→ غزوة ذي أمر | السيرة الحلبية غزوة بحران علي بن برهان الدين الحلبي |
غزوة أحد ← |
بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة، وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم.
لما بلغه أن بيحران: موضع بالحجاز معروف، بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه لستٍ خلون من جمادي الأولى، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران، فوجدهم قد تفرقوا في مياههم، أي وكان قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم، فأخبره أن القوم تفرقوا، فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك، فأطلق الرجل، وأقام بذلك المحل أياما، ثم رجع ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال.
وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات: مرة عقب بدر، وهذه الغزوة، وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة.
وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان «رضي الله ع»، على أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ بعد موت أختها رقية، وتقدم وقت موتها.
وعقد على حفصة بنت عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر، بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء، وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء، فقال عمر: يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني، فقال له رسول الله «إن الله قد زوّج عثمان خيرا من ابنتك، وزوج ابنتك خيرا من عثمان» فتزوج عثمان أم كلثوم، وتزوّج حفصة.
وتزوّج أيضا زينب بنت خزيمة في رمضان. وتزوّج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة.
وقيل تزوّجها في السنة الرابعة، وصححها في الأصل. وقيل في الخامسة، وكان اسمها برة بفتح الموحدة، واسم أمها بُرة بضمها، فغير اسمها وسماها زينب، وقال لها «لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا، ولكن قد سميته جحشا» أي والجحش في اللغة السيد.
وقد كان جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة، فقالت: لست بناكحته، قال: بل فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر: أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا، فأنزل الله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الآية، فقالت عند ذلك رضيت.
وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي فزوّجها من زيد، فسخطت هي وأخوها، وقالا: إنما أردنا رسول الله ﷺ فزوجها عبده فنزلت الآية.
أي وعن مقاتل «أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوّج زينب جاء إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله اخطب علي؟ قال له: من؟ قال: زينب بنت جحش، فقال له: لا أراها تفعل، إنها أكرم من ذلك نسبا، فقال: يا رسول الله ﷺ إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس عليّ فعلت، قال: إنها امرأة لسناء» أي فصيحة، والمراد لسانها طويل، فذهب زيد إلى علي «رضي الله ع»، فحمله على أن يكلم له النبي، فانطلق معه عليّ إلى النبي ﷺ فكلمه، فقال: إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل، ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي ﷺ يقول: قد رضيته لكم، وأقضي أن تنكحوه، فانكحوه، وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله. ثم بعد ذلك جاء بيت زيد يطلبه فلم يجده، فتقدمت إليه زينب، فأعرض عنها، فقالت له: ليس هو هنا يا رسول الله فادخل، فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله، أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه، فرجع وهو يقول «سبحان مصرّف القلوب» وفي رواية «مقلب القلوب» وسمعته زينب يقول ذلك، فلما جاء زيد أخبرته الخبر، فجاء إليه وقال: يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك، فقال له رسول الله ﷺ: أمسك عليك زوجك، فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم، أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها إلى أن طلقها.
فعنها «رضي الله ع»: لما وقعت في قلب النبي ﷺ لم يستطعني زيد وما امتنعت منه، وصرف الله تعالى قلبه عني، وجاءه يوما وقال له: يا رسول الله إن زينب اشتدّ عليّ لسانها وأنا أريد أن أطلقها، فقال له اتق الله وأمسك عليك زوجك، فقال: استطالت عليّ، فقال له إذن طلقها فطلقها. فلما انقضت عدّتها أرسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها عليّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله ﷺ يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي: أي أستخيره. فبينا رسول الله ﷺ جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوّجه زينب، فسريّ عنه وهو يبتسم، وهو يقول: من يذهب إلى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء؟ وجاء إليها رسول الله ﷺ فدخل عليها بغير إذن، قالت: دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر، فقلت: يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد؛ قال: الله المزوج، وجبريل الشاهد، أي وأنزل الله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك} الآية، فهذه الآية نزلت في زيد «رضي الله ع» وقد قالها في حق ولده أسامة، فقد جاء «أحب أهلي إليّ من أنعم الله وأنعمت عليه أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب» فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامة الإسلام. ونعمة النبي ﷺ عليهما العتق، لأن عتق أبيه عتق له تأمل.
وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكا إليه زيد قال له {أمسك عليك زوجك واتق الله} وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره، وهو ما أعلمه الله به من أنك ستتزوّجها، فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به {وتخشى الناس} أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه {والله أحق أن تخشاه} في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه.
وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوّج النبي ﷺ إياها لإزالة حرمة التبني. قال تعالى {لئلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم}. وأولم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاة وأطعم، فخرج الناس وبقي رجال يتحدّثون في البيت بعد الطعام، فشق ذلك على رسول الله.
ففي البخاري «فجعل النبي ﷺ يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون» وفي البخاري أيضا «فخرج النبي، فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك، بارك الله لك، ثم دخل حجر نسائه كلهنّ يقول كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع النبي ﷺ فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس «رضي الله ع»: وكان النبي ﷺ شديد الحياء، فخرج فطلبها إلى حجرة عائشة، فأخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب». قال في الكشاف وهي أدب الله تعالى به الثقلاء.
وفي مسلم عن عائشة «رضي الله ع» قالت «خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع: محل كان أزواجه يخرجن إليه بالليل للتبرز، وكانت امرأة جسيمة، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله ﷺ في بيتي ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله إني خرجت، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله تعالى إليه، ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكن» وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب. قالت عائشة «رضي الله ع»، فأنزل الله الحجاب، وفيه أنه تقدم عنها أن قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب.
وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجنّ للبراز فلا ترى أشخاصهنّ، والحجاب المتقدم عدم رؤية شيء من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل.
وعن عائشة «رضي الله ع» قالت «دخلت على زينب بنت جحش وعندي رسول الله، فأقبلت عليه، فقالت له: ما كل واحدة منا عندك إلا على خلاء: أي على ما أردت، ثم أقبلت عليّ تسبني فردعها النبي ﷺ فلم تنته. فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله ﷺ يتهلل سرورا» أي وفي يوم غضب رسول الله ﷺ على زينب لقولها في صفية بنت حيي: تلك اليهودية، فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر، ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان معها.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت «أرسل أزواج النبي ﷺ فاطمة بنت النبي ﷺ تستأذن والنبي ﷺ معي، فأذن لها فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله إن أزواجك أرسلني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة» أي أن تعدل بينهنّ وبينها «فقال النبي ﷺ: أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى، قال فأحبي هذه يعنيني، فقامت فاطمة فخرجت فجاءت أزواج النبي ﷺ فحدثتهنّ بما قالت وبما قال لها فقلن لها: ما أغنيت عنا من شيء، فارجعي إلى النبي، فقالت: والله لا أكلمه فيها أبدا.
فأرسل أزواج النبي ﷺ زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها، فدخلت فقالت: يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، ثم وقعت: أي زينب بي تسمعني ما أكره، فطفقت أنظر إلى النبي ﷺ حتى يأذن لي فيها، فلم أزل حتى عرفت أن النبي ﷺ لا يكره أن أنتصر، فوقعت بها أسمعها ما تكره، فتبسم النبي ﷺ وقال لها: إنها ابنة أبي بكر» أي محل الفصاحة والشهامة.
وسبب ذلك أي طلبهنّ أن يعدل بينهن وبين عائشة أن الناس كانوا يتحرّون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله.