الرئيسيةبحث

السيرة الحلبية/باب بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى


باب بنيان قريش الكعبة شرفها الله تعالى


لما بلغ رسول الله ﷺ خمسا وثلاثين سنة على ما هو الصحيح جاء سيل حتى أتى من فوق الردم الذي صنعوه لمنعه السيل فأخربه: أي ودخلها وصدّع جدرانها بعد توهينها من الحريق الذي أصابها.

وذلك أن امرأة بخرتها فطارت شرارة في ثياب الكعبة فاحترقت جدرانها، فخافوا أن تفسدها السيول: أي تذهبها بالمرة. وقيل تبخير المرأة كان لها في زمن عبد الله بن الزبير «رضي الله ع». ولا مانع من التعدد، وكان ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، ولم يكن لها سقف: أي وكان الناس يلقون الحليّ والمتاع كالطيب أي الذي يهدى إليها في بئر داخلها عند بابها على يمين الداخل منه أعدت لذلك، يقال لها خزانة الكعبة كما سيأتي ذلك. فأراد شخص في أيام جرهم أن يسرق من ذلك شيئا فوقع على رأسه وانهار البئر عليه فهلك.

وفي كلام بعضهم: فسقط عليه حجر فحبسه في تلك البئر حتى أخرج منها وانتزع المال منه، فليتأمل الجمع.

وقد يقال على بعد: جاز أن يكون هذا الرجل تكرر منه السرقة، وكان هلاكه في المرة الثانية، فعند ذلك بعث الله حية بيضاء سوداء الرأس والذنب رأسها كرأس الجدي، فأسكنها تلك البئر لحفظ تلك الأمتعة، وكانت قد تخرج منها إلى ظاهر البيت فتشرق بالقاف أي تبرز للشمس على جدار الكعبة، فيبرق لونها، وربما التفت عليه فتصير رأسها عند ذنبها، فلا يدنو منها أحد إلا كشت: أي صوّتت وفتحت فاها معطوف على كشت.

ففي حياة الحيوان قال الجوهري: كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فيها، فحرست بئره وخزانة البيت خمسمائة عام، لا يقربه أحد: أي لا يقرب بئره وخزانته إلا أهلكته: أي ولعل المراد لو قرب منه أحد أهلكته، إذ لو أهلكت أحدا قرب من تلك البئر لنقل، فلم تزل كذلك حتى كان زمن قريش ووجد هذا السيل والحريق، أرادوا هدمها وإعادة بنائها، وأن يشيدوا بنيانها: أي يرفعوه ويرفعوا بابها، حتى لا يدخلها إلا من شاؤوا واجتمعت القبائل من قريش تجمع الحجارة كل قبيلة تجمع على حدة، وأعدوا لذلك نفقة أي طيبة، ليس فيها مهر بغيّ، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس ( ) أي بعد أن قام أبو وهب عمرو بن عابد، فتناول منها حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، الحديث: أي وفي لفظ أنه قال لهم: لا تدخلوا في نفقة هذا البيت مهر بغيّ: أي زانية ولا بيع ربا وفي لفظ: لا تجعلوا في نفقة هذا البيت شيئا أصبتموه غصبا ولا قطعتم فيه رحما، ولا انتهكتم فيه حرمة أو ذمة بينكم وبين أحد من الناس. وأبو وهب هذا خال عبد الله أبي النبي، وكان شريفا في قومه، وكان رسول الله ﷺ ينقل معهم الحجارة.

روى الشيخان عن جابر بن عبد الله «رضي الله ع» قال: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله ﷺ والعباس «رضي الله ع» ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة: أي كبقية القوم، فإنهم كانوا يضعون أزرهم على عواتقهم، ويحملون الحجارة، ففعل فخرّ إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء: أي وندوي: عورتك، فقال إزاري إزاري: أي شدوا عليّ إزاري، فشدّ عليه. وفي رواية: سقط فغشي عليه، فضمه العباس إلى نفسه، وسأله عن شأنه، فأخبره أنه نودي من السماء أن شد عليك إزارك، وهذا يبعد ما جاء في رواية قال له العباس أي بعد أن أمر بستر عورته وسترها: يا ابن أخي اجعل إزارك على رأسك، فقال: ما أصابني ما أصابني إلا من التعرّي.

وفي رواية: بينا النبي ﷺ يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته، فنودي يا محمد خمر عورتك: أي غطها، فلم ير عريانا أي مكشوف العورة بعد ذلك.

أي وقد يقال: هذا لا يخالف ما تقدم عن العباس «رضي الله ع»، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر من العباس حينئذ، وغايته أنه سمى النمرة إزارا له.

قال: واستبعد بعض الحفاظ ذلك: أي وقوع هذا مع ما تقدم من نهيه عن ذلك: أي الذي تضمنه الأمر بالستر عند إصلاح عمه أبي طالب لزمزم قبل هذا، قال لأنه إذا نهي عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه اهـ: أي وقد عاد إلى ذلك.

أقول: يجوز أن يكون لم يفهم أن أمره بستر عورته أولا عزيمة، بل جواز الترك، وفي الثانية علم أنه عزيمة.

لا يقال: تقدم «من كرامتي على ربي أن أحدا لم ير عورتي» وتقدم أن ذلك من خصائصه.

ففي الخصائص الصغرى «أنه لم تر عورته قط، ولو رآها أحد طمست عيناه» لأنه لا يلزم من كشف عورته رؤيتها كما لم يلزم من حضانته وتربيته ومجامعة زوجاته ذلك. فعن عائشة «رضي الله ع» «ما رأيت منه » والظاهر أن بقية زوجاته كذلك، والله أعلم.

ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر: أي خوف من أن يمنعهم الله تعالى ما أرادوا: أي بأن يوقع بهم البلاء قبل ذلك، سيما وقد شاهدوا ما وقع لعمرو بن عائذ.

أي قال: وعند ابن إسحاق أن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه أي خافوا من أنه يحصل لهم بسببه بلاء، فقال الوليد بن المغيرة لهم، أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل نريد الإصلاح، قال: فإن الله لا يهلك المصلحين، قالوا من الذي يعلوها فيهدمها، قال أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع أي بالراء والعين المهملتين، والضمير في ترع للكعبة: أي لا تفزع الكعبة لا نريد إلا الخير: أي وفي رواية لم نزغ بالنون والزاي والمعجمة: أي لمن نحل عن دينك ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمناها فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة: أي أسنمة الإبل. وفي لفظ كالأسنة.

قال السهيلي: وهو وهم من بعض النقلة عن ابن إسحاق، هذا كلامه: أي وقد يقال: هي كالأسنة في الخضرة وكالأسمنة في العظم.

لا يقال: الأسنة زرق. لأنا نقول شديد الزرقة يرى أخضر، أخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منهما ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنفضت مكة: أي تحركت بأسرها، وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل، فانتهوا عن ذلك الأساس. ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فإذا هو: أنا الله ذو بكة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض، وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، لا يزول أخشباها أي جبلاها، وهما أبو قبيس وهو جبل مشرف على الصفا. وقعيقعان: وهو جبل مشرف على مكة وجهه إلى أبي قبيس يبارك لأهلها في الماء واللبن، ووجدوا في المقام: أي محله، كتابا آخر مكتوب فيه: مكة بلد الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاث سبل. ووجدوا كتابا آخر مكتوب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبظة: أي ما يغبط أي يحسد حسدا محمودا عليه، ومن يزرع شرا يحصد ندامة: أي ما يندم عليه. تعملون السيئات، وتجزون الحسنات، أجل: أي نعم، كما يجنى من الشوك العنب أي الثمر.

أي وفي السيرة الشامية أن ذلك وجد مكتوبا في حجر في الكعبة. وفي كلام بعضهم: وجدوا حجرا فيه ثلاثة أسطر: الأول أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر إلى آخره. وفي الثاني: أنا الله ذو بكة خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته. وفي الثالث: أنا الله ذو بكة خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. قال ابن المحدث: ورأيت في مجموع أنه وجد بها حجر مكتوب عليه: أنا الله ذو بكة، مفقر الزناة، ومعري تارك الصلاة، أرخصها والأقوات فارغة، وأغليها والأقوات ملآنة: أي فارغ محلها وملآن محلها، هذا كلامه.

وقد يقال: لا مانع من أن يكون ذلك حجرا آخر، أو يكون هو ذلك الحجر، وما ذكر مكتوب في محل آخر منه: أي وفي الإصابة عن الأسود بن عبد يغوث عن أبيه أنهم وجدوا كتابا بأسفل المقام، فدعت قريش رجلا من حمير، فقال: إن فيه لحرفا لو حدثتكموه لقتلتموني قال: وظننا أن فيه ذكر محمد فكتمناه، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جدة: أي الذي به جدة الآن، وكان ساحل مكة قبل ذلك الذي يرمي به السفن يقال له الشعيبية بضم الشين، فلا يخالف قول غير واحد، فلما كانت السفينة بالشعيبية ساحل مكة انكسرت. وفي لفظ حبسها الريح، وتلك السفينة كانت لرجل من تجار الروم اسمه باقوم وكان بانيا.

وقيل كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم يحمل له فيها الرخام والخشب والحديد، سرحها مع باقوم إلى الكنيسة التي حرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة، وقيل من الشعيبية بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمها: أي كسرها.

فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها، فأعدوه لسقف الكعبة. وقيل هابوا هدمها من أجل تلك الحية العظيمة، فكانوا كلما أرادوا القرب منه أي البيت ليهدموه بدت لهم تلك الحية فاتحة ً فاها، فبينا هي ذات يوم تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله طائرا أعظم من النسر، فاختطفها وألقاها في الحجون فالتقمتها الأرض، قيل وهي الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة. وقد جاء أن الدابة تخرج من شعب أجياد.

وفي حديث «أن موسى "عليه السلام" سأل ربه أن يريه الدابة التي تكلم الناس فأخرجها له من الأرض، فرأى منظرا هاله وأفزعه، فقال: أي رب ردها فردها».

فقالت قريش عند ذلك: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا: أي بعد أن اجتمعوا عند المقام، وعجوا إلى الله تعالى: ربنا لن نراع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك فأتمه واشغل عنا هذا الثعبان يعنون الحية، وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا في السماء صوتا ووجبة وإذا بالطائر المذكور أخذها وذهب بها إلى أجياد، فقالوا ما ذكر، وقالوا: عندنا عامل رفيق وعندنا أخشاب، وقد كفانا الله الحية وذلك العامل هو باقوم الرومي الذي كان بالسفينة وكان بانيا كما تقدم، فإنهم جاؤوا به معهم إلى مكة، أو هو باقوم مولى سعيد بن العاص وكان نجارا، وتلك الأخشاب هي التي اشتروها من تلك السفينة التي كسرت.

أقول: ومع أخذ الطائر لتلك الحية يجوز أن يقال هابوا هدمها حتى قدم عليه الوليد بن المغيرة، فلا مخالفة بين ما تقدم عن ابن إسحاق وبين هذا الظاهر في أنهم هدموها عند أخذ الطائر لتلك الحية ولم يهابوا هدمها حتى فعل الوليد ما تقدم، والله أعلم.

أي ثم لما أرادوا بنيانها تجزأتها قريش: أي بعد أن أشار عليهم بذلك أو وهب عمرو بن عائذ، فقال لهم: إني أرى أن تقسموا أربعة أرباع، فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ابني عمرو، وكان شق الحجر أي الجانب الذي فيه الحجر الآن لبني عبد الدار ولبني أسد ولبني عدي.

والذي في كلام المقريزي: كان لبني عبد مناف ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر أي وهو شق الباب، وصار لأسد وعبد الدار وزهرة الحجر كله: أي الجانب الذي فيه الحجر وصار لمخزوم دبر البيت، وصار لسائر قريش ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود هذا كلامه فليتأمل.

وفي كلام بعضهم: وسمي الركن اليماني باليماني، لأن رجلا من اليمن بناه وكان الباني لها باقوم النجار: أي الذي هو مولى سعيد بن العاص.

أقول: وكان المناسب أن يكون الذي بناها باقوم الرومي الذي كان صحبة السفينة التي كسرت، لأنه كما تقدم كان بانيا، وسيأتي التصريح بذلك. وأما باقوم مولى سعيد بن العاص فتقدم أنه كان نجارا، إلا أن يقال باقوم مولى سعيد كان نجارا بناء، واشتهر بالوصف الأول، فكان الباني لها. وفيه يحتمل أن يكون باقوم الرومي البناء كان نجارا، أيضا، واشتهر بالوصف الأول.

ثم رأيت في كلام بعضهم التصريح بذلك، فقال: وكان أي باقوم الرومي نجارا بناء. فقول القائل: وكان الباني لها باقوم النجار مراده باقوم الرومي لا مولى سعيد.

ثم رأيت في بعض الروايات ما يؤيد ذلك، وهو وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا. ونصها: فخرجت قريش لتأخذ خشبها: أي السفينة التي كسرت، فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا، فقدموا به وبالخشب. فقد دلت الروايتان على أنه موصوف بالوصفين. ويحتمل أن يكون أحدهما بناها والآخر عمل سقفها، أو أنهما اشتركا فيها لما علمت أن كلا منهما كان بانيا نجارا.

ثم رأيت عن ابن إسحاق: وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فوافقهم على أن يعمل لهم سقف الكعبة ويساعده باقوم، أي الرومي، فالقبطي هو مولى سعيد بن العاص. وحينئذ ففي هذه الرواية وصف باقوم الرومي بأنه كان نجارا كالرواية التي قبلها، وسيأتي في الرواية التي تلي هذه أنه الذي بناها. وهي في الإصابة اسم الرجل الذي بنى الكعبة لقريش باقوم. وكان روميا، وكان في سفينة حبستها الريح فخرجت إليها قريش فأخذوا خشبها وقالوا له: ابنها على بنيان الكنائس، وإن باقوم الرومي أسلم ثم مات فلم يدع وارثا فدفع النبي ﷺ ميراثه لسهيل بن عمرو.

ثم لما بنوها جعلوها مدماكا من خشب الساج، ومدماكا من الحجارة من أسفلها إلى أعلاها، وزادوا فيها تسعة أذرع، فكان ارتفاعها ثمانية عشر ذراعا، ورفعوا بابها من الأرض، فكان لا يصعد إليها إلا في درج، وضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وفي لفظ: أخرجوا من عرضها أذرعا من الحجر وبنوا عليه جدارا قصيرا علامة على أنه من الكعبة.

ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدّوا للقتال، فقرّبت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي: أي تحالفوا على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، وقد تقدم في حلف المطيبين، ومكث النزاع بينهم أربع أو خمس ليال ثم اجتمعوا في المسجد الحرام. وكان أبو أمية بن المغيرة، واسمه حذيفة أسنّ قريش كلها يومئذ: أي وهو والد أم سلمة أم المؤمنين «رضي الله ع»، وهو أحد أجواد قريش المشهورين بالكرم، وكان يعرف بزاد الراكب، لأنه كان إذا سافر لا يتزود معه أحد، بل يكفي كل من سافر معه الزاد.

أي وذكر بعضهم أن أزواد الراكب من قريش ثلاثة: زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف، قتل يوم بدر كافرا، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وأبو أمية بن المغيرة وهو أشهرهم بذلك.

وفي كلام بعضهم: لا تعرف قريش زاد الراكب إلا أبا أمية بن المغيرة وحده، يحتمل أن المراد لا تكاد تعرف قريش غيره بهذا الوصف لشهرته فلا مخالفة، وأبو أمية هذا مات على دينه، ولعله لم يدرك الإسلام، فقال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم: أي وهو باب بني شيبة، وكان يقال له في الجاهلية باب بني عبد شمس الذي يقال له الآن باب السلام. وفي لفظ أوّل من يدخل من باب الصفا: أي وهو المقابل لما بين الركنين اليماني والأسود ففعلوا أي وفي كلام البلاذري أن الذي أشار على قريش بأن يضع الركن أوّل من يدخل من باب بني شيبة مهشم بن المغيرة ويكنى أبا حذيفة.

وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون اسمه حذيفة، ويكنى بأبي حذيفة كما يكنى بأبي أمية ومهشم لقبه، وأن الراوي عنه اختلف كلامه، فتارة قيل عنه يقضي بينكم، وتارة قيل عنه يضع الركن، والمشهور الأول، ويدل له ما يأتي، فكان أول داخل منه رسول الله، فلما رأوه قالوا هذا الأمين رضينا، هذا محمد: أي لأنهم كانوا يتحاكمون إليه في الجاهلية، لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هلم إليّ ثوبا فأتي به: أي وفي رواية: فوضع رسول الله ﷺ إزاره وبسطه في الأرض أي ويقال إنه كساء أبيض من متاع الشام. ويقال إن ذلك الثوب كان للوليد بن المغيرة، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه بيده الشريفة، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب: أي بزاوية من زواياه ثم ارفعوه جميعا ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وكان في الربع الثاني زمعة، وكان في الربع الثالث أبو حذيفة بن المغيرة، وكان في الربع الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو: أي ولما مات أبو أمية بن المغيرة رثاه أبو طالب بقصيدة طويلة، ورثاه أبو جحيفة بقوله:

ألا هلك الماجد الرافد ** وكل قريش له حامد

ومن هو عصمة أيتامنا ** وغيث إذا فقد الراعد

قال: وعن ابن عباس «رضي الله ع»: لما وضع رسول الله ﷺ الركن: أي الحجر ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي ﷺ حجرا يشد به الركن، فقال العباس لا، وناول العباس رسول الله ﷺ ما شدّ به الركن، فغضب النجدي وقال: واعجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له، أما والله ليفرقنهم شيعا، وليقسمنّ بينهم حظوظا، فكاد يثير شرا فيما بينهم، ولعل هذا النجدي هو إبليس.

فقد ذكر السهيلي أن إبليس تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله ﷺ في أمر الركن من يرفعه، وصاح: يا معشر قريش أرضيتهم أن يلي هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أنسابكم؟ انتهى.

وإنما تصوّر بصورة نجدي، لأن في الحديث، نجد طلع منها قرن الشيطان. ولما قال: «اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، قالوا وفي نجدنا، فأعاد الأول، والثاني قال: هناك الزلازل والفتن، وفيها يطلع قرن الشيطان».

أقول: سيأتي أنه تصور بهذه الصورة أيضا عند دخول قريش دار الندوة ليتشاوروا في كيفية قتله ودخل معهم، وسيأتي. ثم في حكمة تصوره بذلك غير ما ذكر. ولا مانع أن يكونا حكمة لما هنا ولما يأتي.

وأعادوا الصور التي كانت في حيطانها، لأنه كان في حيطانها صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن جملتهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام: أي وإسماعيل وفي يده الأزلام، وصورة الملائكة وصورة مريم كما سيأتي في فتح مكة، وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل، ولم يكسها أحد بعد ذلك حتى كساها رسول الله ﷺ الحبرات في حجة الوداع، والله أعلم. وهذه المرة الرابعة أي من بناء الكعبة بناء على أن أول من بناها الملائكة.

ففي بعض الآثار أن الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض كان عرشه على الماء أي العذب، فلما اضطرب العرش كتب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ فسكن، فلما أراد أن يخلق السموات والأرض أرسل الريح على ذلك الماء فتموج فعلاه دخان، فخلق من ذلك الدخان السموات، ثم أزال ذلك الماء عن موضع الكعبة فيبس» وفي لفظ «أرسل على الماء ريحا هفافة فصفق الريح الماء» أي ضرب بعضه بعضا «فأبرز عنه خشفة » الحديث، وبسط الله سبحانه وتعالى من ذلك الموضع جميع الأرض طولها والعرض، فهي أصل الأرض وسرتها. وقد يخالفه ما في (أنس الجليل) كذا روي عن علي بن أبي طالب «رضي الله ع» أنه قال: وسط الدنيا بيت المقدس وأرفع الأرضين كلها إلى السماء بيت المقدس.

وعن ابن عباس «رضي الله ع» ومعاذ بن جبل أنه أقرب إلى السماء باثني عشر ميلا ثم بين ذلك في أنس الجليل.

ولما ماجت الأرض وضع عليها الجبال، فكان أول جبل وضع عليها أبو قبيس، وحينئذ كان ينبغي أن يسمى أبا الجبال، وأن يكون أفضلها مع أن أفضلها كما قال الجلال السيوطي استنباطا: أحد، لقوله: «أحد يحبنا ونحبه» ولما ورد أنه على باب من أبواب الجنة، قال: ولأنه من جملة أرض المدينة التي هي أفضل البقاع: أي عنده تبعا لجمع، ولأنه مذكور في القرآن باسمه في قراءة من قرأ {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد} أي بضم الهمزة والحاء، ثم فتق الأرض فجعلها سبع أرضين. وقد جاء «بدأ الله خلق الأرض في يومين غير مدحوّة ثم خلق السموات فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي وغيرها في يومين».

وبهذا يظهر التوقف في قول مغلطاي: إن لفظة بعد في قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} بمعنى قبل، لأن خلق الأرض قبل خلق السماء، لما علمت أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة، ثم بعد خلق السماء دحى الأرض.

ثم رأيت بعضهم سأل ابن عباس عن ذلك، حيث قال له: يا إمام اختلف عليّ من القرآن آيات، ثم ذكر منها أنه قال: قال الله تعالى: {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} ـ حتى بلغ ـ {طائعين} ثم قال في الآية الأخرى: {أم السماء بناها} ثم قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} فأجابه ابن عباس «رضي الله ع». أما قوله: {خلق الأرض في يومين} فإن الأرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض. وأما قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} يقول: جعل فيها جبلا، وجعل فيها نهرا، وجعل فيها شجرا، وجعل فيها بحورا. وبه يرد قول بعضهم: خلق السماء قبل الأرض، والظلمة قبل النور، والجنة قبل النار فليتأمل.

