يا بني فلان هلموا إليّ، فإذا اجتمعوا قال: النجاء النجاء، فارتحلوا هرابا في ليلتهم، وتركوا ما استتقلوه من متاعهم. أي والصبا هي الريح الشرقية.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» قالت الصبا للشمال: اذهبي بنا ننصر رسول الله فقالت: إن الحرائر لا تهب بالليل، فغضب الله عليها فجعلها عقيما، ويقال لها الدبور. فكان نصره بالصبا. وكان إهلاك عاد بالدبور، وهي الريح الغربية. وحين انجلاء الأحزاب قال «الآن نغزوهم ولا يغزونا» والصرف رسول الله ﷺ لسبع ليال من ذي القعدة، أي بناء على أنها كانت في القعدة وهو قول ابن سعد. وقيل كانت في شوال وكان ذلك سنة خمس، أي كما قاله الجمهور. قال الذهبي: وهو المقطوع به، وقال ابن القيم: إنه الأصح. وقال الحافظ ابن حجر: هو المعتمد. وقيل سنة أربع، وصححه الإمام النووي في الروضة. قال بعضهم: وهو عجيب، فإنه صحح أن غزوة بني قريظة كانت في الخامسة، ومعلوم أنها كانت عقب الخندق.
أي وفيه أنه يجوز أن تكون بنو قريظة أوائل الخامسة، والخندق أواخر الرابعة، فتكون في ذي الحجة. واستدل من قال إن الخندق كانت سنة أربع بما صح عن ابن عمر «رضي الله ع» أنه عرض على رسول الله ﷺ يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، فيكون بينهما سنة واحدة، أي وكانت سنة ثلاث، فيكون الخندق سنة أربع.
قال الحافظ ابن حجر: ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ابن عمر «رضي الله ع» في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة، وكان في الأحزاب قد استكمل الخمسة عشرة، وسبقه إلى ذلك البيهقي. وحينئذٍ يكون بين أحد والخندق سنتان كما هو الواقع لا سنة واحدة. .
ومما وقع من الآيات في هذه الغزوة في مدة حفر الخندق غير ما تقدم: أن بنت بشير بن سعد جاءت لأبيها وخالها: أي عبدالله بن رواحة بجفنة من التمر ليتغذيا بها، فقال لها رسول الله ﷺ: هاتيه، فصبته في كفي رسول الله ﷺ فما ملأهما، ثم أمر بثوب فبسطت له، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه. وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب؛ أي فإن أهل الخندق أصابهم مجاعة. قال بعض الصحابة: «لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق زادا، وربط الحجر على بطنه من الجوع».
أقول: أورد ابن حبان في صحيحه لما أورد الحديث الذي فيه نهيه عن الوصال، وقالوا له مالك تواصل يا رسول الله: قال «إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني».
قال: يستدل بهذا الحديث على بطلان ما ورد أنه كان يضع الحجر على بطنه من الجوع، لأنه كان يطعم ويسقى من ربه إذا واصل، فكيف يترك جائعا مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه. قال: وإنما لفظ الحديث الحجز بالزاي، وهو طرف الإزار فصحفوا وزادوا لفظ «من الجوع».
وأجيب بأنه لا منافاة، كان يطعم ويسقى إذا واصل في الصوم: أي يصير كالطاعم والساقي تكرمة له، ولا يحصل له ذلك دائما، بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعظيما لثوابهم والله أعلم.
وإن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» لما علم ما به من شدّة الجوع صنع شويهة وصاعا من شعير. قال جابر: وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله ﷺ وحده. فلما قلت له أمر صارخا، فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله ﷺ إلى بيت جابر بن عبدالله. قال جابر: فقلت {إنا لله وإنا إليه راجعون} فأقبل الناس معه: أي بعضهم، فجلس فأخرجناها إليه، فبرّك ثم سمى الله تعالى، ثم أكل، وتواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا، أي وذهبوا إلى الخندق وجاء آخرون، حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
قال: وفي رواية «أن جابرا «رضي الله ع» لما رأى ما به من الجوع استأذن رسول الله ﷺ في الانصراف إلى بيته، فأذن له. قال جابر: فجئت لامرأتي وقلت لها: إني رأيت رسول الله ﷺ خمصا شديدا أفعندك شيء؟ قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير وجعلت اللحم في برمة، فلما أمسينا، جئت إلى رسول الله ﷺ فساررته وقلت له: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، فشبك أصابعه في أصابعي، وقال: كم هو؟ فذكرت له، قال: كثير طيب، لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء، وصاح رسول الله ﷺ: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سؤارا» أي ضيافة «فحيهلا بكم: أي سيروا مسرعين، وسار رسول الله ﷺ يقدم الناس. قال جابر «رضي الله ع»: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله، والله إنها لفضيحة، فقال رسول الله ﷺ: ادخلوا عشرة عشرة، أي بعد أن أخرجت له عجيننا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا وبصق فيها وبارك» الحديث. أي ومجيء القوم كان على الوجه المتقدم «وإن أم عامر الأشهلية أرسلت بقصعة فيها حيس إلى رسول الله ﷺ وهو في القبة عنده أم سلمة «رضي الله ع»، فأكلت أم سلمة حاجتها، ثم خرج بالقصعة، ونادى منادي رسول الله ﷺ: هلموا إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا منها وهي كما هي».
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله ونفعنا ببركاته أنه قدّم لأربعة عشر رجلا من الفلاحين رغيفا واحدا، فأكلوا منه كلهم وشبعوا، قال: وقدّمت مرة الطاجن الذي نعمله في الفرن إلى سبعة عشر نفسا فأكلوا منه وشبعوا. وذكر أنه شاهد شيخه الشيخ محمدا الشناوي رحمه الله ونفعنا ببركاته، وقد جاء من الريف ومعه نحو خمسين رجلا ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي، فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه، فأتوا لزيارته، فامتلأت الزاوية، وفرشوا الحصر في الزقاق. ثم قال لنقيب شيخه: هل عندك طبيخ؟ قال نعم، الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي، فقال له: لا تغرف شيئا حتى أحضر، ثم غطى الشيخ الدست بردائه وأخذ المغرفة وصار يغرف إلى أن كفي من في الزاوية ومن في الزقاق، وهذا شيء رأيته بعيني هذا كلامه.
ولا بدع. فقد ذكر غير واحد من العلماء كالحافظ ابن كثير أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه به، وهذا كلامه.
قال: وأرسل أبو سفيان كتابا لرسول الله ﷺ فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى أي وأساف ونائلة وهبل كما في لفظ: لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبدا حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق: أي وفي لفظ، قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فرارا من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد، فأرسل له جوابه فيه: أما بعد، أي بعد بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، كذا في كلام سبط بن الجوزي، فقد أتاني كتابك، وقديما غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافا ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب انتهى.
غزوة بني قريظة
وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذٍ سعد بن معاذ «رضي الله ع» كما تقدم.
لما رجع رسول الله ﷺ من الخندق وكان وقت الظهيرة، أي وقد صلى الظهر، ودخل بيت عائشة «رضي الله ع»، وقيل زينب بنت جحش «رضي الله ع» ودعا بماء، فبينما هو يغتسل: أي غسل شق رأسه الشريف، وفي رواية بينما رسول الله ﷺ في الغسل يرجل رأسه قد رجل أحد شقيه. أي وفي رواية: غسل رأسه واغتسل ودعا بالمجمرة ليتبخر أتى جبريل "عليه السلام" النبي ﷺ معتجرا بعمامة: أي سوداء من استبرق، وهو نوع من الديباج، مرخيا منها بين كتفيه، وفي رواية عليه لأمته.
ولا معارضة، لأنه يجوز أن يكون الاعتجار بالعمامة على تلك اللامة وهو على بغلة أي شهباء، عليها قطيفة: وهي كساء له وبر من ديباج أي أحمر.
وفي رواية: جاءه على فرس أبلق، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، قال جبريل "عليه السلام": ما وضعت السلاح. وفي رواية: ما وضعت ملائكة الله السلاح بعد. قال: وفي رواية أنه قال: يا رسول الله ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب عفا الله عنك: أي من يعذرك. وفي لفظ: غفر الله لك، أو قد وضعتم السلاح قبل أن تضعه الملائكة؟ فقال رسول الله: نعم، قال: فوالله ما وضعناه. وفي لفظ: ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدوّ؛ وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم يعني الأحزاب حتى بلغنا الأسد انتهى: أي حمراء الأسد، إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم، زاد في رواية: بمن معي من الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، زاد في رواية، فقال رسول الله ﷺ: إن في أصحابي جهدا فلو نظرتهم أياما، فقال جبريل "عليه السلام": إنهض إليهم، فوالله لأدقنهم كدق البيض على الصفا، ولأدخلن فرسي هذا عليهم في حصونهم ثم لأضعضعنها، فأدبر جبريل "عليه السلام" ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم، وهم طائفة من الأنصار.
وفي البخاري عن أنس، قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بني غنم، موكب جبريل "عليه السلام" حين سار لبني قريظة، والموكب بكسر الكاف؛ اسم لنوع من السير.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت: لما رجع النبي ﷺ يوم الخندق بينما هو عندي إذ دق الباب، أي وفي رواية: نادى مناد: أي في موضع الجنائز: عذيرك من محارب أي من يعذرك، فارتاع لذلك رسول الله ﷺ أي فزع، ووثب وثبة منكرة، وخرج فخرجت في أثره، فإذا رجل على دابة والنبي ﷺ متكيء على معرفة الدابة يكلمه فرجعت، فلما دخل قلت: من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه؟ قال: ورأيته؟ قلت نعم، قال: بمن تشبهينه؟ قلت بدحية الكلبي، قال: ذاكِ بكسر الكاف جبريل "عليه السلام"، أمرني أن أمضي إلى بني قريظة، أي وهذا يؤيد أنه كان عند منصرفه من الخندق في بيت عائشة، وأبرز رسول الله ﷺ مؤذنا: أي وهو بلال كما في سيرة الحافظ الدمياطي، فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر، أي وفي رواية: الظهر إلا ببني قريظة.
قال في النور: والجمع بينهما أن الأمر بعد دخول وقت الظهر بالمدينة وقد صلى بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وقيل للذين صلوها لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة.
وفي رواية: بعث رسول الله ﷺ يومئذٍ مناديا يا خيل الله؟ أي يا فرسان خيل الله اركبي. ثم سار إليهم قال، وقد لبس الدرع والمغفر والبيضة، وأخذ قناة بيده الشريفة، وتقلد السيف، وركب فرسه اللجيف بالضم، وقيل ركب حمارا وهو اليعفور عريانا، والناس حوله قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل، وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له منها ثلاثة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم «رضي الله ع». وقدم رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة.
أي وفي رواية دفع إليه لواءه، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، ومر بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح. فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: نعم، دحية الكلبي مرّ على بغلة بيضاء.
أي وفي رواية: على فرس أبيض عليه اللامة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله ﷺ يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال رسول الله ﷺ: ذاك جبريل "عليه السلام"، بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.
فلما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن، أي ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه أي وحق أزواجه، أي فسكت المسلمون وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله ﷺ مقبلا أمر أبا قتادة الأنصاري «رضي الله ع» أن يلزم اللواء، ورجع إليه، فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: لعلك سمعت منهم لي أذى، قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا.
فلما دنا رسول الله ﷺ من حصونهم: قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ قال: وفي رواية نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم وقال: أجيبوا يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت: أي وهو ما عبد من دون الله كما تقدم، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته؟ أتشتموني، فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا ويقولون: يا أبا القاسم ما كنت جهولا، أي وفي لفظ: ما كنت فاحشا. وفي رواية: تقدمه إلى يهود أسيد بن حضير «رضي الله ع»، فقال لهم: يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا، إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر، فقالوا: يا ابن الحضير نحن مواليك وخاروا: أي خافوا، قال: لا عهد بيني وبينكم. وتقدم أسيد إلى بني قريظة يجوز أن يكون قبل مقدم عليّ لهم، ويجوز أن يكون بعده.
وإنما قال لهم: يا إخوان القردة والخنازير، لأن اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك، وقد حرم عليهم ذلك كسائر الأعمال. وقد أمرهم أن يتفرغوا لعبادة ربهم في ذلك اليوم، وكان ذلك في زمن داود "عليه السلام" فلما مسخوا خرجوا من تلك القرية هائمين على وجوههم متحيرين، فمشوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم ماتوا، وهذا دليل لمن يقول إن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولم يحصل منه توالد ولا تناسل.
وفي الكشاف؛ قيل إن أهل أيلة: أي وهي قرية بين مصر ومدين لما اعتدوا في السبت قال داود "عليه الصلاة والسلام: اللهم العنهم واجعلهم للناس آية، فمسخوا قردة.
ولما كفر أصحاب عيسى "عليه الصلاة والسلام بعد المائدة، قال عيسى: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، هذا كلامه فليتأمل، فمكثوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون فماتوا.
ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن لهم منه بدّ عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر، فأخروا صلاة العصر إلى أن جاءوا بعد عشاء الآخرة، امتثالا لقوله «لا يصلين العصر إلا في بني قريظة» فصلوا العصر بها بعد عشاء الآخرة. أي وبعضهم قال: نصلي، ما يريد رسول الله ﷺ منا أن ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها، وإنما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم، ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله، أي لأن كلا من الفريقين تأول.
قال في الهدى: كل من الفريقين مأجور بقصده، إلا أن من صلى حاز الفضيلتين ولم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر، وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب.
وادعى ابن التين رحمه الله أن الذين صلوا العصر صلوها على ظهور دوابهم. قال لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع، ولا يظن ذلك مع تقرب أفهامهم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه نظر، لأنه لم يأمرهم بترك النزول، ولم أر أنهم صلوا ركبانا في شيء من طرق القصة. والتعليل بالإسراع يقتضي أنهم صلوا على ظهور دوابهم سائرة لا واقفة.
وحاصر رسول الله ﷺ بني قريظة خمسا وعشرين ليلة. وقيل خمسة عشر يوما، أي وقيل شهرا، وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة «رضي الله ع»: أي يجاء به من عنده. وقال رسول الله ﷺ يومئذٍ «نعم الطعام التمر» حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الأحزاب وفاء لكعب بما كان عاهده عليه، أي كما تقدم، فلما أيقنوا أن رسول الله ﷺ غير منصرف عنهم حتى يناجزهم أي يقاتلهم. قال كبيرهم كعب بن أسيد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا وما هي؟ قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم. قال: وزاد في لفظ آخر: وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، ولقد كنت كارها لنقض العهد، ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس، يعني حيي بن أخطب، أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم؟ إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له أنصارا، وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر ا هـ أي التوراة والقرآن.
أي وكانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله ﷺ في كتبهم ويعلمون الولدان صفته، وأن مهاجره المدينة.
وفيه عن ابن عباس «رضي الله ع». قال: كانت يهود بني قريظة وبني النضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي ﷺ قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة، ولما قال لهم كعب ذلك، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال كعب: فإذا أبيتم على هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا: أي ولدا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم؟ قال فإن أبيتم على هذه، فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة: أي غفلة، فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه ما لم يخف عليك من المسخ. قال: وقال لهم عمرو بن سعدى: قد خالفتم محمدا فيما حالفتموه: أي عاهدتموه عليه. ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية، وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا؟ قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك. قال فإني بريء منكم، وخرج في تلك الليلة، فمر بحرس رسول الله ﷺ وعليه محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال عمرو بن سعدى، قال مرّ، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام وخلى سبيله، وبعد ذلك لم يدر أين هو؟ وقيل وجدت رمته؟ وأخبر رسول الله ﷺ خبره، فقال: ذلك رجل نجاه الله بوفاته.
وفي لفظ أنه قال لهم قبل أن يقدم النبي ﷺ لحصارهم: يا بني قريظة لقد رأيت عبرا، رأيت دار إخواننا يعني بني النضير خالية بعد ذلك العز والخلد والشرف والرأي الفاضل والعقل، تركوا أموالهم قد تملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل، لا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط ولله بهم حاجة. وقد أوقع ببني قيقناع، وكانوا أهل عدّة وسلاح ونخوة، فلم يخرج أحد منهم رأسه حتى سباهم، فكلم فيهم فتركهم على إجلائهم من يثرب، يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي، وقد بشرنا به علماؤنا. ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء، ثم أقبل على كعب بن أسيد، وقال: والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا.
فبينما هم على ذلك لم يرعهم إلا مقدمة النبي ﷺ قد حلت بساحتهم، فقال: هذا الذي قلت لكم، أي وبعد الحصار قيل أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله ﷺ أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة، فأبى رسول الله ﷺ أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية. فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها، فأبى رسول الله ﷺ إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله، فعاد نباش إليهم بذلك ا هـ. ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله ﷺ أن أبعث إلينا أبا لبابة أي وهو رفاعة بن المنذر لنستشيره في أمرنا، أي لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة منهم.
وفي لفظ: وكان أبو لبابة مناصحا لهم، لأن ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش: أي أسرع إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت ما لهم، فرّق لهم وقال: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه: أي إنه الذبح.
أي وفي لفظ: ما ترى، إن محمدا قد أبى أن لا ننزل إلا على حكمه، قال. فانزلوا وأومأ إلى حلقه.
ويروى أنهم قالوا له: ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ، فأومأ أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا. قالوا أبو لبابة «رضي الله ع» فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، أي لأن في ذلك تنفيرا لهم عن الانقياد له، ومن ثم أنزل الله فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} الآية: أي وقيل نزل {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم} الآية، وهذا أثبت من الأوّل، وقد يقال: كلاهما نزل فيه تلك الآية في توجه اللوم عليه، وهذه في توبته.
لا يقال: هي ليست نصا في توبة الله عليه. لأنا نقول: الترجي في حقه تعالى أمر محقق.
وعن أبي لبابة «رضي الله ع»: لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله ﷺ فسألوه أن يرسلني إليهم، دعاني قال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس، فذهبت إليهم، فقام كعب بن أسيد فقال: يا أبا بشير قد عرفت ما بيننا. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه، فلو زال عنه لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، أما ترى قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال أبو لبابة نعم فانزلوا، وأومأ إلى حلقه بالذبح. قال: فندمت واسترجعت، فقال لي كعب: مالك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله، فنزلت وإن عيني لتسيل من الدموع. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، فلم يأت رسول الله ﷺ وارتبط بالمسجد إلى عمود من عمده: أي وهي السارية، ويقال لها الأسطوانة: وهي التي كانت عند باب أم سلمة زوج النبي ﷺ في حر شديد، وقيل الأسطوانة المخلقة التي يقال لها أسطوانة التوبة، والأوّل أثبت، وكانت تلك الأسطوانة أكثر تنقله عندها، وكان ينصرف إليها من صلاة الصبح، فكان يستبق إليها الفقراء والمساكين ومن لا بيت له إلا المسجد، فيجيء إليهم ويتلو عليهم ما أنزل من ليلته ويحدثهم ويحدثونه، وكان ارتباطه بسلسلة ريوض أي ثقيلة. وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا، ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله ﷺ خبره وكان استبطأه. قال: أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه.
هذا، وفي كلام البيهقي وأورده في الدر أن ارتباطه إنما كان لتخلفه عن تبوك. فقد ذكر أنه لما أشار بيده إلى حلقه وأخبر عنه بذلك، قال له رسول الله ﷺ: أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك، فلبث حينا ورسول الله ﷺ عاتب عليه. ثم لما غزا رسول الله ﷺ تبوك كان أبو لبابة فيمن تخلف، فلما قفل رسول الله ﷺ: أي رجع جاءه أبو لبابة يسلم عليه، فأعرض عنه رسول الله، ففزع أبو لبابة وارتبط بالسارية.
واستغرب ذلك بعضهم، فقال: وأغرب من ادعى أن أبا لبابة إنما فعل ذلك لتخلفه عن غزوة تبوك.
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله، فأمر بهم فكتفوا وجعلوا ناحية، وكانوا ستمائة، وقيل سبعمائة وخمسين مقاتلا، وهو الذي تقدم عن حيي بن أخطب.
ولا يخالف هذا ما قيل إنهم كانوا بين الثمانمائة والسبعمائة. وقيل كانوا أربعمائة مقاتل.
ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون ما زاد على ذلك كانوا أتباعا لا يعدون، وأخرج النساء والذراري من الحصون وجعلوا ناحية: أي وكانوا ألفا. واستعمل عليهم عبدالله بن سلام فتواثب الأوس. وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد فعلت، يعنون بني قينقاع، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبدالله بن أبي ابن سلول. وقد نزلوا على حكم رسول الله، وقد كلمه فيهم عبدالله بن أبي ابن سلول، فوهبهم له على أن يجلوا كما تقدم، أي فظنت الأوس من رسول الله ﷺ أن يهب لهم بني قريظة كما وهب بني قينقاع للخزرج، فلما كلمته الأوس أبى أن يفعل ببني قريظة ما فعل ببني قينقاع. ثم قال لهم: أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؛ قالوا بلى، فقال: فذلك إلى سعد بن معاذ، أي وقيل إنه قال لهم: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ، أي وهو «رضي الله ع» سيد الأوس حينئذٍ كما تقدم. وقيل إنهم قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ «رضي الله ع» فرضي بذلك رسول الله، أي وكان سعد بن معاذ «رضي الله ع» يومئذٍ في المسجد في خيمة رفيدة «رضي الله ع»، وقد كان قال لقوم سعد بن معاذ حين أصابه السهم بالخندق، اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قرب، أي لأن رفيدة «رضي الله ع» كان لها خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى من الصحابة ممن لم يكن له من يقوم عليه، فأتاه قومه فحملوه على حمار؛ ثم أقبلوا به إلى رسول الله ﷺ وهم يقولون له: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله ﷺ إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فأحسن فيهم، فقد رأيت ابن أبيّ وما صنع في حلفائه، وهو ساكت، فلما أكثروا عليه، قال «رضي الله ع» لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال بعضهم واقوماه.
فلما انتهى سعد «رضي الله ع» إلى رسول الله ﷺ وإلى المسلمين وهم حوله جلوس قال رسول الله «قوموا إلى سيدكم» أي زاد في رواية «فأنزلوه» فقال عمر «رضي الله ع»: السيد هو الله. وفي رواية «إلى خيركم» أي معاشر المسلمين من المهاجرين والأنصار، أو معاشر الأنصار، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله ﷺ قد ولاك أمر مواليك لتحكم. وفي رواية: فقمنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: أحكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال قد أمرك الله أن تحكم فيهم، فقال سعد: أي لمن في الناحية التي ليس فيها رسول الله ﷺ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت. قالوا نعم، قال: وعلى من هاهنا مثل ذلك، وأشار إلى الناحية التي فيها رسول الله ﷺ وهو معرض عن رسول الله ﷺ إجلالا له، فقال رسول الله ﷺ: نعم، أي وفي لفظ: فقال سعد لبني قريظة: أترضون بحكمي، قالوا نعم. فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وفي لفظ: أن يقتل كل من جرت عليه الموسى، وتغنم الأموال، وتسبى الذراري والنساء، زاد بعضهم: وتكون الديار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت الأنصار، إخواننا يعنون المهاجرين لنا معهم، فقال: إني أحببت أن يستغنوا عنكم. فقال رسول الله ﷺ لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» أي السموات السبع، قيل سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم.
وجاء في الصحيح «من فوق سبع سموات» والمراد أن شأن هذا الحكم العلوّ والرفعة «قد طرقني بذلك الملك سحرا».
ثم أمر أن يجمع ما وجد في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع، فوجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخمسمائة ترس وحجفة ووجد أثاثا كثيرا، وآنية كثيرة، وأجمالا نواضح: أي يسقى عليها الماء، وماشية وشياها كثيرة، وخمس ذلك: أي مع النخل والسبي حتى الرثة: وهو السقط من أمتعة البيت خمسة أجزاء، ففضّ أربعة أسهم على الناس. فجعل للفارس ثلاثة أسهم، أي سهم له وسهمان لفرسه، والراجل سهما. قال بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهام. ورضخ للنساء اللاتي حضرن القتال، وهنّ صفية عمته، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ، وكبشة بنت رافع ولم يسهم لهن، وأخذ هو جزاء وهو الخمس. وعبارة بعضهم: وهو أوّل فيء وقعت فيه السهمان، وخمس: أي جزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهم لله، ثم أخذ ذلك السهم الذي خرج عليه وعلى سنته مضت قسمة الغنائم.
وفي كون هذا أوّل فيء جرت فيه السهمان نظر، إنما كان ذلك في بني قينقاع، فإن الفيء الحاصل منهم خمس خمسة أخماس، أخذ واحدا، والأربعة لأصحابه: أي ووجد جرار خمر فأهريق ولم يخمس، وهذا يدل على أن الخمر كانت محرمة قبل ذلك.
ثم إن رسول الله ﷺ أمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زبد «رضي الله ع»، والنساء والذرية في دار ابنة الحرث النجارية، أي لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب.
وقيل في دار كبشة بنت الحرث بن كريز، كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبدالله بن عامر بن كريز، وهذه إنما نزل في دارها وفد بني حنيفة كما سيأتي وبالمتاع أن يحمل، وترك المواشي هناك ترعى الشجر.
ثم غدا إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق: أي حفر فيها حفائر. ثم أمر بقتل كل من أنبت، فبعث إليهم فجاؤوا إليه أرسالا، تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق. وقد قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسيد: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: في كل موطن لا تعقلون، أما ترون أن من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم عليّ قالوا ليس حين عتاب، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله. أي وذلك ليلا على مشعل السعف.
ثم ردّ عليهم التراب في تلك الخنادق، وعند قتلهم صاحت نساؤهم، وشقت جيوبها، ونشرت شعورها، وضربت خدودها، وملأت المدينة نواحا.
وكان من جملة من أتى معهم عدوّ الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إليه رسول الله، قال: ألم يمكن الله منك يا عدوّ الله؟ قال بل، أبى الله إلا تمكينك مني، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل.
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه لما قال له: ألم يمكن الله منك فقال بلى، ولقد قلقنا كل مقلقل، ولكنه من يخذلك يخذل. فقوله يخذلك كقول الآخر في البيت: * ولكنه من يخذل الله يخذل * لأنه إنما نظم في البيت كلام حيي.
ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة. أي قتال كتب الله على بني اسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. قال: ولما أتي بكعب بن أسد سيد بني قريظة، قال له النبي ﷺ: يا كعب، قال نعم يا أبا القاسم، قال: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدّقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرؤوني منه السلام. قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكنه على دين يهود. فأمر رسول الله ﷺ أن يقدم فيضرب عنقه ففعل به ذلك. أي وكان المتولي لقتلهم عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، والزبير بن العوام «رضي الله ع».
أقول: في الإمتاع: وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر. فقالا: يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم، فقال سعد بن معاذ «رضي الله ع»: ما كرهه أحد من الأوس فيه خير، فمن كرهه فلا أرضاه الله، فقام أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله لا تبق دارا من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، ففرقهم في دور الأنصار فقتلوهم هذا كلامه. والضمير في قتلوهم ظاهر في رجوعه للأوس، وأنهم المراد بالأنصار.
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون المراد بالأوس الذين كرهوا ذلك طائفة منهم، وأن تلك الطائفة قتلوا من بعث به إلى دورهم، وما عدا ذلك تعاطى قتله عليّ والزبير والله أعلم.
ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة أخرجت من بين النساء يقال لها نباتة، وقيل مزنة، كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد «رضي الله ع» فقتلته بإرشاد زوجها، لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوّجها غيره.
وقد أسهم لخلاد بن سويد هذا، وقال: إن له أجر شهيدين، وأسهم لسنان بن محصن، وقد مات في زمن الحصار.
وعن عائشة «رضي الله ع» قالت: لم يقتل من نسائهم يعني بني قريظة إلا امرأة واحدة، قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، أي وكانت جارية حلوة ورسول الله ﷺ يقتل رجلها في السوق، أي لأنها دخلت على عائشة، وبنو قريظة يقتلون. إذ هتف هاتف باسمها أين نباتة، قالت: أنا والله؛ قالت عائشة: فقلت لها، ويلك مالك؟ قالت: أقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته، أي وفي لفظ قتلني زوجي. فقالت لها عائشة: كيف قتلك زوجك، قالت: أمرني أن ألقي رحى على أصحاب محمد كانوا تحت الحصن مستظلين في فيئة، فأدركت خلاد بن سويد فشدخت رأسه فمات وأنا أقتل به.
وفي لفظ آخر: إني كنت زوجة رجل من بني قريظة، وكان بيني وبينه كأشد ما يتحاب الزوجان، فلما اشتد أمر المحاصرة، قلت لزوجي: يا حسرتي على أيام الوصال، كادت أن تنقضي وتتبدل بليالي الفراق وما أصنع بالحياة بعدك؟ فقال زوجي: إنك صادقة في دعوى المحبة، تعالي فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل حصن. قال الزبير بن بطا وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة فألقي عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله، فإن ظفروا بنا فإنهم يقتلونك بذلك ففعلت، قالت: فانطلق بها فضرب عنقها فكانت عائشة «رضي الله ع» تقول: والله ما ألقى عجبا منها، طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل.
وكان في بني قريظة الزبير بن بطا، وهو جد الزبير بن ابنه عبد الرحمن وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كإسم جده. وقيل بضم الزاي وفتح المثناة، وهو قول البخاري في التاريخ، وكان شيخا كبيرا، وكان قد من على ثابت بن قيس في الجاهلية يوم بغاث، وهي الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل قدومه المدينة، وكان الظفر فيها للأوس على الخزرج آخرا كما تقدم أخذه فجزّ ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاء ثابت «رضي الله ع» للزبير، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ قال: فهل يجهل مثلي مثلك، قال: إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليك اليوم. وعبد الرحمن هذا هو الذي تزوج امرأة رفاعة وشكته للنبي بأن الذي معه كهدبة الثوب وأحبت طلاقه لها.
ثم أتى ثابت «رضي الله ع» إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عليّ منة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه، فقال رسول الله ﷺ: هو لك فأتاه، فقال: إن رسول الله ﷺ قد وهب لي دمك فهو لك فقال: شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال ثابت: فأتيت رسول الله، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي امرأته وولده، فقال: هم لك، قال: فأتيته، فقلت: قد وهب لي رسول الله ﷺ أهلك وولدك فهم لك، فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك؟ قال: فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله ماله، قال؛ هو لك، فأتيته فقلت له: قد أعطاني رسول الله ﷺ مالك فهو لك، فقال: أي ثابت، أما أنت فقد كافأتني، وقد قضيت الذي عليك، ما فعل بالذي كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى منها عذارى الحي كعب بن أسد؟ أي سيد بني قريظة، قلت قتل، قال: فما فعل بسيد الحاضر والبادي: أي من يحملهم في الجدب، ويطعمهم في المحل حيي بن أخطب؟ قلت قتل. قال: فما فعل بمقدمتنا، بكسر الدال مشددة، إذا شددنا، وحامينا إذا فررنا عزال بالعين المهملة وتشديد الزاي ابن سموأل بالسين المهملة مفتوحة ومكسورة؟ قلت قتل، قال: فما فعل المجلسان بكسر اللام: محل الجلوس وبفتحها المصدر، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة، قلت قتلا، وفي لفظ قتلوا. قال: فإني أسألك يا ثابت بيدك عندي إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما بالعيش بعد هؤلاء من خير، أأرجع إلى دار قد كانوا حلولا فيها فأخلد فيها بعدهم، لا حاجة لي، فما أنا بصابر، لله إفراغة دلو ناضح: أي مقدار الزمن الذي يفرغ فيه ماء الدلو. وفي رواية: فتلة دلو ناضج بالفاء والتاء المثناة فوق، وقيل بالقاف والباء الموحدة: أي مقدار ما يتناول المستسقي للدلو حتى ألقى الأحبة. قال ثابت: فقدمته فضربت عنقه.
أي وقيل إن ثابتا «رضي الله ع» قال له ما كنت لأقتلك، فقال: لا أبالي من قتلني، فقتله الزبير بن العوام «رضي الله ع».
ولما بلغ أبا بكر «رضي الله ع» مقالته: ألقى الأحبة، قال: يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا.
قال في الأصل: وذكر أبو عبيدة هذا الخبر، وفيه «فقال رسول الله ﷺ: لك أهله وماله إن أسلم» أي ولم يسلم، فكان أهله وماله من جملة الفيء، وكان القتل لكل من أنبت ومن لم ينبت يكون في السبي.
قال عطية القرظي «رضي الله ع» كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلوا سبيلي، أي عن القتل، وكان رفاعة قد أنبت فأرادوا قتله، فلاد بسلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت إحدى خالاته: أي خالات جده عبد المطلب، لأنها من بني النجار، فقالت بأبي وأمي يا رسول الله هب لي رفاعة، فوهبه لها، أي فأسلم.
وقرت عين سعد بن معاذ «رضي الله ع» بقتل بني قريظة حيث استجاب الله دعوته، فإنه سأل الله تعالى لما أصيب بالسهم في الخندق، وقال: لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة كما تقدم.
أي وفي بعض الروايات أن دعاءه «رضي الله ع» بذلك، كان في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله ﷺ على ما تقدم عن بعض الروايات.
أي ويجوز أن يكون «رضي الله ع» دعا بذلك مرتين، وفي لفظ فدعا الله أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة.
ويمكن أن يكون صاحب الهمزية رحمه الله أشار إلى سب بني قريظة له، ونهى بعض أشرافهم لهم عن نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه، الذي سببه حيي بن خطب لعنه الله، واغترارهم بالأحزاب بقوله:
وتعدوا إلى النبي حدودا ** كان فيها عليهم العدواء
واطمأنوا بقول الأحزاب إخوا ** نهم إننا لكم أولياء
وبيوم الأحزاب إذا زاغت الأ ** بصار فيه وضلت الآراء
وتعاطوا في أحمد منكر القو ** ل ونطق الأراذل العوراء
كل رجس يزيده الخلق السو ** ء سفاها والملة العوجاء
فانظروا كيف كان عاقبة القو ** م وما ساق للبذيّ البذاء
وجد السب فيه سما ولم يد ** ر إذ الميم في مواضع باء
كان من فيه قتله بيديه ** فهو من سوء فعله الزباء
أو هو النحل قرصها يجلب ** الحتف إليها وماله إنكاء
أي ولما انقضى شأن بني قريظة، قال رسول الله «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك وتقدم أنه قال ذلك بعد انقضاء الأحزاب. وانفجر جرح سعد بن معاذ، أي الذي في يده وسال الدم واحتضنه فجعلت الدماء تسيل على رسول الله ﷺ فمات منه وحمل إلى منزله ولم يعلم بموته، فأتى جبريل النبي ﷺ من الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا العبد الصالح، وفي لفظ: من هذا الميت التي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش؟ وفي رواية عرش الرحمن: أي فتحت أبواب السماء لصعود روحه، واهتز العرش: أي تحرك فرحا بذلك. وقال النووي: اهتزاز العرش هو فرح الملائكة بقدوم روحه.
وفيه أن هذا لا يحتاج إليه إلا لو كان تحرك العرش مستحيلا، فقام رسول الله ﷺ سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات.
وعن سلمة بن أسلم بن حريش «رضي الله ع». قال «دخل رسول الله ﷺ وما في البيت أحد إلا سعدا مسجى، فرأيته يتخطى وأومأ إليّ قف، فوقفت ورددت من ورائي وجلس ساعة، ثم خرج فقلت: يا رسول الله ﷺ ما رأيت أحدا ورأيتك تتخطى، فقال: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه».
أقول: قد وقع له نظير ذلك عند تشييعه لجنازة ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري «رضي الله ع»، فإنه صار يمشي على أطراف أنامله، فلما دفن قيل: يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك، قال: والذي بعثني بالحق ما قدرت أن أضع قدمي من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييعه، وقصته مذكورة في السيرة الشامية.
ولما حملوا نعش سعد «رضي الله ع»، وكان جسيما وجدوا له خفة؛ فقال رسول الله ﷺ: إن له حملة غيركم؛ أي من الملائكة؛ لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا: أي جنازته؛ ومنهم جملة ما وطئوا الأرض إلا يومهم هذا.
وعن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع». قال: كنت ممن حفر لسعد «رضي الله ع» قبره؛ فكان يفوح علينا المسك؛ كلما حفرنا قبره من تراب.
وجاء «لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منها سعد ضم ضمة؛ ثم فرج الله عنه» وعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع»؛ قال «لما دفن سعد «رضي الله ع» ونحن مع رسول الله ﷺ سبح رسول الله ﷺ فسبح الناس معه؛ ثم كبر فكبر الناس معه؛ فقالوا: يا رسول الله لم سبحت؛ أي وكبرت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه».
وجاء «إن بعض أهل سعد «رضي الله ع» سئل: ما بلغكم من قول رسول الله » أي في سبب تضايق القبر على سعد كما يرشد إليه جوابهم بقولهم، فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله ﷺ سئل عن ذلك، فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير» وهذا قد يخالف ما في الخصائص الصغرى: وخص رسول الله ﷺ بأنه لا يضغط في قبره وكذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم، وكذا ما في التذكرة للقرطبي إلا فاطمة بنت أسد ببركته، أي حيث اضطجع في قبرها. ويحتاج للجمع بينه وبين ما في الخصائص.
وجاء عن عائشة «رضي الله ع» «أنها قالت: يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته، فقال: يا عائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصداع، وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين، ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكفارين، أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصخر» أي وحينئذٍ يكون المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه الذي لم يحصل منه تقصير، فلا ينافي ما تقدم عن سعد فليتأمل. وقد روى البيهقي رحمه الله «أنه حمل جنازة سعد بن معاذ «رضي الله ع» بين العمودين» وبه استدلّ أئمتنا على أن ذلك أفضل من حمل الجنازة بالتربيع الذي اعتاده الناس الآن «ومشى أمام جنازته، ثم صلى عليه. وجاءت أمه «رضي الله ع» ونظرت إليه في اللحد، وقالت: أحتسبك عند الله؛ وعزاها رسول الله وهو واقف على قدميه على القبر، فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء، ثم وقف ودعا ثم انصرف وناحت عليه أمه، فقال: كل نائحة تكذب إلا نائمة سعد بن معاذ «رضي الله ع»». أي فإنه «رضي الله ع» موصوف بكل ما يقال فيه من الأوصاف الحسنة، بخلاف غيره.
وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله بجبة من سندس كما سيأتي، فجعل أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم يعجبون من تلك الجبة. فقال رسول الله «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن» يعني من هذا، ومن المعلوم أن المنديل أدنى الثياب، لأنه معد للامتهان، فثيابه «رضي الله ع» في الجنة أعلى وأغلى. وقد وهب تلك الجبة لعمر بن الخطاب «رضي الله ع»، ونزلت توبة أبي لبابة «رضي الله ع» على رسول الله ﷺ وهو في بيت أم سلمة «رضي الله ع». قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله ﷺ من السحر يضحك. قالت: فقلت ممّ تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. قالت: قلت أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها. قيل وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب وهو لا يناسب ما تقدم في قصة الإفك، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يطلقني بيده الشريفة.
وقيل المبشر له عائشة «رضي الله ع»، فلما مر على أبي لبابة خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
وجاء أن فاطمة «رضي الله ع» أرادت إطلاقه فأبى، فقال رسول الله «فاطمة بضعة مني» أي وظاهر هذا أنه «رضي الله ع» كان يبرّ بإطلاق سيدتنا فاطمة «رضي الله ع» له فليتأمل.
وقد أقام مربوطا ست ليالي أي أو سبع ليال. وقيل سبع عشرة ليلة. وقيل خمس عشرة ليلة، وعليه اقتصر في الإمتاع، وكانت تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة وكذا إذا أراد حاجة الإنسان، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره، ولا مانع أن امرأته وبنته كانتا تتناوبان في ذلك.
أي وجاء أنه «رضي الله ع» قال للنبي «من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب» وفيه أنه تقدم أنه عاهد الله على ذلك «قال: وأن انخلع من مالي، فقال له "عليه الصلاة والسلام: يجزيك الثلث أن تتصدق به» أي ولم يأمره أن يهجر تلك الدار. والجمع بينه وبين ما تقدم من أنه عاهد الله أن لا يطأ تلك الدار ممكن.
ثم بعث رسول الله ﷺ سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا. قال: وفي لفظ بعث سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا. أي فاشترى بذلك خيلا كثيرا قسمها رسول الله ﷺ على المسلمين، واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» جملة من السبايا، فجعلت تلك الجملة من السبايا قسمين، جعلت الشوابّ على حدة، وجعلت العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان، فأخذ العجائز، وأخذ عبد الرحمن الشواب، وجعل عثمان «رضي الله ع» على كل واحدة منهن شيئا إن أتت به عتقت، فكان المال يوجد عند العجائز ولا يوجد عند الشواب فربح عثمان مالا كثيرا. أقول: ويحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة وعثمان وعبد الرحمن سبايا بني قريظة، فيكون قسموا ثلاثة أقسام: قسم أعطي لسعد بن زيد، وقسم أعطي لسعد بن عبادة، وقسم اشتراه عثمان وعبد الرحمن، ووقع الفداء في سبايا بني قريظة. وحينئذٍ يكون المراد بقول القائل: وبعث سعد بن زيد بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم. وبعث سعد بن عبادة بسبايا أي بسبايا بني قريظة: أي بجملة منهم وإن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة غير سبايا بني قريظة فالأمر ظاهر، ويدل لهذا الثاني إسقاط بني قريظة منه.
ثم رأيته في الإمتاع أسقط قصة سعد بن زيد الأنصاري واقتصر على سعد بن عبادة حيث قال: ولما سبيت السبايا والذرية بعث رسول الله ﷺ بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة «رضي الله ع» يبيعهم ويشتري سلاحا هذا كلامه، والله أعلم.
ونهى رسول الله ﷺ أن يفرق بين الأم وولدها، أي في السبايا الأعم من قريظة، وقال «لا يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ، قيل: يا رسول الله وما بلوغه؟ قال: تحيض الجارية ويحتلم الغلام» وكان إذا وجد الولد الصغير ليس له أم لم يبع من المشركين أي مشركي العرب ولا من يهود، وإنما يباع من المسلمين، أي وكانت أم الولد الصغير تباع من المشركين هي وولدها من العرب ومن يهود المدينة.
قال في الإمتاع: وكان يفرق بين الأختين إذا بلغتا، ومقتضاه أنهما إذا لم يبلغا لا يفرق بينهما. وأئمتنا معاشر الشافعية لم يحرموا إلا التفرقة بين الأصول والفروع إذا لم يميزوا، وهو محمل قوله «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» ولعله لم تصح تلك الرواية عند إمامنا الشافعي «رضي الله ع».
واصطفى لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو وهو شمعون مولى رسول الله ﷺ من بني النضير، وكانت متزوّجة في بني قريظة، ولعله مراد من قال إنها كانت من بني قريظة، أي وكانت جميلة، وأسلمت بعد أن أبت الإسلام ووجد في نفسه: أي غضب بسبب ذلك، أي بسبب عدم إسلامها، ولم يظهر ذلك، ثم لما أسلمت سرّ رسول الله ﷺ بذلك.
فقد جاء «لما أبت ريحانة الإسلام عزا لها ووجد في نفسه لذلك، وأرسل إلى ثعلبة بن شعبة وكان ممن نزل من حصون بني قريظة في الليلة التي صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ، أي على ما في بعض الروايات «وأسلم هو وإخوته أسيد وأسيد وأسد وابن عمه، وأحرزوا دماءهم وأموالهم، وليسوا من بني قريظة، وإنما هم من بني هذيل «فذكر له ذلك، فقال سعد: فداك أبي وأمي هي مسلمة» أي ظنا منه أنها تسلم «فخرج حتى جاءها ولا زال يقول لها أسلمي يصطفيك رسول الله ﷺ لنفسه، فأجابت إلى ذلك وأسلمت، فبينما هو في مجلس من أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه، فقال: إن هاتين لنعلا مبشري بإسلام ريحانة فكان كذلك، وأخبره أنها أسلمت، فسر بذلك، واستمرت عند رسول الله ﷺ وهي في ملكه، اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح، أي فقد خيرها بين أن يعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك؟ فاختارت أن تكون في ملكه».
قال بعضهم: والأثبت عند أهل العلم أنه أعتقها وتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشا، وأعرس بها في المحرم سنة ست بعد أن حاضت حيضة، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه، فطلقها تطليقة، فأكثرت من البكاء، فراجعها، ولم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر، فدفنها بالبقيع. ووجوب استبرائها بحيضة يدل لما قاله فقهاؤنا أن من ملك أمة وطئها غيره وطئا غير محرم لا يحل له تزوجها قبل استبرائها وإن أعتقها.
وتقدّم أن قريظة والنضير أخوان من أولاد هارون على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.
غزوة بن لحيان
بناحية عسفان، ولحيان بكسر اللام وفتحها: قبيلة من هذيل.
لا يخفى أن بعد مضي ستة أشهر من غزوة بني قريظة غزا رسول الله ﷺ بني لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع، أي وهم خبيب وأصحابه «رضي الله ع» الذين قتلوا ببئر معونة كما سيأتي ذكر ذلك في السرايا. أي لأنه وجد: أي حزن وجدا شديدا على أصحابه المقتولين بالرجيع، وأراد أن ينتقم من هذيل فأمر أصحابه بالتهيؤ، وأظهر أنه يريد الشام: أي ليدرك من القوم غرة: أي غفلة، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم «رضي الله ع»، وخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا، ولما وصل إلى المحل الذي قتل فيه أهل الرجيع ترحم عليهم ودعا لهم بالمغفرة، فسمعت به بنو لحيان، فهربوا إلى رؤوس الجبال أي وأرسل السرايا في كل ناحية فلم يجدوا أحدا أي وأقام على ذلك يومين، فلما رأى أنه فاته ما أراده من غرتهم. قال: لو أنا هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة، فخرج في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان، وهذا يدل على أن أصحابه كانوا أكثر من مائتين، وهو يخالف ما تقدم أنه خرج في مائتي رجل. إلا أن يقال زادوا على المائتين بعد خروجه.
ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا راجعين. وفي لفظ آخر فبعث أبا بكر «رضي الله ع» في عشرة فوارس القصة. أي وقد يقال: لا منافاة بين اللفظين.
ثم توجه رسول الله ﷺ إلى المدينة. قال جابر «رضي الله ع»: سمعت رسول الله ﷺ يقول حين وجه أي توجه إلى المدينة «آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون» أي وفي رواية «لربنا عابدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر» أي مشقة السفر «وكآبة» أي حزن «المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال» قال وزاد بعضهم «اللهم بلغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير مغفرتك ورضوانك» قيل ولم يسمع هذا الدعاء منه قبل ذلك، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة ا هـ.
وذكر بعضهم «أنه لما رجع من بني لحيان وقف على الأبواء فنظر يمينا وشمالا، فرأى قبر أمه آمنة، فتوضأ ثم صلى ركعتين فبكى وبكى الناس لبكائه ثم قام فصلى ركعتين ثم انصرف إلى الناس وقال لهم: ما الذي أبكاكم؟ قالوا: بكيت فبكينا يا رسول الله، قال: ما ظننتم؟ قالوا، ظننا أن العذاب نازل علينا، قال: لم يكن من ذلك شيء، قالوا: ظننا أن أمتك كلفت من الأعمال ما لا تطيق، قال: لم يكن من ذلك شيء ولكني مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فزجرت زجرا» أي منعت عن ذلك منعا شديدا «فأبكاني» وفي لفظ «فعلى بكائي هذا» أي فعلى هذا بكائي.
والذي في الوفاء «أنه وقف على عسفان، فنظر يمينا وشمالا، فأبصر قبر أمه فورد الماء، فتوضأ ثم صلى ركعتين، قال بريدة: فلم يفجأنا إلا ببكائه، فبكينا لبكاء رسول الله، ثم انصرف فقال: ما الذي أبكاكم؟ » الحديث.
«ثم دعا براحلته فركبها، فسار يسيرا فأنزل الله تعالى{ما كان للنبي} {والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} إلى آخر الآيتين، فلما سري عنه الوحي قال: أشهدكم أني بريء من آمنة كما تبرأ إبراهيم من أبيه.
أي وهذا السياق يدل على أن هاتين الآيتين غير ما زجر به عن الاستغفار لها المتقدّم في قوله «فزجرت زجرا» فليتأمل.
وفي مسلم عن أبي أيوب «رضي الله ع» قال «زار رسول الله ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها» أي بعد ذلك «فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت».
وسيأتي عن عائشة «رضي الله ع» «أن في حجة الوداع مرّ على عقبة الحجون فنزل وقال لها: وقفت على قبر أمي» وسيأتي أن ذلك يدل على أن قبر أمه بمكة لا بالأبواء، وتقدم الجمع بين كونه بالأبواء، وكونه بمكة، وسيأتي بالحديبية أنه زار قبرها وفي فتح مكة أيضا، وسيأتي الكلام على ذلك وأن ذلك كان قبل إحيائها له وإيمانها به.
غزوة ذي قرد
بفتح القاف والراء، وقيل بضمهما، أي وقيل بضم الأول وفتح الثاني: اسم ماء. والقرد في الأصل: الصوف الرديء، ويقال لها غزوة الغابة، والغابة: الشجر الملتف.
لما قدم رسول الله ﷺ المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح رسول الله ﷺ بالغابة، أي وكانت اللقاح عشرين لقحة وهي ذات اللبن القريبة من الولادة: أي لها ثلاثة أشهر، ثم هي لبون، وفيها رجل من بني غفار هو ولد أبي ذر الغفاري وزوجة لأبي ذر، فقوله وامرأة له، أي لأبي ذرّ «رضي الله ع» لا لولده كما يعلم مما يأتي، وكان راعيها يؤوب: أي يرجع بلبنها كل ليلة عند المغرب إلى المدينة، أي فإن المسافة بينها وبين المدينة يوم أو نحو يوم، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة مع اللقاح.
وعند ابن سعد: كان فيها أبو ذرّ وولده أي وزوجة أبي ذر، فقتلوا ولده، أي واحتملوا المرأة. قال: «جاء أن أبا ذرّ الغفاري «رضي الله ع» استأذن رسول الله ﷺ أن يكون في اللقاح، فقال له: لا تأمن عيينة بن حصن وذويه أن يغيروا عليك، فألح عليه، فقال له رسول الله ﷺ: لكأني بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك وجئت تتوكأ على عصاك، فكان أبو ذرّ «رضي الله ع» يقول: عجبا لي ورسول الله ﷺ يقول: لكأني بك وأنا ألح عليه، فكان والله ما قال رسول الله، فإني والله لفي منزلنا ولقاح رسول الله ﷺ قد روّحت وحلبت عتمتها ونمنا، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة بن حصن في أربعين فارسا فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا، فأشرف لهم ابني فقتلوه وكان معه ثلاثة نفر فنجوا، وتنحيت عنهم، وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد بها. ولما قدمت المدينة على رسول الله ﷺ وأخبرته تبسم» ا هـ أي وروي بدل عيينة بن حصن قال بعضهم: ولا منافاة، لأن كلا من عيينة بن حصن وعبد الرحمن بن عيينة كانا في القوم، وكان أوّل من علم بهم سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» فإنه غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ومعه غلام لطلحة بن عبيدالله معه فرس له: أي لطلحة يقوده، فلقى غلاما لعبد الرحمن بن عوف، فأخبره أن عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله ﷺ في أربعين فارسا من غطفان. قال سلمة: فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس، فأخبر رسول الله ﷺ أن قد أغير على سرحه.
أي وهذا السياق يدل على أن رباحا غلامه كان مع سلمة أسقط الراوي ذكره ولم يقل ومعه رباح غلامه.
ويحتمل أن رباحا هذا هو غلام عبد الرحمن الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون رباح غلامه وغلام عبد الرحمن، لجواز أن يكون كان لعبد الرحمن ثم وهبه للنبي، فهو غلام عبد الرحمن بحسب ما كان.
ثم رأيت ما يؤدي الأوّل وهو ما في بعض الروايات عن سلمة قال: خرجت أنا ورباح عبد النبي ﷺ قبل أن يؤذن بالأولى يعني لصلاة الصبح نحو الغابة وأنا راكب على فرس أبي طلحة الأنصاري، فلقيني عبد لعبد الرحمن بن عوف قال: أخذت لقاح رسول الله، قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة، وقد طوي في هذه الرواية ذكر غلام طلحة.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر أنه لم يقف على اسم غلام عبد الرحمن بن عوف هذا: أي الذي أخبر سلمة بأمر اللقاح.
قال: ويحتمل أن يكون هو رباح غلام رسول الله ﷺ وكان ملك أحدهما وكان يخدم الآخر، فنسب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، هذا كلامه، ولا يخفى بعده للتصريح بأن رباحا غير غلام عبد الرحمن، وأن رباحا كان مع سلمة، وأن غلام عبد الرحمن هو الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون الفرس لطلحة، ولا بين كونها لأبي طلحة، ولا بين كون عبد طلحة كان قائدا لها وبين كون سلمة راكبا لها لأنه يجوز أن يكون ركبها أثناء الطريق فليتأمل.
وفي تسمية غلامه رباحا مع نهيه أن الشخص يسمي رقيقه بأحد أربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع. وزاد في رواية خامسا وهو نجيح فهلا غير اسمه إنه كانت وقعت التسمية من غيره ويقال لم يغير ذلك الاسم إشارة إلى أن النهي للتنزيه.
ثم إن سلمة رجع إلى المدينة وعلائنية الوداع فنظر إلى بعض خيولهم، فصرخ بأعلى صوته واصباحاه: أي قال ذلك ثلاث مرات. أي وقيل نادى: الفزع الفزع ثلاثا، ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك. وفي لفظ: وقمت على تلّ بناحية سلع، أي وفي لفظ: على أكمة، وفي لفظ آخر: فصعدت في سلع ولا مخالفة كما لا يخفى، فجعلت وجهي من قبل المدينة. ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه أسمع ما بين لابتيها، أي لسعة صوته، أو أن ذلك وقع خرقا للعادة، ويا صباحاه: كلمة تقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه، لأنهم يسمون يوم الغارة يوم الصباح.
ثم خرج يشتدّ في أثر القوم كالسبع، وقد كان يسبق الفرس جريا حتى لحق بهم، فجعل يردهم بالنبل ويقول: إذا رمى خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع: أي يوم هلاك اللئام، فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، وهكذا يفعل قال: كنت ألحق الرجل منهم فأرميه بسهم في رجله فيعقره؛ فإذا رجع إليّ فارس منهم أتيت شجرة فجلست في أصلها. ثم أرميه فأعقره فيولي عني، فإذا دخلت الخيل في بعض مضايق الجبل علوت الجبل ورميتهم بالحجارة، قال: ولم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها، ولا يلقون شيئا من ذلك إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله ﷺ: أي وما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه.
ولما بلغ رسول الله ﷺ صياح ابن الأكوع صرخ بالمدينة: الفزع، يا خيل الله اركبي. قيل وكان أول ما نودي بها وفيه كما في الأصل أنه نودي بها في بني قريظة كما تقدم.
وأوّل من انتهى إلى رسول الله ﷺ من الفرسان المقداد بن عمرو ويقال له ابن الأسود، وتقدم أنه قيل له ذلك، لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث وتبناه فنسب إليه. ثم عباد بن بشر وسعيد بن زيد، ثم تلاحقت به الفرسان، وأمر عليهم سعيد ابن زيد. وقيل المقداد وجزم به الدمياطي رحمه الله، أي ويدل له قول حسان «رضي الله ع» في وصف هذه الغزوة: * غداة فوارس المقداد *.
لكن في السيرة الشامية أن سعيد بن زيد «رضي الله ع» غضب على حسان وحلف لا يكلّمه أبدا وقال انطلق إلى خيلي فجعلها للمقداد، وإن حسان «رضي الله ع» اعتذر إلى سعد بأن الروي وافق في اسم المقداد وذكر أبياتا يرضى بها سعيد بن زيد فلم يقبل منه سعيد ذلك، وهذا يدل للأول.
وعقد لذلك الأمير لواء في رمحه. ثم قال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا بهم وكان شعارهم يومئذٍ «أمت أمت» وأول فارس لحق بهم محرز بن نضلة، ويقال له الأخرم الأسدي، ووقف لهم بين أيديهم، وقال لهم: يا معشر بني اللكيعة: أي اللئيمة قفوا حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار، فحمل عليه شخص من المشركين فقتله.
وعن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» أنه قال: ثم إن القوم جلسوا يتغدون وجلست على رأس قرن جبل، فقال لهم رجل أتاهم: من هذا؟ قالوا لقينا من هذا البرح حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليّ منكم أربعة فتوجهوا إليّ فهددتهم، أي فقد جاء عنه «رضي الله ع» أنه قال لهم: هل تعرفونني؟ قالوا لا ومن أنت؟ قلت أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، قال بعضهم إنا نظن ذلك فرجعوا.
قال: فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله ﷺ يؤمهم الأخرم الأسدي. فلما رأيت الأخرم الأسدي وأوّل الفرسان، نزلت من الجبل وأخذت بعنان فرسه، وقلت له: احذر القوم لا يقتطفوك حتى يلحق رسول الله، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الأخرم وتعلم أن الجنة حق وأن النار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، فخليت عنه، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فعقر فرس عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه، فلحق عبد الرحمن أبو قتادة «رضي الله ع»، فعقر عبد الرحمن فرس أبي قتادة فقتله أبو قتادة وتحول أبو قتادة «رضي الله ع» إلى الفرس.
أقول: ولعل عبد الرحمن هذا هو حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة ابن عيينة، فإني لم أقف على ذكر عبد الرحمن هذا فيمن قتل من المشركين في هذه الغزوة، وإن أبا قتادة «رضي الله ع» قتل حبيبا وغشاه ببرده كما سيأتي، إلا أن يقال جاز أن يكون له اسمان عبد الرحمن وحبيب، ثم رأيت الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك. وقيل قاتل محرز مسعدة الفزاري، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وذكر أن قاتل حبيب المقداد بن عمرو، فقال: وقتل أبو قتادة مسعدة، فأعطاه رسول الله ﷺ فرسه وسلاحه. وقتل المقدادُ بن عمرو حبيب بن عيينة بن حصن والله أعلم، ولم يقتل من المسلمين إلا محرز بن نضلة الذي هو الأخرم الأسدي، وكان رأى قبل ذلك بيوم أن سماء الدنيا فرجت وما بعدها حتى انتهى إلى السماء السابعة، ثم انتهى إلى سدرة المنتهى، فقيل له: هذا منزلك، فعرضها على أبي بكر «رضي الله ع» وكان من أعلم الناس بالتعبير كما تقدم، فقال له: أبشر بالشهادة، وأقبل رسول الله ﷺ في المسلمين. وقد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم «رضي الله ع». أي واستعمل على حرس المدينة سعد بن عبادة «رضي الله ع» في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، فإذا حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة مسجى: أي مغطى ببرد أبي قتادة، فاسترجع المسلمون، أي قالوا {إنا لله وإنا إليه راجعون} وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله ﷺ: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرف أنه صاحبه أي القاتل له.
قال وفي رواية أنه قال «والذي أكرمني بما أكرمني به إن أبا قتادة على آثار القوم يرتجز، فخرج عمر بن الخطاب «رضي الله ع» حتى كشف البرد عن وجهه المسجى فإذا وجه حبيب، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، يا رسول الله غير أبي قتادة».
وفي لفظ «فخرج أبو بكر وعمر «رضي الله ع» حتى كشفا البرد» الحديث. وقيل الذي قتله أبو قتادة وغشاه ببرده هو مسعدة قاتل محرز «رضي الله ع» لا حبيب على ما تقدم.
ففي رواية أن أبا قتادة «رضي الله ع» اشترى فرسا فلقيه مسعدة الفزاري فتفاوض معه، فقال له أبو قتادة: أما إني أسأل الله أن ألقاك وأنا عليها، قال: آمين، فلما أخذت اللقاح ركب تلك الفرس وسار، فلقي النبي، فقال له النبي ﷺ: امض يا أبا قتادة صحبك الله، قال: فسرت حتى هجمت على القوم، فرميت بسهم في جبهتي، فنزعت قدحه وأنا أظن أني نزعت الحديدة، فطلع عليّ فارس وقال: لقد ألقانيك الله يا أبا قتادة، وكشف عن وجهه فإذا هو مسعدة الفزاري. فقال: أيما أحب إليك: مجالدة، أو مطاعنة، أو مصارعة؟ فقلت: ذاك إليك، فقال: صراع فنزل وعلق بسيفه في شجرة ونزلت وعلقت سيفي في شجرة وتواثبنا فرزقني الله الظفر عليه، فإذا أنا على صدره وإذا شيء مس رأسي، فإذا سيف مسعدة قد وصلت إليه في المعالجة، فضربت بيدي إلى سيفه وجردت السيف، فلما رأى أن السيف وقع بيدي قال: يا أبا قتادة استحيني، قلت: لا والله، قال: فمن للصبية؟ قلت: النار، ثم قتلته وأدرجته في بردي، ثم أخذت ثيابه فلبستها، ثم استويت على فرسه، فإن فرسي نفرت حيث تعالجنا، وذهبت للقوم فعرقبوها، ثم ذهبت خلق القوم فحملت على ابن أخيه فدققت صلبه، فانكشف من معه عن اللقاح، فحبست اللقاح برمحي وجئت أحرسها، فقال رسول الله ﷺ: أفلح وجهك يا أبا قتادة، أي فقلت: ووجهك يا رسول الله، قال رسول الله «أبو قتادة سيد الفرسان، بارك الله فيك يا أبا قتادة وفي ولدك وولد ولدك» وفي لفظ «وفي ولد ولدك» ا هـ «أي وقال له ما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهم أصابني، فقال ادن مني فنزع السهم نزعا رفيقا، ثم بزق فيه ووضع راحته عليه، فوالذي أكرمه بالنبوة ما ضرب عليّ ساعة قط
ولا قرح عليّ، وفي رواية «ولا قاح» وفي لفظ «قال لي: قتلت مسعدة؟ قلت نعم، ثم قال يدعو لأبي قتادة: اللهم بارك في شعره وبشره» فمات أبو قتادة «رضي الله ع» وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة «أي وأعطاه فرس مسعدة وسلاحه أي كما تقدم، وقال بارك الله لك فيه» وهذا السياق يدل على أن أبا قتادة «رضي الله ع» انفرد عن الصحابة وتقدمهم، وتخلف مسعدة عن قومه مدة مصارعة أبي قتادة له وقتله، ولا مانع من ذلك، وقيل استنقذوا نصف اللقاح، أي عشرة وفيها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر، وأفلت القوم بالعشرة الأخرى. أي ولا ينافيه ما تقدم من قول أبي قتادة: فانكشفوا عن اللقاح وجئت أحرسها، لأن المراد جملة من اللقاح، لكنه مخالف لما تقدم عن سلمة «رضي الله ع» من قوله: ما زلت أرشقهم؟ يعني القوم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه فليتأمل، وسار رسول الله ﷺ حتى نزل بالجبل من ذي قرد بناحية خيبر وتلاحق به الناس، أي وقال له سلمة بن الأكوع يا رسول الله إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بقي في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم.
أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم من قوله حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه، لجواز أن يكون صدر عنه ما تقدم لظنه أن ذلك هو جميع اللقاح التي أخذت، ثم تحقق أن الذي استنقذه هو وأبو قتادة جملة منها، وما في البخاري من قوله «واستنقذوا اللقاح كلها» يجوز أن يكون قائل ذلك ظن أن الذي استنقذ من أيدي القوم هو جميع ما أخذوه من اللقاح، كما أن سلمة «رضي الله ع» اعتقد أن جميع اللقاح التي أخذت هي التي جعلها خلف ظهره كما تقدم فكل من سلمة وأبي قتادة خلف نصف اللقاح التي هي العشرة التي خلصت من أيدي القوم.
وفي رواية عن سلمة قال «قلت يا رسول الله ابعث معي فوارس لندرك القوم، فقال لي رسول الله بعد أن ضحك: ملكت فأسجح» أي فارفق، والمعنى قدرت فاعف، وإنما كانوا عطاشا لأن سلمة «رضي الله ع» ذكر أنه تبعهم إلى قبيل غروب الشمس، إلى أن عدلوا إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، فنحاهم: أي طردهم عنه ومنعهم الشرب منه، وتركوا فرسين وجاء بهما سلمة «رضي الله ع» يسوقهما إلى رسول الله، ولعل هذا كان من سلمة «رضي الله ع» بعد أن رجعت الصحابة عنهم واستمر يتبعهم، وقال له شخص: يا رسول الله القوم الآن يغبقون بأرض غطفان، أي يشربون اللبن بالعشي الذي هو الغبوق، فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا، ولما نزل بالمحل المذكور لم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله ﷺ ومكث يوما وليلة، أي وعن سلمة «رضي الله ع»: وأتاني عمي عامر بن الأكوع بسطيحة فيها ماء وسطيحة فيها لبن فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله ﷺ الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كلّ شيء استنقذته منهم، ونحر لهم بلال «رضي الله ع» ناقته.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون ذهب إلى الماء بعد أن كان مكثه بالجبل المذكور، وصلى بالناس صلاة الخوف، أي لخوف أن العدو يجيء إليهم، ولعل هذه هي صلاة بطن نخل، وهي على ما رواه الشيخان «أنه جعل القوم فرقتين، وصلاها مرتين كل مرة بفرقة والأخرى تحرس» أي تكون في وجه العدو، أي في المحل الذي يظن مجيئهم منه، وذلك كان لغير جهة القبلة، وإلا فالعدو لم يكن يمر أي منهم وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن.
أقول: لكن رأيت في الإمتاع «وصلى رسول الله ﷺ يومئذٍ صلاة الخوف، فقام إلى القبلة، وصفّ طائفة خلفه وطائفة مواجهة العدو، وصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجد سجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون، فصلى بهم ركعة وسجد سجدتين وسلم، فكان لرسول الله ﷺ ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة» ولا يخفى أن هذه الكيفية هي صلاة عسفان، والله أعلم.
ولما أصبح قال «خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة «رضي الله ع»».
وعند خروجه وتلاحق بعض الفرسان به؛ قال لأبي عياش «لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك للحق بالناس، قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله إني أفرس الناس، قال أبو عياش: فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت لذلك، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها وكانوا خمسمائة، وقيل سبعمائة. وبعث سعد بن عبادة «رضي الله ع» بأحمال تمر وبعشر جزائر، فوافت رسول الله ﷺ بذي قرد، أي وقال: اللهم ارحم سعدا وآل سعد، نعم المرء سعد بن عبادة، فقالت الأنصار: هو سيدنا وابن سيدنا، من بيت يطعمون في المحل، ويحملون الكل، ويحملون عن العشيرة، فقال رسول الله ﷺ: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين» وأقبلت امرأة أبي ذر «رضي الله ع» على ناقة من إبل رسول الله، أي من جملة اللقاح وهي القصوى، أفلتت من القوم فطلبوها فأعجزتهم، وفي لفظ: وانفلتت المرأة من الوثاق ليلا فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى انتهت إلى العضباء، فلم ترغ فقعدت على عجزها ثم زجرتها وعلموا بها فطلبوها فأعجزتهم، ونذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحرنها، فلما أخبرت النبي ﷺ الخبر، قالت: يا رسول الله قد نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، أي وآكل من كبدها وسنامها، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: بئسما جزيتها أن حملك: أي لأجل أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين» وفي لفظ «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله تعالى، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة» أي وهذا السياق يدل على أن المرأة قدمت عليه بتلك الناقة قبل قدومه المدينة.
وفي السيرة الهشامية «أنها قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، ثم قالت: يا رسول الله إني نذرت لله» الحديث، وهو يخاف ما يأتي من قوله: ورجع رسول الله ﷺ وهو على ناقته العضباء.
أي ولعل ما في الأوسط للطبراني بسند ضعيف عن النواس بن سمعان «رضي الله ع» «أن ناقة رسول الله ﷺ سرقت، فقال: لئن ردّها الله عليّ لأشكرن ربي، وقد وقعت في حيّ من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها فصبحت المدينة» إلى آخره لا ينافي ما هنا لجواز تعدد الواقعة.
«ورجع رسول الله، وهو على ناقته العضباء مردفا سلمة بن الأكوع «رضي الله ع»، وقد غاب عنها خمس ليال، وأعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل والفارس جميعا» أي مع كونه كان راجلا.
وهذا استدل به من يقول إن للإمام أن يفاضل في الغنيمة، وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وعند مالك وإمامنا الشافعي «رضي الله ع» لا يجوز، ولعله لعدم صحة ذلك عندهما، وتبعت في تقديم هذه الغزوة على غزوة الحديبية الأصل، وهو الموافق لقول بعضهم: أجمع أهل السير على أن غزوة الغابة قبل الحديبية، ولقول أبي العباس شيخ القرطبي صاحب التذكرة والتفسير: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، والشمس الشامي ذكرها بعد الحديبية تبعا لما في صحيح البخاري أنها بعد الحديبية وقبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. ففيه عن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» «فرجعنا: أي من غزوة ذي قرد إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر».
ويؤيده قول الحافظ شمس الدين بن إمام الجوزية: قد وهم جماعة من أصحاب المغازي والسير فذكروا غزوة الغابة قبل الحديبية؛ قال الحافظ ابن حجر: ما في البخاري أصح مما ذكره أهل السير.
قال: ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح، أي في الغابة وقعت مرتين، مرة قبل الحديبية، ومرة بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، أي ويلزم أن يكون في كل كان خروجه، وأن أوّل من علم بأخذ اللقاح سلمة بن الأكوع. ووقع له ولأصحابه ما تقدم، هذا حقيقة التكرار وإلا فهل الذي خرج فيها رسول الله ﷺ ووقع فيها لسلمة ولغيره من الصحابة ما وقع كانت أولا أو ثانيا؟ فليتأمل، ثم رأيت عن الحاكم رحمه الله تعالى أنه ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر أي ثلاث مرات؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها رسول الله ﷺ سنة خمس، والثالثة هي المختلف فيها، أي ومعلوم أن هذه المختلف فيها خرج إليها فليتأمل، والله تعالى أعلم.
غزوة الحديبية
بالتخفيف تصغير حدباء وعلى التشديد عامة الفقهاء والمحدثين؛ وأشار بعضهم إلى أنه لم يسمع من فصيح، ومن ثم قال النحاس: سألت كل من لقيت ممن أثق بعلمه عن الحديبية، فلم يختلفوا في أنها بالتخفيف.
وفي كلام بعضهم: أهل الحديث يشددون، وأهل العربية يخففون. وفي كلام بعض آخر: أهل العراق يشددون؛ وأهل الحجاز يخففون، وهي بئر، وقيل شجرة سمي المكان باسمها، وقيل قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
قال: وسببها أنه رأى في النوم أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر؛ وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وعرّف مع المعرفين انتهى، أي وطاف هو وأصحابه؛ واعتمر وأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، ثم أخبر أصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر، فخرج معتمرا ليأمن الناس: أي أهل مكة ومن حولهم من حربه، وليعلموا أنه إنطما خرج زائرا للبيت ومعظما له.
وكان إحرامه بالعمرة من ذي الحليفة، أي بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين وركب من باب المسجد وانبعثت به راحلته مستقبل القبلة؛ أحرم وأحرم معه غالب أصحابه، ومنهم من لم يحرم إلا بالجحفة، أي وكان خروجه في ذي القعدة، وقيل كان خروجه في رمضان وهو غريب، ولفظ تلبيته «لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
واستعمل على المدينة الشريفة نميلة بن عبدالله الليثي، أي وقيل ابن أم مكتوم، وقيل أبا رهم كلثوم بن الحصين. أي وقيل استخلف أبارهم مع ابن أم مكتوم جميعا، فكان ابن أم مكتوم على الصلاة، وكان أبو رهم حافظا للمدينة، وكان خروجه بعد أن استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب، ممن أسلم غفار ومزينة وجهينة وأسلم ـ القبيلة المعروفة ـ خشية من قريش أن يحاربوه وأن يصدّوه عن البيت كما صنعوا فتثاقل كثير منهم وقالوا أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم، واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم، وأنه ليس لهم من يقوم بذلك، فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم}.
وخرج بعد أن اغتسل ببيته، ولبس ثوبين، وركب راحلته القصوى من عند بابه، وخرج معه أم سلمة وأم عمارة وأم منيع وأم عامر الأشهلية «رضي الله ع»، ومعه المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وأبطأ عليه كثير منهم كما تقدم، وساق معه الهدى سبعين بدنة، أي وقد جللها، أي في ذي الحليفة بعد أن صلى بها الظهر، ثم أشعر منها عدة وهي موجهات للقبلة في الشق الأيمن: أي من سنامها. ثم أمر ناجية بن جندب وكان اسمه ذكوان فغير رسول الله ﷺ اسمه وسماه ناجية لما أنه نجا من قريش. فأشعر ما بقي وقلدهن نعلا نعلا، وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها. والإشعار جرح بصفحة سنامها. والتقليد أن تقلد في عنقها قطعة جلد أو نعل بالية ليعلم أنه هدى فيكف الناس عنه، وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنه عن عشرة، وقيل كانوا أربع عشرة مائة، وقيل خمس عشرة وقيل ست عشرة، وقيل كانوا ألفا وثلاثمائة، وقيل وأربعمائة، وقيل وخمسمائة وخمسة وعشرين، أي وقيل ألف وسبعمائة أي وليس معهم سلاح إلا السيوف في القرب، وقال له عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أتخشى يا رسول الله من ولم تأخذ للحرب عدتها؟ فقال: لست أحب أن أحمل السلاح معتمرا وكان معهم مائتا فرس فأقبلوا نحوه أي في بعض المحالّ، وكان بين يديه ركوة يتوضأ منها، فقال: ما لكم؟ قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نشربه ولا ماء نتوضأ منه إلا ما في ركوتك، فوضع رسول الله ﷺ يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون، أي وفي لفظ: فجعل الماء ينبع من بين أصابعه الشريفة. وفي لفظ آخر: فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه» وفي لفظ آخر «فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه» واستدل به بعضهم على أن الماء خرج من نفس بشرته الشريفة. قال أبو نعيم في الحلية: وهو أعجب من نبع الماء لموسى من الحجر، فإن نبعه من الحجر متعارف معهود، وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد. قال بعضهم:
وإنما لم يخرجه بغير ملابسة ماء في إناء تأدبا مع الله تعالى، لأنه المنفرد بابتداع المعدومات من غير أصل. قال جابر «رضي الله ع»: فشربنا وتوضأنا ولو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
فلما كانوا بعسفان جاء إليه بشر بن سفيان العتكي، أي وقد كان أرسله إلى مكة عينا له، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش؛ وأجلبت ثقيف معهم ومعهم النساء والصبيان. وفي لفظ: يخرجون ومعهم العوذ المطافيل، أي النياق ذوات اللبن التي معها أولادها ليتزودوا بذلك، ولا يرجعون خوف الجوع.
قال السهيلي: أو العوذ جمع عائذ وهي الناقة التي معها ولدها وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها، لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مبروحا فيها لأنها في معنى نامية وزاكية، هذا كلامه: أو العوذ المطافيل النساء معهن أطفالهن، أي أنهم خرجوا بنسائهم معهن أولادهن ليكون أدعى لعدم الفرار.
أي ويجوز أن يكونوا خرجوا بذلك جميعه وقد لبسوا جلود النمر: أي أظهروا العداوة والحقد، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا يدخلها عليهم عنوة أبدا، وهذا خالد ابن الوليد ـ أي «رضي الله ع» لأنه أسلم بعد ذلك ـ في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم، أي وكانت مائتي فرس، أي وقد صفت إلى جهة القبلة، فأمر عباد بن بشر «رضي الله ع» فتقدم في خيله، فقام بازاء خالد وصف أصحابه «رضي الله ع»، أي وحانت صلاة الظهر، فأذن بلال «رضي الله ع» وأقام، فاستقبل رسول الله ﷺ القبلة وصف الناس خلفه فركع بهم وسجد ثم سلم، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟
وفي لفظ قال خالد بن الوليد «رضي الله ع»: قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم: أي التي هي صلاة العصر، وبهذا استدل على أنها الصلاة الوسطى، واستدل له أيضا بأنه كان في أول ما أنزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر ثم نسخ ذلك أي تلاوته بقوله تعالى {والصلاة الوسطى} فنزل جبريل "عليه السلام" بين الظهر والعصر لقوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك} الآيات، وهذا يدل على أنه صلى بهم جميعا حتى عباد بن بشر وأصحابه جميعا الذين قاموا بازاء خالد «رضي الله ع»، وحانت صلاة العصر فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه صلاة الخوف: أي على ما ذكره الله تعالى، فلما جعل المسلمون يسجد بعضهم وبعضهم قائم ينظر إليهم، قال المشركون: لقد أخبروا بما أردناه بهم، ولعل الصلاة هي صلاة عسفان، لأن كراع الغميم بالقرب منه كما تقدّم، وهي على ما رواه مسلم «أنه صفهم صفين وأنه أحرم بهم وركع واعتدل بهم جميعا ثم لما سجد سجد معه الصف الأول سجدتيه وتخلف الصف الثاني في اعتداله للحراسة، فلما قام وقام معه من سجد سجد الصف الثاني ولحقه في القيام وتقدم الصف الثاني وتأخر الصف الأول ثم ركع واعتدل بهم جميعا ثم سجد وسجد معه الصف الثاني الذي تقدم، واستمر الصف الأول الذي تأخر على الحراسة في اعتداله، فلما جلس للتشهد أتموا بقية صلاتهم وجلسوا معه للتشهد، . فتشهد وسلم بهم جميعا» وعلى هذه الصلاة حمل أئمتنا ما جاء: «فرضت الصلاة في الخوف ركعة» أي أنها ركعة مع الإمام ويضم إليها أخرى.
ثم رأيت في الدر المنثور التصريح بأن هذه الصلاة هي صلاة عسفان. عن ابن عياش الزرقي قال «كنا مع النبي ﷺ بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد ابن الوليد «رضي الله ع» وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي ﷺ الظهر، فقالوا: قد كانوا على حالة غرة» الحديث المتقدم.
واشترط أئمتنا في هذه الصلاة، وهي إذا كان العدو في جهة القبلة ولا ساتر أن يكون كل صف مقاوما للعدو وأن كل واحد لاثنين وإلا لم تصح الصلاة لما فيه من التغرير بالمسلمين ولعل صلاته بالصفين كانت كذلك، وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن كصلاة بطن نخل، فعلم أن القرآن لم ينزل إلا بصلاة ذات الرقاع وبصلاة شدة الخوف، ولم أقف على أنه صلى صلاة شدة الخوف وهي أن يلتحم القتال أو لم يأمنوا هجوم العدو.
ولما سمع رسول الله ﷺ بأن قريشا تريد منعه عن البيت قال: أشيروا عليّ أيها الناس، أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا، فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه، أي وفي الإمتاع: فقال المقداد «رضي الله ع» يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون، والله يا رسول الله لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل، فقال رسول الله ﷺ: فامضوا على اسم الله فساروا؛ ثم قال: يا ويح قريش نهكتهم الحرب: أي أضعفتهم. وفي لفظ: أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين: أي كاملين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذين بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفر هذه السالفة: أي وهي صفحة العنق، فهو كناية عن القتل. ثم قال: هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، أي ويقال إنه ناجية بن جندب «رضي الله ع»، فسلك بهم طريقا وعرا. فلما خرجوا منه وقد شق عليهم ذلك وأفضوا إلى أرض سهلة، قال رسول الله ﷺ للناس: قولوا نستغفر الله ونتوب إليه، فقالوا ذلك، فقال: والله إنها: أي قول أستغفر الله للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
ثم إن خالدا «رضي الله ع» لم يشعر بهم إلا وقد نزلوا بذلك المحل، فانطلق نذيرا لقريش.
وقد جاء في تفسير الحطة أنها المغفرة: أي طلب المغفرة: أي اللهم حط عنا ذنوبنا، وهذا هو المناسب لقوله «قولوا نستغفر الله» إلى آخره.
وجاء في تفسيرها أيضا أنها لا إله إلا الله، فلم يقولوا حطة؛ بل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة سوداء استهزاء وجراءة على الله تعالى.
وفي البخاري: فقيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم، أي أطيازهم وقولوا حبة في شعيرة، وقد جاء «أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل، من دخله غفر له الذنوب» أي المذكورة في قوله تعالى {وادخلوا الباب} أي باب أريحاء بلد الجبارين {سجد}: أي خاضعين متواضعين {وقولوا حطة} أي حط عنا خطايانا.
قال بعضهم: فكما جعل الله لبني إسرائيل دخولهم الباب على الوجه المذكور سببا للغفران، فكذا حب أهل البيت سبب للغفران.
ثم أمر رسول الله ﷺ الناس أن يسلكوا طريقا تخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق، فلما كانوا به: أي بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته، أي القصوى، فقال الناس: حل حل، فألحت: أي تمادت واستمرت على عدم القيام، فقالوا: خلأت القصوى: أي حرنت، يقال خلأت الناقة وألخ الجمل بالخاء المعجمة فيهما، وحرن الفرس، فقال رسول الله «ما خلأت وما هو لها بخلق» وفي لفظ: «ما ذاك لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة: أي منعها الله عن دخول مكة: أي علم أن ذلك صدّ له من الله عن مكة أن يدخلها قهرا «والذي نفس محمد بيده لا تدعني قريش اليوم إلى خطة» أي خصلة «يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها» أي وفي رواية «فيها تعظيم حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها» أي من ترك القتال في الحرم، والكفّ عن إراقة الدم «ثم زجرها فقامت، فولى راجعا عوده على بدئه، ثم قال للناس: انزلوا فقالوا: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه، فأخرج سهما من كنانته فأعطاه ناجية بن جندب «رضي الله ع» سائق بدن رسول الله، أو البراء بن عازب «رضي الله ع»، أو خالد بن عبادة الغفاري فنزل في قليب فغرزه في جوفه، فجاش: أي علا وارتفع بالرواء: أي الماء العذب حتى ضرب الناس عليه بعطن» وفي لفظ «حتى صدروا عنها بعطن»: أي حتى رووا ورويت إبلهم حتى بركت حول الماء لأن عطن الإبل مباركها.
قال: ولما نزل رسول الله ﷺ بأقصى الحديبية على ثمد: وهو حفرة فيها ماء من ثمادها قليل الماء يتربضه الناس أي يأخذونه قليلا قليلا، ثم لم يلبث الناس حتى نزحوه فاشتكى الناس إلى رسول الله ﷺ قلة الماء. وفي لفظ: العطش أي وكان الحر شديدا، فنزع سهما من كنانته ودفعه للبراء فقال: اغرز هذا السهم في بعض قليب الحديبية ففعل، والقليب جافّ، فجاش الماء، وقيل دفعه لناجية بن الأعجم.
فعنه «رضي الله ع»، قال: «دعاني رسول الله ﷺ حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته ودفعه إليّ، ودعا بدلو من ماء البئر فجئت به، فتوضأ فمضمض ثم مج الماء في الدلو. ثم قال: انزل بالدلو في البئر وأثر ماءها بالسهم ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني الماء، وفارت كما يفور القدر حتى طمت واستوت بشفيرها، يغترفون من جوانبها حتى نهلوا عن آخرهم، وعلى البئر نفر من المنافقين منهم عبدالله بن أبي ابن سلول، فقال له أوس بن خولي «رضي الله ع»: ويحك يا أبا الحباب، ما آن لك تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيء؟ فقال: إني رأيت مثل هذا فقال له أوس «رضي الله ع»: قبحك الله وقبح رأيك، ثم أقبل: أي عبدالله المذكور إلى رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: يا أبا الحباب أني رأيت؟ أي كيف رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ قال: ما رأيت مثله قط، قال: فلم قلت ما قلت؟ فقال: يا رسول الله استغفر لي، وقال ابنه عبدالله: يا رسول الله استغفر له فاستغفر له. وفي لفظ: كنا مع رسول الله ﷺ بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر نتبرضها» من البرض: هو الماء الذي يقطر قليلا قليلا «فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي ﷺ فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ماشيتنا وركابنا. وفي لفظ: فرفعت إليه الدلو فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول: ثم صب الدلو فيها، فلقد لقيت آخرنا أخرج يثوب خشية الغرق ثم ساحت نهرا» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها.
وقد يقال: لا مانع من وقوع جميع ذلك، لكن يبعد أن يكون ذلك في قليب واحد، قال بعضهم: فلما ارتحلوا أخذ البراء «رضي الله ع» السهم فجف الماء كأن لم يكن هناك شيء.
وفي كلام هذا البعض: أن أبا سفيان قال لسهيل بن عمرو «رضي الله ع»: قد بلغنا أنه ظهر بالحديبية قليب فيه ماء فقم بنا ننظر إلى ما فعل محمد، فأشرفنا على القليب والعين تنبع تحت السهم، فقال: ما رأينا كاليوم قط، وهذا من سحر محمد قليل.
وفيه أن أبا سفيان «رضي الله ع» لم يكن حاضرا في الحديبية، وحمل ذلك على أن ذلك كان من أبي سفيان بعد ارتحاله من الحديبية ينافيه ما قدمه هذا البعض أن عند ارتحالهم من الحديبية رفع السهم وجف القليب، فلما اطمأن رسول الله ﷺ أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح، فكان من كبار مسلمة الفتح في رجال من خزاعة وكانت خزاعة، مسلمها ومشركها لا يخفون عليه شيئا كان بمكة، بل يخبرونه به وهو بالمدينة، وكانت قريش ربما تفطن لذلك، فسألوه ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا؛ وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته.
وفي المواهب أنه قال لبديل ما تقدم من قوله «وإن قريشا قد نهكتهم الحرب إلى آخره» وإن بديلا «رضي الله ع» قال له سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء. وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا: فحدثهم بما قال، هذا كلامه.
والرواية المشهورة أن بديلا ومن معه من خزاعة لما رجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم: أي قابلوهم بما يكرهون، وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة: أي قهرا أبدا، ولا تتحدث بذلك عنا العرب.
أي وفي لفظ أنهم قالوا: أيريد محمد أن يدخلها علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا، والله لا كان هذا أبدا ومنا عين تطرف، ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا، قال: هذا الرجل غادر، أي وفي رواية فاجر، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وكلمه قال له رسول الله ﷺ نحوا مما قال لبديل فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قال له رسول الله.
ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش يومئذٍ، وتقدم عن الأصل أن الأحابيش هم بنو الهون بن خزيمة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزيمة، أي وأنه قيل لهم ذلك، لأنهم تحالفوا تحت جبل بأسفل مكة يقال له حبشي هم وقريش على أنهم يد واحدة على من عاداهم ما سجا ليل، ووضح نهار، وما سار حبشي، فسموا (أحابيش قريش).
فلما رآه رسول الله ﷺ قال: إن هذا من قوم يتألهون، أي يتعبدون ويعظمون أمر الإله. وفي لفظ: يعظمون البدن. وفي لفظ: يعظمون الهدي، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي بضم المهملة أي ناحيته، وأما ضد الطول فبفتح المهملة؛ قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله بكسر الحاء المهملة، موضعه الذي ينحر فيه من الحرم: أي يرجع الحنين، واستقبله الناس يلبون قد شعثوا؛ صاح وقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت أبى الله أن يحج لخم وجذام ونهد وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، هلكت قريش ورب الكعبة، إنما القوم أتوا عمارا أي معتمرين، فقال رسول الله ﷺ: أجل يا أخا بني كنانة.
وقيل إنه بمجرد أن رأى هذا الأمر رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله ﷺ إعظاما لما رأى، فقال لهم في ذلك، أي قال إني رأيت ما لا يحل منعه، رأيت الهدي في قلائده، قد أكل أوباره، أي معكوفا عن محله، والرجال قد شعثوا وقملوا، فقالوا له: اجلس، إنما أنت أعرابي ولا علم لك، أي فما رأيت من محمد مكيدة، فعند ذلك غضب الحليس وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما، والذي نفس الحليس بيده لتخلنّ بين محمد وما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له: مه: أي كف يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ثم بعثوا إلى رسول الله ﷺ عروة بن مسعود الثقفي «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وهذا هو الذي شبهه بعيسى ابن مريم "عليه السلام"، ولما قتله قومه قال «مثله في قومه كصاحب يس?» كما سيأتي ذلك، فقال: يا معشر قريش إني رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، فقالوا صدقت. وهذا يدل على أن ذهاب عروة بن مسعود «رضي الله ع» إنما كان بعد تكرر الرسل من قريش إليه.
وبه يعلم ما في المواهب أن عروة لما سمع قريشا توبيخ بديلا ومن معه من خزاعة، قال: أي قوم، ألستم بالوالد إلى آخره. وفي لفظ: ألستم كالوالد، أي كل واحد منكم كالوالد لي وأنا كالولد له، وقيل أنتم حي قد ولدني، لأن أمه سبيعة بنت عبد شمس، قالوا بلى قال: أو لست بالولد؟ قالوا بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: ما أنت عندنا بمتهم، فخرج حتى أتى رسول الله ﷺ فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد جمعت أوباش: أي أخلاط الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك، أي أصلك وعشيرتك لتفضها بهم، إنها قريش، قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمر يعاهدون الله أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك؛ أي انهزموا غدا. وفي لفظ والله لا أرى وجوها أي عظماء، وإني أرى أسرابا من الناس، خليقا أي حقيقا أن يفرو ويدعوك، وأبو بكر «رضي الله ع» جالس خلف رسول الله، فقال له: اعضض بظر اللات. والبظر. قطعة تبقى في فرج المرأة بعد الختان، وقيل التي تقطعها الخاتنة، أنحن ننكشف عنه؟ قال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابن أبي قحافة، فقال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، أي على هذه الكلمة التي خاطبتني بها ولكن هذه بها. وفي رواية: والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك بها، وتلك اليد التي كانت لأبي بكر «رضي الله ع» عند عروة، هي أن عروة استعان في خمل دية فأعانه الرجل بالواحد من الإبل والرجل بالاثنين. وأعانه أبو بكر «رضي الله ع» بعشرة إبل شواب، ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله ﷺ وهو يكلمه، أي وهذه عادة العرب أن الرجل يتناول لحية من يكلمه خصوصا عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كأنه إنما لم يمنعه من ذلك استمالة وتأليفا له، والمغيرة بضم الميم وكسرها ابن شعبة واقف على رأس رسول الله ﷺ في الحديد وعليه المغفر، فجعل يقرع يد عروة إذا تناول لحية رسول الله، أي بنعل السيف: وهو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها، ويقول: اكفف يدك عن وجه، وفي رواية: عن مس لحية رسول الله ﷺ قبل أن لا تصل إليك فإنه لا ينبغي لمشرك ذلك؛ وإنما فعل ذلك المغيرة «رضي الله ع» إجلالا لرسول الله، ولم ينظر لما هو عادة العرب، فيقول للمغيرة: ويحك ما أفظك وما أغلظك، أي وما أشدّ قولك. وفي رواية: فلما أكثر عليه غضب عروة وقال: ويحك ما أفظك وما أغلظك، ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك، والله إني لا أحسب فيكم ألأم منه ولا شرّ منزلة، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، أي لأن عروة كان عم والد المغيرة، فالمغيرة يقول له يا عم، لأن كل قريب من جهة الأب يقال له عم، وليس في الصحيح لفظ ابن أخيك فقال: أي غدر: أي يا غادر، وهل غسلت غدرتك. وفي لفظ سوأتك وفي لفظ: ألست أسعى في غدرتك إلا بالأمس، وفي لفظ: يا غدر، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلا بالأمس، وقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر.
قيل أراد عروة بذلك أنه الذي ستر غدر المغيرة بالأمس، لأن المغيرة «رضي الله ع» قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف، وفد هو وإياهم مصر على المقوقس بهدايا قال وكنا سدنة اللات: أي خدامها، واستشرت عمي عروة في مرافقتهم فأشار عليّ بعدم ذلك، قال: فلم أطع رأيه، فأنزلنا المقوقس في كنيسة للضيافة ثم أدخلنا عليه، فقدموا الهدية له، فاستخبر كبير القوم عني، فقال ليس منا، بل من الأحلاف فكنت أهون القوم عليه، فأكرمهم وقصر في حقي، فلما خرجوا لم يعرض عليّ أحد منهم مواساة فكرهت أن يخبروا أهلنا بإكرامهم وازدراء الملك بي، فأجمعت قتلهم، ونزلنا محلا فعصبت رأسي، فعرضوا عليّ الخمر فقلت رأسي تصدع، ولكن أسقيكم فسقيتهم وأكثرت لهم بغير مزج حتى همدوا، فوثبت عليهم فقتلتهم جميعا، وأخذت كل ما معهم، وقدمت على النبي ﷺ في مسجده، فسلمت عليه وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال: الحمد لله الذي هداك للإسلام يا مغيرة، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: من مصر قدمت؟ قلت نعم، قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك؟ لأهم من بني مالك، فقلت: كان بيني وبينهم ما يكون بين العرب وقتلتهم، وجئت بأسلابهم ليخمسها النبي ﷺ أو يرى فيها رأيه، فقال النبي ﷺ: أما إسلامك فقبلته ولا آخذ من أموالهم شيئا ولا أخمسه، فإنه غدر والغدر لا خير فيه، فقلت: يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت، فقال «الإسلام يجبّ ما قبله».
قال: وبلغ ذلك ثقيفا، فتداعوا للقتال واصطلحوا على أن يحمل عمي عروة ثلاث عشرة دية.
وفي رواية لما وردوا على المقوقس أعطى كل واحد منهم جائزة ولم يعط المغيرة شيئا فحقد عليهم، فلما رجعوا نزلوا منزلا وشربوا خمرا، ولما سكروا وناموا وثب عليهم المغيرة فقتلهم وأخذ أموالهم وجاء وأسلم، فاختصم بنو مالك مع رهط المغيرة، وشرعوا في المحاربة، فسعى عروة في إطفاء نار الحرب وصالح بني مالك على ثلاث عشرة دية ودفعها عروة.
ولما أسلم المغيرة قال له النبي «أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء» وفيه أن هذا مال حربي قصد أخذه والتغلب عليهم، إلا أن يقال هؤلاء مؤمنون منه، لأنهم اطمأنوا إليه.
أي ويذكر أن المغيرة بن شعبة هذا «رضي الله ع» كان من دهاة العرب، وأحصن في الإسلام ثمانين امرأة، ويقال ثلاثمائة امرأة، وقيل ألف امرأة.
قيل لإحدى نساء المغيرة إنه لدميم أعور، فقالت: هو والله عسيلة يمانية في ظرف سوء.
ولما ولي «رضي الله ع» الكوفة أرسل يخطب بنت النعمان بن المنذر، فقالت لرسوله: قل له ما قصدت إلا أن يقال تزوّج المغيرة الثقفي بنت النعمان بن المنذر، وإلا فأيّ حظ لشيخ أعور في عجوز عمياء، وهذه هي القائلة لسعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» لما وفدت عليه وهو والي الكوفة وأكرمها في دعائها له: ملكتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك السبب في عودها إليه، إنما يكرم الكريم الكريم. والمغيرة بن شعبة «رضي الله ع» أوّل من حيا سيدنا عمر «رضي الله ع» بأمير المؤمنين.
وعند مجيء عروة أخبر بما أخبر به من تقدّم من أنه لم يأت لحرب، فقام من عند رسول الله ﷺ وقد رأى ما يصنع به أصحابه. لا يتوضأ: أي يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه؛ أي كادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه: أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه أي وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه تعظيما له، فقال: يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع أني أخاف أن لا تنصروا عليه، فقالت له قريش: لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور، ولكن نرده عامنا هذا ويرجع إلى قابل، فقال: ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة، ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف.
وعروة هذا هو ابن مسعود الثقفي، وهو عظيم القريتين الذي عنته قريش بقولها {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} وقيل المعنيّ بذلك الوليد بن المغيرة.
ويقال إن عروة هذا كان جدا للحجاج لأمه. ويدل لذلك كما يدل للأوّل ما حكى عن الشعبي أنه سأل الحجاج وهو والي العراق حاجة فاعتل عليه فيها، فكتب إليه: والله لا أعذرك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين.
ودعا رسول الله ﷺ خراش بن أمية الخزاعي «رضي الله ع»، فبعثه إلى قريش، وحمله على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله، أي عقره عكرمة بن أبي جهل، وأسلم بعد ذلك «رضي الله ع»، وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله ﷺ وأخبره بما لقي. ثم دعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب «رضي الله ع» ليبعثه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إنما أخاف قريشا على نفسي، وما بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان «رضي الله ع»، أي فإن بني عمه يمنعونه. فدعا رسول الله ﷺ عثمان بن عفان «رضي الله ع»، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه لم يأت إلا زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته، أي ولعل ذكر أبي سفيان من غلط بعض الرواة، لما تقدّم أنه لم يكن حاضرا بالحديبية: أي صلحها، وأمر عثمان أن يأتي رجالا مسلمين بمكة ونساء مسلمات ويدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله وشيك: أي قريب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإيمان.
وذكر بعضهم أنه بعث عثمان «رضي الله ع» بكتاب لقريش: أي قيل فيه إنه ما جاء لحرب أحد، وإنما جاء معتمرا بدليل ما يأتي في ردّهم عليه. وقيل فيه ما وقع بين النبي ﷺ وسهيل بن عمر، وليقع الصلح بينهم على أن يرجع في هذه السنة الحديث، وأنهم لما احتبسوه أمسك سهيل بن عمرو عنده كذا في شرح الهمزية لابن حجر، وقدمه على الأوّل فليتأمل.
فخرج عثمان بن عفان «رضي الله ع» إلى مكة، ودخل مكة من الصحابة عشرة أيضا بإذن رسول الله، أي ليزوروا أهاليهم لم أقف على أسمائهم، ولم أقف على أنهم هل دخلوا مع عثمان أم لا فلقيه قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد بن العاص «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك قبل خيبر، فأجاره حتى يبلغ رسالة رسول الله، وجعله بين يديه، فجاء إلى أبي سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، أي وهم يردّون عليه إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا، فلما فرغ عثمان من تبليغ رسالة رسول الله ﷺ قالوا له: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. وفي رواية: قال له أبان إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله.
قال: وقال المسلمون: قد خلص عثمان إلى البيت فطاف به دوننا، فقال رسول الله ﷺ: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون، وقال: وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص إليه، قال: ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف، لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف به حتى أطوف، فلما رجع عثمان وقالوا له في ذلك: أي قالوا له طفت بالبيت، قال بئسما ظننتم بي، دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت، والذي نفسي بيده لو مكثتُ بها معتمرا سنة ورسول الله ﷺ مقيما بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله ﷺ ا هـ.
وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام، فبلغ رسول الله ﷺ أن عثمان «رضي الله ع» قد قتل، أي وكذا قتل معه العشرة رجال الذين دخلوا مكة أيضا؛ فقال عند بلوغه ذلك: لا نبرح حتى نناجز القوم: أي نقاتلهم، ودعا رسول الله ﷺ الناس إلى البيعة، أي بعد أن قال لهم: إن الله أمرني بالبيعة. فعن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع»: بينما نحن جلوس قائلون إذ نادى منادي رسول الله، أي وهو عمر بن الخطاب: أيها الناس البيعة البيعة، نزل روح القدس فاخرجوا على اسم الله، فسرنا إلى رسول الله ﷺ وهو تحت شجرة فبايعناه، أي وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة، وهذا هو المراد بما جاء في بعض الروايات، فبايعناه على الموت ولم يتخلف منا أحد إلا الجدّ بن قيس، قال: لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس. وقد قيل إنه كان يرمي بالنفاق، وقد نزل في حقه في غزوة: أي غزوة تبوك من الآيات ما يدل على ذلك كما سيأتي، وهو ابن عمة البراء بن معرور «رضي الله ع»، وكان سيد بني سلمة بكسر اللام في الجاهلية، وقد قال لبني سلمة: «من سيدكم؟ قالوا الجدّ بن قيس: أي على بخل فيه قال: وأيّ داء أدوأ من البخل؛ ثم قال: بل سيدكم عمرو بن الجموح. وقيل قالوا: يا رسول الله من سيدنا؟ قال: سيدكم بشر بن البراء بن معرور «وهذا قال ابن عبد البر إن النفس إليه أميل.
ومما يدل للأوّل ما أنشده شاعر الأنصار «رضي الله ع» من قوله:
وقال رسول الله والحق قوله ** لمن قال منا من تسموه سيدا
فقالوا له جد بن قيس على التي ** نبخله فيها وإن كان أسودا
فتى ما يخطي خطوة لدنيئة ** ولا مد يوما ما إلى سوأة يدا
فسود عمرو بن الجموح لجوده ** وحق لعمرو بالندى أن يسودا
إذا جاءه السؤال أنهب ماله ** وقال خذوه إنه عائد غدا
ولو كنت يا جد بن قيس على التي ** على مثلها عمرو لكنت المسوّدا
أي وبايع عن عثمان فوضع يده على يده: أي وضع يده اليمني على يده اليسرى، وقال: اللهم إن هذه عن عثمان فإنه في حاجتك وحاجة رسولك. أي وفي لفظ قال: اللهم إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله فأنا أبايع عنه، فضرب بيمينه شماله، وما ذاك إلا أنه علم بعدم صحة القول بأن عثمان قد قتل، أو أن ذلك كان بعد مجىء الخبر له بأن القول بقتل عثمان رضى الله عنه باطل.
وفيه أنه حيث علم أن عثمان لم يقتل لا معنى للبيعة، لأن سببها كما علمت بلوغه الخبر أن عثمان قد قتل.
إلا أن يقال: سببها ما ذكر، وقتل العشرة من الصحابة، ويدل لذلك ما يأتي قريبا أن عثمان «رضي الله ع» بايع بعد مجيئه من مكة فليتأمل، أي وبهذا يرد ما تمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي كرم الله وجهه على عثمان «رضي الله ع»، لأن عليا كان من جملة من بايع تحت الشجرة، وقد خوطبوا بقوله «أنتم خير أهل الأرض» فإنه صريح في تفضيل أهل الشجرة على غيرهم.
وأيضا عليّ حضر بدرا دون عثمان، وقد جاء مرفوعا «لا يدخل النار من شهد بدرا أو الحديبية».
وحاصل الرد أن النبي ﷺ بايع عن عثمان مع الاعتذار عنه بأنه في حاجة الله وحاجة رسوله، وخلف رسول الله ﷺ عثمان «رضي الله ع» عن بدر لتمريض بنته، وأسهم له كما تقدم، فهو في حكم من حضرها، على أنه سيأتي أنه «رضي الله ع» بايع تحت تلك الشجرة بعد مجيئه من مكة، واستدل بقوله «أنتم خير أهل الأرض» على عدم حياة الخضر "عليه الصلاة والسلام حينئذٍ، لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه، وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، وقد أشار إلى امتناع عثمان «رضي الله ع» من الطواف وإلى عدم صحة القول بأن عثمان قتل وإلى مبايعته عنه صاحب الهمزية بقوله رحمه الله:
وأبى أن يطوف بالبيت إذ لم ** يدن منه إلى النبي فناء
فجزته عنها بيعة رضوا ** ن يد من نبيه بيضاء
أدب عنده تضاعفت الأعـ ** ـمال بالترك حبذا الأدباء
أي وامتنع «رضي الله ع» أن يطوف بالبيت لأجل أنه لم يقرب إلى النبي ﷺ من البيت جانب، فجزته عن تلك الفعلة، وهي ذهابه إليهم وامتناعه من الطواف يد من نبيه "عليه الصلاة والسلام تلك اليد البالغة في الكرم، وذلك في بيعة الرضوان، وذلك أدب عظيم عند عثمان «رضي الله ع» حصل منه أمر عظيم مستغرب هو تضاعف ثواب الأعمال التي تركها بسبب تركها، وهي الطواف.
وذكر أن قريشا بعثت إلى عبدالله بن أبي ابن سلول إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل، فقال له ابنه عبدالله «رضي الله ع»: يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن، تطوف ولم يطف رسول الله ﷺ فأبى حينئذٍ، وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله.
وفي لفظ قال: إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فلما بلغ رسول الله ﷺ امتناعه «رضي الله ع» أثنى عليه بذلك.
وكانت البيعة تحت شجرة هناك، أي من أشجار السمر. أي ولما جاء عثمان «رضي الله ع» بايع تحت تلك الشجرة، وقيل لها بيعة الرضوان، أي لأنه قال: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» رواه مسلم وكانوا ألفا وأربعمائة على الصحيح.
وجاء أنه قال «يا أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية» وتقدم أن الواو بمعنى أو في حديث «لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية» بدليل رواية مسلم هذه.
ومن ثم قال ابن عبد البر رحمه الله: ليس في غزواته ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية. والراجح تقديم غزوة أحد على غزوة الحديبية، وأنها التي تلي بدرا في الفضيلة. وأول من بايعه سنان بن أبي سنان الأسدي، كذا في الأصل أنه الصواب بعد أن حكى أن أول من بايع أبو سنان، أي وهو ما ذهب إليه في الاستيعاب حيث قال: الأكثر الأشهر أن أبا سنان أول من بايع بيعة الرضوان، أي لا ابنه سنان، وأبو سنان هذا هو أخو عكاشة بن محصن «رضي الله ع»، وكان أكبر من أخيه عكاشة بعشرين سنة. وضعفه في الأصل بأن أبا سنان «رضي الله ع» مات في حصار بني قريظة ودفن بمقبرتهم، أي كما تقدم.
ولما بايعه سنان قال للنبي: أبايعك على ما في نفسك، قال: وما في نفسي؟ قال: أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل، وصار الناس يقولون له: نبايعك على ما بايعك عليه سنان.
وقيل أول من بايع عبدالله بن عمر «رضي الله ع»، وقيل سلمة بن الأكوع.
قال: وذكر أن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» بايع ثلاث مرات: أول الناس، ووسط الناس، وآخر الناس بأمره له في الثانية والثالثة بعد قول سلمة له: قد بايعت، فيقول له رسول الله ﷺ: وأيضا، وذلك ليكون له في ذلك فضيلة، أي لأنه أراد أن يؤكد بيعته لعلمه بشجاعته وعنايته بالإسلام وشهرته في الثبات، أي بدليل ما وقع له «رضي الله ع» في غزوة ذي قرد بناء على تقدمها على ما هنا أو تفرس فيه ذلك بناء على تأخرها وبايع عبدالله بن عمر «رضي الله ع» مرتين.
أي وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى {لا تحلوا شعائر الله} الآية أن المسلمين لما صدوا عن البيت بالحديبية، مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال المسلمون: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله تعالى الآية: أي لا تصدوا هؤلاء العمار أن صدكم أصحابهم.
قال: وكان محمد بن مسلمة «رضي الله ع» على حرس رسول الله ﷺ فبعثت قريش أربعين، وقيل خمسين رجلا عليهم مكرز بن حفص، أي وهو الذي بعثته قريش له ليسأله فيما جاء، وقال في حقه: هذا رجل غادر، وفي لفظ: رجل فاجر، ليطوفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليلا رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يجدوا منهم غرة: أي غفلة، فأخذهم محمد بن مسلمة «رضي الله ع» إلا مكرزا فإنه أفلت، وصدق فيه قول النبي ﷺ إنه رجل فاجر أو غادر كما تقدم، وأتى بهم إلى رسول الله ﷺ فحبسوا، وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة، وقتل من المسلمين ابن زنيم «رضي الله ع»، رمي بسهم. فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا.
وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله ﷺ جمعا، منهم سهيل بن عمرو، فلما رآه النبي ﷺ قال لأصحابه: سهل أمركم، فقال سهيل: يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك، أي عثمان والعشرة رجال وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولا وثانيا، فقال رسول الله ﷺ: إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي، فقالوا نفعل، فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم وهو عثمان والعشرة رجال، فأرسل رسول الله ﷺ أصحابهم انتهى.
ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا، وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل، فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس، فبعثوا سهيل بن عمرو أي ثانيا ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى إلى رسول الله ﷺ ليصالحوه على أن يرجع في عامه هذا، لئلا تتحدث العرب بأنه دخل عنوة أي وأنه يعود من قابل، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول الله ﷺ مقبلا قال: أراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل، أي فلما انتهى سهيل إلى رسول الله ﷺ جثا على ركبتيه بين يديه والمسلمون حوله جلوس وتكلم فأطال، ثم تراجعا، أي ومن جملة ذلك أن النبي ﷺ قال له تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، فقال له سهيل: والله لا تتحدث العرب بنا أنا أخذنا ضغطة بالضم: أي بالشدة والإكراه، ولكن ذلك من العام القابل، ثم التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال إلى آخر ما يأتي، ولم يبق إلا الكتاب بذلك.
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب «رضي الله ع» فأتى أبا بكر «رضي الله ع»، فقال له يا أبا بكر أليس هو برسول الله؟ قال بلى، قال: أو لسنا بالمسلمين؟ قال بلى، قال: أو ليسوا بالمشركين؟ قال بلى؛ قال: فعلام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء: النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا؛ فقال له أبو بكر «رضي الله ع»: يا عمر الزم غرزة: أي ركابه، وفي رواية أنه قال له: أيها الرجل إنه رسول الله ﷺ وليس يعصي ربه وهو ناصره، استمسك بغرزه حتى تموت، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر «رضي الله ع»: وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى عمر «رضي الله ع» رسول الله ﷺ فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال له النبي ﷺ: أنا عبدالله ورسوله، لن أخالف أمره ولم يضيعني.
ولقي عمر «رضي الله ع» من ذلك الشروط الآتي ذكرها أمرا عظيما، وجعل يردّ على رسول الله ﷺ الكلام حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح «رضي الله ع»: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله ﷺ يقول ما يقول، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى قال له رسول الله ﷺ: يا عمر إني رضيت وتأبى؟ فكان عمر «رضي الله ع» يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون هذا خيرا.
هذا، والذي في الإمتاع عكس ما هنا: أي أنه قال ما ذكر لرسول الله ﷺ أولا، ثم لأبي بكر ثانيا، ثم دعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أي بعد أن كان أمر أوس بن خولة أن يكتب، فقال له سهيل: لا يكتب إلا ابن عمك عليّ أو عثمان بن عفان، فأمر عليا كرم الله وجهه، فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا: أي الرحمن الرحيم، ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها لأن قريشا كانت تقولها. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، ومنه تعلموها، وتعلمها هو من رجل من الجن في خبر ذكره المسعودي، أي وإنما كتبها بعد أن قال المسلمون: والله لا يكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فضج المسلمون.
وعن الشعبي رحمه الله: كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم، فكتب النبي أول ما كتب باسمك اللهم، وتقدم أنه كتب ذلك في أربع كتب حتى نزلت {بسم الله مجريها ومرساها} فكتب باسم الله، ثم نزلت {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} أي فكتبها وهذا السياق يدل على تأخر نزول الفاتحة عن هذه الآيات، لأن البسملة نزلت أولها، وتقدم الخلاف في وقت نزولها فليتأمل، ثم قال «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل بن عمرو: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت، ولكن اكتب باسمك واسم أبيك» أي وفي لفظ «لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبدالله؟ فقال رسول الله ﷺ لعلي كرم الله وجهه: امحه» وفي لفظ «امح رسول الله، فقال علي كرم الله وجهه: ما أنا بالذي أمحاه، وفي لفظ: لا أمحوك، وفي لفظ: والله لا أمحوك أبدا، فقال: أرنيه، فأراه إياه، فمحاه رسول الله ﷺ بيده الشريفة، وقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو، وقال: أنا والله رسول الله وإن كذبتموني، وأنا محمد بن عبدالله» وفي لفظ «فجعل عليّ يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله، فقال له: اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد»: أي مقهور.
وهو إشارة منه لما سيقع بين عليّ ومعاوية «رضي الله ع» فإنهما في حرب صفين وقعت بينهما المصالحة على ترك القتال إلى رأس الحول. وكان القتال في صفر دام مائة يوم وعشرة أيام، قتل فيه سبعون ألفا خمسة وعشرون ألفا من جيش علي كرم الله وجهه من جملة تسعين ألفا وخمسة وأربعون ألفا من جيش معاوية من جملة مائة وعشرين ألفا.
فلما كتب الكاتب في الصلح: هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان «رضي الله ع»، قال عمرو بن العاص «رضي الله ع» الذي هو أحد الحكمين: اكتب اسمه واسم أبيه، وأرسل معاوية يقول لعمرو: لا تكتب أن عليا أمير المؤمنين، لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته، فبئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم أقاتله، ولكن اكتب عليّ بن أبي طالب وامح أمير المؤمنين، فقيل له: يا أمير المؤمنين لا تمح إمارة اسم أمير المؤمنين، فإنك إن محوتها لا تعود إليك، فلما سمع علي كرم الله وجهه ذلك، وأمره بمحوها، وقال امحها تذكر قول النبي ﷺ له في الحديبية ما تقدم، ومن ثم قال: الله أكبر مثلا بمثل، والله إني لكاتب رسول الله ﷺ يوم الحديبية إذ قالوا لست برسول الله ولا نشهد لك بذلك، اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبدالله، فقال عمرو بن العاص «رضي الله ع»: سبحان الله أنتشبه بالكفار؟ فقال له علي كرم الله وجهه: يا ابن النابغة: أي العاهرة، ومتى كنت عدوا للمسلمين هل تشبه إلا أمك التي وقعت بك، فقال عمرو: لا يجمع بيني وبينك مجلس أبدا، فقال عليّ كرم الله وجهه: إني لأرجو الله أن يطهر مجلسي منك ومن أشباهك.
وذكر أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة «رضي الله ع» أخذا بيد عليّ كرم الله وجهه، ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم، وضجت المسلمون وارتفعت الأصوات، وجعلوا يقولون: لم نعط هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله ﷺ يخفضهم ويومىء بيده إليهم أن اسكتوا، ثم قال: أرنيه الحديث، وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وقيل سنتين، وقيل أربع سنين، أي وصححه الحاكم ـ تأمن فيه الناس ويكفّ بعضهم عن بعض. أي ويقال لهذا العقد هدنة ومهادنة وموادعة ومسالمة. وقال زيادة على اشتراط الكف عن الحرب على أنه من أتى محمدا من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكرا كان أو أنثى.
قال السهيلي رحمه الله: وفي رد المسلم إلى مكة عمارة للبيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت، فكان هذا من تعظيم حرمات الله، هذا كلامه. ومن أتى قريشا ممن كان مع محمد: أي مرتدا ذكرا كان أو أنثى لم نردّه إليه.
وهذا الثاني يوافق قول أئمتنا معاشر الشافعية يجوز شرط أن لا يردوا من جاءهم مرتدا والأول يخالف قولهم: لا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم، فإن شرط فسد الشرط والعقد، إلا أن يقال هذا ما وقع عليه الأمر أولا ثم نسخ كما سيأتي، وشرطوا أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة: أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة؛ وقيل صدورا نقية من الغلّ والخداع منطوية على الوفاء بالصلح؛ وأنه لا إسلال ولا إغلال: أي لا سرقة ولا خيانة، قال سهيل: وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة؛ وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فتدخلها بأصحابك فأقمت بها ثلاثة؛ أي ثلاثة أيام معك سلاح الراكب، السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرها.
ويقال إنه هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة، وهو ما وقع في البخاري أي أطلق الله يده بالكتابة في تلك الساعة خاصة وعد معجزة له.
قال بعضهم: لم يعتبره أي القول بذلك أهل العلم، ومعنى كتب أمر بالكتابة. وفي النور: وفي كون هذا أي أنه كتب بيده في البخاري فيه نظر، والذي في البخاري: وأخذ رسول الله ﷺ الكتاب ليكتب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد الحديث، أي فلفظة بيده ليست في البخاري، ومع إسقاطها التأويل ممكن. وتمسك بظاهر قوله: فكتب أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله على أنه كتب بيده، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، بأن هذا مخالف للقرآن، فناظرهم واستظهر عليهم بأن هذا لا ينافي القرآن وهو قوله تعالى {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} لأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن، وبعد أن تحققت أميته وتقررت بذلك معجزته، لا مانع من أن يعرف الكتابة من غير معلم فتكون معجزة أخرى ولا يخرجه ذلك عن كونه أميا.
أي وقال إن الذي كتب هذا الكتاب محمد بن مسلمة «رضي الله ع»، وعده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الأوهام.
وجمع بأن أصل هذا الكتاب كتبه علي كرم الله وجهه، ونسخ مثله محمد بن مسلمة «رضي الله ع» لسهيل بن عمرو، أي فإن سهيلا قال: يكون هذا الكتاب عندي، وقال رسول الله ﷺ: بل عندي، فأخذه رسول الله، ثم كتب لسهيل نسخة أخذها عنده. وعند كتابته اشترط أن يردّ إليهم من جاء مسلما، قال المسلمون: سبحان الله كيف نردّ للمشركين من جاء مسلما؟ وعسر عليهم شرط ذلك وقالوا: يا رسول الله أتكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا. وفي لفظ قال عمر: يا رسول الله أترضى بهذا؟ فتبسم وقال: من جاءنا منهم فرددناه إليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أعرض عنا وذهب إليهم فلسنا منه في شيء، وليس منا بل هو أولى بهم.
فبينا رسول الله ﷺ هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة، إذا جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في الحديد: أي يمشي في قيوده متوشحا سيفه، قد أفلت إلى أن جاء إلى رسول الله ﷺ ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فجعل المسلمون يرحبون به ويهنئونه، فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه، وفي لفظ: أخذ غصنا من شجرة به شوك وضرب به وجه أبي جندل ضربا شديدا حتى رق عليه المسلمون وبكوا وأخذ بتلبيبته، وقال: يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ، لقد لجت القضية بيني وبينك، أي وجبت وتمت قبل أن يأتيك هذا، قال: صدقت، فجعل ينثره بتلبيبته ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل «رضي الله ع» يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني؟ ألا ترون ما لقيت، فإنه «رضي الله ع» كان عذب عذابا شديدا على أن يرجع عن الإسلام فزاد الناس ذلك إلى ما بهم، أي فإنهم كانوا لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت للرؤيا التي رآها رسول الله؛ فلما رأوا الصلح وما تحمل عليه رسول الله ﷺ في نفسه داخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون، خصوصا من اشترط أن يردّ إلى المشركين من جاء مسلما منهم، أي وردّ أبي جندل إليهم بعد ضربه، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله أن لا نغدر بهم.
وبهذا استدل أئمتنا على أنه يجوز شرط ردّ من جاءنا منهم مسلما إليهم ولا نرده إليهم إلا إذا كان حرا ذكرا غير صبيّ ومجنون وطلبته عشيرته.
وفي لفظ آخر أن النبي ﷺ قال لسهيل: إنا لم نفضّ الكتاب بعد، فقال: بلى لقد لجت القضية بيني وبينك، أي تمّ العقد فرده. فقال النبي ﷺ فأجره لي؛ فقال: ما أنا مجير ذلك لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، فقال مكرز وحويطب: قد أجرناه لك لا نعذبه.
أي وهذا وما تقدم يخالف قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله إن مجيء أبي جندل كان قبل عقد الهدنة معهم رواه البخاري. وعند ذلك قال حويطب لمكرز: ما رأيت قوما قط أشدّ حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد، أما إني أقول لك: لا تأخذ من محمد نصفا أبدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوة، فقال مكرز: وأنا أرى ذلك.
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب «رضي الله ع» ومشى إلى جنب أبي جندل، أي وأبوه سهيل بجنبه يدفعه، وصار عمر «رضي الله ع» يقول لأبي جندل: اصبر يا أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب، أي ومعك السيف، يعرض له بقتل أبيه، أي وفي رواية إن دم الكافر عند الله كدم الكلب ويدني قائم السيف منه، أي وفي لفظ: وجعل يقول: يا أبا جندل إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فقال له أبو جندل: مالك لا تقتله أنت، فقال عمر: نهانا رسول الله ﷺ عن قتله وقتل غيره، فقال أبو جندل «رضي الله ع» ما أنت أحق بطاعة رسول الله ﷺ مني، فقال عمر «رضي الله ع»: وددت أن يأخذ السيف فيضرب أباه فضنّ الرجل بأبيه.
وفيه كيف يظن عمر حينئذٍ جواز قتله لأبيه حتى يعرض له به، إلا أن يقال ظن ذلك لكونه يريد أن يفتنه عن دينه ويرجع إلى الكفر وإن كان قال له: يا أبا جندل اصبر واحتسب.
ورجع أبو جندل إلى مكة في جوار مكرز بن حفص أي وحويطب، فأدخلاه مكانا وكف عنه أبوه.
وأبو جندل اسمه العاص، وهو أخو عبدالله بن سهيل بن عمرو، وإسلام عبدالله سابق على إسلام أبي جندل، لأن عبدالله شهد بدرا، أي فإنه خرج مع المشركين لبدر، ثم انحاز من المشركين إلى رسول الله، وشهد معه بدرا والمشاهد كلها وأبو جندل «رضي الله ع» أول مشاهده الفتح.
ودخلت خزاعة في عقده وعهده، أي وفي لفظ: ووثب من هناك من خزاعة. فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم.
ويذكر أن حويطبا قال لسهيل: بادأنا أخوالك يعني خزاعة بالعداوة، وكانوا يستترون منا فدخلوا في عهد محمد وعقده، فقال له سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمتنا قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمرا فما نصنع بهم، قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر، قال سهيل إياك أن يسمع هذا منك بنو بكر فإنهم أهل شؤم فيسبوا خزاعة، فيغضب محمد لحلفائه فينقض العهد بيننا وبينه.
ومن هذا التقرير يعلم أن بيعة الرضوان كانت قبل الصلح، وأنها السبب الباعث لقريش عليه.
ووقع في المواهب ما يقتضي أن البيعة كانت بعد الصلح، وأن الكتاب الذي ذهب به عثمان كان متضمنا للصلح الذي وقع بينه وبين سهيل بن عمرو، فحبست قريش عثمان، فحبس سهيلا، ولا يخفى عليك ما فيه.
ولما فرغ رسول الله ﷺ من الصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين: أي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة، أي ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا قام إلى هديه فنحره، ومن جملته جمل لأبي جهل وكان نجيبا مهريا، وكان يضرب في لقاحه في رأسه برة، أي حلقة من فضة، وقيل من ذهب ليغيظ بذلك المشركين، غنمه يوم بدر كما تقدم.
قال: وقد كان فر من الحديبية ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي جهل، وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه، ودفعوا فيه عدة ثياب، فقال رسول الله: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا انتهى.
وفي لفظ قال لهم سهيل بن عمرو: إن تريدوه فاعرضوا على محمد مائة من الإبل، فإن قبلها فأمسكوا هذا الجمل وإلا فلا تتعرضوا له: أي فعرضوا عليه ذلك فأبى، وقال: لو لم يكن هذا الجمل للهدي لقبلت المائة، وفرق لحم الهدى على الفقراء الذين حضروا الحديبية.
وفي رواية أنه بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناجية حتى نحرت بالمروة وقسموا لحمها على فقراء مكة، ثم جلس رسول الله ﷺ فحلق رأسه وكان الحالق لرأسه خراش بن أمية الخزاعي الذي بعثه إلى قريش فعقروا جمله وأرادوا قتله كما تقدم.
فلما رأى الناس رسول الله ﷺ قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة.
وفي كلام بعضهم أي وهو السهيلي أنه لم يقصر غيرهما، ودعا رسول الله ﷺ للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة فقال «اللهم ارحم المحلقين» وفي لفظ «يرحم الله المحلقين» وفي لفظ«اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ فقال: يرحم الله المحلقين أو قال: اللهم ارحم المحلقين أو اللهم اغفر للمحلقين قالوا: والمقصرين فقال: يرحم الله المحلقين والمقصرين» وفي رواية قال «والمقصرين في الرابعة، وقد قالوا له يا رسول الله لم ظاهرت؟ أي أظهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال لأنهم لم يشكوا: أي لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت، بخلاف المقصرين» أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوها بعد طوافهم بالبيت.
وأرسل الله سبحانه وتعالى ريحا عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في الحرم، وفيه أنه تقدم أن الحديبية أكثرها في الحرم، فاستبشروا بقبول عمرتهم.
وفي رواية «أنه بعد فراغه من الكتاب أمرهم بالنحر والحلق قال ذلك ثلاث مرات، فلم يقم منهم أحد، فدخل رسول الله ﷺ على أم سلمة «رضي الله ع»، أي وهو شديد الغضب فاضطجع. فقالت مالك يا رسول الله مرارا وهو لا يجيبها، ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها: هلك المسلمون؛ أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا، وفي لفظ قال: عجبا يا أم سلمة، ألا ترين إلى الناس؟ آمرهم بالأمر فلا يفعلونه، قلت لهم: انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي، فقالت: يا رسول الله لا تلمهم، فإنهم قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه أن يخرج ولا يكلم «أحدا منهم وينحر بدنه ويحلق رأسه، ففعل كذلك: أي أخذ الحربة وقصد هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته: بسم الله والله أكبر، ثم دخل قبة له من أدم أحمر ودعا بخراش فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس وتحاصوه، وأخذت أم عمارة «رضي الله ع» طاقات منه، فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا ثم انصرف قافلا إلى المدينة أي بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يوما؛ وقيل عشرين يوما».
فلما كان بين مكة والمدينة أي بكراع الغميم أنزلت عليه سورة الفتح أي وقال لعمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، وحصل للناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله جهدنا: أي أصابنا الجهد وهو المشقة من الجوع وفي الناس ظهر: أي إبل فانحره لنأكل من لحمه، ولندهن من شحمه، ولنحتذي من جلوده، فقال عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: لا تفعل يا رسول الله، فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل، كيف بنا إذا لاقينا العدو غدا جياعا ورجالا، أي ثم قال: ولكن إن رأيت أن تدعو الناس إلى أن يجمعوا بقايا أزوادهم ثم تدعو فيها بالبركة، فإن الله سيبلغها بدعوتك، فقال رسول الله ﷺ: ابسطوا أنطاعكم وعبائكم ففعلوا، ثم قال: من كان عنده بقية من زاد أو طعام فلينثره، ودعا لهم، ثم قال: قربوا أوعيتكم، فأخذوا ما شاء الله، أي وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله.
وفي مسلم «خرجنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فأخذنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمرنا النبي ﷺ فجمعنا من أزوادنا فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على النطع، فكان كربضة العنز» أي كقدر العنز وهي رابضة أي باركة «وكنا أربع عشرة مائة» وقال الراوي «فأكلنا حتى شبعنا ثم حشونا جربنا، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، والله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجب من النار، وقال لرجل من أصحابه: هل من وضوء» بفتح الواو: وهو ما يتوضأ به «فجاء رجل بإداوة» وهي الركوة «فيها نطفة من ماء» أي قليل من ماء، وقيل للماء نطفة لأنه ينطف أي يصب «فأفرغها في قدح، أي ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء» قال الراوي «فتوضأنا كلنا، أي الأربع عشرة مائة ندغفقهُ دغفقةً» أي نصبه صبا شديدا «ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور، فقال رسول الله ﷺ: فرغ الوضوء» وإلى تكثير الطعام والماء أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله في وصف راحتها الشريفة:
أحييت المرملين من موت جهد ** أعوز القوم فيه زاد وماء
أي حفظت على المحتاجين للزاد والماء حياتهم، فسلموا من موت قحط شديد، أعوز القوم في ذلك القحط زاد وماء. وقال الإمام السبكي في تائيته في تكثير الماء:
وعندي يمين لا يمين بأنّ في ** يمينك وكفا حيثما السحب ضنت
ولما أنزلت عليه سورة الفتح، قال له جبريل "عليه السلام" نهنئك يا رسول الله، وهنأه المسلمون وتكلم بعض الصحابة وقال: ما هذا بفتح، لقد صدونا عن البيت وصدّ هدينا، فقال رسول الله ﷺ لما بلغه ذلك: بئس الكلام بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم، وسألوكم القضية ويربحوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم الله تعالى سالمين مأجورين، فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أحد {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} وأنا أدعوكم في أخراكم ونسيتم يوم الأحزاب {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا} فقال المسلمون: صدق الله ورسوله، فهو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا، وقال له بعض الصحابة: أي وهو عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: يا رسول الله ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا لا، قال: فهو كما قال جبريل "عليه السلام"، فإنكم تأتونه وتطوفون به.
أقول: فيه أنه تقدم أن ذلك كان عن رؤيا لا عن وحي، إلا أن يقال: يجوز أن يكون جاءه الوحي بمثل ما رأى ثم أخبرهم بذلك والله أعلم.
وفي لفظ: لما رأى رسول الله ﷺ وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين وأخبرهم بذلك؛ فلما صدوا قالوا له: أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} الآية.
أقول: ولا يخالف هذا ماتقدّم أن الرؤيا المذكورة كانت بالمدينة، وأنها السبب الحامل على الإحرام بالعمرة، لجواز تكرر الرؤيا، وأن الأولى اقترن بها الوحي.
وذكر بعضهم أنه لما دخل مكة عام القضية وحلق رأسه، قال: هذا الذي وعدتكم، فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال: ادعو لي عمر بن الخطاب فقال: هذا الذي قلت لكم.
ولما كان في حجة الوداع ووقف بعرفة فقال لعمر بن الخطاب «رضي الله ع»: هذا الذي قلت لكم، وفيه أنه لم يتقدم في الرؤيا أنه يأخذ المفتاح، ولا أن يقف بعرفة. إلا أن يقال: يجوز أن يكون أخبر بذلك بعد الرؤيا، وأن المراد من ذلك مجرد دخول مكة؛ والله أعلم.
وأصابهم مطر في الحديبية لم يبلّ أسفل نعالهم، أي ليلا، فنادى منادي رسول الله ﷺ: أن صلوا في رحالكم.
أي ووقع مثل ذلك في حنين أنه أصابهم مثله، فأمر مناديه، أن ينادي: ألا صلوا في رحالكم.
وقال صبيحة ليلة الحديبية لما صلى بهم «أتدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا برحمة الله وفضله فهو مؤمن بالله وكافر بالكواكب، ومن قال مطرنا بنجم كذا؛ وفي رواية: بنوء كذا وكذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي» وهذا عند أئمتنا مكروه لا حرام، أي لأن المراد بالإيمان شكر نعمة الله حيث نسبها إلى الله، والكفر كفران النعمة حيث نسبها لغيره، فإن اعتقد أن النجم هو الفاعل كان الكفر فيه على حقيقته وهو ضد الإيمان، والأوّل إنما نهي عنه لأنه كان من أمر الجاهلية، وإلا فهذا التركيب لا يقتضي أن يكون نوء كذا فاعلا، ومن ثم لو قال مطرنا في نوء كذا: أي في وقت نوء كذا لم يكره. وكان ابن أبي ابن سلول قال: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى، أي وسمي الخريف خريفا، لأنه تخترف فيه الثمار: أي تقطع. والنوء: سقوط نجم ينزل في الغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق من أنجم المنازل، وذلك يحصل في كل ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة النجم المعروف، فإن لها أربعة عشر يوما، قال بعضهم: والأنواء ثمانية وعشرون نوءا: أي نجما، كان العرب يعتقدون أن من ذلك يحدث المطر أو الريح.
وفي الحديث «لو حبس الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله أصبح طائفة منهم به كافرين، يقولون مطرنا بنوء المجرّة» بكسر الميم: نجم يقال هو الدبران.
وعن أبي هريرة «رضي الله ع» «إن الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا».
ونقل عن عمر «رضي الله ع» «أنه قال: مطرنا بنوء كذا» ولعله لم يبلغه النهي عن ذلك حيث قال.
قال العارف بالله ابن عطاء الله: لعل هذا يكون ناهيا لك أيها المؤمن عن التعرّض إلى علم الكواكب واقتراناتها، ومانعا لك أن تدّعي وجود تأثيراتها. واعلم أن لله فيك قضاء لا بد أن ينفذه وحكما لا بدّ أن يظهره، فما فائدة التجسس على غيب علام الغيوب، وقد نهانا سبحانه أن نتجسس على غيبه.
وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها شجرة الرضوان، وبلغ عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أي في خلافته أن ناسا يصلون عندها، فتوعدهم وأمر بها فقطعت: أي خوف ظهور البدعة.
ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدّة، وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر رسول الله، وهي أوّل من هاجر من النساء بعد هجرة رسول الله ﷺ إلى المدينة، وإنها خرجت من مكة وحدها وصاحبت رجلا من خزاعة حتى قدمت المدينة.
وفي الاستيعاب: يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة ولا يعرف لها اسم إلا هذه الكنية، وهي أخت عثمان بن عفان «رضي الله ع» لأمه.
ولما قدمت المدينة دخلت على أم سلمة «رضي الله ع» وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة وتخوّفت أن يردها رسول الله، فلما دخل على أم سلمة أعلمته بها، فرحب بأم كلثوم «رضي الله ع»، فخرج أخواها عمارة والوليد في ردها بالعهد، فقالا: يا محمد أوف لنا بما عاهدتنا عليه. فلم يفعل النبي ﷺ ذلك، أي بعد أن قالت له: يا رسول الله ﷺ أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف، فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي، فنزل القرآن بنقض ذلك العهد بالنسبة للنساء لمن جاء منهم مؤمنا لكن بشرط امتحانهن بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات} أي في مدة هذا العهد والصلح {مهاجرات فامتحنوهن} قال السهيلي رحمه الله: وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزة، ولا هاجرت إلا لله ولرسوله، وفي لفظ: كانت المرأة إذا جاءت للنبي حلفها عمر «رضي الله ع» بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ماخرجت لالتماس دنيا ولا لرجل من المسلمين، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله، فإذا حلفت لم ترد ورد صداقها إلى بعلها.
أي ولما قدم الوليد وعمارة مكة أخبرا قريشا بذلك، فرضوا أن تحبس النساء، ولم يكن لأم كلثوم «رضي الله ع» زوج بمكة، فلما قدمت المدينة زوّجها زيد بن حارثة.
وفي رواية: لما كان بالحديبية جاءته جماعة من النساء المؤمنات مهاجرات من مكة، من جملتهنّ سبيعة بنت الحارث، فأقبل زوجها وهو مسافر المخزومي طالبا لها، وأراد، مشركو مكة أن يردّوهن إلى مكة، فنزل جبريل "عليه السلام" بهذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن} فاستحلف وسبيعة فحلفت، فأعطى زوجها مسافرا ما أنفق عليها، فتزوّجها عمر «رضي الله ع». وهذا السياق يدل على أن الآية الكريمة نزلت بالحديبية، وما قبله يدل على أنها نزلت بالمدينة. وقد يقال: لا مانع من تكرر نزول الآية.
وأما في غير مدة هذا العهد، أي بعد نسخه بفتح مكة فلم تستحلف امرأة جاءت إلى المدينة ولا يرد صداقها إلى بعلها، ومن ثم ذهب أئمتنا إلى أنه إذا شرط رد المسلمة إليهم فسدت الهدنة كما تقدم، ولا يجب دفع المهر للزوج لو جاءت مسلمة، وقوله تعالى {وآتوهم} أي الأزواج {ما أنفقوا} أي من المهور محمول على الندب، والصارف له عن الوجوب كون الأصل براءة الذمة، لأن البضع ليس بمال للكافر.
وفيه أن طلب رد المهور للأزواج كان واجبا في مدة العهد خاصة كما علمت، وأنزل الله تعالى {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} أي نهى المؤمنين عن البقاء على نكاح المشركات فطلق الصحابة «رضي الله ع» كل امرأة كافرة في نكاحهم، حتى إن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» كان له امرأتان فطلقهما يومئذٍ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية، فكان في مدة العهد يرد الرجال ولا يرد النساء، أي بعد امتحانهنّ. فقد جاء إلى النبي ﷺ وهو بالمدينة أبو بصير «رضي الله ع»، وكان ممن حبس بمكة، وكتب في رده أزهر بن عوف «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك وهو من الطلقاء، وهو عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك كتابا، وبعث به رجلا من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى يهديه الطريق، فقدما على رسول الله ﷺ بالكتاب، فقرأه أبيّ «رضي الله ع» على رسول الله، فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فقال النبي ﷺ: يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، . . فانطلق إلى قومك، قال: يا رسول الله أتردني إلى المشركين يفتنونني عن ديني، قال: يا أبا بصير انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق معهما، أي وصار المسلمون «رضي الله ع» يقولون له: الرجل يكون خيرا من ألف رجل يغرونه بالذين معه حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس «رضي الله ع» إلى جدار ومعه صاحباه، فقال أبو بصير «رضي الله ع» لأحد صاحبيه ومعه سيفه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ قال: نعم انظر إليه إن شئت، فاستله أبو بصير «رضي الله ع»، ثم علاه به حتى قتله.
وفي لفظ: إن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل؛ فقال له أبو بصير: أو صارم سيفك هذا؟ قال: نعم فقال: ناولنيه أنظر إليه فناوله؛ فلما قبض عليه ضربه به حتى برد؛ وقيل تناوله بفيه وصاحبه نائم فقطع إساره أي كتافه؛ ثم ضربه به حتى برد؛ فطلب المولى فخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله ﷺ والحصى يطنّ تحت قدميه. وفي لفظ: والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه، أي وأبو بصير في أثره حتى أزعجه؛ قال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا؛ وفي لفظ قد رأى هذا ذعرا؛ فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد، قال له: ويحك مالك؟ قال قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد وإني لمقتول واستغاث برسول الله ﷺ فأمنه؛ فإذا أبو بصير «رضي الله ع» أناخ بعير العامري بباب المسجد؛ ودخل متوشحا السيف، ووثب على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي، فقال له رسول الله ﷺ: اذهب حيث شئت، فقال: يا رسول الله هذا سلب العامري: أي الذي قتلته رحله وسيفه فخمسه، فقال له: إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، ومن ثم قال فقهاؤنا: يجوز رد المسلم إلى الطالب له من غير عشيرته إذا قدر على قهر الطالب والهرب منه.
وعند ذلك ذهب أبو بصير «رضي الله ع» إلى محل من طريق الشام تمر به عيرات قريش؛ واجتمع إليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة؛ أي إنهم لما بلغهم خبره «رضي الله ع»؛ أي وأنه قال في حقه: ويل أمه مسعر حرب؛ أي لو كان معه رجال صاروا يتسللون إليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو «رضي الله ع» الذي رده يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين فارسا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله ﷺ في تلك المدة التي هي زمن الهدنة أي خوف أن يردهم إلى أهليهم، وانضم إليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، فقطعوا مادة قريش لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا أخذوها، حتى كتبت قريش له تسأله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم.
وفي رواية أن قريشا أرسلت أبا سفيان بن حرب «رضي الله ع» في ذلك وأن قريشا قالوا إنا أسقطنا هذا الشرط من الشروط، من جاء منهم إليك فأمسكه في غير حرج، أي وفي لفظ: من أتاه فهو آمن، فإنا أسقطنا هذا الشرط، فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله ﷺ إلى أبي جندل وإلى أبي بصير «رضي الله ع» أن يقدما عليه وأن من معهما من المسلمين يلحقوا ببلادهم وأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش ولا لعيراتهم، فقدم كتاب رسول الله ﷺ عليهما وأبو بصير «رضي الله ع» يموت، فمات وكتاب رسول الله ﷺ في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل «رضي الله ع» مكانه، وجعل عند قبره مسجدا.
وقدم أبو جندل «رضي الله ع» على رسول الله ﷺ مع ناس من أصحابه، ورجع باقيهم إلى أهليهم. وأمنت قريش على عيراتهم وعلمت أصحابه ورضي عنهم الذين عسر عليهم رد أبي جندل إلى قريش مع أبيه سهيل بن عمرو أن طاعة رسول الله ﷺ خير مما أحبوه وأن رأيه أفضل من رأيهم، وعلموا بعد ذلك أن مصالحته كانت أولى، لأنها كانت سببا لكثرة المسلمين، فإن الكفار لما أمنوا القتال اختلطوا بالمسلمين فأثر فيهم الإسلام، فأسلم كثير منهم.
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين أسلموا في سنتي الفتح بناء على أن المدة كانت سنتين أو المعنى سنتين من الصلح: أي من مدته يعدلون الذين أسلموا قبلهما.
قال: وعن بعضهم: أي وهو أبو بكر الصديق «رضي الله ع» أنه كان يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه، والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد. لقد رأيت سهيل بن عمرو «رضي الله ع» بعد إسلامه في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله ﷺ بدنة ورسول الله ﷺ ينحرها بيده، ودعا الحلاق لحلق رأسه فأنظر إلى سهيل كلما يلقط من شعره يضعه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} أي وأن محمدا رسول الله، فحمدت الله وشكرته الذي هداه للإسلام.
وعن كعب بن عجرة «رضي الله ع» قال «كنا مع رسول الله ﷺ بالحديبية ونحن محرمون قد حصرنا المشركون، وكان لي وفرة فجعلت الهوام: أي القُمَّل تتساقط على وجهي، فمرّ بي رسول الله » وفي رواية «ملت إلى رسول الله ﷺ والقُمَّل يتناثر على وجهي» وفي رواية «أتيت النبي ﷺ فقال: اذنه، فدنوت يقول ذلك مرتين أو ثلاثا» وفي رواية «أتى عليّ رسول الله ﷺ زمن الحديبية وأنا أوقد تحت برمة» وفي لفظ «قدر لي، فقال: كأنك تؤذيك هوامّ رأسك؟ قال أجل، قال: احلق واهد هديا، فقال: ما أجد هديا، فقال صم ثلاثة أيام» وفي لفظ «فقال: أيؤذيك هوّام رأسك» وفي لفظ «لعلك آذاك هوامّ رأسك، قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، فأمرني أن أحلق» أي وفي رواية «أصابتني هوامّ في رأسي وأنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية، حتى تخوّفت على بصري، وأنزل الله تعالى هذه الآية {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} أي فحلق {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فقال رسول الله ﷺ: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق» أي زاد في رواية «من زبيب بين ستة مساكين» والفرق بفتح الفاء والراء: ثلاثة آصع، أي زاد في رواية «من تمر، لكل مسكين نصف صاع، أو انسك» أي اذبح «ما تيسر لك» انتهى. زاد في رواية: «أيّ ذلك فعلت أجزأ عنك فحلقت، ثم نسكت».
أي وفي رواية الشيخين «انسك شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين».
قال ابن عبد البر عامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير، وهو نص القرآن، وعليه عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم، وما ورد من الترتيب في بعض الأحاديث لو صح كان معناه الاختيار أولا فأولا.
قال الزمخشري في (سفر السعادة): أمر في علاج القُمَّل بحلق الرأس لتنفتح المسام، وتتصاعد الأبخرة، وتضعف المادة الفاسدة التي يتولد القمل منها.
وذكر في الهدى أن أصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، والاستفراغ، فإلى الأول شرع التيمم خوفا من استعمال الماء. وإلى الثاني شرع الفطر في رمضان في السفر لئلا تتوالى مشقة السفر ومشقة الصوم. وإلى الثالث بحلق رأس المحرم إذا كان به أذى من قمل ليستفرغ المادة الفاسدة والأبخرة الرديئة.
وعند أئمتنا لا بد أن يكون ما يذبحه مجزئا في الأضحية وبعد الحديبية قبل خيبر، وقيل بعد خيبر نزلت آية الظهار {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها}.
وسبب ذلك: أن أوس بن الصامت لا عبادة بن الصامت كما قيل أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه، وفي لفظ: كان به لمم: أي نوع من الجنون. وكان فاقد البصر، قال لزوجته خولة بنت ثعلبة، وفي لفظ: بنت خويلد، وكانت بنت عمه وقد راجعته في شيء فغضب، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي، وكان ذلك في زمن الجاهلية طلاقا: أي كالطلاق في تحريم النساء ثم راودها عن نفسها، فقالت كلا لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى أسأل رسول الله. وفي لفظ: أنه لما قال لها أنت عليّ كظهر أمي أسقط في يده، وقال ما أراك إلا قد حرمت عليّ، انطلقي إلى رسول الله ﷺ فاسأليه، فدخلت عليه وهو يمشط رأسه الشريف، أي عنده ماشطة، أي وهي عائشة «رضي الله ع» تمشط رأسه.
وفي لفظ كان الظهار أشد الطلاق وأحرم الحرام إذا ظاهر الرجل من امرأته لم ترجع إليه أبدا، فأخبرته، فقال لها: ما أمرنا بشيء من أمرك ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي، وأحب الناس إليّ، فقال: حرمت عليه، فقالت أشكو إلى الله فاقتي وتركي إلى غير أحد وقد كبر سني ودق عظمي.
وفي لفظ أنها قالت: اللهم إني أشكو إليك شدّة وحدتي وما شق عليّ من فراقه وما نزل بي وبصبيتي، قالت عائشة «رضي الله ع»: فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقة عليها. وفي لفظ قالت: يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوّجني وأنا ذات مال وأهل، فلما أكل مالي وذهب شبابي ونفضت بطني وتفرق أهلي ظاهر مني، فقال لها رسول الله ﷺ: ما أراك إلا قد حرمت عليه فبكت وصاحت وقالت: أشكو إلى الله فقري ووحدتي وصبية صغارا أن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وصارت ترفع رأسها إلى السماء، فبينما هو قد فرغ من شق رأسه وأخذ في الشق الآخر أنزل الله عليه الآية فسريّ عنه وهو يتبسم، فقال لها مريه فليحرر رقبة، فقالت: والله ما له خادم غيري، قال مريه فليصم شهرين متتابعين، فقالت: والله إنه لشيخ كبير إنه إن لم يأكل في اليوم مرتين يندر بصره: أي لو كان مبصرا، فلا ينافي ما تقدم أنه كان فاقد البصر، قال: فليطعم ستين مسكينا، فقالت: والله ما لنا اليوم وقية، فقال: مريه فلينطلق إلى فلان يعني شخصا من الأنصار أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر يريد أن يتصدق به فليأخذه منه.
وفي رواية: مريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر فليتصدق به على ستين مسكينا وليراجعك، ثم أتته فقصت عليه القصة فانطلق ففعل.
أي وفي لفظ قال رسول الله ﷺ: فأنا سأعينه بفرق من تمر فبكت، وقالت: وأنا يا رسول الله سأعينه بفرق آخر، قال: قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرا.
وفي رواية: لما قال لها: ما أعلم إلا قد حرمت عليه، قالت لها عائشة «رضي الله ع»: وراءك، فتنحت، فلما نزل عليه الوحي وسري عنه قال: يا عائشة أين المرأة؟ قالت: ها هي هذه، قال: ادعيها فدعتها، فقال لها النبي ﷺ: اذهبي فجيئي بزوجك، فذهبت فجاءت به، وأدخلته على النبي ﷺ فإذا هو ضرير البصر، فقير، سيىء الخلق فقال له أتجد رقبة، قال لا. وفي لفظ قال: ما لي بهذا من قدرة، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرة والمرتين والثلاث يغشى عليّ. وفي لفظ إني إذا لم آكل في اليوم مرتين كلّ بصري: أي لو كان موجودا، قال: أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا، إلا أن تعينني بها، فأعانه رسول الله ﷺ فكفر عنه. وفي رواية أنه أعطاه مكتلا يأخذ خمسة عشر صاعا، فقال: أطعمه ستين مسكينا، قال بعضهم: وكانوا يرون أن عند أوس «رضي الله ع» مثلها حتى يكون لكل مسكين نصف صاع. وفيه أنه خلاف الروايات من أنه لا يملك شيئا. فقال: على أفقر مني، فوالذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه مني، فضحك رسول الله ﷺ وقال: اذهب به إلى أهلك، وهذا أوّل ظهار وقع في الإسلام.
ومر عمر «رضي الله ع» بخولة هذه أيام خلافته، فقالت له: قف يا عمر، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها، وأطالت الوقوف، وأغلظت له القول: أي قالت له هيهات يا عمر، عهدتك وأنت تسمي عميرا وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت، فقال لها الجارود: قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر «رضي الله ع»: دعها. وفي رواية فقال له قائل: حبست الناس لأجل هذه العجوز، قال: ويحك، وتدري من هذه؟ قال لا، قال: هذه امرأة قد سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تنقضي حاجتها.
قيل وفي هذه السنة التي هي سنة ست حرمت الخمر، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وقيل حرمت سنة أربع، أي ويدل له ما تقدم من أراقة الخمر وكسر جررها في بني قريظة، وقيل في السنة الثالثة، وقيل إنما حرمت في عام الفتح قبل الفتح.
قال بعضهم: حرمت ثلاث مرات: أي نزل تحريمها ثلاث مرات كان المسلمون يشربونها حلالا، أي لغيره، أما هو فحرمت عليه قبل البعثة بعشرين سنة، فلم تبح له قط.
وقد جاء «أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأصنام شرب الخمر» وتقدم أن جماعة حرّموها على أنفسهم وامتنعوا من شربها، ولا زالت حلالا للناس حتى نزل قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} فعند ذلك اجتنبها قوم لوجود الإثم وتعاطاها آخرون لوجود النفع، أي وكانوا ربما شربوها وصلوا، فلما نزل قوله تعالى {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} امتنع من كان يشربها لأجل النفع من شربها في أوقات الصلاة، ورجع قوم منهم عن شربها حتى في غير أوقات الصلاة، وقالوا: لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة.
وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي كرم الله وجهه، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما: أي وشرابا من الخمر، فأكلنا وشربنا، فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة: أي الجهرية، وقدموني فقرأت { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون} ونحن نعبد ما تعبدون، إلى أن قلت: وليس لي دين وليس لكم دين. ثم نزلت الآية الأخرى الدالة على تحريمها مطلقا وهي {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} إلى قوله {فهل أنتم منتهون} أي ولعل هذه الآية الأخيرة هي التي عناها أنس «رضي الله ع» بقوله كما في البخاري: كنت ساقي القوم الخمر بمنزل أبي طلحة، أي وهو زوج أمه «رضي الله ع»، ونزل تحريم الخمر، فمرّ مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، فقال بعض القوم: قتل قوم: أي في أحد وهي في بطونهم. وفي رواية قالوا: يا رسول الله كيف بمن مات من أصحابنا، وكان شربها، فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} أي لأن ذلك كان قبل تحريمها مطلقا.
وقد جيء لعمر «رضي الله ع» بشخص من المهاجرين الأوّلين قد سكر، فأراد عمر جلده فاستدل على عمر بهذه الآية، فقال عمر لمن حضره ألا تردون عليه، فقال ابن عباس «رضي الله ع»: هذه الآية نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين، ثم استشار عمر «رضي الله ع» عليا كرّم الله وجهه، فأشار عليه أن يجلده ثمانين جلدة: ولعل هذا الشخص هو قدامة بن مظعون، وتقدمت قصته في بدر وتقدّم في ذلك أن الذي ردّ عليه بذلك عمر لا ابن عباس «رضي الله ع» وكذا وقع لأبي جندل «رضي الله ع» مثل ذلك، وأنه أشفق: أي خاف من ذلك، فلما بلغ عمر «رضي الله ع» كتب إليه: إن الذي زين إليك الخطيئة هو الذي حظر: أي منع عليك التوبة {بسم الله الرحمن الرحيم حم? تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب} الآية.
غزوة خيبر
على وزن جعفر، سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال لها خيبر وهو أخو يثرب: أي الذي سميت باسمه المدينة كما تقدم. وفي كلام بعضهم: الخيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل لها خيابر لاشتمالها على الحصون، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثيرة، بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد كما في سيرة الحافظ الدمياطي، ومعلوم أن البريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال.
ولما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية أقام شهرا وبعض شهر: أي ذا الحجة ختام سنة ست. وأقام من المحرم افتتاح سنة سبع أياما؛ قيل عشرين يوما أو قريبا من ذلك، ثم خرج إلى خيبر، أي وهذا ما ذهب إليه الجمهور.
ونقل عن الإمام مالك «رضي الله ع» أن خيبر كانت سنة ست؛ وإليه ذهب الإمام ابن حزم. وفي التعليقة للشيخ أبي حامد أنها كانت سنة خمس. قال الحافظ ابن حجر: وهو وهم، ولعله انتقل من الخندق إلى خيبر.
قال: وقد استنفر من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه، وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا: أي لا تعطوا منها شيئا، ثم أمر مناديا ينادي بذلك فنادى به. قال أنس «رضي الله ع»: وقال رسول الله ﷺ لأبي طلحة وهو زوج أم أنس كما تقدّم حين أراد الخروج إلى خيبر التمسوا غلاما من غلمانكم يخدمني، فخرج أبو طلحة مردفي وأنا غلام قد راهقت، فكان رسول الله ﷺ إذا نزل خدمته فسمعته كثيرا ما يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال ا هـ.
أقول: وهذا السياق يدل على أن أوّل خدمة أنس «رضي الله ع» له حينئذٍ، وهو يخالف ما سبق أن عند قدومه المدينة جاءت به أمه وقالت: هذا ابني، وهو غلام كيس، وكان عمره عشر سنين، وقيل تسع سنين، وقيل ثمان سنين.
ففي مسلم عن أنس قال «جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله ﷺ وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به ليخدمك فادع الله له فقال: اللهم أكثر ماله وولده».
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون إنما قال لأبي طلحة ما ذكر رجاء أن يأتي له بمن هو أقوى من أنس على السفر شفقة على أنس، ومن ثم لم يخرجه معه.
وفيه أنه خرج معه في بدر، فقد جاء «أنه قيل لأنس «رضي الله ع»: أشهدت بدرا مع رسول الله ﷺ فقال: لا أم لك، وأين غبت عن بدر؟ ».
وقد يقال: جاز أن يكون عرض لأنس «رضي الله ع» حين خروجه إلى خبير ما يقتضي الشفقة عليه في عدم إخراجه معه والله أعلم.
واستخلف على المدينة نميلة، وقيل سباع بن عرفطة، أي وصحح وكان الله وعده وهو بالحديبية: أي عند منصرفه منها في سورة الفتح بمغانم بقوله تعالى {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها} أي مغانم خيبر، وخرج معه من نسائه أم سلمة «رضي الله ع»، وقال في سيره لعامر بن الأكوع عم سلمة بن الأكوع «رضي الله ع»: انزل فحدثنا من هناتك، وفي رواية: من هنيهاتك، وفي لفظ: من هنياتك بقلب الهاء الثانية ياء، أي من أراجيزك وأشعارك. وفي لفظ: انزل فحرك بنا الركاب، فقال: يا رسول الله قد تولى قولي: أي الشعر، فقال له عمر «رضي الله ع»: اسمع وأطع، فنزل يرتجز بقوله «رضي الله ع»:
والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا الأبيات
وفي مسلم «اللهم لولا أنت ما اهتدينا» قيل وصوابه في الوزن لا هم، أو يا ألله، أو والله لكن في تلك الأبيات فاغفر فداء لك ما اقتفينا: أي فاغفر ما اكتسبنا، وأصل الاقتفاء الاتباع.
وفي خطاب الباري عز وجل بفداء لك ما لا ينبغي لأنه لا يقال للباري عز وجل فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه متوقع حلوله بالمفدي بالفتح، فيجعل المفدي بالكسر نفسه فداء له من ذلك، فيبذل نفسه عن نفسه.
وأجيب عن ذلك بأن الشاعر لم يرد ذلك، بل أراد أن يبذل نفسه رضاه سبحانه وتعالى.
وعند إنشاده الأبيات المذكورة قال له النبي ﷺ يرحمك ربك، فقال له عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: والله وجبت، أي الشهادة يا رسول الله، لولا: أي هلا أمتعتنا به؟ أي أبقيته لنا لنتمتع به، ومنه أمتعني الله ببقائك: أي هلا أخرت الدعاء له بذلك إلى وقت آخر، لأنه ما قال ذلك لأحد في مثل هذا الموطن إلا واستشهد.
وفي لفظ أن القائل له أسمعنا رجل من القوم. قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه صريحا، وأن رسول الله ﷺ لما سمعه قال: من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، فقتل في هذه الغزاة رجع إليه سيفه فقتله، فإنه أراد أن يضرب به ساق يهودي فجاءت ذبابته في ركبته فمات من ذلك «رضي الله ع» فقال الناس: قتله سلاحه، وفي رواية: قتل نفسه أي فليس بشهيد، . فقال رسول الله ﷺ: إنه لشهيد وصلى عليه والمسلمون. وفي رواية قال سلمة بن الأكوع: يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن أخي عامرا حبط عمله. وفي لفظ: يزعم أسيد بن حضير وجماعة من أصحابك أن عامرا حبط عمله إذ قتل بسيفه، فقال رسول الله ﷺ كذب من قال: أي أخطأ في قوله، وإن له أجرين وجمع بين أصبعيه، وفي رواية إنه لشهيد. وفي لفظ إنه لجاهد مجاهد. وفي لفظ مات جاهدا مجاهدا والجاهد الجادّ في أمره، فلما قام بوصفين كان له أجران، وقيل هو من باب: جاد مجد، وشعر شاعر، فهو تأكيد، وكون عامر أخا سلمة هو خلاف ما تقدم أنه عمه وهو الصحيح المشهور.
قال في النور: ويمكن الجمع بأن يكون عمه من النسب وأخاه من الرضاعة، أي وحينئذٍ يكون هذا محمل قول ابن الجوزي رحمه الله: من الإخوة الذين حدثوا عن رسول الله ﷺ عامر وسلمة ابنا الأكوع.
