وهم أهل مصر والإسكندرية وليسوا من بني إسرائيل ـ على يد حاطب بن أبي بلتعة «رضي الله ع».
بعث رسول الله ﷺ حاطب بن أبي بلتعة «رضي الله ع» إلى المقوقس، أي فإنه عند منصرفه من الحديبية، قال: أيها الناس، أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله، فوثب إليه حاطب «رضي الله ع»، وقال، أنا يا رسول الله، قال: بارك الله فيك يا حاطب، قال حاطب «رضي الله ع»: فأخذت الكتاب وودّعته، وسرت إلى منزلي، وشددت على راحلتي، وودعت أهلي وسرت.
زاد السهيلي: وأنه أرسل مع حاطب جبيرا مولى أبي رهم الغفاري، فإن جبيرا هو الذي جاء بمارية من عند المقوقس.
واعترض بأن هذا لا يلزمه أن يكون أرسل جبيرا مع حاطب للمقوقس، لجواز أن يكون المقوقس أرسل جبيرا مع حاطب. والمقوقس لقب، وهو لغة: المطول للبناء، واسمه جريج بن مينا. وبعث معه كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتّين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط» أي الذين هم رعاياك، و{يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} وختم الكتاب، وجاء به حاطب «رضي الله ع» حتى دخل على المقوقس بالإسكندرية: أي بعد أن ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية، فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر، فركب حاطب «رضي الله ع» سفينة وحاذى مجلسه، وأشار بالكتاب إليه، فلما رآه أمر باحضاره بين يديه، فلما جيء به نظر إلى الكتاب وفضه وقرأه، وقال لحاطب: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه: أي من قومه، وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم، فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت، فقال له حاطب: ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله؟ فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله تعالى حتى رفعه الله إليه؟ قال: أحسنت، أنت حكيم جاء من عند حكيم، ثم قال له حاطب «رضي الله ع»: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى يعني فرعون {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك، إن هذا النبي ﷺ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له يهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل نبي أدرك قوما فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، فأنت ممن أدرك هذا النبي. ولسنا ننهاك عن دين المسيح "عليه السلام"، ولكنا نأمرك به. فقال: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب عنه، ولم أجده بالساحر الضالّ ولا الكاهن الكذاب، ووجدت معه آلة النبوّة بإخراج الخبء بفتح الخاء المعجمة وهمز في آخره: أي الشيء الغائب المستور، والإخبار بالنجوى، أي يخبر بالمغيبات وسأنظر، وأخذ كتاب النبي ﷺ وجعله في حق عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له.
ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية، فكتب إلى النبي: «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك. أما بعد: فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك»، أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب «وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم» أي وهما مارية وسيرين بالسين المهملة مكسورة «وبثياب: أي وهي عشرون ثوبا من قباطي مصر» قال بعضهم: وبقيت تلك الثياب حتى كفن في بعضها.
وفي كلام هذا البعض: وأرسل له عمائم وقباطي وطيبا وعودا وندا ومسكا مع ألف مثقال من الذهب ومع قدح من قوارير، فكان يشرب فيه، أي لأنه سأل حاطبا «رضي الله ع» فقال: أي طعام أحب إلى صاحبكم؟ قال: الدباء: يعني القرع، ثم قال له: في أي شيء يشرب؟ قال: في قعب من خشب، ثم قال «وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك»، ولم يزد على ذلك، ولم يسلم.
ولا يخفى أنه سيأتي أنه أهدى إليه زيادة على الجاريتين جارية أخرى اسمها قيسر، وهي أخت مارية، ولعله إنما اقتصر على ذكر الجاريتين دون هذه الثالثة مع أنها أخت مارية لأنها دونهما في الحسن.
وذكر بعضهم أن سيرين أيضا أخت مارية، فالثلاث أخوات.
وفي ينبوع الحياة لابن ظفر: فأهدى إليه المقوقس جواري أربعا، أي ويوافقه قول بعضهم: وأرسل إليه جارية سوداء اسمها بريرة.
وفي كلام بعضهم أنه أهدى إحدى الجاريتين لأبي جهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر. وأخرى أهداها لحسان بن ثابت، وهي أم عبد الرحمن بن حسان كما تقدم في قصة الإفك. وأهدى إليه المقوقس زيادة على ذلك خصيا: أي مجبوبا: أي غلام أسود يقال له مأبور بإثبات الراء، وقيل بحذفها، وقيل هابو أي بالهاء بدل الميم وإسقاط الراء ابن عمّ مارية. وكونه كان مجبوبا عند إرساله وكان المهدي له المقوقس هو المشهور.
وفي كلام بعضهم أن المهدي له جريح بن مينا القبطي الذي كان على مصر من قبل هرقل، وأنه لم يكن حال الإرسال مجبوبا، وأنه قدم مع مارية فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها، وأنه رضي من مكانه من دخوله على سرية النبي ﷺ أن يجبّ نفسه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق منه شيء فليتأمل، وسيأتي ما وقع له. وأهدى إليه المقوقس زيادة على البغلة وهي الدلدل، وكانت شهباء. والدلدل في اللغة: اسم للقنفذ العظيم، وكانت أنثى، ولا يستدل بلحوق التاء لها لأنها للوحدة.
