→ غزوة أحد | السيرة الحلبية غزوة حمراء الأسد علي بن برهان الدين الحلبي |
غزوة بني النضير ← |
لما كان صبيحة قدومه من أحد أذن مؤذنه أن يخرجوا خلف قريش، وأن لا يخرج إلا من حضر أحدا، وذلك إرهابا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم: أي يضعفهم عن عدوهم.
قال: وقيل لأنه بلغه أن أبا سفيان يريد أن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله، فقد بلغه أن المشركين قالوا له: لا محمدا قتلتم، ولا الكواكب أردفتم، بئس ما صنعتم ارجعوا.
أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم، إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، فقذف الله في قلوب الرعب.
ويذكر أن عبدالله بن عوف جاء إلى النبي ﷺ صبيحة قدومه من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به؛ فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي، وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول: يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم، فقال: أرشدهم صفوان، وما كان يرشد فدعا رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر رضي عنهما، وذكر لهما الخبر: أي ما أخبر به عبدالله بن عوف فقالا: يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية. فلما انصرف رسول الله ﷺ من صلاة الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي إن رسول الله ﷺ يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس، انتهى.
وعند تهيئة للخروج جاء جابر بن عبدالله «رضي الله ع» فقال: يا رسول الله إنما تخلف عن أحد، لأن أبي خلفني على أخوات لي سبع، أي وقيل وهو الصحيح إنهن تسع، وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله، لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستحلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة، فأئذن لي يا رسول الله معك، فأذن له رسول الله ﷺ ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبدالله بن أبي قال له أنا راكب معك، فأبى ذلك عليهم رسول الله.
ودعا رسول الله ﷺ بلوائه وهو معقود لم يحل، فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويقال لأبي بكر الصديق «رضي الله ع» واستخلف على المدينة ابن أم. مكتوم. وركب رسول الله ﷺ فرسه: أي المسمى بالسكب، ولم يكن مع أصحابه فرس سواه، وعليه الدرع والمغفر وما يرى إلا عيناه وخرج الناس معه: أي جميع من كان معه في أحد.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت في قوله تعالى {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} الآية، قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي كان أبوك الزبير «رضي الله ع» وأبو بكر لما أصاب نبيّ الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال: من يرجع في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا. قال ابن كثير وهذا السياق غريب جدا، فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذي خرجوا مع رسول الله ﷺ إلى حمراء الأسد كل من شهد أحدا وكانوا سبعمائة كما تقدم، قتل منهم سبعون وبقي الباقي، هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم.
قال: والظاهر أنه لا تخالف، لأن معنى قولها يعني عائشة: أنهم سبقوا غيرهم، ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم: أي لم يلتفتوا لذلك، والمراد دواء غير تكميد جراحهم بالنار، وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع، ويتباع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع، فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك: أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة.
فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير «رضي الله ع»، وعقبة بن عامر «رضي الله ع». ومنهم من كان به عشر جراحات، وهو خراش بن الصمة «رضي الله ع» ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة، وهو كعب بن مالك «رضي الله ع». ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة، وهو طلحة بن عبيدالله، وقطعت أصبعه. قيل السبابة، وقيل البنصر فشلت بقية أصابع يه وهي اليسرى. وفي رواية أنامله كما تقدم. ومنهم من كان به عشرون جراحة، وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم: أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال لما رآهم «اللهم ارحم بني سلمة».
وخرج رسول الله ﷺ وهو مجروح، وفي وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في وجهه، ومكسورة رباعيته وشفته السفلى قد جرحت من باطنها: أي وفي المنتقى: وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله، وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة، وتلقاه طلحة بن عبيدالله «رضي الله ع»، فقال له يا طلحة أين سلاحك؟ فقال: قريب، فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به، وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة. يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله ﷺ مني بجراحي. ثم أقبل عليّ رسول ا فقال: يا طلحة أين ترى القوم، فقلت: بالسفالة، فقال رسول الله ﷺ: ذلك الذي ظننت، أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا. وقال لعمر بن الخطاب «رضي الله ع» «يا بن الخطاب: إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن» ا هـ.
وكان دليله في السير ثابت بن الضحاك، وليس هو أخا جبير، وقيل أخوه، ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد: أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال، أي وقيل عشرة أميال.