وقد جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» في قوله تعالى: {ومن الأرض مثلهن} قال: سبع أرضين، وفي كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدمكم، ونوح كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسكم، رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد. وقال البيهقي: إسناده صحيح لكنه شاذ بالمرة: أي لأنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن، فقد يكون فيه مع صحة إسناده ما يمنع صحته فهو ضعيف.

قال الحافظ السيوطي: ويمن أن يؤول على أن المراد بهم النذر الذين كانوا يبلغون الجن عن أنبياء البشر.

ولا يبعد أن يسمى كل منهم باسم النبي الذي يبلغ عنه هذا كلامه: أي وحينئذ كان لنبينا رسول من الجن اسمه كاسمه، ولعل المراد اسمه المشهور وهو محمد فليتأمل.

ولما خاطب الله السموات والأرض بقوله: {ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} كان المجيب من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما حاذاها، الذي هو محل البيت المعمور.

وعن كعب الأحبار «رضي الله ع»: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمدا أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض وبهاؤها ونورها، فقبض قبضة رسول الله ﷺ من موضع قبره الشريف، وهي بيضاء منيرة لها شعاع عظيم.

وعن ابن عباس «رضي الله ع»: أصل طينة رسول الله ﷺ من سرة الأرض بمكة. قال بعض العلماء: هذا يشعر بأن ما أجاب من الأرض إلا تلك الطينة: أي وقد ذكر الشيخ أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى «أن النبي ﷺ قال يوما لأبي بكر الصديق «رضي الله ع»: أتعرف يوم يوم؟ فقال أبو بكر نعم والذي بعثك بالحق نبيا، يا رسول الله سألتني عن يوم المقادير، يعني يوم ـ {ألست بربكم} ـ ولقد سمعتك تقول حينئذ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» وقد سئل الشيخ علي الخواص نفعنا الله تعالى ببركاته لم لم تتكلم الأنبياء بلسان الباطن الذي تكلم به الصوفية.

فأجاب بأنه إنما لم تتكلم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك لأجل عموم خطابهم للأمة، ولا يعتبر بالأصالة إلا فهم العامة دون فهم الخاصة إلا بعض تلويحات، ومنه قوله للصديق «رضي الله ع»: «أتعرف يوم يوم؟ فقال نعم يا رسول الله» الحديث، وتلك الطينة لما تموّج الماء رمى بها من مكة إلى محل تربته ومدفنه بالمدينة.

وبهذا يندفع ما يقال: مقتضى كون أصل طينته بمكة أن يكون مدفنه بها، لأن تربة الشخص تكون في محل مدفنه ثم عجنها بطينة آدم، ولعل هذه الطينة هي المعبر عنها بالنور في قوله وقد قال له جابر: «يا رسول الله أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا لوح ولا قلم» الحديث.

وجاء «أول ما خلق الله نوري» وفي رواية: «أول ما خلق الله العقل» قال الشيخ عليّ الخواص: ومعناهما واحد، لأن حقيقته يعبر عنها بالعقل الأول وتارة بالنور. فأرواح الأنبياء والأولياء مستمدة من روح محمد هذا كلامه، وهذا هو المعني بقول بعضهم: لما تعلقت إرادة الحق بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من الأنوار الصمدية في الحضرة الأحدية، ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها. وفيه أن هذا لا يناسبه قوله: «ولم يكن في ذلك الوقت لا سماء ولا أرض» إذ كيف يأتي ذلك مع قول كعب الأحبار، أمر جبريل أن يأتيه بالطينة التي هي قلب الأرض إلى آخره؟ ومع قول ابن عباس: أصل طينة رسول الله ﷺ من سرة الأرض. إلا أن يقال إن ذلك النور بعد إيجاده أودع تلك الطينة التي هي قلب الأرض وسرتها. وحينئذ لا يخالف ذلك ما جاء أن الله خلق آدم من طين العزة من نور محمد، فهو الجنس العالي لجميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس.

هذا وقد جاء في حديث بعض رواته متروك الحديث «خلق الله آدم من تراب الجابية، وعجنه بماء الجنة » وجاء «خلق الله آدم من تربة دحنا ومسح ظهره بنعمان الأراك» ودحنا: محل قريب من الطائف، وتقدم أنه يحتاج إلى بيان وجه كون آدم خلق من نوره وجعل نوره في ظهر آدم. ولما خلق الله آدم وقبل نفخ الروح فيه، استخرج ذلك النور من ظهره وأخذ عليه العهد {ألست بربكم} فقد خص بذلك عن بقية خلقه من بني آدم فإن بني آدم ما أخرجوا من ظهر آدم وأخذ عليهم الميثاق إلا بعد نفخ الروح في آدم.

ونقل بعضهم أن الله تعالى لما أخرج الذرية وأعاده في صلب آدم، أمسك روح عيسى إلى أن أتى وقت خلقه. ولا يخفى أن هذا يفيد أن أخذ العهد على الصديق كان بعد نفخ الروح في آدم، وأخذ العهد عليه كان سابقا على ذلك، وحينئذ فيكون المراد بقول الصديق حينئذ لما قال له: «أتعرف يوم يوم، وقال نعم» إلى قوله: «ولقد سمعتك تقول حينئذ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» أي حين أخذ العهد على بني آدم، لا حين أخذ العهد عليه كما قد يتبادر فليتأمل.

ثم لما نفخت الروح في آدم صار ذلك النور في ظهر آدم فصارت الملائكة تقف صفوفا خلف آدم يتعجبون من ظهور ذلك النور، فقال آدم يا رب: ما بال هؤلاء ينظرون إلى ظهري؟ قال: ينظرون إلى نور محمد خاتم الأنبياء الذي أخرجه من ظهرك فسأل الله تعالى أن يجعله في مقدمه لتستقبله الملائكة، فجعله الله في جبهته، ثم سأل الله تعالى أن يجعله في محل يراه، فكان في سبابته، فلما أهبط آدم إلى الأرض، انتقل ذلك النور إلى ظهره، فكان يلمع في جبهته، وفي رواية: لما انتقل النور إلى سبابته قال: يا رب هل بقي في ظهري من هذا النور شيء؟ قال: نعم، نور أخصاء أصحابه، فقال: يا رب اجعله في بقية أصابعي، فكان نور أبي بكر في الوسطى، ونور عمر في البنصر ونور عثمان في الخنصر، ونور عليّ في الإبهام، فلما أكل من الشجرة عاد ذلك النور إلى ظهره كذا في بحر العلوم عن ابن عباس.

ثم انتقل ذلك النور من آدم إلى ولده شيث، ولما قال تعالى للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة } و{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} يعنون الجن الذين أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، غضب عليهم.

وفي لفظ: ظنت الملائكة: أي علمت أن ما قالوا ردا على ربهم، وأنه قد غضب عليهم من فوقهم، فلاذوا بالعرش وطافوا به سبعة أطواف يسترضون ربهم فرضي عليهم.

وفي لفظ: فنظر الله إليهم، ونزلت الرحمة عليهم، فعند ذلك قال لهم ابنوا لي بيتا في الأرض يعوذ به من سخطت عليه من بني آدم: أي الذي هو الخليفة، فيطوفون حوله كما فعلتم بعرشي فأرضى عنهم، فبنوا الكعبة.

وفي هذه الرواية اختصار، بدليل ما قيل: وضع الله تحت العرش البيت المعمور على أربع أساطين من زبرجد يغشاهن ياقوتة حمراء، وقال للملائكة: طوفوا بهذا البيت: أي لأرضى عنكم، ثم قال لهم: ابنوا لي بيتا في الأرض بمثاله وقدره: أي ففعلوا، وقدره عطف تفسير على مثاله، فالمراد بالمثال القدر.

وفي لفظ لما قال تعالى للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة } و{قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} الآية خافوا أن يكون الله تعالى عابها عليهم لاعتراضهم في علمه، فطافوا بالعرش سبعا يسترضون ربهم، ويتضرعون إليه، فأمرهم أن يبنوا البيت المعمور في السماء السابعة، وأن يجعلوا طوافهم به فكان ذلك أهون عليهم من الطواف بالعرش، ثم أمرهم أن يبنوا في كل سماء بيتا، وفي كل أرض بيتا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتا متقابلة، لو سقط بيت منها لسقط على مقابله، والبيت المعمور في السماء السابعة، وله حرمة كحرمة مكة في الأرض، واسم البيت الذي في السماء الدنيا بيت العزة.

وفي كلام بعضهم: في كل سماء بيت تعمره الملائكة بالعبادة كما يعمر أهل الأرض البيت العتيق بالحج في كل عام. والاعتمار في كل وقت، والطواف في كل أوان، ولينظر ما معنى بناء الملائكة للبيوت في السموات. وإذا لم يصح أن الملائكة بنت الكعبة تكون هذه المرة من بناء قريش هي المرة الثالثة، بناء على أنّ أول من بناها آدم أي أو ولده شيث، فقد قال بعضهم: ما تقدم من الأثرين الدالين على أن أول من بناها الملائكة لم يصح واحد منها، وكانت قبل ذلك: أي وكان محلها قبل بناء آدم، لها خيمة من ياقوتة حمراء، أنزلت لآدم من الجنة: أي لها بابان من زمرد أخضر شرقي، وباب غربي من ذهب، منظومان من در الجنة، فكان آدم يطوف بها ويأنس إليها. وقد حج إليها من الهند ماشيا أربعين حجة ويجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور وعبر عنها بحمراء لأن سقف البيت المعمور كان ياقوتة حمراء.

قال: وذكر أن آدم، لما أهبط إلى الأرض كان رجلاه بها، ورأسه في السماء.

وفي لفظ: كان رأسه يمسح السحاب فصلع، فأورث ولده الصلع أي بعض ولده، فسمع تسبيح الملائكة ودعاءهم، فاستأنس بذلك، فهابته الملائكة: أي صارت تنفر منه فشكا إلى الله تعالى، فنقص إلى ستين ذراعا بالذراع المتعارف. وقيل بذراع آدم، فلما فقد أصوات الملائكة حزن وشكا إلى الله تعالى، فقال: يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به: أي تطوف به الملائكة كما يطاف حول عرشي، ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي: أي كان ذلك أي الطواف بالعرش والصلاة عنده شأن الملائكة أولا، فلا ينافي ما تقدم أنهم بعد ذلك صاروا يطوفون بالبيت المعمور كما تقدم، فاخرج إليه: أي طف به وصلّ عنده، وهذا البيت هو هذه الخيمة التي أنزلت لأجله. وقد علمت أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور.

قيل أهبط آدم وطوله ستون ذراعا: أي على الصفة التي خلق عليها، وهو المراد بقوله: «خلق الله تعالى آدم على صورته وطوله ستون ذراعا» أي أوجده الله تعالى على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالا، بل خلقه كاملا سويا من أول ما نفخ فيه الروح، فالضمير في صورته يرجع لآدم، وعلى رجوعه إلى الحق سبحانه وتعالى المراد على صفته: أي حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما.

وقد يخالف هذا قول ابن خزيمة قوله: «إن الله خلق آدم على صورته» فخرج على سبب، وهو «أن النبي ﷺ رأى رجلا يضرب وجه رجل فقال: لا تضربه على وجهه، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته» أي صورة هذا الرجل، فهو ينتقل أطوارا. ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن ثم عبر بقوله أوجده، وهذا القيل المتقدم من أنه أهبط آدم وطوله ستون ذراعا، يوافقه ما جاء في الحديث المرفوع/ «كان طوله ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا» ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إنما روي أن آدم لما أهبط كانت رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء فحطه الله تعالى إلى ستين ذراعا: أي الذي تقدم ظاهر الخبر الصحيح يخالفه، وهو أنه خلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعا وهو الصحيح. وكان آدم أمرد. وفي الصحيحين «فكل من يدخل الجنة يكون على صورة آدم» وقد جاء في صفة أهل الجنة «جرد مرد على صورة آدم».

وفي بعض الأخبار أن آدم لما كثر بكاؤه على فراق الجنة نبتت لحيته، ولم يصح ولم تنبت اللحية إلا لولده، وكان مهبطه بأرض الهند بجبل عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم مغموسة في الحجر، ويرى على هذا الجبل كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل قدمي آدم، وذروة هذا الجبل أقرب ذرا جبال الأرض إلى السماء، ولعل هذا وجه النظر الذي أبداه بعض الحفاظ في قول بعضهم: إن بيت المقدس أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. قال بعض الحفاظ: وفيه نظر.

قيل: ونزل معه من ورق الجنة فبثه هناك فمنه كان أصل الطيب بالهند.

وعن عطاء بن أبي رباح: إن آدم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة، فهي هذه التي يتطيب الناس بها. وجاء أنه نزل بنخلة العجوة.

ثم لما أمر آدم بالخروج لتلك الخيمة خرج إليها ومدّ له في خطوه، قيل كانت خطوته مسيرة ثلاثة أيام. فقد قيل لمجاهد: هل كان آدم يركب؟ قال: وأي شيء كان يحمله، فوالله إن خطوته لمسيرة ثلاثة أيام.

وفيه أن هذا يقتضي أن آدم لم يكن يركب البراق، فقول بعضهم: إن الأنبياء كانت تركبه مراده مجموعهم لا جميعهم، وقيض الله تعالى له ما كان في الأرض من مخاض أو بحر، فلم يكن يضع قدمه في شيء من الأرض إلا صار عمرانا، وصار بين كل خطوة مفازة حتى انتهى إلى مكة، فإذا خيمة في موضع الكعبة: أي الموضع الذي به الكعبة الآن، وتلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة مجوفة: أي ولها أربعة أركان بيض، وفيها ثلاثة قناديل من ذهب، فيها نور يلتهب من نور الجنة، طولها ما بين السماء والأرض، كذا في بعض الروايات، ولعل وصف الخيمة بما ذكر لا ينافي ما تقدم أنه يجوز أن تكون تلك الخيمة هي البيت المعمور، ووصف بأنه ياقوتة حمراء، لأن سقفه كان ياقوتة حمراء، لأن التعدد بعيد فليتأمل، ونزل مع تلك الخيمة الركن وهو الحجر الأسود ياقوتة بيضاء من أرض الجنة، وكان كرسيا لآدم يجلس عليه: أي ولعل المراد يجلس عليه في الجنة.

أقول: وهذا السياق يدل على أن آدم أهبط من الجنة إلى أرض الهند ابتداء.

وذكر في مثير الغرام عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن الله تعالى أهبط آدم إلى موضع الكعبة، وهو مثل الفلك من شدة رعدته، ثم قال: يا آدم تخطّ فتخطى فإذا هو بأرض الهند، فمكث هنالك ما شاء الله، ثم استوحش إلى البيت، فقيل له: حج يا آدم، فأقبل يتخطى فصار موضع كل قدم قرية، وما بين ذلك مفازة حتى قدم مكة » الحديث. والسياق المذكور أيضا يدل على أن الخيمة والحجر الأسود نزلا بعد خروج آدم من الجنة.

ويدل لكون الحجر الأسود نزل عليه ما في مثير الغرام «وأنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ كأنه لؤلؤة بيضاء، فأخذه آدم فضمه إليه استئناسا به» هذا كلامه.

وفي رواية عنه «أنزل الركن والمقام مع آدم ليلة نزل آدم من الجنة، فلما أصبح رأى الركن والمقام فعرفهما فضمهما إليه وأنس بهما» فليتأمل الجمع.

وفي رواية أن آدم نزل بتلك الياقوتة: أي فعن كعب: أنزل الله من السماء ياقوتة مجوّفة مع آدم فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، يطاف حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى حوله كما يصلى حول عرشي: أي على ما تقدم، ونزل معه الملائكة فرفعوا قواعده من الحجارة، ثم وضع البيت: أي تلك الياقوتة عليها. وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.

وقد يقال في الجمع: يجوز أن تكون المعية ليست حقيقية، والمراد أنه نزل بعده قريبا من نزوله، فلقرب الزمن عبر بالمعية، فلا ينافي ما تقدم من قوله: «يا آدم إني قد أهبطت بيتا يطاف به فأخرج إليه» وجاء «إن آدم نزل من الجنة ومعه الحجر الأسود متأبطه» أي تحت إبطه، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، ولولا أن الله تعالى طمس ضوءه ما استطاع أحد أن ينظر إليه». وكون آدم نزل بالحجر الأسود متأبطا له يخالف الرواية المتقدمة أنه نزل مع تلك الخيمة التي هي الياقوتة بعد نزوله. وحينئذ يحتاج للجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما.

وأيضا يحتاج إلى الجمع بين ذلك وبين ما روي عن وهب بن منبه رحمه الله أن آدم لما أمره الله تعالى بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة: أي التي هي الحجر الأسود مسح بها دموعه، فلما نزل إلى الأرض لم يزل يبكي ويستغفر الله ويمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموعه، ثم لما بنى البيت أمره جبريل "عليه الصلاة والسلام أن يجعل تلك الجوهرة في الركن ففعل.

وفي (بهجة الأنوار) أن الحجر الأسود كما في الابتداء ملكا صالحا. ولما خلق الله تعالى آدم أباح له الجنة كلها إلا الشجرة التي نهاه عنها، ثم جعل ذلك الملك موكلا على آدم أن لا يأكل من تلك الشجرة، فلما قدّر الله تعالى أن آدم يأكل من تلك الشجرة غاب عنه ذلك الملك، فنظر الله تعالى إلى ذلك الملك بالهيبة فصار جوهرا. ألا ترى أنه جاء في الأحاديث «الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله يد ولسان وأذن وعين» لأنه كان في الابتداء ملكا.

أقول: ورأيت في ترجمة كلام الشيخ كمال الدين الأخميمي أنه لما جاور بمكة رأى الحجر الأسود وقد خرج من مكانه وصار له يدان ورجلان ووجه، ومشى ساعة ثم رجع إلى مكانه.

وقد جاء «أكثروا من استلام هذا الحجر، فإنكم توشكون أن تفقدوه، بينما الناس يطوفون به ذات ليلة إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله «عَزَّ وجَلّ» لا يترك شيئا من الجنة في الأرض إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة » أي فقد جاء «ليس في الأرض من الجنة إلا الحجر الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جواهر الجنة، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى» وجاء «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع» وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة، والله أعلم.

وجاء «أن آدم أتى ذلك، أي تلك الخيمة: أي التي هي البيت المعمور على ما تقدم ألف مرة من الهند ماشيا من ذلك ثلثمائة حجة وسبعمائة عمرة، وأول حجة حجها جاءه جبريل وهو واقف بعرفة فقال له: يا آدم برّ نسكك، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة. وفي رواية: لما حج آدم استقبلته الملائكة بالردم: أي ردم بين جمح الذي هو محل المدعي، فقالوا: بر حجك يا آدم، قد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام.

أقول: وفي تاريخ مكة للأزرقي أن آدم "عليه الصلاة والسلام حج على رجليه سبعين حجة ماشيا، وأن الملائكة لقيته بالمأزمين فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. والمأزمان: موضع بين عرفة والمزدلفة. قال الطبري: ودون منى أيضا مأزمان، والله أعلم بالمراد منهما هذا كلامه. وجاء «أنه وجد الملائكة بذي طوى وقالوا له: يا آدم ما زلنا ننتظرك ههنا منذ ألفي سنة » وكان بعد ذلك إذا وصل إلى المحل المذكور خلع نعليه، ويحتاج للجمع بين كون الملائكة استقبلته بالردم، وكونها لقيته بالمأزمين، وكونه وجدهم بذي طوي، وبين كونهم حجوا البيت قبله بألف عام، وكونهم حجوا قبله بألفي عام، وبخمسين ألف عام، وهل الملائكة خلقوا دفعة واحدة أم خلقوا جيلا بعد جيل.

ومما يدل على أنهم جيلا بعد جيل ما جاء من نحو «من قال سبحان الله وبحمده، خلق الله ملكا له عينان وجناحان وشفتان ولسان يطير مع الملائكة ويستغفر لقائلها إلى يوم القيامة » وما جاء «إن جبريل في كل غداة يدخل بحر النور فينغمس فيه» الحديث، لكن في (سفر السعادة) الحديث المنسوب إلى أبي هريرة أنه قال: «يأمر الله تعالى جبريل كل غداة أن يدخل بحر النور ينغمس فيه انغماسة، ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله «عَزَّ وجَلّ» من كل قطرة منها ملكا» لهذا الحديث طرق كثيرة ولم يصح منها شيء؟ ولم يثبت في هذا المعنى حديث هذا لفظه، والله أعلم.

وعند ذلك قال آدم للملائكة: فما كنتم تقولون حوله؟ قالوا: كنا نقول: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال آدم: زيدوا فيها: ولا حول ولا قوة إلا بالله فكان آدم إذا طاف يقولها، وكان طوافه سبعة أسابيع بالليل وخمسة أسابيع بالنهار: أي ولما فرغ من الطواف صلى ركعتين تجاه باب الكعبة، ثم أتى الملتزم أي محله فقال: اللهم إنك تعلم سريرتي وعلانيتي فأقبل معذرتي، وتعلم ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنبي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي» الحديث.

أقول: قول الملائكة قد طفنا بهذا البيت لا يحسن أن يعنوا به تلك الخيمة المذكورة المعنية بقوله تعالى لآدم: قد أهبطت بيتا إلى آخر ما تقدم، أو كونها أهبطت مع آدم، بل المراد محل ذلك البيت الذي هو الخيمة قبل أن تنزل.

ويجوز أن يكون المراد تلك الخيمة أو نفس تلك الخيمة، بناء على أنها البيت المعمور، وأن الملائكة طافوا بها قبل نزولها إلى الأرض كما تقدم. قال: وعن وهب بن منبه: قرأت في كتاب من كتب الأول: ليس من ملك بعثه الله إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من تحت العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر، ثم يطوف سبعا بالبيت، ويصلي في جوفه ركعتين، ثم يصعد.

أقول: يجوز أن يكون المراد بإحرامه بنية الطواف بالبيت لا إحرامه بالعمرة بدليل قولة «ثم يطوف سبعا بالبيت» إلى آخره.