وفي كلام بعضهم: أجمع أهل الحديث على أن بغلة النبي ﷺ كانت ذكرا لا أنثى، وأول من استنتج البغال قارون. قالوا: والبغل أشبه بأمه منه بأبيه.
قيل: ولم يكن يومئذ في العرب بغلة غيرها. وقد قال له سيدنا علي «رضي الله ع»: لو حملنا الحمر على الخيل لكان لنا مثل هذه، فقال رسول الله ﷺ: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قال ابن حبان: أي الذين لا يعلمون النهي عنه.
وفيه أن الله امتن بها كالخيل والحمير، ولا يقع الامتنان بالمكروه. وحمارا أشهب يقال له يعفورا وعفير بالعين المهملة مضمومة. وضبطه القاضي عياض بالمعجمة وغلط في ذلك، مأخوذ من العفرة: وهي لون التراب، وفرسا وهو اللزاز، أي فإن المقوقس سأل حاطبا «رضي الله ع» ما الذي يحب صاحبك من الخيل؟ فقال له حاطب: الأشقر، وقد يركب عنده فرسا يقال له المرتجز، فانتخب له فرسا من خيل مصر الموصوفة، فأسرج وألجم، وهو فرسه الميمون.
وأهدى له عسلا من عسل بنها بكسر الباء الموحدة: قرية من قرى مصر، وأعجب به ودعا في عسل بنها بالبركة، لأنه حين أكل منه قال: إن كان عسلكم أشرف فهذا أحلى، ثم دعا فيه بالبركة.
وأهدى إليه مربعة يضع فيها المكحلة وقارورة الدهن والمشط والمقص والمسواك، ومكحلة من عيدان شامية ومرآة ومشطا، أي فإن المقوقس سأل حاطبا عن النبي ﷺ هل يكتحل؟ فقال له: نعم، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ولا يفارق خمسا في سفر كان أو في حضر، وهي: المرآة، والمكحلة، والمشط، والمدرى، والمسواك والمدرى: شيء كالمسلة يفرق به بين شعر الرأس ويحك به لأن حكه بالأصبع يشوش الشعر ويلوي بها قرون شعر الرأس.
وعن عائشة «رضي الله ع»: «سبع لم تفارق رسول الله ﷺ في سفر ولا حضر: القارورة التي يكون فيها الدهن، والمشط، والمكحلة، والمقراض»، أي المقص والمسواك، والمرآة. زاد بعضهم «والإبرة، والخيط» ولعل عدم ذكر ذلك في الكتاب أنه لم يره شيئا ينبغي ذكره.
أي وقد قال بعضهم: إن المقوقس أرسل مع الهدية طبيبا، فقال له النبي: «ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع».
واعترض كون الحمار الذي أرسله المقوقس يسمى يعفورا، بأن الحمار الذي يسمى يعفورا أهداه له فروة بن عمرو الجذامي عامل قيصر.
وأهدى إليه أيضا بغلة شهباء يقال لها فضة. وفرسا يقال له الظرب كما تقدم.
ثم رأيت بعضهم سمى الحمار الذي أهداه عامل قيصر عفيرا أيضا، وعليه فتسمية حمار المقوقس عفيرا أيضا كما في الأصل أن الحمار الذي أهداه المقوقس يقال له يعفورا وعفير من خلط بعض الرواة فلا منافاة. وفي هذا قبول هدية المشركين. وقد تقدم رده لهداياهم وقال: لا أقبل زبد المشركين.
ومما يشكل عليه أيضا أنه في هدنة الحديبية أهدى لأبي سفيان عجوة، واستهداه أدما فأهداه إليه أبو سفيان وهو على شركه.
وذكر أن المقوقس قال لحاطب «رضي الله ع»: القبط لا يطاوعوني في اتباعه، ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك، وأنا أضنّ: أي أبخل بملكي أن أفارقه، وسيظهر على البلاد، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده أي وكان كذلك، فإن المسلمين فتحوا مصر سنة ست عشرة ونزلها الصحابة. فارجع إلى صاحبك، وارحل من عندي، ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا. قال حاطب «رضي الله ع»: فرحلت من عنده، أي وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فردّ الجيش وارتفق بالقافلة.
قال حاطب: وذكرت قوله للنبي، فقال: «ضنّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه».
ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله، ويخالفه قول بعضهم: وبعث أبو بكر «رضي الله ع» حاطبا هذا إلى المقوقس بمصر فصالح القبط، إلا أن يقال: يجوز أن يكون المقوقس عاد لولايته بعد عزله.
وذكر بعضهم أن باني الإسكندرية لما أراد بناءها قال: أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس فدامت، وبنى أخوه مدينة قال عند إرادة بنائها: أبني مدينة فقيرة إلى الناس غنية عن الله، فسلط الله عليها الخراب في أسرع وقت.
ولما فتح عمرو بن العاص «رضي الله ع» مصر وقف على بعض ما بقي من آثار تلك المدينة فسأل عن ذلك، فأخبر بهذا الخبر.