→ باب ذكر نبذ من معجزاته | السيرة الحلبية باب نبذة من خصائصه صلى الله عليه وسلم علي بن برهان الدين الحلبي |
باب ذكر أولاده ← |
أي ما اختص به ﷺ عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم
، وما اختص به عن غير الأنبياء، وفيما اختصت به أمته عن سائر الناس من الأنبياء وغيرهم، وفيما اشتركت فيه مع الأنبياء دون أممهم.
لا يخفى أن ذكر خصائصه مندوب. قال في الروضة: ولا يبعد القول بوجوب ذلك ليعرف، فلا يتأسى به جاهل في ذلك. ثم لا يخفى أن الذي من خصائصه عن سائر الناس إما أن يكون اختص بوجوبه عليه لأن الله علم أنه أقوم به وأصبر عليه من غيره، ولأن ثواب الفرض أفضل من ثواب النفل غالبا.
وقد جاء: «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه» أو اختص بتحريمه عليه، لأن الله علم أنه أصبر على تركه ولمزيد فضل تركه، أو اختص بإباحته له تسهيلا عليه، أو اختص باتصافه به ولمزيد فضله وشرفه.
فمن القسم الأول صلاة الضحى: أي بما هو أقلها، وهو ركعتان، وركعتا الفجر وصلاة الوتر. قال: «ثلاث علي فرائض ولكم تطوع: الوتر، وركعتا الفجر، وركعتا الضحى».
أي وفي الإمتاع أن هذا الحديث ضعيف من جميع طرقه ومع ذلك ففي ثبوت خصوصية هذه الثلاثة برسول الله ﷺ نظر. فإن الذي ينبغي ولا يعدل عنه إلى غيره أن لا تثبت خصوصيته إلا بدليل صحيح.
وفي البخاري عن عائشة «رضي الله ع»: «ما سبح رسول الله ﷺ سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها» وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع»، قال: «كان النبي ﷺ يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها» وهذا يدل بظاهرة، ويقتضي عدم الوجوب، إذ لو كانت واجبة في حقه لكان مداومته عليها أشهر من أن تخفى هذا كلامه.
وفيه أنه لما صلى الضحى يوم الفتح في بيت أم هاني واظب عليها إلى أن مات، وأنه صلى ثمان ركعات. وجاء في حديث مرسل «كان يصلي ركعتين وأربعا وستا وثمانيا» وهل المراد بالوتر أقله أو أكثره أو أدنى كماله؟ والسواك قال في الإمتاع: وهل هو بالنسبة إلى الصلاة المفروضة أو في كل الأحوال المؤكدة في حقنا أو فيما هو أعم من ذلك. وغسل الجمعة والأضحية واستدل لوجوبهما بقوله تعالى: {إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} إلى قوله: {وبذلك أمرت} قال في الإمتاع: والأمر على الوجوب، هذا كلامه؟ وفيه نظر، لأن أمر للوجوب والندب، والذي للوجوب إنما هو صيغة أفعل.
قال في الإمتاع: إن الآمدي وابن الحاجب رحمهما الله عدا ركعتي الفجر من خصائصه ولا سلف لهما في ذلك إلا حديث ضعيف عن ابن عباس «رضي الله ع».
واعترض كون الوتر واجبا عليه، بأنه كما في الصحيحين صلاة على البعير، إذ لو كان واجبا لما صلاه على الراحلة. وأجاب النووي رحمه الله بأن جواز هذا الواجب على الراحلة من خصائصه وأجاب القرافي المالكي رحمه الله بأن الوتر لم يكن واجبا عليه إلا في الحضر، ووافقه على ذلك من أئمتنا الحليمي والعز ابن عبد السلام.
والعقيقة وأنه يجب عليه أن يؤدي فرض الصلاة كاملة لا خلل فيها، وأنه يجب عليه أن يصلي في كل يوم وليلة خمسين صلاة على وفق ما كان في ليلة الإسراء، كذا في الخصائص الصغرى للسيوطي.
والمشاورة في أمر الدين والدنيا لذوي الأحلام من الأمور الاجتهادية. وعن أبي هريرة «رضي الله ع» ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ﷺ وعن ابن عباس «رضي الله ع» لما نزلت هذه الآية: {وشاورهم في الأمر} قال النبي: «إن الله ورسوله غنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة في أمتي، فمن شاور منهم لم يعدم رشدا، ومن ترك المشورة منهم لم يعدم غيا» وقد وقيل: الاستشارة حصن من الندامة ومصابرة العدو وإن كثر.
وفي الحاوي للماوردي: «أنه كان إذا بارز رجلا لا ينفك عنه قبل قتله» هذا كلامه، ولم أقف على أنه بارز أحدا.
وقضاء دين من مات معسرا من المسلمين، وأداء الجنايات والكفارات عن من لزمته وهو معسر، وتخيير نسائه بين الدنيا والآخرة أي بين زينة الدنيا ومفارقته، بين اختيار الآخرة والبقاء في عصمته، وأن من اختارت الدنيا يفارقها ومن اختارت الآخرة يمسكها ولا يفارقها: أي لأن الله تعالى قال لنبيه: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما}.
قيل اختلف سلف هذه الأمة في سبب نزول هذه الآية على تسعة أقوال: فقد قيل نزلت لما طلبن منه زيادة في النفقة، فاعتزلهن شهرا، ثم أمر بتخييرهن فيما ذكر كما تقدم.