ويجوز أن يكون المراد بالبيت في كلام وهب محل تلك الخيمة ما يعم من وجد من الملائكة وبمن بعث بعد ذلك. ولا يخفى أن الأول يبعده قوله حتى يستلم الحجر.

وعلى الثاني يكون فيه دلالة على أن الحجر الأسود كان في تلك الخيمة يبتدأ الطواف بها منه. وجاء عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهما «إن الله «عَزَّ وجَلّ» أوحى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض، ابن لي بيتا، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بيتي الذي في السماء» وفي رواية «وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي» أي على ما تقدم، وهذا السياق بظاهره يوافق ما تقدم عن ابن عباس «رضي الله ع» أن هبوط آدم كان من الجنة إلى موضع الكعبة ابتداء، والله أعلم. قال «وجاء أن جبريل "عليه الصلاة والسلام بعثه الله تعالى إلى آدم وحواء، فقال لهما: ابنيا» أي قال لهما إن الله تعالى يقول لكما ابنيا لي بيتا. فخط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى أجابه الماء ونودي من تحته: حسبك يا آدم» وفي رواية «حتى إذا بلغ الأرض السابعة. فقذفت فيها الملائكة الصخر، ما يطيق الصخرة ثلاثون رجلا» اهـ.

وفيه أنه كان أمر آدم ببناء البيت بعد مجيئه إلى تلك الخيمة من الهند ماشيا خالف ظاهر ما تقدم عن عطاء وسعيد بن المسيب «أوحى الله تعالى إلى آدم أن اهبط إلى الأرض ابن لي بيتا» إذ ظاهره أنه أوحى إليه بذلك وهو في الجنة، إلا أن يقال المراد بالأرض في قوله اهبط إلى الأرض أرض الحرم: أي اذهب إلى أرض الحرم ابن لي بيتا.

ثم لا يخفى أن قوله فقذفت فيه الملائكة الصخر، يقتضي أن إلقاء الملائكة للصخر كان بعد حفر آدم، وهو لا يخالف ما تقدم عن كعب. «أنزل الله من السماء ياقوتة مجوفة مع آدم، فقال له: يا آدم هذا بيتي أنزلته معك، ونزل معه الملائكة، فرفعوا قواعده من الحجارة ثم وضع البيت عليها» فيكون إلقاء الملائكة للصخر بعد حفر آدم «فلما تم ذلك الأس جعل ذلك البيت فوق تلك الصخور» ويكون المراد بقوله ونزل معه الملائكة: أي صحبوه من أرض الهند إلى أرض الحرم.

وجاء في بعض الروايات إن آدم وحواء لما أسساه نزل البيت من السماء من ذهب أحمر وكل به من الملائكة سبعون ألف ملك فوضعوه على أس آدم، ونزل الركن فوضع موضعه اليوم من البيت فطاف به آدم» أي كما كان يطوف به قبل ذلك، وبهذا تجتمع الروايات. وحينئذ لا مانع أن ينسب بناء هذا الأساس الذي وضعت الملائكة عليه تلك الخيمة لآدم وأن ينسب للملائكة.

أما نسبته للملائكة فواضح. وأما نسبته لآدم فلأنه السبب فيه، أو لأنه كان إذا ألقت الملائكة الصخر يضع آدم بعضه على بعض، وعلى نسبة بناء ذلك الأس للملائكة ولآدم يحتمل القول بأن أول من بنى الكعبة الملائكة. والقول بأن أول من بنى الكعبة آدم فليتأمل.

وقد جاء أن آدم بناه من لبنان جبل بالشام، ومن طور زيتا جبل من جبال القدس، ومن طور سينا جبل بين مصر وإيليا.

وفي كلام بعضهم أنه جبل بالشام، وهو الذي نودي منه موسى "عليه الصلاة والسلام، ومن الجودي وهو جبل بالجزيرة، ومن حرا حتى استوى على وجه الأرض.

أقول: وفي رواية بناه من ستة أجيل: من أبي قيس ومن رضوى ومن أحد فالمتحصل من الروايتين أنه بناء من ثمانية أجبل، ولا مانع من ذلك، واستمر ذلك البيت الذي هو الخيمة إلى زمن نوح "عليه الصلاة والسلام، فلما كان الغرق بعث الله تعالى سبعين ألف ملك فرفعوه إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور كما في الكشاف، وكان رفعه لئلا يصيبه الماء النجس، وبقيت قواعده التي هي الأس. وفي العرائس: ثم طافت السفينة بأهلها الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء، حتى أتت الحرم: فلم تدخله ودارت بالحرم أسبوعا.

وقد رفع الله البيت الذي كان يحجه آدم صيانة له من الغرق، وهو البيت المعمور أي وكان حواء أسست البيت مع آدم يخالف ما جاء أن حواء أهبطت بجدة، وحرّم الله عليها دخول الحرم والنظر إلى خيمة آدم وإلى شيء من مكة لأجل خطيئتها، وأنها أرادت أن تدخل مع آدم إلى مكة فقال لها: إليك عني، قد خرجت من الجنة بسببك فتريدين أن أحرم هذا، فكان آدم إذا أراد أن يلقاها ليلم بها خرج من الحرم كله حتى يلقاها بالحل.

وذكر محمد بن جرير أن الله أهبط آدم على جبل سرنديب بالهند: أي وتقدم ما فيه وحواء بحدة بالحاء المهملة. وقيل بالجيم. فجاء آدم في طلبها فتعارفا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك عرفة، فاجتمعا بالمحل الذي قيل له بسبب ذلك جمع، وزلفت إليه في المحل الذي قيل له بسبب ذلك مزدلفة، وهذا يدل على أن جمع غير مزدلفة، وهو خلاف المشهور من أن جمع هو مزدلفة، إلا أن يقال كل من المحلين من جملة البقعة، وأطلق كل من الاسمين على جميع تلك البقعة.

وقيل اسمي المحل عرفة، لأن جبريل "عليه الصلاة والسلام لما علم إبراهيم "عليه الصلاة والسلام المناسك وانتهى إلى عرفة وقال له أعرفت مناسك؟ قال نعم. فسمى عرفة: أي والمراد مناسكه التي قبل عرفة، وإلا فعظم المناسك بعد عرفة، فليتأمل.

وفي الخصائص الصغرى عن رزين أنه روي «أن آدم "عليه الصلاة والسلام. قال: إن الله أعطى أمة محمد أربع كرامات لم يعطنيها: كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان» الحديث، وهو يدل على أن توبته كانت بسبب طوافه بالبيت. ويذكر أن حواء عاشت بعد آدم سنة.

وجاء «أن آدم لما فرغ من بناء البيت أمره الله تعالى بالمسير إلى أن يبني بيت المقدس، فسار وبناه ونسك فيه» وحينئذ لا يشكل قوله وقد قيل له: «أي مسجد وضع في الأرض أولا المسجد الحرام، قيل ثم أيّ؟ قال بيت المقدس، قيل: كم كان بينهما؟ قال أربعون سنة » وحينئذ لا حاجة لجواب الإمام البلقيني إن المراد أن المدة المذكورة بين أرضيهما في الدحوّ أي دحيت أرض المسجد الحرام، ثم بعد مضي مقدار أربعين سنة دحيت أرض بيت المقدس».

وفيه أن الإمام البلقيني إنما أجاب بذلك بناء على أن سيدنا إبراهيم "عليه الصلاة والسلام هو الباني للمسجد الحرام، والباني لمسجد بيت المقدس سيدنا سليمان "عليه الصلاة والسلام، فإن بينهما كما قيل أكثر من ألف عام. وكذا لا إشكال إذ كان الباني للمسجد الحرام آدم، والباني لمسجد بيت المقدس أحد أولاده كما قيل بذلك، ومن ثم أجاب بعضهم بأن سليمان إنما كان مجددا لبناء بيت المقدس: وأما المؤسس له فسيدنا يعقوب بن إسحاق بعد بناء جده إبراهيم للمسجد الحرام بالمدة المذكورة، وأما على أن الباني لهما آدم فلا إشكال. وفي رواية أن أول من بنى الكعبة أي كلها بعد أن رفعت تلك الخيمة بعد موت آدم شيث ولد آدم بناها بالطين والحجارة: أي فهي أولية إضافية، ثم لما جاء الطوفان انهدم وبقي محله. وقيل إنه استمر ولم يبنه أحد إلى زمن ابراهيم "عليه الصلاة والسلام.

ففي رواية «أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام لما أراد بناء الكعبة جاء جبريل فضرب بجناحه الأرض، فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة ثم بناها إبراهيم الخليل "عليه الصلاة والسلام على ذلك الأس» ويقال له القواعد: أي كما تقدم، وهذا الأس كما علمت لآدم أو للملائكة أولهما، وإنما قيل له أساس إبراهيم وقواعد إبراهيم لأنه بني على ذلك ولم ينقضه.

ومما يدل للقيل المذكور ما جاء في بعض الروايات عن عائشة «رضي الله ع» قالت دثر مكان البيت أي بسبب الطوفان، بدليل ما جاء في رواية «قد درس مكان البيت بين نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وكان موضعه أكمة حمراء، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض وما دعا عنده أحد إلا استجيب له».

وعن عائشة «رضي الله ع» «لم يحجه هود ولا صالح عليهما الصلاة والسلام، لتشاغل هود بقومه عاد، وتشاغل صالح بقومه ثمود».

وجاء «إن بين المقام والركن وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا»، وجاء «إن حول الكعبة لقبور ثلثمائة نبي، وإن ما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود لقبور سبعين نبيا، وكل نبي من الأنبياء إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله «عَزَّ وجَلّ» بها حتى يموت» وجاء «ما بين الركن اليماني والحجر الأسود روضة من رياض الجنة، وإن قبر هود وصالح وشعيب وإسماعيل في تلك البقعة ».

أقول: ويوافق ذلك قول بعضهم: إن إسماعيل دفن حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لكن جاء «إن قبر إسماعيل في الحجر» وذكر المحب الطبري أن البلاطة الخضراء التي بالحجر قبر إسماعيل "عليه الصلاة والسلام.

وقد يقال: لا منافاة بين كون هود وصالح لم يحجا البيت، وبين كونهما دفنا في تلك البقعة، لأنه يجوز أن يكونا ماتا قبل وصولهما إلى البيت، فجيء بهما ودفنا في تلك البقعة. على أن بعضهم ضعف كونهما لم يحجا: أي ويدل له أنه قد جاء «حجه هود وصالح ومن آمن معهما» وفي بعض الروايات «لم يحجه بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء» ويحتاج إلى الجمع بينه وبين ما تقدم من أن كل نبي إذا كذبه قومه إلى آخره على تقدير صحتها.

وقد يقال: لا يحتاج إلى الجمع إلا أن يثبت أن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، على أنه لم يكن بين نوح وإبراهيم أحد من الأنبياء كذبه قومه، إلا هود وصالح، وهو يؤيد القول بأنهما لم يحجا، وتقدم ضعفه. وجاء في حديث، راويه متروك «إن نوحا حجت به السفينة، فوقفت بعرفات، وبابت بمزدلفة، وطافت به أي بالحرم» كما تقدم أن السفينة لم تجاوز الحرم، وهذا لا يناسبه قوله «وسعت» لأن السعي بين الصفا والمروة، إلا أن يراد بالسعي نفس الطواف، فهو من عطف التفسير. وفي أنس الجليل ورد حديث شريف «إن السفينة طافت ببيت المقدس أسبوعا، واستوت على الجودي» أي وجاء «إن نوحا قال لأهل السفينة وهي تطوف بالبيت العتيق، إنكم في حرم الله وحول بيته، لا يمس أحد امرأة، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا» ويذكر أن ولده حاما تعدى ووطىء زوجته، فدعا عليه بأن يسود الله لون بنيه، فأجاب الله دعاءه في أولاده، فجاء ولده أسود، وهو أبو السودان.

وقيل في سبب دعوة نوح وسوادهم غير ذلك. وقد بينت ذلك في كتابي (إعلام الطراز المنقوش في فضائل الحبوش) والله أعلم. وقبر آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف في بيت المقدس: أي بعد نقل يوسف من بحر النيل كما سنذكره.

قال: وقد جاء «إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى إبراهيم: أن ابن لي بيتا، فقال إبراهيم: أي رب أين أبنيه؟ فأوحى الله تعالى إليه أن اتبع السكينة: أي وهي ريح لها وجه كوجه الإنسان: أي وقيل كوجه الهر وجناحان، ولها لسان تتكلم به: أي وفي الكشاف في تفسير السكينة التي كانت في التابوت الذي هو صندوق التوراة، قيل هو صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه».

وعن علي «رضي الله ع» «كان لها وجه كوجه الإنسان» هذا كلام الكشاف. وفي رواية «بعث الله ريحا يقال لها الخجوج لها جناحان، ورأس في صورة حية، فكشف لإبراهيم وإسماعيل ما حول البيت من أساس البيت الأول».

وفي رواية «أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس: يا إبراهيم إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس له: قد فعلت قال نعم، فارتفعت» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات وبينها وبين ما تقدم أن جبريل ضرب بجناحه الأرض فأبرز عن أس إلى آخره. وجاء «إن السكينة جعلت تسير ودليله الصرد» وهو الطائر المعروف: أي وهو طائر فوق العصفور يصيد العصافير وغيرها، لأن له صفيرا مختلفا يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته فيدعوه إلى القرب منه فإذا قرب منه قصمه من ساعته وأكله. ويقال له الصوام، لأنه ورد أنه أول طائر صام عاشوراء. فعن بعض الصحابة «رضي الله ع» «رآني رسول الله ﷺ وعلى يدي صرد فقال: هذا أول طير صام عاشوراء» لكن قال الذهبي هو حديث منكر. وقال الحاكم: حديث باطل.

ويذكر أن خالد بن الوليد لما قتل طليحة الكذاب الذي ادعى النبوة في زمنه، وقوي أمره بعد موته قال خالد لبعض أصحابه ممن أسلم: ما كان يقول لكم طليحة من الوحي؟ فقال: كان يقول: والحمام واليمام، والصدر الصوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. وقد سمع نبي الله سليمان "عليه الصلاة والسلام الصرد يصوّت فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبون.

وفي الكشاف أن ذلك صياح الهدهد، ولا مانع أن يكون ذلك صياحهما. وسمع طاوسا يصوت فقال: يقول كما تدين تدان. وسمع هدهدا يصوت فقال: يقول: من لا يرحم لا يرحم.

ويجمع بينه وبين ما تقدم بأنه يجوز أن الهدهد تارة يقول استغفروا الله يا مذنبون، وتارة يقول من لا يرحم لا يرحم. وسمع خطافا يصوت، فقال: يقول قدموا خيرا تجدوه. وسمع ديكا يصوت فقال: يقول: اذكروا الله يا غافلون. وسمع بلبلا يصوت فقال: يقول: إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاختة، فقال: إنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وسمع رخمة تصوت فقال: تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. وقال: الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغا تقول: ويل لمن الدنيا همه. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد عن الناس أنس.

وعن سيدنا سليمان صلوات الله وسلامه عليه: ليس من الطيور أنصح لبني آدم وأشفق عليهم من البومة، تقول إذا وقفت عند خربة: أين الذين كانوا يتنعمون بالدنيا، ويسعون فيها؟ ويل لبني آدم، وكيف ينامون وأمامهم الشدائد، تزودوا، يا غافلون، وتهيؤوا لسفركم.

وعن أنس بن مالك «رضي الله ع» قال: «خرجت مع رسول الله ﷺ فرأينا طيرا أعمى يضرب بمنقاره على شجرة، فقال النبي ﷺ: أتدري ما يقول: فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: إنه يقول: اللهم أنت العدل وقد حجبت عني بصري وقد جعت، فأقبلت جرادة فدخلت في فمه، ثم ضرب بمنقاره الشجرة، فقال "عليه الصلاة والسلام: أتدري ما يقول: قلت: لا، قال إنه يقول: من توكل على الله كفاه».

ويقال لما قال سليمان للهدهد، لأعذبنك عذابا شديدا، قال له الهدهد: اذكر يا نبي الله وقوفك بين يدي الله، فلما سمع سليمان صلوات الله وسلامه عليه ذلك ارتعد فرقا وعفا عنه: أي فإن الهدهد كان دليلا له على الماء، فإن الهدهد يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فلما فقد سليمان الماء تفقد الهدهد فلم يجده، فأرسل خلفه العقاب، فرآه الهدهد مقبلا من جهة اليمن، فلما رآه الهدهد منقضا عليه قال له بحق من أقدرك عليَّ إلا ما رحمتني.

قيل لابن عباس: يا سبحان الله! الهدهد يرى الماء تحت الأرض ولا يرى الفخ؟ فقال: إذا وقع القضاء عمي البصر. قيل عني سيدنا سليمان "عليه الصلاة والسلام بالعذاب الشديد الذي يعذبه به الهدهد التفرقة بينه وبين إلفه، وقيل إلزامه خدمة أقرانه، وقيل صحبة الأضداد وقد قيل: أضيق السجون عشرة الأضداد. وقيل الزوجة العجوز. قال تعالى حكاية عنه {علمنا منطق الطير}.

قال بعضهم: عبر عن أصواتها بالمنطق، لما يتخيل منها من المعاني التي تدرك من النطق، فسليمان صلوات الله وسلامه عليه مهما سمع من صوت طائر علم بقوته القدسية الغرض الذي أراده ذلك الطائر، وهذا في طائر لم يفصح بالعبارة، وإلا فقد يسمع من بعض الطيور الإفصاح بالعبارة. فنوع من الغربان يفصح بقوله: الله حق.

وعن بعضهم قال: شاهدت غرابا يقرأ سورة السجدة، وإذا وصل إلى محل السجود سجد وقال: سجد لك سوادي، وآمن بك فؤادي، والدرة تنطق بالعبارة الفصيحة.

وقد وقع لي أني دخلت منزلا لبعض أصحابنا وفيه درة لم أرها، فإذا هي تقول لي: مرحبا بالشيخ البكري وتكرر ذلك، فعجبت من فصاحة عبارتها.

وكان "عليه السلام" يعرف نطق الحيوان غير الطير، فقد جاء أن سليمان "عليه السلام" سمع النملة وقد أحست بصوت جنود سليمان، تقول للنمل {ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} فعند ذلك أمر سليمان الريح فوقفت حتى دخل النمل مساكنها، ثم جاء سليمان إلى تلك النملة وقال لها: حذرت النمل ظلمي، قالت: أما سمعت قولي {وهم لا يشعرون} على أني لم أرد حطم النفوس أي إهلاكها، إنما أردت حطم القلوب خشية أن يشتغلن بالنظر إليك عن التسبيح: أي فيمتن.

فقد جاء مرفوعا «آجال البهائم كلها وخشاش الأرض في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها، قبض الله أرواحها» ويروى «ما من صيد يصاد ولا شجرة تقطع إلا بغفلتها عن ذكر الله تعالى» وفي الحديث «الثوب يسبح، فإذا اتسخ انقطع تسبيحه» وفي رواية «إن النملة قالت له إنما خشيت أن تنظر إلى ما أنعم الله به عليك فتكفر نعم الله عليها، فقال لها: عظيني، قالت: هل تدري لم جعل ملكك في فص خاتمك؟ قال لا، قالت: أعلمك أن الدنيا لا تساوي قطعة من حجر».

ومن عجيب صنع الله تعالى أن النملة تغتذى بشم الطعام، لأنها لا جوف لها يكون به الطعام. ويذكر أن هذه النملة التي خاطبت سيدنا سليمان أهدت له نبقة فوضعتها في كفه.

ويحكى عنها لطيفة لا نطيل بذكرها. وفي فتاوى الجلال السيوطي. قال الثعالبي في زهرة الرياض: لما تولى سليمان "عليه الصلاة والسلام الملك جاءه جميع الحيوانات يهنئونه إلا نملة واحدة فجاءت تعزيه، فعاتبها النمل في ذلك، فقالت: كيف أهنيه وقد علمت أن الله تعالى إذا أحب عبدا زوى عنه الدنيا وحبب إليه الآخرة. وقد شغل سليمان بأمر لا يدرى ما عاقبته، فهو بالتعزية أولى من التهنئة.

وجاء في بعض الأيام شراب من الجنة، فقيل له: إن شربته لم تمت، فشاور جنده، فكل أشار بشربه إلا القنفذ فإنه قال له: لا تشربه، فإن الموت في عز خير من البقاء في سجن الدنيا، قال صدقت، فأراق الشراب في البحر.

قال: وصار إبراهيم وإسماعيل صلوات الله وسلامه عليهما يتبعان الصرد حتى وصلا إلى محل البيت صارت السكينة سحابة، وقالت: يا إبراهيم خذ قدر ظلي فابن عليه: أي وفي لفظ «لما أمر إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة وهي ريح خجوج ملتوية في هبوبها لها رأس» الحديث فحفر إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فأبرزا أي الحفر عن أس ثابت في الأرض. فبنى إبراهيم وإسماعيل يناول الحجارة: أي التي تأتي بها الملائكة، كما سيأتي حتى ارتفع البناء اهـ.

أقول: يحتمل أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، لما أوحى الله إليه بذلك كان في مكة عند إسمعيل وإنهما كانا بمحل بعيد عن محل البيت. ويحتمل أنهما كانا بغيرها ثم جاءا.

وقد قيل في قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله} الآية: أي قائما مقام الأمة لانفراده بعبادة الله تعالى في أرضه، لأنه لم يمكن على وجه الأرض من يعبد الله سواه، والله أعلم.

