→ الجزء الأول | السيرة الحلبية الجزء الثاني علي بن برهان الدين الحلبي |
الجزء الثالث ← |
باب استخفائه وأصحابه في دار الأرقم ابن أبي الأرقم رضي الله تعالى عنهما ودعائه إلى الإسلام جهرة وكلام قريش لأبي طالب في أن يخلي بينهم وبينه وما لقي هو وأصحابه من الأذى وإسلام عمه حمزة رضي الله تعالى عنه
عن ابن اسحاق أن مدة ما أخفى أمره: أي المدة التي صار يدعو الناس فيها خفية بعد نزول {يا أيها المدثّر} ثلاث سنين: أي فكان من أسلم إذا أراد الصلاة يذهب إلى بعض الشعاب يستخفي بصلاته من المشركين: أي كما تقدم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله ﷺ في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلا منهم بلحى بعير فشجه، فهو أول دم أهريق في الإسلام، ثم دخل وأصحابه مستخفين في دار الأرقم: أي بعد هذه الواقعة، فإن جماعة أسلموا قبل دخوله دار الأرقم، ودار الأرقم هي المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا، اشتراها الخليفة المنصور وأعطاها ولده المهدي، ثم أعطاها المهدي للخيزران أم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، ولا يعرف امرأة ولدت خليفتين إلا هذه، وولادة جارية عبد الملك بن مروان، فإنها (أم الوليد وسليمان).
وقد روت الخيزران عن زوجها المهدي عن أبيه عن جده عن ابن عباس «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «من اتقى الله وقاه كل شيء».
فكان وأصحابه يقيمون الصلاة بدار الأرقم، ويعبدون الله تعالى فيها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار الدين:
أي وهذا السياق يدل على أنه استمر مستخفيا هو وأصحابه في دار الأرقم إلى أن أظهر الدعوة، وأعلن في السنة الرابعة: أي وقيل مدة استخفائه أربع سنين وأعلن في الخامسة. وقيل أقاموا في تلك الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون. وقد يقال الإقامة شهرا مخصوصة بالعدد المذكور، فلا منافاة، وإعلانه كان في الرابعة أو الخامسة بقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وبقوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} أي أظهر ما تؤمر به من الشرائع، وادع إلى الله تعالى، ولا تبال بالمشركين، وخوّف بالعقوبة عشيرتك الأقربين وهم بنو هاشم وبنو المطلب: أي وبنو عبد شمس وبنو نوفل أولاد عبد المطلب بدليل ما يأتي. قال بعضهم: آية {فاصدع بما تؤمر} اشتملت على شرائط الرسالة وشرائعها وأحكامها وحلالها وحرامها.
وقال بعضهم: إنما أمر بالصدع لغلبة الرحمة عليه. قال: ذكر بعضهم أنه لما نزل عليه قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} اشتد ذلك على النبي ﷺ وضاق به ذرعا: أي عجز عن احتماله ( ) فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك: أي مريض، فدخلن عليه عائدات، فقال: «ما اشتكيت شيئا لكن الله أمرني بقوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} فأريد أن أجمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى الله تعالى، قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزى فيهم، يعنين عمه أبا لهب، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه، وخرجن من عنده: أي وكني عبد العزى بأبي لهب لجمال وجهه ونضارة لونه كأن وجهه وجبينه ووجنتيه لهب النار: أي خلافا لما زعمه بعضهم أن ولده عقير الأسد أو ولد آخر غيره كان اسمه لهبا.
قال في الإتقان: ليس في القرآن من الكنى غير أبي لهب ولم يذكر اسمه وهو عبد العزى أي الصنم، لأنه حرام شرعا، هذا كلامه وفيه أن الحرام وضع ذلك لا استعماله.
وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الاستعمال حرام أيضا إلا أن يشتهر بذلك كما في الأوصاف المنقصة كالأعمش.
وفي كلام القاضي: وإنما كناه والكنية تكرمة أي بالعدول عن الاسم إليها لاشتهاره بكنيته، ولأن اسمه عبد العزى الذي هو الصنم فاستكره ذكره، ولأنه لما كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله في الآخرة، فهي كنية تفيد الذم.
فاندفع ما يقال هذا يخالف قولهم ولا يكنى كافر وفاسق ومبتدع إلا لخوف فتنة أو تعريف، لأن ذلك خاص بالكنية التي تفيد المدح لا الذم ولم يشتهر بها صاحبها.
قال: فلما أصبح رسول الله ﷺ بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا وكان فيهم أبو لهب، فلما أخبرهم بما أنزل الله عليه أسمعه ما يكره، قال: تبا لك، ألهذا جمعتنا: أي وأخذ حجرا ليرميه به، وقال له: ما رأيت أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بأشرّ ما جئتهم به، فسكت رسول الله ﷺ ولم يتكلم في ذلك المجلس انتهى.
أي وفي الإمتاع: أن أبا لهب ظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبون، فقال له هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك، فتكلم بما تريد واترك الصبأة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب طاقة، وإن أحق من أخذك وحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك، فهو أيسر عليك من أن تتب عليك بطون قريش وتمدها العرب، فما رأيت يا بن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشر ما جئتهم به، وعند ذلك أنزل الله تعالى {تبت} أي خسرت وهلكت {يدا أبي لهب وتب} أي خسر وهلك بجملته: أي والمراد بالأول جملته، عبر عنها باليدين مجازا، والمراد به الدعاء، وبالثاني الخبر على حد قولهم: أهلكه الله وقد هلك.
أي ولما قال أبو لهب عند نزول {تبت يدا أبي لهب وتب} إن كان ما يقوله محمد حقا افتديت منه بمالي وولدي نزل {ما أغنى عنه ماله وما كسب} أي وأولاده، لأن الولد من كسب أبيه: أي وفي رواية وهي في الصحيحين «أنه دعا قريشا فاجتمعوا، فخص وعم فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار: أي وفيه أنه إنما أمر بالإنذار لعشيرته الأقربين، ثم قال: يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني زهرة أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، يا صفية عمة محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا» وفي لفظ «لا أملك لكم من الدنيا منفعة، ولا من الآخرة نصيبا، إلا أن تقولوا لا إله إلا الله: أي لا تبقوا على كفركم اتكالا على قرابتكم مني» فهو حث لهم على صالح الأعمال، وترك الاتكال «غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها» أي أصلها بالدعاء: أي والبلال بالفتح كقطام ما يبل الحلق من الماء أو اللبن، وبل رحمه إذا وصلها، وبلوا أرحامكم: ندّوها بالصلة، وفي الحديث «بلو أرحامكم ولو بالسلام» أي صلوها: أي وقد ذكر أئمتنا ضابط الصلة.
وفي تخصيصه فاطمة من بين بناته مع أنها أصغرهن، وقيل أصغر بناته رقية. وتخصيصه صفية من بين عماته حكمة لا تخفى. ومن الغريب ما في الكشاف من زيادة «يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر».
وعندي أن ذكر عائشة وحفصة بل وفاطمة هنا من خلط بعض الرواة، وأن هذا ذكره بعد ذلك فذكره بعض الرواة هنا، فإن المراد بالإنقاذ من النار الإتيان بالإسلام، بدليل قوله: «إلى أن تقولوا لا إله إلا الله» مع أنه تقدم أن بناته "عليه الصلاة والسلام لم يكن كفارا فليتأمل.
ثم مكث أياما ونزول عليه جبريل وأمره بإمضاء أمر الله تعالى، فجمعهم رسول الله ﷺ ثانيا وخطبهم ثم قال لهم: «إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابا جاء قومه بأفضل مما جئتكم به؟ إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة » فتكلم القوم كلاما لينا غير أبي لهب، فإنه قال: يا بني عبد المطلب هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم، فقالت له أخته صفية عمة رسول الله ﷺ «رضي الله ع»: أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك، فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضيء ـ أي أصل ـ عبد المطلب نبي فهو هو، قال: هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش وقامت معها العرب فما قوتنا بهم، فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا ثم دعا النبي ﷺ جميع قريش وهو قائم على الصفا، وقال: «إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سنح ـ بالنون والحاء المهملة ـ أي أصل، وفي لفظ: سفح بالفاء والحاء المهملة ـ هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم تكذبوني؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، إني لكم نذير مبين بين يدي عذاب شديد»، أي وفي لفظ «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه أتيتم أتيتم».
ومن أمثاله «أنا النذير العريان» أي الذي ظهر صدقه، من قولهم: عري الأمر، إذا ظهر، وقولهم: الحق عار: أي ظاهر، وقيل الذي جرده العدو فأقبل عريانا ينذر بالعدو، وعن عبد الله بن عمر «رضي الله ع» أنه حفظ عن رسول الله ﷺ ألف مثل.
واختلفت الروايات في محل وقوفه. ففي رواية «وقف على الصفا» كما تقدم، وفي رواية «وقف على أضمة من جبل فعلا أعلاها حجرا يهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا محمد فاجتمعوا إليه، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا» الحديث وفي رواية «صاح على أبي قبيس: يا آل عبد مناف إني نذير» وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} جمع بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون» وفي الإمتاع خمسة وأربعون رجلا وامرأتان، فصنع لهم عليّ طعاما: أي رجل شاة مع مدّ من البر وصاعا من لبن، فقدّمت لهم الجفنة، وقال كلوا بسم الله، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى نهلوا. وفي رواية «حتى رووا» وفي رواية «قال ادنوا عشرة عشرة فدنا القوم عشرة عشرة، ثم تناول القعب الذي فيه اللبن فجرع منه ثم ناولهم، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة » وفي رواية «يشرب العس من الشراب في مقعد واحد» فقهرهم ذلك، فلما أراد رسول الله ﷺ يتكلم بدره أو لهب بالكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم سحرا عظيما. وفي رواية: محمد، وفي رواية: ما رأينا كالسحر اليوم، فتفرقوا ولم يتكلم رسول الله، فلما كان الغد قال: «يا عليّ عد لنا بمثل ما صنعت بالأمس من الطعام والشراب، قال عليّ: ففعلت، ثم جمعتهم له فأكلوا حتى شبعوا وشربوا حتى نهلوا، ثم قال لهم: يا بني عبد المطلب إن الله قد بعثني إلى الخلق كافة، وبعثني إليكم خاصة، فقال: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويوازرني ـ أي يعاونني ـ على القيام به؟ قال عليّ: أنا يا رسول الله، وأنا أحدثكم سنا وسكت القوم» زاد بعضهم في الرواية «يكن أخي ووزيرا وورثي وخليفتي من بعدي، فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، قال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانيا فصمتوا، فقام عليّ وقال أنا يا رسول الله، فقال: اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثالثا فلم يجبه أحد منهم، فقام عليّ فقال: أنا يا رسول الله، فقال اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي».
قال الإمام أبو العباس بن تيمية أي في الزيادة المذكورة أنها كذب وحديث موضوع من له أدنى معرفة في الحديث يعلم ذلك، وقد رواه: أي الحديث مع زيادته المذكورة ابن جرير والبغوي بإسناد فيه أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه. وقال أحمد: إنه ليس بثقة، عامة أحاديثه بواطيل وقال ابن المديني: كان يضع الحديث، وفي رواية عن عليّ «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ أمر خديجة فصنعت له طعاما، ثم قال لي ادع لي بني عبد المطلب، فدعوت أربعين رجلا» الحديث، ولا مانع من تكرر فعل ذلك ويجوز أن يكون عليّ فعل ذلك عند خديجة وجاء به إلى بيت أبي طالب، ولعل جمعهم هذا كان متأخرا عن جمعهم مع غيرهم المتقدم ذكره ويشهد له السياق، فعل ذلك حرصا على إسلام أهل بيته، فلما دعا قومه ولم يردوا عليه ولم يجيبوه: أي وفي رواية: صار كفار قريش غير منكرين لما يقول فكان إذ مرّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه إن غلام بني عبد المطلب ليكلم من السماء، وكان ذلك دأبهم حتى عاب آلهتهم: أي وسفه عقولهم وضلل آباءهم: أي حتى أنه مر يوما وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام، فقال: «يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالوا إنما نعبد الأصنام حبا لله لتقربنا إلى الله فأنزل الله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فتناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم، وجاؤوا إلى أبي طالب وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وعقولنا، ينسبنا إلى قلة العقل، وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله ﷺ يظهر دين الله ويدعو إليه لا يرده عن ذلك شيء، وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
ثم قام النبي يدعو إلى الله ** وفي الكفر شدة وإباء
أمما أشربت قلوبهم الكفـ ** ـر فداء الضلال فيهم عياء
أي ثم قام يدعو جماعاتهم إلى الله تعالى بأن يقولوا لا إله إلا الله حسبما أمر، فقد جاء أن جبريل تبدى له في أحسن صورة وأطيب رائحة وقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: أنت رسول الله إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله فدعاهم والحال أن في أهل الكفر قوة تامة وامتناعا عن اتباعه، اختلط الكفر بقلوبهم وتمكن فيها حبه حتى صارت لا تقبل غيره، وبسبب ذلك صار داء الضلال: أي داء هو الضلال فيهم عضال يعيي الأطباء مداواته وحصول شفائه، ثم شري الأمر ـ أي بالشين المعجمة وكسر الراء وفتح المثناة تحت ـ كثر وتزايد وانتشر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا: أي أضمروا العداوة والحقد وأكثرت قريش ذكر رسول الله ﷺ بينها وتذامروا عليه ـ بالذال المعجمة ـ وحض أي حث بعضهم بعضا عليه أي على حربه وعداوته ومقاطعته، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد طلبنا منك أن تنهي ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا: أي عقولنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فعظم علي بن أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بأن يخذل رسول الله، فقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله ﷺ أن عمه خاذله وأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله تعالى أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر رسول الله ﷺ: أي حصلت له العبرة التي هي دمع العين فبكى، ثم قام»
فلما ولى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك وأنشد أبياتا منها:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا وحكمة تخصيص الشمس والقمر بالذكر وجعل الشمس في اليمين والقمر في اليسار لا تخفى، لأن الشمس النير الأعظم واليمين أليق به، والقمر النير الممحو واليسار أليق به وخص النيرين حيث ضرب المثل بهما لأن الذي جاء به نور، قال تعالى: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره}.
ومن غريب التعبير أن رجلا كان عاملا لسيدنا عمر «رضي الله ع» فقال لسيدنا عمر: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل واحد منهما نجوم فقال له عمر: مع أيهما كنت؟ قال مع القمر، قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملا؟ فاتفق أن هذا الرجل كان مع معاوية يوم صفين وقتل ذلك اليوم.
فلما عرفت قريش أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ﷺ مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالو له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد بن المغيرة أنهد ـ أي أشد ـ وأقوى فتى في قريش وأحمله، فخذه لك ولدا: أي بأن تتبناه وأسلم إلينا ابن أخيك الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل، فقال لهم أبو طالب: والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله لا يكون أبدا: أي وقال أرأيتم ناقة تحن إلى غير فصيلها ( ) قال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكن قد أجمعت: أي قصدت خذلاني ومظاهرة القوم: أي معاوتهم عليّ فاصنع ما بدا لك: أي وقد مات عمارة بن الوليد هذا على كفره بأرض الحبشة بعد أن سحر وتوحش وسار في البراري والقفار كما سيأتي. ومات المطعم بن عدي المذكور على كفره أيضا فعند عدم قبول أبي طالب ما أرادوه اشتد الأمر.
ولما رأى أبو طالب من قريش ما رأى دعا بني هاشم، وبني المطلب إلى ما هو عليه من منع رسول الله ﷺ والقيام دونه فأجابوه إلى ذلك، غير أبي لهب فكان من المجاهرين بالظلم لرسول الله ﷺ ولكل من آمن به، وتوالى الأذى من قريش على رسول الله ﷺ وعلى من أسلم معه.
فما وقع لرسول الله ﷺ من الأذية ما حدث به عمه العباس «رضي الله ع» قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل فقال: لله عليّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ عنقه، فخرجت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى دخل المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم من الحائط، وقرأ {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق} حتى بلغ شأن أبي جهل {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} إلى أن بلغ آخر السورة سجد، فقال إنسان لأبي جهل يا أبا الحكم، هذا محمد قد سجد، فأقبل إليه ثم نكص راجعا، فقيل له في ذلك، فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى، لقد سد أفق السماء عليّ. وفي رواية: رأيت بيني وبينه خندقا من نار، وسيأتي أن قوله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} إلى آخر السورة نزل في أبي جهل.
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: ذكر أن أبا جهل بن هشام قال يوما لقريش: يا معشر قريش إن محمدا قد أتى إلى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم وتسفيه أحلامكم وسب آبائكم إني أعاهد الله لأجل له يعني النبي ﷺ غدا بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا والله لا نسلمك لشيء أبدا، فامض لما تريد، فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو إلى الصلاة: أي وكانت قبلته إلى الشام إلى صخرة بيت المقدس، فكان يصلي بين الركن اليماني والحجر الأسود ويجعل الكعبة بينه وبين الشام على ما تقدم، وقريش جلوس في أنديتهم وهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله ﷺ احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه: أي متغيرا بالصفرة مع الكدرة من الفزع وقد يبست يداه على حجره حتى قذفه من يده: أي بعد أن عالجوا فكه من يده فلم يقدروا كما سيأتي، وقامت إليه رجال من قريش وقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قط، همّ بي أن يأكلني، فلما ذكر ذلك لرسول الله ﷺ قال: «ذاك جبريل لودنا لأخذه» وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية بقوله:
وأبو جهل إذ رأى عنق الفحـ ** ـل إليه كأنه العنقاء
أي وأبو جهل الذي هو أشد الأعداء على رسول الله ﷺ وقت أن همّ أن يلقي الحجر عليه وهو ساجد أبصر عنق الفحل وقد برزت إليه كأنه الداهية العظيمة: أي فرجع عن ذلك الرمي بذلك الحجر: أي وفي رواية أن أبا جهل قال: أتت بيني وبينه كخندق من نار. ولا مانع أن يكون وجد الأمرين معا.
وذكر في سبب نزول قوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} أي إنا جعلنا أيديهم متصلة بأعناقهم واصلة إلى أذقانهم ملصقة بها، رافعون رؤوسهم لا يستطيعون خفضها من أقمح البعير رفع رأسه {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} أن الآية الأولى نزلت في أبي جهل لما حمل الحجر ليرضخ به رأس رسول الله ﷺ ورفعه أثبتت يداه إلى عنقه ولزق الحجر بيده فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم فلم يفكوا الحجر من يده إلا بعد تعب شديد. والآية الثانية نزلت في آخر لما رأى ما وقع لأبي جهل قال أنا ألقي هذا الحجر عليه، فذهب إليه، فلما قرب منه عمي بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إليهم فأخبرهم بذلك.
وعن الحكم بن أبي العاص: أي وابنه مروان بن الحكم، أن ابنته قالت له: ما رأيت قوما كانوا أسوأ رأيا وأعجز في أمر رسول الله ﷺ منكم يا بني أمية، فقال لها: لا تلومينا يا بنية إني لا أحدثك إلا ما رأيت، لقد أجمعنا ليلة على اغتياله، فلما رأيناه يصلي ليلا جئنا خلفه فسمعنا صوتا ظننا أنه ما بقي بتهامة جبل إلا تفتت علينا: أي ظننا أنه يتفتت، وأنه يقع علينا، فما عقلنا حتى قضى صلاته ورجع إلى أهله، ثم تواعدنا ليلة أخرى، فلما جاء نهضنا إليه فرأينا الصفا والمروة التصقتا إحداهما على الأخرى، فحالتا بينا وبينه، ويتأمل هذا لأن صلاته إنما تكون عند الكعبة وليست بين الصفا والمروة.
وفي رواية «كان يصلي فجاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا فأنزل الله تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} إلى آخر السورة ».
وفي رواية «أنه لما انصرف من صلاته زأره أبو جهل أي انتهره وقال: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل الله تعالى: {فليدع ناديه سندع الزبانية }» قال ابن عباس «رضي الله ع»: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله: أي وقال يوما: ولقد لقي النبي ﷺ فقال للنبي: لقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم، فأنزل الله تعالى فيه {ذق إنك أنت العزيز الكريم} كذا قاله الواحدي: أي تقول له الزبانية عند إلقائه في النار ما ذكر توبيخا له.
ومن ذلك ما حدث به بعضهم قال: لما أنزل الله تعالى سورة {تبت يدا أبي لهب} جاءت امرأة أبي لهب وهي أم جميل واسمها العوراء، وقيل اسمها أروى بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر: أي بكسر الفاء وسكون الهاء حجر يملأ الكف، فيه طول يدق به في الهاون إلى النبي ﷺ ومعه أبو بكر «رضي الله ع»، فلما رآها قال: يا رسول الله إنها امرأة بذية: أي تأتي بالفحش من القول، فلو قمت لتؤذيك، فقال: «إنها لن تراني» فجاءت فقالت: يا أبا بكر صاحبك هجاني: أي وفي لفظ: ما شأن صاحبك ينشد فيّ الشعر؟ قال لا وما يقول الشعر أي ينشئه. وفي لفظ: لا ورب هذا البيت ما هجاك، والله ما صاحبي بشاعر وما يدري ما الشعر: أي لا يحسن إنشاءه، قالت له: أنت عندي تصدق، وانصرفت: أي وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها: أي تعني عبد مناف جدّ أبيها، ومن كان عبد مناف أباه لا ينبغي لأحد أن يتجاسر على ذمه، قلت: يا رسول الله لم لم ترك؟ قال: «لم يزل ملك يسترني بجناحه» أي فقد جاء في رواية أنه قال لأبي بكر: «قل لها: هل ترين عندي أحدا، فسألها أبو بكر، فقالت أتهزأ بي، والله ما أرى عندك أحدا».
أقول: وفي الإمتاع أنها جاءت وهو في المسجد معه أبو بكر وعمر «رضي الله ع» وفي يدها فهر، فلما وقفت على النبي ﷺ أخذ الله على بصرها فلم تره ورأت أبا بكر وعمر، فأقبلت على أبي بكر «رضي الله ع»، فقالت: أين صاحبك؟ قال وما تصنعين به؟ قالت بلغني أنه هجاني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فمه، فقال عمر «رضي الله ع»: ويحك إنه ليس بشاعر، فقالت إني لا أكلمك يا ابن الخطاب: أي لما تعلمه من شدته، ثم أقبلت على أبي بكر لم تعلمه من لينه وتواضعه، فقالت: والثواقب أي النجوم إنه لشاعر وإني لشاعرة: أي فكما هجاني لأهجونه وانصرفت، فقيل لرسول الله ﷺ إنها لم تراك، فقال إنها لن تراني، جعل بيني وبينها حجاب: أي لأنه قرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا} وفي رواية أقبلت ومعها فهران وهي تقول:
مذمما أبينا * ودينه قلينا* وأمره عصينا* فقالت: أين الذي هجاني وهجا زوجي، والله لئن رأيته لأضربن أنثييه بهذين الفهرين. قال أبو بكر: فقلت لها يا أم جميل والله ما هجاك ولا هجا زوجك، قالت: والله ما أنت بكذاب، وإن الناس ليقولون ذلك، ثم ولت ذاهبة، فقلت: يا رسول الله إنها لم ترك. فقال النبي: «حال بيني وبينها جبريل» ولعل مجيئها قد تكرر فلا منافاة بين ما ذكر وكذا ما يأتي، وكما يقال في الحمد محمد يقال في الذم مذمم، لأنه لا يقال ذلك إلا لمن ذم مرة بعد أخرى، كما أن محمدا لا يقال إلا لمن حمد مرة بعد أخرى كما تقدم. وقد جاء «أنه قال: ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمما، ويلعنون مذمما وأنا محمد».
وفي الدر المنثور «أنها أتت رسول الله ﷺ وهو جالس في الملأ، فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: إني والله ما هجوتك، ما هجاك إلا الله. قالت: رأيتني أحمل حطبا أو رأيت في جيدي حبلا من مسد» وهذا مما يؤيد ما قاله بعض المفسرين أن الحطب عبارة عن النميمة، يقال: فلان يحطب عليّ: أي ينمّ، لأنها كانت تمشي بين الناس بالنميمة، وتغري زوجها وغيره بعداوته، وتبلغهم عنه أحاديث لتحثهم بها على عداوته، وأن الحبل عبارة عن حبل من نار محكم.
وعن عروة بن الزبير: مسد النار سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعا، والله أعلم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وأعدت حمالة الحطب الفهر وجاءت كأنها الورقاء
ثم جاءت غضبى تقول أفي مثلي من أحمد يقال الهجاء
وتولت وما رأته ومن أين ترى الشمس مقلة عمياء
أي وهيأت حمالة الحطب الفهر، ولقبت بذلك لأنها كانت تحتطب: أي تجمع الحطب وتحمله لبخلها ودناءة نفسها، أو كانت تحمل الشوك والحسك وتطرحه في طريقه. ولا مانع من اجتماع الأوصاف الثلاثة، لكن استفهامها يبعد الوصفين الأخيرين. والفهر الحجر الذي يملأ الكف كما تقدم، لتضرب به النبي ﷺ والحال أنها جاءت في غاية السرعة والعجلة كأنها في شدة السرعة الحمامة الشديدة الإسراع، حالة كونها غضبى من شدة ما سمعت من ذمها في سورة {تبت يدا أبي لهب}، تقول: أفي مثلي وأنا بنت سيد بني عبد شمس يقال الهجاء والسب حالة كونه من أحمد وتولت والحال أنها ما رأته، وكيف ترى الشمس عين عمياء.
أقول: في ينبوع الحياة أنها لما بلغها سورة {تبت يدا أبي لهب} جاءت إلى أخيها أبي سفيان في بيته وهي مضطرمة: أي منحرقة غضبى، فقالت له: ويحك يا أخمس: أي يا شجاع أما تغضب أن هجاني محمد، فقال سأكفيك إياه، ثم أخذ سيفه وخرج ثم عاد سريعا فقالت: هل قتلته؟ فقال لها: يا أخية أيسرك أن رأس أخيك في فم الثعبان؟ قالت: لا والله، قال: فقد كان ذلك يكون الساعة. أي فإنه رأى ثعبانا لو قرب منه لالتقم رأسه.
ولما نزلت هذه السورة التي هي {تبت يدا أبي لهب} قال أبو لهب لابنه عتبة أي بالتكبير «رضي الله ع» فإنه أسلم يوم الفتح كما سيأتي: رأسي من رأسك حرام إن لم تفارق ابنة محمد، يعني رقية «رضي الله ع» فإنه كان تزوّجها ولم يدخل بها ففارقها ووقع في كلام بعضهم طلقها لما أسلم فليتأمل.
وكان أخوه عتيبة بالتصغير متزوّجا ابنته أم كلثوم، ويدخل بها. فقال: أي وقد أراد الذهاب إلى الشام: لآتين محمدا فلأوذينه في ربه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم: أي وفي لفظ برب النجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم بصق في وجه النبي ﷺ وردّ عليه ابنته وطلقها، فقال النبي: «اللهم سلط» وفي رواية «اللهم ابعث عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها أبو طالب. وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتيبة إلى أبيه أبي لهب فأخبره بذلك، ثم خرج هو وأبوه إلى الشام في جماعة، فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير. فقال لهم: إن هذه الأرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه إنكم قد عرفتم نسبي وحقي، فقالوا أجل يا أبا لهب. فقال أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فأجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ثم افرشوا لابني عليه ثم افرشوا حوله، ففعلوا ثم جمعوا جمالهم وأناخوها حولهم وأحدقوا بعتيبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتيبة فقتله. وفي رواية «فضخ رأسه» وفي رواية «ثنى ذنبه ووثب وضربه بذنبه ضربة واحدة فخدشه فمات مكانه» وفي رواية «فضغمه ضغمة فكانت إياها» فقال وهو بآخر رمق ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس لهجة ومات، فقال أبوه: قد عرفت والله ما كان ليفلت من دعوة محمد: أقول: وحلفه بالنجم إلى آخره يدل على أن ذلك كان بعد الإسراء والمعراج.
ووقع مثل ذلك لجعفر الصادق، قيل له: هذا فلان ينشد الناس هجاءكم يعني أهل البيت بالكوفة، فقال لذلك القائل: هل علقت من قوله بشيء؟ قال نعم قال فأنشد:
صلبنا لكم زيدا علة رأس نخلة ** ولم أر مهديا على الجذع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة ** وعثمان خير من عليّ وأطيب
فعند ذلك رفع جعفر يديه، وقال اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك، فخرج ذلك الرجل فافترسه الأسد، وإنما سمي الأسد كلبا لأنه يشبه الكلب في أنه إذا بال رفع رجله. ونم ثم قيل: إن كلب أهل الكهف كان أسدا. وقيل كان رجلا منهم جلس عند الباب طليعة لهم، فسمي باسم الكلب لملازمته للحراسة، ووصف ببسط الذراعين لأن ذلك من صفة الكلب الذي هو الحيوان.
وقد جاء «أنه ليس في الجنة من الحيوان إلا كلب أهل الكهف، وحمار العزير، وناقة صالح» والله أعلم.
ومما وقع لرسول الله ﷺ من الأذية ما حدّث به عبد الله بن مسعود «رضي الله ع» قال: «كنا مع رسول الله ﷺ في المسجد وهو يصلي، وقد نحر جزور وبقي فرثه: أي روثه في كرشه. فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد» أي وفي رواية «قال: قائل: ألا تنظرون إلى هذا المرائي أيكم يقوم إلى جزور بني فلان فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها فيجيء به، ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه» وفي رواية: «أيكم يأخذ سلي جزور بني فلان لجزور ذبحت من يومين أو ثلاثة فيضعه بين كتفيه إذا سجد، فقام شخص من المشركين» وفي لفظ «أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط. وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي ﷺ وهو ساجد: أي فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض أي من شدة الضحك. قال ابن مسعود: فهبنا أي خفنا أن نلقيه عنه » وفي لفظ «وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهر رسول الله، حتى جاءت فاطمة «رضي الله ع» أي بعد أن ذهب إليها إنسان وأخبرها بذلك واستمر ساجدا حتى ألقته عنه، واستمراره في الصلاة عند فقهائنا لعدم علمه بنجاسة ما ألقي عليه، ولما ألقته عنه أقبلت عليهم تشتمهم، فقام النبي ﷺ فسمعته يقول وهو قائم يصلي: اللهم اشدد وطأتك: أي عقابك الشديد، على مضر سنين كسني يوسف. اللهم عليك بأبي الحكم بن هشام، يعنى أبا جهل، وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف. زاد بعضهم: وشيبة بن أبي ربيعة، والوليد بن عتبة » بالمثناة فوق لا بالقاف كما وقع في رواية مسلم.
فقد اتفق العلماء على أنه غلط، لأنه لم يكن ذلك الوقت موجودا أو كان صغيرا جدا وعمارة بن الوليد: أي وهو المتقدم ذكره الذي أرادوا أن يجعلوه عوضا عنه.
أقول: والذي في المواهب «فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، ثم سمى، اللهم عليك بعمرو بن هشام» إلى آخر ما تقدم ذكره. وفي الإمتاع: «فلما قضى النبي ﷺ صلاته رفع يديه ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا ثلاثا ثم قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش فلما سمعوا صوته ذهب منهم الضحك وهابوا دعوته، ثم قال: اللهم عليك بأبي جهل بن هشام» الحديث، وإن ابن مسعود قال: والله لقد رأيتهم، وفي رواية: رأيت الذي سمى رسول الله ﷺ صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.
واعترض بأن عمارة بن الوليد مات بالحبشة كافرا كما تقدم ويأتي، وبأن عقبة بن أبي معيط لم يقتل ببدر وإنما أخذ أسيرا منها وقتل بعرق الظبية كما سيأتي، وبأن أمية بن خلف لم يطرح بالقليب وأجيب بأن قول ابن مسعود: رأيتهم أي رأيت أكثرهم.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أتى بهذا الدعاء وهو قائم يصلي، وبعد الفراغ من الصلاة فلا منافاة والله أعلم.
والمراد بسني يوسف بتخفيف الياء، ويروى سنين باثبات النون مع الإضافة: القحط والجدب: أي فاستجاب الله دعاءه، فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام والعلهز وهو الوبر والدم، أي يخلط الدم بأوبار الإبل ويشوى على النار، وصار الواحد منهم يرى ما بينه وبين السماء كالدخان من الجوع، وجاءه جمع من المشركين فيهم أبو سفيان، قالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم «فدعا رسول الله ﷺ فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا، فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فانحدرت السحابة ».
وجاء أنهم {قالوا ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} أي لا نعود لما كنا عليه، فلما كشف عنهم ذلك عادوا: أي وفيه أن هذا إنما كان بعد الهجرة فسيأتي «أنه مكث شهرا إذا رفع رأسه من ركوع الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وسيأتي ما فيه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون حصل لهم ذلك قبل الهجرة وبعد الهجرة مرة أخرى سيأتي الكلام عليها.
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يوافق ذلك حيث قال: قال البيهقي: قد روي في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك كان بعد الهجرة، ولعله كان مرتين، أي وسيأتي في السرايا أن ثمامة لما منع عن قريش الميره أن تأتي من اليمن حصل لهم مثل ذلك وكتبوا في ذلك لرسول الله.
وفي البخاري «لما استعصت قريش على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فبقيت السماء سبع سنين لا تمطر» وفي رواية فيه أيضا: لما أبطؤوا على النبي ﷺ بالإسلام قال: اللهم اكفنيهم بسبع كسبع يوسف، فأصابتهم سنة حصت كل شيء» الحديث. وفي رواية «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} فأتى أبو سفيان رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله استسق لمضر فإنها قد هلكت، فاستسقى فسقوا، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}» يعني يوم بدر.
ومن ذلك ما حدث به عثمان بن عفان «رضي الله ع» قال: «كان رسول الله ﷺ يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمرّ رسول الله ﷺ عليه، فلما حاذاهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه النبي، فدنوت منه حتى وسطته: أي جعلته وسطا، فكان بيني وبين أبي بكر وأدخل أصابعه في أصابعي وطفنا جميعا، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بلّ بحر صوفة وأنت تنهى أن نعبد ما كان يعبد آباؤنا فقال رسول الله، أنا ذلك، ثم مشى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه، أي قاموا له، ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوبه، فدفعت في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله ﷺ عقبة بن أبي معيط ثم انفرجوا عن رسول الله ﷺ وهو واقف. ثم قال: أما والله لا تنتهون حتى يحل بكم عقابه أي ينزل عليكم عاجلا. قال عثمان: فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذته الرعدة، فجعل رسول الله ﷺ يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم، ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته، ثم أقبل علينا بوجهه. فقال: أبشروا، فإن الله «عَزَّ وجَلّ» مظهر دينه، ومتمم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون مما يذبح الله على أيديكم عاجلا، ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فوالله لقد ذبحهم الله بأيدينا يوم بدر».
أقول: ولا يخالف ذلك كون عقبة بن أبي معيط حمل أسيرا من بدر وقتل بعرق الظبية صبرا وهم راجعون من بدر، ولا كون عثمان بن عفان لم يحضر بدرا والله أعلم.
وفي رواية «أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان».
أي وفي رواية «دخل عقبة بن أبي معيط الحجر فوجده يصلي فيه فوضع ثوبه على عنقه وخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر «رضي الله ع» حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله ﷺ وقال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم}.
أي وفي البخاري عن عروة بن الزبير «رضي الله ع» قال: «قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله؟ قال: بينما رسول الله ﷺ يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر «رضي الله ع» فأخذ بمنكبيه ودفع عن رسول الله » الحديث، ولعل أشدية ذلك باعتبار ما بلغ عبد الله بن عمرو «رضي الله ع» أو ما رآه.
وعنه «رضي الله ع» قال: «ما رأيت قريشا أصابت من عداوة أحد ما أصابت من عداوة رسول الله، ولقد حضرتهم يوما وقد اجتمع ساداتهم وكبراؤهم في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ فقالوا: ما صبرنا لأمر كصبرنا لأمر هذا الرجل قط ولقد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي، حتى استلم الركن ثم مرّ طائفا بالبيت، فلما مر بهم لمزوه ببعض القول فعرفنا ذلك في وجهه ثم مر بهم الثانية فلمزوه بمثلها فعرفنا ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فلمزوه، فوقف عليهم وقال: أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح، فارتعبوا لكلمته تلك، وما بقي رجل منهم إلا كأنما على رأسه طائر واقع، فصاروا يقولون، يا أبا القاسم انصرف، فوالله ما كنت جهولا، فانصرف رسول الله، فلما كان الغد اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منك وما بلغكم عنه حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله ﷺ فتواثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به وهم يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـ يعني عيب آلهتهم ودينهم ـ فقال نعم: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه "عليه الصلاة والسلام، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فأطلقه الرجل ووقعت الهيبة في قلوبهم فانصرفوا عنه» فذلك أشد ما رأيتهم نالوا من رسول الله.
وفي رواية «ألست تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال بلى، فتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له أدرك صاحبك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول والناس مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم، فكفوا عن رسول الله ﷺ فأقبلوا على أبي بكر يضربونه، قالت بنته أسماء: فرجع إلينا فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا أجابه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام».
وجاء «أنهم جذبوا رأسه ولحيته حتى سقط أكثر شعره، فقام أبو بكر دونه وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله: أي وهو يبكي، فقال رسول الله ﷺ: دعهم يا أبا بكر، فوالذي نفسي بيده إني بعثت إليهم بالذبح ففرجوا عنه ».
وعن فاطمة «رضي الله ع» قالت: «اجتمعت مشركو قريش في الحجر، فقالوا إذا مر محمد فليضربه كل واحد منا ضربة فسمعت فدخلت على أبي فذكرت ذلك له: أي قالت له وهي تبكي، تركت الملأ من قريش قد تعاقدوا في الحجر، فحلفوا باللات والعزى ومناة وإساف ونائلة إذا هم رأوك يقومون إليك فيضربونك بأسيافهم فيقتلونك فقال: يا بنية اسكتي، وفي لفظ: لا تبكي، ثم خرج أي بعد أن توضأ فدخل عليهم المسجد، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ قبضة من تراب فرمى بها نحوهم، ثم قال: شاهت الوجوه فما أصاب رجلا منهم إلا قتل ببدر».
أي وكان بجواره جماعة منهم أبو لهب والحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان وعقبة بن أبي معيط فكانوا يطرحون عليه الأذى فإذا طرحوه عليه أخذه وخرج به ووقف على بابه ويقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا ثم يلقيه في الطريق، ولم يسلم ممن ذكر إلا الحكم وكان في إسلامه شيء. وتقدم أنه نفاه إلى وج الطائف، وأنه سيأتي السبب في نفيه، وأشار صاحب الهمزية إلى أن هذه الأذية له لا يظن ظانّ أنها منقصة له، بل هي رفعة له، ودليل على فخامة قدره وعلو مرتبته وعظيم رفعته ومكانته عند ربه، لكثرة صبره وحلمه واحتماله مع علمه باستجابة دعائه ونفوذ كلمته عند الله تعالى وقد قال: «أشد الناس بلاء الأنبياء» وذلك سنة من سنن النبيين السابقين عليهم الصلاة والسلام بقوله:
لا تخل جانب النبي مضاما ** حين مسته منهم الأسواء
كل أمر ناب النبيين فالشـ ** ـدة فيه محمودة والرخاء
لو يمس النضار هون من النا ** ر لما اختير للنضار الصلاء
أي لا تظن أن النبي ﷺ حصل له الضيم وقت مسته الأذيات حالة كونها صادرة منهم، لأن كل أمر من الأمور العظيمة التي أصابت النبيين فالشدة التي تحصل لهم منه محمودة، لأنها لرفع الدرجات، والضيقة التي تحصل لهم أيضا محمودة، لأنه لو كان يمس الذهب هوان من إدخاله النار لما اختير له العرض على النار، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالذهب والشدائد التي تصيبهم كالنار التي يعرض عليها الذهب، فإن ذلك لا يزيد الذهب إلا حسنا، فكذلك الشدائد لا تزيد الأنبياء إلا رفعة.
قال: ومما وقع لأبي بكر «رضي الله ع» من الأذية، ما ذكره بعضهم «أن رسول الله ﷺ لما دخل دار الأرقم ليعبد الله تعالى ومن معه من أصحابه فيها سرا أي كما تقدم، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحَّ أبو بكر «رضي الله ع» على رسول الله ﷺ في الظهور ـ أي الخروج إلى المسجد ـ فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل به حتى خرج رسول الله ﷺ ومن معه من أصحابه إلى المسجد، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله ﷺ جالس ودعا إلى الله ورسوله، فهو أول خطيب دعا إلى الله تعالى، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين يضربونهم فضربوهم ضربا شديدا، ووطىء أبو بكر بالأرجل وضرب ضربا شديدا، وصار عتبة بن ربيعة يضرب أبا بكر بنعلين مخصوفتين، أي مطبقتين ويحرفهما إلى وجهه حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب إلى أن أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، أي ثم رجعوا فدخلوا المسجد، فقالوا والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمونه فلا يجيب، حتى إذا كان آخر النهار تكلم وقال: ما فعل رسول الله، فعذلوه، فصار يكرر ذلك، فقالت أمه والله ما لي علم بصاحبك، فقال اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب: أي فإنها كانت أسلمت «رضي الله ع» كما تقدم، وهي تخفي إسلامها فأسأليها عنه، فخرجت إليها وقالت لها، إن أبا بكر يسأل عن محمد بن عبد الله، فقالت: لا أعرف محمدا ولا أبا بكر، ثم قالت لها: تريدين أن أخرج معك؟ قالت نعم، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر «رضي الله ع» فوجدته صريعا، فصاحت وقالت إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، فقال لها أبو بكر، ما فعل رسول الله؟ فقالت له: هذه أمك تسمع، قال: فلا عين عليك منها، أي أنمها لا تفشي سرك، قالت سالم، فقال: أين هو؟ فقالت في دار الأرقم، فقال والله لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله، قالت أمه: فأمهلناه حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس فخرجنا به يتكىء عليّ حتى دخل على رسول الله، فرق له رقة شديدة، وأكب عليه يقبله، وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، فعسى الله أن ينقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله ﷺ ودعاها إلى الإسلام فأسلمت انتهى.
هذا، وذكر الزمخشري في كتابه خصائص العشرة أن هذه الواقعة حصلت لأبي بكر لما أسلم وأخبر قريشا بإسلامه فليتأمل، فإنّ تعدد الواقعة بعيد.
ومما وقع لابن مسعود «رضي الله ع» من الأذية أن أصحاب رسول الله ﷺ اجتمعوا يوما، فقال: والله ما سمعت قريش القرآن جهرا إلا من رسول الله، فمن فيكم يسمعهم القرآن جهرا؟ فقال عبد الله بن مسعود «رضي الله ع»، أنا فقالوا نخشى عليك منهم، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم، فقال: دعوني فإن الله سيمنعني منهم. ثم إنه قام عند المقام وقت الشمس وقريش في أنديتهم فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم} رافعا صوته {الرحمن علم القرآن} واستمر فيها فتأملته قريش، وقالوا ما بال ابن أم عبد، فقال بعضهم: يتلو بعض ما جاء به محمد ثم قاموا إليه يضربون وجهه وهو مستمر في قراءته حتى قرأ غالب السورة، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أدمت قريش وجهه، فقال له أصحابه: هذا الذي خشينا عليكم منه فقال: والله ما رأيت أعداء الله أهون عليّ مثل اليوم، ولو شئتم لأتيتهم بمثلها غدا، قالوا لا قد أسمعتهم ما يكرهون.
ومما وقع له من الأذية، أنه كان إذا قرأ القرآن تقف له جماعة من يمينه وجماعة عن يساره ويصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار، لأنهم تواصوا {وقالوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} حتى كان من أراد منهم سماع القرآن أتى خفية واسترق السمع خوفا منهم.
ومما وقع له من الأذية ما كان سببا لإسلام عمه حمزة «رضي الله ع»، وهو ما حدث به ابن إسحاق قال: حدثني به رجل من أسلم أن أبا جهل مر برسول الله ﷺ عند الصفا: أي وقيل عند الحجون، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكرهه: أي وقيل إنه صب التراب على رأسه: أي وقيل ألقى عليه فرثا ووطىء برجله على عاتقه، فلم يكلمه رسول الله ﷺ ومولاة لعبد الله بن جدعان في سكن لها تسمع ذلك وتبصره، ثم انصرف أبو جهل إلى نادي قريش: أي محل تحدثهم في المسجد فجلس معهم، فلم يلبث حمزة أن أقبل متوحشا بسيفه راجعا من قنصه: أي من صيده، وكان من عادته إذا رجع من قنصه لا يدخل إلى أهله إلا بعد أن يطوف بالبيت، فمرّ على تلك المولاة، فأخبرته الخبر: أي فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، تعني أبا جهل، وجده ههنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد: أي وقيل الذي أخبرته مولاة أخته صفية بنت عبد المطلب، قالت له: إنه صب التراب على رأسه، وألقى عليه فرثا، ووطىء برجله على عاتقه. وعلى إلقاء الفرث عليه اقتصر أبو حيان في النهر، فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت نعم.
وفي رواية فلما رجع حمزة من صيده إذا امرأتان تمشيان خلفه، فقالت إحداهما: لو علم ماذا صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته، فالتفت إليهما فقال: ما ذاك؟ قالت أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا. ولا مانع من تعدد الأخبار من المرأتين والمولاتين فاحتمل حمزة الغضب ودخل المسجد، فرأى أبا جهل جالسا في القوم فأقبل نحوه حتى قام على رأسه رفع القوس وضربه فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد عليّ ذلك إن استطعت.
أي وفي لفظ: أن حمزة لما قام على رأس أبي جهل بالقوس صار أبو جهل يتضرع إليه ويقول: سفه عقولنا وسب آلهتنا، وخالف آباءنا قال ومن سفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقامت رجال من بني مخزوم: أي من عشيرة أبي جهل إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقالوا: ما نراك إلا قد صبأت، فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه، أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقوله حق، والله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال لهم أبو جهل: دعوا أبا عمارة: أي ويكنى أيضا بأبي يعلى اسم ولد له أيضا فإني والله لقد أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا، وتم حمزة على إسلامه: أي استمر، أي بعد أن وسوس له الشيطان، فقال لنفسه لما رجع إلى بيته أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابي وتركت دين آبائك؟ الموت خير لك مما صنعت، ثم قال: اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا فبات بليلة، ثم لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح، فغدا إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري أرشد هو أم غيّ شديد فأقبل عليه رسول الله ﷺ فذكره ووعظه وخوفه وبشره، فألقى الله تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول الله، فقال: أشهد أنك لصادق، فأظهر يا ابن أخي دينك ( ).
وقد قال ابن عباس «رضي الله ع»: إن هذه الواقعة سبب لنزول قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} يعني حمزة {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} يعني أبا جهل، وسر رسول الله ﷺ بإسلام حمزة سرورا كبيرا لأنه كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة: أي أعظمهم في عزة النفس وشهامتها، ومن ثمّ لما عرفت قريش أن رسول الله ﷺ قد عزّ كفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، وأقبلوا على بعض أصحابه بالأذية سيما المستضعفين منهم الذين لا جوار لهم: أي لا ناصر لهم، فإن كل قبيلة غدت على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه () بالحبس والضرب، والجوع والعطش، وغير ذلك: أي حتى إن الواحد منهم ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي به، وكان أبو جهل يحرضهم على ذلك، وكان إذا سمع بأن رجلا أسلم وله شرف ومنعة جاء إليه ووبخه وقال له: ليغلبن رأيك وليضعفن شرفك، وإن كان تاجرا قال: والله لتكسدنّ تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفا أغرى به () حتى أن منهم من فتن عن دينه ورجع إلى الشرك، كالحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبي قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج، وكل هؤلاء قتلوا على كفرهم يوم بدر.
وممن فتن عن دينه وثبت عليه ولم يرجع للكفر بلال «رضي الله ع» وكان مملوكا لأمية بن خلف، فعن بعضهم أن بلالا كان يجعل في عنقه حبل يدفع إلى الصبيان يلعبون به ويطوفون به في شعاب مكة وهو يقول «أحد، أحد» بالرفع والتنوين أو بغير تنوين: أي الله أحد أو يا أحد، فهو إشارة لعدم الإشراك، وقد أثر الحبل في عنقه.
وعن ابن إسحاق أن أمية بن خلف كان يخرج بلالا إذا حميت الظهيرة بعد أن يجيعه ويعطشه يوما وليلة فيطرحه على ظهره في الرمضاء أي الرمل إذا اشتدت حرارته لو وضعت عليه قطعة لحم لنضجت، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا، حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول أحد أحد: أي أنا لا أشرك بالله شيئا، أنا كافر باللات والعزى.
أي وقيل كان بلال مولدا من مولدي مكة، وكان لعبد الله بن جدعان التيمي وكان من جملة مائة مملوك مولدة له، فلما بعث الله تعالى نبيه أمر بهم فأخرجوا من مكة: أي خوف إسلامهم، فأخرجوا إلا بلالا فإنه كان يرعى غنمه، فأسلم بلال وكتم إسلامه فسلح بلال يوما على الأصنام التي حول الكعبة.
ويقال إنه صار يبصق عليها ويقول خاب وخسر من عبدكنّ، فشعرت به قريش فشكوه إلى عبد الله وقالوا له أصبوت؟ قال ومثلي يقال له هذا، فقالوا له إن أسودك صنع كذا وكذا فأعطاهم مائة من الإبل ينحرونها للأصنام ومكنهم من تعذيب بلال، فكانوا يعذبونه بما تقدم، أي ويجوز أن يكون ابن جدعان بعد ذلك ملكه لأمية بن خلف. فلا يخالفه ما تقدم من أن أمية بن خلف كان يتولى تعذيبه، وما يأتي من أنا أبا بكر «رضي الله ع» اشتراه منه. ويقال إنه مر عليه وهو يعذب فقال سينجيك أحد أحد.
أي وقيل مر عليه ورقة بن نوفل، وهو يقول أحد أحد فقال نعم أحد أحد والله يا بلال، ثم أتى إلى أمية، وقال له: والله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا أي لأتخذن قبره منسكا ومسترحما، لأنه من أهل الجنة، وتقدم أن هذا يدل على أن ورقة أدرك البعثة التي هي الرسالة، وتقدم ما فيه، فكان بلال بقوله أحد أحد يمزج مرارة العذاب بحلاوة الإيمان.
وقد وقع له «رضي الله ع» أنه لما احتضر وسمع امرأته تقول واحزناه صار يقول: واطرباه، غدا ألقى الأحبة محمدا وحزبه، فكان بلال يمزج مرارة الموت بحلاوة اللقاء.
وقد ذكر بعضهم أن هذا قاله أبو موسى الأشعري، ومن معه لما وفدوا عليه وهو في خيبر: أي صاروا يقولون: غدا نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.
ومر به أبو بكر «رضي الله ع» يوما وهو ملقى على ظهره في الرمضاء، وعلى ظهره تلك الصخرة، فقال لأمية بن خلف: ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين؟ حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى: أي على دينك، أعطيكه به؟ قال: قبلت، قال: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه.
وفي تفسير البغوي قال سعيد بن المسيب: بلغني أن أمية بن خلف قال لأبي بكر الصديق «رضي الله ع» في بلال حين قال أتبيعنيه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس، يعني عبدا لأبي بكر «رضي الله ع»، كان صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوار ومواش، وكان مشركا يأبى الإسلام، فاشتراه أبو بكر به، هذا كلامه.
وفي الإمتاع: لما ساوم أبو بكر أمية بن خلف في بلال، قال أمية لأصحابه: لألعبن بأبي بكر لعبة ما لعبها أحد بأحد، ثم تضاحك وقال له: أعطني عبدك قسطاس، فقال أبو بكر: إن فعلت تفعل؟ قال نعم. قال: قد فعلت، فتضاحك، وقال لا والله حتى تعطيني معه امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تعطيني ابنته مع امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال نعم، قال: قد فعلت ذلك، فتضاحك وقال: لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: أنت رجل لا تستحيي من الكذب، قال: لا واللات والعزى لأن أعطيتني لأفعلنّ، فقال: هي لك، فأخذه، هذا كلامه.
وقيل اشتراه بتسع. وقيل بخمس أواق، أي ذهبا: أي وقيل ببردة وعشرة أواق من فضة، وفي رواية برطل من ذهب.
ويروى أن سيده قال لأبي بكر: لو أبيت إلا أوقية أي لو قلت لا أشتريه إلا بأوقية لبعناكه، فقال: لو طلبت مائة أوقية لأخذته بها.
ولما قال المشركون: إنما أعتق أبو بكر بلالا ليد كانت له عنده فيكافئه بها أنزل الله تعالى {والليل إذا يغشى} السورة، فالأتقى أبو بكر «رضي الله ع»، والأشقى أمية بن خلف.
قال الإمام فخر الدين، أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر. وذهب الشيعة إلى أن المراد به عليّ «رضي الله ع» وكرم وجهه. ويرده وصف الأتقى بقوله تعالى: {وما لأحد من نعمة تجزى} لأن هذا الوصف لا يصدق على عليّ «رضي الله ع»، لأنه كان في تربية النبي ﷺ أي كما تقدم، فكان منعما عليه نعمة يجب عليه جزاؤها: أي نعمة دنيوية، لأنها التي يجازى عليها، بخلاف أبي بكر فإنه لم يكن له عليه نعمة دنيوية، وإنما كان له نعمة الهداية وهي نعمة لا يجازى عليها. قال الله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا} فتعين حمل الآية على أبي بكر «رضي الله ع»، فيلزم من ذلك أن يكون أبو بكر بعد رسول الله، وبقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل الخلق، لأن الله تعالى يقول: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والأكرم هو الأفضل، وبين ذلك الفخر الرازي بأن الأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد النبي ﷺ إما أبو بكر وإما علي، فلا يمكن حمل الآية على عليّ لما تقدم، فتعين حملها على أبي بكر.
وذكر بعض أهل المعاني: أي المبينين لمعاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي، فأوقع أفعل التفضيل موضع فعيل، فهو عام في أمية بن خلف وأبي بكر وغيرهما وإن كان السبب خاصا، والذي بخل واستغنى المراد به أبو سفيان، لأنه كان عاتب أبا بكر في إنعامه وإعتاقه وقال له أضعت مالك والله لا تصيبه أبدا، وقيل المراد به أمية بن خلف.
ولما بلغ النبي ﷺ أن أبا بكر اشترى بلالا قال له الشركة يا أبا بكر، فقال: قد أعتقته يا رسول الله: أي لأن بلالا قال لأبي بكر حين اشتراه: إن كنت اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله «عَزَّ وجَلّ» فدعني لله فأعتقه.
هذا، وذكر «أن النبي ﷺ لقي أبا بكر «رضي الله ع»، فقال لو كان عندنا مال اشتريت بلالا، فانطلق العباس «رضي الله ع» فاشتراه فبعث به إلى أبي بكر: أي ملكه له فأعتقه» فليتأمل الجمع بين هذا وما تقدم.
وقد اشترى أبو بكر «رضي الله ع» جماعة آخرين ممن كان يعذب في الله، منهم حمامة أم بلال. ومنهم عامر بن فهيرة، فإنه كان يعذب في الله تعالى حتى لا يدري ما يقول، وكان لرجل من بني تيم من ذوي قرابة أبي بكر «رضي الله ع». ومنهم أبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية، أسلم حين أسلم بلال، فمر به أبو بكر «رضي الله ع» وقد أخذه أمية أبو صفوان وأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء، فوضع على بطنه صخرة، فخرج لسانه وأخو أمية يقول له زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره فاشتراه أبو بكر «رضي الله ع». ومنهم امرأة وهي زنيرة بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة، وهي في اللغة الحصاة الصغيرة، عذبت في الله تعالى حتى عميت، قال لها يوما أبو جهل: إن اللات والعزى فعلا بك ما ترين، فقالت له: كلا والله لا تملك اللات والعزى نفعا ولا ضرا، هذا أمر من السماء وربي قادر على أن يرد عليّ بصري، فأصبحت تلك الليلة وقد رد الله تعالى عليها بصرها، فقالت قريش: إن هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر «رضي الله ع» وأعتقها، أي وكذا ابنتها.
وفي السيرة الشامية أم عنيس بالنون أو الباء الموحدة فمثناة تحتية فسين مهملة، أمة لبني زهرة، كان الأسود بن عبد يغوث يعذبها ولم يصفها بأنها بنت زنيرة، فاشتراها أبو بكر «رضي الله ع» وأعتقها. وكذا النهدية وابنتها، وكانتا للوليد بن المغيرة. وكذا امرأة يقال لها لطيفة. وكذا أخت عامر بن فهيرة أو أمه، كانت لعمر بن الخطاب «رضي الله ع» قبل أن يسلم.
فقد جاء أن أبا بكر «رضي الله ع» مر على عمر بن الخطاب «رضي الله ع» وهو يعذب جارية أسلمت استمر يضربها حتى ملّ قبل أن يسلم، ثم قال لها: إني أعتذر إليك فإني لم أتركك حتى مليت، فقالت له كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم، فاشتراها منه وأعتقها.
وفي السيرة الشامية وصفها بأنها جارية بني المؤمل بن حبيب، وكان يقال لها لبينة، فجملة هؤلاء تسعة.
وممن فتن عن دينه فثبت عليه خباب بن الأرتّ بالمثناة فوق، فإنه سبي في الجاهلية فاشترته أم أنمار أي وكان قينا أي حدادا، وكان يألفه ويأتيه، فلما أسلم وأخبرت بذلك مولاته صارت تأخذ الحديدة وقد أحمتها بالنار فتضعها على رأسه، فشكا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: «اللهم انصر خبابا، فاشتكت مولاته رأسها فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي، فكان خباب يأخذ الحديدة وقد أحماها فيكوي رأسها».
وفي البخاري عن خباب قال: «أتيت رسول الله ﷺ وهو متوسد برده في ظل الكعبة » ولقد لقينا يعني معاشر المسلمين من المشركين شدة شديدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد محمرا وجهه، فقال: إنه كان من قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشق ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه».
قال: وعن خباب «رضي الله ع» أنه حكى عن نفسه، قال: لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ووضعوها على ظهري فما أطفأها إلا ودك ظهري: أي دهنه.
وممن فتن عن دينه فثبت عمار بن ياسر «رضي الله ع»، كان يعذب بالنار.
وفي كلام ابن الجوزي «كان يمرّ به وهو يعذب بالنار فيمرّ يده على رأسه، ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت على إبراهيم» هذا كلامه.
ثم إن عمارا كشف عن ظهره فإذا هو قد برص، أي صار أثر النار أبيض كالبرص، ولعل حصول ذلك كان قبل دعائه بأن النار تكون بردا وسلاما عليه.
وعن أم هانىء «رضي الله ع» أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله، وسمية أم عمار «رضي الله ع» كانوا يعذبون في الله تعالى، فمرّ بهم رسول الله ﷺ فقال: صبرا آل ياسر، صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة » أي وفي رواية «صبرا يا آل ياسر، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت» فمات ياسر في العذاب، وأعطيت سمية لأبي جهل: أي أعطاها له عمه أبو حذيفة بن المغيرة، فإنها كانت مولاته فطعنها في قلبها فماتت: أي بعد أن قال لها: إن آمنت بمحمد إلا لأنك عشقتيه لجماله، ثم طعنها بالحربة في قُبُلها حتى قتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام اهـ.
أي وعن بعضهم كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه، ويجعل لعمار درعا من حديد في اليوم الصائف، فنزل قوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون}.
وجاء «أن عمار بن ياسر قال لرسول الله ﷺ: لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له النبي ﷺ: صبرا أبا اليقظان، ثم قال: اللهم لا تعذب أحدا من آل عمار بالنار».
قال بعضهم: وحضر عمار بدرا ولم يحضرها من أبواه مؤمنان إلا هو: أي من المهاجرين. فلا ينافي أن بشر بن البراء بن معرور الأنصاري حضر بدرا وأبواه مؤمنان.