وعن رجل من الأنصار قال «شهدت أحد أنا وأخي، فرجعنا جريحين، فلما أذن رسول الله ﷺ بالخروج في طلب العدو، فقال لي أخي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله » وفي لفظ «إن تركنا غزوة مع رسول الله ﷺ لفسق والله ما لنا من دابة نركبها، فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه، فكنت إذا غلب حملته عقبة ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد، أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران، فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عباد بن بشر مع طائفة، فلما أتي بهما إلى رسول الله ﷺ قال لهما ما حبسكما؟ فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما بخير وقال لهما: إن طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم» أي هذان الرجلان عبدالله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع، والحامل له عبدالله.
وأقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال، وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد. وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه، فكبت الله تعالى عدوّهم. قال جابر بن عبدالله «رضي الله ع»: وكان عامة زادنا التمر.
وحمل سعد بن عبادة «رضي الله ع» ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء. ولقي كفار قريش معبدا الخزاعي، وكان يومئذٍ مشركا بالروحاء، وكان رأى خروجه خلف قريش، فأخبرهم بخروج رسول الله ﷺ لطلبهم، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة. قال: لما كان بحمراء الأسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه، فقال: يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأن المصيبة كانت لغيرك. ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر، ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا على أن لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا: أي يأخذوا ثأرهم منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط، قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، فقال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، فانصرفوا سراعا ا هـ.
أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله ﷺ وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة، فلما بلغوا رسول الله ﷺ ذلك، قال: : حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح} الآية، وقال «والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله ﷺ بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين، فانصرف إلى المدينة، وظفر في حمراء الأسد ببي عزة الشاعر الذي من عليه وقد أسر ببدر من غير فداء لأجل بناته؛ وأخذ عليه عهدا أن لا يقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم، فنقض العهد، وخرج مع قريش لأحد، وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله بأشعاره كما تقدم. فدعا رسول الله ﷺ لا يفلت فأسر. ثم قيل: إن المشركين لما نزلوا بحمراء الأسد تركوه نائما، فاستمرّ حتى ارتفع النهار، وكان الذي أخذه عاصم بن ثابت، وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة، وقيل أسره عمير بن عبدالله.
وفي النور: لا أستحضر أحدا في الصحابة اسمه عمير بن عبدالله، فلما جيء به إليه قال: يا محمد أقلني وامنن علي؛ ودعني لبناتي، وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت، فقال: لا والله لا تمسح عارضيك بمكة. وفي لفظ: تمسح لحيتك تجلس بالحجز، تقول خدعت محمدا. وفي لفظ: سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد. وفي لفظ: يا عاصم بن ثابت. وفي لفظ: يا زبير، وقال «لا يلدغ» بالدال المهملة والغين المعجمة. وفي لفظ «لا يلسع المؤمن من حجر مرتين» فضرب عنقه.
وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح. قال بعضهم: وهو أول رأس حمل في الإسلام، أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا، لإمكان أن يراد أن رأس أبي عزة أوّل رأس حمل إلى المدينة على رمح. ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار، وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده. فلما ولي معاوية «رضي الله ع» فر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات، فأخبر بذلك زياد والي العراق، فأرسل من حز رأسه وأرسل به إلى معاوية، فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد.
قال بعضهم في معنى هذا المثل: أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين: إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم، وهذا المثل لم يسمع من غيره. ومورده أن شخصا جرد سيفه وقصد النبي ﷺ فضربه ليقتله فاخطأت الضربة، فقال: كنت مازحا يا محمد فعفا عنه، ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك، فأمر بقتله وقال «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين».
وأمر في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه، وقد كان لجأ إلى ابن عمه عثمان بن عفان «رضي الله ع»: أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه، فقالت أم كلثوم بنت النبي ﷺ زوج عثمان من أنت؟ قال: ابن عم عثمان، فقالت: ليس هو هاهنا، فقال: أرسلي إليه. فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه، فجاء عثمان، فلما نظر إليه قال: أهلكتني وأهلكت نفسك، فقال: يا بن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني، فأدخله عثمان «رضي الله ع» منزله وصيره في ناحية، ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله، فسمع رسول الله ﷺ يقول: إن معاوية بالمدينة فاطلبوه، فدخلوا منزل عثمان، فأشارت إليهم أم كلثوم «رضي الله ع» بأنه في ذلك المكان، فأخرجوه وأتوا به رسول الله، فأمر بقتله، فقال عثمان «رضي الله ع»: والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لآخذ له أمانا، فهبه لي، فوهبه وأجله ثلاثا، وأقسم إن وجده بعدها قتله.