عن جابر «رضي الله ع»، قال: جاء أبو بكر «رضي الله ع» يستأذن على النبي ﷺ فوجد الناس جلوسا ببابه ليأذن لهم، قال: فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له فوجدا النبي ﷺ جالسا حوله نساؤه، أي قد سألنه النفقة وهو حاجم ساكت لا يتكلم، فقال عمر «رضي الله ع»: لأقولن شيئا أضحك النبي ﷺ فقال: يا رسول الله لو رأيت فلانة يعني زوجته سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك النبي ﷺ وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر «رضي الله ع» إلى عائشة فوجأ عنقها وقام عمر «رضي الله ع» إلى حفصة فوجأ عنقها، وكل يقول: تسألن رسول الله ﷺ ما ليس عنده، ثم أقسم رسول الله ﷺ أن لا يجتمع بهن شهرا.
فعن عمر «رضي الله ع» أنه ذكر أن بعض أصدقائه من الأنصار جاء إليه ليلا ودق عليه بابه وناداه، قال عمر: فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت ماذا؟ أجاءت غسان، لأنا كنا حدثنا أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فقال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق رسول الله ﷺ نساءه، فقلت: خابت حفصة وخسرت، كنت أظن هذا كائنا، حتى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي ودخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله؟ قالت: لا أدري هو هذا معتزلا في هذه المشربة، أي لأن نساءه لما اجتمعن عليه في طلب النفقة أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهنّ، قال عمر «رضي الله ع»: لأقولنّ من الكلام شيئا أضحك به النبي ﷺ فأتيت غلاما له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المسجد قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فلما كان في المرة الرابعة وقال لي مثل ذلك وليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني، فقال: أدخل، قد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله ﷺ فإذا هو متكيء على زمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ قال: فرفع رأسه إليّ وقال لا فقلت: الله أكبر، ثم قلت: كنا معاشر قريش بمكة نغلب على النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساءهم، فطفق نساؤنا يتعلمن منهن، فكلمت فلانة يعني زوجته فراجعتني فأنكرت عليها، فقالت تنكر عليّ أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي ﷺ لتراجعنه، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك وخسر، أفتأمن إحداهنّ أن يغضب الله عليها بغضب زوجها، فتبسم رسول الله، فذهبت إلى حفصة فقلت: أتراجعن رسول الله؟ فقالت: نعم، وتهجره إحدانا اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها بغضب رسول الله؟ لا تراجعي رسول الله ﷺ ولا تسألينه شيئا، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك أحب إلى رسول الله ﷺ منك؟ يعني عائشة، فتبسم أخرى، فقلت، استأنس يا رسول الله قال نعم، فجلست وقلت: يا رسول الله قد أثر في جنبك زمل هذا الحصير وفارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسا وقال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: أستغفر الله يا رسول الله () فلما مضى تسع وعشرون يوما أنزل الله تعالى عليه أن يخبر نساءه في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية، فنزل ودخل على عائشة «رضي الله ع»، فقالت له: يا رسول الله أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا وقد دخلت وقد مضى تسع وعشرون يوما أعددهن، قال: إن الشهر تسع وعشرون، وفي رواية: يكون هكذا وهكذا وهكذا، يشير بأصابع يديه، وفي الثالثة حبس إبهامه ثم قال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك. فقالت: وما هو يا رسول الله، فقرأ: {يا أيها النبي قل لأزواجك} الآية. قلت، أفي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله، ورسوله والدار الآخرة. وفي رواية «أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ » بل أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم قلت له: لا تخبر امرأة من نساءك بالذي قلت. فقال رسول الله ﷺ: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما بشيرا. ثم فعل أزواجه مثل ما فعلت عائشة «رضي الله ع». وقد ذكر الأقوال التسعة في الإمتاع وذكر فيه أن التخيير كان بعد فتح مكة، لأن ابن عباس «رضي الله ع» لم يقدم المدينة إلا بعد الفتح مع أبيه العباس «رضي الله ع»، وذكر أنه حضر الواقعة.
ومن القسم الثاني تحريم أكل الصدقة واجبة أو مندوبة، وكذا الكفارة والمنذورة والموقوف عليه إلا على جهة عامة كالآبار الموقوفة على المسلمين، ويشاركه في الصدقة الواجبة آلة دون صدقة التطوع على الجهة الخاصة دون الجهة العامة، والصدقة الواجبة هي المعنية بقوله: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» ولما سأله عمه العباس «رضي الله ع» أن يستعمله على الصدقات قال: «ما كنت لأستعملك على غسلات ذنوب الناس» ولما أخذ الحسن بن علي «رضي الله ع» تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه قال له النبي ﷺ: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة» وفي رواية: «إن آل محمد لا يأكلون الصدقة».
واختلف علماء السلف هل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تشارك النبي ﷺ في ذلك؟ فذهب الحسن رحمه الله تعالى إلى أن الأنبياء تشاركه في ذلك. وذهب سفيان بن عيينة إلى اختصاصه بذلك دونهم، وأن يعطي شيئا لأجل أن يأخذ شيئا أكثر منه، وأن يتعلم الكتابة أو الشعر وإنشاءه وروايته لا التمثل به، وأنه إذا لبس لامته للقتال لا يدعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وهذا الأخير مما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وخائنة الأعين، وهي الإيماء إلى مباح من قتل أو ضرب على خلاف ما يظهر كما تقدم. وإمساك من كرهته، ونكاح الكتابية، قيل والتسري بها والراجح خلافه. ونكاح الأمة المسلمة لأنه لا يخشى العنت، أي الزنا.