وفي فتح الباري عن بعض الصحابة: فلما وصلنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب
إذ الحروب أقبلت تلتهب فبرز له عامر «رضي الله ع» يقول:
قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلاح بطل مغامر
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر «رضي الله ع»، فذهب عامر يسفل لمرحب، أي يضربه من أسفل فعاد سيفه على نفسه: أي أصاب عين ركبة عامر فمات من ذلك، الحديث.
وكون عامر ارتجز لرسول الله ﷺ: أي حدا به لا ينافي ما جاء أن البراء ابن مالك كان حسن الصوت وكان يرتجز لرسول الله ﷺ في أسفاره، لأن المراد في غالب أو في بعض أسفاره كما صرح به بعض الروايات.
وجاء أنه قال له: أي للبراء: إياك والقوارير، وهو يدل على أنه كان يرتجز لنسائه، وهو يخالف أن البراء كان حادي الرجال وأنجشة حادي النساء، إلا أن يقال: جاز أن يكون البراء حدا للنساء في بعض الأسفار أو في بعض الأحيان، وأنجشة كان في الغالب.
قال بعضهم: كان أنجشة «رضي الله ع» عبدا أسود، وكان حسن الصوت بالحداء إذا حدا أعنقت الإبل، أي سارت العنق وأسرعت، فلما حدا بأمهات المؤمنين قال له رسول الله ﷺ: يا أنجشة رويدك، رفقا بالقوارير.
ولما أشرف رسول الله ﷺ على خيبر وكان وقت الصبح قال لأصحابه «رضي الله ع» قفوا، ثم قال، أي وفي لفظ قال لهم: قولوا «اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، اقدموا بسم الله» أي وفي لفظ «ادخلوا على بركته تعالى» وكان يقولها لكل قرية دخلها.
أي وجاء أنه لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر، لا إله إلا الله، فقال رسول الله «اربعوا على أنفسكم» أي ارفقوا بأنفسكم، لا تبالغوا في رفع أصواتكم «فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» قال عبدالله بن قيس «رضي الله ع»: «وكنت خلف دابته فسمعني أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقال يا عبدالله بن قيس، قلت لبيك يا رسول الله، قال: ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة؟ قلت بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، قال لا حول ولا قوة إلا بالله».
ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره بأن أصحابه يرفعون أصواتهم بالتلبية. وقد يقال: المنهي عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله «اربعوا عن أنفسكم» أي ارفقوا بها كما تقدم، فلا منافاة.
ولما أبصر عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم قالوا: محمد والخميس: أي الجيش العظيم معه، قيل له الخميس لأنه خمسة أقسام التقدمة والساقة والميمنة والميسرة وهما الجناحين والقلب، وأدبروا هرابا.
قال: وذكر أنه كان بها عشرة آلاف مقاتل، وأنهم كانوا لا يظنون أن رسول الله ﷺ يغزوهم حين بلغهم أن رسول الله ﷺ يغزوهم وهم يخرجون ويصطفون صفوفا ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات.
وذكر أن عبدالله بن أبي ابن سلول أرسل إليهم يخبرهم بأن محمدا سائر إليكم، فخذوا حذركم، وأدخلوا أموالكم حصونكم، واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه، إن عددكم كثير وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل.
فلما كانت الليلة التي نزل رسول الله ﷺ صبيحتها بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فأصبحوا: أي قاموا من نومهم وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم وغدوا إلى أعمالهم معهم الفؤوس ويقال لها الكرازين والمساحي ومعهم المكاتل، أي وهي القفف الكثيرة، فلما رأوا رسول الله ﷺ ولوا هاربين إلى حصونهم ا هـ. فقال رسول الله ﷺ الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، أي وبذلك استدل على جواز الاقتباس من القرآن، وإنما قال خربت خيبر، لأنه لما رأى آلة الهدم التي هي الفؤوس والمساحي تفاءل بأن حصونهم ستخرب، أو أخذ ذلك من اسمها، أو أن ذلك دعاء بلفظ الخبر، قال الإمام النووي رحمه الله: والأصح أنه أعلمه الله بذلك ويوافقه ما في فتح الباري.
ويحتمل أن يكون قال ذلك بطريق الوحي ويؤيده قوله «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» أي لأنه نزل بساحتهم، وهي في الأصل الفضاء بين الأبنية.
وابتدأ رسول الله ﷺ من حصونهم بحصون النطاة قبل حصون الشق وقيل بحصون الكثيبة، أي لأنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، وجمعوا المقاتلة في حصون النطاة، وكان نزل قريبا من حصون النطاة، فجاءه الحباب بن المنذر «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم، وإن كان الرأي تكلمنا؛ فقال رسول الله ﷺ هو الرأي، فقال: يا رسول الله إن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى سهم منهم ولا أعدل رمية منهم، وهم مرتفعون علينا، وهو أسرع لانحطاط نبلهم، ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمرة النخل. أي النخل المجتمع بعضه على بعض، تحول يا رسول الله، فقال: أشرت بالرأي إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. ودعا رسول الله ﷺ محمد بن مسلمة «رضي الله ع» فقال: انظر لنا منزلا بعيدا، فطاف محمد «رضي الله ع»، وقال: يا رسول الله وجدت لك منزلا، فقال رسول الله ﷺ: على بركة الله وتحول لما أمسى، وأمر الناس بالتحول.
أي وفي لفظ: إن راحلته قامت تجرّ بزمامها فأدركت لتردّ، فقال دعوها فإنها مأمورة، فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها، فتحول رسول الله ﷺ إلى الصخرة وتحول الناس إليها واتخذوا ذلك الموضع معسكرا. وفي الأصل أنه نزل بذلك ليحول بين أهل خيبر وبين غطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله.
وقد يقال: لا مخالفة بين هذه الروايات الثلاث فليتأمل. وابتنى رسول الله ﷺ هناك مسجدا صلى به طول مقامه بخيبر، أي وأمر بقطع نخيل أهل حصون النطاة فوقع المسلمون في قطعها حتى قطعوا أربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها. قال: قيل وقاتل يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يقال له الظرب، وفي يده قناة وترس.
وما قيل إنه يوم خيبر كان على حمار مخطوم برسن من ليف وتحته إكاف من ليف. أي ففي مسلم عن ابن عمر «رضي الله ع». رأيت رسول الله ﷺ على حمار وهو متوجه إلى خيبر، جاز أن يكون ركب ذلك الحمار في الطريق وحال القتال ركب ذلك الفرس انتهى.
أقول: يرشد إلى هذا الجمع قوله متوجه إلى خيبر، وظاهر هذا الكلام أنه باشر القتال بنفسه، وتقدم أنه لم يباشر القتال بنفسه إلا في أحد.
ويبعد أن يكون باشر القتال بنفسه ولم يقتل أحدا، إذ لو قتل أحدا لذكر لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله. وقد يكون المراد بقولهم وقاتل بنفسه: أي قاتل جيشه، ويدل لذلك ما في الإمتاع: وألح على حصن ناعم، أي وهو من حصون النطاة بالرمي، ويهود تقاتل ورسول الله ﷺ على فرس يقال له الظرب وعليه درعان ومغفر وبيضة وفي يده قناة وترس.
وقد دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، فدفعه إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا، وخرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر، فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ في موقفه، فاشتد ذلك على رسول الله وأمسى مهموما والله أعلم.
وفي ذلك اليوم قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة «رضي الله ع» برحى ألقيت عليه من ذلك الحصن، ألقاها عليه مرحب، وقيل كنانة بن الربيع. وقد يجمع بأنهما اجتمعا على ذلك، وسيأتي ما يدل على أن قاتله غيرهما.
وقد يقال: لا مانع من أن يكونوا: أي الثلاثة تجمعوا على قتله، أي فإن محمود بن مسلمة «رضي الله ع» كان قد حارب حتى أعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحر شديدا، فانحاز إلى ظل ذلك الحصن فألقى عليه حجر الرحى فهشم البيضة على رأسه ونزلت جلدة جبينه على وجهه أي وندرت عينه، فأدركه المسلمون، فأتوا به النبي ﷺ فسوى الجلدة إلى مكانها وعصبه بخرقة فمات «رضي الله ع» من شدة الجراحة، وجاء أخوه محمد بن مسلمة «رضي الله ع» إلى رسول الله ﷺ فقال: إن اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة فقال «لا تمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموه فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض جلوسا، فإذا غشوكم فانهضوا وكبروا».
أي وفي سياق بعضهم ما يدل على أنه مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة «رضي الله ع» للقتال ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع إلى ذلك المحل، ومن جرح من المسلمين يحمل إلى ذلك المحل ليداوى جرحه، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر «رضي الله ع» فطاف عمر «رضي الله ع» بأصحابه حول العسكر وفرقهم، فأتي برجل من يهود خيبر في جوف الليل، فأمر به عمر «رضي الله ع» أن يضرب عنقه فقال: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول الله ﷺ فوجده يصلي فسمع كلام عمر فسلم وأدخله عليه، فدخل باليهودي فقال رسول الله ﷺ لليهودي: ما وراءك؟ فقال: تؤمنني يا أبا القاسم؟ فقال: نعم، قال خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة قال: فأين يذهبون؟ قال: إلى الشق يجعلون في ذراريهم ويتهيئون للقتال، ولعل المراد ما أبقوه من ذراريهم، فلا ينافي ما تقدم من أنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة، أو أن ذلك المخبر أخبر بحسب ما فهم أنهم يجعلون ذراريهم في الشق والحال أنهم إنما يذهبون ليجعلوا ذراريهم في حصون الكثيبة فليتأمل.
وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، فإذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله، قال رسول الله ﷺ: إن شاء الله، قال اليهودي إن شاء الله أوقفتك عليه فإنه لا يعرفه غيري. وأخرى، قيل: ما هي؟ قال يستخرج المنجنيق، وينصب على الشق، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فيحفروا الحصن، فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصون الكثيبة، ثم قال: يا أبا القاسم احقن دمي، قال: أنت آمن، قال: ولي زوجة فهبها لي، قال هي لك، ثم دعاه إلى الإسلام فقال أنظرني أياما، ثم قال لمحمد بن مسلمة «رضي الله ع» «لأعطين الراية» إلى رجل يحب اللهورسوله ويحبانه» وفي لفظ قال «لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله لا يولي الدبر؛ يفتح الله عز وجل على يده فيمكنه الله من قاتل أخيك» وعند ذلك لم يكن من الصحابة «رضي الله ع» أحد له منزلة عند النبي ﷺ إلا يرجو أن يعطاها.
وعن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» أنه قال: ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم، ولعل ذلك لا ينافي ما جاء «أن وفد ثقيف لما جاؤوه قال لهم لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني، وفي رواية: مثل نفسي فليضربن أعناقكم وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم، قال عمر «رضي الله ع» فوالله ما تمنيت الإمارة إلا يومئذٍ، وجعلت أنصب صدري له رجاء أن يقول هو هذا، فالتفت إلى علي كرم الله وجهه فأخذه بيده وقال: هو هذا، هو هذا».
وقد يقال: لا يلزم من محبة الشي تمنيه بخلاف العكس. ففي هذه الغزاة أحب الإمارة وما تمناها، وفي وفد ثقيف المتأخر عن هذه الغزاة تمناها لأن الوصف في ذلك أبلغ من الوصف هنا فليتأمل.
ويروى «أن عليا كرم الله وجهه لما بلغه مقالته: أي في خيبر، قال: اللهم لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، فبعث إلى علي كرم الله وجهه وكان أرمد شديد الرمد»: أي وكان قد تخلف في المدينة ثم لحق بالقوم «أي فقيل له: إنه يشتكي عينيه، فقال من يأتيني به؟ فذهب إليه سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» وأخذ بيده يقوده حتى أتي به النبي ﷺ قد عصب عينيه فعقد له اللواء: أي لواءه الأبيض.
فعن ابن إسحاق وابن سعد: لم تكن الرايات إلا يوم خيبر، أي فإنه فرق الرايات يومئذٍ بين أبي بكر وعمر والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة «رضي الله ع»، وإنما كانت الألوية، وكانت راية رسول الله ﷺ سوداء من برد لعائشة «رضي الله ع» تدعى العقاب.
وفي كلام المقريزي: لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ذكر أن العقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان، وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن أبي طلحة من بني عبد الدار.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله: وكانت له راية سوداء مربعة من نمرة مخملة يقال لها العقاب، وكان له راية صفراء، ولواؤه أبيض دفعه إلى علي كرم الله وجهه وفيه أن ذلك اللواء يقال له العقاب.
وفي سيرة الدمياطي رحمه الله، وكانت ألويته بيضاء وربما جعل فيها الأسود ولعل السواد كان كتابة في ذلك العلم، ولعل هذا اللواء الذي فيه الأسود هو المعني بما جاء في بعض الروايات «كان له لواء أبيض مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله» أي بالسواد، ولعله محمل قول بعضهم: كان له لواء أغبر، وربما كان من خز بعض نسائه «فقال علي كرم الله وجهه: يا رسول الله إني أرمد كما ترى، لا أبصر موضع قدمي، فتفل، وفي لفظ: بصق في عينيه، أي بعد أن وضع رأسه في حجره» وفي لفظ «فتفل في كفه وفتح له عينيه فدلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع» قال علي «رضي الله ع» فما رمدت بعد يومئذٍ: وفي لفظ فما رمدت ولا صدعت، وفي لفظ: فما اشتكيتهما حتى الساعة.
وفي هذا السياق لطيفة وهي: أن من طلب شيئا أو تعرض لطلبه يحرمه غالبا وأن من لم يطلب شيئا لم يتعرض لطلبه ربما وصل إليه، وقد أشار إلى ذلك بقوله «رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكن لأجل سؤاله إياه ذلك أخر عنه سنة» أي وبعد السنة دعاه الملك وتوجه ورداه وقلده بسيفه وأمر له بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وضرب له عليه حلة من إستبرق وفوض إليه أمر مصر.
وقد قيل: لو وقعت قلنسوة من السماء لا تقع إلا على رأس من لا يريدها: زاد في رواية عن علي كرم الله وجهه «أنه دعا له بقوله: اللهم اكفه الحر والبرد قال علي كرم الله وجهه: فما وجدت بعد ذلك اليوم لا حرا ولا بردا»، أي فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين، ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين. وفي لفظ: الثوب الخفيف فلا يبالي بالبرد.
وقد يخالف ذلك ما حكاه بعضهم، قال: دخل رجل على عليّ كرم الله وجهه وهو يرعد تحت سمل قطيفة: أي قطيفة خلقة، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك في هذا المال نصيبا وأنت تصنع بنفسك هكذا؟ فقال: والله لا أرزؤكم من مالكم، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون رعدته «رضي الله ع» ليست من البرد خلاف ما ظنه السائل لجواز أن تكون لحمّى أصابته في ذلك الوقت، وقد أشار إلى التفل صاحب الهمزية «رضي الله ع» بقوله:
وعليّ لما تفلت بعينيـ ** ـه وكلتاهما معا رمداء
فغدا ناظرا بعيني عقاب ** في غزاة لها العقاب لواء
وفي قوله: لأدفعن الراية، إطلاق الراية على اللواء، ومن ذلك قوله لعليّ كرّم الله وجهه: خذ هذه الراية، وتقدم أن الراية قد يطلق عليها لواء.
هذا، وفي كلام بعضهم أن أبا سفيان «رضي الله ع» كانت إليه الراية المعروفة بالعقاب التي كانت لا يحبسها إلا رئيس إذا حميت الحرب، هذا كلامه، فلعل تسمية رايته بالعقاب لكونها كذلك «فقال عليّ كرم الله وجهه: علام أقاتلهم يا رسول الله؟ قال: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم».
وفي رواية «لما أعطاه الراية قال له: امش ولا تلتفت، فسار شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى» أي حساب بواطنهم وسرائرهم على الله، لأنه المطلع وحده على ما فيها من إيمان خالص أو نفاق وكفر. زاد في رواية «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم»أي تتصدق بها في سبيل الله، فقد جعل عصمة الدم بالنطق بالشهادتين، لكنه لا يقرّ من نطق بهما على ترك الصلاة ولا على ترك الزكاة، ومن ثم قال له «وأخبرهم بما يجب عليهم» وفي لفظ «قال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك».
أي وعن حذيفة «رضي الله ع» «لما تهيأ عليّ كرم الله وجهة يوم خيبر للحملة، قال له رسول الله ﷺ: يا علي والذي نفسي بيده إنّ معك من لا يخذلك، هذا جبريل "عليه السلام" عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها، فاستبشر بالرضوان والجنة، يا عليّ إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم».
وفي رواية «أنه كان يعطي الراية كل يوم واحدا من أصحابه ويبعثه، فبعث أبا بكر «رضي الله ع»، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث عمر ابن الخطاب «رضي الله ع» من الغد: أي برايته، فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد، ثم بعث رجلا من الأنصار فقاتل ورجع ولم يكن فتح، فقال "عليه الصلاة والسلام: لأعطين الراية أي اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه، وليس بفارّ. وفي لفظ: كرار غير فرار، فدعا عليا كرم الله وجهه وهو أرمد فتفل في عينيه، ثم قال: خذ هذه الراية غامض بها حتى يفتح الله عليك، أي ودعا له ولمن معه بالنصر.
وفي رواية «أنه ألبسه درعه الحديد، وشدّ ذا الفقار، أي الذي هو سيفه في وسطه وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن، فخرج عليّ كرم الله وجهه بها يهرول حتى ركزها تحت الحصن فاطلع عليه يهودي من رأس الحصن، فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب، فقال اليهودي: علوتم وحق ما أنزل على موسى، ثم خرج إليه أهل الحصن، وكان أوّل من خرج منهم إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفا بالشجاعة، فانكشف المسلمون وثبت علي كرم الله وجهه فتضاربا، فقتله علي وانهزم اليهود إلى الحصن، ثم خرج إليه مرحب، فحمل مرحب عليه وضربه فطرح ترسه من يده، فتناول علي كرم الله وجهه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن، ثم ألقاه من يده: أي وراء ظهره ثمانين شبرا».
قال الراوي: فجهدت أنا وسبعة نفر على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر. قال بعضهم: في هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر، قال: وقيل ولم يقدر على حمله أربعون رجلا، وقيل سبعون.
وفي رواية أن عليا كرم الله وجهه لما انتهى إلى باب الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا فكان جهدا أن أعادوه مكانه، وقيل حمل الباب على ظهره حتى صعد المسلمون عليه ودخلوا الحصن.
قال بعضهم: وطرق حديث الباب كلها واهية، وفي بعضها قال الذهبي: إنه منكر، وفي الإمتاع: وزعم بعضهم أن حمل عليّ كرم الله وجهه الباب لا أصل له، وإنما يروى عن رعاع الناس. وليس كذلك، ثم ذكر جملة ممن خرّجه من الحفاظ.
وجاء أن مرحبا لما رأى أن أخاه قد قتل خرج سريعا من الحصن في سلاحه، أي وقد كان لبس درعين وتقلد بسيفين واعتم بعمامتين ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان وهو يرتجز ويقول من أبيات:
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب
ومعنى شاكي السلاح: تام السلاح، ومعنى مجرب: أي معروف بالشجاعة وقهر الفرسان، ثم صار يقول: هل من مبارز؟ فقال رسول الله ﷺ: من لهذا؟ قال محمد بن مسلمة «رضي الله ع»: أنا له يا رسول الله، أنا الموتور: أي الذي قتل له قتيل فلم يؤخذ بثأره الثائر، قتل أخي بالأمس، قال: فقم إليه، اللهم أعنه عليه، فقتله محمد بن مسلمة «رضي الله ع»، أي: فإن مرحبا حمل على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيف مرحب فيها فغضت به وأمسكته، فضربه محمد «رضي الله ع» فقتله. ويدل لذلك قول الإمام المزني رحمه الله في المختصر: إن النبي ﷺ يوم خيبر نفل محمد بن مسلمة سلب مرحب: سيفه ورمحه ومغفره وبيضته، ووجد على سيفه مكتوب: هذا سيف مرحب، من يصبه يعطب.
وقيل القاتل له عليّ كرم الله وجهه، وبه جزم مسلم رحمه الله في صحيحه. قال بعضهم: والأخبار متواترة به. وقال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا كرم الله وجهه قاتله. وفي الاستيعاب: والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليا قاتله. ويروى أن عليا كرم الله وجهه و«رضي الله ع» لما خرج إليه ارتجز بقوله.
أنا الذي سمتني أمي حيدره ** ضرغام آجام وليث قسوره
وقيل بدله: * كليث غابات كريه المنظره *
أي فإن أم علي كرم الله وجهه سمته أسدا باسم أبيها وكان أبوه أبو طالب غائبا، فلما قدم كره ذلك وسماه عليا، أي ومن أسماء الأسد حيدرة، والحيدرة: الغليظ القوي. وقيل لقب بذلك في صغره لأنه كان عظيم البطن ممتلئا لحما، ومن كان كذلك يقال له حيدرة.
ويقال إن ذلك كان كشفا من علي كرم الله وجهه، فإن مرحبا كان رأى في تلك الليلة في المنام أن أسدا افترسه فذكره عليّ كرم الله وجهه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه.
ويروى أن عليا كرم الله وجهه ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقدّه وشق المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف في الأضراس، وإلى ذلك يشير بعضهم، وقد أجاد بقوله:
وشادنٍ أبصرته مقبلا ** فقلت من وجدي به مرحبا
قدّ فؤادي في الهوى قدة ** قدّ علي في الوغى مرحبا
أي وقد يجمع بين كون القاتل لمرحب عليا كرم الله وجهه، وكون القاتل له محمد بن مسلمة بأن محمد بن مسلمة أثبته، أي بعد أن شق علي كرم الله وجهه هامته، لجواز أن يكون شق هامته ولم يثبته فأثبته محمد بن مسلمة، ثم إن عليا كرم الله وجهه وقف عليه.
أي ويدل لذلك ما في بعض السير عن الواقدي رحمه الله لما قطع محمد بن مسلمة ساقي مرحب قال له مرحب: أجهز عليّ، فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه أخي. ومرّ به علي كرم الله وجهه فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله ﷺ في سلبه، فقال محمد: يا رسول الله ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت، وكنت قادرا أن أجهز عليه، فقال علي كرم الله وجهه صدق، فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة «رضي الله ع»، ولعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب فلا ينافي ما مر عن فتح الباري، ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر أي وهو يرتجز بقوله:
قد علمت خيبر أني ياسر ** شاكي السلاح بطل مغادر
وكان أيضا من مشاهير فرسان يهود وشجعانهم، وهو يقول: من يبارز؟ فخرج له الزبير «رضي الله ع»، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ﷺ يا رسول الله إنه يقتل ابني، فقال رسول الله ﷺ: بل ابنك يقتله إن شاء الله، فقتله الزبير «رضي الله ع»، أي وعند ذلك قال له «فداك عمِّ وخالِ لكل نبي حواريٌ، وحواري الزبير».
وذكر الزمخشري أن هذه الواقعة للزبير كانت في بني قريظة، حيث قال: إنه يعني الزبير «رضي الله ع» أوّل من استحق السلب، وكان ذلك في بني قريظة برز رجل من العدو، فقال رجل ورجل، فقال النبي ﷺ: قم يا زبير، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: واحدي يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ: أيهما علا صاحبه فقتله، فعلاه الزبير «رضي الله ع» فقتله، فنفله رسول الله ﷺ وقال «السلب للقاتل» هذا كلامه فليتأمل، فإني لم أقف في كلام أحد على أن بني قريظة وقعت منهم مقاتلة بالمبارزة.
وفي رواية أن القاتل لياسر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. أي ويمكن الجمع بمثل ما تقدم، وكان شعار المسلمين «أمت أمت» وفي رواية «يا منصور أمت أمت».
ومن جملة من قتل من المسلمين الأسود الراعي، كان أجيرا لرجل من اليهود يرعى غنمه، وكان عبدا حبشيا يسمى أسلم، أي وفي الإمتاع اسمه يسار، فجاء إليه وهو محاصر خيبر، وقال: يا رسول الله اعرض عليّ الإسلام فعرضه عليه فأسلم.
وفي رواية أنه قال: إن أسلمت فماذا لي؟ قال: الجنة، فأسلم، فلما أسلم قال: يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم فكيف أصنع بها؟ وفي لفظ إنها أمانة وهي للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك، فقال له: اضرب في وجهها فإنها سترجع إلى ربها، فقام الأسود فأخذ حفنة من حصباء فرمى بها في وجهها وقال ارجعي إلى صاحبك فوالله لا أصحبك، فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم «رضي الله ع» إلى ذلك الحصن فقاتل مع المسلمين فأصابه حجر. وفي رواية: سهم غرب بفتح الراء والإضافة، وبتسكين الراء بلا إضافة وهو ما لا يعرف راميه فقتله، ولم يسجد لله سجدة، فأتي به إلى رسول الله ﷺ ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض عنه، فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال: إن معه الآن زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عن وجهه وتقولان له: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك، زاد في لفظ: لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير، قد كان الإسلام من نفسه حقا.
وفتح الله ذلك الحصن الذي هو حصن ناعم، وهو أوّل حصن فتح من حصون النطاة على يد علي كرم الله وجهه.
أي وعن عائشة «رضي الله ع»: ما شبع رسول الله ﷺ من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة، أي وهي أوّل دار فتحت بخيبر وهي بالنطاة، وهي منزل ياسر أخي مرحب، وظاهر السياق أنها حصن ناعم.
ويروى أن عليا كرّم الله وجهه لما فتح الحصن أخذ الرجل الذي قتل أخا محمد بن مسلمة وسلمه إليه فقتله، وتقدّم أن محمد بن مسلمة «رضي الله ع» قتل مرحبا لكون قاتل أخيه على ما تقدم، وسيأتي أنه دفع كنانة لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه، وهذا يؤيد ما تقدّم من أن الثلاثة: أي مرحب وكنانة وذلك الرجل الذي سلمه عليّ له اشتركوا في قتل أخي محمد بن مسلمة.
قال: وأصاب المسلمين «رضي الله ع» مجاعة وأرسلت أسلم إلى رسول الله ﷺ أسماء بن حارثة، وأمرته أن يقول له: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون أجهدنا الجوع، فلامهم رجل وقال: من بين العرب تصنعون هذا؟ فقال زيد بن حارثة أخو أسماء: والله إني لأرجو أن يكون البعث إلى رسول الله ﷺ مفتاح الخير، فجاءه أسماء وبلغه ما قالت أسلم، فدعا لهم فقال: اللهم إنك قد عرفت حالهم، وأن ليس بهم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، وقال: اللهم افتح أكثر الحصون طعاما وودكا، ودفع اللواء للحباب بن المنذر «رضي الله ع» وندب الناس، وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم بعد أن أقاموا على محاصرته يومين، وما بخيبر حصن أكثر طعاما منه: أي من شعير وتمر وودك، أي من سمن وزيت وشحم وماشية، ومتاعا منه، ولا يخالف هذا ما تقدم عائشة في وصف حصن ناعم من قولها: ما شبع رسول الله ﷺ إلى آخره ولا ما تقدّم من أنهم أدخلوا أموالهم حصون الكثيبة، لأنه يجوز أن يكون المراد بأموالهم النقود ونحوها دون ما ذكر هنا، وكان في هذا الحصن الذي هو حصن الصعب خمسمائة مقاتل، وقبل فتحه خرج منه رجل يقال له يوشع مبارزا، فخرج له الحباب بن المنذر «رضي الله ع» فقتله، وخرج آخر مبارزا يقال له الديال فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري «رضي الله ع» فضربه على هامته فقتله، وقال له: خذها وأنا الغلام الغفاري، فقال الناس حبط جهاده، فقال لما بلغه ذلك: يؤجر ويحمد، أي وحملت يهود حملة منكرة. فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله ﷺ وهو واقف قد نزل عن فرسه، فثبت الحباب بن المنذر «رضي الله ع»، فحرض المسلمين على الجهاد، فأقبلوا وزحف بهم الحباب «رضي الله ع» فانهزمت يهود وأغلقت الحصون عليهم.
ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير والتمر والسمن والعسل والسكر والزيت والودك شيئا كثيرا، ونادى منادي رسول الله ﷺ: كلوا واعلفوا ولا تحملوا: أي لا تخرجوا به إلى بلادكم. .
وهذا دليل لما ذهب إليه إمامنا «رضي الله ع» من أن للغانمين أخذ ما تعمّ الحاجة إليه من الطعام وما يؤكل غالبا من الفواكه وعلف الدواب من الغنيمة بدار الحرب إذا كان الجهاد بدار الحرب إلى أن يصلوا إلى غير دار الحرب مما يباع ذلك فيه، وليس لهم أخذ ما تندر الحاجة إليه كالفانيد والسكر، ولا ينافي ذلك ما ذكر هنا، لأنه يجوز أن يكون الإذن في أكل مجموع ما ذكر.
وفي السيرة الهشامية عن عبدالله بن مغفل «رضي الله ع»، قال: أصبت من فيء خيبر، أي من غنيمتها جراب شحم فاحتملته على عنقي أريد رحلي فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها، أي وهو أبو اليسر كعب بن عمرو بن زيد الأنصاري «رضي الله ع» فأخذ بناصيته، وقال: هلمّ بهذا حتى نقسمه بين المسلمين، فقلت: والله لا أعطيكه، فجعل يجاذبني الجراب فرآنا رسول الله ﷺ ونحن نصنع ذلك، فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: لا أبا لك خلّ بينه وبينه، فأرسله، فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
وفي الإمتاع أنهم وجدوا في هذا الحصن الذي هو حصن الصعب آلة حرب: دبابات ومنجنيقا، أي وذلك موافق لما تقدم عن ذلك المخبر له بأن في حصن في بيت منه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف، ولعلّ وجود ذلك كان بدلالة ذلك الرجل عليه.
ولما فتح ذلك الحصن تحوّل من سلم من أهله إلى حصن قلة وهو حصن بقلة جبل، أي ويعبر عن هذا بقلة الزبير «رضي الله ع»، أي الذي صار في سهم الزبير بعد ذلك وهو آخر حصون النطاة، أي فحصون النطاة ثلاثة: حصن ناعم، وحصن الصعب، وحصن قلة.
فأقام المسلمون على حصار هذا الحصن الذي هو حصن قلة ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود وقال له: يا أبا القاسم تؤّمني على أن أدلك على ما تستريح به، فإنك لو مكثت شهرا لا تقدر على فتح هذا الحصن، فإن به دبولا وهي الأنهر الصغيرة تحت الأرض يخرجون ليلا فيشربون منها، فإن قطعت عنهم شربهم أهلكتهم، فأمنه وسار إلى دبولهم فقطعها، فعند ذلك خرجوا وقاتلوا أشدّ القتال وفتح ذلك الحصن، ثم سار المسلمون إلى حصار حصون الشق بفتح الشين المعجمة وكسرها، والفتح أعرف عند أهل اللغة، فكان أوّل حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي فقاتل أهله قتالا شديدا، خرج رجل منهم يقال له غزوال يدعو إلى البراز، فبرز له الحباب «رضي الله ع»، وحمل عليه فقطع يده اليمنى ونصف الذراع، فبادر راجعا منهزما إلى الحصن فتبعه الحباب فقطع عرقوبه فوقع فذفف عليه، فخرج آخر مبارزا فخرج له رجل من المسلمين فقتل ذلك الرجل وقام مكانه يدعو للبراز، فخرج له أبو دجانة «رضي الله ع»، فضربه أبو دجانة «رضي الله ع» فقطع رجله، ثم ذفف عليه.
وعند ذلك أحجمت يهود عن البراز، فكبر المسلمون وتحاملوا على الحصن، ودخلوه يقدمهم أبو دجانة «رضي الله ع»، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء، وهو الحصن الثاني من حصني الشق فتمنعوا به أشدّ التمنع، وكان أهله أشد رميا للمسلمين بالنبل والحجارة حتى أصاب النبل ثياب رسول الله ﷺ وعلقت به، فأخذ لهم كفا من حصباء فحصب به ذلك الحصن، فرجع بهم ثم ساخ في الأرض، وأخذ المسلمون من فيه أخذا ذريعا، أي فحصون الشق اثنان: حصن أبيّ، وحصن البريء.
وحينئذٍ يتأمل في قول الحافظ الدمياطي في سيرته: والشق وبه حصون منها حصن أبيّ، وحصن البريء.
أقول: وفي الإمتاع أنهم وجدوا في حصن الصعب الذي هو أحد حصون النطاة منجنيقا: أي كما أخبر بذلك اليهود الذي جاء به عمر «رضي الله ع» وأدخله عليه وأمنه كما تقدم، وأنهم نصبوا المنجنيق الذي وجدوه في حصن الصعب على هذا الحصن الذي هو حصن البريء من حصون الشق، أي وهو يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، إلا أن يقال. يجوز أن يكون المراد بعدم نصبه أنه لم يرم به إلا في غزوة الطائف. وأما هنا فنصب ولم يرم به فلا مخالفة.
ووجدوا في هذا الحصن آنية من نحاس وفخار كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وفي رواية: سخنوا فيها الماء، ثم اطبخوا بعد وكلوا واشربوا. وحكمة تسخين الماء فيها لا تخفى، وهي أن الماء الحار أقوى في النظافة واخراج الدسومة والله أعلم.
ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق، انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكثيبة، وهي ثلاثة حصون، القَموص كصبور، والوطيح، وسلالم بضم السين المهملة، وكان أعظم حصون خيبر القموص، وكان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليّ كرم الله وجهه، ومنه سبيت صفية «رضي الله ع» كما قاله الحافظ ابن حجر.
قال: وقيل كان اسمها قبل أن تسبى زينب، فلما صارت من الصفيّ سميت صفية. والصفي: ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل أن تقسم على ما تقدم، وكان في الجاهلية لأمير الجيش ربع الغنيمة. ومن ثم قيل له المرباع.
قال السهيلي رحمه الله: كانت أموال النبي ﷺ من ثلاثة أوجه: من الصفي، والهدية، وخمس الخمس هذا كلامه، ولا يخفى أنه يزاد على ذلك الفيء.
وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة، مأخوذ من الوطح: وهو في الأصل ما تعلق بمخالب الطير من الطين؛ سمي الوطيح باسم الوطيح بن مازن؛ رجل من ثمود. وحصن سُلالم ويقال له السلاليم: وهو حصن بني الحقيق، آخر حصون خيبر.
ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهما، فهمّ أن يجعل عليهم: أي على من فيهما المنجنيق: أي ينصبه عليهم ولم يرم به، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله ﷺ الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، وأن لا يصحب واحدا منهم إلا ثوب واحد على ظهره. وفي لفظ: تركوا ما لهم من مال وأرض من الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا، فصالحهم على ذلك، وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم أن يكتموه شيئا من متاعهم يسألهم عنه.
فعلم أن حصون خيبر فتحت عنوة إلا الحصنين المذكورين: وهما الوطيح وسلالم، فإنهما لم يفتحا عنوة بل صلحا، فكانا فيئا لرسول الله، وهو دليل على أنهم لم يقاتلوا في حال حصارهم، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير مقاتلة، كذا قيل.
وظاهر إطلاق قول الروضة من الفيء ما صولح عليه أهل بلد من الكفار أنه وإن كان بعد محاصرتهم ومقاتلتهم للمسلمين في حال حصارهم برمي الحجارة أو النبل.
وفي فتح الباري نقلا عن ابن عبد البرّ أنه جزم بأن حصون خيبر فتحت عنوة، وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم، وهو ضرب من الصلح؛ لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال هذا كلامه فليتأمل، فإن بالقتال يخرج عن كونه فيئا، ولعل المراد قتال بالنبل ورمي بالحجارة وإلا فقد تقدم أنه لم يخرج منهما أحد للمقاتلة فليتأمل، فإن كلامه يقتضي أن بالحصار وبالقتال بنحو النبل يخرج ذلك عن كونه فيئا له ويكون غنيمة، ولعله مذهب المالكية الذي هو مذهب ابن عبد البر رحمه الله تعالى.
وفي الأصل عن ابن شهاب رحمه الله أنه قال: بلغني أن رسول الله ﷺ افتتح خيبر عنوة بعد القتال، ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال هذا كلامه.
فظاهره أن القتال وقع من الذين جلوا في حال حصارهم، وإلا فقد علمت أن الذين جلوا لم يخرج أحد منهم للقتال في حال حصارهم، وسيأتي ما يصرح بأن جلوا عنه فيء لا غنيمة.
ووجدوا في الحصنين المذكورين: مائة درع، وأربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها، أي ووجدوا في أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها، فأمر بدفعها إليهم.
وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التي يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن أو تمزق، وتجعل في الغنيمة فتباع، إلا أن يدعى أن تلك الصحف لم تكن مبدلة، وغيبوا الجلد الذي كان فيه حليّ بني النضير، أي وعقود الدر والجوهر الذي جلوا به، لأنهم لما جلوا كان سلام بن أبي الحقيق رافعا له ليراه الناس وهو يقول بأعلى صوته: هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها كما تقدم، فقال رسول الله ﷺ لسعية ابن عمرو: أي وهو عمّ حيي بن أخطب. وفي لفظ: سعية بن سلام بن أبي الحقيق. وفي الإمتاع: وسأل كنانة بن أبي الحقيق: أين مسك: أي جلد حيي بن أخطب، أي وإنما نسب إليه الجلد المذكور، فقيل كنز حيي، لأن حييا كان عظيم بني النضير، وإلا فهو لا يكون إلا عند بني الحقيق، فقال: أذهبته الحروب والنفقات، فدفع رسول الله ﷺ سعية بن عمرو للزبير «رضي الله ع» فمسه بعذاب، فقال: رأيت حييا يطوف في خربة هاهنا فذهبوا إلى الخربة، ففتشوها فوجدوا ذلك الجلد.
قال: وفي رواية أنه أتي بكنانة، وهو زوج صفية تزوجها بعد أن طلقها سلام بن مشكم، وبالربيع أخوه، فقال لهما رسول الله ﷺ: أين آنيتكما التي كنتم تعيرونها أهل مكة، أي لأن أعيان مكة إذا كان لأحدهم عرس ويرسلون فيستعيرون من ذلك الحلي انتهى، أي والآنية والكنز عبارة عن حلي كان أولا في جلد شاة، ثم كان لكثرته في جلد ثور، ثم كان لكثرته في جلد بعير كما تقدم فقالا: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد قريب، والمال أكثر من ذلك، إنكما إن كتمتماني شيئا فاطلعت عليه استحللت دماءكما وذراريكما، فقالا: نعم، فأخبره الله بموضع ذلك الحلي، أي فإنه قال لرجل من الأنصار: اذهب إلى محل كذا وكذا، ثم ائت النخل، فانظر نخلة عن يمينك أو قال عن يسارك مرفوعة فائتني بما فيها فانطلق فجاءه بالآنية.
ويمكن الجمع بين هذا وما تقدم وما يأتي أنهم فتشوا عليه في خربة حتى وجدوه، بأن التفتيش كان في أول الأمر، وإعلام الله تعالى له بذلك كان بعد، فجيء به فقوم بعشرة آلاف دينار؛ أي لأنه وجد فيه أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم الذهب، وعقود الجوهر والزمرد، وعقود أظفار مجزع بالذهب، فضرب أعناقهما وسبي أهلهما.
أي وفي لفظ آخر: لما فتحت خيبر أتي رسول الله ﷺ بكنانة بن الربيع وفي لفظ: ابن ربيعة بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله ﷺ رجل من اليهود فقال: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة، أي فإن كنانة حين رأى النبي ﷺ فتح حصن النطاة وتيقن ظهوره عليهم دفنه في خربة.
أي وفيه أن هذا لا يناسب ما سبق من أن حييا كان يطيف بتلك الخربة، إلا أن يقال جاز أن يكون دفنه في تلك الخربة في محل آخر غير الذي دفنه فيه حيي، فقال رسول الله ﷺ لكنانة: أرأيت إن وجدته عندك أقتلك؟ قال نعم، فأمر رسول الله ﷺ بالخربة فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي فأبى أن يؤديه، فأمر به الزبير «رضي الله ع» فقال: عذبه حتى نستأصل ما عنده، فكان الزبير «رضي الله ع» يقدح بزند، أي بالزناد الذي يستخرج به النار على صدره حتى أشرف على نفسه.
وأخذ منه جواز العقوبة لمن يتهم ليقر بالحق، فهو من السياسة الشرعية، ثم دفعه لمحمد بن مسلمة «رضي الله ع» فضرب عنقه بأخيه محمود. أي ولا مانع أن يكون السؤال وتعذيب الزبير وقع لسعية وكنانة أيضا.
وأمر رسول الله ﷺ بالغنائم: أي التي غنمت قبل الصلح فجمعت، وأصاب رسول الله ﷺ سبايا منها صفية «رضي الله ع» بنت حيي بن أخطب، من سبط هارون بن عمران أخي موسى عليهما الصلاة والسلام، فاصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه، وجعلها عند أم سليم التي هي أم أنس خادمه حتى اهتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها: أي أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا في الحال ولا في المآل: أي لم يجعل لها شيئا غير العتق.
وقد سئل أنس «رضي الله ع» عن صفية، فقيل له: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها، وهذا يردّ ما استدلّ به بعض فقهائنا: على أن من خصائصه جواز نكاح الأمة الكتابية، وجواز وطئها بملك اليمين من أنه كان يطأ صفية قبل إسلامها بملك اليمين.
ويرد أيضا على من استدل من فقهائنا على استحباب الوليمة للسرية، بأنه أولم على صفية كما علمت أنها زوجة لا سرية.
أي لكن ذكر بعض فقهائنا أنه لما أولم على صفية «رضي الله ع»، قالوا: إن لم يحجبها فهي أم ولد، وإن حجبها فهي امرأته، وذلك دليل على استحباب الوليمة للسرية، إذ لو اختصت بالزوجة لم يترددوا في كونها زوجة أو سرية، وذلك بعد أن خيرها بين أن يعتقها فترجع إلى من بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه، فقالت: أختار الله ورسوله.
وذكر في الأصل أن جعل عتق الأمة صداقها من خصائصه، وقد ذكره الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى. وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى عدم الخصوصية. وقال ابن حبان: لم ينقل دليل على أنه خاص به دون أمته.
وقيل إن دحية الكلبي «رضي الله ع» سأل رسول الله ﷺ صفية فوهبها له، وقيل وقعت في سهمه «رضي الله ع»، ثم ابتاعها منه بتسعة رؤوس، أي وإطلاق الشراء في ذلك على سبيل المجاز، على أنه يخالف ما تقدّم أنها من صفية قبل القسمة.
وفي البخاري «فجمع السبي فجاء دحية «رضي الله ع» فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي، فقال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنضير، لا تصلح إلا لك، فقال: ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي ﷺ قال: خذ جارية من السبي غيرها» أي فأخذ غيرها.
أي والتي أخذها غيرها هي أخت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق زوج صفية كما في الأم لإمامنا الشافعي «رضي الله ع» عن سيرة الواقدي، وقول الرجل للنبي يا نبي الله أعطيت دحية صفية يدل على أنه اسمها، وحينئذٍ يخالف ما قيل إن اسمها زينب فسماها صفية كما تقدم.
وفي رواية أن صفية سبيت هي وبنت عمّ لها، وأن بلالا جاء بهما فمرّ على قتلى يهود، فلما رأتهم بنت عم صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها قال: اعزبوا عني هذه الشيطانة، وقال لبلال: أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟ ثم دفع بنت عمها لدحية الكلبي «رضي الله ع»، وفي رواية: وأعطى دحية بنت عمها عوضا عنها.
أي وقد جاء أنه لما دخل بصفية رأى بأعلى عينها خضرة فقال: ما هذه الخضرة؟ قالت: كان رأسي في حجر بن أبي الحقيق ـ تعني زوجها، أي وهي عروس ـ وأنا نائمة، فرأيت كأن القمر وقع في حجري، فأخبرته بذلك، فلطمني وقال: تتمني ملك العرب، وفي لفظ: حين نزل رسول الله ﷺ خيبر وكنت عروسا رأت كأن الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها فقصت ذلك على زوجها قال: والله ما تتمنين إلا هذا الملك الذي نزل بنا فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها. ولا مانع من تعدد الرؤية أو أنها رأت الشمس والقمر في وقت واحد، وسيأتي في الكلام على زوجاته أنها قصت ذلك على أبيها ففعل بها ذلك، وسيأتي أنه لا مانع من تعدد الواقعة وأنهما فعلا بها ذلك.
وتقدم أن جويرية «رضي الله ع» رأت القمر أيضا وقع في حجرها، وكون صفية «رضي الله ع» كانت عروسا عند مجيئه خيبر ربما يدل على أن سلام بن مشكم طلقها قبل الدخول بها، فقد تقدّم أن كنانة تزوّج بها بعد أن طلقها سلام بن مشكم فليتأمل.
وعن صفية «رضي الله ع» أنها قالت «انتهيت إلى رسول الله ﷺ وما من الناس أحد أكره إليّ منه قتل أبي وزوجي وقومي، فقال: يا صفية أما إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك، إنهم قالوا لي كذا وكذا، وقالوا فيّ كذا وكذا، وفي رواية: إن قومك صنعوا كذا وكذا، وما زال يعتذر إليّ حتى ذهب ذلك من نفسي، فما قمت من مقعدي ومن الناس أحد أحب إليّ منه » وأعرس بها رسول الله ﷺ بعد أن طهرت من الحيض في قبة بعد أن دفعها لأم سليم لتصلح من شأنها، وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى متوشحا سيفه يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول الله، فرأى مكان أبي أيوب، فقال: مالك يا أبا أيوب؟ قال: يا رسول الله خفت عليك من هذه المرأة، قتلت أباها وزوجها وقومها وهي حديثة عهد بكفر، فبت أحفظك، فقال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني. قال السهيلي رحمه الله: فحرس الله أبا أيوب بهذه الدعوة، حتى إن الروم لتحرس قبره ويستشفون به فيستصحون، أي ويستسقون به فيسقون.
فإن غزا مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، فلما بلغوا القسطنطينية مات أبو أيوب «رضي الله ع» هنالك، فأوصى يزيد أن يدفنه في أقرب موضع من مدينة الروم، فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مكانا مساغا دفنوه، فسألتهم الروم عن شأنهم، فأخبروهم أنه كبير من أكابر الصحابة، فقالت الروم ليزيد: ما أحمقك وأحمق من أرسلك أأمنت أن ننبشه بعدك، فنحرق عظامه، فحلف لهم يزيد لئن فعلتم ذلك ليهدمن كل كنيسة بأرض العرب، وينبش قبورهم، فحينئذٍ حلفوا بدينهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا.
أي وجاء أنه لما قطع ستة أميال من خيبر وأراد أن يعرس بها فأبت، فوجد النبي ﷺ في نفسه، فلما سار ووصل الصهباء مال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال لها: ما حملك على إبائك حين أردت المنزل الأول؟ قالت: يا رسول الله خشيت عليك قرب يهود، وهذا المحل الذي هو الصهباء هو الذي ردت فيه الشمس لعليّ بعدما غربت كما تقدم.
وأقام بذلك المحل ثلاثة أيام، وجعل وليمتها حيسا في نطع صغير، والحيس: تمر وأقط وسمن. أي ففي البخاري «فأصبح النبي ﷺ عروسا، فقال: من كان عنده شيء فليجيء به وبسط نطعا، فجعل الرجل يجيء بالتمر، وجعل الرجل يجيء بالسمن، أي وجعل الرجل يجيء بالأقط، وذكر أيضا السويق».
ولا يخفى أن الحيس خلط السمن و التمر والأقط إلا أنه قد يخلط مع هذه الثلاثة السويق، وهذا يدل على أن الوليمة على صفية «رضي الله ع» كانت نهارا.
وذهب ابن الصلاح من أئمتنا إلى أن الأفضل فعلها ليلا، قال بعضهم: وهو متجه إن ثبت أنه فعلها ليلا، أي لأحد من نسائه. وقد جاء «لا بد للعرس من وليمة».
وقال لأنس: آذن من حولك: أي ليأكلوا من ذلك الحيس، وكان يضع لها ركبته لتركب، فتضع رجلها على ركبته الشريفة حتى تركب. وفي لفظ: لما وضع ركبته لتركب عليها أبت أن تضع قدمها على ركبته الشريفة ووضعت فخذها على ركبته، أي ولعل هذا الثاني منها كان في أول الأمر، فلا مخالفة.
وعن صفية «رضي الله ع»: ما رأيت أحدا قط أحسن خلقا من رسول الله، لقد رأيته ركب بي في خيبر وأنا على عجز ناقته ليلا، فجعلت أنعس فتضرب رأسي مؤخرة الرحل فيمسني بيده ويقول: يا هذه مهلا.
ونهى عن إتيان الحبالى من النساء اللاتي سبين، وأن لا يصيب أحد امرأة من السبي غير حامل حتى يستبرئها أي تحيض.
أي وفي لفظ: أمر مناديه ينادي أن من آمن بالله واليوم الآخر لا يسق بمائة زرع الغير، ولا يطأ امرأة حتى تنقضي عدتها: أي حتى تحيض.
وبلغه عن شخص أنه ألمّ بامرأة من السبي حبلى، فقال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره. ونهى عن أكل الثوم.
ورأيت في كلام بعضهم أن غالب اقتياتهم في خيبر كان أكل الثوم والكراث حتى تقرحت أشاقهم، أي وذلك قبل النهي.
ثم رأيت في الترغيب والترهيب عن أبي ثعلبة أنه غزا مع رسول الله ﷺ خيبر فوجدوا في جنانها بصلا وثوما فأكلوا منه وهم جياع، فلما راح الناس إلى المسجد إذا ريح بصل وثوم، فقال النبي «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا» وليس في ذلك نهي عن أكل الثوم والبصل: أي مطلقا، إنما النهي عن إتيان المسجد لمن أكلهما تأمل.
ومن ثم جاء أنه لما قال ذلك قال الناس حرم ذلك، فلما بلغه ما قالوا، قال: أيها الناس؛ إنه ليس لنا تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها.
وعن فرقد السنجي «ما أكل نبي قط ثوما ولا بصلا».
ونهى عن متعة النساء. ففي مسلم عن علي «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء يوم خيبر».
قال بعضهم: والراجح أن النهي عن متعة النساء لم يكن في خيبر، فإنه شيء لم يعرفه أهل السير ولا رواه أهل الأثر، ويدل لذلك ما قيل إن ثنية الوداع إنما سميت بذلك، لأنهم فيها ودّعوا النساء اللاتي تمتعوا بهنّ في خيبر، أي وإنما كان تحريمها عام الفتح، أي ولا معارضة لأنه أحل بعد ذلك: أي بعد خيبر في عام الفتح، ثم حرم فيه بعد ثلاثة أيام كما سيأتي.
وقيل حرمت في حجة الوداع، وقيل في غزوة أوطاس، وهذا هو الصحيح، وسيأتي في غزوة الفتح الجمع بين هذه الأقوال.
قال السهيلي رحمه الله: وأغرب ما روي في ذلك رواية من قال إن ذلك كان في غزوة تبوك. وفي حديث خرجه أبو داود أن تحريم نكاح المتعة كان في حجة الوداع، ومن قال من الرواة إنه كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن يقول إنه كان عام الفتح، هذا كلامه.
وعن إمامنا الشافعي «رضي الله ع»: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، أي فقد حرمت مرتين.
ونقل السهيلي رحمه الله وغيره عن بعضهم أنها أبيحت وحرمت ثلاث مرات. وعن بعضهم أنها أبيحت وحرمت أربع مرات، ولينظر هذا مع قول بعضهم إن أوّل من حرم المتعة سيدنا عمر «رضي الله ع».
وقيل لم يحرمها مطلقا، بل عند الاستغناء عنها. وأباحها عند الحاجة إليها: أي عند خوف الزنا، وبذلك كان يفتي ابن عباس «رضي الله ع».
وفي كلام فقهائنا: والنهي عن نكاح المتعة في خبر الصحيحين الذي لو بلغ ابن عباس «رضي الله ع» لم يستمرّ على القول بإباحتها لمن خاف الزنا مخالفا في ذلك لكافة العلماء.
وقد وقعت مناظرة في المتعة بين القاضي يحيى بن أكثم وأمير المؤمنين المأمون؛ فإن المأمون نادى بإباحة المتعة، فدخل عليه يحيى بن أكثم وهو متغير اللون بسبب ذلك وجلس عنده، فقال له المأمون: مالي أراك متغيرا؟ قال: لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: المتعة زنا؟ قال: نعم المتعة زنا، قال: ومن أين لك هذا؟ قال: من كتاب الله وسنة رسول الله. أما الكتاب، فقد قال الله تعالى {قد أفلح المؤمنون} إلى قوله {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: أفهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث ويلحق بها الولد؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين. وأما السنة، فقد روى الزهري بسنده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال «أمرني رسول الله ﷺ أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها بعد أن كان أمر بها» فالتفت المأمون للحاضرين وقال: أتحفظون هذا من حديث الزهري؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة.