ومما أوذي به أبو بكر الصديق «رضي الله ع» ما روي عن عائشة «رضي الله ع»، قالت: «لما ابتلي المسلمون بأذى المشركين: أي وحصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب، وأذن لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية، خرج أبو بكر «رضي الله ع» مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد» ( ) بالغين المعجمة موضع بأقاصي هجر، وقيل موضع وراء مكة بخمسة أميال، أي وفي رواية «حتى إذا سار يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة ـ بفتح الدال وكسر الغين المعجمة وتخفيف النون ـ وهو سيد القارة: أي وهو اسمه الحارث» والقارة: قبيلة مشهورة كان يضرب بهم المثل في قوّة الرمي، ومن ثم قيل لهم: رماة الحدق لا سيما ابن الدغنة. والقارة: أكمة سوداء نزلوا عندها فسموا بها «قال له: أين تريد يا أبا بكر؟ قال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع مع ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة في أشراف قريش، وقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق وهو في جواري؟ فلم تكذب قريش بجواب ابن الدغنة » أي لم يردّ جواره «وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر «رضي الله ع»، فمكث أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره، ثم ابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، وكان رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكانت نساء قريش يزدحمن عليه، فأفزع ذلك كثيرا من أشراف قريش» أي مع المشركين «فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يبعد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساؤنا وأبناءنا بهذا، فإن أحب أن يقتصر على عبادة ربه في داره فعل، وإن رأى أن يعلن فاسأله أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ـ أي نزيل خفارتك ـ أي ننقض جوارك ونبطل عهدك، فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت: أي أزيلت خفارتي في رجل عقدت له، فقال له أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى، قال: ولما رد جوار ابن الدغنة لقيه بعض سفهاء قريش وهو عابر إلى الكعبة فحثى على رأسه ترابا، فمرّ عليه بعض كبراء قريش من المشركين، فقال له أبو بكر «رضي الله ع»: ألا ترى ما صنع هذا السفيه؟ فقال له: أنت فعلت بنفسك، فصار أبو بكر يقول: رب ما أحلمك، قال ذلك ثلاثا انتهى».
أي وفي كلام بعضهم: وينبغي لك أن تتأمل فيما وصف به ابن الدغنة، أبا بكر بين أشراف قريش بتلك الأوصاف الجليلة المساوية لما وصفت به خديجة النبي، ولم يطعنوا فيها مع ما هم متلبسون به من عظيم بغضه ومعاداته بسبب إسلامه، فإن هذا منهم اعتراف: أي اعتراف بأن أبا بكر كان مشهورا بينهم بتلك الأوصاف شهرة تامة، بحيث لا يمكن أحد أن ينازع فيها، ولا أن يجحد شيئا منها، وإلا لبادروا إلى جحدها بكل طريق أمكنهم، لما تحلوا به من قبيح العداوة له بسبب ما كانوا يرون منه من صدق موالاته لرسول الله ﷺ وعظيم محبته له.
ومما يؤثر عنه «رضي الله ع»: صنائع المعروف تقي مصارع السوء. ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.
باب عرض قريش عليه أشياء من خوارق العادات وغير العادات ليكف عنهم لما رأوا المسلمين يزيدون ويكثرون وسؤالهم له أشياء من خوارق العادات معينات وغير معينات وبعثهم إلى أحبار يهود بالمدينة يسألونهم عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به وحديث الزبيدي وحديث المستهزئين به ومن حديثهم حديث الأراشي ومن قصد أذيته فرد خائبا
حدث محمد بن كعب القرظي قال: حدثت «أن عتبة بن ربيعة. وكان سيدا مطاعا في قريش ـ قال يوما وهو جالس في نادي قريش: أي متحدثهم والنبي ﷺ جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم لمحمد وأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه إياها ويكف عنا؟ قالوا: يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه. قال: وفي رواية «أن نفرا من قريش اجتمعوا» وفي أخرى «أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا وقالوا ابعثوا إلى محمد حتى تعذروا فيه، فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يريد؟ فقالوا لا نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة » انتهى. «فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب ـ أي من الوسط أي الخيار حسبا ونسبا ـ وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم» قال زاد بعضهم أنه قال أيضا: «أنت خير أم عبد الله؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أي فسكت، إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فقل يسمع لقولك، لقد أفضحتنا في العرب حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، ما تريد إلا أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى» انتهى «فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال رسول الله ﷺ: قل يا أبا الوليد أسمع، فقال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا» أي فيصير لك الأمر والنهي، فهو أخص مما قبله «وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل، حتى يداوى، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ﷺ يسمع منه قال: لقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال: فاسمع مني، قال أفعل، قال {بسم الله الرحمن الرحيم حم? تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}، ثم مضى رسول الله ﷺ فيها فقرأها عليه وقد أنصت عتبة لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله ﷺ إلى قوله تعالى: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، ثم انتهى إلى السجدة فيها فسجد. ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: يحلف لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحْر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني فاجعلوها لي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم» قال: وفي رواية «أن عتبة لما قام من عند النبي ﷺ أبعد عنهم ولم يعد عليهم، فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه كلامه فانطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فقص عليهم القصة، فقال: والله الذي تصبها بنية يعني الكعبة ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فأمسكت بفيه فأنشدته الرحم أن يكف، وقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب، فقالوا له: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: والله ما سمعت مثله، والله ما هو بالشعر» إلى آخر ما تقدم «فقالوا: والله سحرك يا أبا الوليد، قال: هذا رأيي فيكم، فاصنعوا ما بدا لكم اهـ.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» أن قريشا: أي أشرافهم وشيختهم، منهم الأسود بن زمعة، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، والنضر بن الحارث، وأبو جهل.
وفي الينبوع «أتى الوليد بن المغيرة في أربعين رجلا من الملأ: أي من السادات منزل أبي طالب وسألوه أن يحضر لهم رسول الله ﷺ ويأمره بأشكائهم ما يشكون منه» أي أن يزيل شكواهم منه «ويجيبهم إلى أمر فيه الألفة والإصلاح، فأحضره وقال: يابن أخي هؤلاء الملأ من قومك فأشكهم وتألفهم، فعاتبوا النبي ﷺ على تسفيه أحلامهم وأحلام آبائهم وعيب آلهتهم» الحديث: أي قالوا له «يا محمد إنا بعثنا إليك لنكلمك، فإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعيبت الدين، وسببت الآلهة، وسفهت الأحلام، وفرقت الجماعة، ولم يبق أمر قبيح إلا أتيته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك ونشرفك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك تابعا من الجن قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طبك».
وفي رواية «أنهم لما اجتمعوا ودعوه، فجاءهم مسرعا طمعا في هدايتهم حتى جلس إليهم وعرضوا عليه الأموال والشرف والملك، فقال: ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، وأن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم».
وفي رواية أخرى عن ابن عباس «رضي الله ع» «دعت قريش النبي ﷺ إلى أن يعطوه مالا فيكون به أغنى رجل بمكة، ويزوّجوه ما أراد من النساء، ويكف عن شتم آلهتهم ولا يذكرها بسوء» فقد ذكر «أن عتبة بن ربيعة قال له: إن كان أنّ ما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش فنزوجك عشرا، وقالوا له: ارجع إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، وقالوا له: إن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة لك فيها صلاح، قال: وما هي؟ قال: تعبد آلهتنا اللات والعزى سنة ونعبد إلهك سنة، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبده خيرا مما نعبد كنت أخذت منه بحظك، وإن كان الذي نعبد خيرا مما تعبد كنا قد أخذنا منه بحظنا، فقال لهم: حتى أنظر ما يأتي من ربي، فجاء الوحي بقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم} السورة ».
وعن جعفر الصادق أن المشركين قالوا له: اعبد معنا آلهتنا يوما نعبد معك إلهك عشرة، واعبد معنا آلهتنا شهرا نعبد معك إلهك سنة، فنزلت» أي لا أعبد ما تعبدون يوما، ولا أنتم عابدون ما أعبد عشرة، ولا أنا عابد ما عبدتم شهرا ولا أنتم عابدون ما أعبد سنة، روى ذلك التقدير جعفر ردا على بعض الزنادقة حيث قالوا له طعنا في القرآن: لو قال امرؤا القيس:
قفا نبك من ذكر حبيب ومنزل وكرر ذلك أربع مرات في نسق أما كان عيبا؟ فكيف وقع في القرآن {قل يا أيها الكافرون} السورة وهي مثل ذلك وقوله: {لكم دينكم ولي دين} نسخ بآية القتال، وبقوله تعالى: {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}. ولما قال لهم رسول الله ﷺ: إن الله أنزل لما كرهتموه القرآن، قالوا ائت بقرآن غير هذا، فأنزل الله تعالى: {ولو تقول علينا} الآيات.
وقد يقال: المناسب للرد عليهم قوله تعالى {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي} الآية، ثم رأيت في الكشاف ما يوافق ذلك. وهو لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأصنام والوعيد الشديد قالوا ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك، أو بدله بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، نزل قوله تعالى {قل ما يكون لي أن أبدله} الآية.
قال «وجلس أي مجلسا فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بني ربيعة، أي وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، فقال لهم: أليس حسنا ما جئت به؟ فيقولون بلى والله» وفي لفظ «هل ترون بما أقول بأسا؟ فيقولون لا، فجاء عبد الله بن أم مكتوم ـ وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، وهو ممن أسلم بمكة قديما ـ والنبي ﷺ مشتغل بأولئك القوم وقد رأى منهم مؤانسة وطمع في إسلامهم، فصار يقول: يا رسول الله علمني مما علمك الله وأكثر عليه، فشق عليه ذلك، فأعرض عن ابن أم مكتوم ولم يكلمه» انتهى.
أي وفي رواية «أشار إلى قائد ابن أم مكتوم بأن يكفه عنه حتى يفرغ من كلامه، فكفه القائد، فدفعه ابن أم مكتوم، فعبس وأعرض عنه مقبلا على من كان يكلمه، فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك} السورة » أي والمجيء مع العمى ينشأ عن مزيد الرغبة وتجشم الكلفة والمشقة في المجيء، ومن كان هذا شأنه فحقه الإقبال عليه لا الإعراض عنه «فكان بعد ذلك إذا جاءه يقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويبسط له رداءه» قال: وبهذا يسقط ما للقاضي أبي بكر بن العربي هنا انتهى.
أقول: لعل الذي له هو ما ذكره تلميذه السهيلي، وهو أن ابن أم مكتوم لم يكن أسلم حينئذ، وإلا لم يسمه بالاسم المشتق من العمى دون الاسم المشتق من الإيمان لو كان دخل في الإيمان قبل ذلك، وإنما دخل فيه بعد نزول الآية، ويدل على ذلك قوله للنبي استدنني يا محمد، ولم يقل استدنني يا رسول الله، ولعل في قوله تعالى: {لعله يزكى}، ما يعطى الترجي والانتظار، ولو كان إيمانه قد تقدم قبل هذا لخرج عن حد الترجي والانتظار للتزكي، هذا كلامه.
وعن الشعبي قال: دخل رجل على عائشة «رضي الله ع» وعندها ابن أم مكتوم وهي تقطع له الأترج وتجعله في العسل وتطعمه، فقيل لها في ذلك، فقالت: ما زال هذا له من آل محمد منذ عاتب الله «عَزَّ وجَلّ» فيه نبيه، والله أعلم.
وفي فتاوى الجلال السيوطي من جملة أسئلة رفعت إليه، فأجاب عنها بأنها باطلة: أن أبا جهل قال: يا محمد إن أخرجت لنا طاوسا من صخرة في داري آمنت بك، فدعا ربه «عَزَّ وجَلّ» فصارت الصخرة تئن كأنين المرأة الحبلى ثم انشقت عن طاوس صدره من ذهب ورأسه من زبرجد، وجناحاه من ياقوتة، ورجلاه من جوهر، فلما رأى ذلك أبو جهل أعرض ولم يؤمن.
ومما سألوه من الآيات غير المعينات على ما رواه الشيخان أو معينة كما في رواية عن ابن عباس «رضي الله ع»، وسيأتي ما يعلم منه أنهم سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها فلا مخالفة.
فقد ذكر ابن عباس أن قريشا سألت النبي ﷺ أن يريهم آية:
أي وفي رواية عن ابن عباس «اجتمع المشركون أي بمنى، منهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث على رسول الله، فقالوا: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين، نصفا على أبي قبيس، ونصفا على قعيقعان، وقيل يكون نصفه بالمشرق ونصفه الآخر بالمغرب، وكانت ليلة أربعة عشر: أي ليلة البدر، فقال لهم رسول الله ﷺ: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا نعم، فسأل رسول الله ﷺ ربه أن يعطيه ما سألوا، فانشق القمر نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان» وفي لفظ «فانشق القمر فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه» ولعل الفرقة التي كانت فوق الجبل كانت جهة المشرق، والتي كانت دون الجبل كانت في جهة المغرب» فقال رسول الله: «اشهدوا اشهدوا» ولا منافاة بين الروايتين، ولا بينهما وبين ما جاء في رواية «فانشق القمر نصفين: نصفا على الصفا، ونصفا على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظر إليه ثم غاب» أي ثم إن كان الانشقاق قبل الفجر فواضح وإلا فمعجزة أخرى، لأن القمر ليلة أربعة عشر يستمر جميع الليل، وسيأتي عن زين المعمر «أنه عاد بعد غروبه، فقال رسول الله «اشهدوا» والفرقتان هما المرادتان بالمرتين في بعض الروايات التي أخذ بظاهرها بعضهم كالزين العراقي «فقال إنه انشق مرتين» لأن المرة قد تستعمل في الأعيان وإن كان أصل وضعها الأفعال. فقد قال ابن القيم: كون القمر انشق مرتين مرة بعد مرة في زمانين من له خبرة بأحوال الرسول وسيرته يعلم أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة «وعند ذلك قال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة » أي وهو أبو كبشة أحد أجداده من قبل أمه، لأن وهب بن عبد مناف بن زهرة جد أبي آمنة أمه يكنى أبا كبشة، أو هو من قبل مرضعته حليمة، لأن والدها أو جدها كان يكنى بذلك، أو كان لها بنت تسمى كبشة فكان زوجها الذي هو أبوه من الرضاعة يكنى بتلك البنت كما تقدم في الرضاع.
وقد روي عنه فقال: «حدثني حاضني أبو كبشة أنهم لما أرادوا دفن سلول وكان سيدا عظيما حفروا له فوقعوا على باب مغلق ففتحوه، فإذا سرير وعليه رجل وعليه حلل عدة وعند رأسه كتاب: أنا أبو شهر ذو النون مأوى المساكين، ومستفاد الغارمين، أخذني الموت غصبا، وقد أعيي الجبابرة » قيل: قال «كان ذو النون هذا هو سيف بن ذي يزن الحميري» وقيل أبو كبشة جده لأبيه، لأن أبا أم جده عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، وكان يعبد النجم الذي يقال له الشعري، وترك عبادة الأصنام مخالفة لقريش، فهم يشيرون بذلك إلى أن له في مخالفته سلفا.
وقيل الذي عبد الشعري وترك عبادة الأصنام رجل من خزاعة، فشبهوه به في مخالفته لهم في عبادة الأصنام: أي ومما قد يؤيد هذا الأخير ما في الإتقان حيث مثل بهذه الآية للنوع المسمى بالتنكيت، وهو أن يخص المتكلم شيئا من بين الأشياء بالذكر لأجل نكتة كقوله تعالى: {وأنه هو رب الشعرى} خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم وهو سبحانه وتعالى رب كل شيء، لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة، عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها، فأنزل الله تعالى {وأنه هو رب الشعرى} التي ادعيت فيها الربوبية هذا كلامه. وكبشة ليس مؤنث كبش، لأن مؤنث الكبش لي من لفظه، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر أي بالنسبة إليكم فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها: أي جميع أهل الأرض. وفي رواية «لئن كان سحرنا ما يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا هذا؟ فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك». وفي رواية «أن أبا جهل قال هذا سحر، فاسألوا أهل الآفاق» وفي لفظ «انظروا ما يأتيكم به السفار حتى تنظروا هل رأوا ذلك أم لا، فأخبروا أهل الآفاق» وفي لفظ «فجاء السفار وقد قدموا من كل وجه فأخبروهم أنهم رأوه منشقا، فعند ذلك قالوا هذا سحر مستمر» أي مطرد، فهو إشارة إلى ذلك وإلى ما قبله من الآيات. وفي لفظ «قالوا هذا سحر، أسحر السحرة، فأنزل الله تعالى {اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} أي مطرد كما تقدم، أو محكم أو قوي شديد، أو مارّ ذاهب لا يبقى، وهذا الكلام كما لا يخفى يدل على أنه لم يختص برؤية القمر منشقا أهل مكة، بل جميع أهل الآفاق. وبه يرد قول بعض الملاحدة: لو وقع انشقاق القمر لاشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة. ولا يحسن الجواب عنه بأنه طلبه جماعة خاصة، فاختصت رؤيته بمن اقترح وقوعه، ولا بأنه قد يكون القمر حينئذ في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، ولا بقول بعضهم إن انشقاق القمر آية ليلية جرى مع طائفة في جنح ليلة ومعظم الناس نيام.
وفي فتح الباري حنين الجذع وانشقاق القمر نقل كل منهما نقلا مستفيضا يفيد القطع عند من يطلع على طرق الحديث.
أقول: وإلى انشقاق القمر أشار صاحب الهمزية بقوله:
شق عن صدره وشق له البد ** ر ومن شرط كل شرط جزاء
أي شق عن صدره. وفي نسخة قلبه وكل منهما صحيح، لأنه شق صدره أولا ثم شق قلبه ثانيا، وشق لأجله القمر ليلة أربعة عشر، وإنما شق له، لأن من شرط كل شرط جزاء، لأنه لما شق صدره جوزي على ذلك بأعظم مشابه له في الصورة، وهو شق القمر الذي هو من أظهر المعجزات بل أعظمها بعد القرآن، وقد أشار إلى ذلك أيضا الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وبدر الدياجي انشق نصفين عندما ** أرادت قريش منك إظهار آية
أي فإنهم ائتمروا فيما بينهم، فاتفقوا على أن يقترحوا على رسول الله ﷺ أن يريهم انشقاق القمر الذي هو بعيد عن الأطماع في غاية الامتناع: أي فقد سألوه أولا آية غير معينة ثم عينوها.
وفي الإصابة عن بعضهم قال: «وأنا ابن تسع عشرة سنة سافرت مع أبي وعمي من خراسان إلى الهند في تجارة، فلما بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى شيعة من الضياع، فعرج أهل القافلة نحوها فسألناهم عن ذلك، فقالوا هذه ضيعة الشيخ زين الدين المعمر، فرأينا شجرة خارج الضيعة تظل خلقا كثيرا وتحتها جمع عظيم من أهل تلك الضيعة، فلما رأونا رحبوا بنا، فرأينا زنبيلا معلقا في بعض أغصان تلك الشجرة، فسألناهم فقالوا في هذا الزنبيل الشيخ زين الدين رأى رسول الله ﷺ ودعا له بطول العمر ست مرات، فبلغ ستمائة سنة كل دعوة بمائة سنة، فسألناهم أن ينزلوا الشيخ لنسمع كلامه وحديثه، فتقدم شيخ منهم فأنزل الزنبيل، فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن وهو كالفرخ فوضع فمه على أذنه وقال: يا جداه هؤلاء قوم قد قدموا من خراسان وقد سألوا أن تحدثهم كيف رأيت رسول الله، وماذا قال لك؟ فعند ذلك تنفس الشيخ وتكلم بصوت كصوت النحل بالفارسية ونحن نسمع، فقال: سافرت مع أبي وأنا شاب من هذه البلاد إلى الحجاز في تجارة، فلما بلغنا بعض أودية مكة وكان المطر قد ملأ الأودية فرأيت غلاما حسن الشمائل يرعى إبلا في تلك الأودية وقد حالت السيل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض الماء لقوة السيل، فعلمت حاله، فأتيت إليه وحملته وخضت به السيل إلى عند إبله من غير معرفة سابقة، فلما وضعته عند إبله نظر إليّ ودعا لي، ثم عدنا إلى بلادنا وتطاولت المدة، ففي ليلة ونحن جلوس في ضيعتنا هذه في ليلة مقمرة ليلة البدر والبدر في كبد السماء، إذ نظرنا إليه قد انشق نصفين، فغرب نصف في المشرق ونصف في المغرب وأظلم الليل ساعة، ثمن طلع النصف من المشرق والثاني من المغرب إلى أن التقيا في وسط السماء كما كان أول مرة، فتعجبنا من ذلك غاية العجب، ولم نعرف لذلك سببا، فسألنا الركبان عن سببه فأخبرونا أن رجلا هاشميا ظهر بمكة وادعى أنه رسول الله إلى كافة العالم وأن أهل مكة سألوه معجزة، واقترحوا عليه أن يأمر لهم القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه في المشرق ونصفه في المغرب، ثم يعود إلى ما كان عليه، ففعل لهم ذلك، فاشتقت إلى رؤياه، فذهبت إلى مكة وسألت عنه فدلوني على موضعه، وأتيت إلى منزله، واستأذنت فأذن لي في الدخول فدخلت عليه، فلما سلمت عليه نظر إليّ وتبسم وقال: ادن مني وبين يديه طبق فيه رطب، فتقدمت وجلست وأكلت من الرطب، وصار يناولني، إلى أن ناولني ست رطبات، ثم نظر إليّ وتبسم وقال لي: ألم تعرفني؟ قلت لا، فقال: ألم تحملني في عام كذا في السيل؟ ثم قال: أمدد يدك فصافحني وقال: قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقلت ذلك، فسرّ أي وقال عند خروجي من عنده بارك الله في عمرك، قال ذلك ست مرات، فبارك الله لي في عمري بكل دعوة مائة سنة، فعمري اليوم ستمائة سنة: أي في المائة السادسة مشرف على تمامها تأمل.
وسئل الحافظ السيوطي عن مثل هذا الحديث، وهو الحديث الذي رواه معمر، الذي يزعم أنه صحابي، وأنه يوم الخندق صار ينقل التراب بغلقين: وبقية الصحابة بغلق واحد، فضرب النبي ﷺ بكفه الشريف بين كتفيه أربع ضربات، وقال له: عمرك الله يا معمر، فعاش بعد ذلك أربعمائة سنة ببركة الضربات التي ضربها بين كتفيه كل ضربة مائة سنة، وقال له بعد أن صافحه: من صافحك إلى ست أو سبع لم تمسه النار، هل هو صحيح أم هو كذب وافتراء لا تجوز روايته؟ فأجاب بأنه باطل وأن معمرا هذا كذاب دجال، لأنه ثبت في الصحيح أنه قال قبل موته بشهر «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» وقد قال أهل الحديث وغيرهم: إن من ادعى الصحبة بعد مائة سنة من وفاته فهو كذاب، ومعلوم أن آخر الصحابة مطلقا موتا أبو الطفيل، مات سنة عشرة ومائة من الهجرة ثبت ذلك في صحيح مسلم» واتفق عليه العلماء، فمن ادعى الصحبة بعد أبي الطفيل فهو كذاب.
ومما سألوه من الآيات المعينات ما حدث به بعضهم، قال: «إن قريشا قالت له: سل ربك يسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا، وليخرق فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن بعث لنا قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق، فنسأله عما تقول أحق هو أم باطل. قال: زاد في رواية: فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك وعرفنا منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول، فقال لهم رسول الله ﷺ: ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به» اهـ.
ثم قالوا له: «واسأل ربك يبعث معك ملكا يصدقك فيما تقول ويراجعنا عنك» أي وفي لفظ «قالوا له لم لا ينزل علينا الملائكة، فتخبرنا بأن الله أرسلك أو نرى ربنا فيخبرنا بأنه أرسلك فنؤمن حينئذ بك. وقال آخر: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا، واسأله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه» أي فلا بد أن تتميز عنا حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا: أي وفي لفظ «قالوا إن محمدا يأكل الطعام كما نحن نأكل، ويمشي في الأسواق، ويلتمس المعاش كما نلتمس نحن، فلا يجوز أن يمتاز عنا بالنبوة. فقال لهم رسول الله ﷺ: ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وأنزل الله تعالى {وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} ولما قالوا الله أعظم أن يكون رسوله بشرا منا أنزل الله تعالى {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} ثم قالوا: وأسقط السماء علينا كسفا: أي قطعا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، وقد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله لن نؤمن بالرحمن أبدا: أي وقد عنوا بالرحمن مسيلمة، وقيل عنوا كاهنا كان لليهود باليمامة، وقد رد الله تعالى عليهم بأن الرحمن المعلم له هو الله تعالى بقوله {قل هو} أي الرحمن {ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} أي توبتي ورجوعي () وعند ذلك قام حزينا آسفا على ما فاته من هدايتهم التي طمع فيها، وقال له عبد الله بن عمته عاتكة بنت عبد المطلب قبل أن يسلم «رضي الله ع»: يا محمد قد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبل، ثم سألوك أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل بعض ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، والله لن نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك: أي كتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول، وايم الله إنك لو فعلت ذلك، ما ظننت أني أصدقك، فأنزل الله تعالى عليه الآيات التي فيها شرح هذه المقالات في سورة الإسراء، وفيها الإشارة إلى أنه تعالى خيره بين أن يعطيه جميع ما سألوا، وأنهم إن كفروا بعد ذلك استأصلهم بالعذاب كالأمم السابقة، وبين أن يفتح لهم باب الرحمة والتوبة لعلهم يتوبون وإليه راجعون، فاختار الثاني، لأنه يعلم من كثير منهم العناد، وأنهم لا يؤمنون، وإن حصل ما سألوا فيستأصلوا بالعذاب، لأن الله تعالى يقول: {واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة }.
وعن محمد بن كعب ما حاصله «أن الملأ من قريش أقسموا للنبي بالله «عَزَّ وجَلّ» أنهم يؤمنون به إذا صار الصفا ذهبا، فقام يدعو الله تعالى أن يعطيهم ما سألوه فأتاه جبريل: فقال له: إن شئت كان ذلك ولكني لم آت قوما بآية اقترحوها فلم يؤمنوا بها إلا أمرت بتعذيبهم» وفيه أنه حينئذ يشكل رواية سؤالهم انشقاق القمر.
وفي رواية «أتاه جبريل، فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول: إن شئت أن يصبح لهم الصفا ذهبا، فإن لم يؤمنوا أنزلت عليهم العذاب، عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت أن لا تصير ذهبا وفتحت لهم باب الرحمة والتوبة، فقال: لا، بل أن تفتح لهم باب الرحمة والتوبة ».
وفي رواية «وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال، بل حتى يتوب تائبهم».
وأيضا وافق على فتح باب الرحمة والتوبة، لأنه أن سؤالهم لذلك جهل، لأنه خفيت عليهم حكمة إرسال الرسل، وهي امتحان الخلق وتعبدهم بتصديق الرسل، ليكون إيمانهم عن نظر واستدلال، فيحصل الثواب لمن فعل ذلك، ويحصل العقاب لمن أعرض عنه، إذ مع كشف الغطاء يحصل العلم الضروري، فلا يحتاج إلى إرسال الرسل، ويفوت الإيمان بالغيب.
وأيضا لم يسألوا ما سألوا من تلك الآيات إلا تعنتا واستهزاء، لا على جهة الاسترشاد ودفع الشك، وإلى سؤالهم تلك الآيات وارتيابهم في القرآن، وقولهم فيه إنه سحر وافتراء: أي سحر يأثره: أي يأخذه عن مثله وعن أهل بابل، يفرّق به بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته {إن هو إلا قول البشر} من قول أبي اليسر، وهو عبد لبني الحضرمي كان النبي ﷺ يجالسه وإلى قول أبي جهل أيضا: تزاحمنا نحن وبنو عبد المطلب الشرف، حتى صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزل قوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} وإلى هذا أشار صاحب الهمزية بقوله:
عجبا للكفار زادوا ضلالا ** بالذي فيه للعقول اهتداء
والذي يسألون منه كتاب ** منزل قد أتاهم وارتقاء
أي أعجب عجبا من حال الكفار حالة كونهم زادوا ضلالا بالقرآن الذي فيه اهتداء للعقول، وأعجب عجبا أيضا من الأمر الذي يطلبونه منه، وهو كثير من جملته كتاب منزل معه عليهم من السماء وهو القرآن:
أو لم يكفهم من الله ذكر ** فيه للناس رحمة وشفاء
أعجز الإنس آية منه والجن ** فهلا يأتي به البلغاء
كل يوم يهدي إلى سامعيه ** معجزات من لفظه القراء
تتحلى به المسامع والأفـ ** ـواه فهو الحلي والحلواء
رقّ لفظا وراق معنى فجاءت ** في حلاها وحليها الخنساء
وأرتنا فيه غوامض فضل ** رقة من زلاله وصفاء
إنما تجتلي الوجوه إذا ما ** جليت عن مرآتها الأصداء
سور منه أشبهت صورا منـ ** ـا ومثل النظائر النظراء
والأقاويل عندهم كالتماثـ ** ـيل فلا يوهمنك الخطباء
كم أبانت آياته عن علوم ** من حروف أبان عنها الهجاء
فهي كالحب والنوى أعجب الزرا ** ع منها سنابل وزكاء
فأطالوا فيه التردد والريـ ** ـب فقالوا سحر وقالوا افتراء
وإذا البينات لم تغن شيئا ** فالتماس الهدى بهن عناء
وإذا ضلت العقول على علـ ** ـم فماذا تقوله الفصحاء
أي أو لم يكفهم عما سألوه عنادا ذكر واصل إليهم، حالة كونه من الله تعالى رحمة وشفاء للناس والجن والملائكة، أعجز الإنس والجن آية منه، فهلا يأتي بتلك الآية أهل البلاغة، كل وقت يهدي قراؤه إلى سامعيه معجزات من لفظه، ولذلك تتحلى بسماعه المسامع، من التحلية التي هي لبس الحلي، وتتحلى بألفاظه الأفواه من الحلواء فهو الحلي، والحلواء حسن من جهة اللفظ، وتصفى من شوائب النقص من جهة المعنى، فأرتنا رقة من زلاله، وصفاء من ذلك الزلال، خبايا فضل فيه وهي العلوم المستنبطة منه، وإنما تظهر الوجوه ظهورا واضحا لإخفاء معه بوجه إذا قوبلت بمرآه، وقت جلاء الأصداء عن تلك المرآة سور منه أشبهت صورا منا، من حيث اشتمال كل صورة منا على عقل وفهم، وخلق لا يشاركه فيه غيره، والأقاويل الصادرة من الكفار في القرآن كالصور التي يصورها المصورون فإنه لا وجود لها في الحقيقة ؛ فما قالوه في القرآن باطل قطعي البطلان، فاحذر الخطباء أن توقع في وهمك أن ما تأتي به يقارب القرآن، كم أوضحت آياته علوما حالة كونها متولدة من حروف قليلة كشف عنها التهجي، كالحب الذي يلقيه الزارع، والنوى الذي يلقيه الغارس، أعجب الزراع والغراس منها: أي من تلك الحبوب والنوى سنابل وثمار وتمر فاق الحصر، فأطالوا في تلك السور الشك فقالوا سحر وتمويه لا حقيقه له، وقالوا مرة أخرى أساطير الأولين، وإذا كانت الحجج والبراهين لم تفدهم شيئا من الهدى، فطلب الهدى منهم بتلك الحجج تعب لا يفيد شيئا، وإذا ضلت العقول عن طرق الحق مع علم منها بتلك الطرق فأي قول يقوله الفصحاء: أي وقال الوليد بن المغيرة يوما: أينزل القرآن على محمد، وأترك أنا وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود الثقفي سيد ثقيف ونحن عظماء القريتين: أي مكة والطائف؟ فأنزل الله تعالى {وقالوا لولا} أي هلا {أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} أي أعظم وأشرف من محمد، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {أهم يقسمون رحمة ربك} الآية.
وفي لفظ قال بعضهم: «كان الأحق بالرسالة الوليد بن المغيرة من أهل مكة أو عروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف». ثم لا يخفى أن كفار قريش بعثوا مع النضر بن الحارث عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهما: أسألهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول: أي التوراة، لأنه قبل الإنجيل وعندهم علم ليس عندنا، فخرجا، حتى قدما المدينة وسألا أحبار يهود: أي قالا لهم: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول الله. وفي لفظ «رسول الرحمن، قالوا صفوا لنا صفته، فوصفوا، قالوا فمن يتبعه منكم؟ قالوا سفلتنا، فضحك حبر منهم وقالوا: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة.
قالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول: أي وهم أهل الكهف ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها: أي وهو ذو القرنين ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإذا أخبركم بذلك: أي بحقيقة الأولين وبعارض من عوارض الثالث، وهو كونها من أمر الله فاتبعوه فإنه نبي، فرجع النضر وعقبة إلى قريش وقالا لهم: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد وأخبراهم الخبر، فجاؤوا إلى النبي ﷺ وسألوه عن ذلك، فقال لهم "عليه الصلاة والسلام: أخبركم غدا، ولم يستثن: أي لم يقل إن شاء الله تعالى وانصرفوا، فمكث خمسة عشرة يوما، وقيل ثلاثة أيام، وقيل أربعة أيام لا يأتيه الوحي، وتكلمت قريش في ذلك بما أخبر به النبي، فقالوا: إن محمدا قلاه ربه وتركه: أي ومن جملة من قال ذلك له أم جميل امرأة عمه أبي لهب، قالت له: ما أرى صاحبك إلا وقد ودعك وقلاك: أي تركك وبغضك. وفي رواية قالت: امرأة من قريش: أبطأ عليه شيطانه، وشقّ عليه ذلك منهم. ثم جاءه جبريل بسورة الكهف وفيها خبر الفتية الذين ذهبوا وهم أهل الكهف».
ويروى «أنهم يكونون مع عيسى ابن مريم "عليه الصلاة والسلام إذا نزل، ويحجون البيت. وخبر الرجل الطواف وهو ذو القرنين: أي وهو إسكندر ذو القرنين كان له قرنان صغيران من لحم تواريهما العمامة ».
وفي لفظ: كان له شبه القرنين في رأسه، وقيل غديرتان من شعر، وقيل لأنه قرن ما بين طلوع الشمس ومغربها: أي بلغ قطري المشرق والمغرب، وقيل ضرب على قرن رأسه فمات ثم أحيي، ثم ضرب على قرنه الآخر فمات ثم أحيي. وقيل لأنه ملك الروم وفارس، وقيل لأنه انقرض في زمنه قرنان من الناس، والقرن زمان مائة سنة، وكان ذو القرنين رجلا صالحا من أهل مصر من ولد يونن. وفي لفظ يونان بن يافث بن نوح، وكان من الملوك العادلة، وكان الخضر صاحب لوائه الأكبر. وقيل كان نبيا قاله الضحاك.
وجاءه جبريل بالجواب عن الروح المذكور ذلك في سورة الإسراء، وهو أن الروح من أمر الله: أي قل لهم الروح من أمر ربي: أي من علمه لا يعلمه إلا هو: أي وكان في كتبهم أن الروح من أمر الله: أي مما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، ومن ثم جاء في بعض الروايات ما تقدم «إن أجابكم عن حقيقة الروح فليس بنبي، وإلا بأن أجابكم عنها بأنها من أمر الله فهو نبي» ولعل هذا هو المراد كما جاء في بعض الروايات «سلوه عن الروح، فإن أخبركم به فليس بنبي، وإن لم يخبركم فهو نبي».
أقول: إذا كان في كتبهم أن حقيقة الروح مما استأثر الله تعالى بعلمه كيف يسألونه فيخبرهم بذلك؟ إلا أن يقال: المراد إن أجابكم بغير قوله من أمر ربي فاعلموا أنه غير نبي، فإنه يحاول أن يخبركم عن حقيقتها، وحقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى.
ويوافقه ما في مأثور التفسير «من أمر ربي» من علم ربي لا علم لي به. وفي بعض الروايات عن ابن عباس «رضي الله ع» «سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم، فإن قال لكم من الله تعالى، فقولوا له كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه».
وحاصل الجواب الذي أشارت إليه الآية أن الروح أمر بمعنى مأمور: أي مأمور من مأموراته، وخلق من خلقه، لا أنها جزء منه، والله أعلم: أي وهذا يدل على أن المسؤول عنه روح الإنسان التي هي سبب في إفادة الحياة للجسد.
وفي كلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أن الروح روحان: حيواني، وهي التي تسميه الأطباء المزاج، وهو جسم لطيف بخاريّ معتدل، سار في البدن الحامل لقواه من الحواس الظاهرة والقوى الجسمانية، وهذه الروح تفنى بفناء البدن وتنعدم بالموت. وروح روحاني وهي التي يقال لها النفس الناطقة، ويقال لها اللطيفة الربانية، ويقال لها العقل، ويقال لها الروح ويقال لها القلب، من الألفاظ الدالة على معنى واحد، لها تعلق بقوى النفس الحيواني، وهذه الروح لا تفنى بفناء البدن، وتبقى بعد الموت، هذا كلامه.
وفي كلام بعضهم: والروح عند أكثر أهل السنة جسم لطيف، مغاير للأجسام ماهية وهيئة، متصرف في البدن، حالّ فيه حلول الدهن في الزيتون يعبر عنه بأنا وأنت. وإذا فارق البدن مات.
وذهب جمع منهم الغزالي والإمام الرازي وفاقا للحكماء والصوفية إلى أنه جوهر مجرّد غير حالّ بالبدن، يتعلق به تعلق العاشق بالمعشوق، يدبر أمره على وجه لا يعلمه إلا الله اهـ.
ورأيت في كلام الشيخ الأكبر أن الإمام ركن الدين السمرقندي لما فتح المسلمون بلاد الهند، خرج بعض علمائها ليناظر المسلمين، فسأل عن العلماء، فأشاروا إلى الإمام ركن الدين السمرقندي، فقال له الهندي: ما تعبدون؟ قالوا: نعبد الله بالغيب، قال: ما أنبأكم؟ قالوا: محمد، قال: فما الذي قال في الروح؟ قال: هو من أمر ربي، فقال صدقتم فأسلم، وليس المراد بالروح خلق من الملائكة على صورة بني آدم، أو ملك عظيم عرض شحمة أذنه خمسمائة عام إلى غير ذلك مما قيل. قال بعضهم: قلت كذا في هذه الرواية أنهم سألوه: أي مشركو مكة عن الروح. وحديث ابن مسعود يدل على أن السؤال عن الروح ونزول الآية كان بالمدينة: أي من اليهود، هذا كلامه.
وفيه أنه سيأتي جواز تكرار السؤال وتكرر نزول الآية إلى آخر ما يأتي، وبه يعلم ما في الإتقان حيث تعقب قول بعضهم: إن أصحاب محمد سألوه عن الروح وعن ذي القرنين بقوله: قلت: السائل عن الروح وذي القرنين مشركو مكة أو اليهود كما في أسباب النزول لا الصحابة.
وفي الإتقان: قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت نحو {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} قال صاحب الإفصاح: إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليطا إذا كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة، فقصد اليهود أن يسألوه، فبأيّ مسمى أجابهم؟ قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا. وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم، وفي سورة الكهف أيضا آية {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت} أي إذا أردت أن تقول سأفعل شيئا فيما يستقبل من الزمان تقول إن شاء الله، فإن نسيت التعليق بذلك ثم تذكرت تأتي بها، فذكرها بعد النسيان كذكرها بعد القول. قال جمع منهم الحسن: ما دام في المجلس: أي وظاهره وإن طال الفصل.
وفي الخصائص الكبرى أن هذا: أي الإتيان بالمشيئة بعد التذكر من خصائصه، وليس لأحد منا أن يستثني: أي يأتي بالمشيئة إلا في صلة يمينه.
أقول: كان ينبغي أن يقول في صلة إخباره، لأن مساق الآية في الإخبار لا في الحلف.
فإن قيل: هي عامة في الخبر والحلف. قلنا كان ينبغي أن يقول حينئذ في صلة كلامه وحينئذ يقتضي كلامه أن نشاركه في الخبر دون الحلف والله أعلم.
ثم لا يخفى أنه قيل سبب احتباس الوحي أنه لم يقل إن شاء الله تعالى وهو المشهور، وقيل لأنه كان في بيته كلب. وفي لفظ: كان تحت سريره جرو ميت، فقد جاء «أنه لما عاتب جبريل في احتباسه، قال: أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب: أي فإنه قال لخادمته خولة: يا خولة ما حدث في بيت رسول الله؟ جبريل لا يأتيني، قالت: فقلت في نفسي: لو كنست البيت، فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو ميتا».
أقول: قال ابن كثير: قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعه من الصحابة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، ولا كلب، ولا جنب» وقد أورد بعض الزنادقة سؤالا، وهو إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة: أي صورة التماثيل التي فيها الأرواح، يلزم أن لا يموت من عنده كلب أو صورة، وأن لا يكتب عمله.
وأجيب عنه بأن المراد لا تدخل ذلك البيت دخول إكرام لصاحبه وتحصيل بركة، فلا ينافي دخولهم لكتابة الأعمال وقبض الأرواح، والله أعلم.
وقيل لأنه زجر سائلا ملحا، وقد كان قبل ذلك يرد السائل بقوله: «آتاكم الله من فضله» أي وربما سكت، فقد روى الشيخان «ما سئل رسول الله ﷺ شيئا فقال لا» قال الحافظ ابن حجر: المراد بذلك أنه لا ينطق بالرد، بل إن كان عنده شيء أعطاه وإلا سكت، وهذا هو المراد بما جاء أنه ما ردّ سائلا قط: أي ما شافهه بالرد.
وقد حكى بعضهم قال: رأيت النبي ﷺ في النوم فقلت: يا رسول الله استغفر لي، فسكت، فقلت: يا رسول الله إن ابن عيينة حدثنا عن جابر أنك ما سئلت شيئا قط فقلت لا، فتبسم واستغفر لي، أي فكان يأتي بالأول حيث لا يكون المقام يقتضي الاقتصار على السكوت، ولعل هذا في غير رمضان.
فلا يخالف ما رواه البزار عن أنس «رضي الله ع» قال: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل» وبين الشيخ ابن الجوزي في النشر سبب إلحاح هذا السائل، فقال: «إن النبي ﷺ أهدى إليه قطف عنب قبل أوانه، فهمّ أن يأكل منه، فجاءه سائل فقال: أطعموني مما رزقكم الله، فسلم إليه ذلك القطف، فلقيه بعض الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي، فعاد السائل إلى النبي ﷺ فسأله فأعطاه إياه، فلقيه رجل آخر من الصحابة فاشتراه منه وأهداه للنبي، فعاد السائل فسأله فانتهره وقال: إنك ملحّ» قال: وهذا سياق غريب جدا، وهو معضل.
وقيل سبب ذلك غير ذلك، من ذلك الغير «أن جبريل "عليه السلام" لما قال له: ما حبسك عني؟ قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، ولا تأخذون شعوركم، ولا تستاكون».
أقول: واختلاف هذه الأسباب ظاهر في أن الواقعة متعددة. ولا ينافيه قوله: ونزلت: أي آية سورة الضحى ردا عليهم في قولهم إن محمدا قلاه ربه وتركه، وهي {ما ودّعك ربك وما قلى}(1) أي ما قطعك قطع المودع، وما أبغضك، لأنه يجوز أن يكون مما تكرر نزوله لاختلاف سببه.
ويمكن أن يقال: يجوز أن تكون الواقعة واحدة وتعددت أسبابها. ولا ينافيه إخبار جبريل "عليه السلام" تارة بأن سبب احتباسه عدم قص الأظفار وما ذكر معه، وتارة بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وتارة بقوله: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} كما يأتي قريبا، وكما سيأتي في قصة الإفك، لكن قال الحافظ ابن حجر: قصة إبطال جبريل بسبب الجرو مشهورة، لكن كونها سبب نزول الآية أي {ما ودعك ربك وما قلى} غريب فالمعتمد ما في الصحيح هذا كلامه.
أقول: ومما يدل على أن واقعة الجرو كانت بالمدينة ما في بعض التفاسير أن هذا الجرو كان للحسن والحسين «رضي الله ع»، وما رواه مسلم عن عائشة «رضي الله ع» قالت: «واعد رسول الله ﷺ جبريل "عليه السلام" في ساعة أن يأتيه، فجاء تلك الساعة ولم يأته فيها، قالت: وكان بيده عصا فطرحها من يده وهو يقول: ما يخلف الله وعده ولا رسله، ثم التفت فإذا كلب تحت السرير، فقال: متى دخل هذا الكلب؟ فقلت: والله ما دريت به، فأمر به فأخرج، فجاء جبريل "عليه الصلاة والسلام، فقال له رسول الله ﷺ: وعدتني فجلست لك ولم تأت؟ فقال: منعني الكلب الذي كان في بيتك، إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة ».
وفي زيادة الجامع الصغير «أتاني جبريل فقال لي: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فأمر برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، وأمر بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن، وأمر بالكلب فأخرج» ومعلوم أن مجيء جبريل له إكرام وتشريف له، فلا ينافي ما تقدم فليتأمل.
ولما نزلت السورة المذكورة كبر فرحا بنزول الوحي، واستمر لا يجاهر قومه بالدعوة حتى نزل {وأما بنعمة ربك فحدث} فعند ذلك كبر أيضا، وكان ذلك سببا للتكبير في افتتاح السورة التي بعدها وفي ختمها إلى آخر القرآن.
وعن أبي بن كعب «رضي الله ع» «أنه قرأ كذلك على النبي ﷺ بعد أمره له بذلك، وأنه كان كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال: الله أكبر».
هذا، وقيل ابتداء التكبير من أول ألم نشرح لا من أول والضحى. وقيل إن التكبير إنما هو لآخر السورة، وابتداؤه من آخر سورة الضحى إلى آخر {قل أعوذ برب الناس} والإتيان بالتكبير في الأول والآخر جمع بين الروايتين والرواية التي جاءت بأنه كبر في أول السورة المذكورة والرواية الأخرى أنه كبر في آخرها.
ومما يدل على أن التكبير أول سورة الضحى، ما جاء عن عكرمة بن سليمان قال: «قرأت على إسماعيل بن عبد ربه، فلما بلغت الضحى قال: كبر، فإني قرأت على عبد الله بن كثير أحد القراء السبعة، فلما بلغت {والضحى} قال لي: كبر حتى تختم. وأخبرني ابن كثير أنه قرأ على مجاهد، فأمره بذلك، وأخبره أن ابن عباس «رضي الله ع» أمره بذلك وأخبره ابن عباس أن أبيّ بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيّ أن النبي ﷺ أمره بذلك» قال بعضهم: حديث غريب.
ونقل عن إمامنا الشافعي «رضي الله ع» أنه قال لآخر: إذا تركت التكبير: أي من الضحى إلى الحمد في الصلاة وخارجها فقد تركت سنة من سنن نبيك، لكن في كلام الحافظ ابن كثير: ولم يرد ذلك أي التكبير عند نزول سورة الضحى بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.
وقد ذكر الشيخ أبو المواهب الشاذلي «رضي الله ع» عن شيخه أبي عثمان أنه قال: إنما نزلت سورة {ألم نشرح} عقب قوله: {وأما بنعمة ربك فحدث} إشارة إلى أن من حدث بنعمة الله فقد شرح الله صدره قال: كأنه تعالى يقول إذا حدثت بنعمتي ونشرتها بين عبادي فقد شرحت صدرك.
وعن ابن إسحاق: ذكر لي «أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا» وفي لفظ «ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فقال له جبريل {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} أي لا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته على مقتضى حكمته، وما كان ربك تاركا لك كما زعم الكفار، بل كان ذلك لحكمة رآها.
وأما حديث الزبيدي، فقد حدث بعضهم الزبيدي، فقد حدث بعضهم قال: «بينا رسول الله ﷺ جالس في المسجد ومن معه من الصحابة إذا رجل من زبيد يطوف على حلق قريش حلقة بعد أخرى وهو يقول: يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المارة أو يجلب إليكم جلب، أو يحل بضم الحاء أي ينزل بساحتكم تاجر وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟ حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ في أصحابه، فقال له: ومن ظلمك؟ فذكر أنه قدم بثلاثة أجمال خيرة إبله أي أحسنها فسامه بها أبو جهل ثلث أثمانها، ثم لم يسمه بها لأجله سائم، قال: فأكسد عليّ سلعتي فظلمني، فقال له رسول الله ﷺ: وأين جمالك؟ قال: هذه هي بالحزورة، فقام رسول الله ﷺ وقام أصحابه فنظروا إلى الجمال فرأى جمالا حسنا، فساوم ذلك الرجل حتى ألحقه برضاه، وأخذها رسول الله ﷺ فباع جملين منها بالثمن، وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وكل ذلك وأبو جهل جالس في ناحية من السوق ولم يتكلم، ثم أقبل إليه رسول الله ﷺ فقال له: إياك يا عمرو أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الرجل فترى مني ما تكره، فجعل يقول: لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد، فانصرف رسول الله ﷺ وأقبل على أبي جهل أمية بن خلف ومن معه من القوم، فقالوا له: ذللت في يد محمد، فإما أن تكون تريد أن تتبعه، وإما رعب دخلك منه، فقال لهم: لا أتبعه أبدا، إن الذي رأيتم مني لما رأيته، رأيت معه رجالا عن يمينه ورجالا عن شماله معهم رماح يشرعونها إليّ، لو خالفته لكانت إياها أي لأتوا على نفسي».
ونظير ذلك «أن أبا جهل كان وصيا على يتيم فأكل ماله وطرده، فاستغاث اليتيم بالنبي ﷺ على أبي جهل، فمشى معه إليه ورد عليه ماله، فقيل له في ذلك فقال: خفت من حربة عن يمينه وحربة عن شماله لو امتنعت أن أعطيه لطعنني».
وأما حديث المستهزئين. فمما استهزىء به على رسول الله ﷺ ما حدث به بعضهم «أن أبا جهل بن هشام ابتاع من شخص يقال له الإراشي بكسر الهمزة نسبة إلى إراشة بطن من خثعم أجمالا فمطله بأثمانها، فدلته قريش على النبي ﷺ لينصفه من أبي جهل استهزاء برسول الله، لعلمهم بأنه لا قدرة له على أبي جهل: أي بعد أن وقف على ناديهم فقال: يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني علي حقي، فقالوا له أترى ذلك الرجل؟ يعنون رسول الله، اذهب إليه فهو يعينك عليه، فجاء إلى رسول الله، فذكر له حاله مع أبي جهل ـ أي قال له: يا أبا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب وابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يأخذ لي بحقي منه فأشاروا إليك، فخذ حقي منه يرحمك الله ـ فخرج النبي ﷺ مع الرجل إلى أبي جهل وضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ قال محمد، فخرج إليه وقد انتقع لونه: أي تغير وصاح كلون النقع ـ الذي هو التراب، وهو الصفرة مع كدرة كما تقدم ـ فقال له: أعط هذا حقه، قال نعم، لا تبرح حتى أعطيه الذي له، فدفعه إليه. قال: ثم إن الرجل أقبل حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا يعني النبي ﷺ ـ فقد والله أخذ لي بحقي، وقد كانوا أرسلوا رجلا ممن كان معهم خلف النبي ﷺ وقالوا له انظر ماذا يصنع؟ فقالوا لذلك الرجل ماذا رأيت؟ قال: رأيت عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقه، فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إليه، فعند ذلك قالوا لأبي جهل: ويلك ما رأينا مثل ما صنعت، قال: ويحكم، والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلا من الإبل ما رأيت مثله قط، لو أبيت أو تأخرت لأكلني» وإلى هذه القصة أشار صاحب الهمزية بقوله:
واقتضاه النبي دين الإراشي ** وقد ساء بيعه والشراء
ورأى المصطفى أتاه بما لم ** ينج منه دون الوفاء النجاء
هو ما قد رآه من قبل لكن ** ما على مثله يعد الخطاء
أي وطلب من أبي جهل أن يؤدي دين الإراشي وقد ساء بيعه وشراؤه مع ذلك الرجل ورأى المصطفى وقد أتاه بفحل من الإبل لم ينج منه دون الوفاء لذلك الدين. كثير النجاء، وذلك الذي أتاه به هو الفحل الذي قد رآه من قبل: أي لما أراد عدو الله أن يلقي عليه الحجر وهو ساجد كما تقدم، لكن ما على مثله فضلا عنه يعدّ الخطأ لأن خطأه لا ينحصر.
أي ومن استهزاء أبي جهل بالنبي «أنه في بعض الأوقات سار خلف النبي ﷺ يخلج بأنفه وفمه يسخر به، فاطلع عليه، فقال له: كن كذلك، فكان كذلك إلى أن مات».
قال ابن عبد البر: وكان من المستهزئين الذين قال الله تعالى فيهم {إنا كفيناك المستهزئين} أبو جهل وأبو لهب وعقبة بن أبي معيط والحكم بن العاص بن أمية وهو والد مروان بن الحكم عم عثمان بن عفان، والعاص بن وائل، فمن استهزاء أبي جهل ما تقدم.
ومن استهزاء أبي لهب به أنه كان يطرح القذر على باب رسول الله ﷺ كما تقدم، ومرّ يوما من الأيام فرآه أخوه حمزة «رضي الله ع» قد فعل ذلك، فأخذه وطرحه على رأسه، فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول صابىء أحمق.
ومن استهزاء عقبة بن أبي معيط به أنه كان يلقي القذر أيضا على بابه كما تقدم، وقد قال: «كنت بين شرّ جارين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحونها على بابي» كما تقدم.
ومن استهزائه «أنه بصق في وجه النبي ﷺ فعاد بصاقه على وجهه وصار برصا: أي فإنه كان يكثر مجالسة عقبة بن أبي معيط، فقدم عقبة يوما من سفر فصنع طعاما ودعا الناس من أشراف قريش ودعا النبي، فلما قرب إليهم الطعام أبى رسول الله ﷺ أن يأكل، فقال: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، فأكل من طعامه وانصرف الناس، وكان عقبة صديقا لأبيّ بن خلف، فأخبر الناس أبيا بمقالة عقبة، فأتى إليه وقال: يا عقبة صبوت؟ قال: والله ما صبوت، ولكن دخل منزلي رجل شريف، فأبى أن يأكل طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم والشهادة ليست في نفسي، فقال له أبيّ وجهي ووجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فقال له عقبة: لك ذلك، ثم إن عقبة لقي النبي ﷺ ففعل به ذلك» قال الضحاك: لما بزق عقبة لم تصل البزقة إلى وجه رسول الله ﷺ بل وصلت إلى وجهه هو كشهاب نار فاحترق مكانها، وكان أثر الحرق في وجهه إلى الموت. وحينئذ يكون المراد بقوله فيما تقدم «فعاد بصاقه برصا في وجهه» أي صار كالبرص «وأنزل الله تعالى في حقه {ويوم يعضّ الظالم على يديه} أي في النار يأكل إحدى يديه إلى المرفق ثم يأكل الأخرى، فتنبت الأولى فيأكلها وهكذا».
ومن استهزاء الحكم بن العاص «أنه كان يمشي ذات يوم وهو خلفه يخلج بفمه وأنفه، يسخر بالنبي، فالتفت إليه النبي ﷺ فقال له: كن كذلك فكان كذلك» أي كما تقدم نظير ذلك لأبي جهل «واستمر الحكم بن العاص يخلج بأنفه وفمه بعد أن مكث شهرا مغشيا عليه حتى مات» أسلم يوم فتح مكة وكان في إسلامه شيء «اطلع على رسول الله ﷺ من باب بيته وهو عند بعض نسائه بالمدينة، فخرج إليه بالعنزة ـ أي وقيل بمدرى في يده ـ والمدرى كالمسلة يفرق به شعر الرأس ـ وقال: من عذيري من هذه الوزغة، لو أدركته لفقأت عينه، ولعنه وما ولد، وغربه عن المدينة إلى وجّ الطائف، فلم يزل حتى ولي ابن أخي عثمان «رضي الله ع» الخلافة، فدخل المدينة بعد أن سأل عثمان أبا بكر في ذلك، فقال: لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ثم سأل عمر لما ولي الخلافة فقال له مثل ذلك، ولما أدخله عثمان نقم عليه الصحابة بسبب ذلك، فقال: أنا كنت شفعت فيه إلى رسول الله ﷺ فوعدني برده: أي أني أردّه» ولا ينافي ذلك سؤال عثمان لأبي بكر وعمر «رضي الله ع» في ذلك كما لا يخفى، لأنه يحتمل أن يرده عثمان إما بنفسه أو بسؤاله، وسيأتي ذلك في جملة أمور نقهما عليها الصحابة.
وعن هند ابن خديجة أم المؤمنين «رضي الله ع» «أن النبي ﷺ مرّ بالحكم، فجعل يغمز بالنبي، فرآه فقال: اللهم اجعل به وزغا فرجف وارتعش مكانه» والوزغ: الارتعاش. وفي رواية «فما قام حتى ارتعش».
وعن الواقدي «استأذن الحكم بن العاص على رسول الله ﷺ فعرف صوته، فقال: ائذنوا له، لعنه الله ومن يخرج من صلبه إلا المؤمنين منهم وقليل ما هم، ذو مكر وخديعة، يعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» «وكان لا يولد لأحد ولد بالمدينة إلا أتى به النبي، فأتي إليه بمروان لما ولد، فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون» وعلى هذا فهو صحابي إن ثبت أن النبي ﷺ رآه، لأنه يحتمل أنه أتي به إليه فلم يأذن بإدخاله عليه، وربما يدل لذلك قوله هو الوزغ إلى آخره.
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة. وفي كلام بعض آجر أنه ولد بالطائف بعد أن نفي أبوه إلى الطائف: أي ولم يجتمع بالنبي ﷺ فهو ليس بصحابي، ومن ثم قال البخاري: مروان بن الحكم لم ير النبي، وعن عائشة «رضي الله ع»، أنها قالت لمروان «نزل في أبيك {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} وقالت له «سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية: إنهم الشجرة الملعونة في القرآن» ولي مروان الخلافة تسعة أشهر. وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت لمروان بن الحكم، حيث قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر «رضي الله ع»، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر، وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك {والذي قال لوالديه أف لكما} فبلغ ذلك عائشة، فقالت كذب والله ما هو به، ثم قالت له: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ﷺ لعن أباك وأنت في صلبه.
وعن جبير بن مطعم «كنا مع رسول الله ﷺ فمرّ الحكم بن العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمتي مما في صلب هذا» قال بعضهم: وكون النبي ﷺ مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك، يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده.
وعن حمران بن جابر الجعفي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ويل لبني أمية ثلاث مرات» أي وقد ولي منهم الخلافة أربعة عشر رجلا، أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان بن محمد، وكانت مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة، وهي ألف شهر. وقال بعضهم: لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما. قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفيه نظر، لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين، واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه.
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول: غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث.
أي ومن استهزائه. أن خباب بن الأرت «رضي الله ع» كان قينا بمكة: أي حدادا يعمل السيوف، وقد كان باع للعاص سيوفا فجاءه يتقاضى ثمنها، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب أو فضة أو ثياب أو خدم أو ولد؟ قال خباب بلى، قال: فأنظرني إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هناك حقك، ووالله لا تكونن أنت وصاحبك آثر عند الله مني ولا أعظم حظا في ذلك.
وفي لفظ أن العاص قال له: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: والله لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: فذرني حتى أموت ثم أبعث فسوف أوتي مالا وولدا فأقضيك، فأنزل الله تعالى فيه {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتينّ مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدّا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا}!.
وفي كلام ابن حجر الهيتمي، وفي البخاري من عدة طرق: أن خبابا «رضي الله ع» طلب من العاص بن وائل السهمي دينا له عليه، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، فقال: لا أكفر به حتى يميتك الله ثم يبعثك.
وفيه أن هذا تعليق للكفر بممكن: أي وتعليق الكفر ولو بمحال عادي، وكذا شرعي أو عقلي على احتمال كفر، لأنه ينافي عقد التصميم الذي هو شرط في الإسلام.
وأجيب بأنه لم يقصد التعليق قطعا، وإنما أراد تكذيب ذلك اللعين في إنكار البعث، ولا ينافيه قوله «حتى» لأنها تأتي بمعنى إلا المنقطعة فتكون بمعنى لكن الذي صرحوا بأن ما بعدها كلام مستأنف، وعليه خرج ابن هشام الخضراوي حديث «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه» أي لكن أبواه.
وعد بعضهم من المستهزئين الحارث بن عيطلة، ويقال ابن عيطل ينسب إلى أمه، وكان من استهزائه ما تقدم عن العاص بن وائل وأبي جهل من الاختلاج خلف رسول الله.
وعد منهم الأسود بن يغوث، وهو ابن خال النبي، كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بالصحابة: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر: أي لأن الصحابة كانوا متقشفين، ثيابهم رثة، وعيشهم خشن، ويقول للنبي: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد، وما أشبه هذا القول.
وعد منهم الأسود بن عبد المطلب. ومن استهزائه أنه كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي ﷺ وأصحابه ويصفرون إذا رأوهم.
وعد منهم النضر بن الحارث، فهلك غالبهم قبيل الهجرة بضروب من البلاء.
أقول: والذي ينبغي أن يكون المراد بالمستهزئين في الآية وهي {إنا كفيناك المستهزئين} الوليد بن المغيرة والد خالد وعم أبي جهل، فإنه كان من عظماء قريش، وكان في سعة من العيش ومكنة من السيادة، كان يطعم الناس أيام مني حيسا، وينهي أن توقد نار لأجل طعام غير ناره، وينفق على الحاج نفقة واسعة، وكانت الأعراب تثني عليه، كانت له البساتين من مكة إلى الطائف، وكان من جملتها بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا، وببركته أصابته الجوائح والآفات في أمواله حتى ذهبت بأسرها ولم يبق له في أيام الحج ذكر. وكان المقدم في قريش فصاحة، وكان يقال له ريحانة قريش، ويقال له الوحيد أي في الشرف والسؤدد والجاه والرياسة. قال بعضهم: بل هو وحيد في الكفر والخبث والعناد.
والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحارث بن عيطلة. وفي لفظ: ابن الطلاطلة. والطلاطلة في اللغة: الداهية، قال بعضهم وهو اشتباه، لأن ابن الطلاطلة اسمه مالك لا حارث.
والحارث بن العيطلة كان أحد أشراف قريش في الجاهلية، وإليه كانت الحكومة والأموال التي تجعل للآلهة، وذكره ابن عبد البر في الصحابة. قال في أسد الغابة: لم أر أحدا ذكره في الصحابة إلا أبا عمرو يعني ابن عبد البر. والصحيح أنه كان من المستهزئين، وهؤلاء الخمسة هم الذين اقتصر عليهم القاضي البيضاوي، لما يروى «أن جبريل أتى النبي ﷺ وهو في المسجد: أي يطوف بالبيت ؛ وقال له أمرت أن أكفيكم، فلما مر الوليد بن المغيرة قال له: يا محمد كيف تجد هذا؟ فقال: بئس عبد الله، فأومأ إلى ساق الوليد وقال كفيته، ومرّ العاص بن وائل، فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأشار إلى أخمصه وقال كفيته، ثم مرّ الأسود بن المطلب فقال كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى عينه، وقال كفيته، ثم مر الأسود بن عبد يغوث فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال عبد سوء، فأومأ إلى رأسه وقال كفيته، ثم مر الحارث بن عيطلة فقال: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: عبد سوء، فأومأ إلى بطنه وقال كفيته» وحينئذ يكون معنى كفاية هذا له أنه لم يسع ولم يتكلف في تحصيل ذلك، وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
وجبريل لما استهزأت فرقة الردى ** أشار إلى كل بأقبح ميتة
والله أعلم.
قال: وروى الزهري «أن الأسود بن عبد يغوث خرج من عند أهله فأصابته السموم فاسودّ وجهه، فأتى أهله فلم يعرفوه وأقفلوا دونه الباب، وسلط عليه العطش فلا زال يشرب الماء حتى انشق بطنه» وهذا يناسب ما سيأتي عن الهمزية، ولا يناسب أن جبريل "عليه الصلاة والسلام أشار إلى رأسه، وفي كلام البلاذري عن عكرمة «أن جبريل أخذ بعنق الأسود بن عبد يغوث فحنى ظهره حتى احقوقف، فقال رسول الله ﷺ: خالي خالي» أي لأنه كما تقدم ابن خاله، فهو إما على حذف المضاف، أو لأجل مراعاة أبيه: أي يراعى لأجل أبيه الذي هو خالي «فقال جبريل: يا محمد دعه» وفي رواية «قال له جبريل: خلّ عنك، ثم حثاه حتى قتله» وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه.
والمناسب لذلك ما ذكره بعضهم أنه امتخض رأسه قيحا، ثم لم يزل يضرب برأسه أصل شجرة حتى مات، وكذا الحارث بن عيطلة: أي وفي كلام القاضي وحارث بن قيس.
وفي تكملة الجلال السيوطي عدي بن قيس، فقد أكل حوتا مملحا فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقدّ بطنه، وهذا المناسب لما ذكر هنا أن جبريل أشار إلى بطنه، لكن لا يناسب ما قاله القاضي البيضاوي أنه أشار إلى أنفه فامتخض قيحا.
وأما الأسود بن المطلب فقد عمي بصره. فقد ذكر «أنه خرج ليستقبل ولده، وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة، فجعل جبريل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها حتى عمي، فجعل يستغيث بغلامه، فقال له غلامه: لا أحد يصنع بك شيئا: أي وقيل ضربه بغصن فيه شوك، فسالت حدقتاه، وصار يقول: ها هوذا طعن بالشوك في عيني، فيقال له ما نرى شيئا، وقيل أتى شجرة فجعل ينطح رأسه بها حتى خرجت عيناه» أي وفعل ذلك لا ينافي ما ورد «فأشار أي جبريل إلى وجهه فعمي بصره في الحال» لجواز أن يراد بالحال الزمن القريب، وفي رواية: أنه كان يقول «دعا عليّ محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي» وسيأتي عن بعضهم في غزوة بدر «أنه دعا على الأسود بن المطلب بالعمي وفقد أولاده، فجعل له العمى وفقد أولاده ببدر. وأما الوليد بن المغيرة فمر بشخص يعمل النبل فتعلق بثوبه سهم فلم ينقلب لينحيه تعاظما، فعدا فأصاب السهم عرقا في ساقه فقطعه فمات. وأما العاص بن وائل، فدخلت شوكة في أخمصه فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات» وإلى الخمسة الذين ذكرنا أنهم المرادون بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} أشار صاحب الهمزية بقوله:
وكفاه المستهزئين وكم سا ** ء نبيا من قومه استهزاء
خمسة كلهم أصيبوا بداء ** والردى من جنوده الأدواء
فدهي الأسود بن مطلب ** أيّ عمي ميت به الأحياء
ودهى الأسود بن عبد يغوث ** أن سقاه كأس الرد استسقاء
وأصاب الوليد خدشة سهم ** قصرت عنها الحية الرقطاء
وقضت شوكة على مهجة العا ** ص فللّه النقعة الشوكاء
وعلى الحارث القيوح وقد سا ** ل بها رأسه وسال الوعاء
خمسة طهرت بقطعهم الأر ** ض فكف الأذى بهم شلاء
أي وكفى الله رسوله المستهزئين به، ومرات كثيرة أحزن نبينا كغيره من الأنبياء استهزاء قومه به، وهؤلاء المستهزئون به خمسة كلهم أصيبوا بداء عظيم، والهلاك من جملة جنوده الأمراض.
فأهلك الأسود بن المطلب عمى عظيم الأحياء أموات بسببه، وهو المناسب لكون جبريل أشار إلى عينيه. ودهي أيضا الأسود بن عبد يغوث استسقاء سقاه كأس الموت، وهذا لا يناسب كون جبريل أشار إلى رأسه. وأصاب الوليد أثر سهم في ساقه قصرت عنه الحية الرقطاء: أي سمها. وقضت شوكة على مهجة العاص دخلت في رجله، فللّه هذه النقعة الخشنة اللمس. وقضت على الحارث القيوح والحال أنه قد سار رأسه، وفسد ذلك الوعاء لتلك القيوح، وهذا هو المناسب لكون جبريل أشار إلى أنفه، لا لقول بعضهم إنه أشار إلى بطنه. خمسة طهرت بهلاكهم الأرض، فكف الأذى بهم شلاء: فاقدة الحركة.
وقد جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» أن هؤلاء الخمسة هلكوا في ليلة واحدة، فعلم أن هؤلاء هم المرادون بقوله تعالى: {إنا كفيناك المستهزئين} كما ذكرنا، وإن كان المستهزئون غير منحصرين فيهم فلا ينافي عدّ منبه ونبيه ابني الحجاج منهم.
فقد قيل: كانا ممن يؤذي رسول الله، وكانا يلقيانه فيقولان له أم وجد الله من يبعثه غيرك؟ إن هاهنا من هو أسن منك وأيسر، فإن كنت صادقا فأتنا بملك ليشهد لك ويكون معك، وإذا ذكر لهما رسول الله ﷺ قالا معلم مجنون يعلمه أهل الكتاب ما يأتي به. ولا ينافي عدّ أبي جهل وغيره منهم كما تقدم.
وفي سيرة ابن المحدث قال "عليه الصلاة والسلام «من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه».
ومن استهزاء أبي جهل أيضا بالنبي ﷺ أنه قال يوما لقريش: يا معشر قريش يزعم محمد أن جنود الله الذين يقذفونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر الناس عددا، فيعجز كل مائة رجل منكم عن واحد منهم؟ .
أي وفي رواية «أن بعض قريش وكان شديدا قويّ البأس، بلغ من شدته أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدمه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه، قال له: أنا أكفيك سبعة عشر، واكفوني أنتم اثنين، ويقال إن هذا دعا النبي ﷺ إلى المصارعة، وقال له: يا محمد إن صرعتين آمنت بك، فصرعه النبي ﷺ مرارا فلم يؤمن».
أي وفي رواية أنا أبا جهل قال: أنا أكفيكم عشرة فاكفوني تسعة، فأنزل الله تعالى {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي لا يطاقون كما تتوهمون {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } ضلالا {للذين كفروا} الآية: أي بأن يقولوا ما ذكر، أو يقولوا لم كانوا تسعة عشر؟ وماذا أراد الله بهذا العدد: أي وهذا العدد لحكمة استأثر الله تعالى بعملها، وقد أبدى بعض المفسرين لذلك حكما تراجع.
وقد جاء في وصف تلك الملائكة «أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي» أي القرون «ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة » وفي رواية «ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب، لأحدهم قوة مثل قوة الثقلين، نزعت الرحمة منهم».
وأخرج العتبي في (عيون الأخبار) عن طاوس: إن الله خلق مالكا وخلق له أصابع على عدد أهل النار، فما من أهل النار معذب إلا ومالك يعذبه بأصبع من أصابعه، فوالله لو وضع مالك أصبعا من أصابعه على السماء لأذابها، وهؤلاء التسعة عشر هم الرؤساء، ولكل واحد أتباع لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قال تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} أي وهؤلاء الأتباع منهم.
وأخرج هناد عن كعب قال: يؤمر بالرجل إلى النار فيبتدره مائة ألف ملك: أي والمتبادر أن هؤلاء من خزنتها.
وفي كلام بعضهم: لم يثبت لملائكة النار عدد معين سوى ما في قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} وإنما ذلك لسقر التي هي إحدى دركات النار، لقوله تعالى قبل ذلك {سأصليه سقر} وقد يكون على كل واحدة منها مثل هذا العدد أو أكثر. قيل و«بسم الله الرحمن الرحيم» عدد حروفها على عدد هؤلاء الزبانية التسعة عشر، فمن قرأها وهو مؤمن دفع الله تعالى عنه بكل حرف منها واحدا منهم.
أقول: ومن استهزاء أبي جهل أيضا أنه قال يوما لقريش وهو يهزأ برسول الله ﷺ وبما جاء به من الحق: يا معشر قريش يخوّفنا محمد بشجرة الزقوم، يزعم أنها شجرة في النار يقال لها شجرة الزقوم، والنار تأكل الشجر، إنما الزقوم التمر والزبد.
وفي لفظ: العجوة تترب بالزبد، هاتوا تمرا وزبدا وتزقموا، فأنزل الله تعالى {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي منبتها في أصل جهنم ولا تسلط لجهنم عليها، أما علموا أن من قدر على خلق من يعيش في النار ويلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق بها؟
وقد قال ابن سلام «رضي الله ع»: إنها تحيا باللهب كما يحيا شجر الدنيا بالمطر، وثمر تلك الشجرة مرّ له زفرة. وأخرج الترمذي وصححه النسائي والبيهقي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن تكون طعامه؟ » أي وقال: يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد، فأنزل الله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} فكف عن سبّ آلهتهم، وجعل يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
ثم رأيت في الدر المنثور في تفسير {إنا كفيناك المستهزئين} قيل نزلت في جماعة مرّ النبي ﷺ بهم، فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون. هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل، فغمز جبريل "عليه الصلاة والسلام بأصبعه في أجسادهم فصارت جروحا وأنتنت، فلم يستطع أحد يدنو منهم حتى ماتوا فلينظر الجمع على تقدير الصحة.
وقد يدّعى أنهم طائفة آخرون غير من ذكر، لأنهم المستهزئون ذلك الوقت، أي فقد تكرر نزول الآية، والله أعلم.
قال: ومن استهزاء النضر بن الحارث أنه كان إذا جلس رسول الله ﷺ مجلسا يحدّث فيه قومه ويحذرهم ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله تعالى خلفه في مجلسه ويقول لقريش: هلموا فإني والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، يعني النبي «ثم يحدثهم عن ملوك فارس، لأنه كان يعلم أحاديثهم ويقول: ما حديث محمد إلا أساطير الأولين.
ويقال إنه الذي {قال سأنزل مثل ما أنزل الله} انتهى: أي لأنه ذهب إلى الحيرة واشترى منها أحاديث الأعاجم ثم قدم بها مكة فكان يحدث بها ويقول: هذه كأحاديث محمد عن عاد وثمود وغيرهم. ويقال إن ذلك كان سببا لنزول قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث}.
قال في الينبوع: والمشهور أنها نزلت في شراء المغنيات. وقال: ولا بعد في أن تكون الآية نزلت فيهما ليتحقق العطف في قوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا} أي فإن هذا الوصف الثاني إنما يناسب النضر، فليتأمل، ولما تلا عليهم نبأ الأولين قال النضر بن الحارث: لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين، فأنزل الله تعالى تكذيبا له {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} أي معينا له.
وجاء «أن جماعة من بين مخزوم منهم أبو جهل والوليد بن المغيرة تواصوا على قتله، فبينما قائما يصلي سمعوا قراءته، فأرسلوا الوليد ليقتله، فانطلق حتى أتى المكان الذي يصلي فيه فجعل يسمع قراءته ولا يراه، فانصرف إليهم وأعلمهم بذلك فأتوه، فلما سمعوا قراءته قصدوا الصوت، فإذا الصوت من خلفهم، فذهبوا إليه فسمعوه من أمامهم ولا زالوا كذلك حتى انصرفوا خائبين، فأنزل الله تعالى قوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون} وتقدم في سبب نزولها غير ذلك. ويمكن أن يدعي أنها نزلت لوجود الأمرين فليتأمل.
وجاء «أن النضر بن الحارث رأى النبي ﷺ منفردا أسفل ثنية الحجون فقال: لا أجده أبدا أخلى منه الساعة فأغتاله، فدنا إلى رسول الله ﷺ ليغتاله، فرأى أسود تضرب بأذنابها على رأسه فاتحة أفواهها فرجع على عقبه مرعوبا فلقي أبا جهل فقال: من أين؟ فأخبره النضر الخبر، فقال أبو جهل: هذا بعض سحره».
ومما تعنتوا به أنه لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} أي وقودها. وحصب بالزنجية حطب: أي حطب جهنم. وقد قرأتها عائشة «رضي الله ع» {كذلك أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون} شق على كفار قريش وقالوا لعبد الله بن الزبعرى: قد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا حصب جهنم، فقال ابن الزبعرى: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي، فدعوه له، فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ فقال: بل لكل من عبد من دون الله، فقال ابن الزبعرى: أخصمت ورب هذه البنية ـ يعني الكعبة ـ ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد من دون الله وكذا عزيرا والملائكة، عبدت النصارى عيسى واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فضج الكفار وفرحوا فأنزل الله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} يعني عيسى وعزيرا والملائكة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم بعون الله الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله: باب الهجرة الأولىحتمل أنه أتي به إليه فلم يأذن بإدخاله عليه، وربما يدل لذلك قوله هو الوزغ إلى آخره.
وفي كلام بعضهم أن مروان ولد بمكة. وفي كلام بعض آجر أنه ولد بالطائف بعد أن نفي أبوه إلى الطائف: أي ولم يجتمع بالنبي ﷺ فهو ليس بصحابي، ومن ثم قال البخاري: مروان بن الحكم لم ير النبي، وعن عائشة «رضي الله ع»، أنها قالت لمروان «نزل في أبيك {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} وقالت له «سمعت رسول الله ﷺ يقول لأبيك وجدك الذي هو العاص بن أمية: إنهم الشجرة الملعونة في القرآن» ولي مروان الخلافة تسعة أشهر. وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت لمروان بن الحكم، حيث قال لأخيها عبد الرحمن بن أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر لما بايع معاوية لولده، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر «رضي الله ع»، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر، وامتنع من البيعة ليزيد بن معاوية، فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك {والذي قال لوالديه أف لكما} فبلغ ذلك عائشة، فقالت كذب والله ما هو به، ثم قالت له: أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله ﷺ لعن أباك وأنت في صلبه.
وعن جبير بن مطعم «كنا مع رسول الله ﷺ فمرّ الحكم بن العاص، فقال النبي ﷺ: ويل لأمتي مما في صلب هذا» قال بعضهم: وكون النبي ﷺ مع ما هو عليه من الحلم والإغضاء على ما يكره فعل بالحكم ذلك، يدل على أمر عظيم ظهر له في الحكم وأولاده.
وعن حمران بن جابر الجعفي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ويل لبني أمية ثلاث مرات» أي وقد ولي منهم الخلافة أربعة عشر رجلا، أوّلهم معاوية بن أبي سفيان، وآخرهم مروان بن محمد، وكانت مدة ولايتهم ثنتين وثمانين سنة، وهي ألف شهر. وقال بعضهم: لا يزيد ذلك يوما ولا ينقص يوما. قال ابن كثير: وهذا غريب جدا، وفيه نظر، لأن معاوية حين تسلم الخلافة من الحسن كان ذلك سنة أربعين أو إحدى وأربعين، واستمر الأمر في بني أمية إلى أن انتقل إلى بني العباس سنة ثنتين وثلاثين ومائة، ومجموع ذلك ثنتان وتسعون سنة، وألف شهر تعدل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر هذا كلامه.
ومن استهزاء العاص بن وائل أنه كان يقول: غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث.
باب الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين إلى مكة وإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
لما رأى رسول الله ﷺ ما نزل بالمسلمين من توالي الأذى عليهم من كفار قريش مع عدم قدرته على انقاذهم مما هم فيه، قال لهم: تفرقوا في الأرض فإن الله تعالى سيجمعكم قالوا: إلى أين نذهب؟ قال: هاهنا وأشار بيده إلى جهة أرض الحبشة ؛ قال: وفي رواية «قال لهم اخرجوا إلى جهة أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد؛ أي وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه» انتهى. أي ويجوز أن يكون قال ذلك عند استفساره عن محل اشارته. فقد جاء في الحديث «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم خليل الله ونبيه محمد » فهاجر إليها ناس ذو عدد مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله تعالى بدينهم. ومنهم من هاجر بأهله. ومنهم من هاجر بنفسه؛ فممن هاجر بأهله عثمان بن عفان «رضي الله ع»، هاجر ومعه زوجته رقية بنت النبي، وكان أول خارج. وقيل أول من هاجر إلى الحبشة حاطب بن أبي عمرو. وقيل سليط بن عمرو، ولا ينافيهما قوله «إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط» أي حيث (قال إني مهاجر إلى ربي) فهاجر إلى عمه إبراهيم الخليل، ثم هاجرا عليهما الصلاة والسلام حتى أتيا حران، ثم هاجرا إلى أن نزل إبراهيم "عليه الصلاة والسلام فلسطين، ونزل لوط "عليه الصلاة والسلام المؤتفكة.
ووجه عدم المنافاة أن كلا من حاطب وسليط يجوز أن يكون هاجر بغير أهله وكان مع رقية أم أيمن حاضنته، وكانت رقية «رضي الله ع» ذات جمال بارع وكذا عثمان «رضي الله ع»، ومن ثم كان النساء يغنينهما بقولهن:
أحسن شيء قد يرى إنسان ** رقية وبعدها عثمان
ومن ثم ذكر «أنه بعث رجلا إلى عثمان ورقية «رضي الله ع» فاحتبس عليه الرسول، فلما جاء إليه قال له: إن شئت أخبرتك ما حبسك؟ قال نعم، قال: وقفت تنظر إلى عثمان ورقية تعجب من حسنهما» أي ومعلوم أن ذلك كان قبل آية الحجاب.
ويذكر أن نفرا من الحبشة كانوا ينظرون إليها فتأذت من ذلك فدعت عليهم فقتلوا جميعا. وقد جاء في وصف حسن عثمان «رضي الله ع» قوله «قال لي جبريل: إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان» وسيأتي ذلك مع زيادة.
وأبو سلمة هاجر ومعه زوجته أم سلمة: أي وقيل هو أول من هاجر بأهله، وهو مخالف للرواية السابقة أن عثمان أول من هاجر بأهله. ويمكن أن تكون الأولية فيه إضافية فلا ينافي ما سبق عن عثمان.
وعامر بن ربيعة هاجر ومعه امرأته ليلى: أي وعنها «رضي الله ع» كان عمر بن الخطاب «رضي الله ع» من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبت بعيري أريد أن أتوجه إلى أرض الحبشة إذا أنا بعمر بن الخطاب، فقال لي: إلى أين يا أمّ عبدالله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله حيث لا نؤذى، فقال صحبكم الله، ثم ذهب فجاء زوجي عامر فأخبرته بما رأيت من رقة عمر، فقال: ترجين أن يسلم عمر، والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب: أي استبعادا لما كان يرى من قسوته وشدته على أهل الإسلام، وهذا دليل على أن إسلام عمر كان بعد الهجرة الأولى للحبشة، وهو كذلك: أي خلافا لمن قال إنه كان تمام الأربعين من المسلمين: أي ممن أسلم.
وفيه أن المهاجرين إلى أرض الحبشة كانوا فوق ثمانين كما قاله بعضهم، اللهم إلا أن يقال إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وربما يدل لذلك قول عائشة «رضي الله ع» في قصة الصديق وفي ضرب قريش له «رضي الله ع» لما قام خطيبا في المسجد الحرام، وقد تقدمت حيث قالت: وكان المسلمون تسعة وثلاثين رجلا، لكن في الرواية أنهم قاموا مع رسول الله ﷺ في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر فليتأمل.
وفي لفظ عن أم عبدالله زوج عامر قالت: إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر، تعني زوجها، إلى بعض حاجته، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وكنا نتقي منه الأذى والبلاء والشدة علينا، فقال: إنه لخروج يا أم عبدالله، فقلت: والله لنخرجن إلى أرض فقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا وفرجا، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وتفرست فيه حزنا لخروجنا، وقلت لعامر: يا أبا عبدالله لو رأيت ما وقع من عمر وذكرت ما تقدم.
وممن هاجر أبو سبرة، وهو أخو أبي سلمة «رضي الله ع» لأمه، أمهما برة بنت عبد المطلب عمة رسول الله، هاجر ومعه امرأته أم كلثوم.
وممن هاجر بنفسه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون «رضي الله ع»: أي وكان أميرا عليهم كما قيل، وجزم به ابن المحدث في سيرته. وقال الزهري: لم يكن لهم أمير. وسهيل بن البيضاء: أي والزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود «رضي الله ع». وقيل إنما كان عبدالله بن مسعود في الهجرة الثانية فخرجوا سرا: أي متسللين، منهم الراكب، ومنهم الماشي حتى انتهوا إلى البحر، فوفق الله تعالى لهم سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار: أي وفي المواهب: وخرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار؛ هذا كلامه فليتأمل.
وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة، فخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا إلى البحر، فلم يجدوا أحدا منهم، ولعل خروجهم سرا لا ينافيه ما تقدم عن ليلى امرأة عامر بن ربيعة من سؤال عمر لها واخبارها له بأنها تريد أرض الحبشة، فلما وصلوا إلى أرض الحبشة نزلوا بخير دار عند خير جار، فمكثوا في أرض الحبشة بقية رجب وشعبان إلى رمضان، فلما كان شهر رمضان قرأ رسول الله ﷺ على المشركين {والنجم إذا هوى} أي وقد أنزلت عليه في ذلك الوقت. ففي كلام بعضهم «جلس رسول الله ﷺ يوما مع المشركين، وأنزل الله تعالى عليه سورة {والنجم إذا هوى} فقرأها عليهم حتى إذا بلغ {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} وسوس إليه الشيطان بكلمتين، فتكلم بهما ظانا أنهما من جملة ما أوحي إليه، وهما: تلك الغرانيق العلى: أي الأصنام، وإن شفاعتهن لترتجى» وفي لفظ: «لهي التي ترتجى» شبهت الأصنام بالغرانيق التي هي طير الماء، جمع غرنوق بكسر الغين المعجمة وإسكان الراء ثم نون مفتوحة، أو غرنوق بضم الغين والنون أيضا، أو غرنوق بضم الغين وفتح النون: وهو طير طويل العنق وهو الكركي أو يشبهه. ووجه الشبه بين الأصنام وتلك الطيور أن تلك الطيور تعلو وترتفع في السماء، فالأصنام شبهت بها في علو القدر وارتفاعه ثم مضى يقرأ السورة حتى بلغ السجدة فسجد وسجد القوم جميعا: أي المسلمون والمشركون.
أقول: قال بعضهم: ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان، وإنما سمع ذلك المشركون فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ومن ثم عجب المسلمون من سجود المشركين معهم من غير إيمان.
قال بعضهم: والنجم هي أول سورة نزل فيها سجدة: أي أول سورة نزلت جملة كاملة فيها سجدة فلا ينافي أن {اقرأ باسم ربك} سورة نزلت فيها سجدة، لأن النازل منها أوائلها كما علمت.
وقد جاء «أنه قرأ يوما {اقرأ باسم ربك} فسجد في آخرها وسجد معه المؤمنون فقام المشركون على رؤوسهم يصفقون».
وقد روى أبو هريرة «رضي الله ع»«أنه سجد في النجم: أي غير سجدته المتقدمة التي سجد معه المشركون» ومجموع ذلك يردّ حديث ابن عباس «رضي الله ع» «أنه لم يسجد في شيء من المفصل قبل أن يتحول إلى المدينة » لأن سورة النجم من المفصل، لأن عند أئمتنا أن أول المفصل الحجرات على الراجح من أقوال عشرة.
لا يقال: لعل ابن عباس «رضي الله ع» ممن يرى أن النجم ليس من المفصل. لأنا نقول {اقرأ باسم ربك} من المفصل اتفاقا. وعلى ما قال أئمتنا يكون في المفصل ثلاث سجدات: في النجم والانشقاق {واقرأ باسم ربك} وهي أي النجم أول سورة أعلنها رسول الله ﷺ بمكة.
وذكر الحافظ الدمياطي «أن رسول الله ﷺ كان رأى من قومه كفا عنه: أي تركا وعدم تعرض له، فجلس خاليا فتمنى، فقال: ليته لم ينزل عليّ شيء ينفرهم عني» وفي رواية: «تمنى أن ينزل عليه ما يقارب بينه وبينهم حرصا على إسلامهم، وقارب رسول الله ﷺ قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يوما مجلسا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم {والنجم إذا هوى}» إلى آخر ما تقدم والله أعلم.
ومن جملة من كان من المشركين حينئذٍ الوليد بن المغيرة لكنه رفع ترابا إلى جبهته فسجد عليه، لأنه كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود.
وقيل الذي فعل ذلك، سعيد بن العاص، ويقال كلاهما فعل ذلك، وقيل الفاعل لذلك أمية بن خلف وصحح، وقيل عتبة بن ربيعة، وقيل أبو لهب، وقيل المطلب.
وقد يقال: لا مانع أن يكونوا فعلوا ذلك جميعا، بعضهم فعل ذلك تكبرا، وبعضهم فعل ذلك عجزا، وممن فعل ذلك تكبرا أبو لهب، فقد جاء «وفيها سجد رسول الله ﷺ وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس، غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال يكفي هذا».
ولا يخالف ذلك ما نقل عن ابن مسعود «ولقد رأيت الرجل أي الفاعل لذلك قتل كافرا» لأنه يجوز أن يكون المراد بقتل مات «فعند ذلك قال المشركون له: قد عرفنا أن الله تعالى يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده فأما إذا جعلت لنا نصيبا فنحن معك، فكبر ذلك على رسول الله ﷺ وجلس في البيت».
وفيه أنه كيف يكبر عليه ذلك مع أنه موافق لما تمناه من أن الله ينزل عليه ما يقارب بينه وبين المشركين حرصا على إسلامهم المتقدم ذلك عن سيرة الدمياطي، إلا أن يقال هذا كان بعد ما عرض السورة على جبريل، وقال له: ما جئتك بهاتين الكلمتين المذكور ذلك في قولنا: «فلما أمسى أتاه جبريل: فعرض عليه السورة وذكر الكلمتين فيها، فقال له جبريل: ما جئتك بهاتين الكلمتين، فقال رسول الله ﷺ: قلت على الله ما لم يقل أي فكبر عليه ذلك ـ فأوحى الله تعالى إليه ما في سورة الإسراء {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره} بموافقتك لهم على مدح آلهتهم بما لم نرسل به إليك {وإذا} لو فعلت أي دمت عليه {لاتخذوك خليلا} إلى قوله {ثم لا تجد لك علينا نصيرا} أي مانعا يمنع العذاب عنك، وهذا يدل لما تقدم أنه تكلم بذلك ظانا أنه من جملة ما أوحى إليه.
وقيل نزل ذلك لما قال له اليهود حسدا له على اقامته بالمدينة: لئن كنت نبيا فالحق بالشام لأنها أرض الأنبياء حتى نؤمن بك، فوقع ذلك في قلبه فخرج برحله فنزلت، فرجع أي بدليل ما بعدها. وقيل إن التي بعدها نزلت في أهل مكة وقيل إن آية {وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك} نزلت في ثقيف، قالوا: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خلالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا ننحني في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة، فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل إن الله أمرني.
وقيل نزلت في قريش قالوا: لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها بيدك.
وقد يدعى أن هذا مما تعدد أسباب نزوله، والقاضي البيضاوي اقتصر على ما عدا الأول، والله أعلم.
قال: وقيل إن هاتين الكلمتين لم يتكلم بهما رسول الله، وإنما ارتصد الشيطان سكته عند قوله الأخرى، فقالهما محاكيا نغمته، فظنهما النبي ﷺ كما في (شرح المواقف) ومن سمعه أنهما من قوله: أي حتى قال: قلت على الله ما لم يقل، وتباشر بذلك المشركون، وقالوا إن محمدا قد رجع إلى ديننا: أي دين قومه حتى ذكر أن آلهتنا لتشفع لنا، وعند ذلك أنزل الله تعالى قوله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} أي قراءته ماليس من القرآن: أي مما يرضاه المرسل إليهم. وفي البخاري «إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) يبطله (ثم يحكم الله آياته) أي يثبتها (والله عليم) بالقاء الشيطان ما ذكر (حكيم) في تمكينه من ذلك، يفعل ما يشاء ليميز به الثابت على الإيمان من المتزلزل فيه، ولم أقف على بيان أحد من الأنبياء والمرسلين وقع له مثل ذلك.
وفيه كيف يجترىء الشيطان على التكلم بشيء من الوحي. ومن ثم قيل: هذه القصة طعن في صحتها جمع وقالوا إنها باطلة وضعها الزنادقة: أي ومن ثم أسقطها القاضي البيضاوي. ومن جملة المنكرين لها القاضي عياض، فقد قال: هذا الحديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل وإنما أولع به المفسرون المؤرخون، المولعون بكل غريب.
أي وقال البيهقي: رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم. وقال الإمام النووي نقلا عنه وأما ما يرويه الإخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله ﷺ ما جرى على لسانه من الثناء على آلهتهم فباطل لا يصح منهم شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل، لأن مدح إله غير الله كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله، ولا أن يقوله الشيطان على لسان رسول الله، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك: أي وألا يلزم عدم الوثوق بالوحي.
وقال الفخر الرازي: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها. قال الله تعالى {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} أي الشيطان لا يجترىء أن ينطق بشيء من الوحي. وقال بصحتها جمع منهم خاتمة الحفاظ الشهاب ابن حجر، وقال: رد عياض لا فائدة فيه، ولا يعود عليه، هذا كلامه، وفشا أمر تلك السجدة في الناس حتى بلغ أرض الحبشة أن أهل مكة: أي عظماءهم قد سجدوا وأسلموا حتى الوليد بن المغيرة، وسعيد بن العاص.
وفي كلام بعضهم: والناقل لإسلامه أنه لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله ﷺ اعتقد أنهم أسلموا واصطلحوا معه، ولم يبق نزاع معهم، فطار الخبر بذلك، وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة، فظنوا صحة ذلك، فقال المهاجرون بها: من بقي بمكة: إذا أسلم هؤلاء عشائرنا أحب إلينا فخرجوا: أي خرج جماعة منهم من أرض الحبشة راجعين إلى مكة: أي وكانوا ثلاثة وثلاثين رجلا، منهم عثمان بن عفان، والزبير ابن العوام وعثمان بن مظعون، وذلك في شوال، حتى إذا كانوا دون مكة ساعة من نهار لقوا ركبا فسألوهم عن قريش، فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم عاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشر، وتركناهم على ذلك، فائتمر القوم في الرجوع إلى أرض الحبشة، ثم قالوا: قد بلغنا مكة فندخل ننظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم نرجع فدخلوا مكة ؛ أي بعضهم بجوار وبعضهم مستخفيا.
قال في الإمتاع: ويقال إن رجوع من كان مهاجرا بالحبشة إلى مكة كان بعد الخروج من الشعب، هذا كلامه. وفيه نظر ظاهر، ويرشد إليه التبري لأنهم مكثوا في الشعب ثلاث سنين أو سنتين، ومكث هؤلاء عند النجاشي حينئذٍ كان دون ثلاثة أشهر كما علمت. وأيضا الهجرة الثانية للحبشة إنما كانت بعد دخول الشعب كما سيأتي.
قال في الأصل: ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار إلا ابن مسعود؛ فإنه مكث يسيرا ثم رجع إلى أرض الحبشة.
أي وهذا من صاحب الأصل تصريح بأن ابن مسعود كان في الهجرة الأولى، وهو موافق في ذلك لشيخه الحافظ الدمياطي، لكن الحافظ الدمياطي جزم بأن ابن مسعود كان في الهجرة الأولى ولم يحكِ خلافا، وصاحب الأصل حكى خلافا أنه لم يكن فيها، وبه جزم ابن إسحاق حيث قال: إن ابن مسعود إنما كان في الهجرة الثانية، فكان ينبغي للأصل أن يقول على ما تقدم.
هذا، وفي كلام بعضهم: فلم يدخل أحد منهم مكة إلا مستخفيا، وكلهم دخلوا مكة إلا عبدالله بن مسعود فإنه رجع إلى أرض الحبشة.
وقد يقال: لما لم يطل مكث ابن مسعود بمكة ظن به أنه لم يدخلها، فلا ينافي ما سبق. ويجوز أن يكون أكثرهم دخل مكة بلا جوار فأطلقوا على الكل أنهم دخلوا مستخفين، فلا يخالف ما سبق أيضا، ولما رجعوا لقوا من المشركين أشد ما عهدوا.
قال: وممن دخل بجوار: عثمان بن مظعون، دخل في جوار الوليد بن المغيرة، ولما رأى ما يفعل بالمسلمين من الأذى قال: والله إن غدويّ ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من الأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كبير، فمشى إلى الوليد فقال: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك، قال له: ابن أخي لعله آذاك أحد من قومي وأنت في ذمتي فأكفيك ذلك؟ قال: لا والله ما اعترض لي أحد ولا آذاني، ولكن أرضى بجوار الله «عَزَّ وجَلّ» وأريد أن لا أستجير بغيره، قال: انطلق إلى المسجد فأردد إليّ جواري علانية كما أجرتك علانية، فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري، فقال عثمان صدق، وقد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني لا أستجير بغير الله «عَزَّ وجَلّ»، قد رددت عليه جواره، فقال الوليد أشهدكم أني بريء من جواره إلا أن يشاء، ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك في مجلس من قريش ينشدهم قبل إسلامه، فجلس عثمان معهم، فقال لبيد * ألا كل شيء ما خلا الله باطل * فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد * وكل نعيم لا محالة زائل * فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه. فمن سفاهته فارق ديننا فلا تجدنّ في نفسك من قوله، فردّ عليه عثمان، فقام ذلك الرجل فلطم عينه والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة فخرجت منها، وكنت عن الذي لقيت غنيا، فقال عثمان «رضي الله ع»: بل كنت إلى الذي لقيت فقيرا، والله إن عيني الصحيحة التي لم تلطم لفقيره إلى مثل ما أصاب أختها في الله «عَزَّ وجَلّ»، ولي فيمن هو أحب إليّ منكم أسوة، وإني لفي جوار من هو أعزّ منك انتهى، فعثمان فهم أن لبيدا أراد بالنعيم ما هو شامل لنعيم الآخرة ومن ثم قال له نعيم الجنة لا يزول. لا يقال: لولا أن لبيدا يريد مطلق النعيم الشامل لنعيم الآخرة لما تشوش من الردّ عليه. لأنا نقول: يجوز أن يكون تشوشه من مشافهة عثمان له بقوله كذبت.
على أن هذا السياق دالّ على أن لبيدا قال هذا الشعر قبل إسلامه، ويؤيده ما قيل: أكثر أهل الأخبار على أن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم، وبه يردّ ما في الاستيعاب أن هذا: أي قوله: ألا كل شيء إلى آخره شعر حسن، فيه ما يدل على أنه قاله في الإسلام، وكذلك قوله:
فوكل امرى يوما سيعلم سعيه ** إذا كشفت عند الإله المحاصل
وقد يقال: لا يلزم من قوله المذكور الذي لا يصدر غالبا إلا عن مسلم أن يكون قاله في حال إسلامه، كما وقع لأمية بن أبي الصلت حيث قال في شعره ما لا يقوله إلا مسلم مع كفره، ومن ثم قال فيه «آمن شعره وكفر قلبه» وفي رواية «كاد يسلم».
وذكر محيى الدين بن العربي قوله: «أصدق بيت قالته العرب» وفي رواية «أشعر كلمة تكلمت به العرب كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل»:
اعلم أن الموجودات كلها وإن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله تعالى باطلا من حيث إنه ليس له وجود من ذاته، فحكمه حكم العدم، وهذا معنى قول بعضهم قوله باطل: أي كالباطل، لأن العالم قائم بالله تعالى لا بنفسه، فهو من هذا الوجه باطل، والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه ربما تلاشت هذه الكائنات وحجب عن شهودها بشهود الحق، لا أنها زالت من الوجود بالكلية، ثم إذا كمل عرفانه يشهد الحق تعالى والخلق معا في آن واحد، وما كل أحد يصل إلى هذا المقام، فإن غالب الناس إن شهد الحق لم يشهد الخلق، وإن شهد الخلق لم يشهد الحق كما تقدم عند الكلام على الوحدة أنه لا يدركها إلا من أدرك اجتماع الضدين، ولعل من المشهد الأول قول الأستاذ الشيخ أبي الحسن البكري «رضي الله ع»: أستغفر الله مما سوى الله، لأن الباطل يستغفر من إثبات وجوده لذاته.
ويوافق قول أكثر أهل الأخبار: قول السهيلي: وأسلم لبيد وحسن إسلامه، وعاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها بيت شعر، فسأله عمر «رضي الله ع»: أي في خلافته عن تركه للشعر، فقال: ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله تعالى البقرة وآل عمران، فزاده عمر في عطائه خمسمائة من أجل هذا القول، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة. وقيل إنه قال بيتا واحدا في الإسلام وهو:
فالحمد لله الذي لم يأتني أجلي ** حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قال: وممن دخل بجوار: أبو سلمة بن عبد الأسد ابن عمته، فإنه دخل في جوار خاله أبي طالب. ولما أجاره مشى إليه رجال من بني مخزوم. فقالوا: يا أبا طالب منعت منا ابن أختك فمالك ولصاحبنا تمنعه منا؟ فقال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وأنا إن لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب على أولئك الرجال، وقال لهم: يا معشر قريش لا تزالون تعارضون هذا الشيخ في جواره من قومه، والله لتنتهن أو لأقومنّ معه في كل مقام يقوم فيه حتى يبلغ ما أراد، قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة: أي لأنه كان لهم وليا وناصرا على رسول الله ﷺ انتهى: أي وطمع أبو طالب في أبي لهب حيث سمعه يقول ما ذكر، ورجا أن يقوم معه في شأنه، وأنشد أبياتا يحرضه فيها على نصرته.
وممن أوذي في الله بعد إسلامه ووقع له نظير ما وقع لعثمان بن مظعون «رضي الله ع» عمر بن الخطاب.
وسبب إسلامه على ما حدّث به بعضهم قال: قال لنا عمر بن الخطاب «رضي الله ع»: أتحبون أن أعلمكم كيف كان بدء إسلامي أي ابتداؤه والسبب فيه؟ قلنا: نعم قال: كنت من أشد الناس على رسول الله، فبينا أنا في يوم حار شديد الحرّ بالهاجرة في بعض طرق مكة، إذ لقيني رجل من قريش: أي وهو نعيم بن عبدالله النحام بالحاء المهملة. قيل له ذلك، لأنه قال فيه: لقد سمعت نجمته في الجنة، أي صوته وحسه، كان يخفي إسلامه خوفا من قومه، وأخبرني أن أختي يعني أم جميل، واسمها فاطمة كما تقدم، وقيل زينب، وقيل آمنة قد صبئت: أي أسلمت وكذا زوجها وهو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهو ابن عمّ عمر، وكانت أخت سعيد عاتكة تحت عمر، فرجعت مغضبا، وقد كان رسول يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوّة يكونان معه يصيبان من طعامه وقد ضم إلى زوج أختي رجلين ممن أسلم: أي أحدهما خباب بن الأرث بالمثناة فوق، والآخر لم أقف على اسمه.
وفي السيرة الهشامية الاقتصار على خباب، وأنه كان يختلف إليهما ليعلمهما القرآن، فجئت حتى قرعت الباب، فقيل لي: من بالباب؟ قلت: ابن الخطاب، وكان القوم جلوسا يقرؤون صحيفة معهم، فلما سمعوا صوتي تبادروا: أي واستخفوا ونسوا الصحيفة، فقامت المرأة يعني أخته ففتحت لي فقلت لها يا عدوة نفسها قد بلغني أنك قد صبوت وضربتها بشيء كان في يدي فسال الدم، فلما رأت الدم بكت وقالت: يا ابن الخطاب ما كنت فاعلا فافعل فقد أسلمت، فدخلت وجلست على السرير، فنظرت فإذا بالصحيفة في ناحية من البيت، فقلت: ما هذا الكتاب؟ أعطينيه: أي فإن عمر كان كاتبا، فقالت: لا أعطيكه لست من أهله، أنت لا تغتسل من الجنابة ولا تتطهر، وهذا لا يمسه إلا المطهرون، فلم أزل حتى أعطتنيه: أي بعد أن اغتسل كما في بعض الروايات، وفي بعض الروايات قالت له: يا أخي إنك نجس على شركك فإنه لا يمسه إلا المطهرون، وقولها لا تغتسل من الجنابة، ربما يخالف قول بعضهم إن أهل الجاهلية كانوا يغتسلون من الجنابة، وكون عمر كان يخالفهم في ذلك من البعيد، وكون هذا منها يحمل على أنه لم يغتسل غسلا يعتدّ به يخالفه ما تقدم عن بعض الروايات أنه لما اغتسل دفعت له تلك الرقعة وفي لفظ قالت له: إنا نخشاك عليها، قال لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها، فدفعتها له، أي وطمعت في إسلامه، فإذا فيها (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال: فلما مررت على (بسم الله الرحمن الرحيم) ذعرت أي فزعت ورميت الصحيفة من يدي: ثم رجعت إلى نفسي فأخذتها، فإذا فيها {سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} فكلما مررت باسم من أسمائه «عَزَّ وجَلّ» ذعرت: أي فألقيها ثم ترجع إليّ نفسي فآخذها حتى بلغت{آمنوا بالله ورسوله} إلى قوله تعالى {إن كنتم مؤمنين} فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ﷺ فخرج القوم يتبادرون بالتكبير استبشارا بما سمعوا مني، وحمدوا الله «عَزَّ وجَلّ»، ثم قالوا: يا ابن الخطاب أبشر فإن رسول الله ﷺ وسلم دعا، فقال «اللهم أعزّ الإسلام» وفي لفظ «أيد الإسلام بأحد الرجلين، إما بأبي جهل بن هشام، وإما بعمر بن الخطاب» أي وفي لفظ «بأحب هذين الرجلين إليك أبي الحكم عمرو بن هشام يعني أبا جهل وعمر بن الخطاب» أي وفي غير ما رواية بعمر ابن الخطاب، من غير ذكر أبي جهل.
وعن عائشة «رضي الله ع» قالت: إنما قال «اللهم أعزّ عمر بالإسلام» لأن الإسلام يعزّ ولا يعزّ، ولعل قول عائشة ما ذكر نشأ عن اجتهاد منها، بدليل تعليلها واستبعادها أن يعزّ الإسلام بعمر فليتأمل. وكان دعاؤه بذلك يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس. قال عمر «رضي الله ع»: فلما عرفوا مني الصدق، قلت لهم أخبروني بمكان رسول الله، قالوا: هو في بيت بأسفل الصفا ووصفوه: أي وهي دار الأرقم فخرجت» وفي رواية «أن عمر قال: يا خباب انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ فقام خباب وابن عمه سعيد معه قال عمر: فلما قرعت الباب قيل من هذا؟ قلت: ابن الخطاب، فما اجترأ أحد أن يفتح لي الباب لما عرفوه من شدّتي على رسول الله، ولم يعلموا إسلامي، فقال رسول الله ﷺ: افتحوا له، فإن يرد الله به خيرا يهده». وفي لفظ يهديه باثبات الياء، وهي لغة «ففتحوا لي: أي والذي أذن في دخوله حمزة بن عبد المطلب «رضي الله ع»، فإن إسلام عمر كان بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام، وقيل بثلاثة أشهر. وكان إسلام عمر وهو ابن ست وعشرين سنة. قال: وأخذ رجلان بعضديّ حتى دنوت من النبي، فقال: أرسلوه، فأرسلوني، فجلست بين يديه فأخذ بمجامع قميصي فجذبني إليه ثم قال: أسلم يا ابن الخطاب، اللهم اهده، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعت، بطرف مكة ».
أي وفي الأوسط للطبراني، ورواه الحاكم بإسناد حسن عن ابن عمر «أن رسول الله، ضرب صدر عمر بيده حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول: اللهم أخرج ما في صدر عمر من غلّ وأبدله إيمانا» أي ولعل خبابا وسعيدا لم يدخلا معه وإلا لبشرا بإسلام عمر.
وفي رواية «لما ضرب الباب وسمعوا صوته قام رجل فنظر من خلل الباب فرآه متوشحا سيفه: أي ولم ير معه خبابا ولا سعيدا، فرجع إلى النبي ﷺ وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا سيفه، نعوذ بالله من شره، فقال حمزة بن عبد المطلب: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلنا له، وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه».
وفي لفظ أنه قال: «إن جاء بخير قبلناه، وإن جاء بشر قتلناه» وفي لفظ «إن يرد بعمر خير يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا، ثم قال رسول الله ﷺ: ائذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله ﷺ حتى لقيه في صحن الدار، فأخذ بحجزته وجذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فوالله ما أدري أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ».
وفي لفظ «أخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، وقال: ما أنت منته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة » أي أحد المستهزئين به كما تقدم، فقال «يا رسول الله جئت لأؤمن بالله ورسوله أشهد أنك رسول الله» وفي رواية «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فكبر رسول الله ﷺ تكبيرة عرفت» وفي رواية «سمعها أهل المسجد».
وفي رواية «لما جاء دفع الباب فوجد بلالا وراء الباب، فقال بلال: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقال: حتى استأذن لك على رسول الله، فقال بلال: يا رسول الله عمر بالباب، فقال رسول الله ﷺ: إن يرد الله به خيرا أدخله في الدين، فقال لبلال: افتح له، وأخذ رسول الله ﷺ بضبعه فهزه».
وفي رواية: «أخذ ساعده وانتهره؛ فارتعد عمر هيبة لرسول الله ﷺ وجلس» وفي لفظ «أخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك عمر أن وقع على ركبتيه، فقال: اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، ما الذي تريد وما الذي جئت له؟ فقال عمر: اعرض عليّ الذي تدعو إليه فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأسلم عمر مكانه».
أقول: ولا ينافي هذا ما تقدم من إسلامه وإتيانه بالشهادتين في بيت أخته قبل خروجه إليه: وقوله ولم يعلموا إسلامي، لأنه يجوز أن يكون مراده بقوله جئت لأومن جئت لأظهر إيماني عندك وعند أصحابك، وعند ذلك قال له رسول الله: «أسلم يا بن الخطاب» إلى آخره، وقوله للنبي: اعرض عليّ الذي تدعو إليه يجوز أن يكون عمر جوّز أن الذي يدعو إليه ويصير به المسلم مسلما أخص مما نطق به من الشهادتين، والله أعلم. قال عمر: وأحببت أن يظهر إسلامي وأن يصيبني ما يصيب من أسلم من الضرر والإهانة، فذهبت إلى خالي وكان شريفا في قريش وأعلمته أني صبوت: أي وهو أبو جهل.
وقد جاء في بعض الروايات، قال عمر: لما أسلمت تذكرت أيّ أهل مكة أشد لرسول الله ﷺ عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت، فذكرت أبا الجهل فجئت له فدققت عليه الباب، فقال: من بالباب؟ قلت عمر بن الخطاب، فخرج إليّ فقال: مرحبا وأهلا يا بن أختي، ما جاء بك؟ قلت جئت لأخبرك. وفي لفظ لأبشرك ببشارة، فقال أبو جهل: وما هي يا ابن أختي؟ فقلت: إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدّقت ما جاء به، فضرب الباب في وجهي: أي أغلقه، وهو بمعنى أجاف الباب كما في بعض الروايات وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به: أي وإنما كان أبو جهل خال عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، قيل لأن أم عمر أخت أبي جهل، وقيل لأن أم عمر بنت هشام بن المغيرة والد أبي جهل، فأبو جهل خال أم عمر وقيل إن أم عمر بنت عم أبي جهل وصححه ابن عبد البر، وعصبة الأم أخوال الابن. قال عمر: وجئت رجلا آخر من عظماء قريش وأعلمته أني صبوت فلم يصبني منها شيء، فقال لي رجل: تحب أن يعلم إسلامك؟ قلت نعم، قال: إذا جلس الناس يعني قريشا في الحجر واجتمعوا فائتِ فلانا لشخص كان لا يكتم السر وهو جميل بن معمر «رضي الله ع». أسلم يوم الفتح، وشهد مع النبي ﷺ حنينا، وكان يسمى ذا القلبين، وفيه نزلت {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} ومات في خلافة عمر «رضي الله ع»، وحزن عليه عمر حزنا شديدا، فقل له فيما بينك وبينه إني قد صبوت، قال فلما اجتمعت الناس في الحجر جئت الرجل فدنوت منه وأخبرته، فرفع صوته بأعلاه، فقال: ألا إن عمر بن الخطاب قد صبأ، فما زال الناس يضربوني وأضربهم، فقام خالي ـ يعني أبا جهل على الحجر فأشار بكمه وقال: ألا إني أجرت ابن أختي، فانكشف الناس عني، فصرت» أي بعد ذلك «أرى الواحد من المسلمين يضرب وأنا لا أضرب، فقلت: ما هذا بشيء حتى يصيبني ما يصيب المسلمين، فأمهلت حتى جلس الناس في الحجر وصلت إلى خالي وقلت له: جوارك عليك ردّ، فقال: لا تفعل يا بن أختي، فقلت: بل هو ذاك، فما زلت أضرب وأضرب حتى أعز الله الإسلام».
أي وفي السيرة الهشامية: بينما القوم يقاتلونه ويقاتلهم، إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم: أي وهو العاص بن وائل فقال: ويلكم ما شأنكم؟ قالوا صبأ عمر، قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب مسلمين لكم صاحبهم هكذا، خلوا عن الرجل، فانفرجوا عنه كأنهم ثوب كشط عنه.
أي وفي البخاري «لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا صبأ عمر، فبينا عمر في داره خائفاإذ جاءه العاص بن وائل، فقال له: مالك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت: أي إذ أسلمت، قال: أمنت لا سبيل إليك، فخرج العاص فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا عمر بن الخطاب الذي صبأ، قال: لا سبيل إليه فأنا له جار، فكسر الناس، وتصدعوا عنه» أي ويذكر «أن عتبة بن ربيعة وثب عليه فألقاه عمر إلى الأرض وبرك عليه وجعل يضربه وأدخل أصبعيه في عينيه، فجعل عتبة يصيح، وصار لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشراسيفه وهي أطراف أضلاعه».
وعن عمر «رضي الله ع» في سبب إسلامه، قال «خرجت أتعرّض لرسول الله ﷺ قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح بسورة الحاقة، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر كما قالت قريش، فقرأ {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون} قال: قلت كاهن علم ما في نفسي، فقرأ {ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع».
أي ومن ذلك ما في السيرة الهشامية عن عمر «رضي الله ع» «قال: جئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة، فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام» أي صخرة بيت المقدس «وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فكان مصلاه بين الركن الأسود والركن اليماني» أي لأنه لا يكون مستقبلا لبيت المقدس إلا حينئذٍ كما تقدم «قال: فقلت حين رأيته لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، قال: فقلت لئن دنوت منه أستمع لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها يعني الكعبة، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله ﷺ قائم يصلي فقرأ الرحمن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل قائما في مكاني ذلك حتى قضى رسول الله ﷺ صلاته ثم انصرف فتبعته، فلما سمع رسول الله ﷺ حسي عرفني وظن إنما تبعته لأوذيه فنهمني أي زجرني، ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة؟ قلت: جئت لأؤمن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله» وفي رواية «ضرب أختي المخاض ليلا، فخرجت من البيت فدخلت في أستار الكعبة، فجاء النبي ﷺ فدخل الحجر فصلى فيه ما شاء الله ثم انصرف، فسمعت شيئا لم أسمع مثله، فخرج فاتبعته، فقال: من هذا؟ قلت عمر، قال: يا عمر ما تدعني لا ليلا ولا نهارا، فخشيت أن يدعو عليّ، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: يا عمر أتسرّه. قلت: لا والذي بعثك بالحق لأعلننه كما أعلنت الشرك، فحمد الله تعالى، ثم قال: هداك الله يا عمر، ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت عن رسول الله ﷺ ودخل بيته».
أي ويحتاج للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها، ثم رأيت العلامة ابن حجر الهيتمي، قال: ويمكن الجمع بتعداد الواقعة قبل إسلامه، هذا كلامه فليتأمل ما فيه.
قال: ومن ذلك أي مما كان سببا لإسلام عمر «أن أبا جهل بن هشام، قال: يا معشر قريش إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفه أحلامكم، وزعم أن من مضى من أسلافكم يتهافتون في النار، ألا ومن قتل محمدا فله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء، وألف أوقية من فضة: أي وفي لفظ: جعلوا لمن يقتله كذا وكذا أوقية من الذهب، وكذا كذا أوقية من الفضة، وكذا كذا نافجة من المسك، وكذا كذا ثوبا وغير ذلك، فقال عمر: أنا لها، فقالوا له: أنت لها يا عمر وتعاهد معهم على ذلك، قال عمر: فخرجت متقلدا سيفي متنكبا كنانتي: أي جعلتها في منكبي أريد رسول الله. فمررت على عجل يذبح، فسمعت من جوفه صوتا يقول: يا آل ذريح، صائح يصيح، بلسان فصيح، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقلت في نفسي: إن هذا الأمر لا يراد به إلا أنت، وذريح اسم للعجل المذبوح، وقيل له ذلك من أجل الدم، لأن الذريح شديد الحمرة، يقال أحمر ذريحي: أي شديد الحمرة، ثم مر برجل أسلم وكان يكتم إسلامه خوفا من قومه، يقال له نعيم: أي ابن عبدالله النحام كما تقدم، فقال له: أين تذهب يا ابن الخطاب؟ فقال: أريد هذا الصابىء الذي فرّق أمر قريش وسفه أحلامها وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك: أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدا؟ فلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأي أهل بيتي؟ قال: ختنك أي زوج أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأختك قد أسلما فعليك، وإنما فعل ذلك نعيم ليصرفه عن أذية رسول الله، وقيل الذي لقيه سعد بن أبي وقاص، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمدا، قال له: أنت أصغر وأحقر من ذلك، تريد أن تقتل محمدا وتدعك بنو عبد مناف أن تمشي على الأرض، فقال له عمر: ما أراك إلا وقد صبأت فأبدأ بك فأقتلك، فقال سعد: أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله، فسلّ عمر سيفه وسلّ سعد سيفه وشد كل منهما على الآخر حتى كاد أن يختلطا، ثم قال سعد لعمر: مالك يا عمر لا تصنع هذا بختنك وأختك، فقال صبآ قال نعم، فتركه عمر وسار إلى منزل أخته» أي ولا مانع أن يكون لقي كلا من نعيم وسعد بن أبي وقاص وقال له كل منهما ما ذكر.
وفي هذه الرواية «وجد عندهم خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة طه يقرؤها عليهم، وإنه دق عليهم الباب، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب: أي وترك الصحيفة، فلما دخل قال لأخته: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالت له: ما سمعت شيئا غير حديث تحدثنا به بيننا، قال بلى والله لقد أخبرت أنكما ـ يخاطب أخته وزوجها ـ بايعتما محمدا على دينه، وبطش بزوج أخته فألقاه إلى الأرض وجلس على صدره وأخذ بلحيته، فقامت إليه أخته لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها: أي فلما رأت الدم قالت له: يا عدو الله أتضربني على أن أوحد الله تعالى؟ لقد أسلمت على رغم أنفك فاصنع ما أنت صانع، فلما رأى ما بأخته وما صنع بزوجها ندم وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة أنظر ما هذا الذي جاء به محمد؟ وكان عمر كاتبا، قالت: أخشاك عليها، فحلف ليردنها إذا قرأها إليها، فقالت له: ياأخي أنت نجس ولا يمسه إلا الطاهر، فقام واغتسل: أي وفي لفظ فذهب يغتسل، فخرج إليها خباب وقال: أتدفعين كتاب الله تعالى إلى عمر وهو كافر؟ قالت نعم، إني أرجو أن يهدي الله أخي، ورجع خباب إلى محله ودخل عمر، فأعطته تلك الصحيفة ؛ فلما قرأها عمر وبلغ {فلا يصدّنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله»ا هـ أي وفي رواية «أنه لما قرأ الصحيفة قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه: أي وقيل إنه لما انتهى إلى قوله تعالى {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} قال: ينبغي لمن يقول هذا أن لا يعبد معه غيره، فلما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال: يا عمر إني لأرجو أن يكون الله تعالى قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله يا عمر، فقال له عند ذلك: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم: أي عنده وعند أصحابه، فلا ينافي ما في الرواية الأولى أنه أسلم، فقال له خباب هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه؛ فعمد إلى رسول الله » الحديث.
أقول: ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين حيث كانت القصة واحدة ولم تتعدد؛ بأنه يجوز أن يكون زوج أخته استخفى أولا مع خباب ورفيقه ثم ظهر فأوقع به وبأخته ما ذكر، وأنه في الرواية الأولى اقتصر على ذكر أخته والصحيفة تعددت، واحدة فيها {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} والثانية فيها طه، اقتصر في الرواية الأولى على إحداهما وهي التي فيها {سبح الله} وفي الرواية الثانية على الأخرى التي فيها (طه) وإنه في الرواية الأولى أسلم، وفي الرواية الثانية سكت عن ذلك، والله أعلم.
وعن ابن عباس أيضا «رضي الله ع»: لما أسلم عمر «رضي الله ع» قال المشركون: لقد انتصف القوم منا.
وعن ابن عباس أيضا «رضي الله ع» «لما أسلم عمر «رضي الله ع» نزل جبريل "عليه الصلاة والسلام على النبي ﷺ فقال: «يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر».
قال: وروى البخاري عن ابن مسعود «رضي الله ع» «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر» ا هـ وزاد بعضهم عن ابن مسعود: والله لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة أي عندها ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر، فقاتلهم حتى تركونا، فصلينا: أي وجهروا بالقراءة وكانوا قبل ذلك لا يقرؤون إلا سرا كما تقدم. وعن صهيب: لما أسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا.
وفي كلام ابن الأثير: مكث مستخفيا في دار الأرقم ومن معه من المسلمين إلى أن كملوا أربعين بعمر بن الخطاب، وعند ذلك خرجوا، وتقدم ما في ذلك.
ومما يؤثر عن عمر «رضي الله ع»: من اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه. السيد هو الجواد حين يسأل، الحليم حين يستجهل. أشقى الولاة من شقيت به رعيته. أعدل الناس أعذرهم للناس.
وفي مختصر تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيتمي أن عمر أول من قال: أطال الله تعالى بقاءك، وأيدك الله، قال ذلك لعلي «رضي الله ع». وهو أول من استقضى القضاء في الأمصار.
ويروى أن الأرقم هذا لما كان بالمدينة بعد الهجرة تجهز ليذهب فيصلي في بيت المقدس فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبي ﷺ يودعه فقال له: ما يخرجك؟ أي من المدينة حاجة أم تجارة ؛ قال: لا يا رسول الله بأبي أنت وأمي، ولكن أريد الصلاة في بيت المقدس، فقال رسول الله «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» فجلس الأرقم ولم يذهب لبيت المقدس.
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يصلي عليه سعد بن أبي وقاص، فلما مات كان سعد بالعقيق، فقال مروان: يحبس صاحب رسول الله ﷺ لرجل غائب وأراد الصلاة عليه فأبى ولده ذلك على مروان، ووقع بينهم كلام؛ ثم جاء سعد وصلى على الأرقم.
أي وقيل لعمر «رضي الله ع»: ما سبب تسمية النبي ﷺ لك بالفاروق؟ قال: لما أسلمت والنبي ﷺ وأصحابه مختفون قلت يا رسول الله ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال بلى، والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم، فقلت: ففيم الاختفاء، والذي بعثك بالحق ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإسلام غير هائب ولا خائف، والذي بعثك بالحق لنخرجن، فخرجنا في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر، له: أي لذلك الجمع كديد ككديد الطحين أي لذلك الجمع غبار ثائر من الأرض لشدة وطء الأقدام، لأن الكديد التراب الناعم إذا وطىء ثار غباره قال: حتى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليّ وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها: أي فطاف بالبيت وصلى الظهر معلنا ثم رجع ومن معه إلى دار الأرقم، فسماني رسول الله ﷺ يومئذٍ الفاروق، فرق الله بي بين الحق والباطل.
أي وفي رواية «أنه خرج في صفين: حمزة في أحدهما. وعمر في الآخر، لهم كديد ككديد الطحين».
وفي رواية: أن عمر «رضي الله ع» قال له يا رسول الله لا ينبغي أن تكتم هذا الدين، أظهر دينك، وفي رواية «والله لا يعبد الله سرا بعد اليوم، فخرج رسول الله ﷺ ومعه المسلمون وعمر أمامهم، معه سيفه ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى دخل المسجد، ثم صاح مسمعا لقريش: كل من تحرك منكم لأمكنن سيفي منه، ثم تقدم أمام رسول الله ﷺ وهو يطوف والمسلمون، ثم صلوا حول الكعبة، وقرؤوا القرآن جهرا، وكانوا كما تقدم لا يقدرون على الصلاة عند الكعبة ولا يجهرون بالقرآن».
وفي المنتقي على ما نقله بعضهم «فخرج رسول الله ﷺ وعمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب «رضي الله ع»، حتى طاف بالبيت وصلى الظهر معلنا، ثم انصرف رسول الله ﷺ إلى دار الأرقم».
وفيه أن صلاة الظهر لم تكن فرضت حينئذٍ، إلا أن يقال المراد بصلاة الظهر الصلاة التي وقعت في ذلك الوقت: أي ولعل المراد بها صلاة الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة صلاهما في وقت الظهر.
وعن عمر «رضي الله ع» «وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، واجتمع على رسول الله ﷺ نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت، أي وقد قال له بعض نسائه: يا عمر أما في رسول الله ﷺ ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ » ومنع «رضي الله ع» رسول الله ﷺ أن يصلي على عبدالله بن أبي بن سلول.
وفي البخاري «لما توفي عبدالله بن أبي جاء ولده عبدالله «رضي الله ع» إلى رسول الله، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه» وهذا لا يخالف ما في تفسير القاضي البيضاوي، من أن ابن أبيّ دعا رسول الله ﷺ في مرضه، فلما دخل عليه، فسأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده الشريف ويصلي عليه، فلما مات أرسل له قميصه ليكفن فيه، لأنه يجوز أن يكون إرساله للقميص بسؤال ولده له بعد موت أبيه.
قال في الكشاف: فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه.
قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له؛ وذلك أن العباس عم رسول الله ﷺ لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا، وكان رجلا طوالا، فكساه عبدالله قميصه: أي ولأن الضنة بإرساله القميص سيما وقد سئل فيه مخلّ بالكرم، وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد ولكن نأذن لك، فقال: لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فشكر رسول الله ﷺ له ذلك وإكراما لابنه.
وفي هذا تصريح بأن ابن أبيّ كان مع المسلمين في بدر وفي الحديبية. ثم إن ابنه سأل رسول الله ﷺ أن يصلي عليه، فقال له: أسألك أن تقوم على قبره لا تشمت به الأعداء: أي وذلك بعد سؤال ولده له في ذلك كما تقدم عن القاضي البيضاوي، فقام رسول الله ﷺ ليصلي عليه، فقام عمر «رضي الله ع»، فأخذ بثوب رسول الله ﷺ وقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله ﷺ: إنما خيرت، فقال {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} وسأزيده على السبعين، وفي رواية: أتصلي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ أعدّ عليه قوله، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: أخر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، فصلى عليه رسول الله، فأنزل الله تعالى {ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} إلى قوله {وهم فاسقون} ولينظر ما معنى التخيير في الآية، وما الجمع بين قوله «سأزيد على السبعين» وقوله «ولو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها»؟ .
ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في وجه التخيير: وقوله سأزيد على السبعين إنه فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل، فجوّز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه، فبين له: أي الحق سبحانه أن المراد به التكثير بقوله في الآية الأخرى{سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم} هذا كلامه وحينئذٍ يشكل قوله «لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» فإن هذا مقتض لعدم الصلاة عليه، لا للصلاة عليه فليتأمل، وقد قال علي «رضي الله ع»: إن في القرآن لقرآنا من رأي عمر، وما قال الناس في شيء وقال فيه عمر إلا جاء القرآن بنحو ما يقول عمر.
وقد أوصل بعضهم موافقاته: أي الذي نزل القرآن على وفق ما قال وما أراد إلى أكثر من عشرين: أي وقد أفردها بعضهم بالتأليف، وقد سئل عنها الجلال السيوطي فأجاب عنها نظما.
قال عبدالله بن عمر «رضي الله ع»: ما نزل بالناس أمر، فقال الناس وقال عمر إلا نزل القرآن على نحو ما قال عمر.
وعن مجاهد: كان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن. وقد قال «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» ومن موافقاته ما سيأتي في أسارى بدر.
ومنها أنه لما سمع قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الآية، قال {فتبارك الله أحسن الخالقين} فنزلت كذلك.
ومنها أن بعض اليهود قال له إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدوّ لنا، فقال {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين} فنزلت كذلك «واستأذن «رضي الله ع» النبي ﷺ في العمرة فأذن له وقال: يا أخي لا تنسنا من دعائك» أي وفي رواية «يا أخي أشركنا في صالح دعائك ولا تنسنا، قال عمر ما أحب أن لي بقوله: يا أخي ما طلعت عليه الشمس» وجاء «أول من يصافحه الحق عمر بن الخطاب، وأول من يسلم عليه» وجاء «إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به» وجاء «لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب» وممن نزل القرآن على وفق ما قال مصعب بن عمير أيضا «رضي الله ع»، كان اللواء بيده يوم أحد وسمع الصوت أن محمدا قد قتل، فصار يقول {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} فنزلت.
باب اجتماع المشركين على منابذة بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف وكتابة الصحيفة
قد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله ﷺ وقالوا: قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحونا وتريحون أنفسكم، فأبى قومه، فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بني هاشم وبني المطلب، واخراجهم من مكة إلى شعب أبي طالب.
فيه تصريح بأن شعب أبي طالب كان خارجا عن مكة، والتضييق عليهم بمنع حضور الأسواق، وأن لا ينكاحوهم، وأن لا يقبلوا لهم صلحا أبدا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله ﷺ للقتل: أي وفي لفظ: لا تنكحوهم، ولا تنكحوا إليهم، ولا تبيعوهم شيئا، ولا تبتاعوا منهم شيئا، ولا تقبلوا منهم صلحا الحديث، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة: أي توكيدا على أنفسهم. وقيل كانت عند خالة أبي جهل.
وقد يجمع بأنه يجوز أن تكون كانت عندها قبل أن تعلق في الكعبة على أنه سيأتي أنه يجوز أن الصحيفة تعددت، وكان اجتماعهم وتخالفهم في خيف بني كنانة بالأبطح ويسمى محصبا، وهو بأعلى مكة عند المقابر، فدخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم الشعب إلا أبا لهب فإنه ظاهر عليهم قريشا، وكان سنه حين دخل الشعب ستة وأربعين سنة. وفي الصحيح «أنهم في الشعب جهدوا كانوا يأكلون الخَبَطَ وورق الشجر».
وفي كلام السهيلي: كانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته، فيقوم أبو لهب فيقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع، وليس في يده شيء يعللهم به، فيغدو التجار على أبي لهب فيربحهم، هذا كلامه.
ولا منافاة بين خروج أحدهم السوق إذا جاءت العير بالميرة إلى مكة، وكونهم منعوا من الأسواق والمبايعة لهم كما لا يخفى.
وكان دخولهم الشعب هلال المحرم سنة سبع من النبوة، وحينئذٍ أمر رسول الله ﷺ من كان بمكة من المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة.
أقول: وفي رواية «أن خروج بني هاشم وبني المطلب إلى الشعب لم يكن اخراج قريش لهم، وإنما خرجوا إليه لأن قريشا لما قدم عليهم عمرو بن العاص من عند النجاشي خائبا، وردت معه هديتهم، وفقد صاحبه الذي هو عمارة بن الوليد، وبلغهم اكرام النجاشي لجعفر ومن معه من المسلمين: أي كما سيأتي، وظهور الإسلام في القبائل، كبر ذلك عليهم، واشتد أذاهم على المسلمين، واجتمع رأيهم على أن يقتلوا النبي ﷺ علانية، فلما رأى أبو طالب ذلك جمع بني هاشم والمطلب مؤمنهم وكافرهم، وأمرهم أن يدخلوا برسول الله "عليه الصلاة والسلام الشعب ويمنعوه ففعلوا، فبنو هاشم وبنو المطلب كانوا شيئا واحدا، لم يفترقوا حتى دخلوا معهم في الشعب، انخذل عنهم بنو عميهم عبد شمس ونوفل، ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ** عقوبة شر عاجلا غير آجل
وقال في قصيدة أخرى:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا ** وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
فلما علمت قريش ذلك، أجمع رأيهم على أن يكتبوا عهودا ومواثيق، على أن لا يجالسوهم» الحديث.
وفيه أنه سيأتي أن خروج عمرو بن العاص إلى الحبشة إنما كان بعد الهجرة الثانية، وهي بعد دخول بني هاشم والمطلب إلى الشعب، والله أعلم.
باب الهجرة الثانية إلى الحبشة
لا يخفى أنه لما وقع ما ذكر انطلق إلى الحبشة عامة من آمن بالله ورسوله: أي غالبهم، فكانوا عند النجاشي ثلاثة وثمانين رجلا وثماني عشرة امرأة، وهذا بناء على أن عمار بن ياسر كان منهم. وقد اختلف في ذلك، وكلام الأصل يميل إلى ذلك، وكان من الرجال جعفر ابن أبي طالب ومعه زوجته أسماء بنت عميس، والمقداد بن الأسود، وعبدالله بن مسعود وعبيدالله بالتصغير بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فتنصر هناك ثم مات على النصرانية: أي وبقيت أم حبيبة «رضي الله ع» على إسلامها، وتزوجها رسول الله ﷺ كما سيأتي.
وعن أم حبيبة «رضي الله ع» قالت «رأيت في المنام كأن عبيدالله بن جحش زوجي بأسوأ حال وتغيرت صورته، فإذا هو يقول حين أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في هذا الدين فلم أر دينا خيرا من دين النصرانية، وقد كنت دنت بها ثم دخلت في دين محمد ثم خرجت إلى دين النصرانية، قالت: فقلت والله ما خير لك، وأخبرته بما رأيته له فلم يحفل بذلك وأكب على الخمر يشربه حتى مات، فرأيت في المنام كأنّ آتيا يقول لي: يا أم المؤمنين ففزعت وأولتها بأن رسول الله ﷺ يتزوجني، فكان كذلك.
أي وذكر ابن إسحاق أن أبا موسى الأشعري هاجر إلى الحبشة، ومراده أنه هاجر إليها من اليمن لا من مكة كما فهم الواقدي، فاعترض عليه في ذلك. فعن أبي موسى «أنه بلغه مخرج رسول الله ﷺ وهو باليمن، فخرج هو ونحو خمسين رجلا في سفينة مهاجرين إليه، فألقتهم السفينة إلى النجاشي بالحبشة، فوجدوا جعفرا وأصحابه، فأمرهم جعفر بالإقامة، واستمروا كذلك حتى قدموا عليه هم وجعفر عند فتح خيبر كما سيأتي.
وبهذا يندفع قول بعضهم: ما ذكره ابن إسحاق من أن أبا موسى الأشعري هاجر من مكة إلى الحبشة من الغريب جدا، ولعله مدرج من بعض الرواة، فأقاموا بخير دار عند خير جار، فبعثت قريش خلفهم عمرو بن العاص ومعه عمارة بن الوليد بن المغيرة التي أرادت قريش دفعه لأبي طالب ليكون بدلا عن النبي ﷺ إذا قتلوه بهدية إلى النجاشي والهدية فرس وجبة ديباج: أي وأهدوا لعظماء الحبشة هدايا ليرد من جاء إليه من المسلمين، فلما دخلا عليه سجدا له وقعد واحد من يمينه والآخر عن شماله.
وفي كلام بعضهم: فأجلس عمرو بن العاص على سريره وقبل هديتهما، فقالا: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن آلهتنا: أي ولم يدخلوا في دينكم، بل جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قريش لتردوهم إليهم قال: وأين هم؟ قالوا بأرضك، فأرسل في طلبهم: أي وقال له عظماء الحبشة: ادفعهم إليهما فهما أعرف بحالهم، فقال: لا والله حتى أعلم على أي شيء هم؟ فقال عمرو: هم لا يسجدون للملك: أي وفي لفظ لا يخرون لك ولا يحيونك بما يحييك الناس إذا دخلوا عليك رغبة عن سنتكم ودينكم، فلما جاؤوا قال لهم جعفر «رضي الله ع»: أنا خطيبكم اليوم: أي فإنه لما جاءهم رسول النجاشي يطلبهم اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه. قال جعفر ما ذكر، وقال: إنما نقول ما علمنا وما أمرنا به رسول الله، ودع يكون ما يكون، وقد كان النجاشي دعا أساقفته وأمرهم بنشر مصاحفهم حوله، فلما جاء جعفر وأصحابه صاح جعفر، وقال: جعفر بالباب يستأذن ومعه حزب الله، فقال النجاشي: نعم يدخل بأمان الله وذمته، فدخل عليه ودخلوا خلفه فسلم، فقال له الملك: مالك لا تسجد؟ .
وفي لفظ: إن عمرا قال لعمارة: ألا ترى كيف يكتنون بحزب الله وما أجابهم به، وإن عمرا قال للنجاشي: ألا ترى أيها الملك أنهم مستكبرون لم يحيوك بتحيتك، فقال النجاشي: ما منعكم أن لا تسجدوا وتحيوني بتحيتي التي أحيى بها، فقال جعفر: إنا لا نسجد إلا لله «عَزَّ وجَلّ»، قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الله تعالى أرسل فينا رسول، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله «عَزَّ وجَلّ»، وأخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام فحييناك بالذي يحيي به بعضنا بعضا: أي وعرف النجاشي ذلك، لأنه كذلك في الإنجيل كما قيل: أي وأمرنا بالصلاة أي غير الخمس، لأنها لم تكن فرضت، بل التي هي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي: أي ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان قبل غروبها على ما تقدم. والزكاة: أي مطلق الصدقة، لا زكاة المال لأنها إنما فرضت بالمدينة أي في السنة الثانية، ومراده بالزكاة الطهارة، قال عمرو بن العاص للنجاشي: فإنهم يخالفونك في ابن مريم، ولا يقولون إنه ابن الله «عَزَّ وجَلّ» وعلا. قال: فما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قال: نقول كما قال الله «عَزَّ وجَلّ»: روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء: أي البكر البتول: أي المنقطعة عن الأزواج، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها أي يشقها. ويخرج منها ولد: أي غير عيسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فقال النجاشي: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما يزيدون على ما تقولون؛ أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل: أي ومعنى كونه روح الله أنه حاصل عن نفخة روح القدس الذي هو جبريل، ومعنى كونه كلمة الله تعالى أنه قال له كن فكان: أي حصل في حال القول.
وفي لفظ أن النجاشي قال لمن عنده من القسيسين والرهبان: أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ أي صفته ما ذكر هؤلاء؛ فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى، فقال: من آمن به فقد آمن بي، ومن كفر به فقد كفر بي؛ فعند ذلك قال النجاشي: والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعله وأوضئه: أي أغسل يديه، وقال للمسلمين: أنزلوا حيث شئتم سيوم بأرضي: أي آمنون بها، وأمر لهم بما يصلحهم من الرزق، وقال: من نظر إلى هؤلاء الرهط نظرة تؤذيهم فقد عصاني.
وفي لفظ، ثم قال: اذهبوا فأنتم آمنون، من سبكم غرم، قالها ثلاثا: أي أربع دراهم وضعفها كما جاء في بعض الروايات، وأمر بهدية عمرو ورفيقه فردت عليهما.
وفي لفظ، أن النجاشي قال: ما أحب أن يكون لي ديرا من ذهب: أي جبلا وأن أوذي رجلا منكم، ردوا عليهم هداياهم فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين رد عليّ ملكي فآخذ الرشوة، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
وكان النجاشي أعلم النصاري بما أنزل على عيسى، وكان قيصر يرسل إليه علماء النصارى لتأخذ عنه العلم.
أي وقد بينت عائشة «رضي الله ع» السبب في قول النجاشي: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي. وهو أن والد النجاشي كان ملكا للحبشة فقتلوه وولوا أخاه الذي هو عم النجاشي، فنشأ النجاشي في حجر عمه لبيبا حازما، وكان لعمه اثنا عشر ولدا لا يصلح واحد منهم للملك، فلما رأت الحبشة نجابة النجاشي خافوا أن يتولى عليهم فيقتلهم بقتلهم لأبيه، فمشوا لعمه في قتله، فأبى وأخرجه وباعه، ثم لما كان عشاء تلك الليلة مرت على عمه صاعقة فمات، فلما رأت الحبشة أن لا يصلح أمرها إلا النجاشي ذهبوا وجاؤوا به من عند الذي اشتراه، وعقدوا له التاج، وملكوه عليهم، فسار فيهم سيرة حسنة.
وفي رواية: ما يقتضى أن الذي اشتراه رجل من العرب، وأنه ذهب به إلى بلاده ومكث عنده مدة، ثم لما مرج أمر الحبشة وضاق عليهم ما هم فيه خرجوا في طلبه وأتوا به من عند سيده، ويدل لذلك ما سيأتي عنه أنه عند وقعة بدر أرسل خلف من عنده من المسلمين فدخلوا عليه، فإذا هو قد لبس مسحا وقعد على التراب والرماد، فقالوا له: ما هذا أيها الملك؟ فقال: إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا، وإن الله تعالى قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة، وهي أن محمدا التقى هو وأعداؤه بواد يقال له بدر كثير الأراك، كنت أرعى فيه الغنم لسيدي، وهو من بني ضمرة، وإن الله تعالى قد هزم أعداءه فيه، ونصر دينه.
وذكر السهيلي أن بكاءه عندما تليت عليه (سورة مريم) أي كما سيأتي حتى أخضل لحيته، يدل على طول مكثه ببلاد العرب حتى تعلم من لسان العرب ما فهم به تلك السورة.
قال: وعن جعفر بن أبي طالب «رضي الله ع»: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا خير جار وأمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية: أي هيئوا له هدية ؛ ولا يخالف ما تقدم من أن الهدية كانت فرسا وجبة ديباج، لأنه يجوز أن يكون بعض الأدم ضم إلى تلك الفرس والجبة للملك، وبقية الأدم فرق على أتباعه ليعاونوهما على ما جاء بصدده، والاقتصار على الفرس والجبة في الرواية السابقة لأن ذلك خاص بالملك. ثم بعثوا عمارة بن الوليد وعمرو ابن العاص يطلبان من النجاشي أن يسلمنا لهم: أي قبل أن يكلمنا، وحسن له بطارقته ذلك، لأنهما لما أوصلا هداياهم إليهم قالوا لهم: إذا نحن كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم لنا قبل أن يكلمهم: أي موافقة لما وصت عليه قريش.
فقد ذكر أنهم قالوا لهما: ادفعوا لكل بطريق هدية قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما للنجاشي هداياه، ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، فلما جاءا إلى الملك قالا له: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء؛ فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت: أي جاءهم به رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتبعه منا إلا السفهاء، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم؛ فهم أعلم بما عابوا عليهم، فقال بطارقته: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلم بهم فأسلمهم لهما ليرداهم إلى بلادهم وقومهم، فغضب النجاشي وقال: لاها الله، أي لا والله لا أسلمهم، ولا يكاد قوم يجاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كان كما يقولان سلمتهم إليهما، وإلا منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني، ثم أرسل لنا ودعانا، فلما دخلنا سلمنا، فقال من حضره: ما لكم لا تسجدون للملك؟ قلنا، لا نسجد إلا الله «عَزَّ وجَلّ»ّ، فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من الملل، فقلنا: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، وذلك الرسول منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى لنوحده ونعبده، ونخلع: أي نترك ما كان يعبد آباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد الله تعالى وحده، وأمرنا بالصلاة، أي ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، والزكاة، أي مطلق الصدقة، والصيام أي ثلاثة أيام من كل شهر: أي وهي البيض أو أي ثلاثة على الخلاف في ذلك. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم
والدماء؛ أي ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا ليردونا إلى عبادة الأصنام واستحلال الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحاولوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورجوناك أن لا نظلم عندك يا أيها الملك، فقال النجاشي لجعفر: هل عندك مما جاء به شيء؟ قلت نعم. قال: فاقرأه عليّ، فقرأت عليه صدرا من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى أخضل، أي بل لحيته وبكت أساقفته، وفي لفظ: هل عندك مما جاء به عن الله تعالى شيء؟ فقال جعفر نعم، قال: فاقرأه عليّ، قال البغوي: فقرأ عليه (سورة العنكبوت والروم) ففاضت عيناه وأعين أصحابه بالدمع، وقالوا: زدنا يا جفعر من هذا الحديث الطيب، فقرأ عليهم (سورة الكهف) فقال النجاشي: هذا والله الذي جاء به موسى: أي وفي رواية: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، أي وهذا كما قيل يدل على أن عيسى كان مقررا لما جاء به موسى، وفي رواية بدل موسى عيسى، ويؤيد، ما في لفظ أنه قال: ما زاد هذا على ما في الإنجيل إلا هذا العود لعود كان في يده أخذه من الأرض.
وفي لفظ أن جعفرا قال للنجاشي: سلهما أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال عمر: بل أحرار، فقال جعفر: سلهما هل أهرقنا دماء بغير حق فيقتص منا؟ هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟ فقال عمرو: لا، فقال النجاشي لعمرو وعمارة: هل لكما عليهما دين؟ قالا: لا، قال: انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا، زاد في رواية: ولو أعطيتموني ديرا من ذهب أي جبلا من ذهب، ثم غدا عمرو إلى النجاشي: أي أتى إليه في غد ذلك اليوم وقال له: إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما: أي يقولون إنه عبد الله أي وإنه ليس ابن الله.
أي وفي لفظ أن عمرا قال للنجاشي: أيها الملك إنهم يشتمون عيسى وأمه في كتابهم فاسألهم، فذكر له جعفر ما تقدم في الرواية الأولى.
هذا، وعن عروة بن الزبير: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان، وهو حصر عجيب فليتأمل.
وروى الطبراني عن أبي موسى الأشعري بسند فيه رجال الصحيح «أن عمرو بن العاص مكر بعمارة بن الوليد: أي للعداوة التي وقعت بينه وبينه في سفرهما: أي من أن عمرو بن العاص كان معه زوجته وكان قصيرا دميما، وكان عمارة رجلا جميلا فتن امرأة عمرو وهوته، فنزل هو وإياه في السفينة، فقال له عمارة: مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحيي، فأخذ عمارة عمرا ورمى به في البحر، فجعل عمرو يصيح وينادي أصحاب السفينة، ويناشد عمارة حتى أدخله السفينة وأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبلي ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه، فلما أتيا أرض الحبشة مكر به عمرو، فقال: أنت رجل جميل والنساء يحببن الجمال، فتعرض لزوجة النجاشي لعلها أن تشفع لنا عنده، ففعل عمارة ذلك وتكرر تردده عليها حتى أهدت إليه من عطرها: أي ودخل عندها، فلما رأى عمرو ذلك أتى النجاشي وأخبره بذلك: أي فقال له: إن صاحبي هذا صاحب نساء، وإنه يريد أهلك وهو عندها الآن، فاعلم علم ذلك، فبعث النجاشي، فإذا عمارة عند امرأته، فقال: لولا أنه جاري لقتلته؛ ولكن سأفعل به ما هو شر من القتل، فدعا بساحر فنفخ في إحليله نفخة، طار منها هائما على وجهه مسلوب العقل حتى لحق بالوحوش في الجبال إلى أن مات على تلك الحال ا هـ.
أي ومن شعر عمرو بن العاص يخاطب به عمارة بن الوليد:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ** ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
قضى وطرا منه وغادر سبة ** إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
ولا زال عمارة مع الوحوش إلى أن كان موته في خلافة عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، وإن بعض الصحابة وهو ابن عمه عبدالله بن أبي ربيعة في زمن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» قد استأذنه في المسير إليه لعله يجده، فأذن له عمر «رضي الله ع» فسار عبدالله إلى أرض الحبشة، وأكثر النشدة عنه والفحص عن أمره، حتى أخبر أنه في جبل، يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا صدرت، فجاء إليه ومسكه، فجعل يقول له: أرسلني وإلا أموت الساعة، فلم يرسله فمات من ساعته، وسيأتي بعد غزوة بدر أنهم أرسلوا للنجاشي عمرو بن العاص أيضا وعبدالله بن أبي ربيعة.
هذا وكان اسمه قبل أن يسلم بجيرا، فلما أسلم سماه رسول الله ﷺ عبدالله، وأبوه ربيعة الذي هو أبو عبدالله، كان يقال له ذو الرمحين، وأم عبدالله هي أم أبي جهل بن هشام، فهو أخو أبي جهل لأمه أرسلوهما إليه ليدفع لهما من عنده من المسلمين ليقتلوهم فيمن قتل ببدر.
ومن العجب أن صاحب المواهب ذكر أن إرسال قريش لعمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ومعهما عمارة بن الوليد في الهجرة الأولى للحبشة، وإنما كان عمرو وعمارة في الهجرة الثانية، وابن أبي ربيعة إنما كان مع عمرو بعد بدر كما علمت، وإن كان يمكن أن يكون عبدالله بن أبي ربيعة أرسلته قريش مرتين إلا أنه بعيد.
ويرده قول بعضهم: إن قريشا أرسلت في أمر من هاجر إلى الحبشة مرتين: الأولى أرسلت عمرو بن العاص وعمارة. والثانية أرسلت عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة فليتأمل.
ومكث بنو هاشم في الشعب ثلاث سنين. وقيل سنتين في أشد ما يكون في البلاء وضيق العيش، وولد عبدالله بن عباس في الشعب، فمن قريش من سره ذلك، ومنهم من ساءه وقالوا: انظروا ما أصاب كاتب الصحيفة: أي من شلل يده كما تقدم؛ وصار لا يقدر أحد أن يوصل إليهم طعاما ولا أدما حتى أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام ومعه غلام يحمل قمحا يريد عمته خديجة زوج النبي ﷺ وهي معه في الشعب؛ فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم، والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فقال له أبو البختري بن هشام: مالك وماله؟ فقال أبو جهل: إنما يحمل الطعام لبني هاشم، فقال أبو البختري: طعام كان لعمته عنده أفتمنعه أن يأتيها؟ خل سبيل الرجل، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير: أي العظم الذي تنبت عليه الأسنان فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا. وأبو البحتري ـ بالحاء المهملة ـ وفي مختصر أسد الغابة ـ بالخاء المعجمة ـ ممن قتل ببدر كافرا؛ وحتى إن هاشم بن عمرو بن الحارث العامري «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك ـ أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أجمال طعاما، فعملت بذلك قريش، فمشوا إليه حين أصبح وكلموه في ذلك، فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم؛ ثم أدخل عليهم ثانيا جملا وقيل جملين، فعلمت به قريش فغالظته: أي أغلظت له القول وهمت به، فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه يصل رحمه، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا، وكان أبو طالب في كل ليلة يأمر رسول الله ﷺ أن يأتي فراشه ويضجع به، فإذا نام الناس أقامه وأمر أحد بنيه أو غيرهم أي من اخوته أو بني عمه أن يضطجع مكانه خوفا عليه أن يغتاله أحد ممن يريد به السوء: أي وفي الشعب ولد عبدالله بن عباس «رضي الله ع»، ثم أطلع الله رسوله على أن الأرضة: أي وهي سوسة تأكل الخشب إذا مضى عليها سنة نبت لها جناحان تطير بهما، وهي التي دلت الجن على موت سليمان؛ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أكلت ما في الصحيفة من ميثاق وعهد: أي الألفاظ المتضمنة للظلم وقطيعة الرحم؛ ولم تدع فيها اسما لله تعالى إلا أثبتته فيها. وفي رواية ولم تترك الأرضة في الصحيفة اسما لله «عَزَّ وجَلّ» إلا لحسته، وبقي ما فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، أي والرواية الأولى أثبت من الثانية.
قال: وجمع بين الروايتين بأنهم كتبوا نسخا فأكلت الأرضة من بعض النسخ اسم الله تعالى، وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم الله تعالى، لئلا يجتمع اسم الله تعالى مع ظلمهم انتهى، أي والتي علقت في الكعبة هي التي لحست تلك الدابة ما فيها من اسم الله تعالى، كما يدل عليه ما يأتي، فذكر ذلك لعمه أبي طالب، فقال له عمه: والثواقب أي النجوم، لأنها تثقب الشياطين، وقيل التي تضيء لأنها تثقب الظلام بضوئها، وقيل الثريا خاصة لأنها أشد النجوم ضوءا ـ ما كذبتني قط: أي ما حدثتني كذبا. وفي رواية أنه قال له: أربك أخبرك بهذا الخبر؟ قال نعم، فانطلق في عصابة: أي جماعة من قومه أي من بني هاشم وبني المطلب.
أي وفي رواية أن أبا طالب لما ذكر لأهله قالوا له: فما ترى؟ قال: أرى أن تلبسوا أحسن ثيابكم، وتخرجوا إلى قريش، فتذكروا ذلك لهم قبل أن يبلغهم الخبر، فخرجوا حتى أتوا المسجد على خوف من قريش، فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول الله ﷺ للقتل، فتكلم معهم أبو طالب، وقال: جرت أمور بيننا وبينكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح: أي مخرج يكون سببا للصلح، وإنما قال أبو طالب ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها: أي فلا يأتون بها، فأتوا بصحيفتهم لا يشكون أن رسول الله ﷺ يدفع إليهم: أي لأنه الذي وقعت عليه العهود والمواثيق، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب: أي توبيخا له ولمن معه: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم، فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر نصف بيننا وبينكم: أي أمر وسط لا حيف فيه علينا ولا عليكم، إن ابن أخي أخبرني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث الله تعالى عليها دابة لم تترك فيها اسما من أسماء الله تعالى إلا لحسته وتركت فيها غدركم وتظاهركم علينا بالظلم.
أقول: هذه على الرواية الثانية، وأما على الرواية الأولى التي هي أثبت فيكون قوله لم تترك اسما إلا أثبتته ولحست مواثيقكم وعهدكم.
ثم رأيت ابن الجوزي ذكر ذلك، فقال: إن أبا طالب قال: إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني قط أن الله تعالى قد سلط على صحيفتكم التي كتبتم الأرضة، فلحست كل ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كل ما ذكر به الله تعالى.
وفي الينبوع أن أبا طالب قال لما حضرت الصحيفة: إن صحيفتكم هذه صحيفة إثم وقطيعة رحم، وإن ابن أخي أخبرني أن الله تعالى سلط عليها الأرضة، فلم تدع ما كتبتم إلا باسمك اللهم، والله أعلم. قال أبو طالب: فإن كان الحديث كما يقول، فأفيقوا: أي وفي رواية نزعتم: أي رجعتم عن سوء رأيكم: أي وإن لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم، فقالوا: قد رضينا بالذي تقول: أي وفي رواية أنصفتنا، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الأمر كما أخبر به الصادق المصدوق، فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا: أي قال أكثرهم: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا وعدوانا، وبعضهم ندم وقال: هذا بغي منا على اخواننا وظلم لهم.
أي وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أي بعد أن وجدوا الأمر كما أخبر به: يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟ ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا: اللهم انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا، ثم انصرفوا إلى الشعب، وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة في نقض الصحيفة: أي ما تضمنته، وهم: هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، وقد أسلم بعد ذلك كالذي قبله كما تقدم، والمطعم بن عدي مات كافرا كما تقدم. وأبو البختري بن هشام قتل ببدر كافرا. كما تقدم وزمعة بن الأسود قتل ببدر كافرا.
واختلف في كاتب الصحيفة، فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده، ولم يعرف له إسلام: وعند ابن إسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره.
قال: وقيل إن الكاتب لها منصور بن عكرمة: أي فشلت يده فيما يزعمون، كذا في النور نقلا عن سيرة ابن هشام. وقيل النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله ﷺ فشلت بعض أصابعه، وهو ممن قتل على كفره عنده منصرفه من بدر. وقيل الكاتب لها طلحة بن أبي طلحة العبدري. قال ابن كثير رحمه الله: والمشهور أنه منصور.
ويجمع بين هذه الأقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ: أي فكل كتب نسخة انتهى: أي وينبغي أن يكون الذي شلت يده هو كاتب الصحيفة التي علقت في الكعبة، ولعلها هي التي كتبت أولا، وإلى أكل الأرضة الصحيفة، وإلى عد الخمسة الذين سعوا في نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله:
فديت خمسة الصحيفة بالخمـ ** ـسة إذا كان للكرام فداء
فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء
يالأمر أتاه بعد هشام ** زمعة إنه الفتى الأتاء
وزهير والمطعم بن عدي ** وأبو البختري من حيث شاؤوا
نقضوا مبرم الصحيفة إذ شد ** دت عليه من العدا الأنداء
أذكرتنا بأكلها أكل منسأ ** ة سليمان الأرضة الخرساء
وبها أخبر النبي وكم أخـ ** ـرج خبا له الغيوب خباء
أي فديت خمسة الصحيفة: أي الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم، فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة، حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل، بالأمر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الأسود وإنه الكريم في قومه، الأتاء: أي المبالغ في إيتاء الخير، وأتاه زهير، وأتاه المطعم بن عدي، وأتاه أبو البختري من المكان الذي قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة: أي الأمر الذي أبرمته أذكرتنا الأرضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة. منساة: أي عصى سليمان، وبأكلها للصحيفة أخبر النبي، ومرات كثيرة أخرج شيئا مخبأ الغيوب له ساترة، والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الأذى الذي أصابهم المتقدم ذكره؛ فلا ينافي أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا.
قال: جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم ـ مشى إلى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبد المطلب «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون؟ فقال: ويلك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت لأنقضها يعني الصحيفة قال: وجدت رجلا، قال من هو؟ قال: أنا، فقال زهير: ابغنا رجلا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له: يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، يعني بني هاشم وبني المطلب وأنت شاهد على ذلك؟ فقال له: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: وجدت ثانيا، قال: من هو؟ قلت: أنا، قال ابغنا رجلا ثالثا، قال: قد فعلت، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، قال: ابغنا رابعا، فذهبت إلى أبي البختري بن هشام، فقلت له نحوا مما قلت للمطعم، فقال: وهل معين علي هذا الأمر؟ قلت نعم، قال: من هو؟ قلت: زهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال ابغنا خامسا، فذهبت إلى زمعة بن الأسود فكلمته، فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم.
ثم إن هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون، وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم؛ وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم، أي والمطلب هلكى؟ لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق، قال زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حين كتبت، قال أبو البختري صدق زمعة، قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله تعالى منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بالليل، فقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة فشقها انتهى.
أي وهذا يدل للرواية الدالة على أن الأرضة لحست اسم الله تعالى، وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق، وإلا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها.
وفي كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب إنما أخبرهم بعد سعيهم في نقضها. قال ابن حجر الهيتمي: ويبعده أن الإخبار بذلك حينئذٍ ليس له كبير جدوى، وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطلب، فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم ففعلوا.
باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه وهو بمكة وفد نجران، وهم قوم من النصارى، ونجران: بلدة بين مكة واليمن، على نحو من سبع مراحل من مكة، كانت منزلا للنصارى، وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين إلى الحبشة، فوجدوه في المسجد، فجلسوا إليه سألوه وكلموه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ينظرون إليهم، فلما فرغوا من مسألة رسول الله ﷺ كما أرادوا دعاهم رسول الله ﷺ إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به، وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم، فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أي تنظرون الأخبار لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال، لا نعلم ركبا أحمق: أي أقل عقلا منكم، فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، ويقال نزل فيهم قوله تعالى{الذين آتيناهم الكتاب} إلى قوله {لا نبتغي الجاهلين} ونزل قوله تعالى {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق}.
وذكر في الوفاء وفود ضماد الأزدي عليه، فقال: عن ابن عباس «رضي الله ع» أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من الريح: أي ولعل المراد به اللمعة من الجن، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي، قال: فأتيته فقلت: يا محمد إني أرقى من الريح، فإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله ﷺ: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال ضماد: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله ﷺ ثلاث مرات فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه وقال له رسول الله ﷺ: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي.
باب ذكر وفاة عمه أبي طالب وزوجته خديجة رضي الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد: أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما، وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله:
وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر في السراء والضراء
ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين، وبعد مضي عشر سنين من بعثته: أي من مجيء جبريل "عليه الصلاة والسلام بالوحي. وهو يردّ قول ابن إسحاق ومن تبعه أن خديجة «رضي الله ع» ماتت بعد الإسراء.
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب. وقيل كانت وفاة خديجة «رضي الله ع» قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة. وقيل بعده بثلاثة أيام. ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة «رضي الله ع»: أي بثلاثة أيام. ودفنت بالحجون، ونزل في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت.
وذكر الفاكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال: وروي «أن آدم "عليه الصلاة والسلام لما توفي أتي بحنوط، وكفن من الجنة، ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه، ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث "عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم، فلما فرغوا قالوا له: هكذا فاصنع بولدك وإخوتك، فإنها سنتكم» هذا كلامه: أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له. ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير، لكن يبعده ما في العرائس عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صلّ عليه، فقال له جبريل: بل أنت تقدم فصلّ على أبيك، فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة » وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد، ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة، بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء.
وحينئذٍ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة، إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش، إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك، وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك.
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين «رضي الله ع» الذي هو زوجها، وسيأتي أنه لما قدم المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام، ومعرور معناه في الأصل مقصود.
لا يقال: يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء. لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا. وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي، وسيأتي عن الإمتاع: لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة، ولم ينقل أنه صلى على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى: ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية.
وفي كلام بعضهم: صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة، وأول من صلى عليه أسعد بن زرارة فليتأمل.
وفي كلام بعضهم: كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم، وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم. وهو أن يقوم ولي الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثني عليه ثم يقول: عليك رحمة الله ثم يدفن، أي وكأن رسول الله ﷺ يسمي ذلك العام عام الحزن، ولزم بيته وأقلّ الخروج، وكانت مدة اقامتها معه خمسا وعشرين سنة على الصحيح.
ويذكر «أنه دخل على خديجة «رضي الله ع» وهي مريضة فقال لها: يا خديجة أتكرهين ما أرى منك، وقد يجعل الله في الكره خيرا؟ أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني» وفي رواية «أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء، وآسية امرأة فرعون، فقالت: آلله أعلمك بهذا يا رسول الله؟ » وفي رواية «آلله فعل ذلك يا رسول الله؟ قال نعم، قالت: بالرفاء والبنين» زاد في رواية «أنه أطعم خديجة من عنب الجنة » وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به في الجاهلية عند التزويج، والمراد منه الموافقة والملايمة، مأخوذ من قولهم رفأت الثوب: ضممت بعضه إلى بعض، ولعل هذا كان قبل ورود النهي عن ذلك.
هذا، وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب «رضي الله ع» لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب «رضي الله ع» جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني، فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت عليّ هذا كلامه، ولعل النهي لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله، كما لم يبلغ سيدنا عمر «رضي الله ع».
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة «رضي الله ع» وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة، وكانت قبله عند السكران ابن عمها، وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها، فلما انقضت عدتها تزوّجها، وأصدقها أربعمائة درهم.
وقد كانت رأت في نومها أن النبي ﷺ وطيء عنقها فأخبرت زوجها، فقال: إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوّجك رسول الله، ثم رأت في ليلة أخرى أن قمرا انقضّ عليها من السماء وهي مضطجعة، فأخبرت زوجها فقال: لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك.
وعقد على عائشة «رضي الله ع» وهي بنت ست أو سبع سنين في شوّال. فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت «قلت لما ماتت خديجة: يا رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟ قلت: إن شئت بكرا، وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر؟ قلت: أحق خلق الله بك، بنت أبي بكر «رضي الله ع»، قال: ومن الثيب؟ قلت: سودة بنت زمعة، قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول، قال: فاذهبي فاذكريهما عليّ، قالت: فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟ قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله ﷺ أخطبك عليه، قالت: وددت، ادخلي على أبي فاذكري ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه؟ قلت: خولة بنت حكيم، قال: فما شأنك؟ قلت: أرسلني محمد بن عبدالله أخطب عليه سودة، قال: كفء كريم، قال: ما تقول صاحبتك؟ قالت تحب ذلك، قال ادعيها إلي، فدعوتها قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم، أتحبين أن أزوجك منه؟ قالت نعم، قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله ﷺ فزوجه إياها، ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثي على رأسه التراب، ولما أسلم قال: لقد كدني السفه يوم أحثي على رأسي التراب إذ تزوج رسول الله ﷺ سودة يعني أخته» وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها «ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير؟ قد أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت له: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟ قال: وما ذاك؟ قلت: قد أرسلني رسول الله ﷺ أخطب عليه عائشة، قال: وهل تصلح أي تحل له؟ إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول الله ﷺ فذكرت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي ـ أي تحل، فرجعت فذكرت ذلك له، قالت أم رومان «رضي الله ع»: إن مطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده، والله ما وعد وعدا قط فأخلفه ـ تعني أبا بكر ـ فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور، فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان في نفسه من عدته لمطعم، فإن المطعم لما قال له أبو بكر: ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها: ما تقولين يا هذه؟ فأقبلت على أبي بكر وقالت له: لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصبيه وتدخله في دينك الذي أنت عليه، فأقبل أبو بكر على المطعم وقال له: ماذا تقول أنت؟ فقال: إنها لتقول ما تسمع، فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ﷺ فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذٍ بنت ست سنين، وقيل سبع سنين وهو الأقرب».
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة، لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة «رضي الله ع» وعلى عائشة كان في شوّال، ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة.
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي ﷺ عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها، ولا تخفى المخالفة، إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها. وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة.
ولما اشتكى أبو طالب: أي مرض وبلغ قريشا ثقله: أي اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أي يسلبونه، ومنه قولهم: من عزّ بز: أي من غلب أخذ السلب: وهو الثياب التي هي البز. وفي لفظ: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء: أي قتل محمد كما في بعض الروايات، فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه، فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان «رضي الله ع»، فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتي، وأرسلوا رجلا يدعى المطلب؛ فاستأذن لهم علي أبي طالب فقال: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك، قال أدخلهم؛ فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت. وفي لفظ قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك؛ وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه، ولما دخل على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس، فخشي أبو جهل أن يجلس النبي ﷺ في تلك الفرجة فيكون أرقى منه؛ فوثب أبو جهل فجلس فيها، فلم يجد النبي ﷺ مجلسا قرب أبي طالب، فجلس عند الباب انتهى.
وفي الوفاء أنه قال لهم: خلوا بيني وبين عمي، فقالوا: ما نحن بفاعلين؛ وما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك، فقال أبو طالب لرسول الله ﷺ: يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك، وفي لفظ: هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم، وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك. وفي لفظ: سألوك النصف، وفي لفظ: أعط سادات قومك ما سألوك، فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك، فقال رسول الله ﷺ: أرأيتكم إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ أي تطيع وتخضع، فقال أبو جهل: نعم وآتيك عشر كلمات. وفي لفظ لنعطيكها وعشرا معها، فما هي؟ قال: تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه، فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا، إن أمرك لعجب، فأنزل الله تعالى {ص? والقرآن ذي الذكر} إلى آخر الآيات، وفي لفظ قالوا: أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد، وفي لفظ قالوا: سلنا غير هذه الكلمة. وفي لفظ أن أبا طالب قال: يا بن أخي هل من كلمة غيرها، فإن قومك قد كرهوها، قال: يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، ثم قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها، ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وأمضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا. وفي لفظ قالوا عند قيامهم: والله لنشتمك وإلهك الذي يأمرك بهذا، أي وفي لفظ لتكفن عن سبّ آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي أمرك بهذا.
قال في الينبوع: وهذه العبارة أحسن من الأولى، لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله، وما كانوا ليسبوا الله عالمين، لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك، وذكر أن ذلك سبب نزول قوله تعالى{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}.
هذا، وفي النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن تنهى محمدا عن سب آلهتنا والنقص منها، وإما أن نسبّ إلهه ونهجوه، قال فيه: وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة، فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر، ولا يتعرض لما يؤدي إلى ذلك، لأن الطاعة إذا كانت تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه.
وعند ذلك قال أبو طالب قال لرسول: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا أي بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا، فلما قال ذلك طمع رسول الله ﷺ فيه، فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة: أي لو ارتكبت ذنبا بعد قولها، وإلا فالإسلام يجبّ ما قبله، فلما رأى حرص رسول الله ﷺ قال له: والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة: أي العار عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا: أي بالجيم والزاي خوفا من الموت، وهذا هو المشهور. وقيل بالخاء المعجمة والراء، أي ضعفا لقلتها، وفي رواية: لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك، لكني أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف، فأنزل الله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت} الآية.
أي وعن مقاتل «أن أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا، فقال له النبي ﷺ: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال. فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى، فقال: يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكني أكره أن يقال» الحديث، قال في الهدى: وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما في ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها: أي وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم، ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له، فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه، علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت.
وذكر «أنه لما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه، فقال: يا ابن أخي، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها، فقال رسول الله ﷺ ولم أسمع». وفيه أنه لم يثبت أن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها في حق أبي طالب يردّ ذلك.
ويرده أيضا ما في الصحيحين عن العباس «رضي الله ع» أنه قال «قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ قال نعم، وجدته ـ أي كشف لي عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة ـ فوجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح» أي وفي لفظ آخر «قال نعم، هو ـ أي يوم القيامة ـ في ضحضاح من النار، لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام، إذ لو أداها لقبلت.
وقد يقال: إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام، لأنه لما قال له أولا لم أسمع، فهم أنه حيث لم يسمعها لم يعتدّ بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا.
ويرده أيضا ما جاء في رواية «أنه لما كرر على أبي طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال: أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك. أي عن الاستغفار لكّ فأنزل الله «عَزَّ وجَلّ»{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} أي وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها، أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها، لجواز أنه جوّز الفرق بين أمه وعمه، لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه، وفي منع استغفاره لأمه ما تقدم. ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد «اللهم اغفر لقومي» لأن ذلك أي غفران الذنوب مشروط بالتوبة: أي الإسلام، فكأنه دعا لهم بالتوبة التي هي الإسلام، ويؤيده رواية «اللهم اهد قومي» أي للإسلام. قال: وأيضا جاء في صحيح ابن حبان عن علي «رضي الله ع» قال «لما مات أبو طالب أتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فواره، قال علي «رضي الله ع»: فلما واريته جئت إليه، فقال لي اغتسل».
أقول: لأنه غسله، وبه وبقوله «من غسل ميتا فليغتسل» استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل.
وروى البيهقي خبر «أن عليا «رضي الله ع» غسله بأمر النبي ﷺ له بذلك» لكن ضعفه وفي رواية عن علي «رضي الله ع» «لما أخبرت النبي ﷺ بموت أبي طالب بكى وقال: اذهب فاغسله وكفنه وواره، غفر الله له ورحمه».
وأما ما روي عنه أنه عارض جنازة عمه أبي طالب فقال: وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم» فقال الذهبي إنه خبر منكر، والله أعلم.
وجاء أيضا «أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: إنه ستنفعه شفاعتي» وفي رواية «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار» أي مقدار ما يغطى بطن قدميه. وفي رواية «في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه» وفي لفظ عن ابن عمر قال: قال رسول لله «إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب، وأخ لي كان في الجاهلية » يعني أخاه من الرضاعة من حليمة كما في رواية تأتي.
أقول: يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الاستغفار لهما، والله أعلم.
وفي لفظ آخر «شفعت في أبي وعمي أبي طالب وأخي من الرضاعة ـ يعني من حليمة ـ ليكونوا من بعد البعث هباء».
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء «أنه قال لابنته فاطمة «رضي الله ع» وقد عزّت قوما من الأنصار في ميتهم: لعلك بلغت معهم الكدى ـ بالدال المهملة أو الكرا بالراء، يعني القبور ـ فقالت: لا، فقال: لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعني عبد المطلب» ولم يقل جدك يعني أباه الذي هو عبدالله، وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا.
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك في أبيه وأمه. وفي رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث، وفي الثاني من هو ضعيف. وقال فيه ابن الجوزي: إنه موضوع بلا شك: أي وهذا أي قبول شفاعته في عمه أبي طالب عد من خصائصه، فلا يشكل بقوله تعالى{فما تنفعهم شفاعة الشافعين} أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين في الإخراج من النار بالكلية: أي وفي هذا الثاني أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء: أي في صيرورتهم هباء، إلا أن يقال إنه لم يستجب له في ذلك.
قال: وجاء أيضا عن ابن عباس «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال «إن أهون أهل النار ـ أي وهم الكفار ـ عذابا أبو طالب، وهو ينتعل بنعلين يغلي منهما دماغه» أي وفي رواية «كما يغلي المرجل» أي القدر من النحاس «حتى يسيل دماغه على قدميه» وفي رواية «كما يغلى المرجل بالقمقم» قيل والقمقم بكسر القافين: البسر الأخضر يطبخ في المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة.
وذكر السهيلي الحكمة في اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم، واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر في الإصابة.
أي وقد قال: وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر فيه من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبي طالب، ولم يثبت من ذلك شيء.
وروى أبو طالب عن النبي ﷺ قال «حدثني محمد أن الله أمره بصلة الأرحام» وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره» وقال «سمعت ابن أخي الأمين يقول اشكر ترزق، ولا تكفر تعذب» انتهى.
وفي المواهب عن شرح التنقيح للقرافي أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، لأنه كان يقول: إني لا أعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش لاتبعته، فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن للأحكام، هذا كلامه. وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله، ولم يوجد ذلك منه كما علمت، وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار، التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع، وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع.
وقد روى الطبراني عن أم سلمة «أن الحارث بن هشام ـ أي أخا أبي جهل بن هشام ـ أتى النبي ﷺ يوم حجة الوداع، فقال: إنك تحث على صلة الرحم، والإحسان إلى الجار، وإيواء اليتيم، وإطعام الضيف، واطعام المسكين، وكل هذا مما يفعله هشام، يعني والده، فما ظنك به يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار، فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه إليّ، فجعله في ضحضاح من النار».
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم، وكان من وصيته أن قال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم المطاع، وفيكم المقدم الشجاع، والواسع الباع، لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه، ولا شرفا إلا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة. أوصيكم بتعظيم هذه البنية: أي الكعبة، فإن فيها مرضاة للرب، وقواما للمعاش. صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن في صلة الرحم منسأ ـ أي فسحة ـ في الأجل، وزيادة في العدد. واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم. أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات. وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العام. وإني أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين في قريش ـ أي وهو الصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان مخافة الشنآن ـ أي البغض ـ وهو لغة في الشنآن ـ وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد.
وفي لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره، فأطيعوه ترشدوا.
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبي ﷺ من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب، حتى إن بعض سفهاء قريش نثر على رأس النبي ﷺ التراب، فدخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكي، ورسول الله ﷺ يقول لها لا تبكي لا تبكي يا بنية، فإن الله تعالى مانع أباك، وكان يقول «ما نالت قريش مني شيئا أكرهه ـ أي أشد الكراهة ـ حتى مات أبو طالب» وتقدم، وسيأتي بعض ما أوذي به.
قال: ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك. ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت.
واتفق أن ابن العطيلة ـ أي وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبي، فأقبل عليه أبو لهب ونال منه، فولى وهو يصيح: يا معشر قريش صبا أبو عتبة ـ يعني أبا لهب ـ فأقبلت قريش على أبي لهب وقالوا له: أفارقت دين عبد المطلب؟ فقال: ما فارقت» وفي لفظ «قالوا له: أصبوت؟ قال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد، قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله ﷺ على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبي معيط إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ أي المحل الذي يكون فيه، يزعم أنه في النار، فقال له أبو لهب: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله ﷺ: نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار، فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى.
وفي لفظ «قال له: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال: مع قومه، فخرج أبو لهب إلى أبي جهل وعقبة، فقال: قد سألته، فقال: مع قومه، فقالا: يزعم أنه في النار، فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله ﷺ نعم» الحديث، ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة، وتقدم الكلام عليهم والله أعلم.
باب ذكر خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
سميت بذلك، لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه، فسمي الطائف، وقيل غير ذلك.
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبي ﷺ ما لم تكن نالته منه في حياته كما تقدم خرج إلى الطائف: أي وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقي من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبي لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب.
وعن عليّ «رضي الله ع» أنه قال بعد موت أبي طالب «لقد رأيت رسول الله ﷺ أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا؟ قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ».
وخروجه إلى الطائف كان في شوال سنة عشر من النبوة وحده، وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا، وأن يناصروه على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه. قال في الإمتاع: لأنهم كانوا أخواله. قال بعضهم: ومن ثم أي من أجل أنه خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة، كذا قال.
وفي كلام غيره: ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة، فهي راحة الأمة، ومتنفس كل ذي ضيق وغمة {سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} فليتأمل.
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا اخوة ثلاثة: أحدهم عبد ياليل، أي واسمه كنانة لم يعرف له إسلام، وأخوه مسعود أي وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا، وحبيب. قال الذهبي: في صحبته نظر، أي وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، وجلس إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أي من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة أي ينتفها ويقطعها، أي وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك. وقال له آخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك. وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسول الله كما تقول لأنت أعظم خطرا: أي قدرا من أن أراد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك، فقام من عندهم وقد أيس من خير ثقيف، وقال لهم: اكتموا عليّ، وكره أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له اخرج من بلدنا وألحق بمنجاتك من الأرض، وأغروا به ـ أي سلطوا عليه ـ سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه، فلما مر بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أي دقوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
وفي لفظ: حتى اختضبت نعلاه بالدماء، وكان إذا أزلقته الحجارة ـ أي وجد ألمها ـ قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، كل ذلك وزيد بن حارثة ـ أي بناء على أنه كان معه ـ يقيه بنفسه حتى لقد شجّ رأسه شجاجا، فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما عمد إلى حائط من حوائطهم: أي بستان من بساتينهم، فاستظل في حَبلة ـ أي بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف ـ شجرة كرم، وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب. وقد فسر نهيه عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب. قال السهيلي: وهو غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث، فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع» أي وقد جاء النهي عن أن يقال لشجر العنب الكرم في قوله «لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم قلب المؤمن، ولكن قولوا حدائق العنب» قال وسبب النهي عن تسميتها كرما، لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم.
وفي لفظ: ثم إن هؤلاء الثلاثة أي عبد ياليل واخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما دخل الحائط رجعوا عنه.
قال «وذكر أنه دعا بدعاء منه: اللهم إني أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي» ا هـ وإذا في الحائط أي البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة: أي وقد رأيا ما لقي من سفهاء أهل الطائف، فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله، فلما رأياه وما لقي تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود في الصحابة، مات قبل الخروج إلى بدر، فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه، أي وهذا لا ينافي كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي، ثم قال له كل، فلما وضع رسول الله، فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل: أي لأنه كان إذا وضع يده في الطعام قال بسم الله، ويأمر الآكل بالتسمية، وأمر من نسي التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره، فنظر عداس في وجهه وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله ﷺ: من أيّ البلاد أنت، وما دينك يا عداس؟ قال نصراني، وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية، وقيل بضمها: قرية على شاطىء دجلة في أرض الموصل، فقال له رسول الله ﷺ من أهل قرية، أي وفي رواية «من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى» اسم أبيه، أي كما في حديث ابن عباس «رضي الله ع».
وفي تاريخ حماة أنه اسم أمه. قال: ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام.
أي وفي مزيل الخفاء: فإن قيل قد ورد في الصحيح «لا تفضلوني على يونس بن متى» ونسبه إلى أبيه وهو يقتضي أن متى أبوه لا أمه.
أجيب بأن متى مدرج في الحديث من كلام الصحابي لبيان يونس بما اشتهر به، لا من كلام النبي.
ولما كان ذلك موهما أن الصحابي سمع هذه النسبة من النبي ﷺ دفع الصحابي ذلك بقوله: ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه، هذا كلامه.
«وعند ذلك قال عداس له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فإني والله لقد خرجت منها ـ يعني نينوى ـ وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت ابن متى وأنت أميّ وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله: «ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي أميّ» وفي رواية «أنا رسول الله، والله أخبرني خبره، وما وقع له مع قومه» أي حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوه وخرج عنهم، وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم، فلما فقدوه قذف الله تعالى في قلوبهم التوبة: أي الإيمان بما دعاهم إليه يونس.
وقيل كما في الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة، فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم، فعند ذلك لبسوا المسوح، وأخرجوا المواشي، وفرقوا بين النساء وأولادها، وبين كل بهيمة وولدها، فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى، وبكى الناس والولدان، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وعجاجيلها، وثغت الغنم وسخالها، وقالوا: يا حيّ حيث لا حي، ويا حي يحيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت.
وعن الفضيل أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجلّ، فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله.
وفي الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة، وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل، فمر رجل على يونس فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم. قيل وكان في شرعهم أن من كذب قتل، فانطلق مغاضبا لقومه، وظن أن لن نقضي عليه بما قضى به عليه أي من الغم وضيق الصدر، قال تعالى{وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه} أي لن نضيق عليه، وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة.
أي وفي كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبي، التقمه ضحوة ونبذه عشية أي بعد العصر؛ وقاربت الشمس الغروب. وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس في بطنه لئلا يضيق عليه.
وقال السدي: مكث أربعين يوما. وقال جعفر الصادق: سبعة أيام. وقال قتادة: ثلاثة أيام؛ وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر؛ فقال لهم: إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه في البحر وأشار إلى نفسه؛ فقالوا: لا نلقيك يا نبيّ الله أبدا؛ قال: فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مرات؛ فألقوه فالتقمه الحوت. وقيل قائل ذلك بعض الملاحين؛ وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه في البحر؛ وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت: وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له؛ وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم.
وعن وهب بن منبه، وقد سئل عن يونس فقال: كان عبدا صالحا، وكان في خلقه ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا، أي فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل، وهم نوح، وهود، وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
أما نوح فلقوله{يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله} الآية. وأما هود فلقوله {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه} الآية. وأما إبراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه {إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله} الآية. وأما محمد فلقول الله تعالى له {فاصبركما صبر أولوا العزم من الرسل} فصبر.
فعند ذلك أكبّ عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه وقدميه، أي فقال أحدهما: أي عتبة وشيبة للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عداس قال له أحدهما: ويلك مالك تقبِّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي، قال: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك.
أقول: وفي رواية «قال له وما شأنك؟ سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم ترك فعلته بأحدنا؟ قال: هذا رجل صالح أخبرني بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى، فضحكا به وقالا: لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه» وقد تقدم في بعض الروايات: أن خديجة «رضي الله ع» قبل أن تذهب بالنبي ﷺ لورقة بن نوفل ذهبت به إلى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى: قرية سيدنا يونس "عليه الصلاة والسلام، وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه، وقست أثر رجل واحد منهم في الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثي شبر، والله أعلم.
وفي الصحيح عن عائشة «رضي الله ع» «إنها قالت للنبي: هل أتى عليك يوم أشدّ من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال» أي والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية، أي فيقال عبد ياليل وكلال، أي وعبد كلال، ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه، أو لأنهما كانا المجيبين له بالقبيح دون حبيب، إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال، وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة، لأن ابن مفرد مضاف، ثم رأيته في النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت في الصحيح.
والذي في كلام ابن اسحاق وأبي عبيد وغيرهما إسقاطه. ثم رأيت الشمس الشامي قال: الذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلمه رسول الله ﷺ عبد ياليل نفسه لا ابنه.
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه: أي أبو أبيه كما لا يخفى «فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب»: أي ويقال له قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن، بينه وبين مكة يوم وليلة. وفي لفظ «وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن» بسكون الراء. ووهم الجوهري في تحريكها، وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه، وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم «فرفعت رأسي، فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني؛ فنظرت فإذا فيها جبريل "عليه السلام"، فنادى فقال: قد سمع قول قومك لك ـ أي أهل ثقيف كما هو المتبادر ـ وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم، فناداه ملك الجبال وسلم عليه، وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت» أي وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى. فمن الأول قوله: وهما قبيس وقعيقعان. وقيل الجبل الأحمر الذي يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان، ومن الثانية الجبلان اللذان تحت العقبة بمنى فوق المسجد.
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما، بل الجبلان خارجان عنهم فيكف يطبقهما عليهم؟ وفي لفظ «إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال» أي التي بتلك الناحية.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر، قال: المراد بقوم عائشة في قوله: لقد لقيت من قومك قريش: أي لا أهل الطائف الذين هم ثقيف، لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه لثقيف؛ ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة «رضي الله ع»؛ وعليه فلا إشكال. ويوافقه قول الهدى: فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين: وهما جبلاها التي هي بينهما.
وعبارة الهدى في محل آخر: وفي طريقه أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال، فأمره بطاعته؛ وأن يطبق على قومه أخشبي مكة؛ وهما جبلاها إن أراد، هذا كلامه.
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق، إذ قوله «وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي» إلى آخره، وقول جبريل «قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به» ظاهر في أن المراد بهم ثقيف لا قريش. ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة في شرح منظومة جده بعد أن ساق دعاءه المتقدم بعضه «فأرسل الله «عَزَّ وجَلّ» جبريل ومعه ملك الجبال؛ فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» وحينئذ يكون المراد اطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذي هو الطائف لأن القدرة صالحة. وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبي «بل أرجو أن يخرج الله تعالى» وفي رواية «أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا، وعن ذلك قال له ملك الجبال: أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم» قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسم ملك الجبال؛ وإلى حلمه وإغضائه أشار صاحب الهمزية بقوله.
فجهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء
وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء
أي جهلت قومه فآذوه أذية لا تطاق؛ فأغضى عنهم حلما؛ وأخو الحلم: أي وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل؛ فإن علمه وسع علوم العالمين؛ ووسع حلمه حلمهم؛ فهو واسع العلم والحلم؛ لم تعيه الأعباء: أي لم تتعبه الأثقال؛ لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف؛ وقد علمت ما فيه فليتأمل.
وعند منصرفه المذكور من الطائف نزل نخلة وهي محلة بين مكة والطائف، فمر به نفر سبعة؛ وقيل تسعة من جن نصيبين: أي وهي مدينة بالشام؛ وقيل باليمن أثنى عليها بقوله «رفعت إلى نصيبين: حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها» وقد قام رسول الله ﷺ من جوف الليل أي وسطه يصلي. وفي رواية «يصلي صلاة الفجر» وفي رواية «هبطوا على النبي ﷺ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة» فلعله كان يقرأ في الصلاة، والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس، ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل. وفي قوله جوف الليل تجّوز من الراوي، أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما، أو جمع بين القراءة والصلاة، وأن الجنَّ استمعوا للقراءتين، وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ، وبهذا يندفع قول بعضهم: صلاة الفجر لم تكن وجبت، وكان يقرأ سورة الجن. وفيه: أي في الصحيحين «أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم».
وقد يقال: سيأتي ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع المذكور هنا، بل استماع سابق على ذلك، وهو المذكور في رواية ابن عباس «رضي الله ع» الآتية، ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر، وإلا فالروايات التي وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل، وصلاة الفجر كانت في ابتداء البعث في بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتي عن ابن عباس «رضي الله ع»، فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم ـ إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ـ ولم يقولوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها. ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على ما لم ينزل، لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب، ولا كان كله منزلا. قال: وأنكر ابن عباس «رضي الله ع» اجتماع النبي ﷺ بالجن أي بأحد منهم.
ففي الصحيحين عنه قال «ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، انطلق رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ـ أي وكان بين الطائف ونخلة، كان لثقيف وقيس عيلان» كما تقدم «وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، ففزعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة، فإذا هم بالنبي ﷺ وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا ـ يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ـ فأنزل الله تعالى على نبيه {قل أوحي إليّ} أي قل أخبرت بالوحي من الله تعالى أنه استمع لقراءتي {نفر من الجن} أي جن نصيبين».
أقول: تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ، فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء، وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع، ويجوز أن يكون صلى بهم إماما، لأن الجماعة في ذلك جائزة.
ولا يخفى أن هذه القصة التي تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه من الطائف، يدل لذلك قوله «انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ» لأنه في تلك القصة التي هي قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ما تقدم، وكان مجيئه من الطائف قاصدا مكة. وفي هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ، وأنه قرأ في تلك أي مجيئه من الطائف سورة الجن، وفي هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة، وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك، لأن قصة ابن عباس كانت في ابتداء الوحي، لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت في ذلك الوقت، وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة.
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به ولا قرأ عليهم، وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم. وقد صرح به ابن عباس «رضي الله ع» في هذه، وصرح به الحافظ الدمياطي في تلك حيث قال في سيرته «فلما انصرف رسول الله ﷺ من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلي من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين، فاستمعوا له وهو يقرأ سورة الجن، ولم يشعر بهم رسول الله ﷺ حتى نزل عليه {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن} هذا كلامه، ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم.
فقد قال ابن إسحاق «فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله تعالى خبرهم على النبي » وبهذا يعلم ما في سفر السعادة.
ولما وصل في رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه، وكذا يعلم ما في المواهب من قوله «ولما انصرف عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين» إلى أن قال: وفي الصحيح أن الذي آذنه بالجن ليلة الجن شجرة، وأنهم سألوه الزاد، فقال: كل عظم إلى آخره؛ لأن سؤالهم له الزاد فرع اجتماعهم، وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه بهم إلا شجرة هناك. وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أي أعلمته بوجودهم، وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به، وأن دعوى ذلك لا ينافي أنه لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن، فسؤالهم له الزاد كان في قصة أخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتي الكلام عليها.
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبي ﷺ بنخلة وأسلموا، فأرسلهم إلى قومهم منذرين، إذ لا جائز أن يكون ذلك في أول البعث، لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس «رضي الله ع». وحينئذ يؤيد الاحتمال الثاني الذي ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به بعد أن آذنته بهم الشجرة، وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف في شيء من الروايات على ما هو صريح في ذلك: أي أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف، ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى{ولوا إلى قومهم منذرين}.
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبراني رويا عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن الجن الذين اجتمعوا به ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله ﷺ رسلا إلى قومهم» وهذا ليس صريحا في أنه كان عند رجوعه من الطائف.
لا يقال: يعني ذلك إنكار ابن عباس «رضي الله ع» اجتماعه بالجن المرة الأولى التي كانت عند البعث، لاحتمال أنه كان في بطن نخلة في مرة أخرى ثالثة.
ثم رأيت في النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله «إنه لم يجتمع بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ» حيث قال: الذي في الصحيح وغيره أن اجتمع بهم، وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل.
قال: وذكر «أنه أقام بنخلة أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم» أي زيادة على عبد ياليل وأخويه «إلا جاء إليه وكلمه فلم يجبه أحد. فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم؟ يعني قريشا وهم قد أخرجوك: أي كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر، فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه، فسار إلى حراء، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أي «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذ لك ليجيره: أي ليدخل مكة في جواره، فقال: أنا حليف والحليف لا يجير ـ أي في قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم ـ فبعث إلى سهيل بن عمرو «رضي الله ع» فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال: إن بني عامر لا تجير على بني كعب» وفيه أنه لو كان كذلك لما سألهما، وكونه لم يكن يعرف هذا الاصطلاح بعيد، إلا أن يقال جوّز مخالفة هذه الطريقة «فبعث إلى المطعم بن عديّ ـ أي وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر ـ يقول له: إني داخل مكة في جوارك، فأجابه إلى ذلك، وقال له: قل له فليأت، فرجع إليه فأخبره، فدخل رسول الله ﷺ مكة، ثم تسلح المطعم بن عديّ وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم، ثم بعث إلى رسول الله ﷺ أن أدخل، فدخل رسول الله ﷺ المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله. أي والمطعم بن عدي وولده مطيفون به » قال «وذكر أنه بات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه، وكانوا ستة أو سبعة، وقالوا لرسول الله ﷺ: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه، وأقبل أبو سفيان على المطعم، فقال: أمجير أم تابع؟ فقال: بل مجير، فقال: إذن لا تخفر ـ أي لا تزال خفارتك ـ أي جوارك، قد أجرنا من أجرت، فجلس معه حتى قضى رسول الله ﷺ طوافه»ا هـ.
أي ولا بدع في دخوله في أمان كافر، لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى، وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله. أي ولهذا المعروف الذي فعله المطعم قال في أسارى بدر «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له».
ورأيت في أسد الغابة «أن جبيرا ولد المطعم «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم بين الحديبية والفتح، وقيل يوم الفتح ـ جاء إلى النبي ﷺ وهو كافر فسأله في أسارى بدر، فقال: لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم» كما سيأتي، أي لأنه فعل معه هذا الجميل وكان من جملة ما سعى في نقض الصحيفة كما تقدم.
قال: وعن كعب الأحبار «رضي الله ع» «لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاؤوا قومهم منذرين، ثم جاؤوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله ﷺ وهو بمكة وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون، فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله، فقال: إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك، فوعده رسول الله ﷺ ساعة من الليل بالحجون» ا هـ.
وإن ابن مسعود «رضي الله ع»، قال «أتانا رسول الله، فقال: إني أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن، فليقم معي رجل منكم ولا يقم رجل في قلبه مثقال حبة خردل من كبر، فقمت معه: أي بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم» ولعلهم فهموا أن من الكبر ما ليس منه وهو محبة الترفع في نحو الملبس الذي لا يكاد يخلو منه أحد.
وقد بين الكبر في الحديث ببطر الحق وغمط الناس: أي استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له «يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق وغمط الناس» بالطاء المهملة كما في رواية أبي داود، وجاء «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، ولا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» قال الخطابي: المراد بالكبر هنا: أي في هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان. قال ابن مسعود «وذهب في بعض نواحي مكة ـ أي بأعلاها بالحجون ـ فلما برز خط لي خطا: أي برجله وقال: لا تخرج، فإنك إن خرجت لم ترني ولم أرك إلى يوم القيامة» وفي رواية «لا تحدثنّ شيئا حتى آتيك، لا يروعنك: أي لا يخوفنك ويفزعنك؛ ولا يهولنك: أي لا يعظم عليك شيء تراه، ثم جلس رسول الله، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط، وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطي، وكانوا كما قال الله تعالى (كادوا يكونون عليه) أي لازدحامهم (لبدا) أي كاللبد في ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه، فأردت أن أقوم فأذبّ عنه، فذكرت عهد رسول الله ﷺ فمكثت، ثم إنهم تفرقوا عنه فسمعتهم يقولون: يا رسول الله إن شفتنا أي أرضنا التي نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون، فزوّدنا: أي لأنفسنا ودوابنا» ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم، فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدكم أوفر ما كان لحما» رواه مسلم.
وفي رواية «إلا وجد عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل، وكل بعر علف دوابكم».
وعن ابن مسعود «رضي الله ع» «أنهم لما سألوه الزاد، قال لهم: لكم كل عظم عراق، ولكم كل روثة خضرة» والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء: العظم الذي أخذ عنه اللحم. وقيل الذي أخذ عنه معظم اللحم «قلت: يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم أي عن أنفسهم وعن دوابهم» بدليل قوله «فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت» وفي رواية «وجدوه ـ أي الروث والبعر ـ شعيرا» فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم، ويوافقه ما جاء «أن الشعير يعود خضرا لدوابهم» ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل، وبين كونه يعود شعيرا، وبين كونه يعود خضرا.
هذا، وفي رواية لأبي نعيم «أن الروث يعود لهم تمرا» وهي تدل على أن الروث من مطعومهم، ويحتاج إلى الجمع. وجمع ابن حجر الهيتمي بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم، أي وفي لفظ «سألوني المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة» والحائل: البالي بمرور الزمن، لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم، كما لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لو حرق وصار فحما، ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا، لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل؛ وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة، وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يأكلون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم: أي وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء في بعض الأخبار. هذا، ولكن في رواية أبي داود «كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه» قال السيهلي: وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبي داود.
وقال بعض العلماء: رواية «ذكر اسم الله عليه» في الجن المؤمنين. ورواية «لم يذكر اسم الله تعالى عليه» في حق الشياطين منهم، وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث. هذا كلامه، أي التي من تلك الأحاديث «أن إبليس قال: يا رب ليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقي؟ قال: كل ما لم يذكر عليه اسمي» ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن ما لم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة.
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم؛ لأن في كون الكفار من الجن اجتمعوا به مع المؤمنين، وأن كلا من الفريقين سأله الزاد، وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لاسيما مع ما تقدم عن ابن مسعود وما يأتي من قوله اخوانكم من الجن، ومن ثم قال بعضهم: إن السائلين له الزاد كانوا مسلمين فليتأمل.
ولما ذكر لهم العظم والروث «قالوا: يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا، فنهى النبي ﷺ أن يستنجي بالعظم أو بروثه بقوله: فلا يستنقينّ أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة، لأنه زاد إخوانكم من الجن».
وفي رواية «قالوا له أنه أمتك عن الاستنجاء بهما، فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا، فنهى رسول الله ﷺ عن الاستنجاء بالعظم والبعر» أي وحرمة نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى، ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق و المخاط.
وعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» قال «بينا أنا مع رسول الله ﷺ أمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه، فقال النبي ﷺ: نعم فانصرفت، قال جابر: فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة: أي العظم، لأن الله تعالى جعل لنا في ذلك رزقا» ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه نهى عن ذلك. ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضي أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك. وحينئذ يسأل ما كان زادهم قبل ذلك؟ وقد يقال: هو كل ما لم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين، وحينئذ يكون ما تقدم في خبر إبليس المراد بما لم يذكر اسم الله عليه غير العظم فليتأمل، والنهي عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا.
وقصة جابر هذه سيأتي في غزوة تبوك نظيرها «وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم في الطريق، فانحاز الناس عنها، فأقبلت حتى وقفت على رسول الله ﷺ وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة، فقال رسول الله ﷺ: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إليّ يستمعون القرآن» قال في المواهب: وفي هذ ردّ على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب: أي وإنما يتغذون بالشم.
أقول: ذكرت في كتابي (عقد المرجان فيما يتعلق بالجان) أن في أكل الجن ثلاثة أقوال: قيل يأكلون بالمضغ والبلع، ويشربون بالازدراد. والثاني لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم. والثالث أنهم صنفان: صنف يأكل ويشرب، وصنف لا يأكل ولا يشرب، وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم، والله أعلم.
«قال ابن مسعود: فلما ولوا قلت من هؤلاء؟ قال: هؤلاء جن نصيبين» وفي رواية «فتوارى عني حتى لم أره، فلما سطع الفجر أقبل رسول الله، فقال لي: أرك قائما، فقلت ما قعدت، فقال: ما عليك لو فعلت أي قعدت؟ قلت: خشيت أن أخرج منه فقال: أما إنك لو خرجت لم ترني ولم أراك إلى يوم القيامة» أي وفي رواية «لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم» وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج. وفي رواية «قال لي: أنمت؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس، أي لما تراكموا عليك، وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إلى أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول: اجلسوا، وسأله عن سبب اللغط الشديد الذي كان منهم، فقال: إن الجن تداعت في قتيل بينهم قتل فتحاكموا إليّ، فحكمت بينهم بالحق».
وفي رواية عن سعيد بن جبير أنه أي ابن مسعود قال له: أولئك جن نصيبين، وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم {اقرأ باسم ربك} أي ولا ينافي ذلك ما جاء عن ابن مسعود «رضي الله ع» أنه افتتح القرآن، لأن المراد بالقرآن القراءة. زاد ابن مسعود على ما في بعض الروايات «ثم شبك أصابعه في أصابعي، وقال: إني وعدت أن تؤمن بين الجن والإنس، أما الإنس فقد آمنت، وأما الجن فقد رأيت».
أقول: وفي هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التي اختطها له وفي السيرة الهشامية ما يقتضي أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود «فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه من الجبال، فازدحموا عليه إلى آخره» فليتأمل.
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه من الطائف، فإن قصة ابن عباس «رضي الله ع» كانت في أول البعث، وقصة رجوعه من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت، وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم «ثم قال لابن مسعود: هل معك وضوء» أي ماء نتوضأ به؟ » قلت لا، فقال: ما هذه الإداوة أي وهي إناء من جلد؟ قلت فيها نبيذ؟ قال: ثمرة طيبة وماء طهور صبّ عليّ، فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى».
أقول: وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء، ومن ثم قال ماء طهور، وقول ابن مسعود «رضي الله ع» فيها نبيذ أي منبوذ الذي هو التمر، وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى {إني أراني أعصر خمرا} وهذا بناء على فرض صحة الحديث، وإلا فقد قال بعضهم: حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي «رضي الله ع»: الذي أقول به منع التطهر بالنبيذ، لعدم صحة الخبر المروي فيه، ولو أن الحديث صح لم يكن نصا في الوضوء به فإنه قال «ثمرة طيبة وماء طهور»، أي قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء، وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة.
قال: ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب، وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له. وعند أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة «قلت لابن مسعود هل صحب النبي ﷺ ليلة الجن منكم أحد؟ فقال: ما صحبه منا أجد، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا أستطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشرّ ليلة، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قب الحجون» وفي لفظ «من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة، فقال إنه أتاني داعي الجن، فذهب معهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» وهذه القصة يجوز أن تكون هي المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهي سابقة على القصة التي كان فيها ابن مسعود. ويجوز أن تكون غيرها وهي المرادة بقول عكرمة «إنهم كانوا اثني عشر ألفا جاؤوا من جزيرة الموصل» لأن المتقدم في تلك عن كعب الأحبار «رضي الله ع» أنهم كانوا ثلاثمائة من جن نصيبين.
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التي كان بها ابن مسعود، ويحتمل أن تكون متأخرة عنها، وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به في مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود، ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما.
قال في الأصل: ويكفي في أمر الجن ما في سورة الرحمن وسورة ـ قل أوحي إليّ ـ وسورة الأحقاف.
أقول: فعلم أن الجن سمعوا قراءته ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم في المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ في ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم، ولا في المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمناه فيه، وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته في المرتين، وبه يعلم ما في المواهب عن الحافظ ابن كثير أنّ كون الجن اجتمعوا له في نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر، وإنما استماعهم له كان في ابتداء البعث كما يدلّ عليه حديث ابن عباس، أي من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ، وعلم أنهم اجتمعوا به وقرأ عليهم وآمنوا به في مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم.
وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن قتادة «أنه قال: لما أهبط إبليس قال: أي رب قد لعنته فما علمه؟ قال السحر، قال: فما قراءته؟ قال الشعر، قال: فما كتابته؟ قال: الوشم، قال: فما طعامه؟ قال: كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ـ أي من طعام الإنس يأخذه سرقة، قال: فما شرابه؟ قال: كل مسكر، قال: فأين مسكنه؟ قال: الحمام، قال: فأين محله؟ قال: في الأسواق، قال: فما صوته؟ قال المزمار، قال: فما مصايده؟ قال النساء» فالحمام محل أكثر إقامته، والسوق محل تردده في بعض الأوقات. والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن.
باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسي وإسلامه رضي الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسي شريفا في قومه شاعرا نبيلا، قدم مكة فمشى إليه رجل من قريش؛ فقالوا: يا أبا الطفيل؛ كنوه بذلك تعظيما له فلم يقولوا يا طفيل، إنك قدمت بلادنا؛ وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا: أي اشتد وفرّق جماعتنا وشتت أمرنا؛ وإنما قوله كالسحر؛ يفرق به بين المرء وأخيه؛ وبين الرجل وزوجته: وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا؛ فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت: أي قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه: أي حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء: أي قطنا، فرقا: أي خوفا من أن يبلغني شيء من قوله؛ فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله ﷺ قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله: أي فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: أنا ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت، فمكثت حتى انصرف إلى بيته، فقلت يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا حتى سددت أذني بكرسف حتى لا أسمع قولك، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليه الإسلام، وتلا عليه القرآن: أي قرأ عليه {قل هو الله أحد} إلى آخرها و {قل أعوذ برب الفلق} إلى آخرها، و {قل أعوذ برب الناس} إلى آخرها.
وفيه أنه سيأتي أن نزول {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} كان بالمدينة عندما سحر رسول الله، إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال: والله ما سمعت قط قولا أحسن من هذا، ولا أمرا أعدل منه فأسلمت، فقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام، فادع الله أن يكون لي عونا عليهم قال: اللهم اجعل له آية، فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر: أي وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه، وكان ذلك في ليلة مظلمة وقع نور بين عيني مثل المصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنه مثلة، فتحول في رأس سوطي، فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور كالقنديل المعلق: أي ومن ثم عرف بذي النور، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله.
وفي جبهة الدوسي ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة
قال: فأتاني أبي فقلت له: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك، فقال: لم يا بني؟ قلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد، فقال: أي بني ديني دينك، فأسلم، أي بعد أن قال له: اغتسل وطهر ثيابك ففعل، ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتني صاحبتي فذكرت لها مثل ذلك: أي قلت لها إليك عني فلست منك ولست مني، قد أسلمت وتابعت دين محمد، قالت: فديني دينك فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام أبطؤوا علي. ثم جئت رسول الله، فقلت: يا رسول الله، قد غلبني دوس وفي رواية «قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد دوسا» قال زاد في رواية «وأت بهم، فقال الطفيل: فرجعت فلم أزل بأرض قومي أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبي ﷺ إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق» ا هـ فأسلموا، قال: فقدمت بمن أسلم من قومي عليه وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس: أي ومنهم أبو هريرة، فأسهم لنا مع المسلمين أي مع عدم حضورهم القتال ا هـ.
أقول: قال في النور: وفي الصحيح ما ينفي هذا «وإنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه: أي ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعري وقومه، فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة، ثم جاءوا إلى المدينة.
وفيه أنه سيأتي أنه سأل أصحابه أن يشركوهم معهم في الغنيمة ففعلوا وسيأتي أنه إنما أعطى أهل السفينة: أي والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا، فقد أعطاهما مماأفاء الله عليه لا من الغنيمة، وسؤال أصحابه في اعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها في قوله تعالى {وشاورهم في الأمر} لا لاستنزالهم عن شيء من حقهم، والله أعلم.
باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
اعلم أنه لا خلاف في الإسراء به إذ هو نص القرآن على سبيل الإجمال، وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو الثلاثين: أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له ثلاثين مرة، فجعل كل حديث إسراء. واتفق العلماء على أن الإسراء كان بعد البعثة اهـ: أي الإسراء الذي كان في اليقظة بجسده، فلا ينافي حديث البخاري عن أنس بن مالك «رضي الله ع» «أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه » لأن ذلك كان في نومه بروحه، فكان هذا الإسراء توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراءاته كانت أربعا وثلاثين، واحد بجسمه والباقي بروحه، وتلك الليلة: أي التي كانت بجسمه كانت ليلة سبع عشرة، وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول، وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر، وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغني المقدسي وعليه عمل الناس، وقيل في شوّال، وقيل في ذي الحجة.
وفي كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسراءاته كلها كانت في تلك الليلة التي وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل، وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم، وادعى فيه الإجماع، وقيل بسنتين؛ وقيل بثلاث سنين، وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه للطائف كما دل عليه السياق، وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه إلى الطائف، وفيه نظر ظاهر.
واختلف في اليوم الذي يسفر عن ليلتهما، قيل الجمعة، وقيل السبت. وقال ابن دحية: يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة: أي لأنه ﷺ ولد يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ومات يوم الاثنين فليتأمل.
عن أم هانىء بنت أبي طالب «رضي الله ع»: أي واسمها على الأشهر فاختة، وسيأتي في فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره، قالت: «دخل عليّ رسول الله ﷺ بغلس: أي في الظلام بعيد الفجر وأنا على فراشي، فقال: أشعرت: أي علمت أني نمت الليلة في المسجد الحرام أي عند البيت أو في الحجر» وهو المراد بالحطيم الذي وقع في بعض الروايات، وفي رواية «فرج سقف بيتي».
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون السر في ذلك أي في انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره، فكأنّ الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفية ما سيصنع به، لطفا به وتثبيتا له: أي زيادة تمهيد وتثبيت له، وإلا فشق صدره تقدم له غير مرة، وفي رواية «أنه نام في بيت أم هانىء، قالت: فقدته من الليل فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش».
أي وحكى ابن سعد «أن النبي ﷺ فقد تلك الليلة، فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه، ووصل العباس إلى ذي طوى، وجعل يصرخ يا محمد، فأجابه لبيك لبيك، فقال: يا بن أخي عنيت قومك فأين كنت؟ قال: ذهبت إلى بيت المقدس قال: من ليلتك؟ قال نعم، قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: ما أصابني إلا خير» ولعله نزل عن البراق في ذلك المحل.
وعن أم هانىء «رضي الله ع» قالت «ما أسري برسول الله ﷺ إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا، فلم كان قبل الفجر أهبنا رسول الله ﷺ: أي أقامنا من نومنا» ومن ثم جاء في رواية: «نبهنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانىء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين» الحديث.
والمراد أنه صلى صلاته التي كان يصليها وهي الركعتان في الوقتين المذكورين، وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التي هي صلاة الغداة لم يكونا فرضا، وفي قولها «وصلينا معه» نظر لما تقدم، ويأتي أنها لم تسلم إلا يوم الفتح، ثم رأيت في مزيل الخفاء: وأما قولها يعني أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه في الصلاة كذا أجاب.
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها، أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل، فقال «إن جبريل أتاني» وفي رواية «أسرى به من شعب أبي طالب» قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين هذه الروايات «أنه نام في بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته الذي هو بيت أم هانىء» لأنه كان نائما به «فنزل الملك وأخرجه إلى المسجد وكان به أثر النعاس: أي فاضطجع فيه عند الحجر» فيصح قوله: نمت الليلة في المسجد الحرام إلى آخره.
وفي رواية «أنه أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، أي وهو مضطجع في المسجد في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر «رضي الله ع»، فقال أحدهم: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم، فاستلقوه على ظهره، فتولاه منهم جبريل، فشق من ثغرة نحره» وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين «إلى أسفل بطنه» أي وفي رواية «إلى مراق بطنه» وفي رواية «إلى شعرته» أي أشار إلى ذلك؟ فانشق فلم يكن الشق في المرات كلها بآلة، ولم يسل منه دم، ولم يجد لذلك إلما كما تقدم التصريح به في بعض الروايات، لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات «ثم قال جبريل، لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه، وأشرح صدره، فاستخرج قلبه: أي فشقه، فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى» وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التي نزعت منه وهو مسترضع في بني سعد بناء على تجزئتها كما تقدم في المرة الثانية، وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث، فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه في المرة الأولى وهو مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها. والذي ينبغي أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو في المرة الأولى، والواقع في غيرها إنما هو اخراج الأذى، وأنه غير تلك العلقة، وأن المراد به ما يكون في الجبليات البشرية، وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه، وذكر العلقة في المرة الأولى، وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة.
«واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا» أي نفس الحكمة والإيمان، لأن المعاني قد تمثل بالأجسام، أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك، والمراد كما لهما، فلا ينافي ما تقدم في قصة الرضاع أنه مليء حكمة وإيمانا. «ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه، ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة» وتقدم في قصة الرضاع أن في رواية أن الختم كان في قلبه، وفي أخرى أنه كان في صدره، وفي أخرى أنه كان بين كتفيه، وتقدم الكلام على ذلك. وأنكر القاضي عياض شق صدره ليلة الإسراء، وقال: إنما كان وهو صبي في بني سعد، وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا، أي والتي قبلها وعمره عشر سنين. ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره في تلك الليلة وعند البعثة، أي زيادة على الواقع له في بني سعد، وأبدى لكل من الثلاثة حكمة، وتقدم أنه شق صدره وهو ابن عشر سنين، وأنه شق صدره وهو ابن عشرين سنة، وتقدم ما فيه.
أقول: ويمكن أن يكون إنكار القاضي عياض لشق صدره ليلة المعراج على الوجه الذي جاء في بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء، وقال الملك: هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو مسترضع في بني سعد، ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة، وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافي قول الملك هذا حظ الشيطان منك، إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أي بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك، والأولى ما قدمناه في ذلك. ثم لا يخفى أنه ورد «غسل صدري» وفي رواية «قلبي».
وقد يقال: الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا، فأخبر بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى، أي وتقدم في مبحث الرضاع في رواية شق بطنه ثم قلبه، وفي أخرى شق صدره ثم قلبه، وفي أخرى الاقتصار على شق صدره، وفي أخرى الاقتصار على شق قلبه، وتقدم أن المراد بالبطن الصدر، وليس المراد بأحدهما القلب.
وفي كلام غير واحد ما يقتضي أن المراد بالصدر القلب، ومن ثم قيل: هل شق صدره وغسله مخصوص به، أو وقع لغيره من الأنبياء؟ .
وأجيب بأنه جاء في قصة تابوت بني إسرائيل الذي أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض «فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الرسل، وآخر البيوت بيت محمد، وهو من ياقوتة حمراء، ثلاثة أذرع في ذراعين» وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب، فكان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، ثم كان عند إسماعيل ثم عند ابنه قيدار، فنازعه ولد إسحاق، ثم أمر من السماء أن يدفعه إلى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له، ثم وصل إلى موسى "عليه الصلاة والسلام، فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقاها، وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذي غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وذلك مقتضٍ لعدم الخصوصية «وكان هذا التابوت إذا اختلفوا في شيء سمعوا منه ما يفصل بينهم، وما قدموه أمامهم في حرب إلا نصروا، وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بدّ أن يقتل أو ينهزم الجيش».
وفي الخصائص للسيوطي: ومما اختص به عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبي قبله شق صدره في أحد القولين وهو الأصح. وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر، لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت في الأحاديث، وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت، وليس فيها تعرض للتكرار، ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب، وإخراج العلقة السوداء مختص به، ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر في كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا، إذ ليس في قصة التابوت ما يدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا، ولم أقف على أثر يدلّ على ذلك، وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمه الشق، بل يجوز أن يكون غسله من خارج، وقد أحلنا على هذا الجمع في بحث الرضاع، وبهذا يردّ ما قدمناه من قول الشمس الشامي: الراجح المشاركة، ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل.
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه (نور البدر فيما جاء في شق الصدر) ولم أقف عليه، والله أعلم.
«قال فأتاني جبريل "عليه الصلاة والسلام، فذهب بي إلى باب المسجد» أي وعن الحسن قال: قال رسول الله «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل "عليه الصلاة والسلام، فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا؛ فعدت لمضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فأخذ بعضدي، فقمت معه فخرج بي إلى باب المسجد».
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه، إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه، فإذا دابة أبيض» أي ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه، وقيل: قيل له ذلك لسرعته، أي فهو كالبرق، وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود، أي يقال شاة برقاء: إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء: أي وهي العفراء، ومن ثم جاء في الحديث «أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين» أي ضحوا بالبلقاء وهي العفراء لكن في الصحاح الأعفر الأبيض، وليس بالشديد البياض، وشاة عفراء: يعلو بياضها حمرة، ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض، ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر، وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك، أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك، ويدل له قول بعضهم: إنه ذو لونين، أي بياض وسواد، والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر، وهذه الرواية طوي فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر، وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر، وأنهم احتملوه إلى زمزم، وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم «وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل، مضطرب الأذنين» أي طويلهما «أي وكان مسرجا ملجما» كما في بعض الروايات «فركبته، فكان يضع حافره مد بصره» أي حيث ينتهي بصره.
وفي رواية «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها، إذا أخذ في هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه، إذا أخذ في صعود طالت رجلاه وقصرت يداه» أي وقد ذكر هذا الوصف في فرس فرعون موسى. فقد قيل: كان لفرعون أربع عجائب، فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار، وقامته سبعة أشبار، فكانت لحيته أطول منه بشبر، وكان له فرس، وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه، وإذ انحدر يكون على ضد ذلك. وفي رواية «أن البراق خطوه مد البصر» قال ابن المنير: فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء في خطوة واحدة، لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات في سبع خطوات انتهى، أي لأن بصرٍ من يكون في سماء الدنيا يقع على السماء فوقها وهكذا، وهذا بناء على أنه عرج به على المعراج راكب البراق، وسيأتي ما فيه.
قال «فلما دنوت منه اشمأز»: أي نفر وفي رواية «فاستصعب ومنع ظهره أن يركب؛ فقال جبريل: اسكن، فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد» وفي رواية «في فخذيها» أي تلك الدابة التي هي البراق «جناحان تحفز بهما» أي تدفع بهما «رجليها» ففي اللغة: الحفز: الحث والإعجال «فلما دنوت لأركبها شمست» أي نفرت ومنعت ظهرها. وفي رواية «شمس»، وفي رواية «صرّت أذنيها» أي جمعتهما، وذلك شأن الدابة إذا نفرت «فوضع جبريل يده على معرفتها، ثم قال: ألا تستحيين يا براق مما تصنعين؟ والله ما ركب عليك أحد» وفي رواية «عبدالله قبل محمد أكرم على الله منه، فاستحيت حتى أرفضت عرقا» أي كثر عرقها وسال «ثم قرت حتي ركبها» أي وفي رواية «فقال جبريل: مه يا براق، فوالله ما ركبك مثله من الأنبياء» أي لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله.
ففي البيهقي «وكانت الأنبياء تركبها قبلي» وعند النسائي «وكانت تسخر للأنبياء قبلي، وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضي أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك في بعض الروايات، أي والمتبادر منها أنها التي بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام، فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى، وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبي.
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أي عيسى ومن قبله ركبوه. قال الإمام النووي: القول باشتراك جميع الأنبياء في ركوبها يحتاج إلى نقل صحيح، هذا كلامه.
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله ما تقدم وظاهر ما سيأتي في بعض الروايات «فربطه بالحلقة التي توثق بها الأنبياء» وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكرالموثق بفتح المثلثة، إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها. ثم رأيت في رواية البيهقي «فأوثقت دابتي» يعني البراق «التي كانت الأنبياء تربطها فيه» ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله: ما من رسول إلا وقد أسري به راكبا على ذلك البراق، هذا كلامه، وقد تقدم أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام حمل هو وهاجر وولدهما يعني إسماعيل على البراق إلى مكة.
وفي تاريخ الأزرقي: وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق، فعن سعيد بن المسيب وغيره «أن البراق هو دابة إبراهيم "عليه الصلاة والسلام التي كان يزور عليها البيت الحرام» وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله كما يقول ابن دحية ووافقة الإمام النووي، فقول جبريل "عليه الصلاة والسلام «ماركبك» ونحوه لا ينافيه، لأن السالبة تصدق بنفي الموضوع، ومن ثم قال في الخصائص الصغرى: وخص بركوب البراق في أحد القولين، أي وقيل إن الذي خصّ به هو ركوبه مسرجا ملجما.
وفي المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبي. وجاء في غريب التفسير «أن البراق لما شمس قال له جبريل: لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره يوم الفتح، فقال له: ما مسيته إلا أني مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله، فقال جبريل وما شمس إلا لذلك» أي لمجرد مرورك عليه، وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد.
وقال الحافظ ابن حجر: إنه من الأخبار الواهية. وقال مغلطاي: لا ينبغي أن يذكر ولا يعزى لرسول الله، ويقال فرس شموس: أي صعبة، ولا يقال شموسة، وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لا نطيل بذكره.
قال: وعن الثعلبي بسند ضعيف في صفة البراق عن ابن عباس «له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذنب كالبقر» أي وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك في الرواية السابقة «ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها» مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لهابل ظلف وهو الحافر.
وفي كلام بعضهم في صفة البراق «وجهه كوجه الإنسان، وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور، وذنبه كذنب الغزال، لا ذكر ولا أنثى» ا هـ، ومن ثم وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى، فهي حقيقة ثالثة، ويكون خارجا من قوله تعالى {ومن كل شيء خلقنا زوجين} كما خرجت من ذلك الملائكة، فإنهم ليسوا ذكورا» ولا إناثا.
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذني الفيل، وعنقها كعنق البعير. وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر. لها جناحان كجناح النسر، فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس، وذنبها كذنب البعير. ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة.
قال «ثم سرت وجبريل "عليه الصلاة والسلام لا يفارقني» أي وفي رواية «أنه ركب معه البراق» وفي الشفاء «ما زايلا ظهر البراق حتى رجعا» وفي رواية «ركبت البراق خلف جبريل» أي وفي صحيح ابن حبان «وحمله جبريل على البراق رديفا له».
قال: وفي الشرف «كان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل» وفي رواية «جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره» ا هـ.
أقول: لا منافاة، لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له وتارة أخذ بركابه من جهة اليمن، وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه، وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار، ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء «مازايلا ظهر البراق» لإمكان حمله على غالب المسافة. هذا، وفي حياة الحيوان: الظاهر عندي أن جبريل لم يركب مع النبي ﷺ البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء، هذا كلامه فليتأمل، والله أعلم.
قال «ثم انتهيت إلى بيت المقدس، فأوثقته بالحلقة التي بالباب» أي باب المسجد «التي كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق» أي تربط «بها» أي تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقي. وفي رواية «أن جبريل خرق بأصبعه الحجر» أي الذي هو الصخرة. وفي كلام بعضهم: فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشدّ به البراق.
أقول: لا منافاة، لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده، وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التي في الباب، لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته.
وفي الإمتاع: وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه.
وجمع بعضهم بأنه ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذي هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا، فأخذه جبريل فربطه في زاوية المسجد في الحجر الذي هو الصخرة التي خرقها بأصبعه، وجعله داخلا عن باب المسجد، فكأنه يقول له: إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا.
وفي حديث أبي سفيان قبل إسلامه لقيصر، أنه قال لقيصر يحط من قدره «ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب؟ قال: وما هو؟ قال: إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة، فقال: بطريق: أنا أعرف تلك الليلة، فقال له قيصر: ما علمك بها؟ قال: إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد: أي وهو الباب الفلاني غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نقدر، فقالوا: إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتي بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا، فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب، أي زيادة على ما كان عليه ما تقدم، وإذا فيه أثر مربط الدابة أي التي هي البراق: أي ولم أجد بالباب ما يمنعه من الإغلاق، فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده في العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء، وعند ذلك قلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر، وسيأتي ذلك عند الكلام على كتابه لقيصر. ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات، وهي «فأتى جبريل الصخرة التي في بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشدّ بها البراق» لأن الذي في بابه يقال إنها فيه، ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية، وإلا فجبريل "عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره.
وفي رواية عن شداد بن أوس أنه قال «ثم انطلق بي» أي جبريل «حتى دخلنا المدينة» يعني مدينة بيت المقدس من بابها اليماني «فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته».
قد يقال: لا يخالفه، لأنه يجوزأن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد، ولعل هذا الباب هو الباب اليماني الذي فيه صورة الشمس والقمر. ففي رواية «ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر» أي مثالهما فيه، والله أعلم.
وأنكر حذيفة «رضي الله ع» رواية ربط البراق وقال لم يفر منه، وقد سخره له عالم الغيب والشهادة. وردّ عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافي صحة التوكل. فعن وهب ابن منبه «رضي الله ع» «الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقي المهالك» قال وهب: وجدته في سبعين من كتب الله «عَزَّ وجَلّ» القديمة: أي ومن ثم قال «أعقلها وتوكل» وقد كان يتزود في أسفاره ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد. قال وفي رواية «فلما استوى النبي ﷺ في صخرة المسجد قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال نعم، قال جبريل: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن "عليه السلام"، فقال: من أنتن؟ قلن خيرات حسان نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا» ا هـ.
أقول: في كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه عرج به من عند القبة التي يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة. وقد جاء «صخرة بيت المقدس من صخور الجنة» وفي لفظ «سيدة الصخور صخرة بيت المقدس» وجاء «صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة» قال الذهبي: إسناده مظلم، وهو كذب ظاهر.
قال الإمام أبو بكر بن العربي في شرحه لموطأ مالك: صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء في وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، في أعلاها من جهة الجنوب قدم النبي ﷺ حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة لهيبته، وفي الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، أي فهي معلقة بين السماء والأرض، وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها، لأني كنت أخاف أن تسقط عليّ بالذنوب، ثم بعد مدة دخلتها فرأيت العجب العجاب، تمشي في جوانبها من كل جهة، فتراها منفصلة عن الأرض، لا يتصل بها من الأرض شيء ولا بعض شيء، وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض، وهذا الذي ذكره ابن العربي، أن قدمه أثر في صخرة بيت المقدس حين ركب البراق، وأن الملائكة أمسكتها لما مالت، قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقي حيث قال في معراجه المسجع: ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها، فصعد من جهة الشرق أعلاها، فاضطربت تحت قدم نبينا ولانت، فأمسكتها الملائكة لما تحركت ومالت.
وقول ابن العربي حين ركب البراق يقتضي أنه عرج به على البراق، وسيأتي الكلام فيه، وتقدم أن الجلال السيوطي سئل عن غوص قدمه في الحجر هل له أصل في كتب الحديث؟ فأجاب بأنه لم يقف في ذلك على أصل ولا رأى من خرّجه في شيء من كتب الحديث، وتقدم ما فيه.
وفي العرائس، قال أبيّ بن كعب: ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق في الأرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال «فنشر لي» بضم النون وكسر الشين المعجمة: أي أحيا لي بعد الموت «رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأن نشر الميت إحياؤه. والرهط: ما دون العشرة من الرجال «فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام» أي وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى «فصليت بهم، وكلمتهم» أي فالمراد نشروا عند دخوله المسجد وصلى بهم ركعتين؛ ووصفهم بالنشور واضح في غير عيسى "عليه الصلاة والسلام، لأنه لم يمت. ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتي في قصة بدر في الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى أنهم في البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم في الدنيا، وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم في البرزخ وحجهم وغير ذلك. وفي رواية «ثم صلى هو وجبريل كل واحد ركعتين، فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير» أي مع أولئك الرهط، فلا مخالفة بين الروايتين «فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة».
أقول: ذكر ابن حبيب أن آية (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) الآية، نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء. ويجوز أن يكون قوله وأقيمت الصلاة من عطف التفسير، فالمراد بالأذان الإقامة، وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر في الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة، وعلى أنه من عطف المغاير، ويدل له ما في بعض الروايات «فلما استوينا في المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة» فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن، لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا في المدينة: أي في السنة الأولى من الهجرة، وقيل في الثانية كما سيأتي.
وحديث «لما أسري بالنبي ﷺ إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: موضوع. وحديث «علم رسول الله ﷺ الأذان ليلة أسرى به» في إسناده متهم. وفي الخصائص الكبرى أنه علم الإقامة ليلة الإسراء. فقد جاء «لما أراد الله «عَزَّ وجَلّ» أن يعلم رسوله الأذان» أي الإقامة «عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذي يلي الرحمن» أي يلي عرشه «خرج ملك من الحجاب، فقال: الله أكبر الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر، ثم قال الملك: أشهد أن لا إله إلا الله: فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أرسلت محمدا، فقال الملك: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فأخذ الملك بيد محمد فقدمه يؤمّ بأهل السموات» قال في الشفاء: والحجاب إنما هو في حق المخلوق لا في حق الخالق فهم المحجوبون. قال: فإن صح القول بأن محمدا رأى به، فيحتمل أنه في غير هذا الموطن بعد رفع الحجاب عن بصره حتى رآه.
وجاء «أنه سأل جبريل عن ذلك الملك، فقال جبريل: إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه» وفي لفظ «والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا، وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه» وفيه أن هذا يقتضي أن جبريل "عليه الصلاة والسلام كان معه في هذا المكان، وسيأتي أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى، فليتأمل، والله أعلم.
«ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده فقدمه، فصلى بهم ركعتين».
أي وأما حديث «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت بالملائكة» قال الذهبي منكر، بل موضوع. والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلوّ مقامه، وأنه المقدم لاسيما في الإمامة.
وفي رواية «ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا» أي دفعوا «حتى قدموا محمد » أي ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه بعد دفعهم وتقديمهم له. وفي رواية «فأذن جبريل» أي أقام الصلاة «ونزلت الملائكة من السماء، وحشر الله له المرسلين» أي جميعهم «وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء» أي جميعهم، بدليل ما في بعض الروايات «بعث له آدم فمن دونه» فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبي لا بمعناه، وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى: ومن خصائصه إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاته إماما بهم وبالملائكة، لأن الأنبياء أحياء.
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلي بهم وقد علمت معنى إحيائهم.
«فلما انصرف قال جبريل: يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا، قال كل نبي بعثه الله تعالى» أي والنبي غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه.
أقول: ولا يخالف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد، لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم، أو أنه عرفهم بعد هذا القول.
وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس «رضي الله ع» قال «لما أسري برسول الله ﷺ إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف: ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين، وأربعة من سائر الأنبياء، وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل، وعن يمينه إسماعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» والله أعلم. وفي رواية «ثم دخل أي مسجد بيت المقدس فصلى مع الملائكة، فلما قضيت الصلاة قالوا: يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال: هذا محمد رسول الله ﷺ خاتم النبيين والمرسلين، قالوا: وقد أرسل إليه، أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء، قال نعم، قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة» وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ما سبق من أنه صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم.
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه.
قال القاضي عياض والأظهر أن صلاته بهم، يعني بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في بيت المقدس كان قبل العروج، أي كما يدل على ذلك سياق القصة. وقال الحافظ ابن كثير: صلى بهم في بيت المقدس قبل العروج وبعده، فإن في الحديث ما يدل على ذلك ولا مانع منه.
قال: ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم في السماء، أي لا في بيت المقدس، أي وهذا الزاعم هو حذيفة، فإنه أنكر صلاته بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في بيت المقدس. قال بعضهم: والذي تظافرت به الروايات صلاته بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس.
والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، أي فلم يصلّ في بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا وهو يخبره بهم. أي ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم، بل تقدم أنه عرف النبيين ما بين قائم وراكع وساجد* وما بالعهد من قدم* وهذا هو اللائق، لأنه أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوي: أي بناء على أن المعراج كان في ليلة الإسراء، وحيث كان مطلوبا لذلك، اللائق أن لا يشتغل بشيء عنه، فلما فرغ من ذلك اجتمع هو وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه في الإمامة، هذا كلامه.
أقول: بحث أن صلاته ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه من العروج، والاستدلال على ذلك بسؤاله عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واحدا واحدا في السماء، وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر، لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه، ومجرد الاستحسان العقلي لا يردّ النقل، فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت في الحديث ما يدل على أنه صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده، وكونه سأل عن الأنبياء في السماء لا ينافي صلاته بهم أولا، وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أوّلا، وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه، لأنه يجوز أن يكونوا في السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس، لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم.
وبهذا يعلم ما في قول بعضهم رؤيته للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام، ورؤيته لهم في بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم، ويحتمل أجسادهم، ويدل للثاني «وبعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» وفي رواية «فنشر لي الأنبياء من سمى الله ومن لم يسمّ، فصليت بهم» وعليهم، والاشتغال عن الجناب العلوي المدعو له بما فيه تأنيس، وهو اجتماعه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال، والله أعلم.
واختلف في هذه الصلاة. فقيل العشاء، أي الركعتان اللتان كان يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج.
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة: أي وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو ببيت المقدس بعد العروج وتقدم، وسيأتي أنه صلى الغداة بمكة، وعليه تكون معادة بمكة.
قال: والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنها كانت من النفل المطلق انتهى. أي ولا يضر وقوع الجماعة فيها. وبقولنا أي الركعتان إلى آخره يسقط ما قيل: القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء، لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر، ومن حمل الأولية على مكة أي ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس.
وفي زين القصص: كان زمن ذهابه ومجيئه ثلاث ساعات، وقيل أربع ساعات: أي بقيت من تلك الليلة. لكن في كلام السبكي أن ذلك كان في قدر لحظة حيث قال في تائيته * وعدت وكل الأمر في قدر لحظة * أي ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوي الطويل لمن يشاء، وقد فسح الله في الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة، وفي ذلك حكايات شهيرة.
قال «وأتيت بإناءين أحمر وأبيض فشربت الأبيض، فقال لي جبريل: شربت اللبن وتركت الخمر، لو شربت الخمر لارتدّت أمتك» أي غوت وانهمكت في الشرب، بدليل الرواية الأخرى، وهي رواية البخاري «أتي رسول الله ﷺ ليلة أسري به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فأخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد الله الذي هداك للفطرة» أي الإستقامة «لو أخذت الخمرة غوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل» أي يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك؟ فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب، وإتيانه بذلك وهو في المسجد ببيت المقدس، وسيأتي ما يدل على أنه أتي له بذلك أيضا بعد خروجه منه قبل العروج.
قال «واستويت على ظهر البراق، فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعي جبريل فصليت به الغداة، ثم قال لأمّ هانىء بعد أن أخبرها بذلك: أنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت، قالت أمّ هانىء: فعلقت بردائه، وقلت: أنشدك الله» أي بفتح الهمزة أسألك بالله «ابن عم» أي يا بن عم، أن تحدث أي لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك» وفي رواية «إني أذكرك الله «عَزَّ وجَلّ» أنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه، فانتزعه من يديّ فارتفع على بطنه فنظرت إلى عكنة: أي طبقات بطنه من السمن فوق ردائه وكأنه طي القراطيس» أي الورق «وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف». بفتح الطاء وربما كسرت «بصري، فخررت ساجدة، فلما رفعت رأسي إذ هو قد خرج، فقلت لجاريتي نبعة» أي وكانت حبشية معدودة في الصحابة «رضي الله ع» «اتبعيه وانظري ماذا يقول؟ فلما رجعت أخبرتني أن رسول الله ﷺ انتهى إلى نفر من قريش في الحطيم» هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود. وفي كلام بعضهم: بين الركن والمقام. سمي بذلك لأن الناس يحطم بعضهم بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء، قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته، وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى إليهم فيهم المطعم بن عدي وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة، فقال: «إني صليت الليلة العشاء» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت في هذا المسجد «وصليت به الغداة» أي أوقعت صلاة في ذلك الوقت، وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت، وكذا صلاة الغداة التي هي الصبح لم تكن فرضت كما تقدم «وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس».
أي لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت في لحظة أو ساعات، وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن. لأنا نقول وسع لهم الزمن، لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل.
قال «وجاء أنه لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه» أي وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى، وما هو دليل على علوّ مقامه الباعث على اتباعه؟ فقعد حزينا، فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه، فقال كالمستهزىء: هل كان من شيء؟ قال نعم أسري بي الليلة، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا قال: نعم، قال فلم يرأنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتني؟ قال نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدث قومك بما حدثتني به، فقال رسول الله ﷺ: إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس» الحديث انتهى «فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وصليت بهم وكلمتهم. فقال أبو جهل كالمستهزىء: صفهم لي، فقال: أما عيسى "عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل» أي لا طويل ولا قصير «عريض الصدر، ظاهر الدم» أي لونه أحمر. وفي رواية «يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان» وفي رواية «كأنه خرج من ديماس» أي من حمام، وأصله الكن الذي يخرج منه الإنسان وهو عرقان، وأصله الظلمة. يقال: ليل دامس. والحمام لفظ عربي. وأول واضع له الجن، وضعته لسيدنا سليمان على نبينا و"عليه الصلاة والسلام. وقيل الواضع له بقراط؛ وقيل شخص سابق على بقراط، استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن، فصار يستعمله حتى برىء.
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة، لكن يقوي بعضها بعضا «إن سليمان "عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال: أوّاه من عذاب الله» لأن دخول الحمام يذكر النار، لأن الحمام أشبه شيء بجهنم، لأن النار أسفله، والسواد والظلمة أعلاه. وقد قيل: خير الحمام ما قدم بناؤه، واتسع فناؤه، وعذب ماؤه. قال بعضهم: ويصير قديما بعد سبع سنين. قال بعضهم: ولم يعرف الحمام في بلاد الحجاز قبل البعثة؟ وإنما عرفه الصحابة بعد موته بعد أن فتحوا بلاد العجم.
وفيه أن في البخاري عن ابن عباس «رضي الله ع» لما قال رسول الله «أتدرون بيتا يقال له الحمام. قالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض قال فاستتروا» وفي رواية أنه لما قال «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فقالوا: يا رسول الله إنه يذهب بالدرن، وينفع المريض الوسخ، ويذكر النار، قال: إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر» وهو صريح في أن الصحابة «رضي الله ع» عرفوه في زمنه، إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم، والمنفي في كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه، ويؤيده قوله بيتا يقال له الحمام، وقوله «ستفتح عليكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات».
وأما ما جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» «أنه دخل حمام الجحفة» فلا يرد لأنه على تقدير صحته، فالمراد به أنه محلّ للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد ما في معجم الطبراني الكبير عن أبي رافع أنه قال «مر رسول الله ﷺ بموضع، فقال: نعم موضع الحمام هذا» فبني فيه حمام لجواز أن يكون بني ذلك بعد موته، فهو من أعلام نبوته. قال بعضهم: ولعله قال ذلك لقبح الموضع أي فقول بعضهم ويكفي ذلك في فضيلة الحمام ليس في محله.
وفيه أن هذا البعض لم يعول في الفضيلة على هذا فقط، بل عليه وعلى ما رواه البخاري عن ابن عباس «رضي الله ع» الذي فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض. .
ولا يرد أيضا ما في مسند أحمد عن أم الدرداء «رضي الله ع» «أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول الله، فقال لها من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام» لأن في سنده ضعيفا ومتروكا، ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبني على الهيئة المخصوصة كما تقدم. وبه يجاب أيضا عما في مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر «رضي الله ع» أن النبي ﷺ قال لأبي بكر وعمر رضي تعالى عنهما، وقد خرجا من الحمام «طاب حمامكما».
قال ابن القيم: ولم يدخل المصطفى حماما قط، ولعله ما رآه بعينه هذا كلامه. وعن فرقد السنجي «أنه ما دخل الحمام نبي قط» ويشكل عليه ما تقدم عن سليمان "عليه الصلاة والسلام.
واعترض بعضهم قول ابن القيم: لعله ما رأى الحمام بعينه بأنه دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رآها، نعم لم ينقل أنه دخل شيئا منها.
وفيه أنه قد يقال هو لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى، وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله إليها.
وفي الطبراني عن ابن عباس «رضي الله ع» مرفوعا«شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا» ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال، وما أحسن قول الإمام الغزالي: ورد «نعم البيت الحمام يطهر البدن، ويذهب الدرن، ويذكر النار. وبئس البيت الحمام، يبدي العورة، ويذهب الحياء» فهذا تعرض لآفته، وذلك تعرض لفائدته، ولابأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة.
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا. والأصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر، وهو محمل ما جاء «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم، فلا يدخل الحمامات» ومع عدم ستر العورة حرام؛ وهو محمل ما جاء «الحمام حرام على نساء أمتي».
وأول من اتخذ الحمام في القاهرة العزيز بن المعز العبيدي أحد الفواطم. قال بعضهم: ليس في شأن الحمام ما يعوّل عليه إلا قول المصطفى في صفة عيسى "عليه الصلاة والسلام» كأنما خرج من ديماس».
وقال غيره: أصح حديث في هذا الباب حديث «اتقوا بيتا يقال له الحمام، فمن دخله فليستتر». وقال ابن عمر في وصف عيسى "عليه الصلاة والسلام «إنما هوآدم» وحلف بالله إن رسول الله ﷺ لم يقل في عيسى إنه أحمر، وإنما قال آدم، وإنما اشتبه على الراوي. وأجاب الإمام النووي بأن الراوي لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها: أي والحمرة المقاربة لها أي للأدمة يقال لها أدمة، أي كما يقال لها حمرة فلا منافاة، قال «جاعد الشعر» أي في شعره تثن وتكسر.
أقول: ينبغي حمل جعد الذي جاء في بعض الروايات «وإذا هو بعيسى جعد» على هذا. ثم رأيت النووي قال: قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم، وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل، والله أعلم. «تعلوه صهبة» أي يعلو شعره شقرة «كأنه عروة بن مسعود الثقفي» أي «رضي الله ع»، فإنه بعد انصرافه من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه. وقال في حقه «إن مثله في قومه كصاحب يس?» كما سيأتي ذلك.
«وأما موسى "عليه الصلاة والسلام فضخم آدم» أي أسمر، ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية «طويل كأنه من رجال شنوءة» طائفة من اليمن: أي ينسبون إلى شنوءة؛ وهو عبدالله بن كعب من أولاد الأزد، لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين أهله. وقيل لأنه كان في شنوءة: وهو التباعد من الأدناس. وفي رواية «كأنه من رجال أزدعمان» هو أبو حي من اليمن. وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم: بلدة باليمن، سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم "عليه الصلاة والسلام. وأما عمان بفتح العين وتشديد الميم: فبلدة بالشام؟ سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها، وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة، ورجال الأزد معروفون بالطول.
قال «كثير الشعر، غائر العينين، متراكم الأسنان، مقلص الشفتين، خارج اللثة» أي وهو اللحم الذي حول الأسنان «عابس الفم وأما إبراهيم "عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بي خَلْقا وخُلقُا». وفي رواية «لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه» يعني نفسه «فضجوا وأعظموا ذلك، وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا، فقال المطعم بن عدي: إن أمرك قبل اليوم كان أمما» أي يسيرا «غير قولك اليوم، وأنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا، أتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللات والعزى لا أصدقك، وما كان هذا الذي تقول قط، وقال أبو بكر «رضي الله ع»: يا مطعم بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته» أي استقبلته بالمكروه وكذبته، أنا أشهد أنه صادق. وفي رواية «حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا» أي وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام.
وفي رواية «سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر «رضي الله ع» فقالوا: هل لك إلى صاحبك، يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس، قال: أو قد قال ذلك؟ قالوا نعم، قال: لئن قال ذلك لقد صدق، قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء في غدوة» أي وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس «وروحة» أي وهي اسم للوقت من الزوال إلى الليل، أي وهذا تفسير لهما بحسب الأصل، وإلا فالمراد أنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أي مجيء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أي وحينئذ يجوز أن يكون قول أبي بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول: أي قاله بعد أن اجتمع به رسول الله ﷺ وقد بلغته مقالته، فلا مخالفة بين الروايتين، وإلى إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
حظي المسجد الحرام بممشا ** ه ولم ينس حظه إيلياء
ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء
أي جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه فيه ففضل سائر البقاع، ولم ينس حظه من ممشاه بيت المقدس، بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا، ففضل على ما عدا المسجدين: أي مسجد مكة ومسجد المدينة؛ ثم وافى مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء في تلك الليلة.
ثم قال المطعم: يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك اظهار كذبه. وقيل القائل له ذلك أبو بكر، قال له: صفه لي فإني قد جئته أراد بذلك اظهار صدقه لقوله «فقال: دخلته ليلا وخرجت منه ليلا، فأتاه جبريل "عليه الصلاة والسلام فصوّره في جناحه» أي جاء بصورته ومثاله في جناحه» فجعل يقول باب منه كذا في موضع كذا وباب منه كذا في موضع كذا، وأبو بكر «رضي الله ع» يقول صدقت، أشهد أنك رسول الله حتى أتي على أوصافه» أي ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا.
وفي رواية «لما كذبتني قريش» أي وسألتني عن أشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أي قالوا له كم للمجسد من باب؟ «فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط، قمت في الحجر فجلى الله «عَزَّ وجَلّ» لي بيت المقدس» أي وجلى بتشديد اللام وربما خففت: كشفه لي أي بوجود صورته ومثاله في جناح جبريل.
وفي رواية «فجيء بالمسجد» أي بصورته «وأنا أنظر إليه حتى وضع» أي بوضع محله الذي هو جناح جبريل، فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل، ومنه رؤية الجنة والنار في عرض الحائط لا من باب طيّ المسافة وزوى الأرض، ورفع الحجب المانعة من الاستطراق، الذي ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما يحمل عليه حديث «رفع بيت المقدس حتى رآه النبي ﷺ بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء» إذ ذلك لا يجامع مجيء صورته في جناح جبريل، وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم، فرفعه إنما هو برفع محله الذي هو جناح جبريل.
ثم رأيت ابن حجر الهيتمي قال: الأظهر أنه رفع بنفسه كما جيء بعرض بلقيس إلى سليمان "عليه الصلاة والسلام في أسرع من طرفة عين، ولك أن تتوقف فيه، فإن عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس، وكان ذلك التجلي عند دار عقيل، وتقدم أنها عند الصفا، وأنها استمرت في يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخي الحجاج، وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم ما فيه، قال «فطفقت» أي جعلت «أخبرهم عن آياته»: أي علاماته/ «وأنا أنظر إليه» أي وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجر تلك الدار، أي لقوله «فقمت في الحجر» وهم يصدقونه على ذلك.
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع.
وأما قول المواهب: ولهذا لم يسألوه عما رأى أي في السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضي سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء، وسيأتي ما يخالفه. على أنه سيأتي أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء في ليلة أخرى. وقيل في حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة، يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، لورود أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن الذي في السماء الدنيا حيال الكعبة، فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه، ويقال عليه وإن سلم ذلك، لكن لم يكن الباب في تلك الجهة فإن ثبت أن في السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله.
قالت نبعة جارية أم هانىء: فسمعت رسول الله ﷺ يقول يومئذٍ: «يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق» أي ومن ثم كان علي «رضي الله ع» يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق.
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبي ليلى الغفاري: قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «سيكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب المنافقين» قال في الاستيعاب: إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه، هذا كلامه. وفي مسند البزار بسند ضعيف «أنه قال لعلي بن أبي طالب: أنت الصديق الأكبر وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل».
وفي رواية «أن كفار قريش لما أخبرهم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم، قالوا له ما آية ذلك يا محمد» أي ما العلامة الدالة على هذا الذي أخبرت به «فإنا لم نسمع بمثل هذا قط» أي: هل رأيت في مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أي لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه، قال «آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا فأنفرهم» أي أنفر عيرهم حس الدابة، يعني البراق «فندّ لهم بعير» أي شرد «فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان» أي وفي كلام بعضهم «فعثرت الدابة يعني البراق: فقلب بحافره القدح الذي فيه الماء الذي كان يتوضأ به صاحبه في القافلة» وشرب الماء الذي للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن. مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل، على أن من خصائصه أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه، ويجب على مالكه حينئذ بذله. وأما الجواب عن ذلك بأنه مال حربي غير صحيح، لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد، ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم، لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولا تتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم، قاله ابن حجر في شرح الهمزية: لكن في قطعة التفسير للجلال المحلي في تفسير قوله تعالى {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها} أن أمة أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها، لأنها مال حربي: أي من مال فرعون، إلا أن يقال ذاك: أي أخذ مال الكافر كان جائزا في شريعتهم، قال «وآية ذلك» أي علامته المصدقة لما أخبر به «أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق» وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب، وأخسها عملا عندهم: أي ليس بمحمود عندهم، في عمله وسيره «عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء» أي فيها بياض وسواد، كما تقدم، فابتدر القوم الثنية فأوّل ما لقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء، وعن نفار العير، وعن ندّ البعير، وعن الشخص الذي دلهم عليه فصدقوا قوله.
أقول: قد علم أن البعير التي نفرت وندّ منها البعبير ودلهم عليه مرّ عليها رسول الله ﷺ وهو ذاهب إلى الشام، والعير كان بها الإناء الذي شربه مر عليها وهو راجع إلى مكة، وهي التي صوبت من الثنية، وحينئذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له فيماأخبر، إلا أن يقال: يجوز أن تكون هذه العير التي مر عليها في العود اجتمعت في عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام، وأخبروهم بما ذكر، والله تعالى أعلم.
وفي رواية: «قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس» أي فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس «يا محمد أخبرنا عن عيرنا»: أي عيراتنا الذاهبة والآتية «هل لقيت منها شيئا، فقال نعم أتيت على عير بني فلان بالروحاء» أي وهو محل قريب من المدينة، أي بينه وبين المدينة ليلتان «قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك، فقالوا هذه واللات والعزى آية» أي علامة.
أقول: وهذه العير هي التي مر عليها في العود وهي قادمة إلى مكة، وفي هذه الرواية: زيادة أنهم أضلوا ناقة، وتقدم في تلك الرواية، أنه وجدهم نياما، وفي هذه الرواية: إنه ليس بها منهم أحد. وقد يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون الراوي أسقط منها هذه الزيادة وهي إضلال الناقة، وأن قوله ليس بها منهم أحد، أي مستيقظ، بل بعضهم ذهب في طلب تلك الناقة، وبعضهم كان نائما، لكن في هذه الرواية أنه مر عليها وهي بالروحاء، وهو لا يناسب قوله في تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتي من الروحاء إلى مكة في ليلة واحدة من أبعد البعيد، إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة، والله أعلم.
ثم قال: «فانتهيت إلى عير بني فلان فنفرت منها» أي من الدابة التي هي البراق «الإبل» أي التي هي العير «وبرك منها جمل أحمر، عليه جوالق مخطط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا؟ » وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة. ويمكن أن تكون هي الأولى، أسقط من تلك قوله في هذه: وبرك منها جمل إلى آخره، كما أسقط من هذه قوله: في تلك: فندّ لهم بعير.
وفي رواية: «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غراراتان، غرارة سوداء وغرارة بيضاء، فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر، أي وأضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان أي بدلالتي لهم عليه فسلمت عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك» فعلم أن هذه الرواية والتي قبلها هي الأولى، غاية الأمر أنه زيد في هذه قوله: فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية، قال «ثم انتهيت إلى عير بني فلان بالأبواء» أي وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة «يقدمها جمل أورق أي بياضه إلى سواد كما تقدم ها هي تطلع عليكم من الثنية، فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال فقالوا صدق الوليد فيما قال أي في قوله إنه ساحر، وأنزل الله تعالى {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين، وأنه يقال في مصدرها رؤيا بالألف كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك، إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه في ذلك: أي وقيل نزلت وقد رأى النبي ﷺ ولد الحكم بن أبي العاص أبي مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة، وقد ورد «رأيت بني مروان يتعاورون منبري» وفي لفظ «ينزون على منبري نزو القردة» زاد في رواية «فما استجمع ضاحكا حتى مات» وأنزل الله تعالى في ذلك {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} وفي رواية: فنزل {إنا أعطيناك الكوثر} وفي رواية: فنزل {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} قال بعضهم: أي خير من ألف شهر يملكها بعدك بنو أمية، فإن مدة ملك بني أمية كانت اثنتين وثمانين سنة، وهي ألف أشهر وكان جميع من ولي الخلافة منهم أربعة عشر رجلا، أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد.
وقد قيل لبعضهم: ما سبب زوال ملك بني أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالي؟ فقال: أبعدوا أصدقاءهم ثقة بهم، وقربوا أعداءهم جهلا منهم، فصار الصديق بالإبعاد عدوا، ولم يصر العدوّ صديقا بالتقريب له، وحديث «رأيت بني مروان» إلى آخره. قال الترمذي: هو حديث غريب، وقال غيره منكر، قال ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك: وقيل إن هذه الآية أي آية. {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} إنما نزلت في رؤيا الحديبية، حيث رأى النبي ﷺ أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين، ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون، وقال بعض الصحابة له: ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال فهو كما قال جبريل "عليه الصلاة والسلام كما سيأتي ذلك في قصة الحديبية.
وقيل: إنما نزلت هذه الآية في رؤيا وقعة بدر، حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر، فأرى النبي ﷺ مصارعهم، فتسامعت بذلك قريش فخروا منه، أي ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور، فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها.
قال ابن حجر الهيتمي: إن اتحاد النزول لا ينافي تعدد أسبابه: أي وذلك إذا تقدمت الأسباب، ويروى أنه عين لهم اليوم الذي تقدم فيه العير: أي قالوا له: متى تجيء؟ قال لهم: يأتوكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان، فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولي النهار ولم تجيء حتى كادت الشمس أن تغرب أي دنت للغروب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير: أي كما وصف.
أقول: يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التي مرّ عليها فلا يخالف ما تقدم أنه قال في بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية، وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
فوشمس الضحى طاعتك وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة
وجاء في بعض الروايات: أنها حبست له عن الطلوع، ففي رواية: أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا «قال مررت بها بالتنعيم، قالوا: فما عدتها وأحمالها ومن فيها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك، ثم قيل له ذلك فأخبر بعدتها وعدة أحمالها وعدة من فيها، وقال: تطلع عليكم عند طلوع الشمس، فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت تلك العير».
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول: هذه الشمس قد طلعت، وقال آخر: وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد ». وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمثل ما تقدم والله أعلم، وحبس الشمس وقوفها عن السير: أي عن الحركة بالكلية، وقيل بطء حركتها، وقيل ردها إلى ورائها، قالوا: ولم تحبس له إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى العصر بعد غروب الشمس وقال «شغلونا عن الصلاة الوسطى» كما سيأتي، ثم رأيت في كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب، وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس في بعض تلك الأيام إلى الاحمرار والاصفرار وصلى حينئذ، وفي بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض: ويؤيده أن راوي التأخير إلى الغروب غير راوي التأخير إلى الحمرة والصفرة.
وجاء في رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود "عليه الصلاة والسلام. وذكرى البغوي أنها حبست كذلك لسليمان "عليه الصلاة والسلام.
أي فعن علي بن أبي طالب «رضي الله ع» «أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر في وقتها» وهذا ردّ لها لا حبس لها عن غروبها الذي الكلام فيه. والذي في كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله وأعناقها حيث ألهاه عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب، ولم يتصدق بها مبادرة لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة في وقتها لأن التصدق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها. وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى "عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق "عليه الصلاة والسلام، أي وهو الذي قام بالأمر بعد موسى، لأن موسى "عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بني إسرائيل الأرض المقدسة التي هي أرض الشام، وكان سكنها الكنعانيون الجبارون، وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق، سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم وهي أريحا، فبعث إليهم اثني عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم، فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم. فقد ذكر بعضهم أنه رأى في فجاج: أي نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة، أي جالسة هي وأولادها حولها، والفجاج في الأصل الطريق الواسع، واستظل سبعون رجلا من قوم موسى في قحف رجل منهم، أي في عظم أمّ رأسه، وفي العرائس: وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم، ويدخل في قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة، وإن رجلا من العماليق أخذ الاثني عشر ووضعهم في كمه مع فاكهة كانت فيه، وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه. وفي العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم "عليه السلام" من صلبه، ويقال إنها أول بغيّ في الأرض.
وفي العرائس: أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب، وأخذ الاثني عشر في حجره وانطلق بهم لامرأته، وقال انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لها: ألا أطحنهم برجلي، فقالت: امرأته لا ولكن خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك، فلما رجعوا أخبروا موسى "عليه الصلاة والسلام، فقال: اكتموا خوفا من بني إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موس فلم يفعلوا، وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل، ففشلوا وجبنوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف، وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين، وقالوا لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} فدعا عليهم وقال {رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي} أي: فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هارون وكالب ويوشع، وهما المذكوران بقوله تعالى {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} لأن الله منجز وعده وإنا قد خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخي من واخاه ووافقه لا خصوص هارون، ثم دعا بقوله {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} أي باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا، أي تحيروا في ستة فراسخ من الأرض، يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وأنزل الله تعالى عليهم المنّ والسلوى، لأنهم شغلوا عن المعاش، وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ، وتطول مع الصغير إذا طال، وظلل عليهم الغمام من الشمس، ولما رأى موسى "عليه الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم.
وفي حياة الحيوان: لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة، فأوحى الله تعالى له {فلا تأس} أي لا تحزن{على القوم الفاسقين} أي الذين فسقوا: أي خرجوا عن أمرك.
قال في أنس الجليل: ومن عجيب الاتفاق أن أريحا هذه كانت في زمن بني إسرائيل منزل الجبارين، وفي زمن الإسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس. ثم مات موسى وهارون بالتيه، مات هارون أولا ثم موسى بعد سنتين. وفي ذلك رد على من قال إن قبر هارون أخي موسى بأحدكما سيأتي. وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هارون وأنه دفنه، وقيل إن هارون رأى سريرا في بعض الكهوف فقام عليه فمات، وإن بني إسرائيل قالوا قتل موسى هارون حسدا له على محبة بني إسرائيل له، فقال لهم موسى: ويحكم كان أخي ووزيري أفترني أقتله؟ فلماأكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذي قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وعلى الأول أن موسى انطلق ببني اسرائيل إلى قبره، ودعا الله أن يحييه فأحياه الله تعالى، وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى، وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور؛ أي فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي، وإن الله أمره بقتال الجبارين، فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة، ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس: «أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور، بحرمتي عليك إلا ركدت، أي مكثت ساعة من النهار».
وفي رواية «قال اللهم احبسها عليّ فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة» أي قال ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة، وقد عبر الإمام السبكي عن حبسها ليوشع يردها في قوله:
فوردت عليك الشمس بعد مغيبها ** كما أنها قدما ليوشع ردّت
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل، وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها، ومن ثم ذكر ابن كثير في تاريخه، أن في حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخاري «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع "عليه الصلاة والسلام، ليالي سار إلى بيت المقدس» وفيه دلالة على أن الذي فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى، وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس، لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق.
وفي العرائس أن موسى "عليه الصلاة والسلام لم يمت في التيه، بل سار ببني إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع، فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى "عليه الصلاة والسلام ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض، ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد، قال: وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق. وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدنني من الأرض المقدسة برمية حجر، فقال رسول الله «لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر».
قال ابن كثير: قوله لم تحبس لبشر، يدل على أن هذا من خصائص يوشع "عليه الصلاة والسلام، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت أي بعد مغيبها أي في خيبر كما سنذكره هنا حتى صلى عليّ بن أبي طالب العصر بعدما فاتته بسبب نوم النبي ﷺ على ركبته، وهو حديث منكر، ليس في شيء من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعي على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه، وسيأتي قريبا ما فيه. على أن قوله لم تحبس لبشر أي غيره، وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل.
وفي كلام سبط ابن الجوزي: إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس في خرق العادات.
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر ثم أخذ في ذكر فضائل آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت، فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا، ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال:
فلا تغربي يا شمس حتى ينتهي ** مدحي لآل المصطفى ولنجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن ** هذا الوقوف لولده ولنسله
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمي عليه من الحليّ والثياب، هذا كلامه.
ولما افتتحوا المدينة التي هي أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة، وكانوا: أي الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها، فتجيء النار تأكلها أي إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم، فمجيء النار وأكلها دليل على قبولها، ولم تحل إلا لنبينا كما سيأتي، فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجيء إليها النار، فقالوا له: يا نبي الله مالها لا تأكل قرباننا؟ قال: فيكم الغلول، فدعا رأس كل سبط وصافحه، فلصق كف واحد منهم في كف يوشع "عليه السلام"، فقال: الغلول في سبطك، فقال: كيف أعلم ذلك؟ قال: تصافح واحدا بعد واحد، فلصقت كفه بكف واحد منهم، فسئل فقال نعم: رأيت رأس بقرة من ذهب، عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتني فغللتها فجاء بها ووضعها في الغنيمة فجاءت النار فأكلتها.
وذكر البغوي أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى "عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا كما تقدم، وكذا القمر حبس لموسى "عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له. فعن عروة بن الزبير «رضي الله ع» قال: إن الله تعالى حين أمر موسى "عليه الصلاة والسلام بالمسير ببني إسرائيل إلى بيت المقدس، أمره أن يحمل معه عظام يوسف "عليه الصلاة والسلام، وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة، أي وفاء بما أوصى به يوسف "عليه الصلاة والسلام.
فقد ذكر أن يوسف "عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة، أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه، فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك، فسأل موسى "عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف، فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بني إسرائيل، فقالت له: يا نبي الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتني معك ولم تخلفني بأرض مصر، قال أفعل، وفي لفظ: إنها قالت أكون معك في الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك، فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها.
وقد كان موسى "عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف "عليه الصلاة والسلام، ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة في ناحية من النيل، وفي لفظ في مستنقعة ماء أي وتلك المستنقعة في ناحية من النيل، فقالت لهم أنضبوا عنها الماء: أي ارفعوه عنها ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا وأخرجوه. وفي لفظ: أنها انتهت به إلى عمود على شاطىء النيل، أي في ناحية منه فلا يخالفه ما سبق في أصله سكة من حديد فيها سلسلة؛ أي ويجوز أن يكون حفرهم الواقع في تلك الرواية كان على إظهارتلك السكة فلا مخالفة، ووجدوه في صندوق من حديد وسط النيل في الماء، فاستخرجه موسى "عليه الصلاة والسلام، وهو في صندوق من مرمر أي داخل ذلك الصندوق الذي من الحديد فاحتمله.
وفي أنس الجليل: أن موسى "عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلاثمائة سنة، فقال له يا نبي الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتي، فقال له موسى: قم معي إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى: ألك علم بقبر يوسف؟ فقالت: نعم ولا أدلك على قبره إلا إذا دعوت الله تعالى أن يرد عليّ شبابي إلى سبع عشرة سنة ويزيد في عمري مثل ما مضى فدعا موسى لها، وقال لها كم عمرك؟ قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة، فأرته قبر يوسف وكان في وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء في بركته.
وأما عود الشمس بعد غروبها، فقد وقع له في خيبر، فعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يوحي إليه ورأسه في حجر عليّ، ولم يسر عن النبي، حتى غربت الشمس وعليّ لم يصلي العصر أي فقال له رسول الله ﷺ: أصليت العصر؟ فقال لا، فقال رسول الله ﷺ: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فاردد عليه الشمس. قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت».
قال بعضهم: لا ينبغي لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث، لأنه من أجلّ أعلام النبوّة وهو حديث متصل. وقد ذكر في الإمتاع: أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها، وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها، وبه يرد على ابن الجوزي، حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك لكن في الإمتاع ذكر في خامس الطرق «أن عليا اشتغل مع رسول الله ﷺ في قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله ﷺ: يا عليّ صليت العصر؟ قال لا يا رسول الله، فتوضأ رسول الله ﷺ وجلس في المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش، فارتجعت الشمس كهيئتها في العصر فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم تكلم رسول الله ﷺ بمثل ما تكلم به قبل ذلك، فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار في الخشب» وذلك مخالف لسائر الطرق، إلا أن يدعي أن هذه الطريق فيها حذف، والأصل اشتغل مع النبي ﷺ في قسمة غنائم خيبر، ثم وضع رأسه في حجر علي ونام فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة.
قال «وجاء أنه قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل؛ فقال له جبريل: انزل فصلّ هنا ففعل، ثم ركب فقال: أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت بطيبة وإليها المهاجرة» وسيأتي ما فيه في الكلام على الهجرة «فانطلق البراق يهوي يضع حافره حيث أدرك طرفه، حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب، فقال له جبريل أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت بمدين» أي وهي قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى، سميت باسم مدين بن إبراهيم لما نزلها «ثم ركب فانطلق البراق يهوي به، ثم قال انزل فصلِ، ففعل ثم ركب، فقال له: أتدري أين صليت؟ قال لا، قال: صليت ببيت لحم» أي وهي قرية تلقاء بيت المقدس «حيث ولد عيسى "عليه الصلاة والسلام» أي وفي الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة «وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخرّ لفيه؟ فقال بلى، فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن، أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته. ورأى حال المجاهدين في سبيل الله» أي كشف له عن حالهم في دار الجزاء بضرب مثاله، فرأى قوما يزرعون في يوم أي في وقت «ويحصدونه في يوم» أي في ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال «كلما حصدوا عاد كما كان، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه» هذا الثاني هو المناسب لحالهم دون الأول، فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعي أنه شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذي هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين. فقد جاء «كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف، وفي غيرهم بخلافه.
«ووجد ريح ماشطة بنت فرعون، ووجد داعي اليهود وداعي النصارى، فأما الأول، فقد رأى عن يمينه داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل، فقال: داعي اليهود، أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك» أي لتمسكوا بالتوراة، والمراد غالب الأمة «وأما الثاني فقد رأى عن يساره داعيا يقول: يا محمد انظرني أسألك فلم يجبه، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك» أي لتمسكت بالإنجيل، وحكمة كون داعي اليهود على اليمين وداعي النصارى على اليسار لا تخفى.
«ورأى حال الدنيا أي كشف له عن حالتها بضرب مثال «فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها» كأن ذلك شأن المقتص لغيره «وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى» أي ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه، فكيف بوجود سائر أنواع الزينة «فقالت يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. ورأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل؟ فقال: إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز «أي فزينتها لا ينبغي الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء» لم يبق من عمرها إلا القليل» ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره.
وفي كلام بعضهم: الدينا قد يقال لها شابة وعجوز، بمعنى يتعلق بذاتها، وبمعنى يتعلق بغيرها، الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنساني إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا كهلة، ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا.
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابلة إنما يكون في الحيوان. ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل.
وكشف له عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال «فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها».
وكشف له عن حال من يترك الصلاة المفروضة في دار الجزاء «فأتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت، ولا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: يا جبريل ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة» أي المفروضة عليهم.
وكشف له عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه «ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع» وهو اليابس من الشوك «والزقوم» ثم شجر مر له زفرة، قيل إنه لا يعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار، وهي المذكورة في قوله تعالى {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي منبتها في أصل الجحيم، وتقم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين {ويأكلون رضف جهنم} أي حجاراتها المحماة، لأن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التي يكوى بها «فقال من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم».
وكشف له عن حال الزناة، بضرب مثال «ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور ولحم نيء أيضا في قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح».
وكشف له عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال «ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شيء إلا خرقته، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}.
وكشف له عن حال من يأكل الربا أي حالته التي يكون عليها في دار الجزاء «فرأى رجلا يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة، فقال له: من هذا؟ قال: آكل الربا» وقد شبهه الله تعالى في القرآن بقوله {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} أي إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم، إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذي يصرعه الشيطان، فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم، كما أن المصروع حاله ذلك، أي فهذه حالته في الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التي تكون في دار الجزاء.
وكشف له عن حال من يعظ ولا يتعظ «ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء خطباء الفتنة، خطباء أمتك، يقولون ما لا يفعلون».
وكشف له عن حال المغتابين للناس «فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم».
وكشف له عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال «فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا الرجل يا جبريل؟ فقال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها».
وكشف له عن حال من أحوال الجنة «فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادي.
وكشف له عن حال من أحوال النار «فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا صوت جهنم، تقول يا رب ائتني بما وعدتني» أي وليست جهنم بذلك الوادي كما سيأتي أن الوادي التي هي به هو الذي ببيت المقدس، ولعل هذا الوادي مقابل لذلك الوادي، وينبغي أن لا يكون هذا هو المراد بما في الخصائص الصغرى للسيوطي.
وخص باطلاعه على الجنة والنار، بل المراد بذلك رؤية ذلك في المعراج، وعند وصوله إلى الوادي الذي ببيت المقدس بالنسبة للنار. «ورأى الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن» أي وهو من هلك في الجاهلية أي قبل البعثة.
«ومرّ على شخص منتحيا على الطريق، يقول: هلم يا محمد، قال: جبريل: سر يا محمد، قال: من هذا؟ قال: هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه» ا هـ.
وفي رواية «لما وصلت بيت المقدس وصليت فيه ركعتين أي إماما بالأنبياء والملائكة أخذني العطش أشدّ ما أخذني، فأتيت بإناءين في إحداهما لبن وفي الأخرى عسل، فهداني الله تعالى، فأخذت اللبن فشربت، وبين يديّ شيخ متكىء على منبر له، فقال: أي مخاطبا لجبريل: أخذ صاحبك الفطرة، إنه لمهديّ، فلما خرجت منه جاءني جبريل "عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة» أي الاستقامة التي سببها الإسلام، ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي على الإسلام.
وفي رواية أخرى «فأتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها، فأتي باناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا. وفي رواية: أنه لم يشرب منه شيئا، وأنه قيل له لو شربت الماء» أي جميعه أو بعضه «لغرقت أمتك» أي وفي رواية: «أنه سمع قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته، ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روي».
أي وفي رواية «سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدي وهديت أمته، ثم رفع إليه إناء فيه خمر، فقيل له اشرب، فقال: لا أريده فقد رويت، فقال له جبريل: إنها ستحرم على أمتك» أي بعد إباحتها لهم.
وفي رواية أخرى «أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك» أي لا يكون على طريقتك منهم إلا قليل. أي وفي رواية «أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته».
أقول: وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو في بيت المقدس، ولأن تكون وهو خارج عنه، ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس وخارجه، ولا مانع من تكرر عرض آنيتي الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج.
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن، وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن. ولا بين الإخبار بإناءين، والإخبار بأواني ثلاثة، لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين. ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء، لأنه يجوز أن يكون إحدى الأواني الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل، أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل، أو تكون الأواني أربعة وبعض الرواة اقتصر.
وقد قال ابن كثير: مجموع الأواني أربعة، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى، ولكن لم يسقط اللبن. وفي رواية بخلاف غيره، فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط، وتارة ذكر معه العسل فقط، وتارة ذكر معه الماء والخمر. وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل "عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم. قال «ومرّ على موسى "عليه الصلاة والسلام وهو يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته: أكرمته، فضلته» ا هـ.
وفي رواية «سمعت صوتا وتذمرا» هو بالذال المعجمة: الحدة «فسلم عليه فرد "عليه السلام"، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى بن عمران، قال: ومن يعاتب؟ قال: يعاتب ربه فيك، قال: أو يرفع صوته على ربه» والعتاب مخاطبة فيها إدلال، وهذا يدل على أن الصوت الذي سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه. وفي رواية «على من كان تذمره» أي حدته «قال على ربه، قلت: أعلى ربه؟ قال جبريل: إن الله «عَزَّ وجَلّ» قد عرف له حدته» وهذا كما علمت كان كالذي بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم.
وجاء «وليلة أسري بي مر بي جبريل على قبر أبي إبراهيم، فقال: أنزل فصل ركعتين قال: ومرّ على شجرة تحتها شيخ وعياله، فقال: ومن هذا؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، فسلم عليه فرد "عليه السلام"، فقال: من هذا الذي معك يا جبريل؟ فقال: هذا ابنك أحمد، قال: مرحبا بالنبي العربي الأمي، ودعا له بالبركة» أي فموسى عرفه فلم يسأل عنه، وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه، لكن في السيرة الهشامية «أن موسى سأل عنه أيضا، فقال: من هذا يا جبريل. فقال: هذا أحمد، فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح أمته، ودعا له بالبركة. وقال: اسأل لأمتك اليسير» والظاهر أن قبر إبراهيم كانت تحت تلك الشجرة أو قريبا منها، فلا مخالفة بين الروايتين.
«وسار حتى أتى الوادي الذي في بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابيّ» أي وهي النمارق. أي الوسائد «فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال: مثل الحممة« أي الفحمة ا هـ.
قال «ثم عرج بنا إلى السماء» أي من الصخرة كما تقدم «أي على المعراج» بكسر الميم وفتحها «الذي تعرج أرواح بني آدم فيه» وهو كما في بعض الروايات «سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب» أي عشر مراقي. وهو المراد بقول بعضهم: «وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة: سبع إلى السموات، والثامن إلى سدرة المنتهى، والتاسع إلى المستوي، والعاشر إلى العرش والرفرف» أي فأطلق على كل مرقاة معراجا «وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه. أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء» أي بعد خروج روحه «فإن ذلك عجبه بالمعراج الذي نصب لروحه لتعرج عليه، وذلك شامل للمؤمن والكافر، إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فتردّ بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له. وذلك المعراج أتي به من جنة الفردوس وإنه منضد باللؤلؤ» أي جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض «عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام» قال الحافظ ابن كثير: ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس، أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه «حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا، أي ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسماعيل، أي وهذا يسكن الهواء، لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك».
أي وفي رواية «أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت» وفي رواية «فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل سماء الدنيا أي حفظتها من هذا؟ قال جبريل، فقيل: ومن معك؟ أي فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما، ولعل جبريل لم يكن على الصورة التي يعرفونه بها «قال محمد» وفي رواية «قال معك أحد» يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائي له معظم الحفظة «قال: نعم معي محمد، قيل: وقد بعث إليه» أي للإسراء والعروج، أي لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس، وإلا فبعثته ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة. وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه.
فإن قيل قد جاء في حديث أنس «إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث» قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه، وأنه كان مناما لا يقظة. قال السهيلي: ولم نجد في رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا في هذا الحديث.
وفي رواية بدل بعث إليه «أرسل إليه. قال: قد بعث إليه ففتح لنا، قال: فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير».
واختلف في لفظ آدم؟ فقيل أعجمي، ومن ثم منع الصرف. وقيل عربي، لأنه مشتق من الأدمة التي هي السَّمرة، والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافي كونه أحسن الناس، أو هو مشتق من أديم الأرض أي وجهها لأنه مخلوق منه. وعلى أنه عربي يكون مع صرفه للعلمية ووزن الفعل.
وفي رواية «تعرض عليه أرواح بنيه فيسرّ بمؤمنها» أي عند رؤيته «ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها».
قال وفي رواية «فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته» أي على غاية من الحسن والجمال «فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: روح طيبة ونفس طيبة، خرجت من جسد طيب، اجعلوها في عليين. وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث، اجعلوها في سجين».
أقول: وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين في عليين كأرواح الطائفين منهم، لكن لا يقتضي تساويهما في الدرجة كما لا يخفى.
وفي رواية «تعرض عليه أعمال ذريته» وهو إما على حذف المضاف: أي صحف أعمالهم التي وقعت منهم، وهي التي في صحف الحفظة، أو التي ستقع منهم وهي ما في صحف الملائكة غير الحفظة. أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتي أن المعاني تجسم، ففي كل من الروايتين اقتصار، والله أعلم.
وفي رواية سندها ضعيف، كما قاله الحافظ ابن حجر «وعن يمينه أسودة، وباب يخرج منه ريح طيبة، وعن شماله أسودة، وباب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه أي إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله أي إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه، فقال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، فقال النبي ﷺ: من هذا؟ فقال: هذا أبوك آدم» أي وزاد في الجواب قوله «وهذه الأسودة نسم» أي أرواح «بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، وأهل الشمال أهل النار؛ فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى» وزاد في الجواب أيضا قوله «وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى» ا هـ أي إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما، وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار في الأرض السابعة، وهي محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما في السماء الدنيا، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم.
وأجيب عن الثاني بأن عرضها: أي أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهي دون السماء لأنها شفاقة أو من ذلك الباب، أي وكونها عن يساره الذي أخبر به: أي في جهة يساره.
ويجاب عن الأول بأن الباب الذي على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة، ولهذا قيل له باب الجنة، وكذا يقال في باب جهنم، لأن الإضافة تأتي لأدنى ملابسة، وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة في الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هي الأرواح التي لم تدخل الأجساد بعد: أي الآن، ومستقرها عن يمين آدم وشماله. وقد أعلم بما سيصيرون إليه، بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها. على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره.
ولا حاجة لما نقل عن القرطبي في الجواب عن ذلك، من أن الكفار التي لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب، فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب، إذ هو يقتضي أن المراد بأرواح بنيه في الروايتين السابقتين الأرواح التي خرجت من أجسادها.
قال: «ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافر الإبل» أي كشفاه الإبل «أي وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار» أي الحجارة التي كل واحد منها ملء الكف «يقذفونها في أفواهم تخرج من أدبارهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما» وهؤلاء لم تتقدم رؤيته لهم في الأرض: أي ولعل المراد بالرجال الأشخاص، أو أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا «قال: ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط» وفي رواية «أمثال البيوت» زاد في رواية «فيها حيات، ترى من خارج البطون بسبيل» أي طريق آل فرعون، يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك: أي فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر، المقتضي لشدة وطئهم لهم. والمهيومة: التي أصابها الهيام، وهو داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض ولا ترعى، وفي كلام السهيلي: الإبل المهيومة العطاش، والهيام: شدة العطش. أي وفي رواية «كلما نهض أحدهم خر» أي سقط «قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا» وتقدمت رؤيته لهم في الأرض، لا بهذا الوصف، بل إن الواحد منهم يسبح في نهر من دم يلقم الحجارة: أي ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم: أي فيخرجون من ذلك النهر ويلقون في طريق من ذكر، وهكذا عذابهم دائما.
قال «ثم رأيت رجالا بين أيدهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن، يأكلون من الغث أي الخبيث المنتن، ويتركون السمين الطيب، قال: قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن» أي وتقدمت رؤيته لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف.
وفي رواية «رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون. قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام» أي من الأموال، أعمّ مما قبله: أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته لهم في الأرض.
قال «ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم، أي بسبب زناهن: أي وهؤلاء لم يتقدم رؤيته لهن في الأرض، والذي تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد، وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم، على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات، لأن الزنا سبب في حصول ما ذكر غالبا، ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن.
قال «ثم مضى هنيهة، فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه، فيقال له أي لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك، اللمازون: أي المغتابون للناس النمامون لهم» ا هـ أي وتقدمت رؤيته للمغتابين في الأرض بغير هذا الوصف. أي وروي «أنه رأى في هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما: أي أصلهما» وهو يخالف ما يأتي «أنه رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران» وأن الظاهرين النيل والفرات.
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى، ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذي هو أصلهما في السماء الدنيا: أي بعد مرورهما في الجنة، ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض. فقد جاء «في تفسير قوله تعالى {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض} أنهما النيل والفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل "عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال» ثم إن الله سبحانه وتعالى سيرفعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان، وذلك قوله تعالى {وإنا على ذهاب به لقادرون} وذكره السهيلي وفي زيادة الجامع الصغير «أن النيل ليخرج من الجنة، ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها».
قال: «ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل "عليه الصلاة والسلام، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل: قد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما، أي شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما، ومعهما نفر من قومهما، فرحبا بي ودعوا لي بخير» وفي بعض الروايات التي حكم عليها بالشذوذ «أنهما في السماء الثالثة» وقد ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس، والشذوذ لا ينافي الصحة المطلقة.
فقد قال شيخ الإسلام في شرح ألفية العراقي عند قوله من غير ما شذوذ: خرج الشاذ، وهو ما خالف فيه الراوي من هو أرجح منه، ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم، لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه.
وفي كلام السخاوي نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد فيهما أمثلة من ذلك، أي من الصحيح الموصوف بالشذوذ.
أقول: وكونهما ابني الخالة: أي أن أم كل خالة الآخر هو المشهور. وعليه قال ابن السكيت: يقال ابنا خالة، ولا يقال ابنا عمة، ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال؛ لكن في عيون المعارف للقضاعي أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى، لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم.
وكذا في كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام، وأنهما تزوجا أختين؛ فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر، ثم ولدت مريم عيسى، وزوجة عمران ولدت مريم، فأم يحيى أخت أم مريم، فعيسى ابن بنت خالة يحيى، وحينئذ يكون قوله «فإذا أنا بابني الخالة» على التجوّز، وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما في تفسير التستري على التجوز.
ففيه: حكي عن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنهما خرجا يمشيان، فصدم يحيى امرأة، فقال له عيسى: يا ابن الخالة، لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله «عَزَّ وجَلّ» يغفرها لك، قال: وما هي؟ قال: صدمت امرأة قال: والله ما شعرت بها، قال عيسى: سبحان الله: بدنك معي فأين قلبك؟ قال: معلق بالعرش، ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أني ما عرفت الله «عَزَّ وجَلّ» ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت. وقال بعضهم: وهو كثير شائع في كلامهم.
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين، وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم، وأخت مريم من الأب، فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون في شريعتهم جواز ذلك.
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت أشياع: أي التي هي أم يحيى، ثم تزوج حنة بعد ذلك التي هي ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم، بناء على جواز ذلك في شريعتهم.
وفيه أنه تقدم أن نوحا "عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم، إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة، ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصاري جيء به للنبي يوم ولد فحنكه بتمرة؛ وقال: لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى.
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما في الكشاف عن ابن عباس «رضي الله ع» «كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله تعالى إياه، وعيسى برفعته إلى السماء، وقلنا رسول الله ﷺ أفضل منهم؟ بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء؛ أي فدخل رسول الله، فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له، فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا همّ بها» أي ففي الحديث «ما من أحد إلا ويلقى الله «عَزَّ وجَلّ» وقد همّ بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهمّ بها ولم يعملها» فليتأمل ما في ذلك.
وقد ذكر «أن والد زكريا لأمه على كثرة العبادة والبكاء، فقال له: أنت أمرتني بذلك يا أبت، ألست أنت القائل: إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاؤون من خشية الله «عَزَّ وجَلّ»؟ فقال: بلى، فجدّ واجتهد».
وقد جاء في الحديث «أن يحيى هو الذي يذبح الموت يوم القيامة، يضجعه ويذبحه بشعرة تكون في يده والناس ينظرون إليه، أي فإن الموت يكون في صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، ويقال لأهلهما: أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت» أي يلقي الله «عَزَّ وجَلّ» معرفته في قلوبهم، وتجسم المعاني جاء به الحديث الصحيح.
على أنه جاء في تفسير قوله تعالى (خلق الموت والحياة) أن الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات. وخلق الحياة في صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيي، وهو يدل على أن الموت جسم، وأن الميت يشاهد حلول الموت به.
وقيل الذي يذبح الموت جبريل "عليه الصلاة والسلام. وقيل إن في هذه السماء الثانية إدريس، وهو قول شاذ. وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطي في أوائل الجامع الصغير، وذكر فيها أن ابني الخالة في السماء الثالثة كما تقدم، وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس.
قال أبو حيان: وعيسى لفظ أعجمي. والظاهر أن مثله يحيى، هذا كلامه. وفي كلام غيره أن يحيى عربي، ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل.
وقيل في عيسى إنه عربي مشتق من العيس: وهو بياض يخالطه صفرة. وعلى أنه أعجمي قيل عبراني. وقيل سرياني.
«ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بيوسف، أي ومعه نفر من قومه، وإذا هو أعطي شطر الحسن» أي وفي رواية «صورته صورة القمر ليلة البدر» والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذي أعطيه الناس.
وفي الحديث: «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا، وأعطي الناس الثلثين» ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء في رواية «قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثي حسن الخلق، وقسم بين سائر الخلق الثلث» وعن وهب بن منبه: الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس.
وفي كلام بعضهم«كان فضل يوسف في الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء، وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران» والمراد بالناس غير نبينا، لأن حسن نبينا لم يشارك في شيء كما أشار إليه صاحب البردة بقوله: فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا؛ وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكي.
وعبارته «فإذا هو أي يوسف "عليه الصلاة والسلام أعطي شطر الحسن الذي أعطيه كله ».
هذا، وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذي هو جده، وإسحاق ورث الحسن من سارة التي هي أمه، وسارة أعطيت سدس الحسن، ورثت ذلك من حواء.
أي وفي رواية «وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب» أي كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية، والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا، ولأن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه على ما فيه.
وقد جاء «إن يوسف أعطي نصف حسن آدم» وفي رواية «ثلث حسن آدم» وقد جاء «كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه».
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: وخص بأنه أوتي كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره، فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها.
وقد جاء «ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا».
قال: «فرحب بي ودعا لي بخير» وفي بعض الروايات «إن في هذه السماء الثالثة ابني الخالة يحيى وعيسى» كما مر «ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير» وفي رواية «قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح».
وفي رواية قتادة «مرحبا بالابن الصالح» قال بعضهم: وهو القياس، لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث، بينه وبين شيث أربعة آباء؛ أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة. وهو أول من أعطى الرسالة من ولد آدم، وهو يقتضي أن شيثا لم يكن رسولا. ونوح من ولده، بينه وبينه ابنان، فإدريس في عمود نسبه، وحينئذ يكون قوله بالأخ الصالح في تلك الرواية محمول على التواضع منه، خلافا لمن تمسك بذلك.
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبي، قال الله «عَزَّ وجَلّ» (ورفعناه مكانا عليا) أي حال حياته لأنه رفع إلى السماء. قيل من مصر بعد أن خرج منها ودار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة، خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم.
وهو أوّل من استخرج علم النجوم: أي علم الحوادث التي تكون في الأرض باقتران الكواكب.
قال الشيخ محيي الدين بن العربي: وهو علم صحيح لا يخطىء في نفسه؛ وإنما الناظر في ذلك هو الذي يخطىء لعدم استيفاء النظر. ودعوى إدريس "عليه السلام" الخلائق يدل على أنه كان رسولا. وفي كلام الشيخ محيي الدين: لم يجيء نص في القرآن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا.
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح "عليه الصلاة والسلام، ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه، فمن شاء دخل معه في شرعه، ومن شاء لم يدخل؛ فمن دخل ثم رجع كان كافرا.
ومما يؤثر عنه "عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا والآخرة لا يجتمعان في قلب أبدا. الناس اثنان: طالب لا يجد، وواجد لا يكتفي. من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها. خير الإخوان من نسي ذنبك ومعروفه عندك. وقد قبضت روحه في هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة، ومدفنه بها، تصلى عليه الملائكة كلما هبطت. وحينئذ لا يقال: من كان في السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه. على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة، وهو فيها الآن: أي غالب أحواله في الجنة، فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة في تلك الليلة، لأن الجنة أرفع من السموات، لأنها فوق السماء السابعة، ولا ما جاء في الحديث أنه في السماء حيّ كعيسى عليهما الصلاة والسلام. وفي بعض الروايات أن في هذه السماء الرابعة هارون.
«ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بهارون أي ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرّته من طولها وحوله قوم من بني إسرائيل وهو يقص عليهم، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران» أي لأنه كان ألين لهم من موسى عليهما الصلاة والسلام، لأن موسى "عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم، ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء.
«ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بموسى، فرحب بي ودعا لي بخير» أي وفي رواية «جعل يمر بالنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد، ثم مر بسواد عظيم فقال: من هذا؛ قيل موسى وقومه» المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى «لكن ارفع رأسك، فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب، فقيل: هؤلاء أمتك، هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب» أي منهم بدليل ما جاء في رواية «قيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقال عكاشة بن محصن: أنا منهم؟ قال نعم، ثم قال رجل آخر: أنا منهم؟ قال: سبقك بها عكاشة» لأن هذا الرجل كان منافقا، فلم يقل له لست منهم لأنك منافقا، بل أجابه بما فيه ستر عليه. والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود. وهذا تمثيل: أي مثل له أمته أي وأمة موسى أيضا، إذ يبعد وجودها حقيقة في السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذي مر بهم من النبي والنبيين في السماء السادسة «فلما خلصا» أي جاوزا ما ذكر من النبي والنبيين والسواد العظيم «فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر» أي مع صلابته «لو كان عليه قميصان لنفذ الشعر منهما» أي وكان إذا غضب يخرج شعر رأسه من قلنسوته وربما اشتعلت قلنسوته نارا لشدة غضبه.
وفي كلام بعضهم: كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل، ولشدة غضبه لما فرّ الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له. ووجه بأنه لما فر صار كالدابة، والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب «فسلم عليه النبي ﷺ فرد "عليه السلام"، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له ولأمته بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا؟ بل هذا أكرم على الله مني، فلما جاوزه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي» أي وبل من سائر الأمم.
فقد ذكر الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى أن مما اختص به في أمته في الآخرة أن أهل الجنة: أي من الأمم مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون.
وجاء في المرفوع «كل أمة بعضها في الجنة وبعضها في النار إلا هذه الأمة، فإنها كلها في الجنة».
وفي العرائس عن أبي هريرة «رضي الله ع» «لما كلم الله «عَزَّ وجَلّ» موسى كان بعد ذلك يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصفا، من مسيرة عشرة فراسخ».
وفي الحديث «ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عربيا، واسم الأرض السابعة جريبا».
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال: من قرأ البقرة وآل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا «فاستفتح جبريل، قيل: من هذا قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال نعم قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، أي رجل أشمط» وفي لفظ «كهل» ولا ينافي ذلك ما تقدم من قوله في وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعني نفسه خلقا وخلقا «جالس عند باب الجنة» أي في جهتها كما تقدم، وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور: أي وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفي آخره حاء مهملة، من ضرح: إذا بعد، ومنه الضريح.
أي وفي كلام الحافظ ابن حجر: يقال له الضراح والضريح. وجاء «إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخرّ عليها» أي فهو في تلك السماء في محل يحاذي الكعبة، أي وقيل في السماء الرابعة» وبه جزم في القاموس، وقيل في السادسة، وقيل في الأولى، وتقدم أن في كل سماء بيتا معمورا، وأن كل بيت منها بحيال الكعبة «وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه».
أقول: عن بعضهم «أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك» وفي رواية «سبعون وجيها، مع كل وجيه سبعون ألف ملك» والوجيه: الرئيس، ولعله علم ذلك بإعلام جبريل، وإلا فرؤيته له تلك الليلة لا تقتضي ذلك.
ثم رأيت الشيخ عبد الوهاب الشعراني أشار إلى ذلك حيث قال «وسمّى له البيت المعمور، فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرّفه» أي جبريل «أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد، ويخرجون من الباب الآخر» فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها. والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذي في السماء السابعة.
وقال السهيلي: وقد ثبت في الصحيح «أن أطفال المؤمنين والكافرين في كفالة إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، وأن رسول الله ﷺ قال لجبريل حين رآهم مع إبراهيم "عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا، قال له: وأولاد الكافرين؟ قال له: وأولاد الكافرين» خرجه البخاري في الحديث الطويل في كتاب الجنائز، وخرجه في موضع آخر فقال «فيه أولاد الناس».
وقد روي في أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة، هذا كلامه. وجاء في حديث مرفوع، لكن سنده ضعيف «إن في السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم» أي سحرا كما في بعض الروايات «فينغمس ثم يخرج فينتفض، فيخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا» وفي لفظ «يخلق الله «عَزَّ وجَلّ» من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه، فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا، يولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم في السماء موقفا يسبحون الله «عَزَّ وجَلّ» إلى أن تقوم الساعة» وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن جبريل أخبره بذلك في تلك الليلة، والله أعلم.
وفي رواية «وإذا أنا بأمتي شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطرا عليهم ثياب رمدة، فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور» أي والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين، وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود، ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين «وأن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام قال له: يا نبي الله إنك ملاق ربك الليلة، وإن أمتك أخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك في أمتك فافعل».
وفي السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم "عليه الصلاة والسلام، قال له ذلك في الأرض قبل وصول بيت المقدس، وقال له: هنا «مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة، وأرضها واسعة، فقال له: وما غراس الجنة؟ فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله» وفي رواية أخرى «أقرىء أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر».
وقال يقال: لا مخالفة بين الروايتين، لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر.
قال «واستقبلتني جارية لعساء وقد أعجبتني، فقلت لها: يا جارية أنت لمن؟ قالت: لزيد بن حارثة» أي ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له بعد مجاوزة السماء السابعة، لكن في رواية «فرأيت فيها أي في الجنة جارية» الحديث.
وقد يقال: يجوز أن يكون رآها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها في المرة الأولى. واللعس: لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك مستملح قاله في الصحاح.
وفي رواية «فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق» أي وهذ الرواية ظاهرة في أنه رأى ذلك في السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها، وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين.
وعند عرض تلك الأواني عليه أخذ اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة: أي بأخذك اللبن الذي هو الفطرة، أصاب الله «عَزَّ وجَلّ» بك أمتك على الفطرة: أي أوجدهم على الفطرة ببركتك. وفي رواية «هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك» أي وتقدم أن المراد بها الإسلام.
وورد أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام في السماء السادسة، وموسى في السماء السابعة، وهذه الرواية في البخاري عن أنس، وتقدم أن ذلك كان في الإسراء بروحه لا بجسده، وفيه أن رؤيا الأنبياء حق.
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال، وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته عند صعوده، وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى ما فوقه لملاقاته عند هبوطه، فأخبر عنه تارة بأنه في سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا، والحافظ ابن حجر لا يرى الجمع، بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به. قال: والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغي المصير إليه هذا كلامه.
وعندي فيه نظر ظاهر، والجمع أولى من اثبات المعارضة لاسيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا، لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل.
وعلى المشهور من الروايات الذي صدّرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذي لقيه فيها حكمة يطول ذكرها.
قال «ثم ذهب بي: أي جبريل إلى سدرة المنتهى، وإذا أوراقها كآذان الفيلة» وفي رواية «مثل آذان الفيول» وفي رواية «الورقة منها تظل الخلق» وفي رواية «تكاد الورقة تغطي هذه الأمة» وفي رواية «لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا» وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة في الشكل، وهو الاستدارة لا في السعة «وإذا ثمرها كالقلال» وفي رواية «كقلال هجر» قرية بقرب المدينة، والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز، والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادي، فلما غشيها من أمر الله «عَزَّ وجَلّ» ما غشيها تغيرت» أي صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التي كانت عليها «فما أحد من خلق الله «عَزَّ وجَلّ» يستطيع أن ينعتها من حسنها» أي لأن رؤية الحسن تدهش الرائي، وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة: أي وهو قول الأكثر، وفي بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسي، وعن وهب أن العرش والكرسي فوق السماء السابعة. قال: ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة في أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط، أي فلا يؤكل، انتهى.
قال «ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ» أي بالمعجمة «قباب اللؤلؤ» وفي لفظ «حبائل اللؤلؤ المعقود والقلائد، وإذا ترابها المسك، ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت» فدخوله للجنة كان قبل عروجه للسحابة.
وفي الحديث «ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، والذي نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها» وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل، وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي: فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة: أي تؤكل من غير قطع: أي يؤكل منها، فالأكل موجود، والعين باقية في غصن الشجرة، وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة في شتاء ولا صيف، أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم، فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد، وأطال في ذلك، وكأنه لم يقف على هذا الحديث، أو لم يثبت عنده فليتأمل.
قال «ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار: نهران باطنان» أي يبطنان ويغيبان في الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة «ونهران ظاهران» أي يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة «فقال: ما هذه، أي الأنهار يا جبريل؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات» انتهى.
أقول: قول جبريل أما الباطنان ففي الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال: أي الذي هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها، فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا، وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران في الجنة ويجاوزانها، وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها، والنيل نهر مصر، والفرات نهر الكوفة. ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان، يبطنان في الجنة ولا يظهران ألا بعد خروجهما منها لوجودهما في الخارج، بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها.
وقد جاء في حديث «ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة في الفرات» قال بعضهم: ومصداقه أن الفرات مد في بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير، فيقال إنه رمان الجنة. وهذا الحديث ذكره ابن الجوزي في ا لأحاديث الواهية. وفي حديث موقوف على ابن عباس «إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل، فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم، والحجر والمقام، وتابوت موسى بما فيه إلى السماء».
هذا، وفي بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى، فليسا هما المراد بالباطنين.
وعن مقاتل: الباطنان السلسبيل والكوثر، أي ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا. ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها.
وفي السيرة الشامية: لم يثبت في سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك. وأما الباطان المذكوران: أي في الحديث فهما غير سيحان وجيحان. قال القرطبي: ولعل ترك ذكرهما: أي سيحان وجيحان في حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات، هذا كلامه، ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة، فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان في الجنة أصلا.
قال «وإذا فيها» في تلك الشجرة «عين» أي في أصلها أيضا «يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة، فاغتسلت منه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر» انتهى: أي فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، لكن لا من المحل الذي يخرج من النيل والفرات، وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان. وفي جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل، فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة؛ فالأنهار التي تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها.
وعلى الأول لا ينافي قول القرطبي: ما في الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذي يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات.
ولا ينافي ما عند مسلم «يخرج من أصلها يعني سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة، وهي: النيل والفرات وسيحان وجيحان» ولا ما عند الطبراني «سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار: من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى» وعن كعب الأحبار: إن نهر العسل نهر النيل، أي ويدل لذلك قول بعضهم: لولا دخول بحر النيل في البحر الملح الذي يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته. ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء نهر سيحان، لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة. ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة والأنهار تخرج من أصلها، فصح أنها من الجنة، هكذا ذكره العارف ابن أبي جمرة، ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال: أي أن سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، ولا حاجة لهذا الاحتمال في تصحيح هذه الرواية، لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة، ثم تكون خارجة من الجنة؛ ثم لا يخفى أن في كلام القاضي عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون.
ويخالفه قول صاحب النهاية: اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان، وسيحون غير سيحان، ومن ثم أنكر الإما النووي على القاضي عياض حيث قال: الثاني أي من وجوه الإنكار على القاضي قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجَحون، فجعل الأسماء مترادفة، وليس كذلك، فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه.
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ، وسكت عن بيان سيحون فليتأمل.
قال «والذي غشي الشجرة فَراش من ذهب» والفَراش: هو الحيوان الذي يلقي نفسه في السراج ليحترق» وملائكة على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى، وملائكة أي آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة» انتهى.
«ورأى جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله «عَزَّ وجَلّ» عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سدّ الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله «عَزَّ وجَلّ»، وغشيت تلك السدرة سحابة، فتأخر جبريل "عليه الصلاة والسلام، ثم عرج به: أي في تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام» وفي رواية «صريف» أي صوت حركتها حال الكتابة: أي ما تكتبه الملائكة من الأقضية، وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم، وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش.
وفي رواية «ثم انطلق بي أي جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد، وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم «وماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت، فإذا هو أحلى من العسل وأشدّ رائحة من المسك».
أقول: قد تقدم أن هذا النهر من العين التي تخرج من سدرة المنتهى التي يقال لها السلسبيل: أي فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر، ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافي كون الكوثر نهرا في الجنة، وأن السلسبيل عين في الجنة، لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر، والله أعلم.
وفي رواية «إنها» أي سدرة المنتهى «في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيفيض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيفيض منها، وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها، ومن ثم سميت سدرة المنتهى.
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال: إنما سميت سدرة المنتهى، لأن روح المؤمن ينتهي بها إليها، فتصلي عليها هناك الملائكة المقرّبون وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهى في السادسة، وكونها في السابعة بأن أصلها في السادسة وأغصانها في السابعة: أي فوق السابعة: أي جاوزت السابعة، فلا ينافي القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم، وهذا الحمل المقتضي لكون أصلها في السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم.
ويروى «أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له: ها أنت وربك، هذا مقامي لا أتعداه، فزج بي في النور» أي لما غشيته تلك السحابة، ويعبر عن تلك السحابة بالرفرف. قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني وهو نظير المحفة عندنا.
وفي تاريخ الشيخ العيني شارح البخاري عن مقاتل بن حيان، قال «انطلق بي جبريل حتى انتهى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى، قال جبريل: تقدم يا محمد، قال: فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة، فنادى جبريل من خلفي: يا محمد إن الله يثني عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه، فبدأت بالثناء على الله «عَزَّ وجَلّ»» الحديث، أي وفي ذلك النور المستوي الذي يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفرف والرؤية وسماع الخطاب.
وفي رواية «أنه لما وقف جبريل، قال له: في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله؟ قال: إن تجاوزت احترقت بالنار، فقال النبي ﷺ: يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك؟ قال: يا محمد سل الله «عَزَّ وجَلّ» لي أن أبسط جناحي على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه، قال: ثم زج بي في النور فخرق بي إلى سبعين ألف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا، غلظ كل حجاب خمسمائة عام، وانقطع عني حس كل ملك، فلحقني عند ذلك استيحاش، فعند ذلك نادى مناد بلغة أبي بكر «رضي الله ع»: قف إن ربك يصلي، فبينا أنا أتفكر في ذلك» أي في وجود أبي بكر في هذا المحل وفي صلاة ربي، فأقول: هل سبقني أبو بكر وكيف يصلي ربي وهو غني عن أن يصلي كما يدل على ذلك ما يأتي «فإذا النداء من العلي الأعلى: ادن يا خير البرية، ادن يا أحمد، ادن يا محمد، فأدناني ربي حتى كنت كما قال «عَزَّ وجَلّ» {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}.
وفي الخصائص الصغرى «وخص بالاسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلوّ إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو، وحينئذ يكون معنى تدلى زاد في القرب. وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلّى الحق سبحانه وتعالى: أي دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد قاب قوسين أو أدنى، ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقي أنه روي بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك، ومعلوم أن معنى الدنو والتدلي الواقعين من الله سبحانه وتعالى، كمعنى النزول منه في «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير» وهو أي ذلك كعند أهل الحقائق من مقام التنزل؛ بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل في خطابه لهم، فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو في حقهم حقيقة، وفي حقه تعالى مجاز.
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل، وفاعل تدلى محمد: أي سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطي من الزلفي.
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف، وفاعل دنا محمد: أي تدلى الرفرف لمحمد حتى جلس عليه، ثم دنا محمد من ربه سبحانه وتعالى: أي قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان، تعالى الله «عَزَّ وجَلّ» عن ذلك.
قال «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه «عَزَّ وجَلّ»، فوضع يده «عَزَّ وجَلّ» بين كتفيّ بلا تكييف ولا تحديد» أي يد قدرته تعالى، لأنه سبحانه منزه عن الجارحة «فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين، وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري. وعلم خيرني فيه. وعلم أمرني بتبليغه إلى العامّ والخاص من أمتي، وهي الإنس والجن» أي وكذلك الملائكة على ما تقدم.
أقول: هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هي هذه العلوم الثلاثة، إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم، والله أعلم.
قال «ثم قلت: اللهم إنه لما لحقني استيحاش سمعت مناديا ينادي بلغة تشبه لغة أبي بكر، فقال لي قف فإن ربك يصلي، فعجبت من هاتين هل سبقني أبو بكر إلى هذا المقام، وإن ربي لغنيّ أن يصلي! فقال تعالى: أنا الغني عن أن أصلي لأحد وإنما أقول سبحاني سبحاني سبقت رحمتي غضبي، اقرأ يا محمد{هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما} فصلاتي رحمة لك ولأمتك، وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا، فلما أردنا كلامه قلنا {وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي} وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة، وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبي بكر خلقنا ملكا على صورته ينادي بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة».
أقول: لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته، لأنه ليس في الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبي بكر، وإنما سمع صوته والله أعلم.
«ثم قال الله «عَزَّ وجَلّ»: يا محمد وأين حاجة جبريل؟ فقلت: اللهم إنك أعلم؛ فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل، ولكن فيمن أحبك وصحبك».
أقول: لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك في دينك عاملا بسنتك: أي وهو مراد جبريل بأمته في قوله أن أبسط جناحي لأمتك على الصراط، والله أعلم.
وفي رواية «إنه لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا، قال: فأوحى الله «عَزَّ وجَلّ» إليّ ما أوحى».
وقد ذكر الثعلبي والقشيري في تفسير قوله تعالى {فأوحى إلى عبده ما أوحى} أن من جملة ما أوحي إليه «إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» قال القشيري: وأوحي إليه «خصصتك بحوض الكوثر، فكلّ أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل، ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة».
أقول: تقدم أن من جملة ما أوحي إليه في هذا الموطن من القرآن: خواتيم سورة البقرة، وبعض سورة الضحى، وبعض ألم نشرح، وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحي، وقدمنا أنه يضم لذلك {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} الآية على ما تقدم.
هذا. وفي حديث رواته ثقات «لما وصلت إلى السماء السابعة، قال لي جبريل "عليه السلام": رويدا» أي قف قليلا «فإن ربك يصلي، قلت: أهو يصلي؟ » وفي لفظ «كيف يصلي» وفي لفظ آخر «قلت: يا جبريل أيصلي ربك؟ قال نعم، قلت: وما يقول؟ قال: يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي» ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له من جبريل ومن غيره في السماء السابعة وفيما فوقها، لكن يبعد تعجبه من كونه «عَزَّ وجَلّ» يصلي في المرة الثانية وما بعدها.
وورد أن بني اسرائيل سألوا موسى هل يصلي ربك؟ فبكى موسى "عليه الصلاة والسلام لذلك، فقال الله تعالى: يا موسى ما قالوا لك؟ فقال: قالوا الذي سمعت، قال: أخبرهم أني أصلي، وأن صلاتي تطفىء غضبي، والله أعلم.
قال «فنزلت إلى موسى» أي وفي رواية «ثم انجلت تلك السحابة» أي عند وصوله إلى سدرة المنتهى الذي هو المحل الذي وقف فيه جبريل «فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتى على موسى وهذا يدل على ما هو المشهور في الروايات أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام كان في السابعة، وموسى كان في السادسة، لا على غير ما هو المشهور أن إبراهيم "عليه الصلاة والسلام كان في السادسة وموسى كان في السابعة كما تقدم.
و«ولما أتى إلى موسى "عليه الصلاة والسلام قال له: ما فرض ربك عليك» أي وفي لفظ «بم أمرت؟ قال: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني بلوت بني إسرائيل وخبرتهم» أي وفي البخاري «إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، أي فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما: أي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى، وقيل فرض ركعتان عند الزوال: أي فما قاموا بذلك».
وفي تفسير البيضاوي أن الذي فرض على بني اسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات.
ويرده قولهم: إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التي هي المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم.
ثم رأيت القاضي البيضاوي قال في تفسير قوله تعالى {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} أن من ذلك الإصر الذي كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة في اليوم والليلة. وكتب عليه الجلال السيوطي في الحاشية أن كون بني إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة في اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك.
«ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» أي وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه، لأن الفرض عليه فرض على أمته، والأمر له أمر لها، لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبي ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية.
قال «فرجعت إلى ربي أي انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا، فقلت: يا رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى، حتى قال الله تعالى: يا محمد إنهن خمس صلوات في كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، قال: فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه» أي وفي رواية «أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات» وجاء في الحديث «أكثروا من الصلاة على موسى، فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتي منه».
أقول في الوفاء أن رواية «وضعت خمس صلوات» من أفراد مسلم، ورواية «وضع عنه عشر صلوات» أصح، لأنه قد اتفق البخاري ومسلم عليها، والرواية التي فيها «حط خمسا خمسا» غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل.
والمتبادر من قوله «إلى أن أمر بخمس صلوات» أنه رفع التعلق بجميع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين، فالمنسوخ جميع الخمسين.
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع إثبات التعلق بخمسة منها التي هي بعضها، فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين. قيل، وفي هذا وقوع النسخ قبل البلاغ. وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه.
وردّ بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبي، لأنه كلف بذلك ثم نسخ، فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: وما قيل إن الخمس في ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو في حقه لبلوغه له، لا في حق الأمة: أي لعدم بلوغه لهم، هذا كلامه. وإذا نسخ في حقه نسخ في حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح، وهذا يردّ ما في الخصائص الصغرى للسيوطي رحمه الله تعالى، من أن وجوب الخمسين لم ينسخ في حقه، وإنما نسخ في حق الأمة، ولعل مستنده في ذلك رواية «فرض الله على أمتي ليلة الإسراء خمسين صلاة، فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا في كل يوم وليلة» أي على الأمة كما هو المتبادر، وقول موسى "عليه الصلاة والسلام له «إن أمتك لا تطيق ذلك» وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكي في تائيته:
وقد كان ربّ العالمين مطالبا ** بخمسين فرضا كل يوم وليلة
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة ** وخففت الخمسون عنا بخمسة
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل، وهو يردّ قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته.
والظاهر من الخمسين التي فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد الخمس مساو لها.
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس، ولم أقف على بيان تلك الصلوات.
وعلى أن الخمسين لم تنسخ في حقه لم أقف على ما يدل على أنه صلاها ولا على كيفية صلاته لها، وإلى عروجه ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله:
وطوى الأرض سائرا والسموا ** ت العلا فوقها له إسراء
فصف الليلة التي كان للمختار ** فيها على البراق استواء
وترقى به إلى قاب قوسين ** وتلك السيادة القعساء
رتب تسقط الأماني حسرى ** دونها ما وراءهن وراء
وتلقى من ربه كلمات ** كل علم في شمسهن هباء
زاخرات البحار يغرق في قط ** رتها العالمون والحكماء
أي وطوى الأرض حالة كونه سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له قبل ذلك السموات العلا لما كان له فوقها إسراء: أي ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها في أسرع وقت، فصف تلك الليلة التي كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار، وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين، وتلك الرتبة التي وصل إليها هي السعادة الثابتة التي لا يعتريها نقص ولا زوال، وهذه رتب تسقط دونها الأماني حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام، أي ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره، وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء، وهو ما يرى في ضوء الشمس، وبث سبحانه وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء والحكماء شذرة منها؛ وكونه صعد السموات على البراق يوافقه ما في حياة الحيوان.
إن قيل: لم عرج بالنبي ﷺ إلى السماء على البراق؛ ولم ينزل عند منصرفه عليه. فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى، هذا كلامه فليتأمل.
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده على البراق، وقد جاء «كان موسى أشدهم عليّ حين مررت عليه، وخيرهم إليّ حين رجعت، ونعم الصاحب كان لكم أي فإنه كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى، فنودي ما يبكيك؟ قال: رب هذا غلام» أي لأنه كان حديث السن بالنسبة لموسى، هذا هو المناسب للمقام «بعثته بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي» وفي رواية «تزعم بنو إسرائيل» أي وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام، ومعنى إسرائيل عبدالله، وقيل صفوة الله. وفي لفظ «تزعم الناس أنه أكرم على الله مني، ولو كان هذا وحده هان، ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى» أي انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم.
أقول: والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره على قبره "عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا وفضيلة أمته، بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم. وفي رواية عن ابن عمر «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من البول سبع مرات، ولم يزل يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا، وغسل الجنابة مرة، وغسل الثوب من البول مرة».
قال: وعن أنس «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، فقلت لجبريل: ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة» انتهى. هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض.
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما جاء في بعض الروايات، ودرهم الصدقة بعشر تصير الجملة عشرين، ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر.
«وعرضت عليه النار، فإذا فيها غضب الله تعالى» أي نقمته «لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما» وفي هذه الرواية زيادة على ما تقدم، وهي «فإذا قوم يأكلون الجيف، فقال: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» أي وتقدم «أنه رأى هؤلاء في الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم، ورآهم في السماء الدنيا، وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه» ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم في الأرض وفي السماء الدنيا، ولعل الحكمة في ذلك المبالغة في الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها.
«ورأى فيها رجلا أحمر أزرق، فقال: من هذا يا جبريل؟ فقال: هذا عاقر الناقة» أي ولعل دخول الجنة وعرض النار عليه كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به في النور، ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهي في الأرض السابعة.
أقول: ونقل القرطبي في تفسيره عن الثعلبي عن أنس بن مالك «رضي الله ع» أنه قال: قال رسول الله «رأيت ليلة أسري بي إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءات من الملائكة يسبحون الله «عَزَّ وجَلّ» ويقدسونه، ويقولون في تسبيحهم: اللهم اغفر لمن شهد الجمعة» أي صلاتها «اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة» أي لصلاتها، وهذا يفيد أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده، وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤيّ كما تقدم، ويخالف ما سيأتي من أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله «عَزَّ وجَلّ» للمسلمين بالمدينة، وأنه لما أرسل إليهم رسول الله ﷺ أن يصلوها في ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة، بل اقتصر على قوله اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، أي في أكثر الروايات، وإلا فقد رأيت السهيلي ذكر حديثا عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه سمي ذلك اليوم بيوم الجمعة، ونصه «كتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد، فانظر اليوم الذي يليه اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين» فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون إخباره بذلك هنا: أي في قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة، وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم، فيكون الذي سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا، والله أعلم.
قال «ورأى مالكا خازن النار، فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي ﷺ أي بالسلام ثم أغلقت دونه» انتهى.
وفي الأصل: وفي حديث أبي هريرة «رضي الله ع» «وقد رأيتني: أي يخبر أنه رأى نفسه في جماعة من الأنبياء، فحانت الصلاة» أي حضرت إرادة الصلاة فأممتهم»، أي صليت بهم إماما «قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأني بالسلام. قال: وجاء أنه قال لجبريل: مالي لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا غير واحد سلمت عليه فردّ عليّ السلام ورحب بي ودعا لي ولم يضحك لي؟ قال: ذلك مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك» انتهى.
أقول: وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة في السموات له سقط من جميع روايات المعراج، إذ لم يذكر في شيء منها على ما علمت. ويدل على أن مالكا خازن النار وجده في السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبي ﷺ بالسلام، ومرة بدأه النبي ﷺ بالسلام، والمناسب أن يكون في المرة الأولى هو الذي بدأ النبي ﷺ بالسلام وهو عند الباب. ثم رأيت الطيبي صرح بذلك حيث قال: إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه، ليزيل ما استشعر من الخوف منه، لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب في وجهه، فلا ينافيه ما ذكره السهيلي من أنه لم يره على الصورة التي يراه عليها المعذبون في الآخرة، ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه.
وقوله «لم آت أهل سماء إلى آخره» قد يعارضه ما جاء «أنه، قال لجبريل: مالي لم أر ميكائيل ضاحكا؟ قال: ما ضحك منذ خلقت النار» وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها، وهذا لا ينافي أن ميكائيل ضحك بعد ذلك، فقد جاء «أنه تبسم في الصلاة، فسأل عن ذلك، فقال: رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم، أي يوم بدر، وعلى جناحه الغبار فضحك إليّ فتبسمت إليه».
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد في مسنده عن أنس بن مالك «رضي الله ع» عن رسول الله «أنه قال لجبريل: إني لم أر ميكائيل ضاحكا قط، قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار» ومما يدل على أن جبريل "عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما في مسند أحمد عن أنس بن مالك، قال: قال لجبريل «لم تأتني إلا رأيتك صارّا بين عينيك، قال: أني لم أضحك منذ خلقت النار» وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يردّ على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبي هاشم، حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار، وأنهما ليستا موجودتين الآن، وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء، مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما، وبأنهما لو كانا مخلوقتين في السماء والأرض لفنيا بفنائهما.
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء، لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد في العبادة لتحصيل ذلك الثواب، وإذا علم عقابا مخلوقا اجتهد في اجتناب المعاصي لئلا يصيبه ذلك العقاب، فليتأمل.
وأجيب عن الثاني بأن الله استثناهما من قوله تعالى {فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء}.
وفيه أن هذه صعقة الموت، ولا يتصف بالموت غير ذي الروح، ولأن الجنة كما قيل ليست في السماء السابعة بل فوقها، والنار ليست في الأرض السابعة بل تحتها، وحينئذ يكون القول بأن الجنة في السماء السابعة والنار في الأرض السابعة فيه تجّوز والله أعلم.
قال: واختلف في رؤيته لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك: أي أنه رآه «عَزَّ وجَلّ» بعين رأسه. واستدل له بحديث «رأيت ربي في أحسن صورة». وردّ بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن.
وقد قال بعض العارفين: شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد، فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة، وأنكرتها عائشة «رضي الله ع». وقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه أي بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله «عَزَّ وجَلّ»، أي أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله «عَزَّ وجَلّ»، ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة «رضي الله ع» وجمع من العلماء.
ونقل عن الدارمي الحافظ أنه نقل اجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه. وذهب إلى الرؤية: أي المذكور أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين، بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع، وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله:
فورآه وما رآه سواه ** رؤية العين يقظة لا المرائي
واحتجت عائشة «رضي الله ع» على منع الرؤية بقوله تعالى {لا تدركه الأبصار} قال: وروي أن مسروقا قال لها: ألم يقل الله «عَزَّ وجَلّ» {ولقد رآه نزلة أخرى} أي مرة أخرى، أي بناء على أن الضمير المستتر له والبارز له سبحانه وتعالى؛ فقالت: أنا أوّل هذه الأمة سأل رسول الله ﷺ هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت جبريل منهبطا: أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل. وفي رواية قال لها: «ذاك جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين: أي مرة في الأرض ومرة في السماء» في هذه الليلة كما تقدم، وعلى ظاهر الآية: أي من جعل الضمير المستتر له والبارز له سبحانه وتعالى، وقطع النظر عن هذه الرواية التي جاءت عن عائشة «رضي الله ع» يلزم أن يكون رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين: مرة في قاب قوسين، ومرة عند سدرة المنتهى، ولا مانع من ذلك، ولعل ذلك هو المعنيّ بقول الخصائص الصغرى: وخص برؤيته للباري «عَزَّ وجَلّ» مرتين، وفيها: وجمع له بين الكلام والرؤية، وكلمه عند سدرة المنتهى، وكلم موسى بالجبل.
قال بعضهم: يجوز أنه خاطب عائشة «رضي الله ع» بما ذكر أي بقوله: إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أي في ذلك الوقت انتهى، وأيد قولها بما روي عن أبي ذر «رضي الله ع» «قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: رأيت نورا» أي حجبني ومنعني عن رؤيته «عَزَّ وجَلّ»، ومن ثم جاء في رواية «نور أنى أراه؟ » أي كيف أراه مع وجود النور، لأن النور إذا غشي البصر حجبه عن رؤية ما وراءه، أي وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئي له خلافا لمن فهم ذلك، وأيده بما روي «نوراني» أي لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف، ومن ثم قال القاضي عياض: لم أرها في أصل من الأصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض: أي لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الاجرام الكثيفة المحاذية لهما، والله تعالى يتعالى عن ذلك، أي فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم: أي ومن ثم قيل في قوله تعالى {الله نور السموات والأرض} أي ذو نور، أو هو على المبالغة: أي وجاء «رأيته في صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ» وجاء «رأيت ربي في أحسن صورة» قال الكمال بن الهمام: إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة.
قال: وقيل رآه بفؤاده مرتين لا بعيني رأسه؛ فعن بعض الصحابة «قلنا: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: لم أره بعيني، رأيته بفؤادي مرتين، ثم تلا {ثم دنا فتدلى} الآية» وهذا السياق يدل على أن فاعل {دنا فتدلى} الحق سبحانه وتعالى، والمراد بالفؤاد القلب: أي خلقت الرؤية في القلب، أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى.
أقول: وكون الفؤاد له بصر واضح، لقوله تعالى {ما زاغ البصر وما طغى}. وأجيب عما احتجت به عائشة «رضي الله ع» من قوله تعالى {لا تدركه الأبصار} بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك: أي الذي هو الإحاطة، فالنور إنما منع من الإحاطة به لا من أصل الرؤية. وقد قال بعضهم للإمام أحمد: بأي معنى تدفع قول عائشة «رضي الله ع»: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية؟ فقال: يدفع بقول النبي «رأيت ربي» وقول النبي ﷺ أكبر من قولها.
هذا، وقد قال أبو العباس بن تيمية: الإمام أحمد إنما يعني رؤية المنام، فإنه لما سئل عن ذلك، قال نعم رآه؟ فإن رؤيا الأنبياء حق، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك.
أقول: وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة «رضي الله ع» أنها تنكر رؤيا المنام حتى يردّ عليها، وقد ضعف حديث أبي ذر المتقدم، وهو «قلت يا رسول الله رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟ » وهو من جملة الأحاديث التي في مسلم التي نظر فيها والله أعلم.
قال أبو العباس بن تيمية: وأهل السنة متفقون على أن الله «عَزَّ وجَلّ» لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي، ولم يقع النزاع إلا في نبينا خاصة، مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث.
وفي صحيح مسلم وغيره عن النبي ﷺ أنه قال «واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها».
وقد نقل القرطبي عن جماعة من المحققين القول بالوقف في هذه المسألة، لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل، وهو من المعتقدات، فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه.
ونازع فيه السبكي بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي، وهي التي تكلف باعتقادها كالحشر والنشر، بل من المعتقدات التي يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح، وهي التي لم نكلف باعتقادها. كما نحن فيه.
وفي الخصائص الصغرى: وخص برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه، حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبرؤيته للباري مرتين.
وفي كلام بعضهم قال العلماء في قوله تعالى {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت، فإذا هو عروس المملكة.
وفي كلام ابن دحية: خص بألف خصلة، منها الرؤية والدنوّ والقرب. قال بعضهم: قد صحت الأحاديث عن ابن عباس «رضي الله ع» في إثبات الرؤية، وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها، ولا يجترىء أحد أن يظن في ابن عباس أن يتكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد.
قال الإمام النووي: والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله ﷺ رأى ربه بعين رأسه، أي وأما رؤيته «عَزَّ وجَلّ» يوم القيامة في الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء، المؤمن والكافر، والملائكة جبريل وغيره.
وأما رؤيته «عَزَّ وجَلّ» في الجنة، فقيل لا تراه الملائكة، وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة. قال بعضهم: وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك.
واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى في الجنة، فقيل لا يرينه لأنهن مقصورات أي محبوسات في الخيام. وقيل يرينه في أيام الأعياد دون أيام الجمع» بخلاف الرجال فإنهم يرونه في كل يوم جمعة.
فقد جاء «أنه تعالى يتجلى في مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما» ومن أهل الجنة مؤمن الجن على ال الراجح.
وجاء «إن كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا فإنه عيد لهم في الجنة، يجتمعون فيه على زيارة ربهم، ويتجلى لهم فيه، ويدعى يوم الجمعة في الجنة بيوم المزيد» قال بعضهم: هذا لعموم أهل الجنة، وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعشيا.
وأما رؤية الله «عَزَّ وجَلّ» في النوم، ففي الخصائص الصغرى: ومن خصائصه أنه يجوز له رؤية الله و«عَزَّ وجَلّ» في المنام ولا يجوز ذلك لغيره في أحد القولين، وهو اختياري، وعليه أبو منصور الماتريدي. وفي كلام الإمام النووي قال القاضي عياض: اتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام وصحتها: أي وقوعها قال: وإن رآه حينئذ إنسان على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى والله أعلم.
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا في ليلة واحدة، أي وقيل كان الإسراء وحده في ليلة، ثم كان هو والمعراج في ليلة أخرى.
قال: وقد جاء «أنه لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان وأصوات، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون» أي وذلك مانع لهم من التفكر في ملكوت السموات والأرض أي لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك «لولا ذلك لرأوا العجائب» أي أدركوها.
«ثم ركب البراق منصرفا» أي بناء على أنه لم يعرج على البراق «فمرّ بعير لقريش» إلى آخر ما تقدم انتهى.
أقول: ذكر بعضهم أن مما نزل عليه بين السماء والأرض أي عند نزوله من السماء قوله تعالى {وما منا إلا له مقام معلوم} الآيات الثلاث، وقوله تعالى {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} الآية، والآيتان من آخر سورة البقرة، وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين، والله أعلم.
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده وروحه بقوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى}وقال {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده، ولأن الدواب التي منها البراق لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجساد.
واستدل على أن الرؤية كانت بعين بصره بقوله تعالى {ما زاغ البصر وما طغى} لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضي أن ذلك يقظة، ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه.
أقول: فيه أن لقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه، لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا، والله أعلم.
وقيل كان الإسراء بجسده، والمعراج بروحه الشريفة، أي بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد، وكان حالها في ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته في صعودها في السموات حتى بين يدي الله تعالى، وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره، لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها. قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج.
أقول: الظاهر أن إخباره بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء، بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان في ليلة واحدة، وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذي أخبر به كفار قريش قال: إذ لو كان أي في تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالإسراء، أي ولم يخبر به حينئذ، إذ لو أخبر به حينئذ لنقل، ولذكره سبحانه تعالى مع الإسراء، لأن المعراج أبلغ في المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى.
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان في ليلة الإسراء الذي أخبر به قريشا هو استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت لهم أمارات صدقه على تلك الآية الخارقة التي هي الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك: أي وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أي لثبوت صدقه فيما ادعاه من الإسراء. وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه في ذلك، لعدم علمهم ومعرفتهم بشيء في السماء، والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك: أي إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا، حيث لم ينزل قصة المعراج في سورة الإسراء» بل أنزل ذلك في سورة النجم.
ومما يؤيد أنهما كانا في ليلة واحدة قول الإمام البخاري في صحيحه «باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء» لأن من المعلوم أن فرض الصلاة: أي الصلوات الخمس إنما هو في المعراج.
وأما إفراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك، لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة، لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا.
وقد خالف الحافظ الدمياطي في سيرته، فذكر أن المعراج كان في رمضان، والإسراء كان في ربيع الأول، والله أعلم.
وقيل الإسراء وقع له أي بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أي فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة، وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع في الأحاديث، أي فبعض الرواة خلط الواقع له مناما بالواقع له يقظة.
وعلى هذا لا يشكل قول شريك: فلما استيقظت، لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة، ففي رواية «وذلك قبل أن يوحى إليّ» وقد أنكر الخطابي عليه ذلك، وعدّه من جملة أوهامه الواقعة في حديث الإسراء والمعراج. ورد على الخطابي الحافظ ابن حجر في ذلك بما ينبغي الوقوف عليه.
وقيل كان المعراج يقظة، ولم يكن ليلا، ولم يكن من بيت المقدس، بل كان من مكة وكان نهارا، فقد جاء «أنه كان يسأل ربه «عَزَّ وجَلّ» أن يريه الجنة والنار، فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل، فقالا: انطلق إلى ما سألت الله تعالى، فانطلقا بي إلى ما بين المقام وزمزم، فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا بي إلى السموات سماء سماء» الحديث. ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما، فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة.
وقد جاء عن أبي ذر «رضي الله ع» أنه قال: إن رسول الله ﷺ قال «فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغهما في صدري، ثم أخذ بيدي فعرج إلى السماء» الحديث. وقد يدعى أن في رواية أبي ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة.
أي وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب: إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه، وكيف يتكرر سؤاله عن كل نبي، وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة، وأما مناما فلا بعد في تكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أي وهذا منشأ اختلاف الروايات، أدخل بعض الرواة ما وقع في المنام ما وقع في اليقظة كما تقدم نظيره في الإسراء، وتعدد روايات الإسراء لا يقتضي تعدده في اليقظة خلافا لمن زعمه. ومن ثم قال الحافظ ابن كثير: من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب، أي فالحق أنه إسراء واحد بروحه وجسده يقظة، وذلك من خصائصه. وذكر بعضهم أنه كان له إسراءات أربعة وعشرون مرة، وقيل ثلاثون مرة، منها مرة واحدة بروحه وجسده يقظة، والباقي بروحه، رؤيا رآها: أي ومن ذلك ما وقع له في المدينة بعد الهجرة، وهو محمل قول عائشة «رضي الله ع»: ما فقدت جسده الشريف.
وفي صبيحة ليلة المعراج حين زالت الشمس من اليوم الذي يلي الليل التي فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل "عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبي، ليعلمه أوقات الصلوات أي وكيفيتها أي لأنه لا يلزم من علمه بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين، فأمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، فاجتمعوا فصلى به جبريل وصلى النبي ﷺ بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر، لأنها أول صلاة ظهرت، أو لأنها فعلت عند قيام الظهيرة: أي شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس، وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته.
ففي بعض الروايات «لما نودي بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله ﷺ الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهن علانية، ورسول الله ﷺ بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله ﷺ يقتدي الناس برسول الله، ويقتدي رسول الله ﷺ بجبريل، ثم يصلي كذلك في العصر. ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله ﷺ المغرب ثلاث ركعات، يقرأ في الركعتين علانية، وركعة لا يقرأ فيها علانية، ورسول الله ﷺ بين يدي الناس، وجبريل بين يدي رسول الله ﷺ يقتدي رسول الله ﷺ بجبريل».
وفي كلام الإمام النووي قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله ﷺ هو بكسر الهمزة، ويوضحه قوله في الحديث «نزل جبريل فأمني» واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره، لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك.
وأجيب عنه من جانب أئمتنا، بأن معنى كونه مقتديا بجبريل أنه متابع له في الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل، فلا يشكل على أئمتنا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها، ولا يكفي علمها بالمشاهدة.
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل "عليه الصلاة والسلام علمه كيفيتها بالقول ثم اتبع القول الفعل، وهو علم أصحابه كذلك.
وبما تقرر يسقط الاستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل، لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل، لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك.
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل، لأنه مأمور بتعليمها له قولا وفعلا، وكان ذلك عند البيت: أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أي صخرته، واستقباله لبيت المقدس. قيل كان باجتهاد منه، وقيل كان بأمر من الله تعالى له، قيل بقرآن وقيل بغيره أي وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته: وقد قال أئمتنا: ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم، وكان إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه، فيصلي بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود، أي كما صلى به جبريل الركعتين أوّل البعث كما تقدم.
وحيئنئذٍ لا يخالف هذا قول بعضهم: لم يزل يستقبل الكعبة حتى خرج منها: أي من مكة: أي لم يستدبرها، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس: أي تمحض استقباله واستدبر الكعبة. وظاهر إطلاقهم أن هذا: أي استقباله بيت المقدس، وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه غالبا، وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها.
والظاهر أنه كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا، وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعي «رضي الله ع» في الأم.
وروى الطحاوي عند باب البيت مرتين، أي وذلك في المحل المنخفض الذي تسميه العامة المعجنة كما تقدم، وصلاته عند باب الكعبة في المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة، بل تكون على يساره، لأنه لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم.
وأيضا ذكر بعضهم أنه كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أي في بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه كان يستقبلها مع استقباله لبيت المقدس.
ولا ينافي ذلك ما في زبدة الأعمال: أقام بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة، وكان يصلي إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة، يجعلها: أي الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة اقامته على غالبها.
ومما يدل على أنه مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة، ما سيأتي عن البراء بن معرور «أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر وسأله عن ذلك، قال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها».
وأم به جبريل مرتين: مرة أوّل الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقي ليعلمه الوقت: أي ولما جاءه جبريل أمر فصيح بأصحابه الصلاة جامعة، كما تقدم، أي لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتي.
قال: فقد جاء «أن رسول الله ﷺ قال: هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به في أول يوم الظهر حين زالت الشمس» كما تقدم، أي عقب زوالها، وصلى به العصر حين صار ظل كل شيء مثله، أي زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال، وصلى به المغرب حين أفطر الصائم: أي دخل وقت فطره وهو غروب الشمس. وصلى به العشاء حين غاب الشفق. وصلى به أي في غد ذلك وهو اليوم الثاني الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أي حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر.
أي فإن قيل صلاة جبريل به حينئذ لم يكن الصوم الذي هو رمضان فرض.
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتي، جاز أن يكون اخباره بهذه العبارة كان بعد فرض رمضان «وصلى به الظهر حين كان ظل الشيء مثله. وصلى به العصر حين كان ظلّ الشيء مثليه. وصلى به المغرب حين أفطر الصائم. وصلى به العشاء ثلث الليل الأول. وصلى به الفجر، أي في اليوم الثالث فأسفر، ثم التفت وقال: يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين» ا هـ.
وأما رواية صلى بي الظهر إلى أن قال وصلى بي الفجر، فلما كان الغد صلى بي الظهر المقتضي ذلك، لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله.
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون، أي ولا يخفى أن قوله «والوقت ما بين هذين الوقتين» محمول عند إمامنا الشافعي «رضي الله ع» على الوقت الاختياري بالنسبة للعصر والعشاء والفجر، وإلا فوقت العصر لا يخرج إلا بغروب الشمس، ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر، ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخري حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشيء مثليه، والعشاء بثلث الليل، والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث. والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات. وروي «أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر» وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته في وقته والصبح لم تتبين كيفيتها في وقتها فلم تجب. فلا يقال: هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وأجاب الإمام النووي بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، كأنه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة، فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهي غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها.
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات في اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته. قال أبو بكر بن العربي: ظاهر قوله «هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك» أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها أي فقد جاء عن عائشة «رضي الله ع» «أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر، فصلى ركعتين فصارت الصبح. وفدي إسحاق عند الظهر» أي على القول بأنه الذبيح، فصلى أربع ركعات فصارت الظهر، وبعث عزير فقيل له كم لبثت؟ قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب، قال أو بعض يوم، فصلى أربع ركعات فصارت العصر. وغفر لداود عند المغرب أي الغروب فقام يصلي أربع ركعات فجهد أي تعب فجلس في الثالثة أي سلم منها فصارت المغرب ثلاثا، وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا، فصلاتها من خصائصه.
وفي شرح مسند إمامنا الشافعي «رضي الله ع» للإمام الرافعي رحمه الله تعالى: كانت الصبح صلاة آدم. والظهر صلاة داود، أي فقد اشترك داود وإسحاق في صلاة الظهر. والعصر صلاة سليمان أي فقد اشترك سليمان وعزير في صلاة العصر. والمغرب صلاة يعقوب، أي فقد اشترك يعقوب وداود في صلاة المغرب. والعشاء صلاة يونس وأورد في ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا. والأصل أن ما ثبت في حق نبيّ ثبت في حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية، فليست من خصائص هذه الأمة.
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى، أي وكانت أربعا: ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه؛ أي فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود في صلاة المغرب.
وفي كلام بعضهم: أوّل من صلى الفجر آدم، والظهر إبراهيم، أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر. وأوّل من صلى العصر يونس، أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزير ويونس في صلاة العصر. وأوّل من صلى المغرب عيسى. وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى، أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا في صلاة العشاء.
وفي الخصائص الكبرى: خص بأنه أوّل من صلى العشاء، ولم يصلها نبي قبله، ومن لازمه أنه لم يصلها أحد من الأمم. وقد جاء التصريح به في بعض الروايات «إنكم فضلتم بها» أي العشاء «على سائر الأمم» وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا، وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل.
قال قيل: «فرضت الصلوات في المعراج ركعتين ركعتين» أي حتى المغرب «ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر» أي في غير يوم الجمعة «وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب، وأقرت صلاة السفر على ركعتين» أي حتى في المغرب.
فعن عائشة «رضي الله ع» «فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين» أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء «فلما أقام رسول الله ﷺ بالمدينة» أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة «زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر» أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة: أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل «وصلاة المغرب» أي تركت صلاة المغرب «فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار» أي كما في الحديث، فتعود عليه بركة الوترية «إن الله وتر يحب الوتر» والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار «وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء» أي في غير المغرب، هذا هو المفهوم من كلام عائشة «رضي الله ع»، وهو يفيد أن صلاة السفر استمرّت على ركعتين أي في غير المغرب، أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لا رخصة، ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}.
وفي كلام الحافظ ابن حجر: المراد بقول عائشة «فأقرت صلاة السفر» باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف، أي لأنه لما استقرّ فرض الرباعية خفف منها أي في السفر لأنه استقرّ أمرها بعد قدومه المدينة بشهر أو بأربعين يوما، ثم نزلت آية القصر في ربيع الأوّل من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
وقيل فرضت أي الصلوات الخمس في المعراج أربعا، إلا المغرب ففرضت ثلاثا، وإلا الصبح ففرضت ركعتين، أي وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت لأربع في السفر، أي وهو المناسب لقوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ومن ثم قال بعضهم: إن هذا هو الذي يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء.
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة «رضي الله ع» أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام.
وفيه أن هذا لا يأتي في الصبح والمغرب. وقال بعضهم: ويبعد هذا الحمل ما روي عنها كان النبي ﷺ يصلي أي الصلوات الخمس التي فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين، فلما قدم المدينة أي وأقام شهرا أو وعشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أي تامة للمسافر.
وعن يعلى بن أمية، قال «قلت لعمر بن الخطاب (ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) وقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» أي فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف.
وهذا قد يخالف ما في الإتقان «سأل قوم من بني النجار رسول الله ﷺ فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك غزا النبي ﷺ فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها فأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» بين الصلاتين {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} إلى قوله {عذابا مهينا} فنزلت صلاة الخوف» فتبين بهذا الحديث أن قوله {إن خفتم} شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف لا في صلاة القصر. قال ابن جرير: هذا تأويل في الآية حسن لو لم يكن في الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة.
قلت: ويكون من اعتراض الشرط على الشرط. وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل.
وقيل فرضت: أي الرباعية أربعا في الحضر وركعتين في السفر فعن عمر «رضي الله ع» «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الغد ركعتان غير قصر» أي تامة «على لسان رسول الله » أي وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة» أي وفيه في صلاة السفر ما تقدم، وقوله في الخوف ركعة أي يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك في صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أوّل، ويحرس الصف الثاني، فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه في الركعة الثانية وحرس الآخرون، فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة، فلا يقال إن في كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر، وفرض التشهد والصلاة على النبي ﷺ متأخر عن فرض الصلاة.
فعن ابن مسعود «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان» أي من الملائكة «فقال رسول الله ﷺ: لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، وقال له بعض الصحابة: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال قولوا: اللهم صل على محمد» إلى آخره ولم أقف على الوقت الذي فرض فيه التشهد والصلاة عليه فيه، ولا على أن قولهم السلام على الله إلى آخره هل كان واجبا أو مندوبا.
قال بعضهم: والحكمة في جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصي تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ماحية لما يقع في اليوم والليلة من المعاصي أي بسبب تلك الحواس، وقد أشار إلى ذلك بقوله «أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه في اليوم والليلة خمس مرات أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا».
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع، ليوافق أجنحة الملائكة، كأنها جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى.
وسئل ابن عباس «رضي الله ع» هل تجد الصلوات الخمس في كتاب الله تعالى؟ فقال نعم وتلا قوله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} أراد بحين تمسون المغرب والعشاء؛ وبحين تصبحون الفجر، وبعشيا العصر، وبحين تظهرون الظهر.
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء في قوله تعالى {فلولا أنه كان من المسبحين} قال القرطبي: أي من المصلين. وفي الكشاف عن ابن عباس «رضي الله ع» «كل تسبيح في القرآن فهو صلاة» والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل من العرب أن يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أي لأنه أخفى رسالته ثلاث سنين، ثم أعلن بها في الرابعة على ما تقدم، ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام، يتبع الحجاج في منازلهم أي بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم، وهي: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوّال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما، ثم تجيء سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه.
فعن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» قال «كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي» وعن بعضهم «رأيت رسول الله ﷺ قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس في منازلهم أي بمنى يقول: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ووراءه رجل يقول يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فسألت من هذا الرجل؟ فقيل أبو لهب يعني عمه».
وفي رواية عن أبي طارق «رضي الله ع» قال: رأيت رسول الله ﷺ بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وخلفه رجل له غديرتان» أي ذؤابتان «يرجمه بالحجارة حتى أدمي كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب، فسألت عنه، فقيل إنه غلام عبد المطلب، فقلت ومن الرجل الذي يرجمه؟ فقيل هو عمه عبد العزى يعني أبا لهب».
أي وفي السيرة الهشامية عن بعضهم قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول الله ﷺ يقف في منازل القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا لي وتصدقوني، وتمنعوني حتى أبين عن الله «عَزَّ وجَلّ» ما بعثني به، قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ﷺ من قوله قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه، فقلت لأبي: من هذا الرجل الذي يتبعه يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب».
وذكر ابن إسحاق أنه عرض نفسه على كندة وكلب أي إلى بطن منهم، يقال لهم بنو عبدالله، فقال لهم «إن الله قد أحسن اسم أبيكم أي عبدالله» أي فقد قال «أحب الأسماء إلى الله «عَزَّ وجَلّ» عبدالله وعبد الرحمن» ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم، وعرض على بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة أي فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك، فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء؛ قال: فقال له، أنقاتل العرب دونك؟ وفي رواية، أنهدف نحورنا للعرب دونك» أي نجعل نحورنا هدفا لنبلهم «فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه، فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم الموسم؛ فلما قدموا عليه سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه، ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف» أي تدارك. «هل لها من مطلب؛ والذي نفس فلان بيده ما يقولها» أي ما يدعي النبوة «كاذبا أحد من بني إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم».
وذكر الواقدي أنه أتى بني عبس أي وبني سليم وغسان وبني محارب أي وفزارة وبني نضر ومرة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه أقبح الرد، ويقولون: أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك، ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بني حنيفة، أي وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب؟ وقيل لهم بنو حنيفة، لأن أمهم حنيفة قيل لها ذلك لحنف كان في رجلها وثقيف، أي ومن ثم جاء «شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف».
أي ودفع هو وأبو بكر «رضي الله ع» إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم. وقال: ممن القوم، قالوا: من ربيعة؟ قال: وأي ربيعة؟ من هامتها أو من لهازمها قالوا: بل الهامة العظمى، قال: من أيها؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: منكم حامي الذمار ومانع الجار فلان؟ قالوا لا، قال: منكم قاتل الملوك وسالبها فلان؟ قالوا لا، قال: منكم صاحب العمامة الفردة فلان؟ قالوا لا، قال: فلستم من ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه شاب حين بقل وجهه أي طلع شعر وجهه، فقال له: إن على سائلنا أن نسأله، يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، فممن الرجل؟ فقال أبو بكر «رضي الله ع»: أنا من قريش، فقال الفتى، بخ بخ أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة فقال الفتى: أمكنت أمنكم قصي الذي كان يدعى مجمعا قال لا، قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه قال لا، قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب، مطعم طير السماء، الذي كأن وجهه القمر يضيء في الليلة الظلماء قال لا، واجتذب أبو بكر «رضي الله ع» زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله ﷺ وأخبره بذلك؛ فتبسم رسول الله ﷺ وقال له عليّ «رضي الله ع»: لقد وقعت من الأعرابي على باقعة أي داهية أي ذي دهاء. وهو في الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال: أجل أبا حسن؛ ما من طامة إلا فوقها طامة، والبلاء موكل بالمنطق، أي واستفهام الفتى توبيخي لا حقيقي لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم، لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبي ﷺ في مرة؛ ومرة جد لقصي؛ فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشتمل على هؤلاء الأشراف؛ أي كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف.
وعن عبدالله بن عباس «رضي الله ع» «أنه لقي جماعة من شيبان بن ثعلبة؛ وكان معه أبو بكر وعلي «رضي الله ع»؛ وأن أبا بكر سألهم ممن القوم؟ فقالوا: من شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ فقال: بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر، أي سادات في قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانىء» بالهمز «ابن قبيصة» بفتح القاف «ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك. وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان» أي ذؤابتان من شعر «وكان أدنى القوم، أي أقرب مجلسا من أبي بكر «رضي الله ع»، فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ قال مفروق: إنا لنزيد على الألف، ولن تغلب الألف من قلة، والذي قاله «لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قاله لما أراد أن يغزو هوازن، وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتي «فقال أبو بكر «رضي الله ع»، كيف المنعة فيكم قال مفروق: علينا الجهد» أي بفتح الجيم وضمها أي الطاقة «ولكل قوم جد» بفتح الجيم أي حظ وسعادة» أي علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر، لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال مفروق: إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى، وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد أي من الخيل على الأولاد، والسلاح على اللَّقاح» أي ذوات اللبن من الإبل، وربما قيل للبقر والغنم أيضا «والنصر من عند الله، يديلنا» بضم أوله وكسر الدال المهملة: أي ينصرنا «مرة، ويديل علينا مرة» أي ينصر علينا أخرى «لعلك أخو قريش، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: أوقد بلغكم أن رسول الله ﷺ فيها هوذا فقال مفروق: بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله ﷺ فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشا قد تظاهرت» أي تعاونت «على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، قال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} قال مفروق: ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم عرفناه، ثم قال: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فتلا رسول الله {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
وهذه الآية ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية، وبين ذلك في سائر الأبواب الفقهية، وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة «فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم» أي صرفوا عن الحق {كذبوك وظاهروا} أي عاونوا «عليك، وكان مفروق أراد أن يشركه أي يشاركه في الكلام هانىء بن قبيصة، فقال: هذا هانىء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانىء قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة، فقال: هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانىء بن قبيصة في تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر، وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب دون ما يلي أنهار كسرى فعلنا، فإنا إنما نزلنا على عهدأخذه علينا كسرى: أن لا نحدث حدثا، وأن لا نؤوي محدثا. وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله ﷺ: ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله «عَزَّ وجَلّ» لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم، ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: اللهم لك ذا فتلا رسول الله {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين} ثم نهض رسول الله » أي وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم؛ إلا أن في الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيباني، وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم، ولعله هو هذا، لقول هانىء بن قبيصة فيه: إنه صاحب حربنا.
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة، فيكون من الصحابة، أي وفي أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة، ونقل عن أبي نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما.
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله ﷺ لأبي بكر ائتهم. فاعرضني عليهم، فأتاهم فعرض عليهم، فقال لهم: كيف العدد فيكم، قالوا: كثير مثل الثرى، قال: فكيف المنعة؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم، قال: فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه وثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله، ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل؟ قال نعم، فأخبروه بما دعاهم إليه، وأنه زعم أنه رسول الله، فقال لهم: لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه، فقالوا: لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر».
وفي رواية أنه لما سألهم قالوا له: حتى يجيء شيخنا حارثة، فلما جاء قال: إنا بيننا وبينك من الفرس حربا، فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول، فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إليه؟ قالوا محمد، قال: فهو شعاركم فنصروا على الفرس، فقال رسول الله ﷺ: بي نصروا، أي نصروا بذكرهم اسمي.
ولا زال يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويقول «لا أكره أحدا على شيء، من رضي الذي أدعوه إليه فذلك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد منعي من القتل حتى أبلغ رسالات ربي، فلم يقبله أحد من تلك القبائل، ويقولون: قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه.
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه، وإعزاز نبيه، ، وإنجاز موعده له خرج رسول الله ﷺ في الموسم.
وفي سيرة مغلطاي ومستدرك الحاكم أن ذلك كان في شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم «فبينا هو عند العقبة التي تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة، أي وهي عند يسار الطريق لقاصد منى مكة، وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة، إذ لقي بها رهطا من الخزرج: أي لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون فيمن يحج من العرب، أي والأوس في الأصل أي اللغة: العطية، ويقال للذئب، ويقال لرجل اللهو واللعب. والخزرج في الأصل: الريح الباردة، قيل هي الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر، وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا، وقد عد الستة في الأصل، وبين الناس اختلاف في ذكرهم، فقال لهم: من أنتم؛ قالوا نفر من الخزرج، فقال: أمن موالي يهود: أي من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير، لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم، وأن يأمن بعضهم من بعض، وهذا كان في أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا: نعم، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، وفي لفظ «وجدهم يحلقون رؤوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله «عَزَّ وجَلّ» وعرض عليهم الإسلام، أي ورأوا امارات الصدق عليه لائحة، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أنه للنبي الذي يوعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شيء من الشر قالوا لهم: سيبعث نبي قد أظل: أي قرب زمانه نتبعه، نقتلكم معه قتلة عاد وإرم: أي كما تقدم في أخبار الأحبار، والمراد نستأصلكم بالقتل، فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له: إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر ما بينهم، أي فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهما الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة:
أي مائة وعشرين كما في الكشاف، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
أقول: وفي رواية «قالوا يا رسول الله إنما كانت بُعاث» أي بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفي آخره ثاء مثلثة، وقيل بفتح الموحدة وبدل المهلمة معجمة، قيل وذكر المعجمة تصحيف. فعن ابن دريد: صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة، وإنما هو بالمهملة. وفي القاموس بالمهملة والمعجمة «عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك، لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك» فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك» وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بني قريظة، ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه المدينة بخمس سنين بين الأوس والخزرج. وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد، وبه قتل مع من قتل من قومه، وكان النصر فيهم أولا للخزرج ثم صار للأوس.
وسبب القتل أنه كان من قاعدتهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الأوس أي وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج: أي وهو ذياد والد المحذر بن ذياد، وذياد بالذال المعجمة، مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت، والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة، فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه، فأبى عليه الأوس، وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه، ونسبه وشعره وجلده، كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب، وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله حين سمع به لأنه كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، فدعا سويدا إلى الله «عَزَّ وجَلّ» وإلى الإسلام، فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله ﷺ اعرضها عليّ فعرضها عليه فقال رسول الله ﷺ: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدى ونور، فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج».
وفي كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه، فشعروا بإيمانه، فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذي قتله سويد، لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلىء سكرا، فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال: هل لك في الغنيمة الباردة؟ قال: ما هي، قال: سويد أعزل لا سلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له: قد أمكن الله منك، قال: ما تريد مني؟ قال: قتلك فقتله، فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا، فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه، حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتي.
وممن قتل في هذه الحرب التي يقال لها بعاث شخص، يقال له إياس بن معاذ قدم مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع، مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج، فأتاهم رسول الله ﷺ فجلس إليهم وقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له، قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني للعباد، وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا: أي قوم والله خير مما جئنا إليه، فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهزه، وقال له: دعنا منك لقد جئنا لغير هذا، فسكت إياس وقام رسول الله ﷺ عنهم، فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات» والله أعلم. ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم.
قال وفي رواية «أنهم لما آمنوا به وصدقوه قالوا له: إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك: أي على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله «عَزَّ وجَلّ» ورسوله لعل الله يصلح ذات بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل؛ فرضي بذلك رسول الله ». انتهى أي فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة، ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار، وربما سماه بعضهم العقبة الأولى، فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا: أي عشرة من الخزرج واثنان من الأوس. وقيل: كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به عند العقبة أولا، فاجتمع بهم عند العقبة أيضا، فبايعهم: أي عاهدهم، أي وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية، وتلا عليهم آية النساء: أي الآية التي نزلت بعد ذلك في شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء.
فعن عبادة بن الصامت «بايعنا رسول الله ﷺ بيعة النساء» أي كبيعة النساء أي كمبايعته للنساء التي كانت يوم فتح مكة، وهي على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا» أي لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم، وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق.
وفي النهر: كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم، وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن: وهو دفنهن أحياء؛ فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار، وبعضهم خوف السبي، قال: «ولا نأتي بهتان» أي الكذب الذي يبهت صاحبه سامعه «نقتريه بين أيدينا وأرجلنا» أي في الحال والاستقبال، قيل وغير ذلك، ولا نعصيه في معروف أي ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا.
قال الحافظ ابن حجر: المبايعة المذكورة في حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازي «أن النبي ﷺ قال لمن حضر من الأنصار: أبايعكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وعلى أن ير حل إليهم هو وأصحابه» ثم ذكر جملة من الأحاديث، وقال: هذه أدلة صريحة في أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة.
أقول: ليس في كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة، إذ لم يقل بايعنا رسول لله بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه، وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال، وتلا عليهم آية النساء، فلا يحسن التفريع المتقدم، بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ، والله أعلم.
زاد بعضهم «والسمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ثم قال: ومن وفى» بالتخفيف والتشديد: أي ثبت على العهد «فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو» أي العقاب «طهرة له، أو قال كفارة له».
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه قال «لا أدري، الحدود كفارة لأهلها أو لا» وإسلام أبي هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتي، فإنه كان عام خيبر سنة سبع.
ويجاب بأن هذه البيعة التي ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة، بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت.
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة «رضي الله ع» كان قبل أن يعلم ذلك ثم علمه: أي أن الحدود كفارة، قال «ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله «عَزَّ وجَلّ»، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه» أي وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك، فقتل المرتد لا يكون كفارة وطهرة له، لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
وفي رواية «فإن رضيتم فلكم الجنة» وإن غشيتم، من ذلك شيئا فأصبتم بحد في الدنيا فهو كفارة لكم في الدنيا، وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله، إن شاء عذب، وإن شاء غفر» أي وفي هذا ردّ على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة، وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة.
«فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله ﷺ معهم ابن أم مكتوم» واسمها عاتكة، واسمه عمرو، وقيل عبدالله، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين «رضي الله ع».
قال الشعبي: غزا رسول الله ﷺ ثلاث عشرة غزوة، ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن أم مكتوم على المدينة، وكان يصلي بهم» وليس له رواية، ومصعب ابن عمير «رضي الله ع» يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم: أي من أراد أن يسلم الإسلام، ويفقهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وهذا ما في أكثر الروايات؛ وهو يفيد أنه بعث بهما معا، ويدل له ما روى عن البراء بن عازب «رضي الله ع» «أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله ﷺ مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئان الناس القرآن» أي وفي رواية «أن رسول الله ﷺ بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم».
وفي رواية «ثم بعثوا إلى رسول الله ﷺ معاذ بن عفراء ورافع بن مالك «رضي الله ع» أن أبعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله» وفي رواية «كتبوا إليه بذلك، فبعث إليهم رسول الله ﷺ مصعب بن عمير وكان يقال له المقرىء، وهو أول من تسمى بهذا الاسم، وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم.
أقول: وقد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه بذلك عند خروجهم من مكة، وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة، والاقتصار على مصعب لا ينافي ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه.
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول، وهو عن ابن إسحاق «أن رسول الله ﷺ إنما بعثه يعني مصعب بن عمير بعدهم» وإنما كتبوا إليه «إن الإسلام قد فشا فينا، فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا في الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا في صلاتنا، فبعث مصعب بن عمير» وما يبعد الجمع الثاني، وهو ما نقل عن الواقدي «أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير». وفي كلام ابن قتيبة: وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد مجيئهما مع القوم، وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة، فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم، فليتأمل ذلك، والله تعالى أعلم. وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها.
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبي امامة أسعد بن زرارة «رضي الله ع» دون بقية رفقته، وكان سالم مولى أبي حذيفة «رضي الله ع» يؤمّ المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله، وكان مصعب يؤمّ القوم: أي الأوس والخزرج، لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وجمع بهم أول جمعة جمعت في الإسلام قبل قدومه، المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية.
وقال الشيخ أبو حامد: فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها. قال الحافظ ابن حجر: وهو غريب، أي وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته.
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو امامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا: أي فعن كعب بن مالك قال: أول من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبي ﷺ في نقيع الخضمان، والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة، لكن قال الخطابي: إنه خطأ، والخضمان: جمع خضمة: وهي الماشية التي تخضم أي تأكل بفمها كله مما في ذلك المحل من الكلأ: وهو اسم لقرية من قرى المدينة، قال: وكنا أربعين رجلا: أي ولا مخالفة، لأن مصعب بن عمير كان عند أبي امامة أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع، وكان الخطيب والمصلي مصعب بن عمير، فنسب الجمع لكل منهما، أي ويكون ما في الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذي صلى بهم على التجوز: أي جمعهم على الصلاة، ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض. وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سيأتي.
قال السهيلي: وتسميتهم: أي الأنصار إياها بهذا الاسم: أي تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية العروبة: أي يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة: أي الرحمة. وقال "عليه الصلاة والسلام في حق ذلك اليوم «إنه اليوم الذي فرض عليهم» أي على اليهود والنصارى أي طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا «أضلته اليهود والنصارى، وهداكم الله تعالى له» أي إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى ويتفرغون فيه لعبادته، واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذي استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات، أي بناء على أن أول الأسبوع الأحد، وأنه مبدأ الخلق. قال بعضهم: وهو الراجح.
وفي كلام بعضهم: أول الأسبوع الأحد لغة، وأوله السبت عرفا: أي في عرف الفقهاء في الإيمان ونحوها. ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهي الراحة، قال تعالى {وجعلنا نومكم سباتا} أي راحةٌ ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة.
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد، أي بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة. وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه: تركوه مع علمهم به، ويؤيد ذلك ما جاء «إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم، وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة» أي وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه، وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه.
وفي (سفر السعادة): كان من عوائده الكريمة أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم، ويخصه بأنواع التشريف والتكريم.
وجاء «إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدنيا في الدنيا واسمه عندهم يوم المزيد» كما تقدم «لأن الله تعالى يتجلى عليهم في ذلك اليوم، ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم: لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد» فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير.
وقد جاء في المرفوع «يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند الله تعالى، فهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور، وساعة الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان».
والذي في البخاري «ثم هذا» أي يوم الجمعة «يومهم الذي فرض عليهم: أي على اليهود والنصارى، فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد» وقوله فاختلفوا فيه يدل على أنهم لم يعلموا عينه، ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته، فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه في شرعهم، وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم من الأسبوع، فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد، فالتزموه شرعا لهم، وهو يخالف ما سبق فليتأمل.
قال بعضهم: والراجح أن أول الأسبوع السبت، لأنه أول يوم ابتدىء فيه بإيجاد المخلوقات، فقد جاء في الصحيح «إن الله خلق التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء» كذا في مسلم. وعليه يشكل تسمية اليوم الذي يليه الأحد. وأجيب بأنه من تسمية اليهود، وتبعهم غيرهم.
وقد ذكر السهيلي أن تسمية هذه الأيام طارئة؛ ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هي تسمية صادقة، لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت، وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه.
وردّ بأنه جاء«إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس».
وأجاب ابن حجر الهيتمي بأن هذه: أي التسمية المذكورة لم تثبت، وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء، هذا كلامه، فيكون أول الأسبوع السبت.
ثم رأيت السهيلي قال: لم يسمها رسول الله ﷺ بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها، ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم، فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم، هذا كلامه فليتأمل.
وفي السبعيات للهمداني: أكرم الله موسى "عليه الصلاة والسلام بالسبت، وعيسى بالأحد، وداود بالاثنين، وسليمان بالثلاثاء، ويعقوب بالأربعاء، وآدم بالخميس، ومحمدا بالجمعة، وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع.
وقد «سئل عن يوم السبت؟ قال: يوم مكر وخديعة» أي وقع فيه المكر والخديعة، أي لأنه اليوم الذي اجتمعت فيه قريش في دار الندوة، للاستشارة في أمره «وسئل عن يوم الأحد؟ فقال: يوم غرس وعمارة» لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها. وفي رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست «وسئل عن يوم الاثنين، فقال: يوم سفر وتجارة» لأن فيه سافر شعيب فربح في تجارته. «وسئل عن يوم الثلاثاء؟ فقال: يوم دم» لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه.
وذكر الهمداني في السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة: جرجيس، وزكريا، ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام، وسحرة فرعون، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وبقرة بني إسرائيل، وهابيل بن آدم، وبين قصة كل واحد.
أي ومن ثم نهى رسول الله ﷺ عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال «فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم، وفيه نزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلقت جهنم، وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بني آدم، وفيه ابتلي أيوب» وفي بعض الروايات أن اليوم الذي ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء.
وسئل «عن يوم الأربعاء؟ قال: يوم نحس» لأن فيه أغرق فرعون وقومه، وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح، أي ومن ثم كان يسمى في الجاهلية دبار، والدبار الملهى لكن الذي في الحديث الموقوف على ابن عباس الذي لا يقال من قبل الرأي «آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر» وجاء «يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء».
وذكر الزمخشري أن بعضهم قال لأخيه اخرج معي في حاجة فقال: هذا الأربعاء، قال: فيه ولد يونس، قال لا جرم قد بانت له بركته: أي حيث ابتلعه الحوت؛ قال: وفيه ولد يوسف، قال: فما أحسن ما فعل به إخوته! طال حبسه وغربته، قال: وفيه نصر المصطفى يوم الأحزاب، قال: أجل، ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر.
وورد في بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص.
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه همّ بقص أظفاره يوم الأربعاء، فتذكر ذلك فترك، ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهي فقصها فلحقه البرص فرأى النبي ﷺ في النوم، فقال له ألم تسمع نهي عن ذلك؟ فقال: يا رسول الله لم يصح ذلك عندي، فقال: يكفيك أن تسمع، ثم مسح بيده على بدنه فزال البرص جميعا. قال ابن الحاج، فجددت مع الله توبة أني لا أخالف ما سمعت عن رسول الله ﷺ أبدا.
وجاء في حديث أخرجه ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء» وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء.
وفي منهاج الحليمي وشعب الإيمان للبيهقي «إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر» لأنه أستجيب له الدعاء على الأحزاب في ذلك اليوم في ذلك الوقت. وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء في مهماته، وذكر أنه ما بدىء بشيء يوم الأربعاء إلا وتمّ، فينبغي البداءة بنحو التدريس فيه.
«وسئل عن يوم الخميس؟ فقال: يوم قضاء الحوائج» لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر، ومن ثم زاد في رواية «والدخول على السلطان». «وسئل عن يوم الجمعة؟ فقال: يوم نكاح نكح فيه آدم حواء، ويوسف زليخا، وموسى بنت شعيب، وسليمان بلقيس» أي ونكح فيه خديجة وعائشة.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «أذن النبي ﷺ لهم قبل الهجرة» أي قبل أن يهاجر «في إقامة الجمعة» أي فلم يفعلوها باجتهاد، بل باذنه. وكتب إلى مصعب بن عمير «رضي الله ع» «أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أي اليوم الذي يليه يوم السبت، فأجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين، فجمع مصعب بن عمير عند الزوال: أي صلى الجمعة حتى قدم رسول الله ﷺ: أي استمر على ذلك حتى قدم النبي. وهذا يدل على أنه عين لهم ذلك اليوم، وهو خلاف قوله السابق «فهداكم الله له» الظاهر في أن هدايتهم له باجتهاد منهم.
ويدل له ما روي عن ابن عباس «رضي الله ع» باسناد صحيح «أن الأنصار قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ لنجعل يوما نجتمع فيه، فنذكر الله ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة» أي لأنه اليوم الذي وقع فيه خلق آدم الذي هو مبدأ هذا الجنس، وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة، ففيه المبدأ والمعاد إذ هو المرويّ عن ابن عباس، يقتضي أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم. إلا أن يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أوّلا ثم أرسلوا له يستأذنونه في ذلك فأذن لهم فيه، فقد جاء الوحي موافقة لما اختاروه.
وفيه أنه لو كان كذلك لقال لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره. إلا أن يقال: يجوز أنهم لما استأذنوه في الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه لهم. وتقدم عن الشيخ أبي حامد أن الجمعة أمر بها وهو بمكة، وتركها لعدم التمكن من فعلها، تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب، ويؤيده أنه لو كان أمر بها وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك. إلا أن يقال: إنما لم يأمره بها حينئذ، لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة، أو أنه إنما لم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعي «رضي الله ع» أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله، ومن ثم لما علم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك في قوله: أما بعد فانظر اليوم الخ.
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذي هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة في هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلي، على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها في رواية.
على أن السهيلي ذكر عن ابن عباس «رضي الله ع» أن النبي ﷺ سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم في الإسراء، وذكر أيضا أن كعب بن لؤيّ أول من سمى يوم العروبة الجمعة.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤيّ إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم.
وعن أبي هريرة «رضي الله ع» «أنه سأل رسول الله ﷺ عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة، فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم» وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم في الإسراء والله أعلم.
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير «رضي الله ع» على يد مصعب بن عمير، وكان إسلام أسيد قبل سعد في يومه.
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة «رضي الله ع» خرج بمصعب بن عمير إلى حائط: أي بستان من حوائط بني ظفر، فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يومئذٍ سيدا قومهما: أي بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أبالك، انطلق بنا إلى هذين الرجلين؛ يعني أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار، وهي المحلة، والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وأنهما: أي وفي لفظ قال له: ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره، فإنه بلغني أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث علمت لكفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاءك فأصدق الله فيه، ثم قال مصعب: إن يجلس هذا كلمته. قال: فوقف عليهما متشمتا، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، وفي لفظ قال: يا أسعد مالنا ولك؟ تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا.
وفي رواية: علام أتينا في دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه. فقال له مصعب: أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب في جواب الاستفهام، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره: أي منعنا عنك ما تكره، قال أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليها، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال: ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ثم تصلي، فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين: أي وهما صلاة التوبة.
فقد روى أصحاب السنن، وقال الترمذي حديث حسن أنه قال «ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله «عَزَّ وجَلّ» إلا غفر له» ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ «رضي الله ع»، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما، فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك: أي ينقضوا عهدك، فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال: والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب: لقد جاءك والله سيد مَنْ وراءه مِنْ قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا امامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت مني هذا، هذا يغشانا في دارنا بما نكره، فقال له مصعب: أو تقعد تسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ فقال: تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين، فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه، ومعه: أي مع ذلك النادي أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا وأبركنا نقيبة أي نفسا وأمرا؛ قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في داري: أي قبيلة بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا في يوم واحد كلهم، وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية، إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بني عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد، ولم يسجد لله سجدة، وأخبره أنه من أهل الجنة.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول دار أي قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بني عبد الأشهل، ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة «رضي الله ع» فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور من الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان من سكان عوالي المدينة: أي قراها من جهة نجد، قال: وفي كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفي بن الأسلت، وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه، لأنه كان قوّالا بالحق معظما؛ وقد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، واغتسل من الجنابة، ودخل بيتا فاتخذه مسجدا وقال: أعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب، فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير ا هـ أي سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه المدينة لقيه أبي ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس: لا أتبعه إلا آخر الناس، فلما احتضر أرسل إليه رسول الله ﷺ أن قل: لا إله إلا الله أشفع لك بها، فقالها وهمّ ابنه أن ينكح امرأة أبيه، أي على ما هو عادة الجاهلية، أي وكان ذلك في المدينة حتى في أول الإسلام أنّ أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم: أي قوله تعالى {ولا تَنكِحُوا ما نكح آباؤكم من النساء} وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى.