ومن القسم الثالث القبلة في الصوم مع وجود الشهوة. فقد كان يقبل عائشة «رضي الله ع» وهو صائم ويمص لسانها، ولعله لم يكن يبلع ريقه المختلط بريقها. والخلوة بالأجنبية، وأنه إذا رغب في امرأة خلية كان له أن يدخل بها من غير لفظ نكاح أو هبة ومن غير ولي ولا شهود، كما وقع له في زينب بنت جحش «رضي الله ع» كما تقدم، ومن غير رضاها، وأنه إذا رغب في امرأة متزوجة يجب على زوجها أن يطلقها له، وأنه إذا رغب في أمة وجب على سيدها أن يهبها له. وله أن يتزوج المرأة لمن يشاء بغير رضاها، وله أن يتزوج في حال إحرامه، ومن ذلك نكاح ميمونة على ما تقدم. وأن يصطفي من الغنيمة ما شاء قبل القسمة من جارية أو غيرها.
ومن صفاياه صفية وذو الفقار كما تقدم، وأن يتزوج من غير مهر كما وقع لصفية «رضي الله ع». وقد قال المحققون: معنى ما في البخاري وغيره أنه جعل عتقها صداقها أنه أعتقها بلا عوض وتزوّجها بلا مهر، فقول أنس «رضي الله ع» أمهرها نفسها معناه أنه لما لم يصدقها شيئا كان العتق كأنه المهر وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، وأن يدخل مكة بغير إحرام اتفاقا، وأن يقضي بعلمه ولو في حدود الله تعالى.
قال القرطبي في تفسيره: أجمع العلماء على أنه ليس لأحد أن يقضي بعلمه إلا النبي.
قال الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وجمع له بين الحكم بالظاهر والباطن معا وجمعت له الشريعة والحقيقة، ولم يكن للأنبياء إلا إحداهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة والسلام، وقوله: إني على علم لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم لا ينبغي لي أن أعلمه هذا كلامه.
وكتب عليه الشهاب القسطلاني رحمه الله: هذه غفلة كبيرة وجراءة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذ يلزم منه خلو بعض أهل العزم عليهم الصلاة والسلام من علم الحقيقة الذي لا يجوز خلو بعض آحاد الأولياء عنه وإخلاء الخضر بل بقية بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم الشريعة. وأعجب من ذلك أنه بين له وجه الخطأ، فأجاب بقوله: مرادي الجمع بين الحكم والقضاء هذا كلامه.
وأقول: ذكر السيوطي في كتابه (الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر) هل يقول مسلم إن الذي خص به نبينا، أي عن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورث نقصا في حق سائر الأنبياء؟ معاذ الله، وكل مسلم يعتقد أن نبينا أفضل من سائر الأنبياء على الإطلاق، وذلك لا يورث نقصا في حق أحد منهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهذا الاعتراض كان لا يحتاج إلى جواب عنه، لكن خشيت أن يسمعه جاهل فيؤديه ذلك إلى إنكار خصائص النبي ﷺ التي فضل بها على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، توهما منه أن ذلك يورث نقصا فيهم، فيقع والعياذ بالله في الكفر والزندقة هذا كلامه.
ومما حكم فيه بالظاهر والباطن معا، قوله في ولد وليدة زمعة والد سودة أم المؤمنين «رضي الله ع» لما اختصم فيه سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» وعبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي، عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه به، وقال عبد بن زمعة، هذا أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله ﷺ إلى شبهه، فرأى شبها بينا بعتبة، ثم قال: «هو لك يا عبد الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة» زاد في رواية: «فليس بأخ لك» فقد جعله أخا لسودة عملا بظاهر الشرع، ونفى أخوته عنها بمقتضى الباطن. فقد حكم في هذه القصة بالظاهر والباطن معا.
وأما حكمه بالباطن فقد جاء في أمور متكثرة.
من ذلك قتله الحارث بن سويد بقتله المجذر بن زياد غيلة من غير دعوى وارث ولا قيام بينة ولا قبل الدية كما تقدم.
ومن ذلك أنه قال لرجل مات أخوه: «إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه، فقال يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة، قال أعطها فإنها محقة».
ومن ذلك أن امرأة جاءت إلى أخرى وقالت لها: فلانة تستعيرك حليك وهي كاذبة فأعارتها إياه، فبعد مدة جاءت للمرأة تطلب حليها فقالت: لم أطلب حليك فجاءت للمرأة التي أخذته فأنكرت أخذه، فجاءت النبي ﷺ وأخبرته القصة فدعاها، فقالت: والذي بعثك بالحق ما استعرت منها شيئا، فقال: «اذهبوا فخذوه من تحت فراشها فأخذ وأمر بها فقطعت».
وأن يقضي لنفسه ولولده، وأن يشهد لنفسه ولولده وأن يقبل الهدية ممن يريد الحكومة عنده، وأن يقضي في حال غضبه، وأن يقطع الأرض قبل أن يفتحها.
ومما شاركه فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا القسم أن له أن يصلي بعد نومه غير متمكن، أي في النوم الذي تنام فيه عينه وقلبه، بناء على أنه كان له نومان، وحينئذ يكون قوله: «نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا» والمراد به غالبا، إذ يبعد أن يكون بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس لهم إلا نوم واحد وله نومان.
وإباحة ترك إخراج زكاة المال، لأنه كبقية الأنبياء لا ملك لهم مع الله، وما في أيديهم من المال وديعة لله عندهم يبذلونه في محله ويمنعونه في غير محله، ولأن الزكاة طهرة وهم مبرؤون من الدنس كذا في الخصائص الصغرى نقلا عن سيدي الشيخ تاج الدين بن عطاء الله.