وخرج رسول الله ﷺ إلى حمراء الأسد، فأقام معاوية ثلاثا يستعلم أخبار رسول الله ﷺ ليأتي بها قريشا، فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله ﷺ إلى المدينة فخرج معاوية هاربا، فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر «رضي الله ع»، فرمياه حتى قتلاه، وقد كان بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا: أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال، فوجداه به فقتلاه. وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله، وكان بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم، فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الأسد فقتلوهما فوجدهما النبي ﷺ قتيلين بحمراء الأسد فدفنهما في قبر واحد. ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد.
وجاءه جبريل "عليه السلام" بعد رجوعه إلى المدينة، بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذّر، وتقدم أنه بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن زياد، وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت، لأن سويدا كان قد قتل زيادا أبا المجذر، في الجاهلية، فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام، وكان ذلك سببا لوقعة بغاث، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلم الحارث بن سويد، وأسلم المجذر ابن زياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث يطلب مجذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه كما تقدم، فلما كان يوم أحد رجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه، قيل وقتل أيضا قيس بن زيد. فنهض رسول الله ﷺ إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه وهو شدة الحر في يوم حار، فخرج إليه الأنصار من أهل قباء «رضي الله ع» ومنهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورّس. وفي لفظ في ملحفة مورسة. وفي لفظ في ثوبين مضرّجين. وفي لفظ ممرّضين، فأمر رسول الله ﷺ عويمر بن ساعدة بضرب عنقه، أي فقال له: قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه، وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك، فقدم ليضرب عنقه، فقال الحارث: لم يا رسول الله؟ فقال: بقتلك المجذر بن زياد وقيس بن زيد، فما راجعه الحارث بكلمة، فضرب عنقه. قال: وفي رواية أن الحارث قال: والله قتلته: أي المجذر، وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه، ولكن حمية من الشيطان، وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت، وأخرج ديته، وأصوم شهرين متتابعين، وأعتق رقبة، فلم يقبل منه النبي ﷺ ذلك انتهى. ولم يذكر قتل قيس بن زيد، ولعله اكتفى بذلك في قتله الحارث، ويعلم استحقاقه القتل بقتل قيس بن زيد بطريق أولى.
أي وكان في هذه السنة الثالثة مولد الحسن بن علي «رضي الله ع»، وسماه حربا، فسماه رسول الله ﷺ الحسن، أي لأنه لما جاء قال: أروني ابني، ما سميتموه؟ قال عليّ حربا يا رسول الله، فقال: هو حسن، وحنكه بتمر.
وكان في هذه السنة تحريم الخمر. وقيل كان تحريمها في السنة الرابعة وهو محاصر لبني النضير. وقيل كان تحريمها بين الحديبية وخيبر. وقيل كان بخيبر قال «الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة» وفي رواية «الكرمة والنخلة» وفي رواية «الكرم والنخل» كذا في مسلم. ولعل ذكر الكرم كان قبل النهي عنه، وإلا ففي مسلم «لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم لرجل المسلم وفي رواية «فإن الكرم قلب المؤمن» أو قيل ذلك بيانا للجواز إشارة إلى أن النهي للتنزيه.
وقد حرمت الخمر ثلاث مرات:
لأولى في قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر} أي القمار {قل فيهما إثم كبير} فإنه قدم المدينة وهم يشربون الخمر، ويأكلون القمار، فسألوه عن ذلك فنزلت الآية. الثانية أن بعض الصحابة صلى بأصحابه صلاة المغرب وهو سكران فخلط في القراءة، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ماتقولون} ثم أنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} فكف الناس عن شربها.