قال: ثم لما ارتفع البناء جاء المقام أي وهو الحجر المعروف، فقام عليه وهو يبني وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} وصار كلما ارتفع البناء ارتفع به المقام في الهواء، فأثر قدم إبراهيم في ذلك الحجر. وقيل إنما أثر في صخرة اعتمد عليها وهو قائم حين غسلت زوجة إسماعيل له رأسه، لأن سارة كانت أخذت عليه عهدا حين استأذنها في الذهاب إلى مكة لينظر كيف حال إسماعيل وهاجر، فحلف لها إنه لا ينزل عن دابته: أي التي هي البراق ولا يزيد على السلام واستطلاع الحال، غيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة ألقى الله تعالى فيها أثر قدمه آية، وفيه كيف يعتمد بقدمه على الصخرة وهو راكب دابته؟ إلا أن يقال لما مال بشقه اعتمد عليها بإحدى رجليه مع ركوبه، وهذا يدل على أن الموجود في المقام أثر قدمه لا قدميه، ووقوفه عليه في حال البناء يدل على أن الموجود فيه أثر قدميه فلينظر، وجعل ارتفاع البيت تسعة أذرع، قيل وعرضه ثلاثين ذراعا. قال بعضهم: وهو خلاف المعروف، ولم يجعل له سقفا ولا بناه بمدر، وإنما رصه رصا وجعل له بابا: أي منفذا لاصقا بالأرض، غير مرتفع عنها، ولم ينصب عليه بابا: أي يقفل، وإنما جعله تبع الحميري بعد ذلك، وحفر له بئرا داخله عند بابه: أي على يمين الداخل منه يلقى فيها ما يهدى إليه، وكان يقال لها خزانة الكعبة كما تقدم.

ولما أراد أن يجعل حجرا يجعله علما للناس: أي يبتدئون الطواف منه ويختمون به، ذهب إسماعيل "عليه الصلاة والسلام إلى الوادي يطلب حجرا، فنزل جبريل "عليه الصلاة والسلام بالحجر الأسود يتلألأ نورا: أي فكان نوره يضيء إلى منتهى أبواب الحرم من كل ناحية. وفي الكشاف: إنه اسودّ لما لمسته الحيض في الجاهلية، وتقدم أنه اسودّ من مسح آدم به دموعه. وجاء «إن خطايا بني آدم سودته» وأما شدة سواده فبسبب إصابة الحريق له أولا في زمن قريش، وثانيا في زمن عبدالله بن الزبير، وقد كان رفع إلى السماء حين غرقت الأرض زمن نوح، بناء على أنه كان موجودا في تلك الخيمة كما تقدم. وفي رواية: إن إبراهيم عليه الصلاة لما قال لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا، قال: يا أبتي إني كسلان لغب أي تعب، قال: عليّ بذلك، فانطلق يأتيه بحجر، فجاءه جبريل بالحجر من الهند وهو الحجر الذي خرج به آدم من الجنة: أي كما تقدم فوضعه إبراهيم موضعه، وقيل وضعه جبريل وبنى عليه إبراهيم، وجاء إسماعيل بحجر من الوادي فوجد إبراهيم قد وضع ذلك الحجر: أي أو بنى عليه فقال: من أين هذا الحجر؟ من جاءك به؟ قال إبراهيم "عليه الصلاة والسلام: من لا يكلني إليك ولا إلى حجرك: أي وفي لفظ «جاءني به من هو أنشط منك» وفي لفظ «إن إسماعيل جاءه بحجر من الجبل، قال: غير هذا، فرده مرارا لا يرضى ما يأتيه به» وجاء «إن الله تعالى استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح "عليه الصلاة والسلام، وقال: إذا رأيت خليلي يبني بيتي فأخرجه له: أي فلما انتهى إبراهيم "عليه الصلاة والسلام لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم، فقال: يا إبراهيم هذا الركن فجاء فحفر عنه فجعله في البيت» وقيل تمحض أبو قبيس فانشق عنه.

أقول: وفي لفظ قال: «يا إبراهيم يا خليل الرحمن إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من يواقيت الجنة » ومن ثم كان أبو قبيس يسمى في الجاهلية الأمين لحفظه ما استودع، ويسمى أبا قبيس باسم رجل من جرهم اسمه قبيس هلك فيه. وقيل باسم رجل من مذحج بنى فيه يقال له أبو قبيس. وقيل لأنه اقتبس منه الحجر الأسود فسمي بذلك، ويحتاج إلى الجمع بين ما ذكر على تقدير صحته، وما ذكر في ترجمة إلياس أحد أجداده أنه أول من وضع الركن: أي الحجر الأسود حين غرق البيت وانهدم زمن نوح، فكان أول من سقط عليه: أي أول من علم به، فوضعه في زاوية البيت فليتأمل ذلك، والله أعلم: أي وعن عبد الله بن عمر «رضي الله ع» أنه قال عند المقام: أشهد بالله يكررها لسمعت رسول الله ﷺ يقول: «الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولولا أن نورهما طمس لأضاء ما بين المشرق والمغرب» أي من نورهما، ولعل طمس نور الحجر كان سببه ما تقدم فلا مخالفة.

وجاء «إنهما يقفان يوم القيامة وهما في العظم مثل أبي قبيس، يشهدان لمن وافاهما بالوفاء» وعن ابن عباس «رضي الله ع» «لولا ما مسهما من أهل الشرك، ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله تعالى».

وعن جعفر الصادق «رضي الله ع»: لما خلق الله الخلق، قال لبني آدم: ألست بربكم؟ قالوا بلى، فكتب القلم إقرارهم، ثم ألقم ذلك الكتاب الحجر، فهذا الاستلام له إنما هو بيعة على إقرارهم الذي كانوا أقروا به. قال «رضي الله ع»: وكان أبي عليّ يقول: إذا استلم الحجر يقول: اللهم أمانتي أديتها، وميثاقي وفيت به ليشهد لي عندك بالوفاء. وفي كلام السهيلي «إن العهد الذي أخذه الله تعالى على ذرية آدم حين مسح ظهره أن لا يشركوا به شيئا كتبه في صك وألقمه الحجر الأسود، ولذلك يقول المستلم اللهم إيمانا بك، ووفاء بعدك» وقد جاء «الحجر الأسود يمين الله في الأرض».

قال الإمام ابن فورك: وكان ذلك سببا لاشتغالي بعلم الكلام، فإني لما سمعت ذلك سألت فقيها كنت أختلف إليه عن معناه فلم يحر جوابا، فقيل لي: سل عن ذلك فلانا من المتكلمين، فسألته فأجاب بجواب شافٍ، فقلت لا بد لي من معرفة هذا العلم، فاشتغلت به، وهذا الذي قاله السهيلي يروي عن علي بن أبي طالب «رضي الله ع».

فعن سيدنا عمر «رضي الله ع» «أنه لما دخل المطاف قام عند الحجر وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ قبلك ما قبلتك. فقال له عليّ «رضي الله ع»: بلى يا أمير المؤمنين، هو يضر وينفع. قال ولم؟ قلت: ذاك بكتاب الله، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قلت: قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم} الآية. وكتب ذلك في رق، وكان هذا الحجر له عينان ولسان، فقال له افتح فاك فألقمه ذلك الرق، وجعله في هذا الموضع، فقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة، فقال عمر «رضي الله ع»: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن».

وعن قتادة قال: ذكر لنا أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام بني البيت من خمسة أجبل من طور سيناء وطور زيتاء ولبنان والجوديّ وحراء.

وذكر لنا أن قواعده من حراء التي وضعها آدم مع الملائكة.

أقول: تقدم أن تلك القواعد كانت من جبل لبنان، ومن طور سيناء، ومن طور زيتا، ومن الجودي، ومن حراء، إلا أن يقال يجوز أن يكون معظم ذلك كان من حراء فليتأمل.

وذكر بعضهم أنه كان له ركنان، وهما اليمانيان: أي لم يجعل له إبراهيم "عليه الصلاة والسلام إلا الركنين المذكورين، فجعلت له قريش حين بنته أربعة أركان.

وذكر الحافظ ابن حجر أن ذا القرنين الأول وهو المذكور في القرآن في قصة موسى "عليه الصلاة والسلام وهو إسكندر الرومي، قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام يبنيان الكعبة فاستفهمهما عن ذلك، فقالا: نحن عبدان مأموران، فقال لهما: من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش شهدت: أي قلن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران بالبناء، فقال: رضيت وسلمت وقال لهما صدقتما.

وعن ابن عباس «رضي الله ع»: لما كان إبراهيم "عليه الصلاة والسلام بمكة وأقبل ذو القرنين: عليهما فلما كان بالأبطح قيل له: في هذه البلدة إبراهيم خليل الرحمن. فقال ذو القرنين: ما ينبغي لي أن أركب في بلدة فيها إبراهيم خليل الرحمن، فنزل ذو القرنين ومشى إلى إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه إبراهيم واعتنقه، فكان هو أول من عانق عند السلام.

قال الفاكهي: وأظن أن الأكبش المذكورة: أي التي شهدت أحجارا، ويحتمل أن تكون غنما.

ووصف ذي القرنين بالأكبر احترازا من ذي القرنين الأصغر وهو الإسكندر اليوناني فإنه كان قريبا من زمن عيسى "عليه الصلاة والسلام، وبين عيسى وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام أكثر من ألفي سنة وكان كافرا والله أعلم.

وعن ابن عباس «رضي الله ع»: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال: يا رب قد فرغت، قال: أذن في الناس بالحج، قال: أي رب ومن يبلغ صوتي؟ قال الله جل ثناؤه: أذن وعليّ البلاغ، قال: أي رب كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم «عَزَّ وجَلّ»، فوقف على المقام وارتفع به حتى كان أطول الجبال، فنادى وأدخل أصبعيه في أذنيه، وأقبل بوجهه شرقا وغربا ينادي بذلك ثلاث مرات: أي وزويت الأرض له يومئذ سهلها وجبلها وبحرها وبرها وإنسها وجنها حتى أسمعهم جميعا فقالوا؟ لبيك اللهم لبيك، وبدأ بشق اليمن، وحينئذ يكون أول من أجاب أهل اليمن، وسيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات.

وعن ابن عباس «رضي الله ع»: كان أهل اليمن أكثر إجابة ومن ثم جاء في الحديث «الإيمان يمان» وقال في حق أهل اليمن «يريد أقوام أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم».

وروى الطبراني بإسناده عن علي «رضي الله ع» قال: قال رسول الله: «من أحب أهل اليمن فقد أحبني، ومن أبغضهم فقد أبغضني».

ومما يؤثر عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقد ذكر في تفسير قوله تعالى: {فيه آيات بينات مقام إبراهيم} هو نداء إبراهيم على المقام بما ذكر.

وقيل له البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة لم يدعه: أي بحيث ينسب إليه جبار من الجبابرة الذين كانوا بمكة مع العمالقة وجرهم.

وقال القاضي تبعا للكشاف: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى. قال: وأما الحجاج فإنما كان قصده إخراج ابن الزبير عنه لما تحصن به دون التسلط عليه كذا قال.

قال بعضهم: وعن عبد الله بن عمر أنه قال: إنما سميت بكة أي بالموحدة، لأنها كانت تبك أعناق الجبابرة، ولينظر من قصده ليهدمه من الجبابرة غير أبرهة.

ثم رأيت في المشرف أن ثلاثة غيره قصدوا هدمه: اثنان قاتلتهما خزاعة ومنعتهما، والثالث كان في أول زمان قريش، أراد هدمه حسدا على شرف الذكر لقريش به وأن يبني عنده بيتا يصرف حجاج العرب إليه، فلما قارب مكة أظلمت الأرض وأيقن بالهلاك، فأقلع عن تلك النية ونوى أن يكسو البيت وينحر عنده، فانجلت الظلمة ففعل ذلك.

وفيه أن هذا الذي حصلت له الظلمة إنما هو تبع الأول، فإنه لما عمد إلى البيت يريد تخريبه، أرسلت عليه ريح كتعت منه يديه ورجليه، وأصابته وقومه ظلمة شديدة. وفي رواية أصابه داء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا: أي يثج ثجا حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه، فدعا بالأطباء فسألهم عن دائه فهالهم ما رأوا منه ولم يجد عندهم فرجا، فعند ذلك قال له الحبر: لعلك هممت بشيء في حق هذا البيت؟ فقال: نعم، أردت هدمه فقال له تب إلى الله مما نويت فإنه بيت الله وحرمه، وأمره بتعظيم حرمته ففعل فبرىء من دائه.

وقيل لأنه أول بيت وضع في الأرض، وقيل لأنه أعتق من الغرق بسبب الطوفان في زمن نوح "عليه الصلاة والسلام، كذا في الكشاف وغيره. وفيه نظر ظاهر، لما تقدم من دثوره بالطوفان، ولما ذكر في قصة نوح أنه لما بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض، فوقفت بوادي الحرم. فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، إلا أن يقال إن معنى أعتق أنه لم يذهب بالمرة، بل بقي أثره.

وفي الخميس عن ابن هشام أن ماء الطوفان لم يصل للكعبة، ولكن قام حولها، وبقيت هي في هواء السماء: أي بناء على الكعبة هي الخيمة التي كانت على زمن آدم "عليه الصلاة والسلام. وتقدم عن الكشاف أنها رفعت إلى السماء الرابعة، وأنها البيت المعمور. وهذا كما علمت يدل على أن المراد بالكعبة الخيمة التي كانت لآدم، وقوله قام حولها يريد أنه لم يعل محل تلك الخيمة، ولعله لا ينافيه ما تقدم في قصة نوح فليتأمل.

وفي رواية: أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام نادى: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج» وفي لفظ «إن ربكم قد اتخذ بيتا وطلب منكم أن تحجوه فأجيبوا ربكم كرر ذلك ثلاث مرات، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من كان سبق فيعلم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك، فليس حاج يحج إلى أن تقوم الساعة إلا ممن كان أجاب إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، ومن لبى تلبية واحدة حج حجة واحدة ومن لبى مرتين حج حجتين وهكذا» وفي لفظ «لما نادى إبراهيم "عليه الصلاة والسلام فما خلق الله من جبل ولا شجر ولا شيء من المطيعين له إلا أجاب: لبيك اللهم لبيك».

أقول: لا يخفى أنه يحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات فيما نادى به إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، وسيأتي. ومعلوم أن إجابة غير العقلاء إجابة إجلال وتعظيم، ولعل المراد بالكتب مطلق الطلب لا خصوص الوجوب، لأنه لم يفرض الحج على هذه الأمة إلا بعد الهجرة في السنة السادسة، وقيل التاسعة، وقيل العاشرة كما سيأتي. وأما بقية الأمم من بعد إبراهيم فلم أقف على وجوب الحج عليها.

وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصحيح أنه لم يجب الحج إلا على هذه الأمة واستغرب. وفي الخصائص الصغرى: وافترض عليهم أي على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل وهو الوضوء والغسل من الجنابة والحج والجهاد، وهو يفيد أنه كان واجبا على الأنبياء والرسل. وفيه أن الأصل أن ما وجب في حق نبي وجب في حق أمته إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية، وقوله وهو الوضوء سيأتي ما في الوضوء والله أعلم: أي ثم أمر بالمقام فوضعه قبله: أي ملصقا بالبيت على يمين الداخل، فكان يصلي إليه مستقبل الباب: أي جهته، وأول من أخره عن ذلك المحل ووضعه موضعه الآن عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أي وقد تقدم ذلك عن ابن كثير.

أقول: وقيل إن أول من وضعه موضعه الآن النبي ﷺ في فتح مكة. وسيأتي الجمع بين هذين القولين ويأتي ما فيه.

وذكر الطبري أن محله أولا المنخفض: أي الذي تسميه العامة المعجنة: أي محل عجن الطين للكعبة، وذلك المنخفض هو محل صلاة جبريل به الصلوات الخمس في اليومين كما سيأتي.

ونازع في ذلك العز بن جماعة، وقال: لو كان ذلك لشهر عليه بالكتابة في الحفرة. وردّ بأن ذلك ليس بلازم والناقل ثقة، وهو حجة على من لم ينقل.

وذكر ابن حجر الهيتمي أن في رواية أخرى عن ابن عباس «رضي الله ع» أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام صعد أبا قبيس، وقيل صعد ثبيرا وأذن، وأن أول من أجابه أهل اليمن: أي لما تقدم أنه بدأ بشق اليمن. ولا مانع من تعدد ذلك: أي وقوفه على تلك الأماكن التي هي المقام وأبو قبيس وثبير. ويجوز أن يكون قال في بعض تلك الأماكن ما لم يقله في غيره مما تقدم، فلا مخالفة بين تلك الروايات فيما نادى به إبراهيم "عليه الصلاة والسلام. وجاء إنه لما فرغ دعائه ذهب به جبريل، فأراه الصفا والمروة وحدود الحرم، وأمره أن ينصب عليها الحجارة، ففعل وعلمه المناسك: أي مع إسماعيل عليهما الصلاة والسلام.

ففي العرائس: خرج جبريل بهما يوم التروية إلى منى، فصلى بهما الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم باتا بها حتى أصبحا، فصلى بهما صلاة الصبح، ثم غدا بهما إلى عرفة، فقام بهما هناك حتى زالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر، ثم رجع بهما إلى الموقف من عرفة، فوقف بهما على الموقف الذي يقف عليه الناس الآن، فلما غربت الشمس دفع بهما إلى مزدلفة، فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثم بات بهما حتى طلع الفجر، ثم صلى بهما صلاة الغداة، ثم وقف بهما على قزح حتى إذا أسفر أفاض بهما إلى منى، فأراهما كيف رمى الجمار، ثم أمرهما بالذبح، وأراهما المنحر من منى وأمرهما بالحلق، ثم أفاض بهما إلى البيت، فليتأمل ذلك فإن فيه التصريح بأن إبراهيم وإسماعيل صليا مع جبريل جماعة الصلوات الخمس، وجمعا تقديما بين الظهر والعصر، وتأخيرا بين المغرب والعشاء للنسك، وهو مخالف لقول أئمتنا لم تجمع الصلوات الخمس إلا لنبينا.

ففي الخصائص الصغرى: وخص بمجموع الصلوات الخمس، ولم تجتمع لأحد، وبالعشاء ولم يصلها أحد، وبالجماعة في الصلاة إلا أن يدعى أن المراد الجمع على جهة المداومة على ذلك لجواز أن يكون إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام لم يداوما على ذلك، وفيه ما لا يخفى.

وفي الوفاء عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى آدم "عليه الصلاة والسلام «أنا الله ذو بكة، أهلها جيرتي، وزوارها وفدي وفي كنفي، أعمره بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجا شعثا غبرا، يعجون بالتكبير عجا، ويرجّون بالتلبية ترجيجا، ويثجون بالكباء ثجا. فمن اعتمره لا يريد غيره فقد زارني وضافني ووفد إليّ ونزل بي، وحق لي أن أتحفه بكرامتي، أجعل ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وثناءه لنبي من ولدك يقال له إبراهيم، أرفع له قواعده، وأقضي على يديه عمارته، وأنيط له سقايته، وأريه حله وحرمه، وأعلمه مشاعره، ثم يعمره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له محمد خاتم النبيين، وأجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، فمن سأل عني يومئذ فأنا من الشعث الغبر، الموفين بنذورهم، المقبلين على ربهم».

ولما دعا إبراهيم "عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وارزقهم من الثمرات} أي دعا بذلك وهو على ثنية كداء بالمد. فعن ابن عباس «رضي الله ع» أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام حين قال: {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات} كان على الثنية العليا ذكره السهيلي، وعند ذلك نقل له الطائف من فلسطين من أرض الشام: أي وببركة دعائه "عليه الصلاة والسلام يوجد بمكة الفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد، ذكره في الكشاف.

ثم لما فرغ: أي من بناء البيت وحج وطاف بالبيت لقيته الملائكة في الطواف فسلموا عليه، فقال لهم: ما تقولون في طوافكم؟ قالوا: كنا نقول قبل أبيك آدم: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فأعلمناه بذلك، فقال: زيدوا ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال إبراهيم "عليه الصلاة والسلام: زيدوا فيها العليّ العظيم. فقالت الملائكة ذلك.

وكان بناء إبراهيم للبيت بعد مضي من عمره مائة سنة، ثم بناه العماليق، ثم بنته جرهم، وقيل عكسه. وقد يتوقف في بناء العماليق له.

أما في الأول فلأن أول من نزل مكة مع هاجر وولدها إسماعيل جرهم، وإنهم بعد إسماعيل وبعض ولده كانوا ولاة البيت. وأما في الثاني، فلأن ولاية البيت كانت لخزاعة بعد جرهم كما تقدم، وكيف يبنون البيت ولا ولاية لهم عليه، إلا أن يقال: لا مانع أن يكونوا حينئذ أهل ثروة، بخلاف جرهم وخزاعة.

ثم رأيت عن ابن عباس «رضي الله ع» أن العماليق كانوا في عزّ وكانت لهم أموال كثيرة، وأن الله سلبهم ذلك لما تظاهروا بالمعاصي، وسلط عليهم الذر حتى خرجوا من الحرم، وتفرقوا وهلكوا، والذر في النمل كالزنبور في النحل.

وفي تاريخ مكة للفاكهي أن العماليق قدموا مكة لما قدم وفد عاد للاستسقاء بالبيت. وقيل كانوا بعرفة. ولما أخرج الله تعالى زمزم لإسماعيل بواسطة جبريل. ففي (ربيع الأبرار) أن جبريل أخرج ماء زمزم مرتين: مرة لآدم، ومرة لإسماعيل، وعند ذلك تحولوا إلى مكة. قال المقريزي: لما علموا بذلك. وقيل كانوا بعد جرهم، ولا يصح ذلك. ثم رأيت المقريزي قال: وفي كتاب أخبار مكة للفاكهي ما يدل على تقدم بناء جرهم على بناء العمالقة، ولا يصح ذلك لاتفاقهم على أن ولاية العمالقة على مكة كانت قبل ولاية جرهم، وعلى أنه لم يل مكة بعد جرهم إلا خزاعة.

ولا يخفى أن هذا صريح في أن العمالقة بنته ولا بد، وأن بناءهم له كان قبل بناء جرهم له، والعماليق من ولد عملاق أو عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح "عليه الصلاة والسلام. قيل وهو أول من كتب بالعربية، وقيل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. ثم بناه قصي جده، وسقفه بخشب الروم وجريد النخل. ثم بنته قريش كما تقدم. ثم بناه بعد قريش عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» أي ويكنى أبا خبيب، بضم الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة، وكني بأبي خبيب لأن خبيبا كان رجلا بالمدينة من النساك، طويل الصلاة، قليل الكلام: أي وعبد الله «رضي الله ع» كان مشابها له في ذلك، فكني به.