وفيها بعد ذلك أنه اختص بأن ماله باق بعد موته على ملكه ينفق منه على أهله في أحد الوجهين، وصححه إمام الحرمين، والذي صححه النووي الوجه الآخر، وهو خروجه عن ملكه، لكنه صدقة على المسلمين، لا يختص به الورثة، وما قاله ابن عطاء الله بناه مذهب إمامه سيدنا مالك، ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى خلافه. ففي الخصائص الصغرى قبل هذا: وذكر مالك «رضي الله ع»، من خصائصه أنه كان لا يملك الأموال، إنما كان له التصرف وأخذ قدر كفايته. وعند الشافعي «رضي الله ع» وغيره أنه يملك هذا كلام الخصائص.
ومن القسم الرابع أنه أول من أخذ عليه الميثاق يوم {ألست بربكم} وأنه أول من قال بلى، أي وأنه خص بالبسملة: وفيه ما تقدم أن ذلك على وجه وأن الأصح خلافه لما في القرآن في سورة النمل وفي المرفوع: «أنزل علي آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري {بسم الله الرحمن الرحيم} وجاء: «بسم الله فاتحة كل كتاب» وفيه أن الإنجيل من جملتها وهو كتاب عيسى ابن مريم وهو بعد سليمان عليهما السلام، وقد قدمنا ذلك عند الكلام على أوائل البعث وبفاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة {آمن الرسول} إلى ختامها وآية الكرسي أعطيها من كنز تحت العرش وكذا الفاتحة والكوثر.
فقد جاء: «أربع نزلت من كنز تحت العرش لم ينزل منه شيء غيرهن أم الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة والكوثر».
وذكر الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الصغرى، أن مما خص به أعطى من كنز تحت العرش ولم يعط منه أحد غيره والسبع الطوال والمفصل.
وأن دار هجرته التي هي المدينة آخر الدنيا خرابا، وأن جميع ما في الكون خلق لأجله، وأنه تعالى كتب اسمه على العرش وعلى كل سماء، وما فيها كما تقدم وعلى بعض الأحجار وورق الأشجار وبعض الحيوانات كما تقدم، قال بعضهم: بل وعلى سائر ما في الملكوت وذكر الملائكة له في كل ساعة، وذكر اسمه في الأذان في عهد آدم والملكوت الأعلى كما تقدم.
ومما اختص به عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنه يحرم نكاح أزواجه بعد موته حتى على الأنبياء بخلاف زوجات الأنبياء بعد موتهم لا يحرم نكاحهن على المؤمنين. قال شيخنا الشمس الرملي والأقرب عدم حرمتهن على الأتقياء من أممهم.
وفيه أنه إذا لم يحرمن على آحاد المؤمنين فعلى الأتقياء بطريق الأولى، إلا أن يقال الفرق ممكن، يدل عليه قوله: والأقرب وإلا فهذا مما يتوقف فيه على النقل.
وقيل ومن ذلك أنه يجب على أزواجه من بعده الجلوس في بيوتهن ويحرم عليهن الخروج منها ولو لحج أو عمرة والراجح خلاف ذلك، فقد حججن مع عمر «رضي الله ع» وعنهن إلا سودة وزينب فخرجن في الهوداج عليهن الطيالسة الخضر. وعثمان «رضي الله ع» يسير أمامهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن إليك إليك. وعبد الرحمن بن عوف «رضي الله ع» خلفهن يقول لمن أراد أن يمر عليهن مثل ذلك، ولا ترى هوادجهن إلا مد البصر، ولما ولي عثمان «رضي الله ع» حج بهن أيضا إلا سودة وزينب.
وأنه يحرم أيضا رؤية أشخاص زوجاته في الأزر، وسؤالهن مشافهة أي من غير حجاب.
ولا يجوز كشف وجوههن لشهادة بلا خلاف، وأن الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على سائر النبيين آدم فمن بعده أن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوه وأن يأخذوا العهد على أممهم بذلك كما تقدم، وأنه يحشر على البراق، فقد جاء: «تبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الدواب ويبعث صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة «رضي الله ع» على ناقته العضباء والقصوى، ويبعث بلال «رضي الله ع» على ناقة من نوق الجنة، وأن في كل يوم ينزل على قبره الشريف سبعون ألف ملك يضربونه بأجنحتهم ويحفون به، ويستغفرون له، ويصلون عليه إلى أن يمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك كذلك حتى يصبحون لا يعودون إلى أن تقوم الساعة» وأنه شق صدره الشريف عند ابتداء الوحي، وأنه تكرر له ذلك خمس مرات على ما تقدم، وأن خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره. وخاتم الأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام كان في يمينهم كما تقدم، وتقدم ما فيه، وأن له ألف اسم، ونقل عن تفسير الفخر الرازي أن له أربعة آلاف اسم، وأنه تسمى من أسماء الله تعالى بنحو سبعين اسما، وأنه رأى جبريل "عليه السلام" على الصورة التي خلق عليها مرتين كما تقدم، وغيره لم يره كذلك، وأنه "عليه الصلاة والسلام يحكم بالظاهر والباطن كما تقدم، وأنه أحلت له مكة ساعة من نهار، وأنه حرّم ما بين لابتي المدينة كما تقدم، وأنه لم تر عورته قط، وأن من رآها طمست عيناه كما تقدم، وأنه إذا مشى في الشمس أو في القمر لا يكون ظل لأنه كان نورا وأنه إذا وقع شيء من شعره في النار لا يحترق، وأن وطأة أثر في الصخر على ما تقدم، وأن الذباب لا يقع على ثيابه فضلا عن جسده الشريف، ولا يمتص نحو البعوض والقمل دمه كما تقدم، وهذا لا ينافي كون القمل يكون في ثوبه، ومن ثم جاء: «كان يفلي ثوبه» وأن عرقه أطيب من ريح المسك كما تقدم.