وقد جاء أن حمزة «رضي الله ع» لما شربها قال للنبي ومن معه هل أنتم إلا عبيد لأبي؟ أي ففي البخاري «أن حمزة «رضي الله ع» لما شرب الخمر خرج فوجد ناقتين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فعلاهما بالسيف وبقر خواصرها، ثم أخذ من أكبادهما وجبّ سناميهما. قال علي كرم الله وجهه: فنظرت إلى منظر أفظعني، فأتيت نبيّ الله وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبر، فخرج ومعه زيد، فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه، فرفع حمزة «رضي الله ع» بصره وقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع النبي ﷺ يقهقر حتى خرج وذلك قبل تحريم الخمر، ولكون السكر كان مباحا لم يرتب على قول حمزة مقتضاه مع أن من قال لنبي أنت عبدي أو عبد أبي كفر.
واعترض القول بأنها في السنة الرابعة، بأن أنس بن مالك كان ساقيا لها، فلما سمع المنادي بتحريمها أراقها.
وفي البخاري عن أنس «رضي الله ع»: وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا: أي أبا أيوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبيّ بن كعب وأبا عبيدة ابن الجراح «رضي الله ع»، إذا جاء رجل وقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس فأهريقت. وفي لفظ قال أنس «رضي الله ع»: فقمت إلى مهراس فضربتها بأسفله حتى تكسرت.
وفي مسلم عن أبي طارق «رضي الله ع» أنه قال: يا رسول الله إنما أصنعه: أي الخمر للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء، وإراقة الخمر حينئذ مع أنها كانت مباحة فهي محترمة تغليظ وتوكيد للتحريم وفطم للنفوس، لأن إراقتها لم تكن بأمر منه.
وسئل الحافظ السيوطي رحمه الله عن حكمة رجوعه القهقري، فأجاب بأنه لعله كان من خوف الوثوب عليه إرشادا لمن يخاف الوثوب، أو كان مقصوده مداومته لحظه، أو أن الراوي أراد بالقهقري مطلق الرجوع إلى المنزل لا بالظهر.
وأنس «رضي الله ع» لم يكن خادما للنبي حينئذ: أي في السنة الرابعة بل بعدها. وحينئذ يكون القول بأن كونه في الثالثة أشكل.
وأشكل من هذا ما حكاه ابن هشام في قصة الأعشى بن قيس أنه خرج إلى رسول الله، فلما كان بمكة اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره، فأخبره أنه جاء يريد رسول الله، فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا. فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب، فقال: إن يحرم الخمر. فقال اوعشى: أما هذه إن في النفس منها لغلالات، ولكني منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم، فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي، هذا كلامه لما علمت أن الخمر لم تحرم بمكة وإنما حرمت بالمدينة في السنة الثالثة أو الرابعة. وأجاب بعضهم بأن الأعشى أراد المدينة فاجتاز بمكة، فعرض له بعض كفار قريش.
واعترض بأنه قيل إن القائل له ذلك أبو جهل لعنه الله وكان في دار عتبة بن ربيعة وأبو جهل قتل ببدر في السنة الثانية.
وأجيب بأنه على تسليم صحة ذلك بأنه يجوز أن يكون أبو جهل لعنه الله قصد صد الأعشى عن الإسلام بطريق التقول والافتراء، لأنه كان يعرف ميل الأعشى إلى الخمر وعدم صبره على تركها، فاختلق هذا القول من عنده ليمنعه بذلك عن الإسلام.
أقول: لما حرمت الخمر قال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم أي لأن جماعة شربوها صبح يوم أحد قتلوا من يومهم شهداء، فأنزل الله تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} وكون أنس «رضي الله ع» لم يكن خادما للنبي إلا بعد السنة الرابعة يخالف ما سبق أن عند قدومه المدينة جاءت به أمه ليخدمه.
وفي البخاري عن أنس «رضي الله ع» قال «قدم النبي ﷺ المدينة ليس له خادم، ثم أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك فخدمته في السفر والحضر» وتقدم الجمع بين كون الآتي به أبا طلحة والآتي به أمه.
وفي البخاري أيضا عن أنس «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ قال لأبي طلحة: التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حين أخرج إلى خيبر، فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم، فكنت أخدم رسول الله ﷺ إذا نزل».
وقد يقال: لا منافاة لأنه يجوز أن يكون لم يأمر أنسا بالخروج معه إلى خيبر لظنه أن أمه لا تسمح له بذلك، فلما قال لأبي طلحة ما ذكر جاء إليه بأنس «رضي الله ع»، والله أعلم.