هذا، وفي كلام ابن الجوزي أنه كان لعبد الله بن الزبير ولد يقال له خبيب حيث قال خبيب بن عبد الله بن الزبير ضربه عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد مائة سوط فمات، لأنه لما حدّث عن النبي ﷺ أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا، وفي رواية ثلاثين رجلا، وفي رواية: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا. وفي رواية إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا اتخذوا عباد الله تعالى خولا: أي عبيدا، ومال الله دولا، ودين الله دغلا. وفي رواية بدل دين الله كتاب الله. قال ابن كثير: وهذا الحديث أي ذكر بني أمية وذكر الأربعين منقطع. ولما بلغ الوليد ما ذكر خبيب كتب لابن عمه عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة أن يضرب خبيبا هذا مائة سوط ففعل، ثم برّد ماء في جرة وصبه أي في يوم شات عليه وحبسه، فلما اشتد وجعه أخرجه وندم على ما فعل. فلما مات وسمع بموته سقط إلى الأرض واسترجع، واستعفى من ولاية المدينة، فكان عمر بن عبد العزيز إذا قيل له أبشر، قال: كيف أبشر وخبيب على الطريق أي عائق لي.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت عند معاوية بن أبي سفيان ومعه ابن عباس على السرير، فدخل عليه مروان بن الحكم، فكلمه في حاجته وقال: اقض حاجتي يا أمير المؤمنين، فوالله إن مؤنتي لعظيمة، فإني أبو عشرة، وعم عشرة، وأخو عشرة، فلما أدبر مروان قال معاوية لابن عباس «رضي الله ع»: أشهدك بالله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ﷺ قال: «إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله بينهم دولا، وعباد الله تعالى خولا، وكتاب الله دغلا، فإذا بلغوا تسعة وتسعين وأربعمائة كان هلاكهم أسرع من لوك تمرة؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم» ثم ذكر مروان حاجة فردّ مروان ولده عبد الملك إلى معاوية فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية: أنشدك الله يا ابن عباس أما تعلم أن رسول الله ﷺ ذكر هذا؟ فقال: أبو الجبابرة الأربعة، فقال ابن عباس: اللهم نعم، فإن أربعة من ولدة ولوا الخلافة، فليتأمل هذا فإنه ربما يدل على أن عبد الملك صحابي، إلا أن يقال ذكره قبل وجوده فهو من أعلام نبوته وفي كلام ابن كثير: هذا الحديث فيه غرابة ونكارة شديدة. هذا، وقد رأيت عن بعض حواشي الكشاف أن أعداء عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» هم الذين كانوا يكنونه بأبي خبيب، لأن خبيبا كان من أخس أولاده، ويرده قول بعضهم: يغلب للشرف كالخبيبين لخبيب بن عبد الله بن الزبير وأخيه مصعب.

وذكر ابن الجوزي أيضا فيمن ضرب بالسياط من العلماء سعيد بن المسيب، ضربه عبد الملك بن مروان مائة سوط، لأنه بعث ببيعة الوليد إلى المدينة فلم يبايع سعيد، فكتب أن يضرب مائة سوط ويصب عليه جرة ماء في يوم شات ويلبس جبة صوف ففعل به ذلك، أي كما فعل بخبيب.

ثم رأيت في تاريخ الحافظ ابن كثير لما عهد عبد الملك لولده الوليد في حياته وانتهت البيعة إلى المدينة امتنع سعيد بن المسيب أن يبايع، فضربه نائب المدينة ستين سوطا، وألبسه ثيابا من شعر، وأركبه جملا وطاف به في المدينة، ثم أودع السجن، فلما بلغ ذلك عبد الملك أرسل يعنف والي المدينة على ذلك ويأمره بإخراجه من الحبس، هذا كلامه.

وفي كلام البلاذري، وكان جابر بن الأسود عاملا لابن الزبير على المدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب ستين سوطا، إذ لم يبايع لابن الزبير، هذا كلامه. إلا أن يقال: لا مانع أن يكون سعيد فعل به الأمران لأن ولاية ابن الزبير سابقة على ولاية عبد الملك والد الوليد.

ثم رأيت الحافظ ابن كثير صرح بذلك حيث ذكر أن سعيد بن المسيب ضرب بالسياط المذكورة، وفعل به ما تقدم لما امتنع من المبايعة لابن الزبير، وفعل به ذلك أيضا لما امتنع من البيعة للوليد.

وفي طبقات الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في ترجمة سعيد بن المسيب: وضربه عبد الملك بن مروان حيث امتنع من مبايعته، وألبسه المسوح، ونهى الناس عن مجالسته، فكان كل من جلس إليه يقول له: قم لا تجالسني فإنهم قد جلدوني ومنعوا الناس عن مجالستي هذا كلامه، إلا أن يقال، المراد امتنع من قبول مبايعة عبد الملك لولده الوليد فلا مخالفة، وإنما امتنع سعيد بن المسيب من المبايعة للوليد، لأنه روي عن النبي: «إنه سيكون في هذه الأمة رجل يقال له الوليد فهو شر لأمتي من فرعون لقومه» وفي رواية «هو أضر على أمتي من فرعون على قومه» زاد في رواية «يسد به ركن من أركان جهنم» وفي لفظ «زاوية من زوايا جهنم» فكان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك. قال ابن كثير: وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لا الوليد بن عبد الملك الذي هو عمه.

وكان سعيد بن المسيب أعبر الناس للرؤيا قال له رجل: رأيت كأني أبول في يدي، فقال: تحتك ذات محرم، فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاعة. وأخذ سعيد تعبير الرؤيا عن أسماء بنت أبي بكر وهي أخذت ذلك عن والدها أبي بكر «رضي الله ع». وعن سعيد أخذ ابن سيرين ذلك.

وعن ابن سيرين: كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي، وكان يعبر الرؤيا في زمنه وفي حضرته. وعن الزهري «رأى رسول الله ﷺ رؤيا فقصها على أبي بكر. فقال: رأيت كأني استبقت أنا وأنت درجة فسبقتك بمرقاتين ونصف. قال: يا رسول الله يقبضك الله إلى مغفرة ورحمة، وأعيش بعدك سنتين ونصفا» فكان كما عبر فقد عاش بعده سنتين وسبعة أشهر وقال له: «رأيتني أردفت غنما سودا ثم أردفتها غنما بيضا حتى ما ترى السود فيها، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما الغنم السود فإن العرب يسلمون ويكثرون، والغنم البيض الأعاجم يسلمون حتى لا ترى العرب فيهم من كثرتهم. فقال رسول الله ﷺ: كذلك عبرها الملك سحيرا».

وسبب بناء عبد الله بن الزبير للكعبة أن يزيد بن معاوية لما وجه الجيش عشرين ألف فارس وسبعة آلاف راجل وأميرهم مسلم بن قتيبة لقتال أهل المدينة، لما علم أنهم خرجوا عن طاعته: أي وأظهروا شتمه وأعلنوا بأنه ليس له دين، لأنه اشتهر عنه نكاح المحارم وإدمان شرب الخمر وترك الصلاة وأنه يلعب بالكلاب: أي فقد ذكر بعض ثقات المؤرخين أنه كان له قرد يحضره مجلس شرابه ويطرح له وسادة ويسقيه فضلة كأسه، واتخذ له أتانا وحشية قد ربضت له وصنع لها سرجا من ذهب يركب عليها ويسابق بها الخيل في بعض الأيام، وكان يلبس عليه قباء وقلنسوة من الحرير الأحمر.

وقد استفتى الكيا الهراسي من أكابر أئمتنا معاشر الشافعية، كان من رؤوس تلامذة إمام الحرمين نظير الغزالي عن يزيد هذا هل هو من الصحابة؟ وهل يجوز لعنه؟ فأجاب بأنه ليس من الصحابة لأنه ولد في أيام عمر بن الخطاب. وللإمام أحمد قولان: أي في لعنه تلويح وتصريح، وكذلك الإمام مالك وكذا لأبي حنيفة.

ولنا قول واحد التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك، وهو اللاعب بالنرد والمصيد بالفهود ومدمن الخمر وشعره في الخمر معلوم، هذا كلامه.

وسئل الغزالي هل من صرح بلعن يزيد يكون فاسقا؟ وهل يجوز الترحم عليه؟ فأجاب بأن من لعنه يكون فاسقا عاصيا، لأنه لا يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، فقد ورد النهي عن ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي، ويزيد صح إسلامه وما صح أمره بقتل الحسين ولا رضاه بقتله، وما لم يصح منه ذلك لا يجوز أن يظن به ذلك، فإن إساءة الظن بالمسلم حرام، وإذا لم يعرف حقيقة الأمر وجب إحسان الظن به، ومع هذا فالقتل ليس بكفر بل هو معصية، وأما الترحم عليه فهو جائز بل هو مستحب، لأنه داخل في المؤمنين في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، هذا كلامه. وكان على ما أفتى به الكيا الهراسي من جواز التصريح بلعنه أستاذنا الأعظم الشيخ محمد البكري تبعا لوالده الأستاذ الشيخ أبي الحسن.

وقد رأيت في كلام بعض أتباع أستاذنا المذكور في حق يزيد ما لفظه: زاده الله خزيا وضعه، وفي أسفل سجين وضعه.

وفي كلام ابن الجوزي: أجاز العلماء الورعون لعنه، وصنف في إباحة لعنه مصنفا.

وقال السعد التفتازاني: إني لأشك في إسلامه، بل في إيمانه، فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وعلى هذا يكون مستثنى من عدم جواز لعن الكافر المعين بالشخص.

ولما خلعوا: أي أهل المدينة بيعة يزيد ولوا عليهم عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة وأخرجوا والي يزيد من المدينة وهو مروان بن الحكم وبني أمية حتى قال بعضهم: ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء، فكانت وقعة الحرة المشهورة التي كادت تبيد أهل المدينة عن آخرهم، قتل فيها الجم الكثير من الصحابة والتابعين. وقيل المقتول فيها من الصحابة ثلاثة: منهم عبد الله بن حنظلة، ونهبت المدينة، وافتض فيها ألف عذراء: أي ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام.

وفي كلام بعضهم: ووقع من ذلك الجيش الذي وجهه يزيد للمدينة، من القتل، والفساد العظيم، والسبي، وإباحة المدينة، وقتل من الصحابة «رضي الله ع» ومن التابعين خلق كثيرون. وكانت عدة المقتولين من قريش والأنصار ثلثمائة وستة رجال، ومن قراء القرآن نحو سبعمائة نفس.

وفي التنوير لابن دحية: وقتل من وجوه المهاجرين والأنصار ألف وسبعمائة، ومن حملة القرآن سبعمائة، وجالت الخيل في مسجد رسول الله، وراثت بين القبر الشريف والمنبر، واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره، ولم يرض أمير ذلك الجيش من أهل المدينة إلا بأن يبايعوه ليزيد على أنهم خول: أي عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق، حتى قال له بعض أهل المدينة: البيعة على كتاب الله وسنة رسوله فضرب عنقه.

وروى البخاري «أن عبد الله بن عمر «رضي الله ع» لما أرجف أهل المدينة يزيد دعا بنيه ومواليه وقال لهم: إنا بايعنا هذا الرجل على بيعة الله وبيعة رسوله، وإنه والله لا يبلغني عن أحد منكم أنه خلع يدا من طاعته إلا كان التنصل بيني وبينه ثم لزم بيته» ولزم أبو سعيد الخدري «رضي الله ع» بيته أيضا، فدخل عليه جمع من الجيش بيته، فقالوا له: من أنت أيها الشيخ؟ فقال: أنا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله، فقالوا: سمعنا خبرك، ولنعم ما فعلت حين كففت يدك ولزمت بيتك، ولكن هات المال، فقال: قد أخذه الذين دخلوا قبلكم عليّ وما عندي شيء، فقالوا كذبت ونتفوا لحيته.

وأما جابر بن عبد الله «رضي الله ع»، فخرج في يوم من تلك الأيام وهو أعمى يمشي في بعض أزقة المدينة، وصار يعثر في القتلى ويقول: تعس من أخاف رسول الله، فقال له قائل من الجيش: من أخاف رسول الله ﷺ فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبيّ، فحمل عليه جماعة من الجيش ليقتلوه، فأجاره منهم مروان وأدخله بيته».

قال السهيلي: وقتل في ذلك اليوم من وجوه المهاجرين والأنصار «رضي الله ع» ألف وسبعمائة، وقتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

فقد ذكر أن امرأة من الأنصار دخل عليها رجل من الجيش وهي ترضع صبيها وقد أخذ ما وجده عندها، ثم قال لها، هات الذهب وإلا قتلتك وقتلت ولدك، فقالت له: ويحك إن قتلته فأبوه أبو كبشة صاحب رسول الله ﷺ وأنا من النسوة اللاتي بايعن رسول الله، فأخذ الصبي من حجرها وثديها في فمه وضرب به الحائط حتى انتثر دماغه في الأرض، فما خرج من البيت حتى اسودّ نصف وجهه وصار مثلة في الناس.

قال السهيلي، وأحسب هذه المرأة جدة للصبي لا أما له، إذ يبعد في العادة أن تبايع امرأة وتكون يوم الحرة في سن من ترضع، أي ولدا صغيرا لها. ووقعة الحرة هذه من أعلام نبوّته.

ففي الحديث «أنه وقف بهذه الحرة وقال: ليقتلنّ بهذا المكان رجال هم خيار أمتي بعد أصحابي».

وعن عبد الله بن سلام «رضي الله ع» أنه قال: لقد وجدت قصة هذه الوقعة في كتاب يهوذا بن يعقوب الذي لم يدخله تبديل، وأنه يقتل فيها رجال صالحون، يجيئون يوم القيامة وسلاحهم على عواتقهم، وهذه الوقعة كانت سنة ثلاث وستين، ويقال كان يزيد أعذر أهل المدينة قبل هذه الوقعة فيما ذكروه، وبذل لهم من العطاء أضعاف ما يعطي الناس، رغبة في استمالتهم إلى الطاعة، وتحذيرهم من الخلاف، ولكن يأبى الله إلا ما أراد.

وفي التنوير أن الله ابتلى أمير هذا الجيش الذي هو مسلم بن قتيبة بعد ثلاثة أيام من أخذه البيعة بمرض صار ينبح منه كالكلب إلى أن مات، وولي أمر الجيش بعده الحصين بن نمير بأمر يزيد، فإنه وصى مسلم بن قتيبة لما ولاه إمرة الجيش وقال له: إذا أشرفت على الموت أي لأنه كان مريضا بالاستسقاء فولّ أمر الجيش للحصين، وهذا الذي وقع من يزيد فيه تصديق لقوله: «لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد».

وقد جاء عن سعيد بن المسيب «رضي الله ع»: لقد رأيتني ليالي الحرة وما في مسجد رسول الله ﷺ غيري، وما يأتي وقت صلاة إلا سمعت الأذان والإقامة من القبر الشريف.

ومما يؤثر عن سعيد بن المسيب: الدنيا نذلة تميل إلى الأنذال، ومن استغنى بالله افتقر إليه الناس.

ومن جملة من خلع يزيد وقتل من الصحابة في تلك الوقعة مغفل بن سنان الأشجعي «رضي الله ع». روى علقمة عن ابن مسعود «رضي الله ع» أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل مهر نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام مغفل بن سنان وقال: «قضى رسول الله ﷺ في بروع بنت واشق امرأة منا مثل ما قضيت» ففرح ابن مسعود.

وسبب مقاتلة عبد الله بن الزبير «رضي الله ع»، لأنه امتنع من المبايعة ليزيد أيضا هو والحسين «رضي الله ع» لما أرسل إليهما يطلب منهما المبايعة له، فامتنعا من ذلك وفرّا من المدينة إلى مكة.

ثم لما قتل الحسين «رضي الله ع»: أي لأن الحسين أرسل إليه أهل الكوفة أن يأتيهم ليبايعوه، فأراد الذهاب إليهم فناه ابن عباس «رضي الله ع»، وبين له غدرهم، وقتلهم لأبيه، وخذلانهم لأخيه الحسن «رضي الله ع». ونهاه ابن عمر وابن الزبير «رضي الله ع»، فأبى إلا أن يذهب، فبكى ابن عباس «رضي الله ع» وقال: واحبيباه. وقال له ابن عمر: أستودعك الله من قتيل. وكان أخوه الحسن قال له: إياك وسفهاء الكوفة أن يستخفوك فيخرجوك ويسلموك فتندم ولات حين مناص، وقد تذكر ذلك ليلة قتله، فترحم على أخيه الحسن، ولم يبق بمكة إلا من حزن على مسيره، وقدم أمامه إلى الكوفة مسلم بن عقيل، فبايعه من أهل الكوفة للحسين اثنا عشر ألفا، وقيل أكثر من ذلك. ولما شارف الكوفة جهز إليه أميرها من جانب يزيد وهو عبد الله بن زياد عشرين ألف مقاتل، وكان أكثرهم ممن بايع له لأجل السحت العاجل على الخير الآجل، فلما وصلوا إليه ورأى كثرة الجيش طلب منهم إحدى ثلاث، إما أن يرجع من حيث جاء، أو يذهب إلى بعض الثغور، أو يذهب إلى يزيد يفعل فيه ما أراد، فأبوا وطلبوا منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فأبى، فقاتلوه إلى أن أثخنته الجراحة فسقط إلى الأرض، فحزوا رأسه وذلك يوم عاشوراء عام إحدى وستين، ووضع ذلك الرأس بين يدي عبد الله بن زياد، ولما جاء خبر قتل الحسين «رضي الله ع» قام ابن الزبير «رضي الله ع» في الناس يعظم قتل الحسين وجعل يظاهر بعيب يزيد، وبذكر شربه الخمر وغير ذلك، ويثبط الناس عن بيعته. ويذكر مساوىء بني أمية، ويطنب في ذلك. ولما بلغ يزيد ذلك أقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولا، فجاء إليه رجل من أهل الشام في خيل من خيل الشام، وتكلم مع ابن الزبير وعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لا يستحل الحرم بسببك، فإن يزيد غير تاركك ولا تقوى عليه، وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولا، وقد عملت لك غلا من فضة وتلبس فوقه الثياب وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة، وأجمل بك وبه، فقال له: أنظر في أمري، ثم دخل على أمه أسماء «رضي الله ع» واستشارها فقالت: يا بني عش كريما ومت كريما ولا تمكن بني أمية من نفسك فتلعب بك، فامتنع وصار يبايع الناس سرا، ثم أظهر المبايعة، فاجتمع عليه أهل الحجاز ولحق به من انهزم من وقعة الحرة، فلما جاء الجيش إلى مكة حاصر عبد الله وضرب بالمنجنيق، نصبه على أبي قبيس قيل وعلى الأقمر وهم أخشبا بمكة فأصاب الكعبة من ناره ما حرق ثيابها وسقفها فإن الكعبة كانت في زمن قريش مبنية، مدماك من خشب الساج، ومدماك من حجارة كما تقدم.

وذكر في الشرف أن الله تعالى بعث عليهم صاعقة بعد العصر، فأحرقت المنجنيق، وأحرقت تحته ثمانية عشر رجلا من أهل الشام، ثم عملوا منجنيقا آخر فنصبوه على أبي قبيس.

ويذكر أن النار لما أصابت الكعبة أتت بحيث يسمع أنينها كأنين المريض آه آه، وهذا من أعلام نبوته، فقد جاء إنذاره بتحريق الكعبة فعن ميمونة «رضي الله ع» زوج النبي ﷺ قالت: قال رسول الله: «كيف أنتم إذا مرج الدين، فظهرت الرغبة والرهبة، وحرق البيت العتيق» وفي العرائس: إن أول يوم تكلم الناس في القدر ذلك اليوم، فقيل إحراق الكعبة من قدر الله، وقيل ليس من قدر الله، والمتكلم بذلك حينئذ قيل أبو معبد الجهني، وقيل أبو الأسود الدؤلي، وقيل غير ذلك.

وقوله أول يوم تكلم الناس في القدر، لعل المراد أول يوم اشتهر واستفيض فيه الكلام من الناس في القدر، فلا يخالف ما حكي أن شخصا قال لعلي «رضي الله ع» وهو بصفين: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا؟ أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: نعم والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ما وطئنا موطئا، ولا قطعنا واديا، ولا علونا شرفا إلا بقضائه وقدره.

والتكلم في القدر ليس من خصائص هذه الأمة، فقد تكلمت فيه الأمم قبلها، وفي الحديث «ما بعث الله نبيا إلا في أمته ذرية يشوشون عليه أمر أمته، ألا وإن الله تعالى قد لعن القدرية على لسان سبعين نبيا» وقد جاء في ذم القدرية زيادة على ما تقدم منها «القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» وجاء «اتقوا القدر فإنه شعبة من النصرانية » وجاء «أخاف على أمتي التكذيب بالقدر».

وإنما كانت القدرية مجوس هذه الأمة، لأن طائفة من القدرية تقول يأتي الخير من الله والشر من العبد، وهؤلاء الطائفة أشبه بالمجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة وأن الخير من النور والشر من الظلمة وهم المانوية، وإنما كان القدر شعبة من النصرانية، لأن أكثر القدرية على أنه ليس من أفعال العبد من خير أو شر ناشئا عن إقدار الله تعالى له على ذلك، بل هو ناشيء عن قدرة العبد واختياره، فقد أثبتوا لله تعالى شريكا، كما أن النصارى أثبتوا الشريك لله تعالى، فهذه الفرقة من القدرية أشبهت النصارى، فكان القدر شعبة من النصرانية بهذا الاعتبار، وقد أوضحت ذلك في تعليقي المسمى بـ (المصباح المنير على الجامع الصغير) وفيه «أخر الكلام على القدر لشرار أمتي في آخر الزمان» فإن الحق إسناد الفعل إلى الله تعالى إيجادا وللعبد اكتسابا.

وقيل إن سبب بناء عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» للكعبة أن امرأة بخرتها فطارت شرارة فعلقت بثيابها فحصل ذلك، ولا مانع من التعدد. وقد وقع أيضا احتراقها بتبخير المرأة في زمن قريش، ولا مانع من تعدد ذلك كما تقدم.

وعدّ بعضهم أن من البدع تجمير المسجد وأن مالكا كرهه. وقد روي أن مولى عمر بن الخطاب «رضي الله ع» كان يجمر المسجد النبوي إذا جلس عمر «رضي الله ع» على المنبر يخطب، ومع حرق الكعبة حرق قرنا الكبش الذي فدي به إسماعيل فإنهما كانا معلقين بالسقف.

أقول: ولعل تعليقهما في السقف كان بعد تعليقهما في الميزاب. فقد ذكر بعضهم جاء الإسلام ورأس الكبش معلق بقرنيه في ميزاب الكعبة، ويدل لتعليقهما في السقف ما جاء عن صفية بنت شيبة قالت لعثمان بن طلحة «لم دعاك النبي ﷺ بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي رسول الله ﷺ: إني رأيت قرني الكبش في البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليا».

وذكر الجلال المحلي في قطعة التفسير أن الكبش المذكور هو الذي قرّبه هابيل جاء به جبريل، فذبحه السيد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام مكبرا: أي وحينئذ تكون النار التي أنزلت في زمن هابيل لم تأكله، بل رفعته إلى السماء، وحينئذ يكون قول بعضهم: فنزلت النار فأكلته على التسمح، ويدل لما ذكر الجلال ما جاء أنه قال لجبريل "عليه الصلاة والسلام: «ما كان ذبح إبراهيم؟ أي مذبوحه، قال: الذي قرّب ابن آدم» قال بعضهم: وهذا الحديث لم يثبت. قيل ووصف بأنه عظيم، لأنه رعى في الجنة أربعين عاما، وقيل كان الكبش اختراعا اخترعه الله هناك في ذلك الوقت قال بعضهم: فقد فدى من الموت بصورة الموت وهذا كله بناء على أن الذي قرّبه هابيل كان كبشا. وقيل كان جملا سمينا، وعليه اقتصر القاضي. فلينظر الجمع على تقدير صحة كل، وانصدع الحجر من تلك النار من ثلاثة أماكن، وعند محاصرة الجيش لعبد الله جاء الخبر بموت يزيد.

ويقال إن ابن الزبير علم بموت يزيد قبل أن يعلم الجيش وهم أهل الشام، فنادى فيهم يا أهل الشام قد أهلك الله طاغيتكم يعني يزيد، فمن أحب منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فعل، ومن أحب أن يرجع إلى شأنه فليفعل، فانفلّ الجيش، وبايع عبد الله بن الزبير جماعة بالخلافة، ودخلوا في طاعته ظاهرا.

ويقال إن أمير الجيش طلب من ابن الزبير أن يحدثه فخرج من الصفين حتى اختلفت رؤوس فرسيهما وجعل فرس أمير الجيش ينفر ويكفها فقال له ابن الزبير: ما لك؟ فقال: إن حمام الحرم تحت رجليها فأكره أن أطأ حمام الحرم، فقال تفعل هذا، وأنت تقتل المسلمين فقال له: تأذن لنا أن نطوف بالكعبة ثم نرجع إلى بلادنا، فأذن لهم فطافوا، وقال له: إن كان هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر يعني الخلافة فارحل معي إلى الشام، فوالله لا يختلف عليك اثنان، فلم يثق به ابن الزبير وأغلظ عليه القول، فكرّ راجعا وهو يقول: أعده بالملك وهو يعدني بالقتل. ومن ثم قيل: كان في ابن الزبير خلال لا تصلح معها الخلافة: منها سوء الخلق، وكثرة الخلاف. ودخل في طاعة ابن الزبير جميع أهل البلدان إلا الشام ومصر، فإن مروان بن الحكم تغلب عليهما بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية. فإن معاوية هذا مكث في الخلافة أربعين يوما، وقيل عشرين يوما بعد أن كان مروان عزم على أن يبايع لابن الزبير بدمشق.

وقد كان ابن الزبير لما ولى أخاه نائبا عنه بالمدينة أمره بإجلاء بني أمية وفيهم مروان وابنه عبد الملك إلى الشام، فلما أراد مروان أن يبايع ابن الزبير بدمشق ثنى عزمه عن ذلك جماعة، وقالوا له: أنت شيخ قريش وسيدها، وقد فعل معكم ابن الزبير ما فعل فأنت أحق بهذا الأمر، فوافقهم ومكث تسعة أشهر في الخلافة وهو الرابع من خلفاء بني أمية. وقام بالأمر بعده ولده عبد الملك، وهو أول من سمي عبد الملك في الإسلام، ثم عهد عبد الملك لأولاده الأربعة من بعده: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام. وادعى عمرو بن سعيد أن مروان عهد إليه بعد ابنه عبد الملك، فضاق عبد الملك بذلك ذرعا، واستعجل أمر عمرو بدمشق، فلم يزل به عبد الملك حتى قتله.

وفي كلام ابن ظفر أن عبد الملك لما خرج لمقاتلة عبد الله بن الزبير خرج معه عمرو بن سعيد، وقد انطوى على دغل نية وفساد طوية وطماعيته في نقل الخلافة، فلما ساروا عن دمشق أياما تمارض عمرو بن سعيد واستأذن عبد الملك في العودة إلى دمشق، فأذن له، فلما عاد ودخل دمشق صعد المنبر وخطب خطبة نال فيها من عبد الملك، ودعا الناس إلى خلعه، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، فاستولى على دمشق وحصن سورها، وبذل الرغائب، وبلغ ذلك عبد الملك وهو متوجه إلى ابن الزبير، فأشير على عبد الملك أن يرجع إلى دمشق ويترك ابن الزبير، لأن ابن الزبير لم يعطه طاعة ولا وثب له على مملكة، فهو في صورة ظالم له، وقصده لعمرو بن سعيد في صورة مظلوم، لأنه نكث بيعته وخان أمانته، وأفسد رعيته، فرجع إلى دمشق فظفر بعمرو بن سعيد.

ويقال إن سبب بناء عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» للكعبة أنه جاء سيل فطبقها فكان عبد الله «رضي الله ع» يطوف سباحة: أي ولا مانع من وجود الأمرين الحرق والسيل، فلما رأى عبد الله ما وقع في الكعبة شاور من حضر ومن جملتهم عبد الله ابن عباس «رضي الله ع» في هدمها، فهابوا هدمها وقالوا: نرى أن يصلح ما وهى ولا تهدم، فقال: لو أن بيت أحدكم أحرق لم يرض له إلا بأكمل إصلاح، ولا يكمل إصلاحها إلا بهدمها.

وقد حدثته خالته عائشة «رضي الله ع» عن رسول الله ﷺ أنه قال لها: «ألم تري قومك يعني قريشا حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام حين عجزت بهم النفقة، لولا حدثان قومك بالجاهلية ـ أي قرب عهدهم ـ بها» أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بالجاهلية » أي قريب عهدهم بها. أي وفي لفظ «لولا الناس حديثو عهد بكفر وليس عندي من النفقة ما يقوى على بنائها لهدمتها وجعلت لها خلفا» أي بابا «من خلفها» أي وفي لفظ «لجعلت لها بابا يدخل منه وبابا بحياله يخرج الناس منه» وفي لفظ «وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وألصقت بابها بالأرض» أي كما كان عليه في زمن إبراهيم «ولأدخلت الحجر فيها» أي وفي رواية: «لأدخلت نحو ستة أذرع» وفي رواية «ستة أذرع وشيئا» وفي رواية «وشبرا» وفي رواية «قريبا من سبعة أذرع» فقد اضطربت الروايات في القدر الذي أخرجته قريش. وفي لفظ «لأدخلت فيها ما أخرج منها» وفي لفظ «لجعلتها على أساس إبراهيم وأزيد» أي بأن أزيد في الكعبة من الحجر: أي ذلك ما أخرجته قريش خشي أن تنكر قلوبهم هدم بنائهم الذي يعدونه من أكمل شرفهم، فربما حصل لهم الارتداد عن الإسلام.

وقد ذكر بعضهم أن كل من بنى الكعبة بعد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم، غير أن قريشا ضاقت بهم النفقة: أي الحلال الحديث، وهذا بناء على أن من بعد إبراهيم وقبل قريش بناها كلها وليس كذلك، بل الحاصل منهم إنما هو ترميم لها فقوله لم يبنها إلا على قواعد إبراهيم ليس على ظاهره، بل المراد أنه أبقاها على ذلك.

قال: وعن ابن عباس «رضي الله ع» أنه قال لعبد الله: دع بناء وأحجارا أسلم عليها المسلمون وبعث عليها النبي ﷺ: أي فإنه يوشك أن يأتي بعدك من يهدمها فلا يزال يهدم ويبني، فيتهاون الناس بحرمتها ولكن ارفعها: أي رمها فقال عبد الله: إني مستخير ربي ثلاثا، ثم عازم على أمري، فلما مضى الثلاث أجمع أمره على أن ينقضها، فتحاماها الناس وخشوا أن ينزل بأول الناس يقصدها أمر من السماء، حتى صعدها رجل فألقى منها حجارة فلم ير الناس أصابه شيء فتابعوه اهـ.

أي وقيل أول فاعل لذلك عبد الله بن الزبير نفسه «رضي الله ع» وخرج ناس كثير من مكة إلى منى ومنهم ابن عباس «رضي الله ع» فأقاموا بها ثلاثا مخافة أن يصيبهم عذاب شديد بسبب هدمها، وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة بهدمها رجاء أن يكون فيهم الذي أخبر به أنه يهدمها.

وفيه أن الذي أخبر النبي ﷺ بأنه يهدمها ذكر صفته حيث قال: «كأني أنظر إليه أسود أفحج ينقضها حجرا حجرا» وجاء في وصفه أنه مع كونه أفحج الساقين أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، ووصف أيضا «بأنه أصلع» وفي لفظ «أجلح» وهو من ذهب شعر مقدم رأسه، ووصف «بأنه أصعل» أي صغير الرأس/ «وبأنه أصمع» أي صغير الأذنين «معه أصحابه ينقضونها حجرا حجرا، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر».

أي وقوله «ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر» لعله لم يثبت عند ابن الزبير وكذا تلك الأوصاف، وهدم الحبشة لها يكون بعد موت عيسى "عليه الصلاة والسلام، ورفع القرآن من الصدور والمصاحف: أي وورد أن أول ما يرفع رؤيته في المنام والقرآن. وأول نعمة ترفع من الأرض العسل، وقيل يكون هدمها في زمن عيسى "عليه الصلاة والسلام.

وجمع بأنه يهدم بعضها في زمن عيسى "عليه الصلاة والسلام، فإذا جاءهم الصريخ هربوا فإذا مات عيسى عادوا وكملوا هدمها.

فهدمها عبد الله إلى أن انتهى الهدم إلى القواعد: أي التي هي الأساس. قال وفي رواية: كشف له عن أساس إبراهيم "عليه الصلاة والسلام فوجده داخلا في الحجر ستة أذرع وشيئا، وأحجار ذلك الأساس كأنها أعناق الإبل، حجارة حمراء، آخذ بعضها في بعض مشبكة كتشبك الأصابع، وأصاب فيه قبر أم إسماعيل "عليه الصلاة والسلام، وهذا ربما يدل على أنه لم يصب فيه قبر إسماعيل، وهو يؤيد القول بأن قبره في حيال الموضع الذي فيه الحجر الأسود، لا في الحجر كما ذكره الطبري، وأنه تحت البلاطة الخضراء التي بالحجر كما تقدم، فدعا عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم، وأشهدهم على ذلك الأساس، وأدخل عبد الله بن المطيع العدوي عتلة كانت بيده في ركن من أركان البيت فتزعزعت الأركان كلها، فارتج جوانب البيت، ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة وطارت منه برقة فلم يبق دار من دور مكة إلا دخلت فيها ففزعوا اهـ.

أقول: تقدم في بناء قريش أنهم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض وأن رجلا أدخل عتلته بين حجرين منها فحصل نحو ما ذكر.

ويقد يقال: لا مخالفة بين كون تلك الأحجار كانت خضراء وبين كونها حمراء، لأنه يجوز أن تكون حمرة تلك الأحجار ليست صافية، بل هي قريبة من السواد، ومن ثم وصفت: بأنها زرق كما تقدم والأسود يقال له أخضر، كما أن الأخضر غير الصافي يقال له أسود، والصافي يقال له أزرق والله أعلم.

وجعل عبد الله على تلك القواعد ستورا فطاف الناس بتلك الستور حتى بني عليها، وارتفع البناء وزاد في ارتفاعها على ما كانت عليه في بناء قريش تسعة أذرع، فكانت سبعا وعشرين ذراعا. زاد بعضهم وربع ذراع، وبناها على مقتضى ما حدثته به خالته عائشة «رضي الله ع»، فأدخل فيه الحجر: أي لأنه يجوز أن يكون إدخال الحجر هو الذي سمعه من عائشة فعمل به دون غير ذلك من الروايات المتقدمة الدال على أن الحجر ليس من البيت، وإنما منه ستة أذرع وشبر أو قريب من سبعة أذرع.

وفيه أن هذا أي قوله فأدخل فيه الحجر هو الموافق لما تقدم من أن قريشا أخرجت منها الحجر، وهو واضح إن كان وجد الأساس خارجا عن جميع الحجر.

وأما إذا لم يكن خارجا عن جميع الحجر كيف يتعداه ولا يبني عليه اعتمادا على ما حدثته به خالته عائشة «رضي الله ع». على أنه سيأتي عن نص حديث عائشة «رضي الله ع» أنه قال لها: «فإن بدا لقومك من بعد أن يبنوا فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» فليتأمل، وجعل لها خلفا: أي بابا من خلفها وألصقه بالأس كالمقابل له.

قال: ولما ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود وكان في وقت الهدم وجد مصدعا بسبب الحريق كما تقدم، فشده بالفضة، ثم جعله في ديباجة، وأدخله في تابوت وأقفل عليه، وأدخله دار الندوة، فحين وصل البناء إلى محله أمر ابنه حمزة وشخصا آخر أن يحملاه ويضعاه محله وقال: إذا وضعتماه وفرغتما فكبرا حتى أسمعكما فأخفف صلاتي، فإنه صلى بالناس بالمسجد اغتناما لشغلهم عن وضعه لما أحس منهم بالتناقض في ذلك: أي أن كل واحد يريد أن يضعه وخاف الخلاف، فلما كبر تسامع الناس بذلك، فغضب جماعة من قريش حيث لم يحضرهم.

وكون الحجر وجد مصدعا بسبب الحريق، وكون ابن الزبير شده كذلك بالفضة لا ينافي ما وقع بعد ذلك من أن أبا سعيد كبير القرامطة وهم طائفة ملاحدة ظهروا بالكوفة سنة سبعين ومائتين، يزعمون أن لا غسل من الجنابة، وحل الخمر، وأنه لا صوم في السنة إلا يوم النيروز والمهرجان، ويزيدون في أذانهم، وأن محمد ابن الحنفية رسول الله وأن الحج والعمرة إلى بيت المقدس وافتتن بهم جماعة من الجهال وأهل البرازي، وقويت شوكتهم حتى انقطع الحج من بغداد بسببه وسبب ولده أبي طاهر، فإن ولده أبا طاهر بنى دارا بالكوفة وسماها دار الهجرة، وكثر فساده، واستيلاؤه على البلاد وقتله المسلمين وتمكنت هيبته من القلوب، وكثرت أتباعه، وذهب إليه جيش الخليفة المقتدر بالله السادس عشر من خلفاء بني العباس غير ما مرة وهو يهزمهم.

ثم إن المقتدر سير ركب الحاج إلى مكة فوافاهم أبو طاهر يوم التروية فقتل الحجيج بالمسجد الحرام وفي جوف الكعبة قتلا ذريعا، وألقى القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره، ثم اقتلعه وأخذه معه، وقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها وشققها بين أصحابه، وهدم قبة زمزم وارتحل عن مكة بعد أن أقام بها أحد عشر يوما ومعه الحجر الأسود، وبقي عند القرامطة أكثر من عشرين سنة: أي والناس يضعون أيديهم محله للتبرك، ودفع لهم فيه خمسون ألف دينار فأبوا حتى أعيد في خلافة المطيع، وهو الرابع والعشرون من خلفاء بني العباس، فأعيد الحجر إلى موضعه، وجعل له طوق فضة شدد زنته ثلاثة آلاف وسبعمائة وتسعون درهما ونصف.

قال بعضهم: تأملت الحجر وهو مقلوع فإذا السواد في رأسه فقط وسائره أبيض، وطوله قدر عظم الذراع.

وبعد القرامطة في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة قام رجل من الملاحدة وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بدبوس فتشقق وجه الحجر من تلك الضربات، وتساقطت منه شظيات مثل الأظفار، وخرج مكسره أسمر يضرب إلى الصفرة محببا مثل حب الخشخاش فجمع بنو شيبة ذلك الفتات وعجنوه بالمسك واللك وحشوه في تلك الشقوق وطلوه بطلاء من ذلك، وجعل طول الباب أحد عشر ذراعا والباب الآخر بإزائه كذلك.

فلما فرغ من بنائها خلقها من داخلها وخارجها بالخلوق أي الطيب والزعفران، وكساها القباطيّ: أي وهي ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر.

وفي كلام بعضهم أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير.

وأقول: وبناء عبد الله للكعبة من جملة أعلام النبوة لأنه من الإخبار بالمغيبات. ففي نص حديث عائشة «رضي الله ع» «فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأراها قريبا من ستة أذرع» وتقدم أن هذا يرد قول بعضهم: أن ابن الزبير أدخل في بنائه جميع الحجر.

قال بعضهم: وهذا منه تصريح بالإذن في أن يفعل ذلك بعده عند القدرة عليه والتمكن منه.

وقد قال المحب الطبري: وهذا الحديث يعني حديث عائشة «رضي الله ع» يدل تصريحا وتلويحا على جواز التغيير في البيت إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة.

قال الشهاب ابن حجر الهيتمي: ومن الواضح البين أن ما وهى وتشقق منها في حكم المنهدم أو المشرف على الانهدام فيجوز إصلاحه، بل يندب بل يجب هذا كلامه.

وفي شعبان سنة تسع وثلاثين وألف جاء سيل عظيم بعد صلاة العصر يوم الخميس لعشرين من الشهر المذكور هدم معظم الكعبة، سقط به الجدار الشامي بوجهيه، وانحدر معه في الجدار الشرقي إلى حد الباب، ومن الجدار الغربي من الوجهين نحو السدس، وهدم أكثر بيوت مكة، وأغرق في المسجد جملة من الناس خصوصا الأطفال، فإن الماء ارتفع إلى أن سد الأبواب.

وعند مجيء الخبر بذلك إلى مصر جمع متوليها الوزير محمد باشاه وهو الوزير الأعظم الآن: أي في سنة ثلاثة وأربعين وألف جمعا من العلماء كنت من جملتهم، ووقعت الإشارة بالمبادرة للعمارة، وقد جعلت للوزير المذكور في ذلك رسالة لطيفة وقعت منه موقعا كبيرا، وأعجب بها كثيرا، حتى أنه دفعها لمن عبر عنها باللغة التركية، وأرسل بها لحضرة مولانا السلطان مراد أعز الله أنصاره، وذكرت فيها أن الحق أن الكعبة لم تبن جميعها إلا ثلاث مرات المرة الأولى: بناء إبراهيم "عليه الصلاة والسلام. والثانية: بناء قريش، وكان بينهما ألفا سنة وسبعمائة سنة وخمس وسبعون سنة. والثالثة: بناء عبد الله بن الزبير: أي وكان بينهما نحو اثنتين وثمانين سنة: أي وأما بناء الملائكة وبناء آدم وبناء شيث لم يصح. وأما بناء جرهم والعمالقة وقصي فإنما كان ترميما. ولم تبن بعد هدمها جميعها إلا مرتين: مرة زمن قريش، ومرة زمن عبد الله بن الزبير «رضي الله ع».

وحينئذ يكون ما جاء في الحديث «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع، وقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة » معناه قد يهدم مرتين ويرفع في الهدم الثالث من الدنيا.

وذكر الإمام البلقيني أن كون ابن الزبير أول من كسا الكعبة الديباج أشهر من القول بأن أول من كساها الديباج أم العباس بن عبد المطلب كما سيأتي. وجاز أن يكون عبد الله بن الزبير كساها أوّلا القباطي ثم كساها الديباج، والله أعلم. وكان كسوتها: أي في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع، فإن أول من كساها تبع الحميري، كساها الأنطاع ثم كساها الثياب الحميرية: أي وفي رواية كساها الوصائل: وهي برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن.

وفي كلام الإمام البلقيني: ويروى أن تبعا اليماني لما كساها الخسف انتفضت فزال ذلك عنها فكساها المسوح والأنطاع فانتفضت، فزال ذلك عنها، فكساها الوصائل فقبلتها قال: والوصائل ثياب موصلة من ثياب اليمن.

وفي الكشاف: كان تبع الحميري مؤمنا، وكان قومه كافرين، ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه.

وعن النبي: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» وعنه "عليه الصلاة والسلام «ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي».

هذا: وقد نقل الشمس الحموي في كتابه (المناهج الزهية، والمباهج المرضية) عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه كان نبيا. وقيل أول من كساها عدنان بن أدد، وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة وحدي. وجميع قريش سنة: أي وقيل كان يخرج نصف كسوة الكعبة في كل سنة، ففعل ذلك إلى أن مات فسمته قريش العدل، لأنه عدل قريشا وحده في كسوة الكعبة. ويقال لبنيه بنو العدل، وكانت كسوتها لا تنزع فكان كلما تجدد كسوة تجعل فوق، واستمر ذلك إلى زمنه، ثم كساها النبي ﷺ الثياب اليمانية.

وفي كلام بعضهم: أول من كسا الكعبة القباطيّ النبي، وكساها أبو بكر وعمر وعثمان القباطي.

وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، والاقتصار على ذلك ربما يفيد أن عطف الحبرات على القباطي من عطف التفسير، فليتأمل.

وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطي، فكانت تكسى الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان قال بعضهم: وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي، ثم في زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير، واستمر ذلك إلى الآن في كل سنة، وكسوتها من غلة قريتين يقال لهما بيسوس وسندبيس من قرى القاهرة، وقفهما على ذلك الملك الصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة: أي والآن زادت القرى على هاتين القريتين.

والحاصل أن أول من كساها على الإطلاق تبع الحميري كما تقدم على الراجح، وذلك قبل الإسلام بتسعمائة سنة.

قيل وسبب كسوة أم عمه لها الديباج أن العباس ضل وهو صبي فنذرت إن وجدته لتكسونّ الكعبة فوجدته، فكست الكعبة الديباج: أي وكانت من بيت مملكة.

وقيل أول من كساها الديباج عبد الملك بن مروان: أي وهو المراد بقول ابن إسحاق أول من كساها الديباج الحجاج، لأن الحجاج كان من أمراء عبد الملك.

وقد سئل الإمام البلقيني هل تجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب، ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف؟ فأجاب بجواز ذلك. قال: لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة التي ترجى بكسوتها الخلع السنية في الدنيا والآخرة. ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف، فإن في ذلك المناسبة للحال المنيف، هذا كلامه.

أي وأول من حلى بابها بالذهب جده عبد المطلب، فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والغزالتين من الذهب، فضرب الأسياف بابا لها، وجعل في ذلك الباب الغزالتين، فكان أول ذهب حليته الكعبة على ما تقدم.

وأول من ذهب الكعبة في الإسلام عبد الملك بن مروان. وقيل عبد الله بن الزبير جعل على أساطينها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب، وجعل الوليد بن عبد الملك الذهب على الميزاب.

يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب وعلى الأساطين التي داخلها وعلى أركانها من داخل.

وذكر أن الأمين بن هارون الرشيد أرسل إلى عامله بمكة بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقطع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها ذلك، وجعل مساميرها وحلقتي الباب والعتب من الذهب وإن أمّ المقتدر الخليفة العباسي أمرت غلامها لؤلؤا أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا ففعل.

وقال عبد الله بن الزبير لما فرغ من بنائها: من كان لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، ومن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، فإن لم يقدر فشاة، ومن لم يقدر فليتصدق بما تيسر وأخرج مائة بدنة، فلما طاف استلم الأركان الأربعة جميعا، فلم تزل الكعبة على بناء عبد الله بن الزبير تستلم أركانها الأربعة: أي لأنها على قواعد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، ويدخل إليها من باب ويخرج من باب، حتى قتل: أي قتله شخص من جيش الحجاج بحجر رماه به فوقع بين عينيه فقتل وهو بالمسجد، لأن الحجاج كان أميرا على الجيش الذي أرسله عبد الملك بن مروان لقتاله.

وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج: أن اهدم ما زاده ابن الزبير فيها، أي يهدم البناء الذي جعله على آخر الزيادة التي أدخلها في الكعبة، وكانت قريش أخرجتها بدليل قوله وردها إلى ما كانت عليه، وسد الباب الذي فتح: أي وأن يرفع الباب الأصلي إلى ما كان عليه زمن قريش، واترك سائرها: أي لأنه اعتقد أن ابن الزبير فعل ذلك من تلقاء نفسه: فكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بأن عبد الله بن الزبير وضع البناء على أسّ قد نظر إليه العدول من أهل مكة: أي وهم خمسون رجلا من وجوه الناس وأشرافهم كما تقدم. فكتب إليه عبد الملك: لسنا من تخبيط ابن الزبير في شيء، فنقض الحجاج ما أدخل من الحجر وسد الباب الثاني، أي الذي في ظهر الكعبة عند الركن اليماني، ونقص من الباب الأول خمسة أذرع: أي ورفعه إلى ما كان عليه في زمن قريش، فبنى تحته أربعة أذرع وشبرا، وبنى داخلها الدرجة الموجودة اليوم.

وفي لفظ أن الحجاج لما ظفر بابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها وأحدث فيها بابا آخر، واستأذن في ردّ ذلك على ما كانت عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك أن يسد بابها الغربي ويهدم ما زاد فيها من الحجر، ففعل ذلك الحجاج، فسائرها قبل وقوع هذا الهدم بالسيل الواقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف، وبنيانه على بنيان ابن الزبير إلا الحجاب الذي يلي الحجر، فإنه من بنيان الحجاج: أي والبناء الذي تحت العتبة وهو أربعة أذرع وشبر، فإن باب الكعبة كان على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم "عليه الصلاة والسلام لاصقا بالأرض حتى رفعته قريش كما تقدم، وما سد به الباب الغربي والردم كان بالحجارة التي كانت داخل أرض الكعبة، أي التي وضعها عبد الله بن الزبير: أي ولعله إنما وضع في ذلك المحل الحجارة التي تصلح للبناء، فلا ينافي ما أخبرني به بعض الثقات أن بعض بيوت مكة كان فيها بعض الحجارة التي أخرجت من الكعبة زمن عبد الله بن الزبير.

ويقال إن ذلك البيت الذي كان فيه تلك الحجارة كان بيتا لعبد الله بن الزبير «رضي الله ع»، وبناء الحجاج كان في السنة التي قتل فيها عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» وهي سنة ثلاث وسبعين.

قيل ولما دخل عبد الله بن الزبير «رضي الله ع» وهو محاصر، حاصره الحجاج خمسة أشهر وقيل سبعة أشهر وسبع عشرة ليلة على أمه أسماء «رضي الله ع» قبل قتله بعشرة أيام وهي شاكية: أي مريضة فقال لها: كيف تجدينك يا أمه؟ قالت: ما أجدني إلا شاكية، فقال لها: إن في الموت لراحة فقالت: لعلك تبغيه لي ما أحب أن أموت حتى يأتي على أحد طرفيك: إما قتلت، وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني. ولما كان اليوم الذي قتل فيه دخل عليها في المسجد، فقالت له: يا بنيّ لا تقبلنّ منهم حطة تخاف فيها على نفسك، الذي تخافه القتل، فوالله لضربة بالسيف في عزّ خير من ضربة سوط في ذلك.

ويقال إن الناس لا زالوا يتنقلون عن ابن الزبير إلى الحجاج لطلب الأمان وهو يؤمنهم، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف حتى كان من جملة من خرج إليه حمزة وخبيب ابنا عبد الله بن الزبير وأخذ لأنفسهما أمانا من الحجاج فأمنهما.

ودخل عبد الله على أمه فشكا إليها خذلان الناس له وخروجهم إلى الحجاج حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى حق فاصبر عليه فقد قتل أصحابك عليه، ولا تمكن من رقبتك تلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك كم خلودك في الدنيا، فدنا منها وقبل رأسها وقال: والله ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمته.

وبعد أن قتل وصلب على الجذع فوق الثنية ومضت ثلاثة أيام جاءت أمه أسماء «رضي الله ع» تقاد، لأن بصرها كان قد كف حتى وقفت عليه، فدعت له طويلا ولم يقطر من عينها دمعة، وقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل، فقال لها الحجاج المنافق: رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم.

وفي كلام سبط ابن الجوزي أن ابن الزبير لما قال لعثمان «رضي الله ع» وهو محاصر إن عندي نجائب أعددتها لك فهل لك أن تنجو إلى مكة فإنهم لا يستحلونك بها، قال له عثمان: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يلحد رجل في الحرم من قريش أو بمكة يكون عليه نصف عذاب العالم، فلن أكون أنا».

وفي وراية قال له، لا لأني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يلحد بمكة كبش من قريش اسمه عبد الله عليه مثل نصف أوزار الناس» هذا كلامه.

وعندي أن المراد بعبد الله الحجاج لا ابن الزبير. ولا مانع أن يكون الحجاج من قريش على أن الذي في الصواعق لابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى أن القائل لعثمان ذلك المغيرة بن شعبة.

ولما سمعت سيدتنا أسماء «رضي الله ع» الحجاج يقول في ولدها المنافق، قالت له: كذبت، والله ما كان منافقا، ولكنه كان صوّاما قوّاما برا كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله ﷺ وحنكه بيده، وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، كان عاملا بكتاب الله، حافظا لحرم الله، يبغض أن يعصى الله «عَزَّ وجَلّ»، قال: انصرفي فإنك عجوز قد خرفت، قالت: والله ما خرفت ولقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» أما الكذاب فقد رأيناه تعني المختار بن أبي عبيد الثقفي والي العراق، فإنه لما قتل الحسين «رضي الله ع» اتفق مع طائفة من الشيعة ممن كان خذل الحسين، ولما قتل ندموا على ذلك، فوافقوا المختار على مقاتلة من قتل الحسين من أهل الكوفة، فتوجهوا إليه وقتلوا جميع من قاتل الحسين وملكوا الكوفة وشكر الناس للمختار ذلك، ثم قالت: وأما المبير فأنت المبير.

ولما بلغ عبد الملك ما قاله الحجاج لأسماء كتب إليه يلومه على ذلك: أي ومن ثم أرسل إليها الحجاج، فأبت أن تأتيه، فأعاد إليها الرسول وقال: إما أن تأتيني أو لأبعثنّ إليك من يسحبك بقرونك، فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إليّ من يسحبني بقروني فعند ذلك أخذ نعليه ومشى حتى دخل عليها، فقال: يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأمّ ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما سمعت من رسول الله، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت، فقال الحاج: مبير للمنافقين. ومن كذب المختار أنه ادعى النبوّة وأنه يأتيه الوحي ويسر ذلك لأحبابه.

وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعضهم قال: كنت أقوم بالسيف على رأس المختار ابن أبي عبيد، فسمعته يوما يقول: قام جبريل عن هذه النمرقة، وفي رواية من على هذا الكرسي، فأردت أن أضرب عنقه، فتذكرت حديثا حدثته أن رسول الله ﷺ قال: «إذا أمن الرجل الرجل على دمه ثم قتله رفع له لواء الغدر يوم القيامة » فكففت عنه، ولعل هذا مستند ما نقل عن كتاب الإملاء لإمامنا الشافعي «رضي الله ع» من القول بأن المسلم يقتل بالمستأمن.

وقد كتب المختار للأحنف بن قيس وجماعته: وقد بلغني أنكم تسموني الكذاب وقد كذب الأنبياء من قبلي ولست بخير منهم.

وقد كان يقع منه أمور تشبه الكهانة، منها أنه لما جهز جيشا لقتال عبيد الله بن زياد المجهز لمقاتلة الحسين «رضي الله ع» كما تقدم قال لأصحابه في غد يأتي إليكم خبر النفير. وقتل ابن زياد فكان كما أخبر، وجيء برأس ابن زياد وألقيت بين يدي المختار وكان قتله يوم عاشوراء اليوم الذي قتل فيه الحسين. ثم قتل المختار، وكان قتل المختار على يد مصعب بن الزبير، جيء برأس المختار بين يدي مصعب لما ولي العراق من جانب أخيه لأبيه عبد الله بن الزبير.

ومما يؤثر عن مصعب: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين، ثم قتل مصعب وقطعت رأسه ووضعت بين يدي عبد الملك بن مروان.

وعن بعضهم أنه حدّث عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين دخلت القصر قصر الإمارة بالكوفة فإذا رأس الحسين على ترس بين يديه عبيد الله بن زياد وعبيد الله بن زياد على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار والمختار على السرير. ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ومصعب بن الزبير على السرير. ثم دخلت بعد ذلك بحين فرأيت رأس مصعب بن الزبير بين يديك وأنت على السرير، فقال عبد الملك لا أراك الله الخامسة ثم أمر بهدم ذلك القصر.

وعن إمامنا الشافعي «رضي الله ع» أن أبا الحجاج لما دخل بأم الحجاج واقعها، فنام فرأى قائلا يقول له في المنام: ما أسرع ما أنجبت بالمبير.

وفي كلام سبط ابن الجوزي أن أم الحجاج كانت قبل أبيه مع المغيرة بن شعبة فطلقها بسبب أنه دخل عليها يوما فوجدها تتخلل حين انقلبت من صلاة الصبح، فقال لها: إن كنت تتخللين من طعام البارحة إنك لقذرة، وإن كان من طعام اليوم إنك لنهمة، كنت فبنت، قالت: والله ما فرحنا إذ كنا، ولا أسفنا إذ بنا، ولا هو شيء مما ظننت، ولكني استكت فأردت أن أتخلل من السواك، فندم المغيرة على طلاقها، فخرج فلقي يوسف بن أبي عقيل والد الحجاج، فقال له: هل لك إلى شيء أدعوك إليه؟ قال: وما ذاك؟ قال: إني نزلت عن سيدة نساء ثقيف وهي الفارعة، فتزوجها تنجب لك، فتزوجها فولدت له الحجاج.

وفي حياة الحيوان إنها كانت قبل أبي الحجاج عند أمية بن أبي الصلت، هذا كلامه.

وقد يقال لا مانع أنها تزوجت الثلاثة وإن تزوجها لأمية كان قبل المغيرة، وكونها سيدة نساء ثقيف يبعد القول بأنها المتمنية التي مر بها سيدنا عمر «رضي الله ع» وهي تنشد:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها الأبيات وأنه كان يعير بها فيقال له ابن المتمنية.

وفي مدة صلب عبد الله بن الزبير صارت أمه تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. وذهب أخوه عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان يسأل في إنزاله عن الخشبة فأجابه وأنزله، قال غاسله: كنا لا نتناول عضوا من أعضائه إلا جاء معنا، فكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه، وقامت فصلت عليه أمه وماتت بعده بجمعة، ذكر ذلك في الاستيعاب، وقيل بعده بمائة يوم. قال الحافظ ابن كثير وهو المشهور. وبلغت من العمر مائة سنة، ولم يسقط لها سنّ، ولم ينكر لها عقل. وقتل مع ابن الزبير مائتان وأربعون رجلا، منهم من سال دمه في جوف الكعبة. وكان من جملة من قتل عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي. قتل يوم قتل ابن الزبير وقطع رأسه، وبعث الحجاج برأسه ورأس ابن الزبير إلى المدينة فنصبوهما وصاروا يقربون رأس عبد الله بن صفوان إلى رأس ابن الزبير كأنه يساره يلعبون بذلك، ثم بعثوا بهما إلى عبد الملك بن مروان.

ولما وضعت رأس عبد الله بن الزبير بين يدي عبد الملك سجد وقال: والله كان أحب الناس إليّ وأشدهم إليّ إلفا ومودة، ولكن الملك عقيم: أي فإن الرجل يقتل ابنه أو أخاه على الملك فإذا فعل ذلك انقطعت بينهما الرحم، وستأتي مدحة عبد الملك لعبد الله بن الزبير، وتوبيخ أمير الجيش الذي أرسله يزيد لمقاتلته.

وقد كان ابن الزبير قال لعبد الله بن صفوان: إني قد أقلتك بيعتي، فاذهب حيث شئت، فقال: إنما أقاتل عن ديني، وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما قتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا.

ومما يدل لما تقدم من أن عبد الله بن الزبير كان عنده سوء خلق، ما حكي أنه جاء إليه شخص فقال له: إن الناس على باب عبد الله بن عباس «رضي الله ع» يطلبون العلم وإن الناس على باب أخيه عبيد الله يطلبون الطعام، فأحدهما يفقه الناس، والآخر يطعم الناس، فما أبقيا لك مكرمة، فدعا شخصا وقال له: انطلق إلى ابني العباس «رضي الله ع» وقل لهما: يقول لكما أمير المؤمنين اخرجا عني وإلا فعلت وفعلت، فخرجا إلى الطائف: أي وقيل ما خرج عبد الله من مكة إلى الطائف إلا لأن الله تعالى يقول: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}.

فقد قال الشيخ محيي الدين بن العربي: اعلم أن الله تعالى قد عفا عن جميع الخواطر التي لا تستقر عندنا إلا بمكة، لأن الشرع قد ورد أن الله يؤاخذ فيه من يرد فيه بإلحاد بظلم، وكان هذا سبب سكنى عبد الله بن عباس بالطائف احتياطا لنفسه، لأنه ليس في قدرة الإنسان أن يدفع عن قلبه الخواطر.

قال بعضهم: كان يقال من أراد الفقه والجمال والسخاء فليأت دار العباس، الجمال للفضل، والسخاء لعبيد الله، والفقه لعبد الله.

قال: ولما حج عبد الملك: أي وذلك في سنة خمس وسبعين قال له الحارث: أنا أشهد لابن الزبير بالحديث الذي سمعه من خالته عائشة «رضي الله ع» قال: أنت سمعته منها؟ قال نعم، فجعل ينكت، بالمثناة فوق، بقضيب كان في يده الأرض ساعة، ثم قال: وددت أني كنت تركته يعني ابن الزبير وما تحمل.

وفي رواية أن عبد الملك كتب إلى الحجاج وددت أنك تركت ابن الزبير وما تحمل وهذا هو الموافق لما في تاريخ الأزرقي أن الحرث وفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة «رضي الله ع» ما كان يزعم أنه سمع منها في بناء الكعبة. قال الحرث: أنا سمعته منها، قال عبد الملك: أنت سمعته منها؟ الحديث وكون عائشة حدثت ابن الزبير بما ذكر لا ينافي ما في تاريخ ابن كثير عن بعضهم.

قال سمعت ابن الزبير «رضي الله ع» يقول: حدثتني أمي أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال لعائشة: «لولا قرب عهد قومك بالكفر لرددت الكعبة على أساس إبراهيم "عليه الصلاة والسلام» الحديث، وفي رواية «أن عائشة «رضي الله ع» نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله ﷺ تصلي في البيت ركعتين، فلما فتحت مكة، أي وحج رسول الله ﷺ حجة الوداع فسألت النبي ﷺ أن يفتح لها باب الكعبة ليلا، فجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله ﷺ وقال: يا رسول الله إنها لم تفتح ليلا قط، قال فلا تفتحها ثم أخذ رسول الله ﷺ بيدها وأدخلها الحجر وقال: صلي ههنا، فإن الحطيم» أي الحجر «من البيت إلا أن قومك قصرت بهم النفقة » أي الحلال «فأخرجوه من البيت، ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة، وأظهرت قواعد الخليل، وأدخلت الحطيم في البيت وألصقت العتبة على الأرض، ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك» ولم يعش "عليه الصلاة والسلام ولم تتفرغ الخلفاء لذلك.

وبما ذكر يعلم ما في قول الأصل فهدمها: أي عبد الملك وبناها على ما كانت عليه في عهد رسول الله.

وقد علمت أن الحجاج لم يبن إلا الحجاب الذي يليه الحجر، والبناء الذي تحت العتبة والدرجة التي في باطنها.

وأما التراب الذي جعل في باطنها، فيحتمل أن يكون هو التراب الذي أخرجه عبد الله بن الزبير استمر باقيا فأعاده الحجاج، ويحتمل أنه غيره، ولم أقف على بيان ذلك في كلام أحد.

والشاذروان الذي أخرجه عبد الله بن الزبير من عرض الأساس الذي بنته قريش لأجل مصلحة استمساك البناء وثباته.

ومن العجب ما حدث به بعضهم قال: كنت أميرا على الجيش الذي بعث به يزيد ابن معاوية إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فدخلت مسجد المدينة، فجلست بجانب عبد الملك بن مروان، فقال لي عبد الملك: أنت أمير هذا الجيش؟ قلت نعم، قال ثكلتك أمك، أتدري إلى من تسير؟ تسير إلى أول مولود ولد في الإسلام: أي بالمدينة من أولاد المهاجرين، وإلى ابن حواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين يعني أسماء، وإلى من حنكه رسول الله، أما والله إن جئته نهارا وجدّته صائما، وإن جئته ليلا وجدته قائما، فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله في النار جميعا، فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه.

وذكر بعضهم أن عبد الملك بن مروان لما رأى جيش يزيد متوجها إلى مكة قال: أعوذ بالله أيبعث الجيش إلى حرم الله، فضرب منكبه شخص كان يهوديا وأسلم وكان يقرأ الكتب وقال له: جيشك إليه أعظم.

ويقال إن هذا اليهودي مرّ على دار مروان والد عبد الملك هذا، فقال: ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار: أي لأن مروان كان سببا لقتل عثمان، وعبد الملك ابنه كان سببا لقتل عبد الله بن الزبير، ووقع من الوليد بن يزيد بن عبد الملك الأمور الفظيعة.

وسبب ولاية الحجاج على الجيش أنه قال لعبد الملك بن مروان: رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته فولني قتاله فولاه، فأرسله في جيش كثيف من أهل الشام، فحضر ابن الزبير ورمى الكعبة بالمنجنيق. ولما رمي به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام، فصاح الحجاج: هذه صواعق تهامة وأنا ابنها، ثم قام ورمى المنجنيق بنفسه فزاد ذلك، ولم تزل صاعقة تتبعها أخرى حتى قتلت اثني عشر رجلا فخاف أهل الشام زيادة.

قال بعضهم: ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق، ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم.

أي وفيه أنه لو كانت هدمت أو حرقت لأعيد بناؤها أو أصلحت بالترميم، ولو وقع ذلك لنقل، لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله، ولعل هذا اشتبه على بعض الرواة، ظن أن الذي وقع من جيش يزيد واقع من الحجاج.

فإن قيل هلا أهلك الله من نصب المنجنيق على الكعبة كما أهلك أبرهة؟ قلنا لأن من نصب المنجنيق لم يرد هدم الكعبة، بخلاف أبرهة كما تقدم. وفيه أنه قد يشكل كونه حرما آمنا.