وكان إذا ركب دابة لا تبول ولا تروث وهو راكبها، ولو بنى مسجده إلى صنعاء اليمن كان مسجده أي في المضاعفة خلافا لجمع منهم ابن حجر الهيتمي.
وقد قال الحافظ السيوطي: نص العلماء على أن المسجدين: أي المكي والدني، ولو وسعا لم تختلف أحكامهما الثابتة لهما.
وروي عن ابن عمر «رضي الله ع» أنه قال: لو مدّ مسجد رسول الله ﷺ إلى ذي الحليفة لكان منه، فهذا الأثر مصرح بأن أحكام مسجد رسول الله ﷺ ثابتة له، فالتوسعة لا تمنع استمرار الحكم، وتقدم ما في ذلك، وأنه يجب على أمته أن تصلي وتسلم عليه في التشهد الأخير وعند كل ما يذكر عند بعضهم، وأن القمر شق له كما تقدم، وأن الحجر والشجر سلما عليه، وشهادة الشجر له بالنبوة وإجابتها دعوته، وكلام الصبيان المراضع، وشهادتهم له بالنبوة كما تقدم، وأن الجذع اليابس حن إليه كما تقدم، وأنه أرسل للناس كافة الإنس والجن إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر جاحد ذلك، وقد يتوقف في كفر العامي بجحد إرساله للجن وإلى الملائكة على ما هو الراجح كما تقدم.
قال بعضهم والقول بمقابله مبني على تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهو قول مرجوح ذهب إليه المعتزلة والفلاسفة وجماعة من أهل السنة الأشاعرة. واستدلوا بأمور كلها مردودة وتقدم عن البارزي رحمه الله أنه أرسل إلى الحيوانات والجمادات، لكن استدل له بشهادة الضب والشجر له بالرسالة. وقد يتوقف في الاستدلال بذلك.
وتقدم عن الحافظ السيوطي رحمه الله أنه أرسل لنفسه، وتقدم الفرق بين عموم رسالته "عليه الصلاة والسلام وعموم رسالة نوح، وأنه بعث رحمة للبر والفاجر، ورحمة للكفار بتأخير العذاب، وعدم معاجلتهم بالعقوبة بنحو الخسف والمسخ والغرق كسائر الأمم المكذبة كما تقدم، وأن الله تعالى لم يخاطبه باسمه كما خاطب غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل خاطبه: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول} {يا أيها المدثر} {يا أيها المزملّ} وقال: {يا آدم} {يا نوح} {يا إبراهيم} {يا داود} {يا زكريا} {يا يحيى} {يا عيسى} وأن الله أقسم بحياته، قال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة «رضي الله ع» «ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد » وأقسم الله على رسالته بقوله: {ي?س والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} وأن إسرافيل "عليه السلام" أهبط إليه ولم يهبط إلى نبي قبله كما تقدم، وأنه أكرم الخلق على الله، وأنه يحرم نكاح مواطوآته من الزوجات والسراري إلا من باعه أو وهبه من السراري في حياته إن فرض ذلك، وذهب الماوردي إلى تحريمها.
وفي كلام بعضهم: وتحرم زوجاته على غيره ولو قبل الدخول ولو مختارة للفراق، خلافا لما في الشرح الصغير للرافعي من حل المختارة للفراق، وأنه يحرم التزوّج على بناته، وقيل على فاطمة خاصة «رضي الله ع». وأما التسري عليهنّ فلم أقف على حكمه، وما علل به منع التزويج عليهنّ حاصل في التسري إلا أن يفرق.
وأوتي قوة أربعين رجلا من أهل الجنة في الجماع، وقوة الرجل من أهل الجنة كمائة من أهل الدنيا، فيكون أعطي قوة أربعة آلاف رجل، وسليمان صلوات الله وسلامه عليه أعطى قوة مائة رجل. وقيل ألف رجل أي من رجال الدنيا، وأن فضلاته طاهرة كما تقدم، وأنه كان له أن يخص من شاء بما شاء من الأحكام كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين، لأن النبي ﷺ ابتاع فرسا من أعرابي فاستبقه النبي ﷺ ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي ﷺ وتباطأ الأعرابي والفرس معه فساومه في الفرس رجال لا يعرفون أن النبي ﷺ اشتراه بزيادة عما اشتراه به فقال الأعرابي للنبي: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقال النبي ﷺ وقد سمع نداء الأعرابي: أو ليس قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: لا، فقال النبي ﷺ: بلى قد ابتعته منك، فقال الأعرابي: شاهدان يشهدان أني بعتك، فلما سمع خزيمة «رضي الله ع» ذلك، قال: أنا أشهد أنك بعته، فقال النبي ﷺ لخزيمة: كيف تشهد ولم تكن معنا؟ فقال: يا رسول الله إنا نصدقك بخبر السماء أفلا نصدقك بما تقول، فجعل شهادته «رضي الله ع» في القضايا بشهادة رجلين. ومنه أخذ جواز الشهادة له بما ادعاه.
وترخيصه لأم عطية «رضي الله ع»، ولخولة بنت حكيم «رضي الله ع» في النياحة لجماعة مخصوصين.
وترخيصه لأسماء بنت عميس «رضي الله ع» في عدم الإحداد لما قتل زوجها سيدنا جعفر بن أبي طالب حيث قال لها تسلي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت.
وتجويز التضحية بالعناق لأبي بردة ولعقبة بن عامر «رضي الله ع». وزاد بعضهم ثلاثة آخرين.
وتزويجه لشخص امرأة على سورة من القرآن وقال: {لا تكون لأحد غيرك مهرا ولعل المراد مجهولة}، فلا يخالفه ذلك ما عند أئمتنا من جواز ذلك على معين من السور القرآنية.
وتزويجه أم سليم أبا طلحة «رضي الله ع» على إسلامه كما تقدم وإعادة امرأة أبي ركانة إليه بعد أن طلقها ثلاثا من غير محلل.
وتخصيصه نساء المهاجرين بأن يرثن دور أزواجهن دون بقية الورثة وقد ألغز في ذلك بعضهم بقوله:
سلم على مفتي الأنام وقل له ** هذا سؤال في الفرائض مبهم
قوم إذا ماتوا تحوز ديارهم ** زوجاتهم فلغيرها لا تقسم
وبقية المال الذي قد خلفوا ** يجري على أهل التوارث منهم
وأنه أول من ينشق عنه القبر، فعن ابن عمر «رضي الله ع» أن رسول الله، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم أهل البقيع فيخرجون معي ثم أنتظر أهل مكة»، أي وفي رواية: «وأنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أول من رفع رأسه فإذا أنا بوسى "عليه الصلاة والسلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله».
وفيه أن الاستثناء إنما هو من نفخة الفزع التي هي النفخة الأولى التي يفزع بسببها أهل السموات والأرض، وتمر الجبال مر السحاب، وترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة في البحر تضربها الأمواج المعنية بقوله تعالى: {يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة} والمعنية بقوله تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} الآية. قال: «والأموات يومئذ لا يعلمون بشيء من ذلك، قلنا يا رسول الله فمن استثنى الله في قوله: إلا من شاء الله: قال: أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء وهم {أحياء عند ربهم يرزقون}، وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه».
وفيه أن هذا يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يفزعون لأنهم أحياء، ولم يذكرهم مع الشهداء، والقياس قد يمنع لأنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل. وأنه من يكسي في الموقف أعظم الحلل من الجنة، وأنه يقوم في المقام المحمود على يمين العرش، وأنه الذي يشفع في فصل القضاء بين أهل الموقف، وأنه له شفاعات في ذلك اليوم وهي إحدى عشرة شفاعة ذكرها في (مزيل الخفاء) وأنه صاحب لواء الحمد في ذلك اليوم، آدم فمن دونه تحت لوائه، وأنه خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإمامهم في ذلك اليوم كما تقدم.
وأول من يؤذن له في السجود. وأول من ينظر إلى الرب عز وجل، وأنه يسجد أوّلا فيقول له الرب جل جلاله، ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، ثم ثانيا، ثم ثالثا كذلك فيشفع.
وأنه أول من يفيق من الصعقة. وفيه أن نفخة الصعقة، وهي النفخة الثانية التي هي نفخة الموت لأهل السموات والأرض، إلا أن يقال المراد بالصعقة هنا نفخة رابعة أثبتها ابن حزم.
فقد قال الحافظ الجلال السيوطي رحمه الله: وأغرب ابن حزم رحمه الله تعالى، فادعى أن النفخ في الصور يقع أربع مرات، فعليه تكون هذه النفخة ليست هي المذكورة في القرآن، وأنها تكون في الموقف بعد النفخة الثالثة التي هي نفخة البعث التي بسببها يكون القيام من القبور إلى المحشر المعنية بقوله تعالى: {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} وهذه النفخة الرابعة تسمى نفخة الصعق أيضا، لأن بها يحصل لجميع أهل السموات والأرض في ذلك الوقت غشي وهو شبيه بالموت، ويكون أول من يفيق من تلك الصعقة هو، وحينئذ يجد موسى "عليه الصلاة والسلام آخذا بقائمة من قوائم العرش، ويكون قوله: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكون أنا أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» من تخليط بعض الرواة. وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب بأنه أخبر بقوله لا أدري قبل أن أعلمه الله تعالى بأنه أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق، وأن موسى "عليه الصلاة والسلام سبقه إلى العرش لأنه بعد خروجه من الأرض ينتظر خروج أهل البقيع، ومجيء أهل مكة فليتأمل ذلك.
وأول من يمر على الصراط، وأول من يدخل الجنة ومعه فقراء المسلمين، وأن له الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة.
وقيل إنه في الجنة لا يصل لأحد شيء إلا بواسطته، وأنه لا يقرأ في الجنة إلا كتابه، ولا يتكلم في الجنة إلا بلسانه.
ومما شارك فيه الأنبياء في هذا القسم، أن من دعاه، في الصلاة تجب عليه الإجابة قولا وفعلا ولو كثيرا، ولا تبطل صلاته بالنسبة لنبينا بخلاف غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنها تبطل.
ومنه أيضا العصمة من الذنب مطلقا كبيرا أو صغيرا عمدا أو سهوا، وعدم التثاؤب والاحتلام، لأن كلا من الشيطان، ولم ير أثر لقضاء حاجته، بل كانت الأرض تبتلعه ويشم من مكانه رائحة المسك. قال: وأنه كان ينظر بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء.
واستشكل بما جاء: «أنه لما ابتنى بأم سلمة «رضي الله ع» دخل عليها في الظلمة، فوطيء على ابنتها زينب فبكت، فلما كانت الليلة القابلة دخل في ظلمة أيضا فقال: «أنظروا ربائبكم لا أطأ عليها» وزينب هذه ولدتها من أبي سلمة بالحبشة، ودخلت على رسول الله ﷺ وهو يغتسل وهي إذ ذاك طفلة فنضح وجهها بالماء، فلم يزل ماء الشباب بوجهها حتى عجزت وقاربت المائة سنة.
وكان ينظر من خلفه كما ينظر أمامه، أي وعن يمينه وعن شماله، فقد جاء: «إني لأنظر إلى ما وراء ظهري كما أنظر إلى أمامي» فقيل كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما لا تحجبهما الثياب، وقيل كانت تنطبع صورة المحسوسات التي خلفه في حائط قبلته كما تنطبع الصور في المرآة. وهذا يدل على أن ذلك خاص بالصلاة، وهو ظاهر أكثر الروايات أي وكانت تلك الصلاة إلى حائط فليتأمل.
وكان يرى الثريا اثنا عشر نجما وغيره لا يزيد على تسعة ولو أمعن النظر.
واختصت هذه الأمة المحمدية بأمور لم يشاركها فيه من قبلهم من الأمم، وهي أنها خير الأمم، وأكرم الخلق على الله. قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
وفي الحديث: «إن الله اختار أمتي على سائر الأمم. وإن الله ينظر إليها في أول ليلة من رمضان» وأعطيت الاجتهاد في الأحكام، وأظهر الله ذكرها في الكتب القديمة كالتوراة والإنجيل، وأثنى عليها، وأعطيت الصلوات الخمس: أي جمعت لهم على ما تقدم، وأعطيت صلاة العشاء.
فقد أخرج أبو داود والبيهقي عن معاذ بن جبل «رضي الله ع» أنه قال: «إنكم فضلتم بها» أي بصلاة العشاء «على سائر الأمم ولم تصلها أمة قبلكم» وفيه ما تقدم.
وأعطيت افتتاح الصلاة بالتكبير. وأعطيت التأمين: أي قول آمين عقب الدعاء، فقد جاء: «أعطيت آمين ولم يعطها أحد ممن كان قبلكم إلا أن يكون الله أعطاها هارون فإن موسى كان يدعو ويؤمن هارون عليهما الصلاة والسلام» وتقدم أن آمين عقب الفاتحة ليس من القرآن اتفاقا.
وأعطيت الاستنجاء بالحجر. وأعطيت الأذان والإقامة والركوع في الصلاة، وأما قوله تعالى لمريم: {واركعي مع الراكعين} فالمراد بالركوع الخضوع كما تقدم، ويلزمه أنها أعطيت في الرفع منه «سمع الله لمن حمده». وفي الاعتدال «اللهم ربنا لك الحمد» إلى آخره. وأعطيت تحريم الكلام في الصلاة دون الصوم عكس من قبلهم. وأعطيت الجماعة في الصلاة. وأعطيت الاصطفاف فيها كصفوف الملائكة. وأعطيت صلاة العيدين والكسوفين والاستسقاء والوتر. وأعطيت قصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين فيه على ما تقدم وفي المطر والمرض على قول اختاره جمع من العلماء ومنهم والدي رحمه الله. وأعطيت صلاة الخوف وصلاة شدته. وأعطيت شهر رمضان على ما تقدم. وأعطيت فيه أمورا منها تصفيد الشياطين.
وقد سئلت: ما فائدة تصفيد الشياطين في رمضان مع وجود الفساد والشر وقتل الأنفس فيه؟ وقد أجبت عنه أربعة أجوبة، حاصلها أن فائدة ذلك قلة الشر لا نفيه بالكلية، وقد ذكرت ذلك في كتابي (إسعاف الإخوان في شرح غاية الإحسان) وهو كتاب ألفته في الصوم وما يتعلق به.
ومنها صلاة الملائكة عليهم حين يفطروا. ومنها أن ريح فمهم بعد الزوال أطيب عند الله من ريح المسك، وفيه أن هذا لا يختص بصوم رمضان. ومنها أن الجنة تزين فيه من رأس الحول إلى رأس الحول، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النيران، وتفتح أبواب السماء في أول ليلة منه.
ومنها أنه يغفر لهم في آخر ليلة منه. وأعطيت العقيقة عن الأنثى. وأعطيت العذبة في العمامة. وأعطيت الوقف، والوصية بالثلث عند الموت. وأعطيت غفران الذنوب بالاستغفار، وجعل الندم توبة. وأعطيت صلاة الجمعة. وأعطيت ساعة الإجابة في يومها. وأعطيت ليلة القدر. وأعطيت السحور وتعجيل الفطر. وأعطيت الاسترجاع عند المصيبة. وأعطيت الحوقلة: أي لا حول ولا قوة إلا بالله. وأعطيت رفع الإصر عنها، ومنه وجوب القصاص في الخطأ والمؤاخذة بحديث النفس والنسيان وما وقع عليه الإكراه، وأن إجماعها حجة لأنها لا تجتمع على ضلالة: أي محرم. وأعطيت أن اختلاف علمائها رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذابا، والمراد بعلماء الأمة المجتهدون، كما أن المراد ذلك بما رواه البيهقي عن ابن عباس «رضي الله ع». قال قال رسول الله «اختلاف أصحابي رحمة» أي ويقاس بأصحابه غيرهم ممن بلغ رتبة الاجتهاد. قال بعضهم: وما ذكره بعض الأصوليين والفقهاء أنه قال: «اختلاف أمتي رحمة» لا يعرف من خرّجه بعد البحث الشديد، وإنما يعرف عن القاسم بن محمد بلفظ: «اختلاف أمة محمد رحمة» قال الحافظ السيوطي: ولعله خرّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا، وأن الطاعون لهم رحمة وكان على من قبلهم عذابا. وأعطيت الإسناد للحديث. قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم "عليه الصلاة والسلام من يحفظون آثار الرسل، أي ويأخذها واحد عن الآخر إلا في هذه الأمة، أي حتى إن الواحد منهم يكتب الحديث الواحد من ثلاثين طريقا أو أكثر، وأن فيها الأقطاب والإنجاب والأوتاد، ويقال لهم العمد والأبدال والأخيار والعصب، فالأبدال بالشام، واختلفت الروايات في عددهم: فأكثر الروايات أنهم أربعون رجلا، وفي بعض الروايات أربعون رجلا، وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة.