ونهى في خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، أي فإنهم أصابهم جوع فجودوا الحمر الأهلية، أي ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون، وقيل لم يدخلوها الحصون، فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها في القدور والبرام، وجعلوا يطبخونها للأكل، فمرّ بهم النبي ﷺ فسألهم عما في القدور والبرام، قالوا: لحوم الحمر الإنسية: أي المخالطة للإنس، فنهاهم عن أكلها حتى إن القدور أكفئت وإنها لتفور».
أي وفي البخاري «أن النبي ﷺ رأى نيرانا توقد يوم خيبر، قال: علام توقد هذه النيران؟ قالوا: على الحمر الإنسية، قال: اكسروها وأهريقوها، قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: اغسلوها».
وفي رواية «أنه قال: ما هذه النيران، على أي شيء توقد؟ قالوا: على لحم، قال: على أي لحم؟ قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله ﷺ: أهريقوها واكسروها، فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها؟ فقال أو ذاك» وعدوله إلى هذا الثاني إما باجتهاد أو وحي.
وجاء «أنه عند ذلك أمر عبدالله بن عوف أن ينادي في الناس أن لحوم الحمر الأهلية لا تحل لمن يشهد أن محمد رسول الله، وأمر أن تكفأ القدور ولا يأكلون من لحوم القدور شيئا».
وفي مسلم «فأمر رسول الله ﷺ أبا طلحة فنادى: إن رسول الله ﷺ ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس أو نجس» وهذا السياق كله يدل على أنهم لم يأكلوا منها شيئا.
وفي السيرة الهشامية: «وأكل المسلمون من لحوم الحمر، فقام رسول الله ﷺ فنهى الناس عن أمور سماها لهم » وهذا يرد القول بأنه إنما نهى عن أكلها للحاجة إليها، أو لأنها أخذت قبل القسمة.
وروي أبو داود بإسناد على شرط مسلم عن جابر «رضي الله ع» «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال، ولم ينهنا رسول الله ﷺ عن الخيل» وفي رواية «ورخص في أكل الخيل» أي أباح أكلها.
وفي مسلم عن أسماء «رضي الله ع»، قالت «نحرنا فرسا على عهد رسول الله ﷺ فأكلناه» أي وعلم رسول الله ﷺ بذلك ولم ينكره.
وعن خالد بن الوليد «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال والخيل».
قال السهيلي رحمه الله: وحديث الإباحة أصح، وجاء «أنه نهى يوم خيبر عن أكل لحم الجلالة وعن ركوبها، حتى تعلف أربعين يوما» والجلالة: التي تأكل الجلة، وهي الروث والعذرة.
وذكر الهروي «أنه كان لا يأكل الدجاج الجلالة حتى تقصر» أي تحبس ثلاثة أيام. وذكر فقهاؤنا أن الحمر الأهلية حللت بعد تحريمها، ثم حرمت فليتأمل.
ونهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، أي وذي مخلب من الطير وعن بيع المغانم حتى تقسم، وجعلت له مائدة فأكل متكئا وأطلى بالنورة، وكان ينوّره الرجل، فإذا بلغ عانته تولى ذلك بيده الشريفة.
وروى ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ ابن كثير «أنه كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله» وحينئذٍ يكون المراد بعانته في الرواية السابقة العورة على أن تلك الرواية مرسلة فلا يحتج بذلك لمن يقول إن العورة ما عدا السوءتين.
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة «رضي الله ع» «أنها قالت: أطلى رسول الله ﷺ بالنورة، فلما فرغ منها قال: يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهور، وإن الله تعالى يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم» أي فهو من نعيم الدنيا، ومن ثم كرهه عمر «رضي الله ع».
وعن ثوبان مولى رسول الله ﷺ لما قيل له وقد دخل الحمام: أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله؟ فقال: كان رسول الله ﷺ يدخل الحمام.
وعن ابن عمر «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ قال لأبي بكر وعمر «رضي الله ع»: طاب حمامكما» وجاء «أنه كان يتنوّر كل شهر، ويقلم أظفاره كل خمسة عشر يوما» وما ورد أنه لم يتنور فهو ضعيف معارض بما هو أقوى منه وأكثر عددا، على أن المثبت مقدّم على النافي. أي وفي الينبوع: وقول أنس «رضي الله ع» إن النبي ﷺ كان لا يتنوّر وكان يحلق محمول على الغالب من أمره.
وفي الخصائص الصغرى، وقال ابن عباس «رضي الله ع»: ما تنور نبي قط. وفي صحيح مسلم عن أنس «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ وقت لقص الشارب وتقليم الأظفار أن لا يدع ذلك أربعين يوما» أي وكان يقص أظفاره كل خمسة عشر يوما كما تقدم.
وقد استفيد من هذا كما قال بعضهم فائدة نفيسة وهي ذكر التوقيت للتنوّر وقص الأظفار. قال بعضهم: وفيه نظر، فإن بدنه كان في غاية الاعتدال فلا يقاس به غيره في ذلك، نظير ما قالوه فيما صح «أنه كان يوضئه المدّ، ويغسله الصاع» إن ذلك خاص ببدن من يكون بدنه كبدنه "عليه الصلاة والسلام نعومة واعتدالا، وإلا زيد ونقص المتفاوت فكذلك هنا، ومن ثم قال الأئمة رحمهم الله في نحو حلق العانة ونتف الإبط والقلم للظفر وقص الشارب: إن ذلك لا يتقيد بمدة، بل يختلف باختلاف الأبدان والمحالّ، فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك.
وبهذا يردّ على من قال يكره التنور في أقل من شهر، وقدم عليه بخيبر الأشعريون، أي ومنهم أبو موسى الأشعري «رضي الله ع»، والدوسيون ومنهم أبو هريرة «رضي الله ع»، فسأل أصحابه «رضي الله ع» أن يشركوهم في الغنيمة ففعلوا.
قال: وعن موسى بن عقبة رحمه الله أن أحد الأشعريين ومن ذكر معهم: أي وهم الدوسيون من هذين الحصنين اللذين فتحا صلحا، وتكون مشاورة رسول الله ﷺ في إعطائهم ليست استنزالا لهم عن شيء من حقهم، وإنما هي المشورة العامة: أي المأمور بها في قوله تعالى {وشاورهم في الأمر} انتهى.
أقول: وهذا صريح في أن ذلك كان فيئا له، فهما وما فيهما مما أفاء الله عليه، لأن الفيء ما جلوا عنه من غير قتال؛ أي من غير مصافة للقتال.
والحاصل أن أرض خيبر ونخلها غنيمة، لأنه غلب على النخل والأرض، وألجأهم إلى الحصون، وفتح جميع الحصون عنوة إلا الوطيح، والسُلالم فإنهما فتحا صلحا على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم، بشرط أن لا يكتموه شيئا من أموالهم، وأن من كتم شيئا انتقض ذلك الصلح له بالنسبة لدمه وذراريه.
وهذان الحصنان هما المرادان بالكثيبة في قول بعضهم: كان يطعم من الكثيبة أهله لما علمت أنهما من حصونها، وأنهما وما فيهما مما أفاء الله عليه.
وكونه كان يطعم أهله مما فيهما واضح. وأما إذا كان المراد يطعم من الأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فقد يتوقف فيه، لما تقدم أن أرض خيبر ونخلها غنيمة وذلك شامل للأرض والنخيل المتعلقين بالحصنين فليتأمل والله أعلم.
وفي لفظ: وقدم عليه بعد فتح خيبر جعفر بن أبي طالب «رضي الله ع» من أرض الحبشة ومعه الأشعريون، أبو موسى الأشعري وأخوه أبو رهم وأبو بردة «رضي الله ع»، وكان أبو موسى أصغرهم وأقواهم وكان قوم جعفر بالحبشة، أي لأنهم هاجروا إلى الحبشة من اليمن كما تقدم، وقبل قدومهم إليه قال «يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» فقدم الأشعريون، وذكر أنهم عند مجيئهم صاروا يقولون:
غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه قال في حقهم «أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية».
ولما أقبل عليه جعفر «رضي الله ع» قام إلى جعفر وقبله بين عينيه وفي رواية «قبل جبهته».
أي وعن ابن عباس «رضي الله ع» «لما قدم جعفر «رضي الله ع» من أرض الحبشة اعتنقه النبي ﷺ وقبل بين عينيه» وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة.
وقال بعضهم: إنها مكروهة، وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهي عنها، فإنه نهى عن المعاكمة وهي المعانقة، وحمل ذلك بعضهم على ما إذا كانت المعانقة من غير حائل.
أقول: لم يجب بذلك سيدنا مالك «رضي الله ع»، فإنه لما قدم عليه سفيان بن عيينة «رضي الله ع» صافحه مالك وقال له: لولا أنها بدعة لعانقتك، فقال له سفيان: قد عانق من هو خير منك ومني النبي، قال مالك: تعني جعفر بن أبي طالب؟ قال نعم، قال: ذلك حبيب خاص ليس بعامّ، أي فذلك من خصوصياته، فقال له سفيان: ما عم جعفرا يعمنا، وما يخصه يخصنا، أي فالأصل عدم الخصوصية، ثم قال له سفيان: أتأذن لي أن أحدثك بحديثك. قال نعم، فقال: حدثني فلان عن فلان عن ابن عباس «رضي الله ع»، وذكر الحديث المتقدم عنه، وقد جاء أنه التزم زيد بن حارثة «رضي الله ع» حين قدم عليه من مكة.
وأما المصافحة، فقد جاء «أن أهل اليمن لما قدموا المدينة صافحوا الناس بالسلام، فقال النبي ﷺ: إن أهل اليمن قد سنوا لكم المصافحة» وقال «من تمام محبتكم المصافحة» وقال لصفوان بن أمية لما قدم عليه «وإلى عدي بن حاتم». قال السهيلي: وليس هذا معارضا لحديث «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أن لا يقام له، وكان يقوم لفاطمة «رضي الله ع» وكانت تقوم له هذا كلامه، والله أعلم.
ولما رآه جعفر حجل: أي مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله، لأن أهل الحبشة يفعلون ذلك للتعظيم، وكان رسول الله ﷺ يقول له «أشبهت خلقي وخلقي» وفي لفظ «جعفر أشبه الناس بي خلقا وخلقا» وكان يسميه أبا المساكين، لأنه «رضي الله ع» كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه.
وذكر بعضهم أنه لما قال له «أشبهت خلقي وخلقي» رقص من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه رقصه، وجعل ذلك أصلا لجواز رقص الصوفية عندما يجدونه من لذة المواجيد من مجالس الذكر والسماع، ثم قال «والله ما أدري بأيهما أفرح؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ » «رضي الله ع».
وقيل قدم مع جعفر «رضي الله ع» سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام.
وفي لفظ: قدم معه سبعون كافرا أصحاب الصوامع، وقيل كانوا أربعين رجلا: اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام. وقيل كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران، واثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله ﷺ سورة يس? إلى آخرها فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى "عليه الصلاة والسلام.
أي ولعل هؤلاء الذين من الحبشة هم المرادون بقول بعضهم: ووفد إليه وفد النجاشي، فقام يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم. وفي لفظ: وقدم عليه أيضا أبو هريرة «رضي الله ع» وطائفة من قومه، وهم دوس كما تقدم.
قال أبو هريرة «رضي الله ع»: «قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة الغفاري، فأخبرنا أن النبي ﷺ بخيبر: فزودنا سباع، ثم جئنا خيبر وهو محاصر الكثيبة فأقمنا حتى فتح الله: أي وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم حبيبة بنت أبي سفيان «رضي الله ع» زوج النبي، تزوجها: أي عقد عليها وهي بالحبشة، فإنها كانت ممن هاجر الهجرة الثانية للحبشة مع زوجها عبدالله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك، وبقيت هي على إسلامها كما تقدم. وقد أرسل عمرو بن أمية الضمري «رضي الله ع» في المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشي ليزوجها منه، قالت أم حبيبة «رضي الله ع»: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت، فأولتها بأن رسول الله ﷺ يتزوجني، قالت: فما شعرت إلا وقد دخلت عليّ جارية النجاشي، فقالت لي: إن الملك يقول لك: إن رسول الله ﷺ كتب إليه أن يزوجك منه، فقلت لها: بشره الله بالخير، ويقول لك: وكلي من يزوجك، فأرسلت بالوكالة إلى خالد بن سعيد «رضي الله ع»، أي وأعطت تلك الجارية سوارين وخدمتين، أي خلخالين وخواتيم فضة سرورا بما بشرت به، فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين فحضروا وخطب النجاشي «رضي الله ع»، فقال «الحمد لله الملك القدوس» أي في لفظ بدل ذلك «المؤمن المهيمن، العزيز الجبار. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم "عليه الصلاة والسلام أما بعد ـ فإن رسول الله ﷺ كتب إلى أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبنا إلى ما دعا إليه رسول الله، وقد أصدقها أربعمائة دينار، أي وفي لفظ أربعمائة مثقال ذهب ثم سكب الدنانير بين يدي القوم، فتكلم خالد بن سعيد بن العاص «رضي الله ع»، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد: فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله ﷺ وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله »، أي ودفع النجاشي الدنانير لخالد بن سعيد، فقبضها منه، وقيل إنه أنقدها لها النجاشي على يد جاريته التي بشرتها، فلما جاءتها بتلك الدنانير أعطتها خمسين دينارا.
وقد يقال: يجوز أن يكون النجاشي استردها من خالد ثم دفعها لتلك الجارية، أو أمر خالد بن سعيد بدفعها للجارية لتدفعها لأم حبيبة فلا مخالفة، وهذا السياق يدل على أن النجاشي كان هو الوكيل عنه. وفي كلام بعض فقهائنا أنه وكل عمرو بن أمية في نكاح أم حبيبة.
وقد يقال: معنى توكيل عمرو إرساله بالوكالة للنجاشي، أي ثم لما أرادوا أن يقوموا بعد العقد قال لهم النجاشي: اجلسوا، فإن من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج؛ فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا، قالت أم حبيبة «رضي الله ع»: فلما كان من الغد جاءتني جارية النجاشي فردت عليّ جميع ما أعطيتها وقالت: إن الملك عزم عليّ أن لا أرزأك شيئا، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر، فجاءت بورس وعنبر وزباد كثير، وقالت: حاجتي إليك أن تقرئي رسول الله ﷺ مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه، وكانت كلما دخلت عليّ تقول لا تنسي حاجتي إليك، ثم أرسل النجاشي أم حبيبة مع شرحبيل ابن حسنة، أي قالت أم حبيبة: ولما دخلت على رسول الله ﷺ أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت معي جارية النجاشي وأقرأته منها السلام، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته.
وجاء «أنه لما رجعت إليه مهاجرة الحبشة قال: ألا تخبروني بأعجب شيء رأيتم بأرض الحبشة؟ فقال فتية منهم: يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم وعلى رأسها قلة فيها ماء، فمرت بصبي فدفعها فوقعت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت: أي قامت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، تعلم أمري وأمرك عنده، فقال رسول الله ﷺ: صدقت «كيف يقدس الله قوما لا يأخذ لضعيفهم من قويهم».
وذكر «أنه لما أقبل رسول الله ﷺ على خيبر ودنا منها بعث محيصة بن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم، قال محيصة: فجئتهم فجعلوا يتربصون ويقولون إن بخيبر عشرة آلاف مقاتل فيهم عامر وياسر والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى أن محمدا يقرب إليه، فمكثت عندهم يومين، ثم أردت الرجوع، فقالوا: نحن نرسل معك رجالا منا يأخذون لنا الصلح، كل ذلك وهم يظنون أنه لا يقدر على فتح خيبر، حتى جاءهم أناس من حصن ناعم، وأخبروهم أن رسول الله ﷺ فتحه فأرسلوا رجلا من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفر، يصالحون رسول الله ﷺ أن يحقن دماءهم ويجليهم، ويخلوا بينه وبين الأموال، ففعل ذلك رسول الله ».
وقيل تصالحوا معه على أن يكون لهم نصف الأرض ولرسول الله ﷺ النصف الآخر، فكان فدك على الأول لرسول الله، وعلى الثاني كان له نصفها لأنها لم تؤخذ بمقاتلة، فكان ينفق منها ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أيمهم.
ولما مات وولي أبو بكر «رضي الله ع» الخلافة سألته فاطمة «رضي الله ع» أن يجعلها أو نصفها لها فأبى. وروى لها أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» أي على المسلمين.
ومما يؤيد الثاني ما قيل إنه لما أجلاهم عمر «رضي الله ع» مع يهود خيبر كما سيأتي اشترى منهم حصتهم التي هي النصف بمال بيت المال.
فلما صارت الخلافة لعمر بن عبد العزيز «رضي الله ع»، فقيل له إن مروان اقتطعها: أي جعلها أقطاعا له، فقال: أرأيتم أمرا منعه رسول الله ﷺ فاطمة: أي بقوله «لا نورث ما تركناه صدقة» ليس لي بحق، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت على عهد رسول الله ﷺ: أي صدقة على المسلمين. وطلب الصلح كان بعد أن أرادت غطفان وسيدهم عيينة بن حصن أن يعينوا أهل خيبر، أي وكانوا أربعة آلاف، فإن يهود خيبر لما سمعوا بمجيئه إليهم أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهودة بن قيس في أربعة عشر رجلا إلى غطفان ليستمدوا بهم، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن غلبوا على المسلمين، فجمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر.
أي ويقال إن رسول الله ﷺ أرسل إليهم أن لا يعينوهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم، أي وهو نصف ثمارها فأبوا وقالوا جيراننا وحلفاؤنا، فلما ساروا قليلا سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوه القوم: أي ظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم، أي فألقى الله الرعب في قلوبهم فرجعوا على الصعب والذلول: أي مسرعين على أعقابهم فأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله ﷺ وبين أهل خيبر، أي وفي رواية سمعوا صوتا: أيها الناس أهليكم خولفتم إليهم، فرجعوا فلم يروا لذلك نبأ.
ويدل للثاني أن غطفان لما قدموا خيبر، قال عيينة بن حصن لرسول الله ﷺ وقد وجده فتح حصونها: أعطنا الذي وعدتنا.
وفي رواية: أعطني مما غنمت من حلفائي، فإني امتنعت عنك وعن قتالك، فقال له رسول الله ﷺ: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفذك إلى أهلك ولكن لك ذو الرقيبة، قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال الجبل الذي رأيت في منامك أنك أخذته.
أي فإن عيينة بن حصن لما سمع الصوت ورجع إلى أهله ولم يجد شيئا رجع بعد ذلك بمن معه إلى خيبر وأنهم بالقرب منها عرّسوا من الليل، فنام عيينة وانتبه وقال لقومه: أبشروا فإني رأيت الليلة في النوم أني أُعطيت ذا الرقيبة وهو جبل بخيبر، لقد والله أخذت برقبة محمد، فلما قدم خيبر وجد رسول الله ﷺ قد فتح خيبر الحديث. وقدم عليه حينئذٍ أيضا حجاج بن علاط السلمي وأسلم، والعلاط: وسم في العنق، وهو أبو نصر بن حجاج الذي نفاه عمر «رضي الله ع» لما سمع أم الحجاج بن يوسف الثقفي تهتف به وتقول الأبيات التي منها:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ** أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
ومن ثم قال عروة بن الزبير يوما للحجاج: يا ابن المتمنية يعيره بذلك، وكان الحجاج مكثرا من المال، فقال: يا رسول الله إن مالي عند امرأتي بمكة ومتفرق في تجار مكة، فأذن لي أن آتي مكة لآخذ مالي قبل أن يعلموا بإسلامي فلا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله لا بد لي من أن أقول: أي أتقول وأذكر ما هو خلاف الواقع: أي ما أحتال به لما يوصل إلى أخذ مالي، قال: قل، قال: فخرجت حتى انتهيت إلى الحرم، فإذا رجال من قريش يتشممون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله ﷺ سار إلى خيبر: أي أهل القوة والمنعة بعدما وقع بينهم من المراهنة على مائة بعير في أن النبي ﷺ يغلب أهل خيبر أولا، فقال حويطب بن عبد العزى وجماعة بالأول، وقال عباس بن مرداس وجماعة بالثاني، فقالوا: حجاج عنده والله الخبر، ولم يكونوا علموا بإسلامي: يا حجاج إنه قد بلغنا أن القاطع يعنون رسول الله ﷺ قد سار إلى خيبر، فقلت: عندي من الخبر ما يسركم، فاجتمعوا عليّ يقولون: إيه يا حجاج؟ فقلت لهم: لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتل غير أهل خيبر، فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فنقلته بين أظهرهم.
وفي لفظ: يقتلونه بمن كان أصاب من رجالهم، فصاحوا وقالوا لأهل مكة: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم. قال حجاج: وقلت لهم أعينوني على غرمائي، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هناك، فجمعوا لي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكة من المسلمين، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب «رضي الله ع»، فجعل لا يستطيع أن يقوم، ثم بعث إلى حجاج غلاما وقال: قل له: يقول لك العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقا، فقال له حجاج: اقرىء على أبي الفضل السلام وقل له ليخل لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام، فقال: أبشر أبا الفضل، فوثب العباس فرحا كأن لم يمسه شيء وأخبره بذلك فأعتقه العباس «رضي الله ع» وقال: لله عليّ عتق عشر رقاب.
فلما كان ظهرا جاءه حجاج فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام، أي وقال إني أخشى الطلب، فإذا مضت ثلاث، فأظهر أمرك، فوافقه العباس على ذلك فقال: إني قد أسلمت، وإن لي مالا عند امرأتي ودينا على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوه إليّ، إني تركت رسول الله ﷺ قد فتح خيبر وجرت سهام الله وسهام رسوله فيها، وتركته عروسا بابنة ملكهم حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق.
فلما أمسى حجاج خرج وطالت على العباس تلك الليالي الثلاث، فلما مضى حجاج أي ومضت الثلاث عمد العباس «رضي الله ع» إلى حلة فلبسها، وتخلق بخلوق وأخذ بيده قضيبا، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذ مرّ بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل، هذا والله التجلد بحرّ المصيبة، قال: كلا الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني حجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله، وجرت فيها سهام الله وسهام رسول الله، واصطفى رسول الله صفية بنت ملكهم حيي بن أخطب لنفسه، وأنه تركه عروسا بها، أي وإنما قال ذلك لكم ليخلص ماله، وإلا فهو ممن أسلم، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، فقال المشركون: ألا يا عباد الله انفلت عدو الله، يعنون حجاجا، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا إن جاءهم الخبر بذلك هذا.
وفي الدلائل للبيهقي رحمه الله: لما فتح رسول الله ﷺ خيبر قال حجاج بن علاط: يا رسول الله ﷺ إن لي بمكة مالا، وإن لي بها أهلا. وأنا أريد أن آتيهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك وقلت شيئا، فأذن له رسول الله ﷺ أن يقول ما شاء، فقال لامرأته حين قدم: أخفي عليّ، واجمعي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، وأصيبت أموالهم، ففشا ذلك بمكة، فاشتد ذلك على المسلمين، وأظهر المشركون فرحا وسرورا، وبلغ العباس «رضي الله ع» الخبر، فقعد وجعل لا يستطيع أن يقوم، فأرسل العباس «رضي الله ع» غلاما له إلى الحجاج: ويلك ما تقول فالذي وعد الله خير مما جثت به، فقال حجاج: يا غلام اقرىء أبا الفضل السلام، وقل له: فليخل بي في بعض بيوته فآته بالخبر على ما يسره. فلما بلغ العبد باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباس فرحا حتى قبل ما بين عينيه، فأخبره بقول حجاج فأعتقه. ثم جاء حجاج، فأخبره بافتتاح رسول الله ﷺ خيبر وغنم أموالهم، وأن سهام الله قد جرت فيها، وأن رسول الله ﷺ اصطفى صفية بنت حيي لنفسه، وخيرها بين أن يعتقها وتكون له زوجة أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون له زوجة، ولكن جئت لمالي هاهنا أن أجمعه وأذهب به، وإني استأذنت رسول الله ﷺ أن أقول، فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف عليّ يا أبا الفضل ثلاثا ثم اذكر ما شئت. قال: فجمعت له امرأته متاعه، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس «رضي الله ع» امرأة حجاج فقال: ما فعل زوجك؟ قالت: ذهب، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل، لقد شقّ علينا الذي بلغك، فقال: أجل، لا يحزنني الله، فلم يكن لمحمد إلا ما أحب، فتح الله على يد رسوله خيبر، واصطفى رسول الله ﷺ صفية لنفسه، فإن كان لك في زوجك حاجة فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقا، قال: فإني والله صادق، والأمر على ما أقول. ثم ذهب حتى أتى مجلس قريش الحديث.
قال: ولما قدم رسول الله ﷺ خيبر كان التمر أخضر، فأكثر الصحابة من أكله، فأصابتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال: برّدوا لها الماء في الشنان: أي القرب، ثم صبوا عليكم منه بين أذاني الفجر، واذكروا اسم الله عليه، ففعلوا، فذهبت عنهم.
وعن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع»: أصابتني ضربة يوم خيبر، قال الناس: أصيب سلمة بن الأكوع، فأتيت رسول الله، فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها ساعة.
وفي هذه الغزوة أراد أن يتبرز، فقال لابن مسعود «رضي الله ع»: يا عبدالله انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت فإذا شجرة واحدة فأخبرته، فقال لي: انظر هل ترى شيئا؟ فنظرت شجرة أخرى متباعدة من صاحبتها، فأخبرته، فقال: قل لهما إن رسول الله ﷺ يأمركما أن تجتمعا، فقلت لهما ذلك فاجتمعا، فاستتر بهما، ثم قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها.
وفي الإمتاع عن جابر بن عبدالله «رضي الله ع»: سرنا مع رسول الله ﷺ حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله ﷺ يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطىء الوادي، فانطلق رسول الله ﷺ إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ باذن الله تعالى، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها. فقال: انقادي عليّ باذن الله تعالى، فانقادت معه كذلك، حتى كان بالنصف مما بينهما ولأم بينهما، وقال التئما عليّ باذن الله تعالى فالتأمتا، قال جابر «رضي الله ع»: فخلوت أحدّث نفسي، فحانت مني التفاتة، فإذا أنا برسول الله ﷺ مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا وذهبت كل واحدة إلى محلها الحديث، ولا بعد في تعدد الواقعة.
ووقع له مجيء بعض الشجر إليه قبل أن يهاجر. فقد جاء أنه خرج إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه، وقولهم له: تضلل آباءك وأجدادك يا محمد، ومن خضبهم له بالدماء، فقال: يا رب أرني اليوم آية اطمئن إليها ولا أبالي بمن آذاني بعدها، وكان ذلك الوادي به شجرة، فأمر أن يدعو شجرة من تلك الشجر. وفي لفظ: غصنا من أغصان شجرة فدعا ذلك فانتزع من مكانه وجاء إليه وسلم عليه، ثم أمره بالعود فعاد إلى مكانه، فحمد الله وطابت نفسه، وعلم أنه على الحق وقال: لا أبالي بمن آذاني بعد هذا من قومي.
أقول: ووقع له إجابة الحجر. فعن تفسير الفخر الرازي أنه كان مع عكرمة بن أبي جهل بشط ماء، فقال عكرمة للنبي: إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر، لحجر كان في الجانب الآخر يسبح في الماء ويجيء إليك ولا يغرق، فأشار إليه، فانقلع ذلك الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدي رسول الله ﷺ وشهد له بالرسالة، فقال النبي ﷺ لعكرمة: يكفيك هذا، فقال حتى يرجع إلى مكانه، فأشار إليه فرجع إلى مكانه، ولم يسلم عكرمة في ذلك الوقت، وإنما أسلم يوم فتح مكة، والله أعلم.
وعند خروجه إلى هذه الغزوة أمر مناديا ينادي من كان مضيعا أو ضعيفا أو مصعبا، أي راكبا دابة صعبة فليرجع، فرجع ناس، وارتحل مع القوم رجل على بكر صعب أو ناقة صعبة، فنفر مركوبة فصرعه، فاندقت فخده، فمات، فلما جيء به إلى النبي ﷺ قال: ما شأن صاحبكم؟ فأخبروه، قال: يا بلال ما كنت أذنت في الناس من كان مصعبا: أي راكبا دابة صعبة فليرجع، قال: بلى، فأبى أن يصلي عليه، وأمر بلالا فنادى في الناس: الجنة لا تحلّ لعاص ثلاثا، وفيها مات شخص من الصحابة، فقال: صلوا على صاحبكم، وامتنع من الصلاة عليه، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
وفيها أنه قال لرجل من المسلمين: هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا أشدّ القتال، فارتاب بعض الصحابة: أي كيف يكون من أهل النار مع هذه المقاتلة الشديدة، فلما كثرت الجراحات في ذلك الرجل ووجد ألمها أخرج سهما من كنانته ونحر نفسه، فأخبر بذلك رسول الله ﷺ فقال: قم يا بلال فأذن «لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة» الحديث.
وفي رواية «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وتقدّم في غزوة أحد مثل ذلك. ولا بعد في التعدد إن لم يكن من الاشتباه على الراوي.
أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي: لما فتحت خيبر واطمأن الناس جعلت زينب ابنة الحارث أخي مرحب، وهي امرأة سلام بن مشكم تسأل: أي الشاة أحبّ إلى محمد؟ فيقولون الذراع، قيل: وإنما أحبّ الذراع لأنه هادي الشاة وأبعدها من الأذى، فعمدت إلى عنز لها فذبحتها وصلتها، ثم عمدت إلى سم لا يلبث أن يقتل من ساعته فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف، فلما غابت الشمس وصلى المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله، فسأل عنها، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها فأخذت منها فوضعت بين يديه وأصحابه حضور أو من حضر منهم، وفيهم بشر بن البراء بن معرور، فقال رسول الله ﷺ: ادنوا فقعدوا، وتناول رسول الله ﷺ الذراع فانتهش منه، فلما ازدرد رسول الله ﷺ لقمة ازدرد بشر ما في فيه وأكل القوم منها، فقال رسول الله ﷺ: ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع أو الكتف تخبرني أنها مسمومة، فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي، أي لقمتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك، فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون ازدردتها، فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان أي أسود، وماطله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حول ثم مات.
وقال بعضهم: فلم يقم بشر من مكانه حتى توفي. أي والمتبادر من المكان مكان الأكل، وربما يدل له عدم ذكر بشر في الحجامة، وطرح منها لكلب فمات ا هـ، أي فلم يأكل إلا بشر «رضي الله ع».
وحينئذٍ يكون المراد بقوله: وأكل القوم منها: أي أرادوا الأكل، أي ووضعوا أيديهم، بدليل قوله «ارفعوا أيديكم» ويدل له ما يأتي عن الإمتاع. وفي الأصل أنها أهدتها لصفية «رضي الله ع»، فدخل رسول الله ﷺ على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور فقدمت إليهما تلك الشاة، فتناول رسول الله ﷺ الكتف، وفي رواية الذراع، فانتهش منه قطعة فلاكها ثم ألقاها: أي ولم يبتلعها، أي وانتهش من الشاة بشر قطعة فابتلعها، ثم نهى رسول الله ﷺ عن تناول شيء منها وقال إن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها، فقال بشر: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك فيما أكلته، فما منعني من لفظه إلا أني أعظمت أن أنغصك طعاما، فلم يقم بشر «رضي الله ع» من مكانه حتى كان لا يتحول إلا إن حوّل، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وأحييت عضو الشاة بعد مماتها ** فجاء بنطق موضح للنصيحة
وقال رسول الله لا تك آكلي ** فزينب سامتني الهوان وسمّتِ
وهذا يؤيد القول بأن كلام نحو الجماد يكون بعد أن يخلق الله فيه الحياة.
ومذهب الأشعري رحمه الله أن الله يخلق في نحو الجماد حروفا وصوتا يحدث ذلك فيه، أي وليس من لازم ذلك وجود الحياة.
واحتجم رسول الله ﷺ على كاهله، أي حجمه أبو طيبة مولى بني بياضة وقيل أبو هند وهو مولى بني بياضة أيضا، أي وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم أي وهم كما في الإمتاع ثلاثة نفر، وضعوا أيديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا. وفيه أنه لا معنى لاحتجام أصحابه إذا لم يأكلوا شيئا، ومن ثم قال في سفر السعادة: واحتجم بين الكتفين في ثلاثة مواضع، وأمر من أكل أي من أراد أن يأكل معه بذلك، إلا أن يقال مجرد وضع اليد ربما سري بسببه السم إلى باقي الجسد، وقال «الحجامة في الرأس هي المعينة، أمرني بها جبريل "عليه السلام" حين أكلت طعام اليهودية».
وقد احتجم رسول الله ﷺ في غير هذه الواقعة مرارا في محالّ مختلفة، فقد جاء أنه احتجم على الأخدعين مرتين، واحتجم وسط رأسه الشريف، وكان يسميها منقذة أي وذلك لما سحر.
ففي (سفر السعادة): لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة النبوية أمر بالحجامة على قبة رأسه المباركة. واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة، ومن لاحظ له في الدين والإيمان يستشكل هذا العلاج هذا كلامه.
ودخل عليه الأقرع بن حابس وهو يحتجم في القمحذوة، فقال: يا ابن أبي كبشة لم احتجمت وسط رأسك؟ فقال: يا ابن حابس إن فيها شفاء من وجع الرأس والأضراس والنعاس والجنون، أي وفي الحديث «الحجامة في الرأس شفاء من سبع: من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس وظلمة يجدها في عينيه» وفي الحديث «اجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد» وفي بعض الروايات «يوم الأحد شفاء» ويحتاج للجمع.
وجاء النهي عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي، وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم» وفي حديث بعض رواته واهي الحديث «احتجم ثلاثا في النقرة والكاهل وسط الرأس، وسمى واحدة الدافعة والأخرى المعينة والأخرى المنقذة» وقال «خير ما تداويتم به الحجامة، وما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد مرأمتك بالحجامة».
قال في الهدى: والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد. والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم.
وعن أبي هريرة «رضي الله ع» مرفوعا «من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء، والحجامة على الريق دواء، وعلى الشبع داء».
وتكره في الأربعاء والسبت، قيل ويوم الجمعة. وفي الحديث «من احتجم يوم الأربعاء أو السبت وحصل له برص لا يلومنّ إلا نفسه» وجاء أمره باجتناب الحجامة يوم الأربعاء فإنه اليوم الذي أصيب فيه أيوب "عليه السلام" بالبلاء، وما يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وليلة الأربعاء.
ثم أرسل رسول الله ﷺ إلى تلك اليهودية فقال: أسممت هذه الشاة؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: أخبرتني هذه التي في يدي وهي الذراع، قالت: نعم، قال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: بلغت من قومي ما لا يخفى عليك. أي وفي لفظ: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان ملكا استرحنا منه، وإن كان نبيا فسيخبر، فعفا عنها رسول الله، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله:
ثم سمت له اليهودية الشا ** ة وكم سام الشقوةَ الأشقياء
فأذاع الذراع ما فيه من سم ** بنطق إخفاؤه إبداء
وبخلق من النبي كريم ** لم تقاصص بجرحها العجماء
أي ثم جعلت اليهودية السم القاتل لوقته في الشاة، ومرات كثيرة يطلب الشقوة ويتحلى بها الأشقياء الذين لا خلاق لهم، فأخبر ذلك الذراع النبي ﷺ بالنطق بما فيه من السم، إخفاء ذلك النطق عن الحاضرين إبداء وإظهار له، وبسبب ما تحلى به من كمال الحلم والعفو لم يقاصص تلك المرأة بجرحها، أي بجرح سمها، لأن السم يجرح الباطن كما يجرح الحديد الظاهر.
فلما مات بشر «رضي الله ع» أمر بها فقتلت، أي وقيل وصلبت كما في أبي داود وعبارة السهيلي رحمه الله: وقد روى أبو داود أنه قتلها، ووقع في كتاب (شرف المصطفى) أنه قتلها وصلبها هذا كلامه. وقيل إنما تركها لأنها أسلمت، فالعفو عنها: أي عدم مؤاخذتها كان قبل أن يموت بشر «رضي الله ع»، فلما مات بشر دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها.
وفي الإمتاع: واختلفت الآثار في قتلها، ففي صحيح مسلم أنه لم يقتلها، وقال ابن إسحاق أجمع أهل الحديث على أن رسول الله ﷺ قتلها، وقد علمت أنه لا مخالفة، لكن قتلها مشكل على ما عليه أئمتنا معاشر الشافعية من أن من ضيف بمسموم يقتل غالبا مميزا فمات كان شبه عمد لا قود فيه.
وفي كلام بعضهم أنها قالت: قد استبان لي الآن أنك صادق، وأني أشهدك ومن حضر أني على دينك، وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فانصرف عنها حين أسلمت، كذا في جامع معمر عن الزهري أنها أسلمت، قال معمر: هكذا قال الزهري إنها أسلمت والناس يقولون قتلها وإنها لم تسلم، وأمر بتلك الشاة فأحرقت.
وفي رواية أنه بعد سؤال اليهودية واعترافها بسط يده إلى الشاة، وقال لأصحابه: كلوا باسم الله، فأكلوا وقد سموا الله فلم يضر ذلك أحدا منهم، قال ابن كثير: وفيه نكارة وغرابة شديدة، هذا كلامه.
ويذكر «أن أخت بشر بن البراء دخلت عليه في مرضه الذي مات فيه، فقال لها: هذا أوان انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر» والأبهر: العرق المتعلق بالقلب.
وقد قسم غنائم خيبر؛ فأعطى الراجل سهما، والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء؛ ومن جملة من أعطاه أبو سبيعة بن المطلب بن عبد مناف واسمه علقمة، ولم يقسم لمن غاب من أهل الحديبية إلا لجابر ابن عبدالله «رضي الله ع». ورضخ للنساء، أي وكن عشرين امرأة، فيهن صفية عمته وأم سليم وأم عطية الأنصارية.
وعن بعضهم قالت «أتيت رسول الله ﷺ في نسوة، فقلت: يا رسول الله قد أردن الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا، فقال: على بركة الله، قالت فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضخ لنا وأخذ هذه القلادة ووضعها في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا، وأوصت أنها تدفن معها». زاد في السيرة الهشامية «أنها قالت: وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله ﷺ على حقيبة رحله، قالت: فلما كان الصبح وأناخ راحلته ونزلت عن حقيبة رحله، وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها. قالت: فتقبضت إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله ﷺ حالي قال: مالك؟ لعلك نفست، قالت: قلت نعم، قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمرتحلك» قالت: فكنت لا أطهر من حيضة إلا جعلت في طهري ملحا، وأوصت أن يجعل ذلك في غسلها حين ماتت.
ثم دفع لأهل خيبر الأرض لما قالوا له: نحن أعلم بها منكم، وأعمرها بشرط ما يخرج منها من تمر أو زرع، وقال لهم: على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. أي وهذا يخاف ما عليه أئمتنا من أنه لا يجوز في عقد الجزية أن يقول الإمام أو نائبه: أقركم ما شئنا، بخلاف ما شئتم، لأنه تصريح بمقتضى العقد، لأن لهم نبذ العقد شاؤوا. وذكر أئمتنا أنه يجوز منه لا منا أن يقول: أقررتكم ما شاء الله لأنه يعلم مشيئة الله دوننا، والشطر في هذا ظاهر في النصف، ولم أقف على تعيينه في رواية.
وكان يرسل إلى أهل خيبر عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» خارصا. قيل وإنما خرص عليهم عبدالله عاما واحدا؛ ثم مات، وهذا يخالفه قول بعضهم: كان عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» يأتيهم كل عام يخرصها يعني الثمار عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله ﷺ شدّة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء الله تطعموني السحت، والله لقد جئتم من عند أحب الناس إليّ، ولأنتم أبغض إليّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض، وكان يخرص عليهم بعده جبار بن صخر، وكان خارصا لأهل المدينة.
أقول: أي ساقاهم على النخل، وزارعهم على الأرض، هكذا استدل بذلك أئمتنا على ما ذكر: أي على جواز المساقاة، وجواز المزارعة تبعا لها، ويكون ذلك مخصصا للنهي عن المزارعة: أي ما لم تكن تبعا للمساقاة، وهو لا يتم إلا إن كانت أرض خيبر جميعها بين النخل بحيث يعسر سقيها بدون النخل، وأنه دفع لهم بذرا لأن في المزارعة يجب أن يكون البذر من المالك لا من العامل.
ولم أقف في شيء من الطرق على أنه دفع لهم بذرا، بل ظاهر الروايات يدل على أن البذر معهم، وصرحت به رواية مسلم.
ويبعد أن تكون أراضي خيبر كلها كانت بين النخل بحيث يغسر سقيها بدون النخل، وحينئذٍ يكون الواقع في خيبر إنما هي المخابرة، وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل، وهي باطلة عندنا، بل قيل عند المذاهب الأربعة ولو تبعا للمساقاة، والله أعلم.
ثم إن الصديق «رضي الله ع» أقرهم بعده، ثم أقرهم عمر «رضي الله ع» إلى أن خرج ولده عبدالله «رضي الله ع» في خلافة أبيه إلى خيبر، فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، فقام عمر «رضي الله ع» خطيبا، فقال: إن رسول الله ﷺ كان عامل أهل خيبر على أموالهم: أي أرضهم ونخلهم، وقال لهم نقركم على ما أقركم الله، وإن عبدالله بن عمر خرج إلى ما له هناك فعدي عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه، وليس لنا هناك عدوّ غيرهم. وقد رأيت إجلاءهم أي ووافقه الصحابة على ذلك، فإن عمر «رضي الله ع» قام خطيبا في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن يهود فعلوا بعبدالله بن عمر ما فعلوا، وفعلوا بمطهر ابن رافع ما فعلوا مع عدوانهم على عبدالله بن سهيل في عهد رسول الله ﷺ ولا أشك أنهم أصحابه، وأنا أريد أن أجلو يهود، فإن رسول الله ﷺ قال: أقركم ما أقركم الله، وقد أذن الله في إجلائهم، فقام طلحة بن عبيد الله، فقال: قد والله أحسنت يا أمير المؤمنين ووفقت، فهم أهل سوء، فقال عمر «رضي الله ع»: من معك على مثل رأيك؟ قال المهاجرون جميعا والأنصار، فسرّ بذلك عمر «رضي الله ع».
وقوله وفعلوا بمطهر ما فعلوا، أي لأن مطهر بن رافع قدم خيبر بأعلاج من الشام عشرة عبيد له ليعملوا له بأرضه، فأقام بخيبر ثلاثة أيام، فقال لهم رجل من يهود: أنتم نصارى ونحن يهود، وهذا سيدكم من قوم عرب قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال وهو رجل واحد يسوقكم إلى الجهد والبؤس وتكونون في رق شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه، فقالوا له: ليس معنا سلاح، فدست اليهود لهم سكينتين أو ثلاثة، فلما خرجوا من خيبر أقبلوا على مطهر بسكاكينهم، فخرج مطهر يعدو إلى سيفه، وكان في قرابه على راحلته، فأدركوه قبل الوصول إليه وبعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعا حتى دخلوا خيبر على يهود فآووهم وزودوهم إلى الشام، وجاء عمر «رضي الله ع» الخبر بقتل مطهر وما صنعت به يهود.
وقوله مع عدوانهم على عبدالله بن سهيل، أي فإنه وجد قتيلا في خيبر لأهل حصن الشق، فسألهم أخوه محيصة، فقالوا له: لا والله ما لنا به من علم، قال: فجئت أنا وأخي عبد الرحمن وأخي حويصة وهو أكبرنا إلى رسول الله ﷺ فأراد أخي عبد الرحمن يتكلم وهو أصغرنا، فقال له رسول الله ﷺ: كبر كبر فسكت، فأردت أن أتكلم، فقال: كبر كبر فسكت، فتكلم أخي حويصة، وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا، فقال: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يأذنوا بحرب، وكتب إليهم في ذلك، وكتبوا إليه: ما قتلناه، فقال لي ولأخوي: تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم؟ فقلنا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد، قال: فتحلف لكم يهود؟ قلنا: يا رسول الله ليسوا بمسلمين، فواده رسول الله ﷺ من عنده بمائة ناقة: خمس وعشرين جذعة وخمس وعشرين حقة، وخمس وعشرين ابنة لبون، وخمس وعشرين بنت مخاض.
وعن ابن المسيب رحمه الله: كانت القسامة في الجاهلية، ثم أقرها في الإسلام في الأنصاري الذي وجد قتيلا في جبّ من جباب يهود، فلما أجمع الصحابة على ذلك: أي على ما أراده سيدنا عمر «رضي الله ع»، جاءه أحد بني الحقيق، فقال: يا أمير المؤمنين أتخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على أموالنا وشرط ذلك لنا؟ فقال له عمر «رضي الله ع»: أظننت أني نسيت قول رسول الله ﷺ لك «كيف بك إذا أخرجت من خيبر يعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة؟ » فقال: هذه كانت هزيلة من أبي القاسم، فقال كذبت يا عدو الله، ثم بلغه «رضي الله ع» أنه قال: «لا يبقى دينان في جزيرة العرب» وقوله «لأخرجن اليهود والنصارى» وفي لفظ «المشركين من جزيرة العرب» وفي رواية «آخر ما تكلم به النبي ﷺ: أخرجوا اليهود من الحجاز» وفي لفظ «إن عشت أخرجت اليهود والنصارى من الحجاز» أي وهو مكة والمدينة واليمامة وطرقها وقراها كالطائف لمكة، وخيبر للمدينة، والمراد بجزيرة العرب الحجاز المشتملة عليه، أي فالمراد بجزيرة العرب بعضها وهو الحجاز خاصة، لأن عمر لما أجلاهم ذهب بعضهم إلى تيما، وبعضهم إلى أريحا، وتيما من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز، وقيل له حجاز لأنه حجز بين نجد وتهامة. ففحص عمر «رضي الله ع» عن ذلك حتى تيقنه وثلج صدره فأجلى يهود خيبر، أي وأعطاهم قيمة ما كان لهم من ثمر وغيره.
وأجلى يهود فدك ونصارى نجران، فلا يجوز إقامتهم بذلك أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، ولم يخرج يهود وادي القرى وتيما لأنهما من أرض الشام لا من الحجاز.
ثم ركب في المهاجرين والأنصار، وخرج معه جبار بن صخر ويزيد بن ثابت فقسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها كما قسمت على عهد رسول الله.
وروي أنه لما فتح خيبر أصاب حمارا أسود، فقال له رسول الله ﷺ: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدّي ستين حمارا كلهم لا يركبهم إلا نبي، وقد كنت أتوقعك لتركبني لم يبق من نسل جدي غيري، ولم يبق من الأنبياء غيرك، قد كنت لرجل يهودي فكنت أتعثر به عمدا، وكان يجيع بطني ويضر بظهري، فقال له النبي ﷺ: فأنت يعفور، وكان رسول الله ﷺ يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله، فلما مات رسول الله ﷺ ألقى نفسه في بئر جزعا على رسول الله ﷺ فمات: قال ابن حبان: هذا خبر لا أصل له وإسناده ليس بشيء. وقال ابن الجوزي: لعن الله واضعه فإنه لم يقصد إلا القدح في الإسلام والاستهزاء به. وقد قال شيخنا العماد بن كثير هذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف، وسألت شيخنا المزي رحمه الله فقال: ليس له أصل وهو ضحكة، وقد أودعه كتبهم جماعة منهم القاضي عياض في الشفاء والسهيلي في روضه، وكان الأولى ترك ذكره، ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغفر لنا وله وللمسلمين.
غزوة وادي القرى
ثم عند منصرفه من خيبر أتى وادي القرى وأهله يهود، فدعاهم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك وقاتلوا: أي برز رجل منهم فقتله الزبير «رضي الله ع»، فبرز آخر فقتله عليّ كرم الله وجهه، ثم برز آخر فقتله أبو دجانة «رضي الله ع»، فقاتلهم المسلمون إلى المساء، وقتل منهم أحد عشر رجلا، ففتحها رسول الله ﷺ عنوة، وغنمه الله أموال أهلها، وأصاب المسلمون منهم أثاثا ومتاعا، فخمسه رسول الله ﷺ وترك الأرض والنخيل في أيدي أهلها. أي من بقي منهم، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر. وفي لفظ: ومن رسول الله ﷺ على يهود وترك في أيديهم أراضي وادي القرى والبساتين والحدائق، يعملون فيها ويأخذون الأجرة. وقيل حاصرهم ليالي، ثم انصرف راجعا إلى المدينة. فعلى الأوّل تضم للغزوات التي وقع فيها القتال.
ولما بلغ أهل تيما ما فعل رسول الله ﷺ بأهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه على الجزية، فأقاموا ببلادهم وأرضهم في أيديهم: قال: وقتل عبده الأسود الذي كان يرحل لرسول الله، بينما هو يحط رحله جاءه سهم فقتله، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله ﷺ: كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من خيبر من الغنائم قبل أن تقسم تشتعل عليه نارا انتهى.
ولما قرب من المدينة سار رسول الله ﷺ وأصحابه ليلة، فلما كان قبيل الصبح نزل وعرس وقال: ألا رجلا حافظا لعينه يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام، فقال بلال «رضي الله ع»: أنا يا رسول الله أحفظه عليك، وفي لفظ قال: يا بلال اكلأ لنا الليل، فنام رسول الله ﷺ وأصحابه وقام بلال «رضي الله ع» يصلي ما شاء الله، ثم استند إلى بعير واستقبل الفجر يرمقه، فغلبته عينه فنام، فلم يستيقظ رسول الله ﷺ ولا أحد من الصحابة، «رضي الله ع» حتى ضربتهم الشمس، وكان أول من استيقظ رسول الله ﷺ فقال: ما صنعت يا بلال قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: صدقت، أي وتبسم. وفي رواية: أنه التفت إلى أبي بكر الصديق وقال له: إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي، فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام، ثم دعا رسول الله ﷺ بلالا، فأخبر بلال رسول الله ﷺ بمثل ما أخبر به الصديق، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: أشهد أنك رسول الله.
ثم سار بالناس يقود بعيره غير كثير، ثم أناخ، فتوضأ وتوضأ الناس وأمر بلالا فأقام الصلاة. وفي رواية: فاقتادوا رواحلهم. وفي رواية: فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال: هذا واد به شيطان، فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي، الحديث. فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها، فإن الله تعالى يقول {وأقم الصلاة لذكري}. وفي رواية: إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها، ثم فزع إليها فليصلها في وقتها. أي وقيل إن ذلك كان في مرجعه من الحديبية، وقيل في مرجعه من حنين، وقيل في مرجعه من تبوك. قال في الإمتاع: وهذا لا يصح لأن الآثار الصحاح على خلافه، أي دالة على أن ذلك كان في رجوعه من وادي القرى.
وقد يقال: لا مانع من التعدد، ويدل للقول بأن ذلك كان في مرجعه من الحديبية ما جاء عن ابن مسعود «رضي الله ع» «أقبلنا مع رسول الله ﷺ زمن الحديبية» وفي رواية «لما انصرفنا من غزوة الحديبية قال النبي ﷺ: من يحرسنا الليلة؟ فقلت: أنا يا رسول الله، قال: إنك تنام، ثم أعاد: من يحرسنا الليلة؟ فقلت: أنا حتى أعاد ذلك مرارا وأنا أقول أنا، فقال رسول الله ﷺ: فأنت، قال: فحرستهم حتى إذا كان وجه الصبح أدركني قول رسول الله ﷺ إنك تنام فنمت، فما أيقظنا إلا حر الشمس في ظهورنا» وسيأتي في تبوك عن الحافظ ابن حجر اختلاف العلماء في التعدد.
وكان بين الحديبية وعمرة القضاء، إسلام خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحجبي «رضي الله ع». وقيل كان بعد عمرة القضاء، ويشهد له ما جاء عن خالد بن الوليد «رضي الله ع» أنه قال: لما أراد الله عز وجل ما أراد بي من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي، وقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطن أشهده إلا انصرف، وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا يظهر، فلما جاء لعمرة القضاء تغيبت ولم أشهد دخوله، فكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه فطلبني فلم يجدني، فكتب إليّ كتابا، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ـ فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وقلة عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد، قد سألني عنك رسول الله ﷺ فقال أين خالد، فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله يجهل الإسلام، ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتك مواطن صالحة، فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام، وسرتني مقالة رسول الله، ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة، فلما اجتمعنا للخروج إلى المدينة لقيت صفوان، فقلت: يا أبا وهب، أما ترى أن محمدا ظهر على العرب والعجم، فلو قدمنا عليه فاتبعناه فإن شرفه شرف لنا، قال: لو لم يبق غيري ما اتبعته أبدا، قلت: هذا رجل قتل أبوه وأخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان، فقال مثل الذي قال صفوان، قلت: فاكتم ذكر ما قلت لك، قال: لا أذكره. ثم لقيت عثمان بن طلحة: أي الحجبي، قلت: هذا لي صديق، فأردت أن أذكر له ثم ذكرت من قتل من آبائه: أي قتل أبيه طلحة وعمه عثمان، أي وقتل إخوته الأربع مسافع والجلاس والحارث وكلاب كلهم قتلوا يوم أحد كما تقدم فكرهت أن أذكر له، ثم قلت: وما عليّ: فقلت له: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج، ثم قلت له: ما قلته لصفوان وعكرمة، فأسرع الإجابة، فواعدني إن سبقني أقام في محل كذا، وإن سبقته إليه انتظرته، فلم يطلع الفجر حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة: اسم محل، فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا وبك، أين مسيركم؟ قلنا: الدخول في الإسلام، قال: وذلك الذي أقدمني. وفي لفظ قال عمرو لخالد: يا أبا سليمان أين تريد؟ قال: والله لقد استقام الميسم: أي تبين الطريق وظهر الأمر، وإن هذا الرجل لنبي فأذهب فأسلم، فحتى متى؟ قال عمرو: وأنا ما جئت إلا لأسلم، فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة الشريفة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله ﷺ فسرّ بنا، أي وقال رمتكم مكة بأفلاذ كبدها، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله فلقيني أخي، فقال: أسرع فإن رسول الله ﷺ قد سرّ بقدومكم وهو ينتظركم فأسرعنا المشي، فاطلعت عليه فما زال يتبسم إليّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام بوجه طلق، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: الحمد لله الذي هداك، قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير. قلت: يا رسول الله ادع الله لي أن يغفر لي تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك، فقال: «الإسلام يجب ما كان قبله» أي وتقدم عثمان وعمرو فأسلما.
وفي رواية عن عمرو بن العاص قال: قدمنا المدينة فأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر، فانطلقنا حتى اطلعنا عليه وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا؛ تقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه، فما استطعت أن أرفع طرفي حياء منه، قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال: «إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها» فوالله ما عدل بي رسول الله ﷺ وبخالد بن الوليد أحدا من الصحابة في أمر حربه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر «رضي الله ع» بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر «رضي الله ع» بتلك الحالة، وكان عمر «رضي الله ع» على خالد كالعاتب، وتقدم أن عمرا «رضي الله ع» أسلم على يد النجاشي «رضي الله ع».
قال بعضهم: وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة وهي صحابي أسلم على يد تابعي. ولا يعرف مثله. ومن حين أسلم خالد «رضي الله ع» لم يزل رسول الله ﷺ يوليه أعنة الخيل فيكون في مقدمها. والله أعلم.
عمرة القضاء
أي ويقال لها عمرة القضية
أي لأن رسول الله ﷺ قاضى قريشا عليها، أي صالحهم عليها، ومن ثم قيل لها عمرة الصلح، ويقال لها عمرة القصاص. قال السهيلي رحمه الله: وهذا الاسم أولى بها، لقوله تعالى {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فتحصل من أسمائها أربعة: القضاء، والقضية، والصلح، والقصاص: أي لأنها كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة، أي وهو الشهر الذي صدّه فيه المشركون عن البيت منها سنة ست، وليست قضاء عن العمرة التي صدّ عن البيت فيها. فإنها لم تكن فسدت بصدهم له عن البيت، بل كانت عمرة تامة معدودة في عمره التي اعتمرها بعد الهجرة، وهي أربعة: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرّانة لما قسم غنائم حنين، والعمرة التي قرنها مع حجه في حجة الوداع بناء على ما هو الراجح من أنه كان قارنا، ولكنها في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجه.
وقد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجا من مكة إلى الحلّ في تلك المدة أصلا، ولم يفعل هذا على عهده إلا عائشة «رضي الله ع» كما سيأتي في حجة الوداع.
وكون العمرة لا تفسد بالصدّ إنما هو على ما يراه إمامنا الشافعي «رضي الله ع». أما على من يرى أن العمرة تفسد بالصدّ عنها، وأنه يجب قضاؤها كما هو المنقول عن أبي حنيفة «رضي الله ع»، فواضح أنها قضاء، وهذه العمرة ليست من الغزوات، وإنما ذكرها البخاري فيها، لأنه خرج مستعدا بالسلاح للمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر، وليس من لازم الغزو وقوع المقاتلة، ومن ثم قيل لها غزوة الأمن.
وخرج رسول الله ﷺ قاصدا مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية، أي من أنه يدخل مكة في العام القابل معه سلاح المسافر ولا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام.
وفي أنس الجليل ما يفيد أن اشتراط الثلاثة أيام كان في عمرة القضاء، ففيه: ثم خرج رسول الله ﷺ معتمرا عمرة القضاء، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم ثلاثة أيام، وأن لا يخرج من أهلها أحد إن أراد أن يتبعه، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أن يقيم بها وأصحابه كانوا ألفين، أي وأمر أن لا يتخلف عنه أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحد إلا من استشهد في خيبر ومن مات، وخرج معه جمع ممن لم يشهد الحديبية، واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل غيره، وساق ستين بدنة وقلدها: أي جعل في عنق كل بعير قطعة من جلد أو نعلا بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه، ولم يذكر هنا الإشعار، أي وجعل عليها ناجية ابن جندب.
قال: وحمل رسول الله ﷺ والدروع والرماح، وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة «رضي الله ع»، أي وعلى السلاح يشير بوزن أمير ابن سعد، وأحرم من باب المسجد، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه فقيل: يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال رسول الله ﷺ: لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا، فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا، فمضى بالخيل محمد بن مسلمة، فلما كان بمر الظهران وجد نفرا من قريش فسألوه، فقال: هذا رسول الله ﷺ يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله، أي وقد رأوا سلاحا كثيرا، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش وقالوا: ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في أصحابه.
ثم إن قريشا بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه، فقالوا والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال: إني لا أدخل عليهم بسلاح، فقال مكرز: هو الذي تعرف به البرّ والوفاء، ثم رجع مكرز إلى مكة سريعا وقال: إن محمدا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم انتهى.
فلما اتصل خروجه لقريش خرج كبراؤهم من مكة حتى لا يروه يطوف بالبيت وهو وأصحابه عداوة وبغضا وحسدا لرسول الله، فدخل رسول الله ﷺ وأصحابه مكة، أي راكبا ناقته القصواء وأصحابه محدقون به، قد توشحوا السيوف يلبون، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون وهي ثنية كداء بالمد، أي وكان إذا دخل مكة قال: اللهم لا تجعل منيتنا بها، يقول ذلك من حين يدخل حتى يخرج منها، أي وجعل في بطن ناجح، موضع قريب من الحرم، وتخلف عنده جمع من المسلمين؛ أي نحو مائتين من أصحابه عليهم أوس بن خولي، وقعد جمع من المشركين بجبل قينقاع ينظرون إليه وإلى أصحابه وهم يطوفون بالبيت، وقد قالوا: أي كفار قريش: إن المهاجرين أوهنتهم: أي أضعفتهم حمى يثرب. وفي لفظ قالوا: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأطلع الله نبيه على ما قالوا، ثم قال: رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة، أي ليروا المشركين أن لهم قوة: أي فعند ذلك قال المشركون؛ أي قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهمتهم، هؤلاء أجلد من كذا، إنهم لينفرون: أي يثبون نفر الظبي: أي الغزال، وإنما لم يأمرهم بالرمل في الأشواط كلها رفقا بهم، واضطبع بردائه وكشف عضده اليمنى ففعلت الصحابة «رضي الله ع» كذلك، وهذا أوّل رمل واضطباع في الإسلام.
وأقام وأصحابه ثلاثة أيام، فلما تمت الثلاثة التي هي أمد الصلح جاء حويطب بن عبد العزى ومعه سهيل بن عمرو «رضي الله ع» ـ فإنهما أسلما بعد ذلك ـ إلى رسول الله ﷺ يأمرانه بالخروج هو وأصحابه من مكة، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فخرج رسول الله ﷺ هو وأصحابه منها، وكان تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية «رضي الله ع»؛ أي وكان اسمها برة فسماها رسول الله ﷺ ميمونة وهي أخت أم الفضل زوج العباس «رضي الله ع»، وأخت أسماء بنت عميس لأمها زوج حمزة «رضي الله ع»، وكان تزوجه ميمونة قبل أن يحرم بالعمرة، وقيل بعد أن أحلّ منها، وقيل وهو محرم، أي وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس «رضي الله ع»، ورواه الدارقطني من طريق ضعيف عن أبي هريرة «رضي الله ع»، فإنه كان قد بعث إليها جعفرا «رضي الله ع» ليخطبها، ولما انتهت إليها خطبة النبي ﷺ كانت على بعيرها، فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، أي ومن ثم قيل إنها التي وهبت نفسها للنبي. وقيل جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله، أي وقيل جعلت أمرها لأم الفضل أختها فجعلت أمّ الفضل أمرها للعباس فزوجها العباس وأصدقها عنه أربعمائة درهم، ولا مانع من نكاحه وهو محرم، فإن من خصائصه حلّ عقد النكاح في الإحرام.
أي وفي كلام السهيلي، كان من شيوخنا من يتأول قول ابن عباس: تزوجها محرما: أي في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، ولم يرد الإحرام بالحج، أي كما أراد ذلك الشاعر بقوله في عثمان بن عفان «رضي الله ع»:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ** ورعا لم أر مثله مقتولا
أي في شهر حرام، فإنه قتل في أيام التشريق هذا كلام السهيلي.
قال ابن كثير رحمه الله: وفيه نظر لأن الروايات عن ابن عباس «رضي الله ع» متضافرة بخلاف ذلك التي منها تزوجها وهو محرم هذا كلامه.
وعن ابن المسيب: غلط ابن عباس، أو قال: وهم ابن عباس، ما تزوجها النبي ﷺ إلا وهو حلال، ومن ثم روى الدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس «رضي الله ع»، أن رسول الله ﷺ تزوج ميمونة وهو حلال، قال السهيلي: فهذه الرواية عن ابن عباس موافقة لرواية غيره، فقف عليها فإنها غريبة عن ابن عباس.
وذكر بعض فقهائنا «أنه وكل أبا رافع «رضي الله ع» في نكاح ميمونة «رضي الله ع»» وفي بعض السير، وعن أبي رافع قال «تزوج رسول الله ﷺ ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال، وأنا الرسول بينهما» رواه البيهقي والترمذي والنسائي، وأراد أن يبني بها في مكة فلم يمهلوه يبني بها، قال: وقد قال لهم «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، فصنعت لكم طعاما؟ فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا من أرضنا، هذه الثلاثة قد مضت» وفي لفظ «قال لهم: إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن مكثت حتى أدخل بها وأصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا» وفي رواية «جاءوا إليه في قبته التي نصبها بالأبطح، وذلك وقت الظهر، وقيل وقت الصبح» ولا مخالفة لجواز مجيئهم له في الوقتين. وعند مجيئهم له كان مع الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب: ناشدتك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث، فغضب سعد بن عبادة «رضي الله ع» لما رأى من غلظ كلامهم للنبي، فقال لذلك القائل: كذبت لا أمّ لك، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، أي وفي لفظ قال: يا عاضّ بظر أمه أرضك وأرض أمك دونه، ليست بأرضك ولا أرض آبائك، والله لا يبرح منها إلا طائعا راضيا، فتبسم رسول الله، وقال: يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا، وأسكت الفريقين. ثم إنه أمر أبا رافع «رضي الله ع» أن ينادي بالرحيل ولا يمسي بها أحد من المسلمين وخلف أبا رافع ليأتي له بميمونة حين يمسي، فخرج بها، ولقيت ميمونة «رضي الله ع» من سفهاء مكة عناء.
فعن أبي رافع «رضي الله ع»: لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي ولميمونة، فقلت لهم: ما شئتم، هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح وأنتم تريدون نقض العهد والمدة، فولوا راجعين منكسين، وأقام بسرف بكسر الراء: وهو محل بين مساجد عائشة وبطن مرو، وهو أقرب إلى مساجد عائشة، وفيه دخل بميمونة: أي تحت شجرة هناك، وكان محل موتها ودفنها، دفنت فيه بعد ذلك، فإنه أخبرها بأنها لا تموت بمكة، فلما ثقل عليها المرض وهي بمكة قالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها، فإن رسول الله ﷺ أخبرني بذلك، فحملوها حتى أتوا بها ذلك الموضع فماتت به ودفنت به، أي وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله ﷺ وآخر من توفي من أزواجه ورضي عنهن.
وحين دخوله مكة أخذ عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» بغرزه: أي ركابه أي وقيل بزمام الناقة، وهو «رضي الله ع» وعنا وعن المسلمين يقول من أبيات:
خلوا بني الكفار عن سبيله ** خلوا فكلّ الخير في رسوله
قد أنزل الرحمن في تنزيله ** بأن خير القتل في سبيله
فاليوم نضربكم على تأويله ** كما ضربناكم على تنزيله
وفي لفظ:
نحن قتلناكم على تأويله ** كما قتلناكم على تنزيله
وما قيل:
نحن قتلناكم على تأويله ** كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ** أو يذهل الخليل عن خليله
قال عمار بن ياسر يوم صفين: لا يمنع أن يكون ذلك من كلام ابن رواحة «رضي الله ع» وتمثل به عمار «رضي الله ع».
أي وأما ما روي أنه قال: أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعليّ يقاتل على تأويله، فقال فيه الدارقطني رحمه الله تفرد به بعض الرافضة.
قال: وذكر أن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» قال: مه يا ابن رواحة بين يدي رسول الله ﷺ وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله ﷺ: خلّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل.
وذكر أنه قال: إيها يا بن رواحة: «قل لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، أي وفي الإمتاع: وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه وهو آخذ بزمام الناقة، فقال "عليه الصلاة والسلام: إيها يا ابن رواحة «قل: لا إله إلا الله وحده. صدق وعده. ونصر عبده. وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده» فقالها وقالها الناس، وطاف على راحلته، واستلم الحجر بمحجنه.
وذكر أنه دخل البيت، فلم يزل به حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله تعالى أبا الحكم: يعني والده أبا جهل، حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول. وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا، وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أذهب أبي ولم يشهد هذا اليوم، حيث يقوم بلال ينهق فوق الكعبة، وسهيل بن عمرو لما سمع ذلك غطى وجهه، وكل هؤلاء أسلموا بعد ذلك «رضي الله ع».
قال بعضهم: وكون ما ذكر: أي من دخوله داخل الكعبة وأذان بلال «رضي الله ع» فوق ظهرها كان في عمرة القضاء خلاف المشهور، إذ المشهور أن ذلك كان في يوم الفتح، ويدلّ لذلك ما قيل: لم يدخل الكعبة وأنه أراد ذلك فأبوا وقالوا لم يكن في شرطك، فأمر بلال فأذن فوق ظهر الكعبة مرة واحدة ولم يعد بعدها، قال الواقدي: في هذا القيل إنه أثبت.
أقول: ويؤيد الأول ما جاء «دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي من بعدي» أي لاتخاذهم ذلك سنة، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك كان منه يوم فتح مكة، وينبغي أن يكون هذا من أعلام النبوة، فإن الناس يحصل لهم من التعب بسبب دخولها سيما زمن الموسم ما لا يعبر عنه من المتاعب والأمور الفظيعة، والله أعلم.
ثم سعى بين الصفا والمروة، أي وأوقف الهدي عند المروة، وقال «هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عندها وحلق» ولم أقف على من حلق رأسه الشريف في هذه العمرة. ثم رأيته في الإمتاع قال: حلقه معتمر بن عبدالله العدوي وفعل كفعله المسلمون، أي ومن لم يجد منهم بدنة رخص له في البقرة، وكان قدم رجل مكة ببقر فاشتراه الناس منه، وأمر من تحلل أن يذهب إلى السلاح ويأتي آخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا.
ولما خرج رسول الله ﷺ من مكة تبعته عمارة، أي وقيل اسمها أم أبيها، وقيل أمامة، وقيل أمة الله، قال ابن عبد البر: والمثبت أمامة، وأمها سلمى بنت عميس بنت عمه حمزة «رضي الله ع» تنادي: يا عم يا عم، أي في لفظ: أن أبا رافع خرج بها فتناولها علي كرم الله وجهه؛ فأخذ بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك، فلما وصلوا المدينة اختصم فيها عليّ وأخوه جعفر وزيد بن حارثة «رضي الله ع»، فقال زيد بن حارثة «رضي الله ع»: أنا أحق بها، لأنها بنت أخي أي وأنا وصيه، لأنه آخى بين حمزة وزيد، أي وجعل حمزة «رضي الله ع» وصيه. وقال علي كرم الله وجهه: أنا أحق بها لأنها ابنة عمي وجئت بها من مكة. وقال جعفر «رضي الله ع»: أنا أحق بها لأنها بنت عمي وخالتها تحتي، أي وهي أسماء بنت عميس فقضى بها لجعفر «رضي الله ع»، وقال «الخالة بمنزلة الأم» هذا.
وفي الإمتاع «وكلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رسول الله ﷺ في عمارة بنت حمزة «رضي الله ع»، وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين أظهر المشركين؟ وإنه لما قضى بها لجعفر «رضي الله ع» حجل جعفر حول النبي ﷺ فقال: ما هذا يا جعفر؟ فقال: يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى أحد قام فحجل حوله، وفيه أنه فعل مثل ذلك بخيبر. وما بالعهد من قدم. إلا أن يقال يجوز أن يكون في خيبر فعل ذلك ولم يره النبي. وفي لفظ «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» وفيه تقديم الخالة في الحضانة على العمة، لأن عمتها صفية «رضي الله ع» كانت موجودة، وقال لعلي كرم الله وجهه في هذا الموطن «أنت أخي وصاحبي» وفي لفظ «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر «رضي الله ع» «أشبهت خلقي وخلقي» أي وقد تقدم منه ذلك له في خيبر، وقال لزيد «رضي الله ع» «أنت أخي ومولاي» وفي لفظ «أنت مولى الله ومولى رسوله ».
غزوة مؤتة
بضم الميم وبالهمزة ساكنة ويترك الهمزة: موضع معروف عند الكرك. وفي كلام السهيلي مؤتة مهموز الفاء، وأما الموتة بلا همزة فضرب من الجنون، وفي الحديث «أن رسول الله ﷺ كان يقول في صلاته: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه» وفسره راوي الحديث فقال: نفثه: السحر، ونفخه: الكبر، وهمزة: الموته، هذا كلامه.
كانت هذ الغزوة في جمادي الأولى سنة ثمان. وكان سببها أن رسول الله ﷺ بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام، أي فلما نزل مؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، أي وهو من أمراء قيصر على الشام، فقال: أين تريد، لعلك من رسل محمد؟ قال نعم، فأوثقه ربطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله ﷺ رسول غيره، فلما بلغ رسول الله ذلك اشتدّ الأمر عليه، فجهز جمعا من أصحابه وعدّتهم ثلاثة آلاف وبعثهم إلى مقاتلة ملك الروم، وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبدالله بن رواحة على الناس».
قال: وفي رواية «فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون برجل منهم فليجعلوه عليهم» وقد حضر ذلك المجلس رجل من يهود فقال: يا أبا القاسم إن كنت نبيا يصاب جميع من ذكرت لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بني إسرائيل كان الواحد منهم إذا استعمل رجلا على القوم وقال إن أصيب فلان لا بد أن يصاب، أي ولو عدّ مائة أصيبوا جميعا، ثم صار يقول لزيد: اعهد فلن ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا، وزيد يقول أشهد أنه نبي، وعقد لواء أبيض ودفعه لزيد بن حارثة «رضي الله ع»، وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ويدعوا من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم.
وذكر بعضهم أنه نهاهم أن يأتوا مؤتة فغشيتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة انتهى.
وودعهم الناس وقالوا لهم: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين. قال: ويقال إن رسول الله ﷺ خرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف فقال: أي بعد قوله «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم، ولا تقتلوا امرأة، ولا صغيرا ولا بصيرا فانيا، ولا تقطعوا شجرة، ولا تهدموا بناء» انتهى، وقال لهم المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم غانمين، فمضوا حتى نزلوا من أرض الشام؛ فبلغهم أن هرقل ملك الروم في مائة ألف من الروم وانضم إليه من قبائل العرب أي المتنصرة: أي من بني بكر ولخم وجذام مائة ألف. وفي رواية: كانوا مائتي ألف من الروم وخمسين ألفا من العرب ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين وكان المسلمون ثلاثة آلاف كما مر، فلما بلغهم ذلك أقاموا في ذلك المحل ليلتين ينظرون في أمرهم. هل يبعثون لرسول الله ﷺ يخبرونه بعدد عدوهم؟ فإما أن يمدهم برجال، أو يأمرهم بأمر فيمضوا إليه، فشجعهم عبدالله بن رواحة، وقال لهم: يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له، خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، أي فقال الناس: صدق والله ابن رواحة، فمضوا للقتال. فلقيتهم جموع هرقل ملك الروم من الروم والعرب، فانحاز المسلمون إلى مؤتة. فالتقى الجمعان عندها واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة «رضي الله ع» ومعه راية رسول الله ﷺ: أي لواؤه حتى قتل «رضي الله ع» فأخذ الراية جعفر «رضي الله ع» وقاتل على فرس أشقر ثم نزل عنه وعقره، أي وهو أول رجل من المسلمين عقر فرسه، وأول فرس عقر في سبيل الله، عقره خوفا أن يأخذه الكفار فيقاتلوا عليه المسلمين، ومن ثم لم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبه استدل من جوّز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به الكفار وتقاتل عليه المسلمين، ثم قاتل «رضي الله ع» فقطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية فأخذ الراية وقاتل حتى قتل «رضي الله ع»، فأخذها عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» وتقدم بها وهو على فرسه وجعل يتردد في النزول عن فرسه، ثم نزل وقاتل حتى قتل، أي وحينئذٍ اختلط المسلمون والمشركون. وأراد بعض المسلمين الانهزام فجعل عقبة بن عامر «رضي الله ع» يقول: يا قوم يقتل الإنسان مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا فأخذ الراية ثابت بن أرقم «رضي الله ع» وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت. فقال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد «رضي الله ع». أي ويقال إن ثابت بن أرقم دفعها إلى خالد «رضي الله ع» وقال: أنت أعلم بالقتال مني. أي فقال له خالد: أنت أحق به مني، لأنك ممن شهد بدرا. ثم أخذها خالد رضي الله تعالى ومانع القوم وثبت، ثم انحاز كل من الفريقين عن الآخر من غير هزيمة على أحدهما.
قال: وفي رواية قاتلوا المشركين حتى هزموهم. فعند ابن سعد أن خالدا «رضي الله ع» لما أخذ اللواء حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاؤوا وأظهر الله المسلمين.
قيل وسبب ذلك أن خالدا «رضي الله ع» لما أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فظن المشركون مجيء عدد للمسلمين فرعبوا وانهزموا فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم. ويجوز أن يكون ذلك بعد انحياز المسلمين، فلا منافاة بين الروايتين، وكانت مدة القتال سبعة أيام.
وروي البخاري عن خالد «رضي الله ع» قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية انتهى: وأطلع الله تعالى رسول الله ﷺ على ذلك، فأخبر به أصحابه، أي فإنه لما اطلع على ذلك نادى في الناس: الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان. وقال «أيها الناس باب خير باب خير باب خير ثلاثا. أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد «رضي الله ع» شهيدا فاستغفروا له. ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة «رضي الله ع» وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره» وفي لفظ «ثم أخذ الراية خالد بن الوليد، نعم عبدالله، وأخو العشيرة، وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين من غير إمرة حتى فتح الله عليهم».
قال وفي رواية «أنه قال: اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره. فمن يومئذٍ سمي خالد سيف الله» وفي لفظ «ثم أخذ اللواء سيف من سيوف الله تبارك وتعالى ففتح الله على يديه».
وعن عبدالله بن أبي أوفى قال «اشتكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد للنبي فقال: يا خالد لم تؤذى رجلا من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله، فقال: يا رسول الله إنهم يقعون فيّ فأرد عليهم، فقال: لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار» قال بعضهم: وكون هذا نصرا وفتحا واضح لإحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليهم لأنهم كانوا مائتي ألف والصحابة ثلاثة آلاف أي كما تقدم؛ إذا كان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية.
وفي رواية أصاب خالد «رضي الله ع» منهم مقتلة عظيمة، وأصاب غنيمة، وهذا لا يخالف ما يأتي أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار أهل المدينة يقولون لهم: أنتم الفرارون إلى آخر ما يأتي. وعن أسماء بنت عميس «رضي الله ع»، أي زوج جعفر «رضي الله ع» قالت «دخل علي رسول الله ﷺ يوم أصيب جعفر وأصحابه، فقال ائتيني ببني جعفر فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه أي وبكى حتى نقطت لحيته الشريفة، فقلت: يارسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال نعم، أصيبوا هذا اليوم، فقمت أصيح واجتمع عليّ النساء: أي وجعل رسول الله ﷺ يقول لها: يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي خدا، وجاء إليه رجل فقال: يا رسول الله إن النساء عيين وفتنّ، قال: فارجع إليهن فأسكتهن، فذهب ثم رجع، فقال له مثل الأول وقال نهيتهنّ فلم يطعنني، فقال اذهب فأسكتهن، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب، وقال اللهم قد قدم، يعني جعفرا إلى أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته، وخرج رسول الله ﷺ إلى أهله وقال: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» انتهى.
أي وفي لفظ «دخل على فاطمة «رضي الله ع» وهي تقول: واعماه، فقال على مثل جعفر فلتبك الباكية» وفي لفظ «البواكي» ثم قال «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم» وفي رواية «فإنهم قد شغلهم ما هم فيه».
وعن عبدالله بن جعفر «رضي الله ع» «أن سلمى مولاة النبي ﷺ عمدت إلى شعير فطحنته ونسفته ثم طبخته وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلا، قال عبدالله «رضي الله ع»: فأكلت من ذلك الطعام، وحبسني رسول الله ﷺ مع إخوتي» وفي لفظ «أنا وأخي في بيته ثلاثة أيام، ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا» وهذا الطعام الذي فعل لآل جعفر «رضي الله ع»، قال السهيلي هو أصل في طعام التعزية وتسميه العرب الوضيمة، كما تسمي طعام العرس الوليمة، وطعام القادم من السفر النقيعة، وطعام البناء الوكيرة.
قال عبدالله «رضي الله ع»: «ودعا لي وقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فما بعت شيئا ولا اشتريت شيئا إلا بورك لي فيه».
ولما قدم عليه بعض أصحابه بخبر الجيش قال له رسول الله «إن شئت فأخبرتني، وإن شئت فأخبرتك، قال: فأخبرني يا رسول الله، فأخبره رسول الله ﷺ خبرهم كله ووصف له، فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت، فقال رسول الله ﷺ: إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم، أي وحين رأى ذلك، قال قد حمي الوطيس: أي حميت الحرب واشتدت، وقال: «مثل لي جعفر وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير، فرأيت زيدا وابن رواحة في أعنقاهما صدودا: أي اعتراضا، ورأيت جعفر مستقيما ليس في عنقه صدود، فسألت، فقيل لي: إنهما حين غشيهما الموت أعرضا بوجههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل».
وعن قتادة «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر «رضي الله ع»، فجاءه الشيطان لعنه الله فحبب إليه الحياة وكرّه إليه الموت ومناه الدنيا ثم مضى حتى استشهد «رضي الله ع».
قال وفي رواية «رأيتهم أي فيما يرى النائم» وفي رواية: «لقد رفعوا إليّ أي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب، فرأيت في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه: أي انحرافا؟ فقلت مم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد عبدالله بعض التردد ثم مضى» انتهى. أي فإنه كما تقدم صار يستنزل نفسه ويتردد في النزول بعض التردد. وفي لفظ «دخل عبدالله بن رواحة الجنة معترضا، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراحة نكل، فعاتب نفسه فتشجع فاستشهد» وقال «إن الله أبدل جعفرا بيده جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء».
وقال عبدالله بن عمر «رضي الله ع»: وجدنا فيما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وفي لفظ: طعنة ورمية. وفي لفظ آخر: ضربه رومي فقدّه نصفين، فوجدوا في إحدى شقيه بضعة وثمانين جرحا، وفيما أقبل من بدنه اثنين وسبعين ضربة بسيف وطعنة برمح. أي وقيل أربعا وخمسين ورواية التسعين أثبت. قال عبدالله بن عمر «رضي الله ع»: أتيته وهو مستلق آخر النهار فعرضت عليه الماء، فقال. إني صائم فضعه في ترسي عند رأسي، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت، قال: فمات صائما قبل غروب الشمس شهيدا وعمره إحدى وأربعون سنة، وقيل ثلاث وثلاثون سنة، وفيه أنه تقدم أنه كان أسن من عليّ بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين.
ثم رأيت ابن كثير رحمه الله، قال: وعلى ما قيل إنه كان أسن من علي بعشر سنين يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة، لأن عليا كرم الله وجهه أسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة، وكونه «رضي الله ع» مات صائما لا يناسب كونه شق نصفين.
وعن ابن عمر «رضي الله ع» قال «كنا مع رسول الله ﷺ فرفع رأسه إلى السماء فقال: وعليكم السلام ورحمة الله، فقال الناس: يا رسول الله ما كنت تصنع هذا، قال مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأٍ من الملائكة فسلم عليّ».
ولما دنا الجيش من المدينة تلقاهم رسول الله ﷺ والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون ورسول الله ﷺ مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبدالله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه.
وعن عبدالله بن جعفر «رضي الله ع» قال: قال لي رسول الله «هنيئا لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء» وفي الطبراني عن ابن عباس «رضي الله ع» مرفوعا «دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة» وفي رواية «يطير مع جبريل وميكائيل، له جناحان عوضه الله تعالى من يديه» وروي «جناحان من ياقوت» أي وذكر السهيلي رحمه الله أن الجناحين عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية أعطيهما جعفر «رضي الله ع» يقتدر بهما على الطيران، لا أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق للوهم. أي لأن الصورة الآدمية أشرف الصور، أي ولا يضر في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت ولا كونهما مضمخين بالدم، وصار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون، فررتم في سبيل الله، فصار رسول الله ﷺ يقول: بل هم الكرارون. وفي لفظ: إنهم قالوا: يا رسول الله نحن الفارون، فقال لهم رسول الله ﷺ: بل أنتم العكارون: أي الكرارون، وهو دليل على أنه كان بينهم محاجزة وترك للقتال.
وعن بعض الصحابة: لما قتل ابن رواحة «رضي الله ع» انهزم المسلمون «رضي الله ع» أسوأ هزيمة ثم تراجعوا، ولقد لقوا من أهل المدينة لما رجعوا شرا، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه، فيأبون يفتحون له ويقولون له: هلا تقدمت مع أصحابك؟ فقتلت، حتى إن نفرا من الصحابة «رضي الله ع» جلسوا في بيوتهم استحياء، كلما خرج واحد منهم صاحوا به، وصار رسول الله ﷺ يرسل إليهم رجلا رجلا. ثم يقول: أنتم الكرارون في سبيل الله، ويعنون بالفرار انحيازهم مع خالد «رضي الله ع» حين انحاز العدو عنهم؛ وإنما انحاز خالد «رضي الله ع» لترتيبه العسكر، وقد مدح النبي ﷺ خالدا «رضي الله ع» على ذلك وأثنى عليه. وقتل رجل من المسلمين رجلا من الروم، فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد «رضي الله ع»، فلما أخبر النبي ﷺ بذلك قال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته عليه، فقال رسول الله ﷺ: ادفعه له.
وكان عوف بن مالك «رضي الله ع» كلم خالدا في دفع ذلك لذلك الرجل قبل أن يقدموا على رسول الله، فلما مر خالد بعوف بن مالك أطلق لسانه في خالد «رضي الله ع» وقال له: أما ذكرت لك ذلك ونحوه؟ ، فغضب وقال لخالد: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ .
وفيه أن القاتل استحق السلب فكيف منعه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون دفعه له بعد، وإنما أخر دفعه تعزيزا لعوف «رضي الله ع» حين أطلق لسانه في خالد، وانتهك حرمته، وتطييبا لقلب خالد «رضي الله ع» للمصلحة في إكرام الأمراء، وهذا السياق لا يدل على أن الجيش كله «رضي الله ع» قيل لهم الفرارون وإنما كان لطائفة من الجيش فروا إلى المدينة لما رأوا من كثرة العدو فليتأمل.
وعد هذه غزوة تبعت فيه الأصل، والحق أنها ليست من الغزوات بل من السرايا الآتي ذكرها لأنه لم يكن فيها، والله أعلم.
فتح مكة شرفها الله تعالى
كان في رمضان سنة ثمان. وكان السبب في ذلك أنه لما كان صلح الحديبية بين رسول الله ﷺ وبين قريش كان فيه أن: من أحب أن يدخل في عقد رسول الله ﷺ وعهده فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه، فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد رسول الله ﷺ كما تقدم، وكان قبل ذلك بينهما دماء، أي فحجز الإسلام بينهما لتشاغل الناس به، وهم على ما هم عليه من العداوة، وكانت خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم جد النبي، أي يناصرونه على عمه نوفل بن عبد مناف.
فإن المطلب لما مات وثب نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب واغتصبه إياها، فاضطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه، فلم ينهض معه أحد منهم، وقالوا له لا ندخل بينك وبين عمك، وكتب إلى أخواله بني النجار، فجاءه منهم سبعون راكبا فأتوا نوفلا وقالوا له: ورب البنية لتردنّ على ابن أختنا ما أخذت وإلا ملأنا منك السيف، فرده ثم حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس، وكان يعلم بذلك الحلف فإنهم أوقفوه على كتاب عبد المطلب وقرأه عليه أبي بن كعب «رضي الله ع»: أي بالحديبية، وهو باسمك اللهم، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي منهم، غائبهم يقرّ بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم عهود الله وميثاقه وما لا ينسى أبدا، اليد واحدة والنصر واحد، ما أشرق ثبير وثبت حرا مكانه، وما بلّ بحر صوفة.
وفي الإمتاع أن نسخة كتابهم: باسمك اللهم، هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة، تحالفوا على التناصر والمواساة ما بلّ بحر صوفة، حلفا جامعا غير مفرق، الأشياخ على الأشياخ، والأصاغر على الأصاغر، والشاهد على الغائب، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد لا ينقض ولا ينكث، ما أشرقت شمس على ثبير، وحنّ بفلاة بعير، وما أقام الأخشبان، وعمر بمكة إنسان، حلف أبد لطول أمد، يزيده طلوع الشمس شدّا، وظلام الليل مدا، وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متظاهرون متعاونون، فعلى عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب في شرق أو غرب أو حزن أو سهل، وجعلوا الله على ذلك كفيلا، وكفى بالله جميلا، فقال رسول الله ﷺ: ما أعرفني بحقكم وأنتم على ما أسلفتم عليه من الحلف.
فلما كانت الهدنة، وهي ترك القتال التي وقعت في صلح الحديبية اغتنمها بنو بكر: أي طائفة منهم يقال لهم بنو نفاثة.
أي وفي الإمتاع: وسببها أن شخصا من بني بكر هجا رسول الله ﷺ وصار يتغنى به، فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجه، فثار الشرّ بين الحيين لما كان بينهم من العداوة، فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة، فأمدوهم بذلك، فبيتوا خزاعة: أي جاوؤهم ليلا بغتة وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير، فأصابوا منهم. أي قتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين، وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا، منهم صفوان بن أمية وجويطب بن عبد العزى، أي وعكرمة بن أبي جهل وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو «رضي الله ع»، فإنهم أسلموا بعد ذلك، ولا زالوا بهم إلى أن أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة، أي ولم يشاوروا في ذلك أبا سفيان. قيل شاوروه فأبى عليهم ذلك، وظنوا أنهم لم يعرفوا، وأن هذا لا يبلغ رسول الله.
فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله ﷺ من العهد والميثاق ندموا، وجاء الحارث بن هاشم إلى أبي سفيان وأخبره بما فعل القوم، فقال: هذا أمر لم أشهده ولم أغب عنه، وإنه لشر، والله ليغزونا محمد، ولقد حدثتني هند بنت عتبة يعني زوجته أنها رأت رؤيا كرهتها، رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة فكره القوم ذلك.
وعند ذلك خرج عمرو، وقيل عمر بضم العين وصححه الذهبي ابن سالم الخزاعي: أي سيد خزاعة في أربعين راكبا: أي من خزاعة فيهم بديل بن ورقاء الخزاعي حتى قدم على رسول الله ﷺ المدينة، ودخل المسجد ووقف على رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد بين الناس وقال من أبيات:
يا رب إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
أن قريشا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا ** وقتلونا ركعا وسجدا
فقال النبي ﷺ: نصرت يا عمرو بن سالم، أي ودمعت عينا رسول الله، قال: وقال: لا ينصرني الله. وفي لفظ: لانصرت إن لم أنصر بني كعب: يعني خزاعة مما أنصر به نفسي. وفي رواية: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي. زاد في رواية: وأهل بيتي ثم مرّت سحابة في السماء وأرعدت، فقال رسول الله ﷺ: إن هذا السحاب ليستهلّ، أي وفي لفظ: لينصب بنصر بني كعب يعني خزاعة.
أي وعن بشر بن عصمة «رضي الله ع» قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «خزاعة مني وأنا منهم» وقبل قدوم عمرو بن سالم على رسول الله ﷺ وإعلامه بذلك حدّثت عائشة «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ صبيحة الوقعة قال لها: لقد حدث في خزاعة حدث، قالت: فقلت: يا رسول الله أترى قريشا يجترئون على نقض العهد الذي بينك وبينهم؟ فقال: ينقضون العهد لأمر يريده الله، فقلت: خير، قال خير، وفي لفظ قالت: لخيرٍ أو لشر؟ قال لخير.
وعن ميمونة «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ بات عندها ليلة، فقام ليتوضأ للصلاة، قالت: فسمعته يقول لبيك لبيك لبيك ثلاثا. نصرت نصرت نصرت ثلاثا، فلما خرج قلت: يا رسول الله سمعتك تقول لبيك لبيك لبيك ثلاثاٍ نصرت نصرت نصرت ثلاثا كأنك تكلم إنسانا، فهل كان معك أحد؟ قال: هذا راجز بني كعب يعني خزاعة يزعم أن قريشا أعانت عليهم بكر بن وائل: أي بطنا منهم وهم بنو نفاثة، قالت ميمونة: فأقمنا ثلاثا، ثم صلى رسول الله ﷺ الصبح، فسمعت الراجز يقول: *يا رب إني ناشد محمدا* إلى آخر ما تقدم، انتهى.
وعند ذلك قال لعمرو بن سالم وأصحابه: فيمن تهمتكم؟ قالوا: بنو بكر، قال: كلها؟ قالوا: لا ولكن بنو نفاثة، قال: هذا بطن من بكر.
ولما ندمت قريش على نقضهم العهد أرسلوا أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقالوا له: ما لها سواك، اخرج إلى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة، فخرج أبو سفيان ومولى له على راحلتين فأسرع السير، لأنه يرى أنه أوّل من خرج من مكة إلى رسول الله، وقال رسول الله ﷺ للناس قبل قدوم أبي سفيان: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة، وهو راجع بسخطه، ثم رجع أولئك الركب من خزاعة، فلما كانوا بعسفان لقوا أبا سفيان، أي ومولى له كلّ على راحلة وقد بعثته قريش إلى رسول الله ﷺ ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد خافوا مما صنعوا، فسألهم: هل ذهبتم إلى المدينة؟ قالوا: لا، وتركوه وذهبوا، فجاء إلى مبركهم بعد أن فارقوه، فأخذ بعرا وفته فوجد فيه النوى، فعلم أنهم ذهبوا إلى المدينة الشريفة.
قال: وفي رواية أنه قال لعمرو بن سالم وأصحابه: ارجعوا وتفرقوا في الأودية، أي ليخفي مجيئهم للنبي. فرجعوا وتفرقّوا، فذهبت فرقة إلى الساحل، أي وفيهم عمرو بن سالم. وفرقة فيهم بديل بن ورقاء لزمت الطريق، وأن أبا سفيان لقي بديل بن ورقاء بعسفان، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء إلى رسول الله ﷺ المدينة، فقال للقوم: أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها، فقالوا: لا علم لنا بها، أي وقالوا: إنما كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتل. ثم صبر أبو سفيان حتى ذهب أولئك القوم. وفي لفظ قال: من أين أقبلت يا بديل؟ قال: سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، قال: ما أتيت محمدا؟ قال لا، فلما راح بديل إلى مكة. أي توجه إليها، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فجاء منزلهم ففتت أبعار أباعرهم فوجد فيها النوى، قال أبو سفيان: أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا انتهى.
فلما قدم أبو سفيان المدينة دخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي ﷺ ورضي عنها، ولما أراد أن يجلس على فراش رسول الله ﷺ طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش النبي ﷺ وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر، فقالت: بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر، واعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها، فقال: أترك ما كان يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟ ثم خرج حتى أتى النبي ﷺ وقال له إني كنت غائبا في صلح الحديبية فامدد العهد وزدنا في المدة، فقال رسول الله ﷺ: لذلك جئت يا أبا سفيان؟ قال نعم، فقال رسول الله ﷺ: هل كان فيكم من حدث؟ قال: معاذ الله، نحن على عهدنا وصلحنا لانغير ولا نبدّل، فقال رسول الله ﷺ فنحن على مدتنا وصلحنا، فأعاد أبو سفيان القول على رسول الله، فلم يردّ عليه شيئا هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمهما الله أن مجيئه لأم حبيبة «رضي الله ع» بعد مجيئه للنبي. ثم ذهب إلى أبي بكر «رضي الله ع» فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال ما أنا بفاعل. وفي رواية قال لأبي بكر: جدّد العقد وزدنا في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. ثم أتى عمر بن الخطاب «رضي الله ع» فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ فوالله لم لم أجد إلا الذر لجاهدتكم: أي بها. وفي رواية أنه قال له: ما كان من حلفنا جديدا أخلفه الله، وما كان مقطوعا فلا وصلة الله، فعند ذلك قال له أبو سفيان: جزيت من ذي رحم شرا. وفي لفظ سوءا، ثم جاء إلى عثمان بن عفان «رضي الله ع»، فقال: إنه ليس في القوم أقرب بي رحما منك فزد في المدة وجدد العقد، فإن صاحبك لا يرده عليك أبدا، فقال عثمان: جواري في جواره، انتهى. ثم جاء فدخل على عليّ بي أبي طالب كرّم الله وجهه وعنده فاطمة وحسن «رضي الله ع» غلام يدب بين يديها، فقال: يا عليّ إنك أمسّ القوم بي رحما، وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع لي إلى محمد، فقال: ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله ﷺ على أمر ما نستطيع أن نكلمه، فالتفت إلى فاطمة «رضي الله ع»، فقال: يا ابنة محمد هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر، قالت: والله ما يبلغ ببنيّ ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله، أي وفي رواية أنه قال لفاطمة: أجيري بين الناس، فقالت: إنما أنا امرأة، قال: قد أجارت أختك يعني زينب أبا العاص بن الربيع يعني زوجها وأجاز ذلك محمد، قالت: إنما ذاك إلى رسول الله، فقال: فأمري أحد ابنيك، قالت: إنما هما صبيان ليس مثلهما يجير. قال: فكلمي عليا، فقالت: أنت تكلمه، فكلم عليا، فقال: يا أبا سفيان إنه ليس أحد من أصحاب رسول الله ﷺ يفتات على رسول الله ﷺ بجوار، وقول فاطمة «رضي الله ع» في حق ابنيها إنهما صبيان ليس مثلهما يجير هو الموافق لما عليه أئمتنا من أن شرط من يؤمن أن يكون مكلفا، وأما قولها وإنما أنا امرأة فلا يوافق ما عليه أئمتنا من أن للمرأة والعبد أن يؤّمنا لأن شرط المؤمن عند أئمتنا أن يكون مسلما مكلفا مختارا. وقد أمنت زينب بنت النبي ﷺ زوجها أبا العاص بن الربيع، وقال «قد أجرنا من أجرت» وقال: «المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم» كما سيأتي في السرايا، وقد تقدم ذلك قريبا عن أبي سفيان. وسيأتي قريبا أن أم هانىء أجارت، وأنه قال لها: «أجرنا من أجرت يا أم هانىء» لكن سيأتي أن هذا كان تأكيدا للأمان الذي وقع منه لأهل مكة لا أمان مبتدأ.
ثم إن أبا سفيان أتى أشراف قريش والأنصار وكل يقول جواري في جوار رسول الله. ثم جاء إلى علي كرم الله وجهه وقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد انسدت عليّ فانصحني، قال: والله لا أعلم لك شيئا يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إني أجرت بين الناس. زاد في رواية: ولا والله ما أظن أن يخفرني أحد، ولا يردّ جواري، قال: وفي رواية أنه جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا محمد إني أجرت بين الناس، أي وقال: لا والله ما أظن أحدا يخفرني ويردّ جواري، فقال رسول الله: «أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة»؟ وفي لفظ: يا أبا سفيان انتهى.
ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش وقد طالت غيبته واتهمته قريش أنه صبأ واتبع محمدا سرا وكتم إسلامه وقالت له زوجته: إن كنت مع طول الإقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل، فلما أخبرها: أي وقد دنا منها وجلس منها مجلس الرجل من امرأته فضربت برجلها في صدره وقالت: قبحت من رسول قوم، فما جئت بخير، فلما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند أساف ونائلة، وذبح عندهما البدن، ومسح روؤسهما بالدم ليدفع عنه التهمة، فلما رأته قريش قالوا: ما وراءك؟ هل جئت بكتاب من محمد أو عهد؟ قال: لا والله، لقد أبى عليّ، وقد تتبعت أصحابه، فما رأيت قوما لملك أطوع منهم له. وفي رواية قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد عليّ شيئا، ثم جئت إلى ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو. أي وفي رواية: أعدى العدوّ، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فوالله لا أدري أيغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس: أي قال لي لم تلتمس جوار الناس على محمد ولا تجير أنت عليه وأنت سيد قريش وأكبرها وأحقها أن لا يخفر جواره، ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال لا، أي وإنما قال: أنت تقول ذلك يا أبا حنظلة، والله لم يزدني، قالوا: رضيت بغير رضا، وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا، ولعمر الله ما جوارك بجائز، وإن إخفارك: أي إزالة خفارتك عليهم لهين، والله أراد الرجل: يعنون عليا كرم الله وجهه أن يلعب بك. قال: والله ما وجدت غير ذلك، وأمر رسول الله ﷺ الناس بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، أي قال لعائشة جهزينا وأخفي أمرك، فدخل أبو بكر «رضي الله ع» على ابنته عائشة «رضي الله ع» وهي تحرك بعض جهاز رسول الله ﷺ: أي تجعل قمحا سويقا ودقيقا. وفي لفظ: وجد عندها حنطة تنسف وتنقى، فقال: أي بنية أمركن رسول الله ﷺ بتجهيزه؟ قالت: نعم فتجهز،
قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري، وإن ذلك قبل أن يستشير أبا بكر وعمر «رضي الله ع» في السير إلى مكة كما سيأتي. ثم إنه أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتجهيز.
أي وفي الإمتاع أن أبا بكر «رضي الله ع» لما سأل عائشة «رضي الله ع» دخل عليه، فقال: يا رسول الله أردت سفرا؟ قال نعم؟ قال: أفأتجهز، قال نعم، قال: فأين تريد يا رسول الله؟ قال: قريشا، وأخف ذلك يا أبا بكر، وأمر الناس بالجهاز، وطوى عنهم الوجه الذي يريده، وقد قال له أبو بكر «رضي الله ع»: يا رسول الله أو ليس بيننا وبينهم مدة؟ قال إنهم غدروا ونقضوا العهد، واطو ما ذكرت لك، وفي رواية أن أبا بكر «رضي الله ع» قال: يا رسول الله أتريد أن تخرج مخرجا، قال: نعم، قال: لعلك تريد بني الأصفر، قال: لا، قال: أفتريد أهل نجد. قال: لا، قال: فلعلك تريد قريشا، قال: نعم، قال: يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة، قال: أو لم يبلغك ما صنعوا ببني كعب: يعني خزاعة، قال: وأرسل إلى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة، إي وذلك بعد أن تشاور رسول الله ﷺ مع أبي بكر وعمر «رضي الله ع» في السير إلى مكة، فذكر له أبو بكر «رضي الله ع» ما يشير به إلى عدم السير حيث قال له: هم قومك، وحضه عمر «رضي الله ع» حيث قال: نعم هم رأس الكفر، زعموا أنك ساحر، وأنك كذاب وذكر له سوء كانوا يقولون، وايم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة، فعند ذلك ذكر أن أبا بكر كإبراهيم، وكان في الله ألين من اللين، وأن عمر كنوح وكان في الله أشد من الحجر، وأن الأمر أمر عمر، وتقدم نحو هذا لما استشارهما في أسارى بدر، أي ثم قدمت المدينة من قبائل العرب: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة.
ثم قال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، أي وفي رواية قال: اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فجأة، وأخذ بالأنقاب: أي الطرق، أي أوقف بكل طريق جماعة ليعرف من يمر بها، أي وقال لهم: لا تدعوا أحدا يمرّ بكم تنكرونه إلا رددتموه.
ولما أجمع المسير إلى قريش وعلم بذلك الناس كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش: أي إلى ثلاثة منهم من كبرائهم، وهم: سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع» ـ فإنهم أسلموا بعد ذلك كما تقدم ـ كتابا يخبرهم بذلك ثم أعطاه امرأة وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، ويقال أعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، أي وقال لها: اخفيه ما استطعت، ولا تمري على الطريق، فإن عليه حرسا فسلكت غير الطريق، قال: وتلك المرأة هي سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب بن عبد مناف، وكانت مغنية بمكة، وكانت قدمت على رسول الله ﷺ المدينة وأسلمت، وطلبت منه الميرة، وشكت الحاجة، فقال لها رسول الله ﷺ: ما كان في غنائك ما يغنيك؟ فقالت: إن قريشا منذ قتل منهم من قتل ببدر تركوا الغناء، فوصلها، وأوقر لها بعيرا طعاما، فرجعت إلى قريش وارتدت عن الإسلام، وكان ابن خطل يلقي عليها هجاء رسول الله ﷺ فتغني به انتهى، فجعلت الكتاب في قرون رأسها: أي ضفائر رأسها خوفا أن يطلع عليها أحد، ثم خرجت به، وأتى رسول الله ﷺ الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا والزبير وطلحة والمقداد، أي وقيل عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد، أي ولا مانع أن يكون أرسل الكل، وبعض الرواة اقتصر على بعضهم، فقال: أدركا امرأة بمحل كذا، قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخذوه منها وخلوا سبيلها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فخرجا حتى أدركاها في ذلك المحل الذي ذكره فقالا لها: أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا، فقال لها علي كرم الله وجهه: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله ﷺ قط ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب، أو لنكشفنك، أو أضرب عنقك، فلما رأت الجد منه قالت أعرض، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه. وفي البخاري أخرجته من عقاصها، ولا منافاة، وفيه في محل آخر أخرجته من حجزتها، والحجزة معقد الإزار والسراويل. قال بعضهم: ولا مانع أن يكون في ضفائرها وأنها جعلت الضفائر في حجزتها فدفعته إليه، وسيأتي أنها ممن أباح دمه يوم الفتح، ثم أسلمت وعفا عنها. فأتى رسول الله ﷺ بذلك الكتاب، أي وصورة الكتاب: إن رسول الله ﷺ قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم، فإنه منجز له ما وعده فيكم، فإن الله تعالى ناصره ووليه. وقيل فيه: إن محمدا قد نفر فإما إليكم وإما إلى غيركم فعليكم الحذر، وقيل فيه إن رسول الله ﷺ قد آذن بالغزو ولا أراه إلا يريدكم، وقد أحببت أن تكون لي يد بكتابي إليكم.
أقول: لا مانع أن يكون جميع ما ذكر في الكتاب، بأن يكون فيه: إن محمدا قد آذن، أي أعلم بالغزو وقد نفر: أي عزم على أن ينفر، فإما إليكم وإما إلى غيركم، ولا أراه إلا يريدكم، وهذا كان قبل أن يعلم بسيره إلى مكة، فلما علم ألحق بالكتاب أن رسول الله ﷺ قد توجه، أي يريد التوجه إليكم بجيش إلى آخره. وبعض الرواة اقتصر على ما في بعض الكتاب والله أعلم.
فدعا رسول الله ﷺ حاطبا فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت. وفي لفظ: ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششت منذ نصحت، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني ليس لي في القوم أهل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. أي وفي لفظ قال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا: أي حليفا من قريش. وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الملصق هو الذي لا نسب له ولا دخل في حلف. قال: ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم وأهليهم بمكة، ولم يكن لي قرابة، فأحببت أن أتخذ فيهم يدا أحمي بها أهلي، أي وهي أمه.
ففي بعض الروايات: كنت غريبا في قريش، وأمي بين أظهرهم، فأردت أن يحفظوني فيها، وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام، وقد علمت أن الله تعالى منزل بهم بأسه لا يغني عنهم كتابي شيئا، فقال رسول الله ﷺ: إنه قد صدقكم، فقال عمر بي الخطاب «رضي الله ع»: يا رسول الله دعني لأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، وفي لفظ قال له: قاتلك الله ترى رسول الله ﷺ يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم. وفي رواية: دعني أضرب عنقه، لأنه يعلم أنك يا رسول الله أخذت على الطريق، وأمرت أن لا ندع أحدا يمر ممن تنكره إلا رددناه انتهى.
وأقول: مراد سيدنا عمر بقوله قد نافق، أي خالف الأمر، لا أنه أخفى الكفر لقوله: «قد صدقكم» ورأى أن مخالفة أمره مقتضية للقتل، ولكن رواية البخاري: «إنه قد صدقكم، ولا تقولوا له إلا خيرا» وعليها يشكل قول عمر المذكور ودعاؤه عليه بقوله: قاتلك الله. إلا أن يقال: يجوز أن يكون قول عمر لذلك كان قبل قول رسول الله ﷺ ما ذكر. وعند قول عمر «رضي الله ع»: دعني لأضرب عنقه، قال رسول الله «إنه قد شهد بدرا، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وفي رواية «فقد وجبت لكم الجنة» وفي رواية: «لا يدخل النار أحد شهد بدرا» فعند ذلك فاضت عينا عمر «رضي الله ع» بالبكاء، أي وأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} الآيات. وفي قوله: {عدوي وعدوكم} منقبة عظيمة لحاطب «رضي الله ع» بأن في ذلك الشهادة له بالإيمان، وقوله: {تلقون إليهم بالمودة} أي تبدونها لهم، وذكر بعضهم أن البلتعة في اللغة: التظرف بالظاء المشالة، يقال تبتلع في كلامه: إذا تظرف فيه.
ثم مضى رسول الله ﷺ لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وقيل ابن أم مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي في سيرته. وخرج لعشر، وقيل لليلتين، وقيل لثنتي عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل سبع عشرة، وقيل ثمان عشرة، وهو في مسند الإمام أحمد بسند صحيح. قال ابن القيم: إنه أصح من قول من قال إنه خرج لعشر خلون من رمضان، أي وصدّر به في الإمتاع، وقيل خرج لتسع عشرة مضين من شهر رمضان في سنة ثمان. قال في النور لا أعلم خلافا في الشهر والسنة.
وما في البخاري أن خروجه من المدينة كان على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة، أي فيكون في السنة التاسعة فيه نظر، وكان في عشرة آلاف، أي باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل كبني أسد وسليم، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين والأنصار، وكان الهاجرون سبعمائة ومعهم ثلاثمائة فرس، وكانت الأنصار أربعة آلاف ومعهم خمسمائة فرس، وكانت مزينة ألفا وفيها مائة فرس، وكانت أسلم أربعمائة ومعها ثلاثون فرسا، وكانت جهينة ثمانمائة ومعها خمسون فرسا، وقيل كان في اثني عشر ألفا.
ولما وصل إلى الأبواء أو قريبا منها لقيه أبو سفيان ابن عمه الحارث وكان الحارث أكبر أولاد عبد المطلب، وكان يكنى به كما تقدم، وكان أبو سفيان أخاه من الرضاعة على حليمة كما تقدم، ولقيه عبد الله بن أمية بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب أخو أم سلمة أم المؤمنين «رضي الله ع» لأبيها، لأن والدة أم سلمة عاتكة بنت جندل الطعان، وكان عند أبيها أمية بن المغيرة زوجتان أيضا كل منهما تسمى عاتكة، فكان عنده أربع عواتك. وكان مجيء الحارث وعبد الله له يريدان الإسلام، وكان «رضي الله ع» من أكبر القائمين على رسول الله ﷺ ومن أشد الناس إذاية له، أي بعد أن كان الحارث قبل النبوة آلف الناس له لا يفارقه كما تقدم، وقد تقدم بعض ذكر أذيتهما له، فأعرض عنهما فكلمته أم سلمة «رضي الله ع» فيهما: أي قالت له: لا يكون ابن عمك وابن عمتك أي وصهرك أشقى الناس بك، فقال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي: يعني أبا سفيان فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري يعني عبد الله أخا أم سلمة فهو الذي قال لي بمكة ما قال: أي قال له: والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وأنا أنظر إليك، ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون لك أن الله أرسلك إلى آخر ما تقدم. فلما خرج الخبر إليهما، قال أبو سفيان ومعه ابن له: والله ليأذننّ لي أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت جوعا وعطشا، فلما بلغ ذلك رسول الله ﷺ رق لهما، ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وقبل إسلامهما.
وقيل إن عليا كرم الله وجهه قال لأبي سفيان: ائت رسول الله ﷺ من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف {تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين}، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه ففعل، فقال رسول الله: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}. وكان أبو سفيان «رضي الله ع» بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله ﷺ حياء منه لأنه عاداه نحو عشرين سنة يهجوه ولم يتخلف عن قتاله. وكان بعد ذلك يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: أرجو أن يكون خلفا من حمزة «رضي الله ع»، أي وقال له يوما: «الصيد كل الصيد في جوف الفرا» وفي رواية قال له: «أنت يا أبا سفيان كما قيل: كل الصيد في جوف الفرا».
وفي سفره صام وصام الناس، حتى إذا كانوا بالكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى: أي وهو محل بين عسفان وقديد أفطر، أي وقيل أفطر بعسفان، وقيل أفطر بقديد، وقيل أفطر بكراع الغميم. ولا منافاة لتقارب الأمكنة. وقال بعضهم: لا مانع أن يكون كرر الفطر في تلك الأماكن لتتساوى الناس في رؤية ذلك، فأخبر كل منهم عن محل رؤيته.
قال: وفي رواية أنه لما خرج ووصل إلى محل يقال له الصلصل قدم أمامه الزبير بن العوام «رضي الله ع» في مائتين، ونادى منادي رسول الله ﷺ: من أحب أن يصوم فليصم، ومن أحب أن يفظر فليفطر.
أي وفي الإمتاع: لما خرج من المدينة نادى مناديه: من أحب أن يصوم فليصم، وفي بعض الأيام صب رسول الله ﷺ على رأسه الماء ووجهه من شدة العطش، وفي لفظ: من شدة الحر وهو صائم.
وفي رواية أنه لما بلغ الكديد بلغه أن الناس شق عليهم الصيام، أي وأنهم ينظرون فيما فعلت، فاستوى على راحلته بعد العصر ودعا بإناء فيه ماء، وقيل لبن فشرب، ثم ناوله لرجل بجنبه فشرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس صام، فقال: أولئك العصاة، أي لأنهم خالفوه أمره لهم بالفطر ليقووا على مقاتلة العدو، لأنه قال للصحابة لما دنوا من عدوهم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فلم يزل يفطر حتى انسلخ الشهر انتهى.
أي وفي قديد عقد الألوية والرايات، ودفعها للقبائل، ثم سار حتى نزل بمر الظهران: أي وهو الذي يقال له الآن بطن مروعشاء، أي وقد أعمى الله الأخبار عن قريش إجابة لدعائه، فلم يعلموا بوصوله إليهم، أي ولم يبلغهم حرف واحد من مسيره إليهم، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، وكان العباس «رضي الله ع» قد خرج قبل ذلك بعياله مسلما، أي مظهرا للإسلام مهاجرا، فلقي رسول الله ﷺ بالجحفة، وقيل بذي الحليفة، فرجع معه إلى مكة، أي وأرسل أهله وثقله إلى المدينة، وقال له رسول الله «هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة» قال: العباس «رضي الله ع»: ورقت نفسي لأهل مكة، أي وقال: يا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله ﷺ: مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال العباس «رضي الله ع»: فجلست على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء أي زاد بعضهم التي أهداها له دحية الكلبي، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بمكان رسول الله ﷺ ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة فوالله إني لأسير إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، أي وقد خرجا وحكيم بن حزام: أي بعد أن خرج أبو سفيان وحكيم بن حزام، فلقيا بديلا فاستصحباه وخرجوا يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به؟ أي لأنهم علموا بمسيره ولم يعلموا إلى أي جهة.
وفي سيرة الدمياطي: ولم يبلغ قريشا مسيره إليهم فلا ينافي ما قبله. وهم مغتمون يخافون من غزوه إياهم، فبعثوا أبا سفيان بن حرب يتجسس الأخبار وقالوا: إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا، أي فلما سمعوا صهيل الخيل راعهم ذلك وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، هذه كنيران عرفة، وبديل يقول له: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب، وحمشتها بالحاء المهملة والشين المعجمة: أي أحرقتها وقيل بالسين المهملة: أي اشتدت عليها من الحماسة وهي الشدة، وأبو سفيان يقول: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. أي وفي رواية أن القائل هذه خزاعة غير بديل، وأن بديلا هو القائل هؤلاء أكثر من خزاعة وهو المناسب، لأن بديلا من خزاعة. قال العباس «رضي الله ع»: فعرفت صوت أبي سفيان، أي وكان أبو سفيان صديقا للعباس ونديمه، قال العباس، فقلت: يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ فقلت نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي؟ قلت: والله هذا رسول الله ﷺ في الناس قد جاءكم بما لا قبل لكم به، أي وفي رواية: قد جاءكم بعشرة آلاف، فقال: واصباح قريش والله فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتيك رسول الله ﷺ فأستأمنه لك، فركب خلفي، أي ورجع صاحباه، فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله ﷺ وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله ﷺ على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، فقال: من هذا؟ وقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال أبو سفيان عدوّ الله، الحمد لله الذي قد أمكن منك من غير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله، فركضت البغلة فسبقته فاقتحمته عن البغلة، فدخلت على رسول الله ﷺ ودخل عليه عمر في أثري، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان، أي عدوّ الله قد أمكن منه من غير عقد ولا عهد، فدعني، لأضرب عنقه، قال: قلت يا رسول الله إني قد أجرته. ولعل العباس وعمر «رضي الله ع» لم يبلغهما قوله إنكم لاقون بعضهم. فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه إن صح.
قال العباس «رضي الله ع»: ثم جلست إلى رسول الله ﷺ فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكد عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدّي بن كعب ما قلت مثل هذا، أي ولكنك قد عرفت أنه من رجال عبد مناف، قال: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله: «اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به».
وفي البخاري أن الحرس ظفروا بأبي سفيان ومن معه وجاءوا بهم إلى رسول الله ﷺ فأسلموا.
وجمع بعضهم بأنه يجوز أن يكون العباس أخذهم من الحرس، أي ويؤيده قول ابن عقبة رحمه الله لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس بن عبد المطلب فأجارهم، أي وأتي بأبي سفيان وتأخر صاحباه، قال وفي لفظ: أخذهم نفر من الأنصار بعثهم رسول الله ﷺ عيونا فأخذوا بخطم أبعرتهم، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: نحن أصحاب رسول الله ﷺ وها هو، فقال أبو سفيان: هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم، فجاؤوا بهم إلى عمر «رضي الله ع»، أي لأنه كان في تلك الليلة على الحرس كما تقدم، فقالوا: جئناك بنفر من أهل مكة، فقال عمر وهو يضحك إليهم: والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم، فقالوا: والله أتيناك بأبي سفيان، فقال: احبسوه، فحبسوه حتى أصبح، فغدوا به إلى رسول الله ﷺ وسلم انتهى، وفيه ما لا يخفى، فإن الجمع بينه وبين ما قبله بعيد.
قال العباس: ولما قال لي رسول الله «اذهب به يا عباس إلى رحلك» فذهبت به، فلما أصبح غدوت على رسول الله ﷺ أي بعد أن نودي بالصلاة وثار الناس، ففزع أبو سفيان وقال للعباس يا أبا الفضل ما يريدون؟ قال الصلاة.
وفي رواية: ما للناس؟ أأمروا فيّ بشيء؟ قال: لا ولكنهم قاموا إلى الصلاة ورأى المسلمين يتلقون وضوء رسول الله ﷺ ثم رآهم يركعون إذا ركع ويسجدون إذا سجد، فقال للعباس: يا عباس ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه، فقال له العباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه، فقال: ما رأيت ملكا مثل هذا لا ملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الأصفر، ثم قال للعباس: كلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم؟ فانطلق العباس بأبي سفيان حتى أدخله على رسول الله، فقال له رسول الله ﷺ: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي وأمي أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أنه لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، أما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا.
قال: وفي رواية أن بديلا وحكيم بن حزام لم يرجعا بل جاء بهم العباس، وأن العباس قال: يا رسول الله أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم وهم يدخلون عليك، فقال رسول الله: «أدخلهم، فدخلوا عليه، فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم، أي عن أهل مكة، ودعاهم إلى الإسلام، فقالوا نشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله: «اشهدوا أني رسول الله»، فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام، فقال أبو سفيان: ما أعلم ذلك، والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها انتهى: أي أخرها إلى وقت آخر.
وفي أسد الغابة أنه، قال ليلة قرب من مكة في غزوة الفتح: إن بمكة أربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك وأرغب بهم في الإسلام: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو، أي وهذا يدل على القول بأن جبيرا أسلم يوم الفتح كمن ذكر معه. وذكر بعضهم أنه أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح.
فقال العباس «رضي الله ع» لأبي سفيان: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق فأسلم.
وذكر عبد بن حميد أن النبي ﷺ حين عرض الإسلام على أبي سفيان، قال له: كيف أصنع بالعزى، فسمعه عمر «رضي الله ع» من وراء القبة، فقال له: تخرأ عليها، فقال له أبو سفيان: ويحك يا عمر، إنك رجل فاحش، دعني مع ابن عمي فإياه أكلم، وكان في هذا تصديق أمية بن أبي الصلت، فإنه كان يقول: كنت أرى في كتبي أن نبيا يبعث في حرتنا فكنت أظن بل كنت لا أشك أنّي أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذ هو في بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر إلا عتبة بن ربيعة فلما جاوز الأربعين سنة ولم يوح إليه علمت أنه غيره. قال أبو سفيان: فخرجت في ركب أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية قد خرج النبي قد كنت تنعته، قال إنه حق فاتبعه، قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني من اتباعه إلا الاستحياء من بنيات ثقيف، إني كنت أحدّثهم أني هو يُريَنني تابعا لغلام من بني عبد مناف، ثم قال لأبي سفيان: كأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يأتي بك إليه فيحكم بما يريد، رواه الطبراني في معجمه.
وذكر بعضهم أن أمية هذا كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوان، فمر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه إليها ويرغو، فقال: هذا البعير يقول إن في رحله مسلة تصيب ظهره، فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل، فوجدوا المسلة كما قال.
وذكر أن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله أجئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك، فقال رسول الله ﷺ: هم أظلم وأفجر، قد غدرتم بعقد الحديبية، وتجاهرتم على بني كعب يعني خزاعة بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه، فقال بديل: صدقت والله يا رسول الله، فقد غدروا بنا، والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدوّنا ما نالوا منا الذي نالوا، فقال حكيم: قد كنت يا رسول الله حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال رسول الله ﷺ: إني لأرجو أن يجمعها لي ربي: فتح مكة، وإعزاز الإسلام بها، وهزيمة هوازن وأخذ أموالهم وذراريهم، وقال له أبو سفيان: يا رسول الله ادع الناس بالأمان، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم؟ قال رسول الله ﷺ: نعم، من كف يده وأغلق داره فهو آمن، قال العباس: فقلت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن.
أي فحكيم بن حزام من مسلمة الفتح، وكان عمره ستين سنة، وبقي في الإسلام مثل ذلك، كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، وأعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مثل ذلك، فإنه حج في الإسلام، وأوقف بعرفة مائة وصيف في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها«عتقاء الله عن حكيم بن حزام» وأهدى مائة بدنة قد جللهابالحبرة، وأهدى ألف شاة. وعقد لأبي رويحة الذي آخى بينه وبين بلال لواء، وأمره أن ينادي: من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، أي وإنما قال ذلك لما قال له أبو سفيان: وما تسع داري، وما يسع المسجد؟ ولما قال له ذلك قال أبو سفيان: هذه واسعة، ثم أمر العباس أن يحبس أبا سفيان وبديلا وحكيم بن حزام () أي وعليه إنما خص أبو سفيان بالذكر في بعض الروايات لشرفه قال له: احبسه بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها. قال العباس: ففعلت، فمرت القبائل كلها، كلما مرت قبيلة كبرت ثلاثا عند محاذاته. قال: يا عباس من هذه؟ فأقول سليم، فيقول: ما لي ولسليم، أي فإن أوّل القبائل مرّ سليم، وفيها خالد بن الوليد «رضي الله ع»، ثم تمر القبيلة، فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فأقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت بالفاء والدال المهملة القبائل كلها، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا قلت له بنو فلان، قال: ما لي ولبني فلان.
أي وقد ذكرها بعضهم مرتبة، فقال: أوّل من مر خالد بن الوليد في بني سليم بضم السين. فقال أبو سفيان: يا عباس من هؤلاء؟ قال: هذا خالد بن الوليد، قال: الغلام؟ قال: نعم، قال: ومن معه؟ قال: بنو سليم، قال: ما لي ولبني سليم.
ثم مر على أثره الزبير بن العوام «رضي الله ع» في خمسمائة من المهاجرين وفتيان العرب؟ فقال أبو سفيان: من هؤلاء؟ قال الزبير، قال: ابن أخيك؟ قال: نعم.
ثم مرت بنو غِفار بكسر الغين المعجمة، ثم أسلم، ثم بنو كعب، ثم مزينة، ثم جهينة ثم كنانة، ثم أشجع.
ولما مرت أشجع قال أبو سفيان للعباس: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد، قال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا فضل الله() حتى مر به رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء للبسهم الحديد. والعرب تطلق الخضرة على السواد كما تطلق السواد على الخضرة، وفيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد: أي فيها ألفا دارع وعمر بن الخطاب «رضي الله ع» يقول: رويدا حتى يلحق أوّلكم آخركم. قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله ﷺ في الأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقلت: يا أبا سفيان إنها النبوّة، فقال: نعم إذن، ثم قلت له: النجاء بالفتح والمد إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة أم معاوية «رضي الله ع»، فأخذت بشاربه وقالت كلاما: معناه اقتلوا الخبيث الدنس الذي لا خير فيه، قبح من طليعة قوم.
أي وفي رواية أنها أخذت بلحيته ونادت: يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق، هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم؟ فقال لها: ويحك اسكتي وادخلي بيتك. وقال: ويحكم، لا تغرّنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا قبحك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، أي وبهذا استدل على أن مكة فتحت صلحا لا عنوة. وبه قال إمامنا الشافعي رحمه الله. وقال غيره: فتحت عنوة.
وفي رواية: أن النبي ﷺ وجه حكيم بن حزام مع أبي سفيان بعد إسلامهما إلى مكة، وقال: من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن وكانت بأسفل مكة، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وكانت بأعلى مكة، واستثنى جماعة أمر بقتلهم، وهم أحد عشر رجلا، أي وفي الإمتاع: ستة نفر، وأربع نسوة وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة: منهم عبد الله بن أبي سرح، وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، وكان فارس بني عامر، وكان أحد النجباء الكرام من قريش «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، وعبد الله بن خطل وقينتاه، وعكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، والحويرث بن نفيل، ومقيس بن حبابة، وهبار بن الأسود «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وكعب بن زهير «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وهو صاحب بانت سعاد، والحارث بن هشام «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وزهير بن أمية «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وسارّة مولاة لبعض بني عبد المطلب «رضي الله ع» فإنها أسلمت بعد ذلك وعاشت إلى خلافة أبي بكر «رضي الله ع»، وتقدم أنها كانت حاملة لكتاب حاطب بن أبي بلتعة، وصفوان بن أمية «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وزهير بن أبي سلمى: أي وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، ووحشي بن حرب «رضي الله ع»() فإنه أسلم بعد ذلك.
وفي رواية أن سعد بن عبادة «رضي الله ع» كان معه راية رسول الله ﷺ: أي على الأنصار.
ولما مر على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي، قال أبو سفيان: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة: أي الحرب والقتال: اليوم أستحل الحرمة. وفي لفظ: الكعبة، اليوم أذلّ الله قريشا، فلما أقبل رسول الله ﷺ قال بعضهم: ورأيته مع الزبير «رضي الله ع»، فلما مر بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك، فإنه زعم سعد ومن معه حين مرّ بنا أنه قاتلنا، فإنه قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس برّ وأرحمهم وأوصلهم، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع»: يا رسول الله فإنا لا نأمن من سعد أن يكون له في قريش صولة، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا سفيان كذب سعد، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشا. أي وفي رواية: اليوم يعظم الله فيه الكعبة، اليوم تكسى فيه الكعبة، وأرسل رسول الله ﷺ إلى سعد بن عبادة: أي أرسل عليا كرم الله وجهه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس «رضي الله ع». وقيل أعطاه للزبير، وقيل لعليّ كرم الله وجهه خشية أن يقع من ابنه قيس ما لا يرضاه، أي لأن قيسا «رضي الله ع» كان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة والشجاعة. من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لما ولاه سيدنا عليّ كرمّ الله وجهه بعد قتل عثمان «رضي الله ع» مصر لرأى العجب من وفور عقله، ومع ذلك كان له من الكرم ما لا مزيد عليه. وقفت له «رضي الله ع» عجوز: وقالت له: أشكو إليك قلة الجرذان ببيتي. والجرذان بالذال المعجمة: نوع من الفيران، فقال: ما أحسن هذا السؤال وقال لها: لأكثرنّ الجرذان ببيتك، فملأ بيتها طعاما وأدما. وقيل قالت له: مشت جرذان بيتي على العصيّ، فقال لها: لأدعهن يثبن وثبة الأسود، ثم ملأ بيتها طعاما، ولا مانع من تعدد الواقعة.
ومن هذا الوادي ما كتب به بعضهم إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين أشكو إليك الشرف. فقال له: ما أحسن ما استمنحت، وأعطاه عشرة آلاف درهم، فقيل له في ذلك؟ فقال: يسأل ما لا يقدر عليه، ويعتذر فلا يعذر.
ولما أشرف أبوه سعد «رضي الله ع» على الموت قسم ماله في أولاده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما مات سعد وولد له ذلك الحمل كلمه أبو بكر وعمر «رضي الله ع» في أن ينقض ما صنع أبوه من تلك القسمة، فقال: نصيبي للمولود، ولا أغير ما صنع أبي، ولم يكن في وجه قيس «رضي الله ع» شعر، وكان مع ذلك جميلا، وكانت الأنصار «رضي الله ع» تقول: وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا. وكان له ديون على الناس كثيرة فلما مرض «رضي الله ع» استبطأ عواده، فقيل له إنهم مستحيون من أجل دينك، فأمر مناديا ينادي: كل من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له، فأتاه الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليها إليه.
ورأى رسول الله ﷺ أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار لابنه قيس «رضي الله ع». قال: وروي أن سعدا أبى أن يسلم اللواء إلا بأمارة من رسول الله، فأرسل إليه بعمامته. فدفع اللواء لابنه قيس «رضي الله ع» انتهى.
وفي صحيح البخاري أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة «رضي الله ع» ومعه الراية ولم ير مثلها، ثم جاءت كتيبة وهي أقل. وفي رواية الحميدي وهي أجلّ الكتائب بالجيم. قال في الأصل: وهي أظهر من رواية أقل، لأنها كانت خاصة الهاجرين، فيها رسول الله ﷺ والراية مع الزبير «رضي الله ع».
وأمر رسول الله ﷺ خالد بن الوليد أن يدخل مع جملة من قبائل العرب من أسفل مكة، أي وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت. وقال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو «رضي الله ع»، أي فإنهم أسلموا بعد ذلك() قد جمعوا ناسا بالخندمة: وهو جبل بمكة ليقاتلوا، وكان من جملتهم رجل كان يعدّ سلاحا، ويصلح من شأنه، فتقول له زوجته، أي وقد كانت أسلمت سرا لماذا تعدّ ما أرى؟ فيقول: لمحمد وأصحابه، فتقول له: والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء. قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم.
وفي تاريخ مكة للأزرقي قال رجل من قريش لامرأته وهي تبرى نبالا له، وكانت أسلمت سرا، فقالت له: لم تبري هذا النبل؟ قال: بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها، فلئن كان لأخدمنك خادما من بعض من أستأسره، فقالت له: والله لكأني بك وقد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رأيت خيل محمد، فلما دخل رسول الله ﷺ يوم الفتح أقبل ذلك الرجل إليها، فقال: ويحك هل من مخبأة، فقالت له: فأين الخادم؟ فقال لها: دعي عنك، وأنشد الأبيات الآتية، هذا كلامه.
وسبب ذلك أن خالد بن الوليد «رضي الله ع» لما لقيهم بالمحل المذكور منعوه الدخول ورموه بالنبل، وقالوا له: لا تدخلها عنوة، فصاح خالد في أصحابه، فقتل من قتل وانهزم من لم يقتل، وكان من جملة من انهزم ذلك الرجل.
وفي رواية أنه لما دخل بيته قال لامرأته: أغلقي عليّ بابي، قالت: وأين ما كنت تقول؟ أين الخادم الذي كنت وعدتني، تسخر به؟ فقال:
إنك لو شهدت يوم الخندمة
عبارة الأزرقي:
وأنت لو أبصرتنا بالخندمة ** إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ** يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضربا فلا تسمع إلا غمغمة ** لهم نهيت حولنا وهمهمه
لا تنطقي في اللوم أدنى كلمة
والغمغمة: الصوت الذي لا يفهم. والنهيت بالمثناة تحت وفوق: الزحير. والهمهمة: صوت في الصدر.
أي واستمر خالد «رضي الله ع» يدفعهم إلى أن وصل الحزورة إلى باب المسجد أي وصعدت طائفة منهم الجبل فتبعهم المسلمون، فرأى وهو على العقبة بارقة السيوف، فقال: ما هذا وقد نهيت عن القتال؟ فقيل له: لعل خالدا قوتل وبدىء بالقتال، فلم يكن له بد من أن يقاتل من يقاتله، وما كان يا رسول الله ليخالف أمرك، فقتل من المشركين أربعة وعشرون من قريش، وأربعة من هذيل.
وفي رواية جعل الزبير «رضي الله ع» على إحدى المجنبتين: أي وهما الكتيبتان، تأخذ أحداهما اليمين والأخرى اليسار والقلب بينهما، وخالدا على الأخرى، وأبا عبيدة على الرجالة.
وفي لفظ: على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة: أي الذين لا دروع لهم. قال في شرح مسلم: فهم رجالة لا دروع عليهم، وقد أخذوا بطن الوادي، ولعل ذلك كان قبل الدخول إلى مكة، فلا ينافي ما سيأتي أنه أعطى الزبير «رضي الله ع» راية، وأمره أن يغرزها بالحجون، لا يبرح حتى يأتيه في ذلك المحل وفي ذلك المحل بني مسجد يقال له مسجد الراية.
وقد بوّشت قريش أبواشا: أي جمعوها من قبائل شتى، فنادى رسول الله ﷺ أبا هريرة «رضي الله ع» وقال له. اهتف: أي صح لي بالأنصار، فهتف بهم، فجاؤوا وطافوا برسول الله، فقال لهم: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم؟ ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا: أي ودخلوا من أعلى مكة. قال أبو هريرة «رضي الله ع»: فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء وما أحد يوجه إلينا منهم شيئا. وفي لفظ: فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه: أي لا يقدر أن يدفع عن نفسه، فجاء أبو سفيان «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش: أي لا جماعة لقريش بعد اليوم، لأن الجماعة المجتمعة يعبر عنها بالسواد الأعظم، فيقال السواد الأعظم، ويعبر عنها بالخضرة كما هنا، فالمراد جماعة قريش، وعند ذلك قال: «من أغلق بابه فهو آمن».
قال: ووجه اللوم على خالد بن الوليد «رضي الله ع». وقال له: لم قاتلت وقد نهيت عن القتال؟ قال: هم يا رسول الله بدؤونا بالقتال ورمونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح، وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام فأبوا، حتى إذا لم أجد بدا من أن أقاتلهم فظفرنا الله بهم فهربوا من كل وجه.
وفي لفظ أنه قال لرجل من الأنصار عنده: يا فلان، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ائت خالد بن الوليد وقل له: إن رسول الله ﷺ يأمرك أن تقتل بمكة أحدا، فجاء الأنصاري فقال: يا خالد إن رسول الله ﷺ يأمرك أن لا تقتل من لقيت من الناس، فاندفع خالد فقتل سبعين رجلا بمكة. فجاء إلى النبي ﷺ رجل من قريش فقال: يا رسول الله هلكت قريش، لا قريش بعد اليوم. قال: ولم؟ قال: هذا خالد بن الوليد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله، قال: ادع لي خالدا، فدعاه له، فقال: يا خالد ألم أرسل إليك أن لاتقتل أحدا؟ قال: بل أرسلت إن اقتل من قدرت عليه. قال: ادع لي الأنصاري، فدعاه له، فقال: أما أمرتك أن تأمر خالدا أن لا يقتل أحدا، قال: بلى ولكنك أردت أمرا وأراد الله غيره، فسكت رسول الله ﷺ ولم يقل للأنصاري شيئا، فقال رسول الله ﷺ: كف عن الطلب، قال: قد فعلت، فقال رسول الله ﷺ: قضى الله أمرا، ثم قال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله.
أي وهذه المقاتلة التي وقعت لخالد «رضي الله ع» لا تنافي كون مكة فتحت صلحا كما تقدم، أي لأنه صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة.
وأما قوله: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» فهو من زيادة الاحتياط لهم في الأمان.
وقوله احصدوهم حصدا محمول على من أظهر من الكفار القتال ولم يقع قتال، ومن ثم قتل خالد «رضي الله ع» من قاتل من الكفار، وإرادة علي كرم وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما أخته أم هانىء كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئا أو جرى منهما قتال له وتأمين أم هانىء لهما من تأكيد الأمان الذي وقع للعموم، فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله الجمهور.
وقيل أعلاها فتح صلحا: أي الذي سلكه أبو هريرة والأنصار لعدم وجود المقاتلة فيه، وأسلفها الذي سلكه خالد «رضي الله ع» فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه كما تقدم.
ودخل مكة وهو راكب على ناقته القصواء: أي مردفا أسامة بن زيد بكرة يوم الجمعة معتجرا بشقة برد حبرة حمراء، واضعا رأسه الشريف على رحله تواضعا لله تعالى، حين رأى ما رأى من فتح الله تعالى مكة وكثرة المسلمين، ثم قال: «اللهم إن العيش عيش الآخرة».
وقيل دخل وعلى رأسه المغفر، وقيل وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفيها بين كتفيه بغير إحرام، ورايته سوداء ولواؤه أسود.
وعن جابر «رضي الله ع»: «كان لواء رسول الله ﷺ يوم دخل مكة أبيض» وعن عائشة «رضي الله ع»«كان لواؤه يوم الفتح أبيض. ورايته سوداء تسمى العقاب» أي وهي التي كانت بخير، وتقدم أنها كانت من برد عائشة.
وعنها «رضي الله ع» أنها قالت: «دخل رسول الله ﷺ يوم الفتح من كداء» بفتح الكاف والمد والتنوين «من أعلى مكة» وهذا هو المعروف خلافا لمن قال إنه دخل من أسفل مكة، وهي ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين، وسيأتي أنه عند الخروج خرج من هذه، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب دخول مكة من الأولى، والخروج منها من الثانية، أي واغتسل لدخول مكة كما حكاه إمامنا الشافعي رضي الله في الأم، وبه استدل على استحباب الغسل لداخل مكة ولو حلالا أي وسيأتي ذلك عن أم هانىء «رضي الله ع»، أي وكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن» وشعار الخزرج «يا بني عبد الله» وشعار الأوس «يا بني عبيد الله» أي شعارهم الذي يعرف به بعضهم بعضا في ظلمة الليل، وعند اختلاط الحرب لو وجد.
ولما نزل رسول الله ﷺ مكة واطمأن الناس، قال وذلك بالحجون: موضع ما غرز الزبير «رضي الله ع» رايته عند شعب أبي طالب الذي حصرت فيه بنو هاشم، أي وبنو المطلب قبل الهجرة، بقية من أدم نصبت له هناك ومعه فيها أم سلمة وميمونة زوجتاه ورضي عنهما.
فعن جابر «رضي الله ع»: «لما رأى رسول الله ﷺ بيوت مكة وقف، فحمد الله وأثنى عليه ونظر إلى موضع قبته، وقال: هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت قريش علينا، قال جابر «رضي الله ع»: فذكرت حديثا كنت سمعته منه قبل ذلك بالمدينة: «منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر»: أي لأنّ قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله ﷺ إلى آخر ما تقدم في قصة الصحيفة انتهى، وفيه أنه سيأتي في حجة الوداع أنهم تحالفوا بالمحصب.
ففي البخاري عن أبي هريرة «رضي الله ع» أنه، قال يوم النحر وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر» يعني بالمحصب. وعن أسامة بن زيد «رضي الله ع». قال: «يا رسول الله أين تنزل غدا؟ أتنزل في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟ » وتقدم ما يغني عن إعادته هنا، فكان يأتي المسجد من الحجون لكل صلاة، وكان دخوله مكة يوم الاثنين.
فقد قال ابن عباس «رضي الله ع»: إنه ولد يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي مهاجرا يوم الاثنين، أي ودخل المدينة يوم الاثنين، ونزلت عليه سورة المائدة يوم الاثنين.
ثم سار وإلى جانبه أبو بكر «رضي الله ع» يحادثه ويقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعا على راحلته، أي ومحمد بن مسلمة «رضي الله ع» آخذ بزمامها ليستلم الحجر بمحجن في يده.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: «دخل رسول الله ﷺ مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم قد شد إبليس أقدامها بالرصاص، فجاء ومعه قضيب، فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه»وفي لفظ «لقفاه» وفي لفظ فما أشار لصنم من ناحية وجهه إلا وقع لقفاه، ولا أشار لقفاه إلا وقع على وجهه من غير أن يمسه بما في يده، يقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} حتى مر عليها كلها».
وفي رواية: «فأقبل إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس أخذ بسيته» والسية: ما انعطف من طرف القوس «فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت: أي من جهة بابه يعبدونه وهو هبل وكان أعظم الأصنام() فجعل يطعن بها في عينيه، ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} أي فأمر به فكسر، فقال الزبير بن العوام «رضي الله ع» لأبي سفيان: قد كسر هبل، أما إنك قد كنت في يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم، فقال أبو سفيان «رضي الله ع»: دع هذا عنك يا بن العوام، فقد أرى لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان، أي وانتهى إلى المقام وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة».
قال: وعن علي كرم الله وجهه، قال: «انطلق بي رسول الله ﷺ ليلا حتى أتى الكعبة، فقال: اجلس، فجلست إلى جنب الكعبة، فصعد رسول الله ﷺ على منكبي، ثم قال: انهض فنهضت، فلما رأى ضعفي تحته، قال اجلس. فجلست، ثم قال: يا علي اصعد على منكبي، ففعلت» أي وفي رواية: «أنه قال لعلي كرم الله وجهه اصعد على منكبي واهدم الصنم، فقال، يا رسول الله، بل اصعد أنت فإني أكرمك أن أعلوك، فقال: إنك لا تستطيع حمل ثقل النبوة فاصعد أنت، فجلس النبي ﷺ فصعد علي كرم الله وجهه على كاهله ثم نهض به» قال علي: فلما نهض بي، فصعدت فوق ظهر الكعبة، وتنحى رسول الله، أي وخيل لي حين نهض بي أني لو شئت لنلت أفق السماء أي وفي رواية: قيل لعلي كرم الله وجهه: كيف كان حالك، وكيف وجدت نفسك حين كنت على منكب رسول الله؟ فقال: كان من حالي أني لو شئت أن أتناول الثريا لفعلت، وعند صعوده كرم الله وجهه، قال له: ألق صنمهم الأكبر وكان من نحاس، أي وقيل من قوارير أي زجاج.
وفي رواية: «لما ألقى الأصنام لم يبق إلا صنم خزاعة موتدا بأوتاد من الحديد، فقال رسول الله ﷺ: عالجه فعالجته وهو يقول: إيه إيه {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه فقذفته فتكسر.
أقول: وهذا السياق يدل على أن الصنم غير هبل وأن هبل ليس أكبر أصنامهم، بل هذا أكبر منه ولم أقف على اسمه.
ومما يدل على أن الذي كسر هو هبل قول الزبير «رضي الله ع» كما تقدم لأبي سفيان أن هبل الذي كنت تفتخر به يوم أحد قد كسر، قال: دعني ولا توبخنني، لو كان مع إله محمد إله آخر لكان الأمر غير ذلك.
وفي الكشاف: ألقاها جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال: «يا علي ارم به، فحمله رسول الله ﷺ حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا أسحر من محمد».
وفي خصائص العشرة لصاحب الكشاف زيادة، وهي: ونزلت من فوق الكعبة وانطلقت أنا والنبي ﷺ نسعى، وخشينا أن يرانا أحد من قريش هذا كلامه، وهذا يدل على أن ذلك لم يكن يوم فتح مكة فليتأمل.
وفي الكشاف أيضا: كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، لكل قوم صنم بحيالهم.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: «كانت لقبائل العرب أصنام يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى ربه عز وجل، فقال: يا رب إلى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى الله تعالى إلى البيت: إني سأحدث لك نوبة جديدة، فلأملؤك خدودا سجدا يدفون إليك دفيف النسور، ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالبيت» هذا كلامه.
ودخل رسول الله ﷺ الكعبة، أي بعد أن أرسل بلالا «رضي الله ع» إلى عثمان بن أبي طلحة يأتي بمفتاح الكعبة إلى آخر ما سيأتي، وبعد أن محيت منها الصور، أي فإنه أمر عمر «رضي الله ع» وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، وكان عمر «رضي الله ع» قد ترك صورة إبراهيم، فقال: يا عمر ألم آمرك أن لا تترك فيها صورة؟ قاتلهم الله حيث جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} هذا.
وفي كلام سبط ابن الجوزي، قال الواقدي رحمه الله: أمر رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان «رضي الله ع» أن يقدما إلى البيت، وقال لعمر: لا تدع صورة حتى تمحوها إلا صورة إبراهيم هذا كلامه، فليتأمل.
وفي رواية، عن أسامة بن زيد «رضي الله ع»، قال: «دخلت عليه في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء فأتيته به، فجعل رسول الله ﷺ يمحوها» أي وتلك الصور هي صور الملائكة وصور إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام يستقسمان بها، أي وإسحاق وبقية الأنبياء كما تقدم في بنيان قريش الكعبة وصورة مريم، فقال: «قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون، قاتلتهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بالأزلام قط» أي ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون عمر «رضي الله ع» ترك مع صورة إبراهيم إسماعيل ومريم وصور الملائكة، ووجد صورة حمامة من عيدان بفتح العين المهملة وكسرها بيده ثم طرحها، ودعا بزعفران فلطخه بتلك التماثيل: أي بموضعها، وصلى بها ركعتين بين اسطوانتين، وفي لفظ: بين العمودين اليمانيين، وفي لفظ: المقدمين، وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع انتهى.
أي وفي الترمذي: «دخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل» وفي رواية لمسلم: «دخل هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن أبي طلحة» زاد في رواية «والفضل بن العباس» قال الحافط ابن حجر: وفي رواية شاذة: «فأغلقوا عليهم الباب» وفي لفظ آخر «فأغلقا» أي عثمان وبلال فأجاف: «أي أغلق عليهم عثمان الباب» وجمع بأن عثمان هو المباشر لذلك، لأنه من وظيفته، وبلال «رضي الله ع» كان مساعدا له في الغلق.
أي ولما دخلوا كان خالد بن الوليد يدب الناس وهو واقف على باب الكعبة. قال ابن عمر «رضي الله ع»: فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالا فسألته: هل صلى فيه رسول الله؟ قال: نعم، وذهب عني أن أسأ له كم صلى؟ وهذا يدل على أن قول بلال «رضي الله ع» إنه صلى أتى بالصلاة المعهودة لا الدعاء كما ادعاه بعضهم.
وفي كلام السهيلي في حديث ابن عمر «رضي الله ع» أنه صلى فيها ركعتين. وعن ابن عباس «رضي الله ع» قال: «أخبرني أسامة بن زيد أنه لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين» أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم، وقال: هذه القبلة، فبلال «رضي الله ع» مثبت للصلاة في الكعبة، وأسامة «رضي الله ع» ناف، والمثبت مقدم على النافي، على أنه جاء أن أسامة «رضي الله ع» أخبر أيضا بأنه صلّى في الكعبة.
وأجيب بأن أسامة حيث أثبت اعتمد قول بلال، وحيث نفى اعتمد ما عنده، أي وفي مجمع الزوائد للحافظ الهيتمي عن ابن عباس «رضي الله ع»: «أنه دخل الكعبة فصلى بين الساريتين ركعتين، ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين، ثم قال: هذه القبلة، ثم دخل مرة أخرى فقام يدعو ولم يصلّ» فالنقل عن ابن عباس «رضي الله ع» اختلف. وسبب الاختلاف تعدد دخوله، ففي المرة الأولى دخل وصلى، في المرة الثانية دخل ولم يصلّ، وهذا السياق يدل على أن ذلك كان يوم الفتح.
وفي كلام بعضهم: رواية ابن عباس ورواية بلال «رضي الله ع» صحيحتان، لأنه دخلها يوم النحر فلم يصلّ، ودخلها من الغد فصلى، وذلك في حجة الوداع هذا كلامه فليتأمل. أي ثم إنه جاء إلى مقام إبراهيم وكان لاصقا بالكعبة فصلى ركعتين، ثم أخره على ما تقدم ودعا بماء فشرب منه وتوضأ.
وفي لفظ: «ثم انصرف إلى زمزم فاطلع فيها وقال: لولا أن تغلب بنو عبد المطلب» أي يغلبهم الناس على وظيفتهم وهي النزع من زمزم «لنزعت منها دلوا» أي فإن الناس يقتدون به في ذلك مع أن النزع من وظيفته بني عبد المطلب، وانتزع له العباس «رضي الله ع» دلوا فشرب منه وتوضأ، فابتدر المسلمون يصبون على وجوههم.
وفي لفظ لا تسقط قطرة إلا في يد إنسان إن كان قدر ما يشربها شربها وإلا مسح بها جلده، والمشركون يقولون: ما رأينا ولا سمعنا ملكا قط بلغ هذا.
ولما جلس رسول الله ﷺ في المسجد أي والناس حوله خرج أبو بكر وجاء بأبيه «رضي الله ع» يقوده، وقد كان كف بصره، فلما رآه قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه؟ وفي لفظ: لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه تكرمة لأبي بكر، فقال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، فأجلسه بين يدي رسول الله، فمسح رسول الله ﷺ صدره وقال: أسلم تسلم، فأسلم «رضي الله ع»، وهنأ رسول الله ﷺ أبا بكر بإسلام أبيه «رضي الله ع»، أي وعند ذلك قال أبو بكر «رضي الله ع» للنبي: والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، يعني أباه أبا قحافة، وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك كذا في الشفاء، وكان رأس أبي قحافة ولحيته كالثغامة، فقال: غيروهما، وجنبوهما السواد. أي وفي رواية: «واجتنبوا السواد» وجاء: «غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى» وفي رواية: «اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» وجاء: «إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم» وعن أنس «رضي الله ع»: «أن رسول الله ﷺ خضب بالحناء والكتم» قال ابن عبد البر رحمه الله: والصحيح أنه لم يخضب، ولم يبلغ من الشيب ما يخضب له. وقد اختضب أبو بكر «رضي الله ع» بالحناء والكتم. واختضب عمر «رضي الله ع» بالحناء. وجاء: «يا معشر الأنصار حمروا أو صفروا وخالفوا أهل الكتاب» وكان عثمان «رضي الله ع» يصفر. وعن أنس «رضي الله ع» «دخل رجل على النبي ﷺ وهو أبيض الرأس واللحية، فقال ألست مؤمنا؟ قال بلى، قال: فاختضب» لكن قيل إنه حديث منكر. وجاء «من اختضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة» قيل إنه حديث منكر. وجاء «يكون آخر الزمان رجال من أمتي يغيرون بالسواد لا ينظر الله إليهم يوم القيامة» قيل هو غريب جدا.
قال بعضهم: ولعل من خضب بالسواد من الصحابة «رضي الله ع» كسعد بن أبي وقاص والحسن والحسين «رضي الله ع»، أي وعقبة بن عامر المدفون بمصر قال بعضهم: ليس بمصر قبر صحابي متفق عليه إلا قبر عقبة بن عامر «رضي الله ع»، فإنه كان يخضب بالسواد وهو القائل في ذلك:
تسوّد أعلاها وتأبى أصولها ** ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وكان واليا على مصر من جهة معاوية «رضي الله ع»، فعزله بمسلمة بن مخلد وأمره بالغزو في البحر.
وكان عقبة «رضي الله ع» يقول: ما أنصفنا معاوية، عزلنا وغرّبنا لم يبلغهم النهي أو فهموا أن النهي للكراهة.
وقد جاء: «أول من جزع من الشيب إبراهيم "عليه الصلاة والسلام حين رآه فى عارضه، فقال "عليه الصلاة والسلام: يا رب ما هذه الشوهة التى شوهت بخليلك؟ فأوحى الله إليه: هذا سربال الوقار، ونور الإسلام، وعزتي وجلالي ما ألبسته أحدا من خلقي يشهد أن لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي إلا استحيت منه يوم القيامة، أن أنصب له ميزانا، وأنشر له ديوانا أو أعذبه بالنار، فقال: يا رب زدني، فأصبح رأسه مثل الثغامة البيضاء» في المشكاة قال: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد لا يجدون رائحة الجنة» رواه أبو داود والنسائي، أي وفي الكلام ابن الجوزي رحمه الله: أول من خضب بالسواد فرعون، ومن أهل مكة أي من العرب عبد المطلب بن هاشم. وعن عمر «رضي الله ع»: «اخضبوا بالسواد، فإنه أنكى للعدوّ وأحب للنساء» فليتأمل.
وكان لأبي بكر «رضي الله ع» أخت صغيرة في عنقها طوق من فضة اقتلعه إنسان من عنقها، فأخذ أبو بكر «رضي الله ع» بيد أخته وقال: أنشدتكم بالله وبالإسلام طوق أختي، فما أجابه أحد، ثم قال الثانية والثالثة، فما أجابه أحد، فقال «رضي الله ع»: يا أختاه احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل. قال بعضهم: ولم يعش لأبي قحافة «رضي الله ع» ولد ذكر إلا أبو بكر، ولا يعرف له بنت إلا أم فروة التي أنكحها أبو بكر من الأشعث بن قيس، وكانت قبله تحت تميم الداري، وهي هذه المذكورة هنا.
وقيل كانت له بنت أخرى تسمى عريبة. وعليه فيحتمل أن تكون هي المذكورة هنا وتقدم إسلام أبي بكر «رضي الله ع» لما كان المسلمون في دار الأرقم، وأمه بنت عم أبيه. قال بعضهم: لم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالداه وجميع أبنائه وبناته غير أبي بكر. وبنوه ثلاثة: عبد الله وهو أكبرهم، مات أول خلافة والده. وعبد الرحمن ومحمد «رضي الله ع». ولد محمد في حجة الوداع وهو المقتول بمصر، وبناته ثلاثة أيضا: أسماء، وهي أكبرهن، وهي شقيقة عبد الله. وعائشة، وهي شقيقة عبد الرحمن. وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهم وعنهن.
مات أبو بكر «رضي الله ع» وهي ببطن أمها، وقد أنزل الله تعالى في حقه {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي} الآيات. قال بعضهم: لا يعرف في الصحابة أربعة أسلموا وصحبوا النبي ﷺ وكل واحد أبو الذي بعده إلا في بيت أبي بكر «رضي الله ع»: أبو قحافة وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، ويكنى بأبي عتيق.
أي وقد قيل: إن قيل: هل تعرفون أربعة رأوا النبى في نسق: أي من الذكور كلّ ابن الذي قبله؟ أجيب بأنهم هؤلاء الأربعة: أبو قحافة، وابنه أبو بكر، وابنه عبد الرحمن، وابن عبد الرحمن محمد، وبقولنا من الذكور لا يردّ ما أورد على ذلك أن هذا يصدق على أبي قحافة وابنه أبي بكر وبنته أسماء وابنها عبد الله بن الزبير «رضي الله ع»، نعم يرد على ذلك حارثة أبو زيد فإنه أسلم على ما ذكره الحافظ المنذري، ورأى النبي ﷺ بعد إسلامه وابنه زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد، وجاء أسامة بولد في حياته، أي ويحتاج إلى إثبات كونه رأى ذلك المولود إلا أن يقال كان من شأنهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به إلى النبي ﷺ فيحنكه ويسميه، خصوصا وهذا المولود ابن حب الحب، ولم أقف على اسم هذا المولود، فليراجع في أسماء الصحابة.
وحينئذ يقال لأجل عدم ورود من ذكر ليس لنا أربعة ذكور معروفة أسماؤهم، وبعد الوقوف على اسم ذلك المولود يقال لأجل عدم الورود: ليس لنا أربعة ليسوا من الموالي إلا أبو قحافة وابنه أبو بكر وابن أبي بكر عبد الرحمن وابن عبد الرحمن محمد أبو عتيق فليتأمل.
لا يقال: هذا موجود في غير بيت الصديق، فقد ذكروا في الصحابة أربعة كذلك: أي ذكور، كل واحد أبو الذي بعده، عرفت أسماؤهم وليس فيهم مولى، وهم إياس بن سلمة بن عمرو بن لال.
لأنا نقول: المراد المتفق على صحبتهم، وهؤلاء لم يقع الاتفاق على صحبتهم.
ومن الفوائد المستحسنة أنه ليس في الصحابة، قال بعضهم: بل ولا في التابعين من اسمه عبد الرحيم، وثلاثة ذكور أدركوا النبي ﷺ على نسق، وهم السائب والد إمامنا الشافعي «رضي الله ع»، وأبوه عبيد، وجده عبد يزيد.
ثم أتى رسول الله ﷺ الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه، والأنصار تحته. قال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قربته ورأفة بعشيرته، فنزل الوحي عليه بما ذكر القوم، فلما قضي الوحي رفع رأسه وقال: يا معشر الأنصار قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذن، أي إن فعلت ذلك كيف اسمي؟ وأوصف بأني عبد الله ورسوله، كلا لا أفعل ذلك إني عبد الله ورسوله، أي ومن كان هذا وصفه لا يفعل ذلك، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم، والممات مماتكم، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضنّ: أي البخل بالله وبرسوله: أي لا نسمح أن يكون رسول الله ﷺ في غير بلدتنا، يعنون المدينة، فقال رسول الله ﷺ: فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم.
وفي رواية أن الأنصار «رضي الله ع» قالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله ﷺ إذا فتح الله أرضه وبلده يقيم بهما، فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال: «معاذ الله المحيا محياكم، والممات مماتكم».
أي وتقدم له في بيعة العقبة نظير ذلك، وهو أن الأنصار قالوا: يا رسول الله هل عسيت إن نحن نصرناك وأظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم.
وإنما أمر بقتل عبد الله بن أبي سرح، لأنه كان أسلم قبل الفتح، وكان يكتب لرسول الله ﷺ الوحي، وكان إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما، وإذا أملى عليه حكيما كتب غفورا رحيما، وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال: إن محمدا لا يعلم ما يقول، فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتدّ وهرب إلى مكة. وقيل إنه لما كتب: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر} تعجب من تفصيل خلق الإنسان فنطق بقوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} قبل إملائه، فقال له رسول الله ﷺ: اكتب ذلك، هكذا أنزلت، فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ، فارتد ولحق بمكة، فقال لقريش: إني كنت أصرف محمدا كيف شئت كان يملي عليّ عزيز حكيم. فأقول أو عليم حكيم، فيقول نعم كل صواب، وكل ما أقوله يقول اكتب، هكذا نزلت، فلما كان يوم الفتح وعلم بإهدار النبي ﷺ دمه لجأ إلى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة، فقال له: يا أخي استأمن لي رسول الله ﷺ قبل أن يضرب عنقي، فغيبه عثمان «رضي الله ع» حتى هدأ الناس واطمأنوا، فاستأمن له، ثم أتى به إلى النبي، فأعرض عنه النبي، فصار عثمان «رضي الله ع» يقول: يا رسول الله أمنته والنبي ﷺ يعرض عنه، ثم قال: نعم، فبسط يده فبايعه، فلما خرج عثمان وعبد الله قال لمن حوله: أعرضت عنه مرارا، ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، وقال لعباد بن بشر وكان نذر إن رأى عبد الله قتله، أي وقد أخذ بقائم السيف ينتظر النبي ﷺ يشير إليه أن يقتله، فقال له: «انتظرتك أن تفي بنذرك»، قال: يا رسول الله خفتك، أفلا أومضت إليّ، فقال «إنه ليس لنبي أن يومض». وفي رواية: «الإيماء خيانة ليس لنبي أن يومي». وفي رواية: «لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» أي وهذا يدل على أن خائنة الأعين الإيماء بالعيون: أي أن يومي بطرفه خلاف ما يظهره بكلامه وهو اللمز هذا.
وقيل إنه أسلم وبايع والنبي ﷺ بمرّ الظهران، وصار يستحيي من مقابلته فقال لعثمان: أما بايعته وأمنته؟ قال بلى، ولكن يذكر جرمه القديم فيستحيي منك، قال: «الإسلام يجبّ ما قبله» وأخبره عثمان «رضي الله ع» بذلك، ومع ذلك فصار إذا جاء جماعة للنبي يجيء معهم ولا يجيء إليه منفردا.
وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان ممن أسلم: أي قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان اسمه عبد العزى، فسماه رسول الله ﷺ عبد الله، وبعثه رسول الله ﷺ لأخذ الصدقة، وأرسل معه رجلا من الأنصار يخدمه. وفي لفظ: كان معه مولى يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمره أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام ثم استيقظ فلم يجده صنع له شيئا وهو نائم فعدا عليه فقتله، ثم ارتد مشركا، وكان شاعرا يهجو رسول الله ﷺ في شعره، وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله ﷺ الذى يصنعه.
وقد قيل إنه ركب فرسه لابسا للحديد، وأخذ بيده قناة وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة، فلما رأى خيل الله دخله الرعب، فانطلق إلى الكعبة فنزل عن فرسه وألقى سلاحه ودخل تحت أستارها فأخذ رجل سلاحه، وركب فرسه، ولحق برسول الله ﷺ بالحجون، وأخبره خبره، فأمر بقتله.
وقيل لما طاف بالكعبة قيل هذا ابن خطل معلقا بأستار الكعبة، فقال: «اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا، ولا تمنع من إقامة حد واجب» أي فقتله سعد بن حريث وأبو برزة.
وقيل قتله الزبير «رضي الله ع»، وقيل سعد بن ذؤيب، وقيل سعد بن زيد. قال في النور: والظاهر اشتراكهم فيه جميعا جمعا بين الأقوال.
وأمر بقتل قينتيه، فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله ﷺ للأخرى فأمنها وأسلمت.
والحويرث بن نقيذ، وإنما أمر بقتله لأنه كان يؤذي رسول الله ﷺ بمكة، ويعظم القول في أذيته، وينشد الهجاء، وكان العباس عم رسول الله ﷺ و«رضي الله ع» حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي رسول الله ﷺ من مكة يريد بهما المدينة فنخس الحويرث البعير الحامل لهما فرمى به الأرض، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في ذلك اليوم وقد خرج يريد أن يهرب.
ومقيس بن ضبابة إنما أمر بقتله، لأنه كان قد أتى النبي ﷺ مسلما طالبا لديه أخيه هشام بن ضبابة «رضي الله ع»، قتله رجل من الأنصار في غزوة ذي قرد خطأ يظنه من العدو، ودفع له النبي ﷺ دية أخيه، ثم إنه عدا على الأنصاري قاتل أخيه فقتله بعد أن أخذ دية أخيه ثم لحق بمكة مرتدا كما تقدم، قتله ابن عمه ثميلة بن عبد الله الليثي، أي بعد أن أخبر ثميلة بأن مقيسا مع جماعة من كبار قريش يشربون الخمر، فذهب إليه فقتله، وذلك بردم بني جمح، وقيل قتل وهو معلق بأستار الكعبة.
وأما هبار بن الأسود «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك، وإنما أمر بقتله لأنه كان عرض لزينب بنت رسول الله ﷺ في سفهاء من قريش حين بعث بها زوجها أبو العاص إلى المدينة، فأهوى إليها هبار ونخس بعيرها.
وفي رواية: ضربها بالرمح فسقطت من على الجمل على صخرة، أي وكانت حاملا فألقت ما في بطنها وأهراقت الدماء، ولم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت كما تقدم، فقال النبي: «وإن لقيتم هبارا فأحرقوه»، ثم قال: «إنما يعذب بالنار رب النار». إن ظفرتم به فاقطعوا يده ورجله ثم اقتلوه فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه. ويذكر أنه لما أسلم وقدم المدينة مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك للنبي، فقال: سب من سبك فانتهوا عنه» وهذا السياق يدل على إنه قبل أن يذهب إلى المدينة.
وفي لفظ: ولما رجع النبي ﷺ إلى المدينة جاء هبار رافعا صوته وقال: «يا محمدا أنا جئت مقرا بالإسلام وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله» واعتذر إليه أي قال له بعد أن وقف عليه وقال: السلام عليك يا نبي الله لقد هربت منك في البلاد فأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك في صفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك، وأنقذنا بك من الهلكة، فاصفح عن جهلي وعما كان مني فأني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي، فقال النبي: «يا هبار عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما كان قبله».
وقوله مهاجرا، فيه أنه لا هجرة بعد فتح مكة، إلا أن يقال هي مجاز عن مجرد الانتقال عن محل إلى آخر أخذا مما يأتي إن شاء الله في عكرمة.
وأما عكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع» فإنه إنما أمر بقتله لأنه كان أشد الناس هو وأبوه أذية للنبي، وكان أشد الناس على المسلمين، ولما بلغه أن النبي ﷺ أهدر دمه فرّ إلى اليمن فاتبعته امرأته بنت عمه أم حكيم بنت الحارث بن هشام بعد أن أسلمت فوجدته في ساحل البحر يريد أن يركب السفينة، وقيل وجدته في السفينة فردته، أي بعد أن قالت له: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، فقد استأمنت لك، فجاء معها فأسلم وحسن إسلامه أي بعد أن قال: يا محمد هذه يعني زوجتي أخبرتني أنك أمنتني، قال: صدقت إنك آمن، فقال عكرمة: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وطأطأ رأسه من الحياء، فقال له: يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتكه قال: استغفر لي كل عداوة عاديتكها، فقال: اللهم اغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به، أي ولما قدم عليه وثب إليه قائما فرحا به، أي ورمى رداءه وقال: مرحبا بمن جاء مؤمنا مهاجرا، وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة.
وفي (بهحة المجالس في أنس الجالس) لابن عبد البر رحمه الله: أنه رأى في منامه أنه دخل الجنة، ورأى فيها عذقا فأعجبه وقال: لمن هذا؟ فقيل لأبي جهل فشق ذلك عليه وقال: لا يدخلها إلا نفس مؤمنة، فلما جاءه عكرمة بن جهل مسلما فرح به، وأول ذلك العذق لعكرمة. والعكرمة: الأنثى من الحمير واستدل بذلك على تأخر الرؤيا، وأنها تكون لغير من ترى له. قال: وصار عكرمة قبل إسلامه يطلب امرأته أم حكيم يجامعها فتأبى وتقول: أنت كافر وأنا مسلمة، والإسلام حائل بيني وبينك فقال: إن أمرا منعك عني لأمر كبير، أي ولما قتل عكرمة «رضي الله ع» في اليرموك في قتال الروم وانقضت عدتها تزوجها خالد بن سعيد، وأراد أن يدخل بها، فجعلت تقول له: لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع يعني الروم، فقال خالد: إن نفسي تحدثني أن أصاب في جموعهم، قالت: فدونك، فدخل بها في خيمته، فما أصبح الصبح إلا والروم قد اصطفت، فخرج خالد «رضي الله ع»، فقاتل حتى قتل، فشدت أم حكيم عليها ثيابها، وأخذت عمود الخيمة التي دخل بها خالد فيها، فقتلت بها سبعة من الروم، وقال قبل أن يقدم عليه عكرمة بن أبي جهل «رضي الله ع»: «يأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سبّ الميت يؤذي الحي ولا يلحق الميت» انتهى. أي وفي رواية: «لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» وفي أخرى: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء» وفي أخرى: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم».
وجاء أنه شكا إليه قولهم عكرمة بن أبي جهل، فنهاهم رسول الله ﷺ وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبّ الأموات» وقد كان قبل إسلامه بارز رجلا من المسلمين فقتله، فضحك النبي، فقال له بعض الأنصار: ما أضحكك يا رسول الله وقد فجعنا بصاحبنا؟ فقال: أضحكني أنهما في درجة واحدة في الجنة، ومن ثم قتل عكرمة شهيدا في قتال الروم في وقعة اليرموك كما مر.
وسارة «رضي الله ع»، فإنها أسلمت، وإنما أمر بقتلها، لأنها كانت مغنية بمكة، وكانت تغني بهجائه، وهي التي وجد معها كتاب حاطب، وقد استؤمن لها رسول الله ﷺ فأمنها وأسلمت كما تقدم.
والحارث بن هشام وزهير بن أمية، استجارا بأم هانىء بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه شقيقته ولم تكن أسلمت إذ ذاك فأراد عليّ قتلهما.
فعنها «رضي الله ع» أنها قالت: لما نزل رسول الله ﷺ بأعلى مكة فر إليّ رجلان من أحمائي: أي من أقارب زوجها هبيرة بن أبي وهب مستجيران بي فأجرتهما. وذكر الأزرقي بدل زهير بن أمية عبد الله بن أبي ربيعة، فدخل عليّ أخي علي بن أبي طالب فقال: والله لأقتلنهما، أي وقال: تجيري المشركين، فحلت بينه وبينهما. فخرج فأغلقت عليهما بيتي ثم جئت رسول الله ﷺ بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: مرحبا بأم هانىء، وفي الرواية الأولى: فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم أقبل عليّ، فقال: مرحبا وأهلا بأم هانىء، ما جاء بك؟ فأخبرته الحديث، فقال: «أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت فلا نقتلهما» وفي البخاري أيضا «أنه اغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثمان ركعات» أي ولما ذكر ذلك لابن عباس «رضي الله ع» قال: إني كنت أمر على هذه الآية {يسبحن بالعشي والإشراق} فأقول أيّ صلاة صلاة الإشراق؟ فهذه صلاة الإشراق. وفي لفظ: ما عرفت صلاة الإشراق إلا الساعة، وهذا يدل لما أفتى به والد شيخنا الرملي رحمهما الله تعالى أن صلاة الضحى صلاة الإشراق، خلافا لما في العباب من أنها غيرها. ويحتاج للجمع بين هذه الرواية والتي قبلها على ثبوت صحتهما، وبهذه الواقعة قال المحاملي من أئمتنا في كتابه اللباب الذي هو أصل التنقيح الذي هو أصل التحرير: ومن دخل مكة وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله "عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة. وبه ألغز فقيل: شخص يستحب له الاغتسال لصلاة الضحى في مكان خاص.
وعن عائشة «رضي الله ع»: ما رأيت رسول الله ﷺ صلى سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها: أي أصليها.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: ما أخبرني أحد أنه رأى النبي ﷺ يصلي الضحى إلا أم هانىء، وهذا ينازع فيه ما يأتي أن صلاة الضحى مما اختص بوجوبها.
وأسلمت أم هانىء ذلك اليوم الذي هو يوم الفتح. أي وجاء أنه قال لها: «هل عندك من طعام نأكله؟ قالت: ليس عندي إلا كسر يابسة وأنا أستحي أن أقدمها إليك، فقال: هلمي بهن، فكسرهن في ماء، وجاءت بملح فقال: هل من أدم، فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: هلميه، فصبه على الكسر وأكل منه، ثم حمد الله، ثم قال: نعم الأدم الخل. يا أم هانىء لا يقفر بيت فيه خل».
أي وقد جاء أنه سأل أهله الإدام فقالوا: ما عندنا إلا الخل فدعا به، فجعل يأكل به ويقول: «نعم الأدم الخل» وفي الحديث عن جابر «رضي الله ع» مرفوعا: «إن الله يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له حتى يفرغ» وجاء «نعم الأدم الخل، اللهم بارك في الخل، فإنه كان إدام الأنبياء قبلي، ولم يقفر بيت فيه خل».
وعن جابر بن عبد الله «رضي الله ع» قال: «أخذ رسول الله ﷺ بيدي ذات يوم إلى بعض حجر نسائه فدخل، ثم أذن لي فدخلت، فقال: هل من غداء؟ فقالوا نعم، فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول الله ﷺ قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا فوضعه بين يديّ، ثم أخذ الثالث فكسره، فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي، ثم قال: هل من أدم؟ فقالوا: لا إلا شيء من خل، قال: هاتوه، فنعم الأدم الخل» وفي رواية: «فإن الخل نعم الإدام» قال جابر «رضي الله ع»: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من رسول الله. وقال بعضهم: ما زلت أحب الخل منذ سمعتها من جابر.
وصفوان بن أمية استأمن له عمير بن وهب، أي قال له: يا نبي الله إن صفوان سيد قومي قد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمنه، فإنك أمنت الأحمر والأسود، فقال: أدرك ابن عمك فهو آمن، فقال: أعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطى لعمير عمامته التي دخل بها مكة. أي وفي لفظ: أعطاه برده، أي بعد أن طلب منه العود، فقال: لا أعود معك إلا أن تأتيني بعلامة أعرفها، فقال: امكث مكانك حتى آتيك به. فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده: أي بعد أن قال له: اعزب عني لا تكلمني، فقال: أي صفوان، فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم، فرجع معه حتى وقف على رسول الله ﷺ وقال: إن هذا يزعم أنك أمنتني، قال: صدق فقال: يا رسول الله أمهلني بالخيار شهرين، فقال: أنت بالخيار أربعة أشهر، أي ثم خرج مع النبي ﷺ إلى حنين، ولما فرّق رسول الله ﷺ غنائمها: أي بالجعرانة رآه رسول الله ﷺ يرمق شعبا ملآنا نعما وشاء، فقال له رسول الله ﷺ: يعجبك هذا؟ قال: نعم، قال هو لك وما فيه، فقبض صفوان ما في الشعب، وقال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نبي، فأسلم كما سيأتي.
وهند امرأة أبي سفيان «رضي الله ع» فإنها أسلمت بعد، وإنما أمر بقتلها لأنها مثلت بعمه حمزة «رضي الله ع» يوم أحد ولاكت قلبه كما تقدم.
وكعب بن زهير «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد، وإنما أمر بقتله لأنه كان ممن يهجو رسول الله.
ووحشي «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد، وإنما أمر بقتله لأنه قتل عمه حمزة «رضي الله ع» يوم أحد، وكانت الصحابة أحرص شيء على قتله، ففر إلى الطائف، وقد قدمنا إسلامه استطرادا.
قال: وجلس رسول الله ﷺ: أي يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء يبايعهم على الإسلام، أي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله، فدخل الناس في دين الله أفواجا أفواجا.
أي وجاءه رجل فأخذته الرعدة فقال له: «هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد».
أي وكان من جملة من بايعه النبي ﷺ على الإسلام معاوية بن أبي سفيان «رضي الله ع». فعن معاوية «رضي الله ع» لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي، فقالت: إياك أن تخالف إياك فيقطع عنك القوت، فأسلمت وأخفيت إسلامي، فقال لي يوما أبو سفيان وكأنه شعر بإسلامي: أخوك خير منك، هو على ديني، فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي، ولقيته فرحت بي وكتبت له: أي بعد أن استشار فيه جبريل "عليه الصلاة والسلام، فقال، استكتبه فإنه أمين، وأردفه النبي ﷺ يوما خلفه، فقال: ما يليني منك؟ قلت بطني، قال: اللهم املأه حلما وعلما.
وعن العرباض بن سارية «رضي الله ع» قال: سمعت النبي ﷺ يقول لمعاوية: «اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب» زاد في رواية: «ومكن له في البلاد».
وعن بعض الصحابة أنه سمع النبي ﷺ يدعو لمعاوية يقول: اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به ولا تعذبه.
وعن ابن عمر «رضي الله ع» قال: قال النبي ﷺ يوما لمعاوية: «يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تليها» ويذكر أنه كان عنده قميص رسول الله ﷺ وإزاره ورداؤه وشيء من شعره، فقال عند موته: كفنوني في القميص، وأدرجوني في الرداء، وأزروني بالإزار، واحشوا منخري وشدقي من الشعر، وخلوا بيني وبين أرحم الراحمين.
وقد بشر بمعاوية «رضي الله ع» بعض كهان اليمن. وسبب ذلك أن أمه هند كانت قبل أبيه أبي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما من الضيفان، فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة، ثم خرج الفاكه لبعض حاجته، وأقبل رجل كان يغشاه فولج البيت، فلما رأى المرأة التي هي هند ولى هاربا، وأبصره الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند فضربها برجله. وقال لها: من هذا الذي كان عندك؟ قالت: ما رأيت رجلا ولا انتبهت حتى أيقظتني، فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها عتبة: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك، فإن كان الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فنقطع عنك المقالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فحلفت له أنه لكاذب عليها، فقال عتبة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا معهم بهند ونسوة معها، فلما شارفوا البلاد وقالوا: غدا نرد على الكاهن الفلاني، تنكرت حالة هند وتغير وجهها، فقال لها أبوها: إني أرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك، كان هذا قبل أن يشهد الناس مسيرنا، قالت: لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه عندي، ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطىء ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون عليّ سبة في العرب، قال: إني سوف أختبره من قبل أن ينظر في أمرك، فصفر بفرس حتى أدلى، ثم أخذ حبة من حنطة فأدخلها في إحليله وأوكأ عليها بسير، فلما وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم، فلما تغدّوا قال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر وإني قد خبأت لك خباء أختبرك به، فانظر ما هو؟ قال: سمرة في كمرة، قال: أريد أبين من هذا قال: حبة برّ في إحليل مهر، قال: صدقت انظر في أمر هذه النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها، ويقول انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها. وقال: انهضي غير وسخاء ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنثرت يدها من يده وقالت: إليك عني، فوالله لأحرصن على أن يكون من غيرك فتزوجها أبو سفيان، فجاءت منه بمعاوية «رضي الله ع»، وقد قال له: « يا معاوية إذا ملكت فأحسن» وفي رواية: «إذا ملكت من أمر أمتي شيئا فاتق الله واعدل».
ويؤثر عنه «رضي الله ع» أنه لما حضرته الوفاة قال: اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي. اللهم أقل عثرتي، واغفر زلتي، وعد بحلمك على من لا يرجو غيرك ولم يثق بأحد سواك، ثم بكى «رضي الله ع» حتى علا نحيبه.
كتب إلى عائشة «رضي الله ع»: اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه: من عائشة إلى معاوية، سلام عليك أما بعد، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس والسلام» وكتبت إليه «رضي الله ع» مرة أخرى: أما بعد فاتق الله، فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا، والسلام.
ولما فرغ رسول الله ﷺ من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان «رضي الله ع»، متنقبة متنكرة خوفا من رسول الله، فلما دنين من رسول الله ﷺ قال لهن: بايعنني على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن أي وذلك إسقاط الأجنة. زاد في لفظ: ولا تلحقن بأزواجكن غير أولادهم: أي ولا تقعدن مع الرجال في خلاء: أي لا تجتمع امرأة مع رجل في خلوة، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن. قال ابن عباس «رضي الله ع»: البهتان أن تلحق بزوجها ولدا ليس منه أي ولا يغني عنه الزنا، كما أن ذلك لا يغني عن الزنا، وقد تحبل ولا يلحقه بأحد، ولا تعصين في معروف. وجاء أن بعض النسوة قالت: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال لا تصحن، أي وفي لفظ: لا تنحن، ولا تخمشن وجها، ولا تنشرن شعرا. وفي لفظ: ولا تحلقن شعرا، ولا تحرقن قرنا، ولا تشققن جيبا ولا تدعين بالويل.
وجاء: «هذه النوائح تجعلن يوم القيامة صفين: صفا عن اليمين، وصفا عن اليسار، ينبحن كما ينبح الكلب» وجاء: «تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء، عليها جلباب من لعنة ودرع من جرب، واضعة يدها على رأسها تقول: ويلاه» وجاء «النائحة إذا لم تتب تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب». وجاء: «لا تقبل الملائكة على نائحة». وجاء: «ليس للنساء في اتباع الجنائز من أجر».
وجاء: «أن هندا قالت له: إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال» أي لأن الرجال كان يبايعهم على الإسلام وعلى الجهاد فقط «وأنها قالت لما قال: ولا تسرقن، والله إني كنت أصيب من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان وكان حاضرا: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ عفا الله عنك، أي فضحك النبي ﷺ وعرفها، فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت نعم، فاعف عما سلف، عفا الله عنك يا نبي الله، وأنها قالت لما قال: «ولا تزنين، أو تزني الحرة يا رسول الله؟ ولما قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا» وفي لفظ: «هل تركت لنا ولدا إلا قتلته يوم بدر» وفي لفظ: «أنت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم» وفي لفظ: «ربيناهم صغارا، وقتلتهم كبارا فضحك عمر «رضي الله ع» حتى استلقى، وتبسم » وفي لفظ: «فضحك، ولما قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه؟ قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح» زاد في لفظ: «وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما قال: ولا تعصينني في معروف، قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف» وفي لفظ: «أنها أتته منتقبة بالأبطح وقالت: إني امرأة مؤمنة، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله ﷺ مرحبا بك».
قال بعضهم: وفي إسلام أبي سفيان قبل هند وإسلامها قبل انقضاء عدتها، أي لأنها أسلمت بعده بليلة واحدة، وإقرارها على نكاحهما حجة للشافعي «رضي الله ع». ثم أرسلت إليه بهدية وهي جديان مشويان مع مولاة لها فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت عليه وهو بين نسائه أم سلمة وميمونة ونساء من بني عبد المطلب وقالت له: إن مولاتي تعتذر إليك وتقول: إن غنمها اليوم لقليل الوالدة، فقال رسول الله: «اللهم بارك لكم في غنمكم وأكثر ووالدتها فكثر الله ذلك، تقول تلك المولاة: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل. وجاءت إليه وقالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل عليّ من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال لها: لا عليك أن تطعميهم بالمعروف» وفي لفظ: «إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» أي وجاء: «أن بعض النساء قالت: هلم نبايعك يا رسول الله، قال: لا أصافح النساء، وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» وفي لفظ: «قولي لألف امرأة كقولي لامرأة واحدة» وعن عائشة «رضي الله ع»: لم يصافح رسول الله ﷺ امرأة قط، وإنما كان يبايعهن بالكلام.
وعن الشعبي «بايع رسول الله ﷺ النساء وعلى يده ثوب، وقيل إنه غمس يده في إناء وأمرهن فغمسن أيديهن فيه، فكانت هذه البيعة» قال ابن الجوزي: والقول الأول أثبت.
وقد ذكر المبايعات له لا في خصوص يوم الفتح على حروف المعجم في كتاب التلقيح، ونقدم عن أم عطية «رضي الله ع» أنها قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» فقام على الباب فسلم فرددن "عليه السلام"، فقال أنا رسول رسول الله ﷺ إليكن يبايعكن {على أن لا تشركن بالله شيئا}، وقرأ إلى قوله تعالى: {في معروف} فقلن نعم، فمدّ يده من خارج ومددن أيديهن من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد، ولعل ذلك كان بحائل والفتنة مأمونة.
وقال لعمه العباس أين ابنا أخيك؟ يعني أبا لهب عتبة ومعتب؟ لا أراهما، قال العباس «رضي الله ع»: قد تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش، قال ائتني بهما، فركبت إليهما فأتيت بهما، فدعاهما للإسلام فأسلما، فسرّ رسول الله ﷺ بإسلامهما ودعا لهما، ثم قال رسول الله ﷺ وأخذ بأيديهما وانطلق بهما حتى أتى الملتزم فدعا ساعة، ثم انصرف والسرور يرى في وجهه، فقلت له: سرك الله يا رسول الله، إني أرى السرور في وجهك. قال: إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي وشهدا معه حنينا والطائف. ولم يخرجا من مكة، ولم يأتيا المدينة، وقلعت عين معتب في حنين.
وعن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» قال: قال رسول الله ﷺ يوم الفتح: «هذا ما وعدني ربي، ثم قرأ {إذا جاء نصر الله والفتح} انتهى وقد أشار إلى ذلك صاحب الهمزية «رضي الله ع» بقوله:
واستجابت له بنصر وفتح ** بعد ذلك الخضراء والغبراء
وتوالت للمصطفى الآية الكبـ ** رى عليهم والغارة الشعواء
فإذا ما تلا كتابا من الله ** تلته كتيبة خضراء
أي أجاب دعوته الرفيع والوضيع، وعن الأول كنى بالخضراء التي هي السماء. فقد جاء حديث سنده واه «السماء الدنيا زمرذة خضراء، وذكر أنها أشد بياضا من اللبن وخضرتها من صخرة خضراء تحت الأرض» وكنى عن الثاني بالغبراء التي هي الأرض، وإنما كانت غبراء لأن جميع طبقاتها من طين، مع حصول نصر له على أعاديه، وفتح لبلادهم بعد ذلك الضعف الذي كان به وبأصحابه، وقلتهم وكثرة عدوهم مع التصميم على أذيتهم. وتتابعت العلامات الدالة على نبوته، وتوالت له عليهم الإغارة المحيطة بهم من سائر الجوانب.
وجاء: «أنه لما فرغ من طوافه دعا عثمان بن طلحة «رضي الله ع»، فإنه كان قدم على رسول الله ﷺ المدينة مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاصي قبل الفتح وأسلموا كما تقدم، واستمر في المدينة إلى أن جاء معه إلى فتح مكة، وبه يرّد ما روي أنه بعث عليّا كرم الله وجهه إلى عثمان بن طلحة لأخذ المفتاح فأبى أن يدفعه له وقال: لو علمت إنه رسول الله ﷺ لم أمنعه منه، ولوى عليّ كرم الله وجهه يده وأخذ المفتاح منه قهرا وفتح الباب وأنه لما نزل قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} أمره أن يدفع له المفتاح متلطفا به، فجاءه علي كرم الله وجهه بالمفتاح متلطفا به، فقال له: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق، فقال علي كرّم الله وجهه: لأن الله أمرنا برده عليك فأسلم.
ثم لما دعا عثمان وجاء إليه أخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها، ثم وقف على باب الكعبة، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
ثم ذكر خطبة بين فيها جملة من الأحكام. منها «أن لا يقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث ليال إلا مع ذي محرم. ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح، ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر، ثم قال: يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، والناس من آدم وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا} الآية. ثم قال: يا معشر قريش ما ترون؟ » وفي لفظ: «ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خير أخ كريم. وابن أخ كريم، وقد قدرت» أي وفي لفظ: «لما خرج من الكعبة يوم الفتح وضع يده على عضادتي الباب ثم قال: ماذا تقولون؟ ماذا تظنون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، فقال سهيل بن عمرو: نقول خيرا ونظن خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال: أقول كما قال أخي يوسف {لا تثريب عليكم اليوم} وفي لفظ «فإني أقول كما قال أخي يوسف {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} اذهبوا فأنتم الطلقاء» أي الذين أطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا. والطليق في الأصل، الأسير إذا أطلق؟ فخرجوا فكأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام.
قال: وذكر أنه لما فرغ من طوافه أرسل بلالا «رضي الله ع» إلى عثمان بن طلحة يأتي بمفتاح الكعبة، فجاء إلى عثمان فأخبره، فقال إنه عند أمي، فرجع بلال إلى رسول الله ﷺ فأخبره أن المفتاح عند أمه، فبعث إليها رسولا، فقالت: لا واللات والعزى لا أدفعه أبدا، فقال عثمان: يا رسول الله أرسلني أخلصه لك منها، فأرسله، فجاء إليها فطلبه منها، فقالت: لا واللات والعزى لا أوصله إليك أبدا، فقال: يا أمه ادفعيه إليّ فإنه قد جاء أمر غير ما كنا عليه، إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ويأخذه منك غيري، فأدخلته حجرتها وقالت: أي رجل يدخل يده ههنا، أي وقالت له: أنشدك الله أن لا يكون ذهاب مأثرة قومك على يديك، كل ذلك ورسول الله ﷺ قائم ينتظر حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق، فبينما هو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر «رضي الله ع» في الدار، وعمر «رضي الله ع» رافعا صوته وهو يقول: يا عثمان اخرج، فقالت: يا بني خذ المفتاح، فإن تأخذه أحب إليّ من أن تأخذه تيم وعدي: أي أبو بكر وعمر «رضي الله ع»، فأخذه عثمان، فخرج يمشي حتى إذا كان قريبا من وجه رسول الله، عثر عثمان فسقط منه المفتاح، فقام رسول الله ﷺ إلى المفتاح فحنى عليه وتناوله، أي وفي رواية: فاستقبلته ببشر، واستقبلني ببشر فأخذه مني وفتح الكعبة. وفي رواية أنه قال له: هاك المفتاح بأمانة الله. وفي لفظ: لما أبت أمه أن تعطيه المفتاح، قال: والله لتعطينه أو لأخرجن هذا السيف من منكبي، فلما رأت ذلك أعطته إياه، فجاء به ففتح عثمان له الباب.
ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى بعض هذه القصة بقوله:
صرعت قومه حبائل بغي ** مدها المكر منهم والدهاء
فأتتهم خيل إلى الحرب تختا ** ل وللخيل في الوغى خيلاء
قصدت منهم القنا فقوافي الطعـ ** ـن منها ما شأنها الايطاء
وأثارت بأرض مكة نقعا ** ظن أن الغدو منها عشاء
أحجمت عنده الحجون وأكدى ** دون إعطائه القليل كداء
ودهت أوجها بها وبيوتا ** ملّ منها الإقواء والإكفاء
فدعوا أحلم البرية والعفـ ** ـو جواب الحليم والإغضاء
ناشدوه القربى التي من قريش ** قطعتها الترات والشحناء
فعفا عفو قادر لم ينغصـ ** ـه عليهم بما مضى إغراء
وإذا كان القطع والوصل ** لله تساوى التقريب والإقصاء
وسواء عليه فيما اتاه ** من سواه الملام والإطراء
ولو إن انتقامه لهوي النفـ ** ـس لدامت قطيعة وجفاء
قام لله في الأمور فأرضى ** الله عنه تباين ووفاء
فعله كله جميل وهل ينـ ** ـضح إلا بما حواه الإناء
أي ألقت قومه الذين لم يؤمنوا به بين يديه حبائل بغيهم التي مدها المكر والدهاء حالة كون ذلك منهم، فبسبب مكرهم أتتهم من قبله خيل تتبختر بها راكبوها إلى الحرب والخيل عليها الشجعان كبر وترفع في الحرب، قصدت في أبدانهم الرماح، فبسبب قصدها بهم كانت الطعنات المشبهة بالقوافي في تتابعها حالة كون ذلك الطعن من تلك الرماح، ما عابها الإيطاء: أي لم يعدم وجوده فيها. والإيطاء في القافية: تكريرها متحدة اللفظ والمعنى وهو معيب على الشاعر، لأنه يدل على قصوره. والطعنات المتوالية في محل واحد تدل على قصر ساعد الشجاع. ورفعت تلك الخيل غبارا أظلم الجو حتى ظن أن وقت الغدو من تلك الغبرة وقت العشاء، وذلك بأرض مكة عند فتحها، أمسكت عند ذلك الغبار لكثرته الحجون، وهو كداء بالفتح والمد: أعلى مكة لكثرة ما أعطاه للناس، وأعطى النبي ﷺ القليل من الناس كداء بالضم والمد: وهو أسفل مكة، وهذه لغة فيه قليلة، وعند ذلك قلّ غباره، وأهلكت تلك الخيول أوجها من الناس بمكة ممن أباح دمه ومن قاتل، وأهلكت بيوتا كان أهل مكة يرجعون إليها. ملّ من تلك البيوت: خلوّها عن أنس بها والرجوع إليها، وعند ذلك طلبوا منه العفو عما مضى منهم، وجواب الحليم لمن سأله العفو عنه العفو. وإرخاء الجفون من الحياء، وحلفوه بالقربى التي وصلت إليه من بطون قريش، وهم ولد النضر بن كنانة التي قطعتها المقاتلة والتباغض والتحاسد، فبسبب ذلك عفا عفو قادر، لم يكدر ذلك العفو عنهم إغراء سفهائهم به حالة كون ذلك الإغراء منهم فيما مضى، وإذا كان القطع والوصل لله تساوى عند فاعل ذلك التقريب للأقارب والبعداء والإبعاد للأقارب والبعداء، والذي تقريبه وإبعاده لله لا لغيره يستوي عنده سبه والمبالغة في مدحه إذا أتاه ذلك من غيره، ومن ثم لو كان انتقامه لهوي النفس الأمارة بالسوء لاستمرت قطيعه الرحم ودام إبعاده لها. كيف وقد قام لله في أموره كلها، فبسبب ذلك أرضى الله تباين منه لأعدائه ووفاء لأوليائه، فعله كله جميل. ولا بدع في ذلك، إذ ما يسيل مما في الإناء على ظاهره إلا ما كان في تلك الإناء ممن امتلأ قلبه خيرا كانت أفعاله كلها خيرا ومن امتلأ قلبه شرا كانت أفعاله كلها شرا.
ثم جلس في المسجد ومفتاح الكعبة في يده في كمه، فقام إليه علي كرم الله وجهه، فقال: يا رسول الله اجمع لنا. وفي لفظ: اجمع لي الحجابة مع السقاية، فقال رسول الله: «إنما أعطيكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس: أي وهو السقاية، لا ما تأخذون فيه من الناس أموالهم، وهي الحجابة لشرفكم وعلو مقامكم.
وفي رواية: أن العباس «رضي الله ع» تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم أي منهم علي كرم الله وجهه، فقال رسول الله: «أين عثمان بن طلحة فدعى له، فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم برّ ووفاء».
وقيل نزلت هذه الآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}في شأن عثمان بن طلحة «رضي الله ع»، ودفع المفتاح له: أي لما أخذه عليّ كرم الله وجهه، وقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال لعلي: «أكرهت وآذيت»، وأمره أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، فقد أنزل الله في شأنك: أي أنزل الله عليه ذلك في جوف الكعبة، وقرأ عليه الآية، ففعل عليّ كرم الله وجهه ذلك.
وسياق هذه الرواية يدل على أن عليا كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان، فلما نزلت الآية أمره أن يرد المفتاح لعثمان.
والسقاية كما تقدم كانت أحواضا من أدم يوضع فيها الماء العذب لسقاية الحاج، ويطرح فيها التمر والزبيب في بعض الأوقات.
وفي كلام الأزرقي: كان لزمزم حوضان: حوض بينها وبين الركن يشرب منه، وحوض من ورائه للوضوء، أي ولعل هذا كان بعد الفتح.
والسقاية قام بها العباس «رضي الله ع» بعد موت أبيه عبد المطلب، وقام بها بعده ولده عبد الله بن عباس «رضي الله ع». وقد تكلم فيها محمد بن الحنفية مع ابن عباس، فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها في الجاهلية والإسلام، قام بها العباس بعد موت أبيه عبد المطلب، وأعطاها رسول الله ﷺ للعباس يوم الفتح، واستمر المفتاح مع عثمان «رضي الله ع» إلى أن أشرف على الموت ولم يعقب، دفعه إلى أخيه شيبة، ومن ثم عرفت ذريته بالشيبيين، أي وفي رواية: «دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان وإلى شيبة ابن عمه، وقال: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم».
أي وكون شيبة ابن عم عثمان هو الموافق لقول الحافظ ابن حجر: الشيبيون نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. فأبو طلحة له ولدان عثمان وطلحة، أتى عثمان بشيبة، وأتى طلحة بعثمان.
وفي كلام ابن الجوزي ما يوافقه، وهو أن عثمان لما هاجر إلى المدينة وأسلم سنة ثمان لم يزل مقيما بالمدينة حتى خرج مع النبي ﷺ في فتح مكة. أي وقد تقدم «ثم رجع إلى المدينة، ولم يزل مقيما بها حتى توفي رسول الله، فلما توفي رسول الله ﷺ رجع إلى مكة واستمر مقيما بها حتى مات بها في أول خلافة معاوية «رضي الله ع»، فلم يزل عثمان «رضي الله ع» يلي فتح البيت إلى أن أشرف على الموت دفع المفتاح إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عمه، فبقيت الحجابة في ولد شيبة، وكان عثمان بن طلحة هذا خياطا وهي صناعة نبي الله إدريس "عليه الصلاة والسلام.
وفي رواية: «أنه لما دعا عثمان بن طلحة، وقال له: أرني المفتاح، فأتاه به: فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده، فقال: أرني المفتاح، فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، فقال رسول الله ﷺ: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله» ولعل هذا كان قبل دخوله الكعبة، فيكون طلب العباس «رضي الله ع» أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله الكعبة وبعده. وفي رواية: «أنه قال له ائتني بالمفتاح، قال: فأتيته به، فأخذه ثم دفعه إليّ وقال: خذوها خالدة تالدة لا بنزعها منكم إلا ظالم».
وفي لفظ غيره: «أن الله رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام، إني لم أدفعها إليكم ولكن الله دفعها إليكم لا ينزعها منكم إلا ظالم» وفي رواية: «لا يظلمكموها إلا كافر» ولا مانع أن يكون ذلك بعد أن دفعه علي كرم الله وجهه له بأمره، وكأنه أحب أن يؤدي الأمانة بيده الشريفة من غير واسطة. وقال له: «يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف، فقال عثمان «رضي الله ع»: فلما وليت ناداني، فرجعت إليه، فقال: ألم يكن الذي قلت لك؟ قال «رضي الله ع»: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة».
وقد أراد أن يدخل الكعبة مع الناس وكنا نفتحها في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فلما أقبل ليدخلها أغلظت عليه ونلت منه وحلم عليّ. ثم قال: يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت، فقلت: قد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال: بل عمرت وعزت يومئذ، فوقعت كلمته مني موقعا وظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال. قال: فلما قال لي يوم الفتح ذلك، قلت: بلى أشهد أنك رسول الله.
وفي رواية: «أنه دخل يومئذ الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن: أي للظهر على ظهر الكعبة وأبو سفيان وعتاب بن أسيد. وفي لفظ: خالد بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب بن أسيد أي أو خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا العبد فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لا تبعته. أي وفي رواية أنه قال ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا، ولا مانع من وجود الأمرين منه، أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال «رضي الله ع» على ظهر الكعبة أيضا، أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش لقد أكرم الله فلانا يعني أباه إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وفي لفظ: والله، الحدث العظيم أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي ﷺ فقال لهم: لقد علمت الذي قلتم، ثم ذكر ذلك لهم، فقال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا، فقال أبو سفيان؟ أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا، فضحك رسول الله فقالوا نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك.
وجاء: «أن النبي ﷺ خرج على أبي سفيان وهو في المسجد، فلما نظر إليه أبو سفيان قال في نفسه ليت شعري بأيّ شيء غلبني؟ فأقبل رسول الله ﷺ عليه حتى ضرب يده بين كتفيه، فقال: بالله غلبتك يا أبا سفيان: فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله، وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بلال غيظا، وكان من جملتهم أبو محذورة «رضي الله ع»، وكان من أحسنهم صوتا، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئا سمعه رسول الله، فأمر به فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول، فمسح رسول الله ﷺ ناصيته وصدره بيده الشريفة، قال: فامتلأ قلبي والله إيمانا ويقينا، فعلمت أنه رسول الله، فألقى عليه الأذان وعلمه إياه، وأمره أن يؤذن لأهل مكة، وكان سنه ست عشرة سنة وعقبة بعده يتوارثون الأذان بمكة، وتقدم أن أذان أبي محذورة وتعليمه الأذان كان مرجعه من حنين، وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما.
وفي تاريخ الأزرقي: أن جويرية بنت أبي جهل قالت عند أذان بلال على ظهر الكعبة: والله لا نحب من قتل الأحبة، ولقد جاء لأبي الذي جاء لمحمد من النبوة فردها، ولم يرد خلاف قومه.
وعن الحارث بن هشام قال: «لما أجارتني أم هانىء، وأجاز رسول الله ﷺ جوارها فصار لا أحد يتعرض لي، وكنت أخشى عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، فمر عليّ وأنا جالس، فلم يتعرض لي، وكنت أستحي أن يراني رسول الله ﷺ لما أذكر برؤيته إياي في كل موطن مع المشركين، فلقيته وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته فسلمت عليه وشهدت شهادة الحق، فقال: الحمد لله الذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام».
وجاءه يوم الفتح السائب بن عبد الله المخزومي، أي وقيل عبد الله بن السائب بن أبي السائب، وقيل السائب بن عويمر، وقيل قيس بن السائب بن عويمر. قال في الاستيعاب: وهذا أصح ما قيل في ذلك إن شاء الله تعالى، وكان شريكا له في الجاهلية، فقال: فأخذ عثمان وغيره يثنون عليّ، فقال لهم: لا تعلموني به، كان صاحبي. وفي لفظ: لما أقبلت عليه قال: مرحبا بأخي وشريكي. كان لا يداري، ولا يماري، قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك: أي لتوقف صحتها على الإسلام، وهي الأعمال المتوقفة على النية التي شرطها الإسلام وهي اليوم تتقبل منك، أي لوجود الإسلام.
وأرسل سهيل بن عمرو «رضي الله ع» ولده عبد الله ليأخذ له أمانا منه، فقال: يا رسول الله أبي تؤمنه؟ فقال: نعم هو آمن بالله فليظهر، ثم قال رسول الله ﷺ لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد إليه النظر، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الإسلام» فخرج ابنه عبد الله إليه فأخبره بمقالة رسول الله. فقال سهيل: كان والله برا صغيرا برا كبيرا، فكان سهيل «رضي الله ع» يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع رسول الله ﷺ وهو على شركه حتى أسلم بالجعرّانة.
وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح حدّث نفسه بقتل النبي ﷺ وهو يطوف بالبيت عام الفتح. قال: فلما دنا منه رسول الله. قال يا فضالة، قال فضالة: نعم يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فضحك النبي، ثم قال: استغفر الله، ثم وضع يده الشريفة على صدره فسكن قلبه، فكان فضالة «رضي الله ع» يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إليّ منه.
قال: ولما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك، فقام رسول الله ﷺ خطيبا بعد الظهر مسندا ظهره الشريف إلى الكعبة. وقيل كان على راحلته، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس إن الله تعالى قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرة، ولم تحل لأحد كان قبلي، ولن تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة» أي من صبيحة يوم الفتح إلى العصر غضبا على أهلها «ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله ﷺ قد قاتل فيها فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسول الله ﷺ ولم يحلها لكم».
وقد جاء في صحيح مسلم: «لا يحل أن يحمل السلاح بمكة، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر القتل، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا فدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله، ثم ودى رسول الله ﷺ ذلك الرجل الذي قتلته خزاعة» وهو ابن الأقرع الهذلي من بني بكر فإنه دخل مكة وهو على شركه فعرفته خزاعة فأحاطوا به، فطعنه منهم خراش بمشقص في بطنه حتى قتله، فلامه وقال «لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراشا» أي والمشقص ما طال من النصال وعرض. قال ابن هشام: وبلغني أنه أول قتيل وداه النبي. وفيه أنه تقدم في خيبر أنه ودى قتيلا. وقال يوم الفتح: «لا نغزي مكة بعد اليوم إلى يوم القيامة» قال العلماء: أي على الكفر: أي لا يقاتلوا على أن يسلموا، ونادى منادي رسول الله ﷺ بمكة: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره».
ولما أسلمت هند «رضي الله ع» عمدت إلى صنم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول: كنا منك في غرور.
ثم بعث السرايا إلى كسر الأصنام التي حول مكة، أي لأنهم كانوا اتخذوا مع الكعبة أصناما جعلوا لها بيوتا يعظمونها كتعظيم الكعبة، وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة، ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة، فكان في كل حي صنم، من ذلك كما تقدم: العزى، وسواع، ومناة، وسيأتي الكلام على ذلك في السرايا إن شاء الله تعالى.
أي وفي هذا العام الذي هو عام الفتح كانت غزوة أوطاس، وأوطاس: هي هوازن. وحلل المتعة ثم ثلاثة أيام حرمها. ففي صحيح مسلم عن بعض الصحابة «لما أذن رسول الله ﷺ في المتعة خرجت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة غيطاء» وفي لفظ «مثل البكرة الغطنطية، فعرضنا عليها أنفسنا. فقلنا لها: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ فقالت: ما تدفعان؟ قلنا بردينا» وفي لفظ: «رداءينا، فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي وترى برد صاحبي أحسن من بردي، فإذا نظرت إليّ أعجبتها، وإذا نظرت إلى برد صاحبي أعجبها، فقالت: أنت وبردك تكفيني فكنت معها ثلاثا».
والحاصل أن نكاح المتعة كان مباحا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم الفتح، ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وكان فيه خلاف في الصدر الأول ثم ارتفع، وأجمعوا على تحريمه وعدم جوازه.
قال بعض الصحابة: «رأيت رسول الله ﷺ قائما بين الركن والباب وهو يقول: أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» أي لكن في مسلم عن جابر «رضي الله ع» أنه قال: «استمتعنا على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر». وفي رواية عنه: حتى نهى عنه عمر «رضي الله ع». وقد تقدم في غزاة خيبر عن إمامنا الشافعي «رضي الله ع»: لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة، وهو يدل على أن إباحتها عام الفتح كانت بعد تحريمها بخيبر ثم حرمت به، وهذا يعارض ما تقدم أن الصحيح أنها حرمت في حجة الوداع. إلا أن يقال: يجوز أن تحريمها في حجة الوداع تأكيدا لتحريمها عام الفتح، فلا يلزم أن تكون أبيحت بعد تحريمها أكثر من مرة كما يدل عليه كلام إمامنا الشافعي، لكن يخالفه ما في مسلم عن بعض الصحابة «رخص لنا رسول الله ﷺ عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها».
وقد يقال: مراد هذا القائل بعام أوطاس عام الفتح، لأن غزاة أوطاس كانت في عام الفتح كما تقدم، وما تقدم عن ابن عباس «رضي الله ع» من جوازها رجع عنه. فقد قال بعضهم: والله ما فارق ابن عباس «رضي الله ع» الدنيا حتى رجع إلى قول الصحابة في تحريم المتعة، ونقل عنه «رضي الله ع» أنه قام خطيبا يوم عرفة فقال: أيها الناس إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير.
والحاصل أن المتعة من الأمور الثلاثة التي نسخت مرتين. الثاني لحوم الحمر الأهلية. الثالث القبلة كذا في (حياة الحيوان).
قال: واستقرض من ثلاثة نفر من قريش: أخذ من صفوان بن أمية «رضي الله ع» خمسين ألف درهم. ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم. ومن حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فرقها في أصحابه من أهل الضعف ثم وفاها مما غنمه من هوازن وقال: «إنما جزاء السلف الحمد والأداء» ا هـ.
أي «وأقام بمكة أي بعد فتحها تسعة عشر، وقيل ثمانية عشر يوما» واعتمده البخاري «يقصر الصلاة في مدة إقامته». وبهذا الثاني قال أئمتنا إن من أقام بمحل لحاجة يتوقعها كل وقت قصر ثمانية عشر يوما غير يومي الدخول والخروج، ولعل سبب إقامته المدة المذكورة أنه كان يترجى حصول المال الذي فرقه في أهل الضعف من أصحابه، فلما لم يتم له ذلك خرج من مكة إلى حنين لحرب هوازن.
وجاء إليه سعد بن أبي وقاص، وقد أخذ بيد ابن وليدة زمعة ومعه عبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليّ أنه ابنه: أي قال إذا قدمت مكة انظر إلى ابن وليدة زمعة فإنه مني فاقبضه إليك، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله هذا أخي ابن وليدة أبي زمعة ولدته على فراشه: أي مع كونها فراشا له، فنظر إلى ذلك الولد فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص، فقال لعبد بن زمعة: هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراش أبيك زمعة «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال لزوجته سودة بنت زمعة «احتجبي منه يا سودة لما رأى عليه من شبه عتبة: أي فخشي أن يكون ابن خاله فأمرها بالاحتجاب نديا واحتياطا، فلم يرها حتى لقي الله. وفي بعض الروايات «احتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ».
وسرقت امرأة فأراد قطعها ففزع قومها إلى أسامة. فيها بن زيد بن حارثة «رضي الله ع» يستشفعون به، فلما كلمه أسامة فيها تلون وجهه وقال: «أتكلمني في حد من حدود الله تعالى؟ فقال أسامة: استغفر لي يا رسول الله، ثم قام خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه» وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله ﷺ بتلك المرأة فقطعت يدها». وفي كلام بعضهم: كانت العرب في الجاهلية يقطعون يد السارق اليمنى.
وولى عتاب بن أسيد «رضي الله ع» وعمره إحدى وعشرون سنة أمر مكة، وأمره أن يصلي بالناس، وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة، وترك معاذ بن جبل «رضي الله ع» بمكة معه معلما للناس السنن والفقه.
في الكشاف، وعنه: «أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال: انطلق فقد استعملتك على أهل الله، أي وقال ذلك ثلاثا» فكان «رضي الله ع» شديدا على المريب لينا على المؤمن، وقال: والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا، فقال: «إني رأيت فيما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم» هذا.
وفي تاريخ الأزرقي، أن النبي ﷺ قال: «لقد رأيت أسيدا في الجنة وأنى أي كيف يدخل أسيد الجنة فعرض له عتاب بن أسيد، فقال: هذا الذي رأيت، ادعوه لي، فدعى له. فاستعمله يومئذ على مكة، ثم قال: يا عتاب أتدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا يقولها ثلاثا».
فإن قيل: كيف يقول عن أسيد إنه رآه في الجنة ثم يقول عن ولد أسيد إنه الذي رآه في الجنة، قلنا لعل عتابا كان شديد الشبه بأبيه، فظن عتابا أباه، فلما رآه عرف أنه عتاب لا أسيد.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: عتاب بن أسيد استعمله رسول الله ﷺ على أهل مكة لما خرج إلى حنين وعمره ثماني عشرة سنة. وفي كلام غيره ما يفيد أنه إنما استخلف عتاب بن أسيد وترك معه معاذ بن جبل بعد عوده من الطائف وعمرته من الجعرانة، إلا أن يقال: لا مخالفة، ومراده باستخلافه إبقاءه على ذلك، وينبغي أن يكون ما تقدم عن الكشاف من قول أهل مكة له: «لقد استخلفت على أهل الله عتاب بن أسيد» إلى آخره بعد إبقائه على استخلافه لما لا يخفى.
وكان رسول الله ﷺ رأى في المنام أن أسيدا والد عتاب واليا على مكة مسلما فمات على الكفر، فكانت الرؤيا لولده، كما تقدم مثل ذلك في أبي جهل وولده عكرمة «رضي الله ع».
ولما ولاه على مكة جعل له في كل يوم درهما، فكان «رضي الله ع» يقول: لا أشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم.
ويروى أنه قام فخطب الناس، فقال: يا أيها الناس أجاع الله كبد من جاع على درهم: أي له درهم، فقد رزقني رسول الله ﷺ درهما في كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد.
وعن جابر «رضي الله ع»: «أن رسول الله ﷺ استعمل عتاب بن أسيد على مكة، وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة» ولعل الدرهم كل يوم يحرز القدر المذكور: أي أربعين أوقية في السنة فلا مخالفة.
وفي السنن الكبرى للبيهقي: وولد عتاب هذا عبد الرحمن الذي قطعت يده يوم الجمل واحتملها النسر وألقاها بمكة، وقيل بالمدينة. كان يقال له يعسوب قريش.