وفي البخاري عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه قال حين وقع بينه وبين ابن الزبير: أي وأمره بأن يخرج إلى الطائف ويهدده على ما تقدم، قلت أبوه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدّته صفية. وفي رواية عنه أنه قال: أما أبوه فحواريّ رسول الله ﷺ يريد الزبير، وأما جده فصاحب الغار يريد أبا بكر، وأما أمه فذات النطاقين يريد أسماء، وأما خالته فأم المؤمنين يريد عائشة، وأما عمته فزوج النبي ﷺ يريد خديجة، وأما عمة النبي ﷺ فجدته يريد صفية، ثم عفيف في الإسلام، وقارىء للقرآن.

ولما قتل عبد الله بن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فجمع الحجاج الناس وخطبهم وقال في خطبته: ألا إن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة إلا أنه نازع الحق أهله، إن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته وآدم أكرم على الله من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة اذكروا الله يذكركم.

ومن أعلام نبوّته ما روي «أن عبد الله بن الزبير لما ولد نظر إليه رسول الله، فقال: هو هو، فلما سمعت بذلك أمه أمسكت عن إرضاعه، فقال لها النبي ﷺ أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب وذئاب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه».

وفي حياة الحيوان: العرب إذا أرادوا مدح الإنسان قالوا كبش، وإذا أرادوا ذمه قالوا تيس، ومن ثم قال في المحلل: «التيس المستعار».

ويقال إن الحجاج بعد قتل ابن الزبير ذهب إلى المدينة وعلى وجهه لثام، فرأى شيخا خارجا من المدينة فسأله عن حال أهل المدينة، فقال شرّ حال، قتل ابن حواري رسول الله، قال: من قتله؟ قال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله ورسله، من قليل المراقبة لله، فغضب الحجاج غضبا شديدا، ثم قال: أيها الشيخ أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال نعم ولا عرّفه الله خيرا، ولا وقاه ضيرا، فكشف الحجاج اللثام عن وجهه وقال: ستعلم الآن إذا سال دمك الساعة، فلما تحقق الشيخ أنه الحجاج قال: إن هذا لهو العجب يا حجاج، أنا فلان أصرع من الجنون في كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: اذهب لا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه، وخلوص هذا من يد الحجاج من العجب، لأن إقدامه على القتل ومبادرته إليه أمر لم ينقل مثله عن أحد.

وكان يخبر عن نفسه ويقول: إن أكبر لذاته سفك الدماء. قال بعضهم: والأصل في ذلك أنه لما ولد لم يقبل ثديا فتصور لهم إبليس في صورة الحرث بن كلدة طبيب العرب، وقال: اذبحوا له تيسا أسود، وألعقوه من دمه، واطلوا به وجهه، ففعلوا به ذلك فقبل ثدي أمه.

وذكر أنه أتي إليه بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها وهي لا تنظر إليه ولا ترد عليه كلاما، فقال لها بعض أعوانه: يكلمك الأمير وأنت معرضة، فقالت: إني أستحيي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت. وقد أحصي الذي قتل بين يديه صبرا فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا.

ولما عزى سيدتنا أسماء عبد الله بن عمر «رضي الله ع»، وأمرها بالصبر قالت: وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، وقد جاء أن هذه البغي أول من يدخل النار.

ويقال إن عبد الله بن الزبير قال لأمه يوم قتل: يا أمه إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك، وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يعمد لإتيان منكر ولا عمل فاحشة.

وفي كون عبد الله بن عمر «رضي الله ع» تأخر موته عن ابن الزبير نظر، فقد قيل: إن عبد الله بن عمر مات قبل ابن الزبير بثلاثة أشهر. وسبب موته أن الحجاج سفه عليه، فقال له عبد الله: إنك سفيه مسلط فغيره ذلك عليه، فأمر الحجاج شخصا أن يسمّ زجّ رمحه ويضعه على رجل عبد الله، ففعل به ذلك في الطواف، فمرض من ذلك أياما ومات.

ويذكر أن الحجاج دخل ليعوده فسأله عمن فعل به ذلك وقال له: قتلني الله إن لم أقتله، فقال له عبد الله: لست بقاتل له، قال ولم؟ قال: لأنك الذي أمرته.

وقول عبد الله بن عمر «رضي الله ع» للحجاج إنك سفيه مسلط، يشير إلى قول أبيه عمر «رضي الله ع»، فإنه لما بلغه أن أهل العراق حصبوا أميرهم: أي رجموه بالحجارة خرج غضبان فصلى فسها في صلاته، فلما سلم قال: اللهم إنهم قد لبسوا عليّ، فألبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم، وكان ذلك قبل أن يولد الحجاج.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما مات ابن الزبير واستقر الأمر لعبد الملك بن مروان بايعه عبد الله بن عمر. ويوافقه ما في الدلائل للبيهقي أن ابن عمر وقف على ابن الزبير وهو مصلوب وقال: السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم.

ويذكر أنه كان لعبد الله بن الزبير «رضي الله ع» مائة غلام لكل غلام منهم لغة لا يشاركه غيره فيها، وكان يكلم كل واحد منهم بلغته، وهذا أغرب مما استغرب. وهو أن ترجمان الواثق بالله من خلفاء بني العباس كان عارفا بألسن كثيرة، حتى قيل إنه يعرف أربعين لغة، ويماري فيها.

وقد قال الحجاج لعروة بن الزبير يوما في كلام جرى بينهما: لا أم لك، فقال: إليّ تقول هذا وأنا ابن عجائز الجنة؟ يعني جدته صفية وعمته خديجة وخالته عائشة وأمه أسماء.

وقال الحجاج يوما لشخص: ما تقول في عبد الملك بن مروان؟ فقال الرجل: ما أقول في رجل أنت سيئة من سيئاته.

وقد أطلق سليمان بن عبد الملك لما ولي الخلافة من سجن الحجاج سبعين ألفا قد حبسهم للقتل ليس لواحد منهم ذنب يستوجب به الحبس فضلا عن القتل.

وذكر أنه كان يحبس الرجال مع النساء، ولم يكن لحبسه بيوت أخلية، فكان الرجل يبول بجانب المرأة والمرأة تبول بجانب الرجل، فتبدو العورات، وكان كل عشرة في سلسلة، ويطعمهم خبز الدخن مخلوطا بالملح والرماد.

ومر يوم جمعة فسمع استغاثة، فقال: ما هذا؟ فقيل له أهل السجن يقولون قتلنا الحر، فقال: قولوا لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون، فما عاش بعد ذلك إلا أقل من جمعة.

وآخر من قتله الحجاج من التابعين سعيد بن جبير «رضي الله ع»، ولم يقتل بعد ابن جبير إلا رجلا واحدا.

وقال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بفرعونها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم. وقال سليمان بن عبد الملك لرجل من أخصاء الحجاج بعد موت الحجاج: أبلغ الحجاج قعر جهنم؟ فقال: يا أمير المؤمنين يجيء الحجاج يوم القيامة بين أبيك عبد الملك، وبين أخيك الوليد بن عبد الملك، فضعه في النار حيث شئت.

ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم، قال: مات رجل، فلما وضع على مغتسله استوى قاعدا وقال: نظرت بعيني هاتين ـ وأهوى بيديه إلى عينيه ـ الحجاج وعبد الملك في النار يسحبان بأمعائهما ثم عاد ميتا كما كان.

والحجاج متأصل في الظلم. فقد رأيت بعضهم حكى أنه يقال في المثل: أظلم من ابن الجلندي، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} وإنه من أجداد الحجاج، بينه وبينه سبعون جدا.

واستحلف الحجاج رجلا في أمر فقال: لا والذي أنت في يديه غدا أذل مني بين يديك اليوم، فقال: والله إني يومئذ لذليل.

وأول من ضرب الدراهم في الإسلام الحجاج بأمر عبد الملك بن مروان، وكتب عليها: {قل هو الله أحد الله الصمد} أي على أحد وجهي الدراهم {قل هو الله أحد} وعلى وجهه الثاني {الله الصمد}.

ولم توجد الدراهم الإسلامية إلا في زمن عبد الملك بن مروان، وكانت الدراهم قبل ذلك رومية وكسروية. وفي زمن الخليفة المستنصر بالله وهو السابع والثلاثون من خلفاء بني العباس ضرب دراهم وسماها النقرة، وكانت كل عشرة بدينار، وذلك في سنة أربع وعشرين وستمائة.

ولما دخل سليمان بن عبد الملك المدينة سأل هل بالمدينة أحد أدرك أحدا من أصحاب رسول الله؟ فقالوا: أبو حازم، فأرسل إليه، فلما دخل عليه سأله فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من عمران إلى خراب، فقال له: وكيف القدوم على الله؟ قال: أما المحسن فكغائب يقدم على أهله، وأما المسيىء فكآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: يا ليت شعري، ما لنا عند الله؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله تعالى، فقال: في أي مكان أجده؟ فقال: في قوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم} قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين، قال: فأي عباد الله أكرم؟ قال: أولوا المروءة.

وجاء أعرابي إلى سليمان بن عبد الملك هذا، فقال: يا أمير المؤمنين إني أكلمك بكلام فاحتمله، فإن وراءه إن قبلته ما تحب. فقال سليمان: هاته يا أعرابي، فقال الأعرابي: إني طلق لساني بما خرست عنه الألسن تأدية لحق الله. إنه قد اكتنفك رجال قد أساؤوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، وخافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فهم حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما استخلفك الله عليه، فإنهم لن يبالوا بالأمانة، وأنت مسؤول عما اجترموا فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس عند الله عيبا من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: أنت ما أنت بأعرابي، فقد سللت لسانك وهو سيفك، قال: أجل يا أمير المؤمنين لك لا عليك.

ولما حج بالناس قال لولد عمه وولى عهده عمر بن عبد العزيز: ألا ترى هذا الخلق، الذي لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولا يسع رزقهم غيره؟ فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غدا خصماؤك عند الله، فبكى سليمان بكاء شديدا، ثم قال: بالله أستعين، وقال يوما لعمر بن عبد العزيز «رضي الله ع» حين أعجبه ما صار إليه من الملك: يا عمر كيف ترى ما نحن فيه؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عديم، وملك لولا أنه هلك، وفرح لو لم يعقبه ترح، ولذات لو لم تقترن يآفات، وكرامة لو صحبتها سلامة، فبكى سليمان رحمه الله حتى أخضلت دموعه لحيته.

وولاية عمر بن عبد العزيز بشَّر بها جده لأمه عمر بن الخطاب «رضي الله ع». فعنه «رضي الله ع» أنه قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شين. وفي رواية: علامة، يملأ الأرض عدلا، فكان ولده عبد الله يقول كثيرا: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر بن الخطاب في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا. وفي رواية عنه كان يقول: يا عجبا يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر. قال بعضهم: فإذا هو عمر بن عبد العزيز، لأن أمه ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب «رضي الله ع».

ومما يؤثر عن سليمان رحمه الله تعالى أنه لما ولي الخلافة وقام خطيبا قال: الحمد لله الذي ما شاء صنع، وما شاء رفع، ومن شاء وضع، ومن شاء أعطى، ومن شاء منع، إن الدنيا دار غرور، تضحك باكيا وتبكي ضاحكا، وتخيف آمنا، وتؤمن خائفا.

وقال في خطبة من خطبه أيضا: أيها الناس أين الوليد وأبو الوليد وجد الوليد؟ أسمعهم الداعي، واستردّ العواري، واضمحل ما كان كائن، لم يكن أذهب عنهم ثابت الحياة، وفارقوا القصور، واستبدلوا بلين الوطىء خشن التراب، فهم رهناء فيه إلى يوم المآب، فرحم الله عبدا مهد لنفسه: {يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا}.

ولما ولي الخلافة أبو جعفر المنصور أراد أن يبني الكعبة على ما بناها ابن الزبير وشاور الناس في ذلك، فقال له الإمام مالك بن أنس: أنشدك الله: أي بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة: أي أسألك بالله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه. قال: وذكر الطبري في مناسكه أن الذي أراد ذلك ونهاه مالك هو الرشيد اهـ.

أقول: وكونه الرشيد هو الذي ذكره المقريزي. واقتصر عليه، ولأن المنصور مات محرما ببئر ميمونة لستة أيام خلون من ذي الحجة فلم يدخل مكة.

وقد يقال: يجوز أن يكون دخل المدينة قبل سيره إلى مكة، واستشار الناس في المدينة فقال له الإمام مالك ما تقدم، وأن الرشيد أيضا أراد ذلك، واستشار الإمام مالكا فأشار عليه بما ذكر.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير: لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالكا في ردها: أي الكعبة على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن تتخذها الملوك لعبة.

ورأيت في كلام بعضهم أن المنصور حج، وأنه لما قضى الحج والزيارة توجه إلى زيارة بيت المقدس، ولعل هذا كان في حجة غير هذه التي مات فيها.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور حج وهو خليفة أربع حجات غير الحجة التي مات فيها. وكذا في (القرى لقاصد أم القرى) للطبري. وذكر أنه مات في الحجة الخامسة قبل يوم التروية بيومين، وأنه أحرم في بعض حججه من بغداد.

وقد ذكر الشيخ الصفوي أن المنصور بلغه أن سفيان الثوري ينقم عليه في عدم إقامة الحق، فلم توجه المنصور إلى الحج وبلغه أن سفيان بمكة أرسل جماعة أمامه، وقال لهم: حيثما وجدتم سفيان خذوه واصلبوه، فنصبوا الخشب ليصلبوا سفيان عليه، وكان سفيان بالمسجد الحرام، رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان ابن عيينة، فقيل له خوفا عليه: بالله لا تشمت بنا الأعداء، قم فاختف، فقام ومشى حتى وقف بالملتزم وقال: ورب هذه الكعبة لا يدخلها يعني مكة المنصور، وكان وصل إلى الحجون فزلقت به راحلته فوقع عن ظهرها ومات من فوره، فخرج سفيان وصلى عليه، هذا كلامه.

وقد يقال: لا مخالفة بين هذا وبين ما تقدم أنه مات ببئر ميمونة، لأنه يجوز أن يكون المراد بوصوله إلى الحجون وصول خيله وركبه فليتأمل.

ثم رأيت في تاريخ ابن كثير أن المنصور لما خرج للحج وجاوز الكوفة بمراحل، أخذه وجعه الذي مات فيه، وأفرط به الإسهال، ودخل مكة فنزل بها وتوفي، ولعل هذا لا يخالف ما سبق، لأنه يجوز أنه أطلق مكة على المحل القريب منها، وأنه مع انطلاق بطنه زلقت به فرسه.

قيل وآخر ما تكلم به المنصور: اللّهم بارك لي في لقائك. ومما يؤثر عنه: أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه، والله أعلم.

وتقدم أن قصيا لما أمر قريشا أن تبني حول الكعبة بيوتها، فبنيت بيوتها من جهاتها الأربع وتركوا قدر المطاف، واستمر الأمر على ذلك زمنه وزمن أبي بكر «رضي الله ع»، فلما ولي عمر «رضي الله ع» رأى أن يوسع حول الكعبة، فاشترى دورا وهدمها ووسع حول الكعبة، وبنى جدارا قصيرا على ذلك، وجعل فيه أبوابا، ثم وسعه عثمان، ثم عبد الله بن الزبير.

ثم إن عبد الملك بن مروان رفع الجدران وسقفه بالساج، ثم إن الوليد بن عبد الملك نقض ذلك، ونقل إليه الأساطين الرخام، وسقفه بالساج المزخرف، وأزر المسجد بالرخام، ثم زاد فيه المنصور ورخم الحجر، ثم زاد فيه المهدي أولا وثانيا حتى صارت الكعبة في وسط المسجد.

وفي أيام المعتضد أدخلت دار الندوة في المسجد، وتسمى مكة فاران، وتسمى قرية النمل لكثرة نملها، أو لأن الله سلط فيها النمل على العماليق لما أظهروا فيها الظلم حتى أخرجهم من الحرم كما تقدم، ولها أسماء كثيرة قد أفردها صاحب القاموس بمؤلف.

أقول: وسيأتي عن الإمام النووي أنه قال: ليس في البلاد أكثر أسماء من مكة والمدينة، والله أعلم.

قال: وعن أبي هريرة «رضي الله ع»: «خلقت الكعبة أي موضعها قبل الأرض بألفي سنة، كانت حشفة على الماء، عليها ملكان يسبحان، فلما أراد الله تعالى أن يخلق الأرض دحاها منها، فجعلها في وسط الأرض» انتهى.

وسئل الجلال السيوطي «رضي الله ع» عن قوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام} هل كانت أيام ثم موجودة قبل خلق السموات والأرض؟ .

فأجاب: بأن خلق السموات والأرض وخلق الأيام كان دفعة واحدة من غير تقديم لأحدهما على الآخر، واستند في ذلك لمأثور التفسير.

وفي الحديث «إن الله حرم مكة قبل أن يخلق السموات والأرض» الحديث. وحينئذ فقوله: «إن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام حرم مكة » معناه أظهر حرمتها.

السيرة الحلبية
مقدمة | نسبه الشريف | تزويج عبد الله أبي النبي آمنة أمه وحفر زمزم | حمل أمه به | وفاة والده | مولده | تسميته محمدا وأحمد | رضاعه | وفاة أمه وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب إياه | وفاة عبد المطلب وكفالة عمه أبي طالب له | سفره مع عمه إلى الشام | ما حفظه الله به في صغره | رعيته الغنم | حضوره حرب الفجار | شهوده حلف الفضول | سفره إلى الشام ثانيا | تزوجه خديجة بنت خويلد | بنيان قريش الكعبة | ما جاء من أمر رسول الله عن أحبار اليهود ورهبان النصارى والكهان والجان | سلام الحجر والشجر عليه قبل مبعثه | المبعث وعموم بعثته | بدء الوحي | وضوؤه وصلاته أول البعثة | أول الناس إيمانا به | استخفائه وأصحابه في دار الأرقم ودعائه إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه | عرض قريش عليه أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي | الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وإسلام عمر بن الخطاب | اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب وكتابة الصحيفة | الهجرة الثانية إلى الحبشة | وفد نجران | وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة | خروج النبي إلى الطائف | الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه | الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس | عرض رسول الله نفسه على القبائل أن يحموه ويناصروه | الهجرة إلى المدينة | بدء الأذان والإقامة | مغازيه: غزوة بواط | غزوة العشيرة | غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى | تحويل القبلة | غزوة بدر الكبرى | غزوة بني سليم | غزوة بني قينقاع | غزوة السويق | غزوة قرقرة الكدر | غزوة ذي أمر | غزوة بحران | غزوة أحد | غزوة حمراء الأسد | غزوة بني النضير | غزوة ذات الرقاع | غزوة بدر الآخرة | غزوة دومة الجندل | غزوة بني المصطلق | غزوة الخندق | غزوة بني قريظة | غزوة بن لحيان | غزوة ذي قرد | غزوة الحديبية | غزوة خيبر | غزوة وادي القرى | عمرة القضاء | غزوة مؤتة | فتح مكة | غزوة حنين | غزوة الطائف | غزوة تبوك | سراياه وبعوثه: سرية حمزة بن عبد المطلب | سرية عبيدة بن الحارث | سرية سعد بن أبي وقاص | سرية عبد الله بن جحش | سرية عمير بن عدي الخطمي | سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك | سرية عبد الله بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف الأوسي | سرية عبد الله بن عتيك لقتل أبي رافع | سرية زيد بن حارثة إلى القردة | سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد | سرية الرجيع | سرية القراء إلى بئر معونة | سرية محمد بن سلمة إلى القرطاء | سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر | سرية محمد بن مسلمة لذي القصة | سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة أيضا | سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم | سرية زيد بن حارثة إلى العيص | سرية زيد بن حارثة إلى بني ثعلبة | سرية زيد بن حارثة إلى جذام | سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق لبني فزارة | سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل | سرية زيد بن حارثة إلى مدين | سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفدك | سرية عبد الله بن رواحة إلى أُسَير | سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم | سرية سعيد بن زيد | سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى طائفة من هوازن | سرية أبي بكر إلى بني كلاب | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بفدك | سرية غالب بن عبد الله الليثي | سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن | سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح | سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد | سرية شجاع بن وهب الأسدي إلى بني عامر | سرية كعب بن عمير الغفاري | سرية عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل | سرية الخبط | سرية أبي قتادة إلى غطفان | سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي إلى الغابة | سرية أبي قتادة إلى بطن أضم | سرية خالد بن الوليد إلى العزى | سرية عمرو بن العاص إلى سواع | سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة | سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة | سرية أبي عامر الأشعري إلى أوطاس | سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين الصنم ليهدمه | سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم | سرية قطبة بن عامر إلى خثعم | سرية الضحاك الكلابي | سرية علقمة بن مجزز | سرية علي بن أبي طالب | سرية علي بن أبي طالب إلى بلاد مذحج | سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل | سرية أسامة بن زيد بن حارثة إلى أبنى | الوفود التي وفدت عليه | كتبه التي أرسلها إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام | كتابه إلى قيصر | كتابه إلى كسرى | كتابه للنجاشي | كتابه للمقوقس ملك القبط | كتابه للمنذر بالبحرين | كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان | كتابه إلى هوذة | كتابه إلى الحارث الغساني | حجة الوداع | عمَره | معجزاته | خصائصه | أولاده | أعمامه وعماته | أزواجه وسراريه | خدمه الأحرار | الذين أعتقهم | كتّابه | حراسه | من ولي السوق في زمنه | من كان يضحكه | أمناء الرسول | شعراؤه | من كان يضرب الأعناق بين يديه | مؤذنوه | العشرة المبشرون بالجنة | حواريوه | سلاحه | خيله وبغاله وحمره | صفته الظاهرة | صفته الباطنة | مرضه ووفاته | بيان ما وقع من عام ولادته إلى زمان وفاته على سبيل الإجمال