وعن الفضل بن فضالة قال: الأبدال بالشام في حمص خمسة وعشرون رجلا، وفي دمشق ثلاثة عشر، وفي بيسان اثنان. وفي رواية عن حذيفة بن اليمان: «الأبدال بالشام ثلاثون رجلا على منهاج إبراهيم "عليه الصلاة والسلام».
وعن ابن مسعود «رضي الله ع» قال: قال رسول الله: «لا يزال أربعون رجلا قلوبهم على قلب إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم الأبدال.
وعن الحسن البصري رحمه الله: لن تخلو الأرض من سبعين صدّيقا وهم الأبدال: أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرض.
وعن معاذ بن جبل «رضي الله ع» قال: قال رسول الله: «ثلاث من كن فيه فهو من الأبدال الذين بهم قوام الدنيا وأهلها: الرضا بالقضاء، والصبر عن محارم الله، والغضب في ذات الله».
وجاء في وصف الأبدال: «إنهم لم ينالوا ما نالوا بكثرة صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكن بسخاء النفس، وسلامة القلوب، والنصيحة لأئمتهم» وفي لفظ: «لجميع المسلمين».
وعن أبي سليمان: الأبدال بالشام والنجباء بمصر. وفي لفظ: الأبدال من الشام والنجباء من أهل مصر. وفي رواية عن علي كرم الله وجهه أيضا: والنجباء بالكوفة، والعصب باليمن، والأخيار بالعراق. وفي لفظ: والعصب بالعراق.
وعن بعضهم: النقباء ثلاثمائة وسبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث: أي الذي هو القطب واحد، فمسكن النقباء الغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سائحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة، فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة ابتهل فيها النجباء، ثم الأبدال، ثم الأخيار، ثم العمد، فإن أجيبوا وإلا ابتهل الغوث، فما تتم مسألته حتى يجاب.
وجاء عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله: «لم يكن نبي قط إلا أعطي سبعة نجباء وزراء رفقاء، وإني أعطيت خمسة عشر: حمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعلي، والحسن، والحسين، وعبد الله بن مسعود، وسلمان، وعمار بن ياسر، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال، ومصعب» وأسقط الترمذي حذيفة وأبا ذر والمقداد.
وأنهم: أي أمته يخرجون من قبورهم بلا ذنوب يمحصها الله عنهم باستغفار المؤمنين لهم، وأنها أول من يحاسب، وأنها أول من تنشق عنها الأرض، وأنها في الموقف تكون على مكان عال مشرف على الأمم، وأنها أول من يدخل الجنة من الأمم، وأن لكل منها نورين كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنها تمر على الصراط كالبرق الخاطف وأنها تشفع في بعضها، وأن لها ما وسعت وما سعى لها، وأنها اختصت عن من الأمم ما عدا الأنبياء بوصف الإسلام على الراجح كما تقدم لأنه لم يوصف بالإسلام أحد الأمم السالفة سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد شرفت بأن توصف بالوصف الذي توصف به الأنبياء تشريفا لها وتكريما لها، فقد قال زيد بن أسلم أحد أئمة السلف العالمين بالقرآن والتفسير: لم يذكر الله بالسلام غير هذه الأمة، أي وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول.
وقد خصت هذه الأمة بخصائص لم تكن لأحد سواها إلا للأنبياء فقط، فمن ذلك الوضوء، فإنه لم يكن أحد يتوضأ إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فعن ابن مسعود «رضي الله ع» مرفوعا، في التوراة والإنجيل وصف هذه الامة أنهم يوضؤون أطرافهم.
وفي بعض الآثار: افترضت عليهم أن يتطهروا في كل صلاة كما افترضت على الأنبياء لكن تقدم في الحديث: «أنه توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، ثم توضأ مرتين فقال: هذا وضوء الأمم من قبلكم، من توضأ مرة آتاه الله أجره مرتين، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، فقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الله إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» وهذا الحديث كما ترى يقتضي مشاركة الأمم مع هذه الأمة في أصل الوضوء، والاختصاص إنما هو بالتثليث، وتقدم الكلام على ذلك، أي والغسل من الجنابة.
ففيما أوحى الله إلى داود "عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة: «وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم، وأن منها سبعين ألفا، مع كل واحد من هؤلاء السبعين ألفا سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، أي وبإجلال الله تعالى توقير المشايخ منهم، وأنهم اذا حضروا القتال في سبيل الله حضرتهم الملائكة لنصرة الدين، وأن الملائكة عليهم تنزل هليهم في كل سنة ليلة القدر تسلم عليهم، وأكل صدقاتهم في بطونهم، وإثابتهم عليها، وتعجيل الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة، كصلة الرحم فإنها تزيد في العمر ويثاب عليها في الآخرة وما دعوا به استجيب لهم.
روى الترمذي رحمه الله: «أعطيت هذه الأمة ما لم يعط أحد بقوله تعالى {ادعوني أستجبْ لكم}» وإنما يقال هذا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وأوحى الله تعالى إلى داود "عليه الصلاة والسلام في وصف هذه الأمة «إن دعوني استجبت لهم، فإما أن يكون عاجلا، وإما أن أصرف عنهم سوءا، وإما أن أدخر لهم في الآخرة» ومخالطة الحائض سوى الوطء وما ألحق به، وهو مباشرة ما بين سرتها وركبتها، وتقدم وصفهم في الكتب القديمة بما لا ينبغي إعادته هنا لطوله.