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، أي وأخبر النبي ﷺ بمن أسلم، فسرّ بذلك.
وعن كعب بن مالك قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، والبراء بالمد لغة: آخر ليلة من الشهر، سمي بذلك لأنه ولد فيها. ومعرور: معناه لغة: مقصود، فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا: إني قد رأيت رأيا ما أدري أتوافقوني عليه أم لا، قال: قلنا وما ذاك؟ قال: رأيت أن لا أدع هذه البنية أي بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعني الكعبة مني بظهر، وأن أصلي إليها، قال: قلنا والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام: يعنون بيت المقدس: أي صخرته، وما نريد أن نخالفه قال: فقال: إني أصلي إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل، قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعني بيت المقدس: أي واستدبرنا الكعبة، وصلى إلى الكعبة أي مستدبرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلا الإقامة على ذلك، فلما قدمنا مكة قال لي: يا بن أخي انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ وكنا لا نعرفه، لأنا لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ فقال: تعرفانه؟ قلنا لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا نعم، وكنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد، فإذا هو الرجل الجالس مع العباس، فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ معه، فسلمنا حين جلسنا إليه، فقال رسول الله ﷺ للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟ قال نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب ابن مالك، قال كعب: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ الشاعر؟ قال نعم، فقال له البراء بن معرور: يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر: يعني الكعبة، فصليت إليها، وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يا رسول الله؟ قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها، فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ وهي بيت المقدس: أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما؛ وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس، لأنه كان متأوّلا فليتأمل.
وفي هذا تصريح بأنه وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحوّ ل القبلة، وقد تقدم الوعد بذلك.
قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة: أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم، ي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم، وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا، وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول، قال: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، وكان من جملة المشركين أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين، سيد من ساداتنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم دعوناه إلى الإسلام فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله ﷺ فشهد معنا العقبة، فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، أي بعد هدأة، يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان: نسيبة بالتصغير، وهي أم عمارة من بني النجار، أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله ﷺ هي وزوجها وابناها حبيب وعبدالله «رضي الله ع». وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم، ثم يقول: وتشهد، أني رسول الله، فيقول لا، فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات، وسيأتي ما وقع لها «رضي الله ع» في حرب مسيلمة. وأم منيع: أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم خمسة وسبعون نفسا، نعم تخالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان: أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس، قال: فلا زلنا ننتظر رسول الله حتى جاءنا. أي وفي رواية «أن رسول الله ﷺ سبقهم وانتظرهم».
أقول: وقد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم، فلما لم يجيئوا ذهب، ثم جاءهم بعد مجيئهم ـ والله أعلم ـ ومعه عمه العباس بن عبد المطلب: أي ليس معه غيره، وهو يومئذٍ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق به.
أقول: وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعليّ لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له، وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا، فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم، فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم، فقال: يا معشر الخزرج أي قال ذلك، لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس، وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا، فهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم. فإن كنتم ترون أنكم وافون له، بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده، فقال البراء بن معرور: إنا والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه، ولكنا نريد الوفاء والصدق، وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله ﷺ: أي والبراء بن معرور هو أول من أوصى بثلث ماله.
وفي رواية أن العباس قال: قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رأيكم وائتمروا بينكم، ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع، فإن أحسن الحديث أصدقه.
أقول: قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم، ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم، ولا يساعد عليه ما تقدم، ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة، فإنهم كما تقدم قالوا له: ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك. ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم.
وعندما تكلم العباس بما ذكر، قالوا له: قد سمعنا مقالتك، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وفي رواية: خذ لنفسك ما شئت، واشترط لربك ما شئت، فقال النبي ﷺ: أشترط لربي «عَزَّ وجَلّ» أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم، فقال ابن رواحة: فإذا فعلنا فما لنا؟ فقال: لكم الجنة، قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
وفي رواية: «فتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن، ودعا إلى الله «عَزَّ وجَلّ» ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: يا رسول الله نبايعك؟ قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا» لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس«فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة» أي السلاح «ورثناها كابرا عن كابر، وبينا البراء يكلم رسول الله ﷺ قال أبو الهيثم بن التيهان» بتشديد المثناة تحت وتخفيفها «نقبله على مصيبة المال وقتل الأشراف، فقال العباس: اخفوا جرسكم: أي صوتكم، فإن علينا عيونا، ثم قال أبو الهيثم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال؛ يعني اليهود حبالا أي عهودا، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله، ثم قال: بل الدم الدم والهدمَ الهدمَ، بفتح الدال وسكونها: إهدار دم القتيل: أي دمي دمكم: أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم، فدمي ودمكم واحد» وفي لفظ بدل الدم «اللدم» وهو بالتحريك: الحرم من القرابات: أي حرمي حرمكم. تقول العرب: اللدم اللدم، إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وهدمكم واحد، أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته «وذمتي ذمتكم، ورحلتي مع رحلتكم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم» أي وعند ذلك قال لهم العباس «رضي الله ع» «عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام، يدالله فوق أيديكم لتجدّن في نصرته ولتشدن من أزره، قالوا جميعا نعم، قال العباس: اللهم إنك سامع شاهد، وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه، اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا. ثم قال رسول الله ﷺ: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس» أي وفي رواية «أنه قال لهم: إن موسى أخذ من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا، فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره، فإنما يختار لي جبريل» أي لأنه "عليه الصلاة والسلام حضر البيعة «فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وسعد بن أبي خيثمة، والمنذر بن عمرو، وعبدالله بن رواحة، والبراء بن معرور، وأبو الهيثم بن التيهان، وأسيد بن حضير، وعبدالله بن عمرو بن حرام، وعبادة بن الصامت، ورافع بن مالك، كل واحد على قبيلة» «رضي الله ع» أجمعين. «وقال لأولئك النقباء: أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين».
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله ﷺ أسعد بن زرارة: أي وهو من أصغرهم «فإنه أخذ بيد النبي ﷺ وقال: رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب، إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن اخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب، وقتل خياركم، وإن تعطكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة: أي جميعا، فخذوه وأجركم على الله تعالى، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو عذر عند الله «عَزَّ وجَلّ»، فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك، فوالله لا نذر: أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها: أي لا نطلب الإقالة منها.
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشدّ العقدة العباس بن عبادة بن نضلة، قال: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس: أي على من حاربه منهم، وإلا فهو لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي، وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل، ثم ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا: يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا؟ قال: «رضوان الله والجنة». قالوا: رضينا، ابسط يدك فبسط يده فبايعوه، أي وأول من بايعه البراء بن معرور، وقيل أسعد بن زرارة، وقيل أبو الهيثم بن التيهان، ثم بايعه السبعون كلهم، أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة/ «لأنه كان لا يصافح النساء إنما كان يأخذ عليهن، فإذا أحرزن قال: اذهبن فقد بايعتكن» كما سيأتي، فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم، فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم، وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية واضافية.
أي ويقال: إن أبا لهيثم قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران "عليه الصلاة والسلام، وأن عبدالله بن رواحة قال: أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم "عليه الصلاة والسلام، وقال أسعد بن زرارة: أبايع الله «عَزَّ وجَلّ» يا رسول الله، فأبايعك على أن أتمّ عهدي بوفائي وأصدق قولي بفعلي في نصرك، وقال النعمان بن حارثة: أبايع الله «عَزَّ وجَلّ» يا رسول الله، وأبايعك على الإقدام في أمر الله «عَزَّ وجَلّ»، لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة. وقال عبادة بن الصامت: أبايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم، وقال سعد بن الربيع: أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن لا أعصي لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا، فلما انتهت البيعة، وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية، ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده: يا أهل الجباجب: أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة: وهي منازل مني. وفي الهدى: يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه، يعني بمذمم النبي، لأن قريشا كانت تقول بدل محمد مذمم، ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه، لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابىء، لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين، وقد جاء «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يسبون مذمما وأنا محمد، فإنهم قد أجمعوا» أي عزموا «على حربكم «فقال رسول الله ﷺ هذا إزب العقبة أسمع، أي عدو الله، أما والله لا أفزعن» وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة، وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة: أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها. والإزب في الأصل: القصير، ومن ثم رأى عبدالله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله، فقال له: ما أنت؟ قال إزب، قال. وما إزب؟ قال: رجل من الجن، فضربه على رأسه بعود سوطة فهرب.
«وعند ذلك قال لهم رسول الله ﷺ: ارفَضّوا» وفي لفظ «انفضوا إلى رحالكم».
أقول: وفي رواية «لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من رأس الجبل: يا معشر. قريش هذه بنو الأوس والخزرج تحالف على قتالكم، ففزعوا: أي الأنصار عند ذلك، فقال رسول الله ﷺ: لا يروعكم هذا الصوت، فإنما هو عدوّ الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون».
ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبوالجن. ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة، لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا، وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم.
فعن حارثة بن النعمان «رضي الله ع» «لما فرغوا من المبايعة قلت: يا نبي الله، لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض أنكرته قائما على يمينك قال: وقد رأيته؟ قلت: نعم، قال: ذاك جبريل» والله أعلم.
ثم إن الحديث نما وسمع المشركون من قريش بذلك: أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج، فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل، قال عمرو: ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا، وقال: هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه؟ قلنا لا، فقال: لعله إبليس الكذاب الحديث. وفيه طول وأمور مستغربة.
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله «ليس يسمعه أحد مما تخافون» لأن سماعهما لم يحصل منه خوف لهم «وعند فشوّ الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار، فقالوا يا معشر الأوس والخزرج، وفي رواية: يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم، فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه: أي حتى إن أبيّ ابن سلول جعل يقول هذا باطل، وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا عليّ بمثل هذا، لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني» وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم: أي ونفر الناس من منى وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا، فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأما سعد فأمسك وعذب في الله، وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين، قال: نقل عنه أنه قال: لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي، فلا زالوا يلطموني على وجهي ويجذبوني بجمتي: أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة، فأومأ إليّ رجل أي وهو أبو البختري بن هشام، مات كافرا وقال: ويحك ما بينك وبين أحد من قريش، جوار ولا عهد، قال: بلى، قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحارث بن حرب بن أمية: أي وهو أخو أبي سفيان، والأول أسلم بعد الحديبية، والثاني لا يعلم له إسلام، فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، ففعلت، فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد، فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما، فقالا: من هو؟ قال: يقول إنه سعد بن عبادة، فجاءا فخلصاني من أيديهم ا هـ.
وعن سعد: بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع عليّ رجل أبيض وضيء شعشاع: أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يكن عند أحد من القوم خير فعند هذا، فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير، أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو «رضي الله ع»؛ فإنه أسلم بعد ذلك.
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام، أي إظهارا كليا وتجاهروا، وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشا فيهم قبل قدومهم لهذه البيعة، وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم، وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمنى: أي تصب عنده تقرّبا إليه، وكان يعظمه، فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو، يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ ثم يعود يلتمسه؛ حتى إذا وجده غسله، فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك، إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه، ثم قال له: ما أعلم من يصنع بك، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك، فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها خرء الناس، فلما أصبح عمرو غدا إليه فلم يجده، ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر، فلما رآه كذلك رجع إلى عقله، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم وحسن إسلامه، وأنشد أبياتا منها:
فوالله لو كنت إلها لم تكن ** أنت وكلب وسط بئر في قرن
أي حبل.
«وأمر من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة، أي لأن قريشا لما علمت أنه آوى: أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه؛ ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى، وجعل البلاء يشتد عليهم، وصاروا ما بين مفتون في دينه، وبين معذب في أيديهم، وبين هارب في البلاد شكوا إليه واستأذنوه في الهجرة: أي فمكث أياما لا يأذن لهم، ثم قال لهم: أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي» والسَراة بفتح السين: أعظم جبال بلاد العرب «ثم خرج إليهم مسرورا، فقال: قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فأذن لهم، وقال: من أراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا» أي متتابعين «يخفون ذلك» أي وفي رواية «أريت في المنام أني هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل؛ فذهب وهلي» أي وهمي «إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب».
وفي الترمذي عن جابر بن عبدالله «رضي الله ع»، قال: قال رسول الله «إن الله أوحى إليّ: أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة، أو البحرين، أو قنسرين» قال الترمذي، هذا حديث غريب، وزاد الحاكم «فاختار المدينة».
أقول: فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة، وأن عدم إذنه لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له، ولك ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له «صليت بطيبة وإليها المهاجرة».
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون أنسي قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله «قد أخبرت بدار هجرتكم» إلى آخره.
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدّوه مع علمه بأن وطنه المدينة، وكونهم يبايعونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد.
على أنه سيأتي في غزوة بدر «أنه خشي أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة» أي فإن في بعض الروايات «وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب» والله أعلم.
وقبل الهجرة «آخى بين المسلمين» أي المهاجرين «على الحق والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر «رضي الله ع»، وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عبادة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيدالله، وبين عليّ ونفسه، وقال: أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت، قال: فأنت أخي في الدنيا والآخرة» قال: وأنكر أبو العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي ﷺ لعليّ «رضي الله ع»، قال: لأن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض، ولتألف قلوبهم بعضهم ببعض، فلا معنى لمؤاخاة مهاجريّ لمهاجريّ.
قال الحافظ ابن حجر: هذا ردّ للنص بالقياس، وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة، فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى، وليستعين الأعلى بالأدنى، ولهذا تظهر مؤاخاته لعليّ «رضي الله ع» كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة.
وفي الصحيح في عمرة القضاء «أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي» أي بسبب المؤاخاة ا هـ، وكان أول من هاجر منهم إليها أي لا معهم أبو سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي، وهو أخوه من الرضاع وابن عمته. وهو أول من يدعى للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه أهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة، فلما بلغه إسلام من أسلم من الأنصار، أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم، وقدم المدينة بكرة النهار. ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها، وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا: يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد، ثم نزعوا خطام البعير منه، فجاء رجال من قوم أبي سلمة، وقالوا: إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها، ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها، فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة، فمرّ بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها: أما ترحمون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها، فقالوا لها: الحقي بزوجك، فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها، فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى، حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة: أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذٍ مشركا ثم أسلم «رضي الله ع» في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي، فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها: هذا زوجك هنا ثم انصرف، وهي أول ظعينة دخلت من المهاجرين المدينة «رضي الله ع»، وكانت أم سلمة تقول: ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة.
قال: وقال ابن إسحاق وابن سعد: ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة ـ بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة ـ وهي أول ظعينة قدمت المدينة ا هـ.
أقول: فأم سلمة أو ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها، وليلى أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها، فلا منافاة.
وفي كلام ابن الجوزي: أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والله أعلم.
قال: بينت: أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها: فإنه لما رآني قال: إلى أين؟ قلت: إلى زوجي، قال: أو ما معك أحد؟ قلت لا، ما معي إلا الله وابني هذا، فقال: والله لا أتركك، ثم أخذ بخطام البعير وسار معي، فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأجر، فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي، فإذا ركبت أخذ بخطامه فقادني ا هـ.
أي وقد قال فقهاؤنا: من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة؛ أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق.
وقولنا لا معهم لا ينافي أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي ﷺ مصعب بن عمير، لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال: أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه. وأما مصعب فكان بإرسال منه. ثم رأيت في السيرة الهشامية: أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ من بني مخزوم أبو سلمة، وعليه فلا إشكال. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
وفي رواية: ثم قدم أصحاب رسول الله، أرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم، ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب «رضي الله ع» وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا. وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال: تجدني أو أجدك عندمحل كذا، فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة.
وعن عليّ «رضي الله ع» قال: ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد بسيفه و تنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته: أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدا، فقال: شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس: أي الأنوف، من أراد أن تثكله أمه: أي تفقده، أو يوتم ولده، أو ترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي، قال عليّ «رضي الله ع»: فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه. ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام «رضي الله ع» ـ فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح ـ قدما المدينة والنبي ﷺ بمكة لم يهاجر، فكلما عياش بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه، وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها. وفي لفظ: ولا يمس رأسه مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه، أي وفي لفظ: أن لا تأكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها، وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها، وأنت في دين منه برّ الوالدين، فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة، فرقت نفسه وصدّقهما: أي وأخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء، وقال له عمر: إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما، والله لو آذى أمك القمل امتشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال عياش: أبرّ أمي ولي مال هناك آخذه، فقال عمر: خذ نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى إلا ذلك، فقال له عمر: فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك منهما ريب فانج عليها، فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة، فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء: أي شدّا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق. أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال له أبو جهل: يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على نافتك هذه؟ قال بلى، قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاه رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا. وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوه بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا. وفي لفظ: بسفيهنا، فجلس بمكة مع هشام بن العاص، فإنه كما تقدم منع وحبس عن الهجرة، وجعل كل في قيد.
وفي لفظ: أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وأن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه، فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة: أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه بمكة مع أبي جهل.
وفي الينبوع: جلده كل واحد منهما مائة جلدة، وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس، وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن. قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه} الآية.
وفيه أنه تقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص؛ إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله، فتكون نزلت فيهما، وحلف عياش ليقتلنّ ذلك الرجل إن قدر عليه. قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله ﷺ مكة، فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلامه، فقتله وأعلم النبي ﷺ بذلك، فأنزل الله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} فقرأها النبي ﷺ وقال لعياش «قم فحرر» أي أعتق رقبة. وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم: مكث وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع: أي من الركعة الأخيرة «وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص، والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فإن هذا يدل على أن هشام ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام. وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا، الأول صريحا، والثاني ظاهرا.
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما، وفيه نظر لما ذكر، ولأنهما لو كانا فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك، إلا أن يقال فعل بهما ذلك لعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام. ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه لهما.
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة، فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة. وقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفدى؟ قال: كرهت أن يظن فيّ أني جزعت من الأسر، ثم نجا وتوصل إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة، فسر رسول الله ﷺ بذلك وشكر صنيعه، وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح.
وممن هاجر قبل النبي ﷺ سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيفة، وكان يؤمّ المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب، لأنه كان أكثرهم أخذ للقرآن، فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا، حتى قال لما أوصى عند قتله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا ما جعلتها شورى. قال ابن عبد البر: معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوّليه الخلافة: أي فإنه قتل في يوم اليمامة، وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت أن تقبله، فجعله في بيت المال.
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة، أي بعد أن هاجر إليها، خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك؟ لا والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب، أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا نعم، قال: فإني جعلته لكم، فبلغ ذلك رسول الله، فقال «ربح صهيب».
أقول: «وذكر أن صهيبا تواعد معه أن يكون معه في الهجرة فلما أراد الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فكره أن يقطع عليه صلاته» كما سيأتي، وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته إلى المدينة كما تقدم، وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب «لما خرج رسول الله ﷺ إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش» أي بعد أن أردت الخروج بعده «وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا، قال فقلت لهم: أنا أعطيكم أواقي ممن الذهب. وفي لفظ ثلث مالي. وفي لفظ: مالي وتخلون سبيلي، ففعلوا، فقلت احفروا تحت أسكفة الباب، فإن تحتها الأواقي، وخرجت حتى قدمت على رسول الله ﷺ قباء قبل أن يتحوّل منها، فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا، فقلت: يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبريل "عليه الصلاة والسلام» أي وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال «أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي ﷺ وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه، فاتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته. ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقيّ في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي، فقالوا نعم، فقال لهم ما تقدم» وفي رواية «أنهم قالوا له: دلنا على مالك ونخلي عنك، وعاهدوه على ذلك ففعل».
وذكر بعض المفسرين «أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا، ونزل قوله تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} قال: فلما قدمت وجدت النبي ﷺ وأبا بكر جالسين، فلما رآني أبو بكر قام إليّ فبشرني بالآية التي نزلت فيّ أي وفي رواية «فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال، فقال لي أبو بكر: ربح بيعك أبا يحيى، فقلت: وبيعك، هلا تخبرني ما ذاك؟ فقال: أنزل الله فيك كذا، وقرأ عليّ الآية».
وفي تفسير سهل بن عبدالله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار؛ كان لا ينام لا بالليل ولا بالنهار.
وقد حكي أن امرأة اشترته فرأته كذلك، فقالت: لا أرضى حتى تنام بالليل، لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي؛ فبكى وقال: إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه، وإذا ذكر الله طال شوقه: أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة، وقيل على الفرات، فأسرته وهو صغير، ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبدالله بن جدعان فأعتقه وأقام بمكة حينا، فلما بعث رسول الله ﷺ أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد. وقد يقال: يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب.
وعن صهيب «رضي الله ع» «صحبت النبي ﷺ قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر «رضي الله ع»: يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد؛ فقال: كناني رسول الله ﷺ بأبي يحيى» فهو من جملة من كناه رسول الله ﷺ ولا ولد له؛ وكان في لسانه عجمة شديدة، وكان فيه دعابة «رآه رسول الله ﷺ يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه، فقال له: تأكل رطبا وأنت أرمد؟ فقال: إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك ».
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب، قال «قدمت على رسول الله ﷺ وبين يديه تمر وخبز، فقال: ادن فكل، فأخذت آكل من التمر، فقال لي: أتأكل التمر وعينك رمدة، فقلت: يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله » أي ولا مانع من التعدد «ولما أذن لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا علي بن أبي طالب «رضي الله ع» وأبو بكر أي وصهيب كما علمت، ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج، وكان أبو بكر «رضي الله ع» كثيرا ما يستأذن رسول الله ﷺ في الهجرة، فيقول له: لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو» وفي رواية «تجهز أبو بكر، فقال له رسول الله ﷺ: على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط» أي وفي لفظ «ورق السمر» بفتح المهملة وضم الميم، قال الزهري، وهو الخبط. قال ابن فارس: والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر، وكان مدة علفها أربعة أشهر، وان اشتراهما بثمانمائة درهم.
أقول: ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى له ما ذكر. ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار، والمدة بين مبايعة الأنصار له والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها، لأنها كانت في ذي الحجة، ومهاجرته كانت في ربيع الأول.
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفة للراحلتين كان بعد قول المصطفى له ما ذكر. ففيها «أنه لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة: لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» طمع بأن رسول الله ﷺ إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا لذلك، وسيأتي عن الحافظ ابن حجر أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته شهرين ونصف شهر على التحرير، والله أعلم.
«فلما رأت قريش أن رسول الله ﷺ صار له شيعة» أي أنصار وأصحاب من غيرهم «ورأوا خروج أصحابه إليهم، وأنهم أصابوا منعة لأن الأنصار قوم أهل حلقة» أي سلاح وبأس «حذروا: أي خافواأن يخرج رسول الله، وأن يجمع على حربهم، فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله، وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا إلا فيها» أي وهي أول دار بنيت بمكة، كانت منزل قصيّ بن كلاب كما تقدم، ثم صارت لولده عبد الدار، ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار.
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام، ويدل لذلك ما جاء عن مصعب ابن عبدالله قال: جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم، فقال له عبدالله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال له حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم، وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن، وكان لها باب للمسجد، وكان لا يدخلها عند المشورة من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة.
وفي كلام بعضهم: ساد أبو جهل وما طرّ شاربه، ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته، وقد أدخلت في المسجد. قيل لها دار الندوة لاجتماع الندي وهو الجماعة فيها، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة، لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح، وغيرهم مما لا يعدّ من قريش، ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد. ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف: أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به، لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة؛ ووقف ذلك الشيخ على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، قالوا أجل: أي نعم، فادخل فدخل معهم، أي وإنما قال لهم من أهل نجد، لأن قريشا قالوا: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد.
قيل لما سمعهم يقولون: لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم، قال لهم لماسألوه وقالوا له من أنت؟ قال شيخ من نجد، وأنا ابن أختكم؛ فقالوا: ابن أخت القوم منهم.
وقيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخلك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا؟ فقال: إني رجل من أهل نجد، رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم، فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم؛ فقال بعضهم لبعض: هذا نجدي ولا عين عليكم منه، وفي لفظ: هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم. وعند المشورة قال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل يعني النبي ﷺ: قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا، فقال قائل: أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت، فقال الشيخ النجدي، لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيدكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا برأي، فانظروا رأيا غيره، فتشاوروا، فقال قائل منهم، أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير: نخرجه من بين أظهرنا فنفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب، فقال الشيخ النجدي: والله ماهذا برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل» بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل، ويجوز أن يكون بكسرها: أي يسقط على حيّ من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم بهم، فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا؛ فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا: أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا، ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل: أي الدية فعقلنا لهم. فقال النجدي: القول ما قال هذا الرجل، هذا هو الرأي ولا أرى غيره، فتفرق القوم على ذلك، فأتى جبريل رسول الله ﷺ فقال: لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه: أي وأخبره بمكرهم، وأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» عليه {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية، فلما كانت عتمة من الليل: أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله ﷺ يرصدونه حتى ينام فيثبوا عليه: أي وكانوا مائة.
أقول في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير «لما ائتمروا بالنبي ﷺ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني، قال: من حدثك بهذا؟ قال: ربي، قال: نعم الرب، وربك فاستوص به خيرا، قال: أنا أستوصى به، بل هو يستوصى بي» هذا كلامه. ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال: وكان ائتمارهم يوم السبت. فقد «سئل عن يوم السبت؟ فقال: يوم مكر وخديعة، قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي» أي أرادوا فيه المكر «فأنزل الله تعالى {وإذ يمكر بك الذين كفروا}.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته: أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع» وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل.
ثم رأيت بعضهم قال: وأحدقوا ببابه وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتمّ لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر، والله أعلم.
فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم: أي علم ما يكون منهم «قال لعليّ ابن أبي طالب «رضي الله ع»: نم على فراشي، واتشح بردائي هذا الحضرمي، وقد كان يشهد فيه العيدين، وقد كان طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر» وهل كان أخضر أو أحمر؟ يدل للثاني قول جابر «كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة» ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع.
وفي سيرة الدمياطي «وارتد بردائي هذا الأحمر» والحضرمي: منسوب إلى حضرموت التي هي البلدة أو القبيلة باليمن. كان رسول الله ﷺ يتسجى بذلك البرد عند نومه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم».
أقول: وأما ما روي «أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل: أني قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب: آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، فقال جبريل: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب؟ باهى الله بك الملائكة، وأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله} قال فيه الإمام ابن تيمية: إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير.
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له «لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم» فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق. وقد قيل إنها نزلت في صهيب «رضي الله ع» لما هاجر أي كما تقدم؛ لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه قال لعليّ ما ذكر، وعليه فيكون فداؤه للنبي بنفسه واضحا، ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق عليّ وفي حق صهيب. وحينئذ يكون شري في حق عليّ رضي الله تعالى بمعنى باع: أي باع نفسه بحياة المصطفى، وفي حق صهيب بمعنى اشترى: أي اشترى نفسه بماله، ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية، لأن الحكم يكون للغالب.
وفي السبعيات «أنه نظر إلى أصحابه وقال: أيكم يبيت على فر اشي وأنا أضمن له الجنة، فقال عليّ: أنا أبيت واجعل نفسي فداءك» هذا كلامه، ولعله لا يصح.
ثم رأيت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة، وهو قال ابن إسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروجه حين خرج إلا عليّ وأبو بكر الصدّيق، فليتأمل والله تعالى أعلم.
وكان في القوم الحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية ابن خلف وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل، فقال: وهم على باب رسول الله ﷺ: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، أي بضم الهمزة وتشديد النون، وهو محل بأرض الشام بقرب بيت المقدس، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها، وسمعه رسول الله ﷺ فخرج عليهم وهو يقول: نعم أنا أقول ذلك، وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى {يس? والقرآن الحكيم} إلى قوله {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه.
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي «أنه ذكر في فضل {يس?} أنها إن قرأها خائف أمن، أو جائع شبع، أو عار كسي، أو عاطش سقي، أو سقيم شفي» «وعند خروجه جعل ينثر التراب على رؤوسهم، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد، فأتاهم آت، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا محمدا، فقال: قد خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب». قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي ﷺ تكنى أمّ الرباب «أنها طأطأت لرسول الله ﷺ حتى صعد حائطا ليلة فرّ من المشركين» وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه.
أقول: التوفيق حاصل، وهو أنه يجوز أن يكون النبي ﷺ لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسوّر الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم، أي وكان ذهابه في تلك الليلة إلى بيت أبي بكر «رضي الله ع»، فكان فيه إلى الليل: أي إلى الليلة المقبلة، ثم خرج هو وأبو بكر «رضي الله ع»، ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد اخبارهم بخروجه ووضعه التراب على رؤوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله؛ فيقولون: والله إن هذا محمد نائما عليه برده، فلم يزالوا كذلك، أي يريدون أن يوقعوا به الفعل، والله مانع لهم من ذلك «حتى أصبحوا واتضح النهار، فقام عليّ «رضي الله ع» عن الفراش، فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، أي ولما قام عليّ «رضي الله ع» سألوه عن رسول الله، قال لا علم لي به وفي رواية: «فلما أصبحوا ساروا إليه يحسبونه النبي، فلما رأوا عليا «رضي الله ع» ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال لا أدري، فأنزل الله تعالى قوله {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} وأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق، ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة.
قال: والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاؤوا لقتله، أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمنا انتهى.
أقول: لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار، إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر، ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافي أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاؤوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش، إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم، وفي ذلك تصديق لرسول الله ﷺ حيث قال لعلي «لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم» على ما تقدم، والمراد بقول بعضهم: كان المشركون يرمون عليا يظنون أنه النبي ﷺ يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى.
فإن قيل: هلا نام على فراشه؟ قلنا لو فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رؤوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم. وفي رواية «أنهم تسوروا عليه ودخلوا شاهرين سيوفهم، فثار علي في وجوههم فعرفوه، فقالوا: هو أنت أين صاحبك؟ فقال: لا أدري» وهذا مخالف لما تقدم، فلينظر الجمع بناء على صحة هذا.
وفي لفظ: «أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه» والله أعلم.
ثم إن رسول الله ﷺ أذن له في الهجرة إلى المدينة، أي وأنزل الله تعالى عليه {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} قال زيد بن أسلم: جعل الله «عَزَّ وجَلّ» مدخل صدق المدينة، ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار.
ويعارضه ما جاء «أن عند رجوعه من تبوك إلى المدينة قال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأله؟ قال: قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته من تبوك بعد ما ختمت السورة» أي إلا أن يدعى تكرار النزول «وعند الإذن له في الهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال جبريل: أبو بكر الصديق».
أي ومن الغريب قول بعضهم: ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صدّيقا، فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له عند إخباره بالإسراء، وعن صفة بيت المقدس.
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات «أن النبي ﷺ تشاور مع أصحابه، فقال: أيكم يوافق معي ويرافقني، فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة؟ فقال أبو بكر «رضي الله ع»: أنا يا رسول الله».
ويرده ما في السير «أنه أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا، فناداه فقال أخرج من عندك، فقال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء «رضي الله ع»، قال شعرت: أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة؟ فقال: يا رسول الله الصحبة» أي أسألك الصحبة «فقال: أي رسول الله ﷺ الصحبة» أي لك الصحبة عندي «فانطلقا» أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي، لكن تقدم عنها أنها دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه؛ وأنه مكث ببيت أبي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيه خروجه إلى جبل ثور، فيحتاج إلى الجمع.
وقد يقال: إن مجيئه ظهرا كان قبل تلك الليلة، ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور، فتواريا فيه.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» أنه قال عند خروجه من مكة أي متوجها إلى المدينة «والله إني لأخرج منك وأني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت».
أي وفي رواية «أنه وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال: أني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك، وما في الأرض بلد أحب إليه منك، وما خرجت منك رغبة، ولكن الذين كفروا أخرجوني».
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر، ثم ذهب إلى المدينة. وفي رواية «وقف على الحجون وقال: والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولو لم أخرج منك ما خرجت» وفي لفظ «ولو تركت فيك لما خرجت منك» ولا مانع من تكرر ذلك. ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه على الحجون كان في عام الفتح. وفي لفظ آخر «قال لمكة: ما أطيبك من بلدة وأحبك إليّ؛ ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك».
أي وفي (جمال القراء) للسخاوي «أن النبي ﷺ لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى؛ فأنزل الله «عَزَّ وجَلّ» عليه {وكأين من قرية هي أشد قوة} الآية».
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا «اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إليّ فأسكني في أحب البقاع إليك» فقال الذهبي: إنه موضوع. وقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع.
أقول: والذي رأيته عن المستدرك للحاكم «اللهم: إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» والمعنى واحد، وإليه وإلى ما روي عن الزهري «اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليّ فأسكني أحب البلاد إليك» استند من قال بتفضيل المدينة على مكة، قال: لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة. قيل وعليه جمهور العلماء، ومنهم الإمام مالك «رضي الله ع». وإلى الأحاديث الأول استند من قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور، ومنهم إمامنا الشافعي «رضي الله ع»، واستندوا في ذلك إلى أنه قال في حجة الوداع «أيّ بلد تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه» يعنون مكة، وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه أنها: أي مكة أفضل من سائر البلاد، لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل. وقد قال «المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة» وقال «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام».
قال ابن عبد البر: وإني لأعجب ممن ترك قول رسول الله، وهو قوله «والله إني لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» وهذا حديث صحيح، ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه: أي ولأن الحسنة فيها بمائة ألف حسنة. فعن ابن عباس «رضي الله ع» أن النبي ﷺ قال «من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة فيه بمائة ألف حسنة».
والكلام في غير ما ضم أعضاءه الشريفة من أرض المدينة، وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع، بل حتى من العرش والكرسي.
على أن صاحب (عوارف المعارف) ذكر أن الطوفان موّج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة، فهي من جملة أرض مكة. وحينئذ لا يحسن الاستناد في تفضيل المدينة على مكة بقول أبي بكر «رضي الله ع» إنهم لما اختلفوا في أي محل يدفن رسول الله ﷺ لم يقبضه الله إلا في أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتي، والله أعلم.
وعن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت «بينا نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر الصديق في نحر الظهيرة» أي وسطها وهو وقت الزوال «قال قائل لأبي بكر «أي وهذا القائل هي أسماء بنت أبي بكر. وفي كلام بعض الحفاظ: يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أي مولى أبي بكر «قالت أسماء: قلت: يا أبت هذا رسول الله ﷺ متقنعا» أي متطيلسا «في ساعة لم يكن يأتينا فيها» أي فعن عائشة «رضي الله ع» «لم يمر علينا يوم» أي قبل الهجرة «إلا يأتينا فيه رسول الله ﷺ طرفي النهار بكرة وعشيا» وفي لفظ «كان لا يخطىء أن يأتي رسول الله ﷺ بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة وإما عشيا» أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى في البخاري. وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر، حيث قال: قوله: متقنعا: أي متطيلسا، وهو أصل في لبس الطيلسان، هذا كلامه.
واعترضه ابن القيم حيث قال: لم ينقل عنه أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه. وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان، بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالرداء من غير أن يجعل منه شيء تحت رقبته الذي يقال له التحنيك. وحمل قول ابن القيم المذكور على الطيلسان المقوّر التي تلبسها اليهود. قال بعضهم: وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة، وقد اتخذت خلفاء بني العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة، واستمر ذلك شعارا للخلفاء.
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع أكثر الوجه إن كان معه تحنيك: أي ادارة على العنق قيل له طيلسان، وربما قيل له رداء مجازا، وإن لم يكن معه تحنيك، قيل له رداء أو قناع، وربما قيل له مجازا طيلسان: هو ما كان شعارا في القديم لقاضي القضاة الشافعي خاصة. قال بعضهم: بل صار شعارا للعلماء، ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس. وكان الشيخ يكتب في إجازته: وقد أذنت له في لبس الطيلسان، لأنه شهادة بالأهلية، وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط، وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا. وصح عن ابن مسعود «رضي الله ع» وله حكم المرفوع «التقنع من أخلاق الأنبياء». وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفي حديث «لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة في قوله وفعله» وكان ذلك من عادة فرسان العرب في المواسم والجموع كالأسواق.
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم «رضي الله ع». وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخلّ بالمروءة أي وهو بحسب ما كان في زمنه رحمه الله. وفي الترمذي «لم تكن عادته التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد». وتعقب بأن في حديث أنس «أنه كان يكئر التقنع» وفي طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله ﷺ فقال: «هذا ثوب لا يؤدي شكره» أي لأن فيه غض البصر، ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم.
ولما قيل لأبي بكر «رضي الله ع» ذلك، أي هذا رسول الله ﷺ متقنعا، قال أبو بكر: فدا له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قال: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له فدخل، أي وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله، فقال النبي ﷺ لأبي بكر «رضي الله ع»: «أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنما هي أهلك» أي لأنه كان عقد على عائشة «رضي الله ع» كما تقدم، فأمها من جملة أهله وأختها كذلك، وقيل هو على حدّ قول الشخص لآخر أهلي أهلك. وفي رواية «قال رسول الله ﷺ: أخرج من عندك، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: لا عين عليك إنما هما ابنتاي» أي وسكت عن أمهما سترا «قال: فإنه قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله ﷺ نعم، أي فبكى أبو بكر سرورا؟ قالت عائشة «رضي الله ع»: فرأيت أبا بكر يبكي، وما كنت أحسب أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر» ولله درّ القائل:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه ** سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني ** من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صارالدمع عندك عادة ** تبكين من فرح ومن أحزان
أي ومنه: أقرّ الله عينه لمن يدعى له، وهو قرّة عين لمن يفرح به. وأسخن عينه لمن يدعى عليه: وهو سخنة العين لما يحزن به، لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة.
وقد روي «أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء، فسأل ربه عن ذلك؟ فأنطق الله تعالى الحجر، فقال: منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكي هذا الدمع خوفا من تلك النار، فاشفع لي عند ربك، فشفع له، فشفع فيه وبشره بذلك. ثم مرّ به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه، فقال: ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا؟ فقال: يا نبيّ الله ذاك بكاء الخوف والخشية، وهذا بكاء الفرح والسرور» ومن ثم لما قال لأبيّ بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا: أي {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} بكى من الفرح، وقال: أو ذُكِرْتُ هناك؟ » أي ذكرني الله «عَزَّ وجَلّ»» وفي لفظ «وسماني؟ قال نعم».
وفي سفر السعادة قال العلماء: البكاء على عشرة أنواع: بكاء فرح، وبكاء حزن لما فات، وبكاء رحمة، وبكاء خوف لما يحصل، وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكي بشجو غيرها، وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكي مع عدم علمه بالسبب، وبكاء المحبة والشوق، وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله، وبكاء الخور والضعف، وبكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس. والبكى بالقصر: دمع العين من غير صوت. والممدود: ما كان معه صوت. وأما التباكي فهو تكلف البكاء. وهو نوعان: محمود ومذموم؛ فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب، وهو المراد بقول سيدنا عمر «رضي الله ع» لما رأى المصطفى وأبا بكر يبكيان في شأن أسارى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت، ومن ثم لم ينكر عليه ذلك. والثاني ما يكون لأجل الرياء والسمعة.
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راجلتيّ هاتين، فإني أعددتهما للخروج، قال رسول الله: «بل بالثمن» أي لتكون هجرته إلى الله تعالى بنفسه وماله، أي وإلا فقد أنفق أبو بكر «رضي الله ع» أكثر ماله عليه: أي فعن عائشة «رضي الله ع»: «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف درهم». وفي لفظ «دينار» ومن ثم قال «ليس من أحد أمنّ عليّ في أهل ومال من أبي بكر» وفي رواية «ما أحد أمنّ علي في صحبته وذات يده من أبي بكر، وما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر، فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟ » وفي رواية «ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة».
أقول: ولا ينافي كونه أخذ إحدى ناقتي أبي بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبي عياش أحد التابعين عن أنس «رضي الله ع»، قال: قال رسول الله ﷺ لأبي بكر «رضي الله ع» «ما أطيب مالك: منه بلال مؤذني، وناقتي التي هاجرت عليها، وزوجتني ابنتك وواسيتني بمالك كأني أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتي» لأن أبان بن أبي عياش معدود من الضعفاء.
وقد قال شعبة: لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحبّ إليّ من أن أقول حديثا عن أبان بن أبي عياش، وقال فيه مرة أخرى: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان. وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا، فقال: الأمر دين، وهذا يكذب على رسول الله. وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروي عن أنس وأبان مجالس الحسن البصري فكان يسمع كلامه، فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم. وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا، لأنها كانت من مال أبي بكر قبل أن يأخذها بثمنها.
على أن في الترمذي ما يوافق ما رواه أبان. ففيه عن عليّ «رضي الله ع»، قال: قال «رحم الله أبا بكر، زوّجني ابنته، وحملني إلى دار الهجرة وصحبني في الغار، وأعتق بلالا من ماله».
قال: وهذا حديث غريب والله أعلم.
وكان الثمن عن تلك الناقة التي هي القصواء، وقد عاشت بعده، وماتت في خلافة أبي بكر «رضي الله ع» أو الجدعاء أربعمائة درهم، أي لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم.
وأما ناقته العضباء فقد جاء «أن بنته فاطمة «رضي الله ع» تحشر عليها».
قالت عائشة «رضي الله ع» «فجهزناهما أحب الجهاز» أي أسرعه. والجهاز: بكسر الجيم أفصح من فتحها. ما يحتاج إليه في السفر «ووضعناه لهما سفرة في جراب» أي زادا في جراب، لأن السفرة في الأصل الزاد الذي يصنع للمسافر، ثم استعمل في وعاء الزاد «وكان في السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أي وأبقت الأخرى نطاقا لها» وهو يوافق ما في صحيح مسلم عن أسماء «رضي الله ع» أنها قالت للحجاج: بلغني أنك تقول أي لولدها عبدالله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين، أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله ﷺ وطعام أبي بكر الصديق «رضي الله ع»، وأما الآخر فنطاق المرأة: أي الذي لا تستغني عنه، أي عند اشتغالها؛ لأن النطاق ما تشدّ به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها على ثوب يلقي على أسفله. وقيل النطاق إزار فيه تكة؛ ومن ثم جاءت ذات النطاق: أي وكلاهما صحيح، لكن في لفظ «قطعت نطاقها قطعتين، فأوكت بقطعة منه فم الجراب، وشدّت فم القربة بالباقي»، أي فلم يبق لها شيء منه ويوافقه ما في البخاري عن أسماء: لم نجد لسفرة رسول الله ﷺ: أي لمحلها الذي هو الجراب ولا لسقائه الذي هو القربة ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: لا والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي، قال فشقيه اثنين، واربطي بواحد السقاء الذي هو القربة وبواحد السفرة ففعلت، فلذلك سميت ذات النطاقين: أي سماها رسول الله ﷺ وقال لها «أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة».
وفيه أن الرواية الأولى التي عن عائشة، والرواية الثانية التي عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء. وفي رواية البخاري ذكر السقاء وإسقاط الجراب، لكن ذكر بعد الجراب السفرة.
وقد يقال: المراد بربط السفرة ربط محلها الذي هو الجراب كما أشار إليه. قال بعضهم: وما تقدم عن مسلم ينبغي أن يكون أقرب إلى الضبط، لأن أسماء قالت في آخر عمرها مخبرة عن نفسها: أي ولم تربط إلا الجراب بأحد شقي النطاق وأبقت لها الآخر.
وقد يقال: الحصر ليس في محله لمنافاته لرواية البخاري. وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين، فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء، فهي ذات النطاقين الذي أبقته، والذي فعلت به ما ذكر.
وفي السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبي بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر: أي وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة: فجهزناهما أحب الجهاز: أي عند خروجهما من الغار، لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق. ثم على المتبادر جرى ابن الجوزي حيث قال: أسما بنت أبي بكر أسلمت بمكة قديما، وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله ﷺ إلى الغار، فجعلت واحدا لسفرة رسول الله، والآخر عصاما لقربته، فسميت ذات النطاقين هذا كلامه.
وقد قال: لا مانع من تعدد ذلك، وكون النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر في ذيلها يخالفه قول بعضهم: النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل، وهذا يوافق القيل المتقدم، ولعل له إطلاقين، ويوافق الثاني ما قيل أول من فعله هاجر أم إسماعيل، اتخذت لتخفي أثر مشيتها على سارة، ولعله عند خروجها لما أمره الله «عَزَّ وجَلّ» بإخراجها مع إبراهيم، فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركب مع إبراهيم على البراق.
«ثم استأجر رسول الله ﷺ وأبو بكر رجلا من بني الديل، وهو عبدالله بن أريقط» ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه، فأريقط مصغرها «ليدلهما على الطريق للمدينة» وكان على دين قريش، أي ثم أسلم بعد ذلك. وقيل لم يعرف له إسلام.
وفي الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك «فدفعا إليها راحلتيهما، وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال» وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذي يحرث عليه، وسياق النسائي يدل على أن استئجار عبدالله المذكور كان قبل التجهيز.
«قالت عائشة «رضي الله ع»: ثم لحق رسول الله ﷺ وأبو بكر بغار في جبل ثور» أي ليلا كما تقدم.
وعن ابن سعد: «لما خرج رسول الله ﷺ من بيته إلى بيت أبي بكر «رضي الله ع» فكان فيه إلى الليل، ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه» أي وكان خروجهما من خوخة في ظهر بيت أبي بكر». فعن عائشة بنت قدامة. «رضي الله ع» أن النبي، قال: «لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عني» وعن أبي بكر «حتى مضينا».
وفي كلام سبط ابن الجوزي: وعن وهب بن منبه أن رسول الله ﷺ إنما خرج إلى الغار من بيت أبي بكر، فخرج من خوخة في ظهر الدار. والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه.
«وجعل أبو بكر «رضي الله ع» يمشي مرة أمام النبي ﷺ ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لا آمن عليك».
أقول: في الدر المنثور «فمشى ليلته على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه، فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتدّ به حتى أتى على فم الغار فأنزله» وفي لفظ «لم يصب رسول الله ﷺ الغار حتى قطرت قدماه دما» وفي كلام السهيلي عن أبي بكر «رضي الله ع» أنه قال: «نظرت إلى قدمي رسول الله ﷺ في الغار وقد تقطرتا دما».
قال بعضهم: ويشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل، وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة، ويدل عليه قوله: فمشى ليلته رسول الله. وفي لفظ فانتهينا «إلى الغار مع الصبح» ولا يحتمل ذلك مشي ليلته إلا بتقدير ذلك، أو أنه كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عني، فإني أخاف أن تقتل على ظهري فأعذب، فناداه جبل ثور: إليّ يا رسول الله» وساق في الأصل رواية تقتضي أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء. ثم رأيته في النور أشار إلى أن ركوبه الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار، لا أنه ركبها من منزل أبي بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية.
وفي الخصائص الكبرى عن ابن عباس «رضي الله ع» «لما تشاور المشركون في أمر رسول الله، وأطلع الله نبيه على ذلك، فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار، فلما أصبحوا اقتفوا أثره، فلما بلغوا الجبل» الحديث، أي وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه إلى الغار كان في الليلة الثانية لا في ليلة خروجه على قريش.
وقد يقال: لا منافاة، لأن قوله: حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لا في خصوص تلك الليلة، أي خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك في الليلة الثانية، لكن تقدم أنه جاء إلى بيت أبي بكر متقنعا في وقت الظهيرة فليتأمل.
وأعلم رسول الله ﷺ عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عند رسول الله ﷺ للناس، لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلمون من أمانته، أي ولعل إعلام عليّ بذلك كان عند توجهه إلى بيت أبي بكر، لأنه لم يثبت أنه اجتمع بعلي «رضي الله ع» بعد ذلك إلا في المدينة لكن سيأتي عن الدرّ ما يقتضى أنه اجتمع به عند خروجه من الغار.
وفي الفصول المهمة «أنه وصى عليا «رضي الله ع» بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس، وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم»: فاطمة بنت النبي، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بني هاشم ومن ضعفاء المؤمنين، وشراء علي «رضي الله ع» الرواحل مخالف لما يأتي في الأصل «أنه أرسل إلي عليّ حلة وأرسل يقول: تشقها خمرا بين الفواطم، وهي فاطمة بنت حمزة، وفاطمة بنت عتبة، وفاطمة أم علي، وفاطمة بنته » وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل.
قال في الفصول المهمة: وقال له: أي لعليّ «إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وبقدوم كتابي عليك، وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفي نحو بئر أم ميمون» وكان ذلك في فحمة العشاء، والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس، ودخل أبو بكر على عليّ وهو يظنه: أي وأبو بكر يظن عليا رسول الله، فقال له علي: إن رسول الله ﷺ خرج نحو بئر أم ميمون، وهو يقول لك: أدركني، فلحقه أبو بكر، ومضيا جميعا يتسايران حتى أتيا جبل ثور فدخلا الغار، فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم.
«ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبي: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل «رضي الله ع» فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه، ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه، فبقي جحر، وكان فيه حية فوضع عقبه عليه، ثم دخل رسول الله، ثم إن الحية التي في الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبي بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر» قال ابن كثير: وفي هذا السياق غرابة ونكارة «أي وقد كان وضع رأسه في حجر أبي بكر «رضي الله ع» ونام، فسقطت دموع أبي بكر «رضي الله ع» على رسول الله ﷺ قال: مالك يا أبا بكر؟ قال: لدغت» بالدال المهملة والغين المعجمة «فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله ﷺ على محل اللدغة فذهب ما يجده» قال بعضهم: وقاه بعقبه فبورك في عقبه.
قالت بعضهم: والسر في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رؤوسهم تعظيما للحية التي لدغت أبا بكر في الغار، أي لأنهم يزعمون أن ذلك علي صورة تلك الحية.
«ولما أصبح رسول الله، قال لأبي بكر: أين ثوبك؟ فأخبره الخبر» زاد في رواية «وأنه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه، فقال: من لدغة الحية، فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كرهت أن أوقظك فمسحه النبي ﷺ فذهب ما به من الورم والألم».
أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما «وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله ﷺ يديه وقال: اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة، فأوحى الله تعالى إليه: قد استجاب الله لك».
وروي أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها، فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول:
فهل أنت إلا أصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي أن هذا البيت من كلام ابن رواحة. وقيل من كلامه، وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته.
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه ما ذكره سبط ابن الجوزي «أن أبا بكر لما لحقه في أثناء الطريق ظنه رسول الله ﷺ من الكفار فأسرع في المشي، فانقطع قبال نعله، ففلق إبهامه حجر فسال الدم، فرفع أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله ﷺ فعرفه».
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلي قال «كنت مع النبي ﷺ في غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور» وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم.
وجاء في الصحيحين عن جندب بن عبدالله «بينا نحن مع رسول الله ﷺ إذ أصابه حجر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلا إصبع دميت». . . . البيت.
«أي ولما دخل رسول الله ﷺ وأبو بكر الغار أمر الله تعالى شجرة» أي وهي التي يقال لها العشار، وقيل أم غيلان «فنبتت في وجه الغار فسترته بفروعها».
«أي ويقال إنه دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها» أي نسجا متراكما بعضه على بعض أي كنسج أربع سنين كما قال بعضهم.
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس «رضي الله ع» لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل في غار في الجبل وكنّ فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتي. ونسج على نبي الله داود لما طلبه طالوت. ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب «رضي الله ع»، وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق، وهو الذي ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا، وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخر عن الحسن البصري.
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصري باعتزال مجلسه، فقيل له معتزلي، وصار يقال لأصحابه معتزلة.
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه. وصلب سيدنا زيد عريانا، وأقام مصلوبا أربع سنين، وقيل خمس سنين فلم تر عورته، وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها. ولا مانع من وجود الأمرين. وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التي صلب عليها إلى أن صار وجهه إلى القبلة، أي وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتي، ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده في الرياح على شاطىء الفرات، فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة، فحاربه يوسف بن عمر الثقفي أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك، فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم.
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر لينصروه، فقال: كلا، بل أتولاهما، فقالوا إذن نرفضك، فقال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فسموا بذلك من حينئذ رافضة. وجاءت إليه طائفة وقالوا: نحن نتولاهما ونبرأ ممن يبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية.
أقول: والعجب ممن يتمذهب سيدنا زيد، ويتبرأ من الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير، بل ربما سبهما.
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم في جبهته وحال الليل بين الفريقين، فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل، فاستخرجه فمات من ساعته، فدفنوه من ساعته، وأخفوا قبره، وأجروا عليه الماء، واستكتموا الحجام ذلك، فلما أصبح الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره، ودله على موضع قبره، فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام. فكتب إليه هشام أن أصلبه عريانا فصلبه كذلك.
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد: بلغني أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة، فقال: قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم، فقال له هشام: قم، قال: إذن لا تراني إلا حيث تكره. ومن شعره:
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد له مشهد زيد العابدين بن الحسين. وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعراني، نفعنا الله به وببركاته، وليس كذلك؛ بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزي في الخطط، ويقال له زيد الأزياد.
وذكر في حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن عليّ «رضي الله ع» «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر».
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار: أي ويروى «أنهما باضتا» أي وفرختا، قال لأبي بكر: «ضع قدمك موضع قدمي، فإن الرمل لا ينم» وتقدم ما في ذلك: أي لأن المشركين لما فقدوا رسول الله ﷺ شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة: أي الذين يقصون الأثر في كل وجه يقفون أثره، فوجدوا الذي ذهب إلى جبل ثور أثره، وقال ما تقدم.
«وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم، أي ولما أقبلوا أشفق على صهيب وخاف عليه، وقال: واصهيباه ولا صهيب لي» أي لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثها «فلما أراد الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله وجدت صهيبا يصلي فكرهت أن أقطع عليه صلاته، فقال أصبت» وتقدمت الحوالة على هذا.
«فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر في الغار، فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أي مع العنكبوت، فقال: ليس فيه أحد، فسمع النبي ﷺ ما قال، فعرف أن الله «عَزَّ وجَلّ» قد درأ عنه أي دفع عنه».
وفي رواية «فلما انتهوا إلى فم الغار، قال قائل منهم: ادخلوا الغار، فقال أمية بن خلف: وما أربكم» أي حاجتكم إلى الغار «إنّ عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد » أي ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض. وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ: أي ويحتمل أن بعض البيض فرخ و بعضه لم يفرخ «ثم جاء قبالة فم الغار فبال، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنه يرانا، فقال رسول الله ﷺ: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» وفي بعض الروايات «لو رآنا ما تكشف عن فرجه» أي ما استقبلنا بفرجه وبوله، وقال أبو جهل: أما والله إني لأحسبه قريبا يرانا، ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا، فانصرفوا.
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر «رضي الله ع» لما قال للنبي: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، قال له النبي ﷺ: لو جاؤونا من هاهنا لذهبنا من هاهنا، فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه. قال ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا «ونهى النبي ﷺ يومئذٍ عن قتل العنكبوت، وقال: إنها جند من جند الله» انتهى.
وعن أبي بكر الصديق «رضي الله ع» أنه قال «لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله ﷺ أحبها، ويقول: جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت عليّ وعليك يا أبا بكر» إلا أن البيوت تطهر من نسجها، أي بنبغي ذلك لما تقدم أن وجود نسجها في البيوت يورث الفقر.
وفي الجامع الصغير «جزى الله العنكبوت عنا خيرا، فإنها نسجت على الغار».
أقول: فيه أن في الحديث «العنكبوت شيطان فاقتلوه» وفي لفظ «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له، وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم/ «وبارك على الحمامتين، وفرض جزاء الحمام وانحدرتا في الحرم فأفرختا كل شيء في الحرم من الحمام» أي ولأجل ذلك ذهب الغزالي من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح.
ونظر في الإمتاع في كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج، فإنه روى في قصة نوح "عليه الصلاة والسلام «أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه بخبر الأرض فوقعت بوادي الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة، وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها، ثم جاءته فمسح عنقها وطوّقها طوقا، ووهب لها الحمرة في رجليها، وأسكنها الحرم، ودعا لها بالبركة».
وفي شعر الحارث بن مضاض الذي أوله:
فكأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ويبك لبيت ليس يؤذى حمامه ** يظل به أمنا وفيه العصافر
ففي هذا الحمام قد كان في الحرم من عهد جرهم، أي ونوح. وذكر بعضهم «أن حمام مكة أظله يوم فتحها، فدعا له بالبركة».
ويروى «أن أبا بكر «رضي الله ع» لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى، أي ويقال لما سمع القائف يقول لقريش: والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى، وقال: والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له: لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبي بكر «رضي الله ع»، أي وأنزل عليه أمنته التي تسكن عندها القلوب» قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف، لأن حزنه على رسول الله، وهذا النهي تأنيس وتبشير له كما في قوله تعالى له {ولا يحزنك قولهم} وبه يردّ ما زعمته الرافضة، أن ذلك غضبا من أبي بكر وذما له، لأن حزنه «رضي الله ع» إن كان طاعة فالنبي ﷺ لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية.
وفي رواية عن أبي بكر «رضي الله ع» «قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه» أي لأنهما علوا على رؤوسهما.
فعن أبي بكر قال «نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
قال بعضهم: كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى؛ أما باللفظ فكان يقال: يا رسول الله ويقال لأبي بكر، يا خليفة رسول الله، وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية والإرشاد، والضمير في {أيده بجنود لم تروها} راجع النبي، وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه في الغار يبشرونه بالنصر على أعدائه.
وروي «أن أبا بكر «رضي الله ع» عطش في الغار، فقال له رسول الله ﷺ: اذهب إلى صدر الغار فاشرب، فانطلق أبو بكر «رضي الله ع» إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه، فقال له رسول الله ﷺ: إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب، قال أبو بكر: يا رسول الله، ولي عندالله هذه المنزلة؟ فقال النبي ﷺ: نعم وأفضل، والذي بعثني بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا».
أي وذكر بعضهم قال: «كنت جالسا عند أبي بكر «رضي الله ع»، فقال: من كان له عند رسول الله ﷺ عدة فليقم، فقام رجل فقال: إن رسول الله ﷺ وعدني بثلاث حثيات من تمر، فقال أرسلوا إلى عليّ فجاء، فقال: يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له، فقال أبو بكر. عدوّها، فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص، فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، قال لي رسول الله ﷺ ليلة الهجرة من الغار: كفي وكف عليّ في العدد سواء» ذكر الذهبي أنه موضوع، ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه في أن يحثو، لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة.
«ولما أيست قريش منهما أرسلوا لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة» أي ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادي في أعلى مكة وأسفلها: من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير، وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله:
أخرجوه منها وآواه غار ** وحمته حمامة ورقاء
وكفته بنسجها عنكبوت ** ما كفته الحمامة الحصداء
واختفى منهم على قرب مرآ ** ه ومن شدة الظهور الخفاء
أي كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التي هي مولده ومرباه ووطنه ووطن آبائه، بسبب مبالغتهم في إيذائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم، وآواه غار وحمته منهم حمامة في لونها بياض وسواد، وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذي كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش، فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته.
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية، ومكثا في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام يعرف ما يقال، يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت في بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به.
وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر «رضي الله ع» كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك، وكان ممن يعذب في الله «عَزَّ وجَلّ»، فاشتراه أبا بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم، فكان يروح عليهما بمنحه غنم: أي قطعة من غنم أبي بكر، فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس: أي إذا خرج من عندهما عبدالله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث: أي وذلك بارشاد من أبي بكر «رضي الله ع».
ففي السيرة الهشامية: وأمر أبو بكر ابنه عبدالله «رضي الله ع» أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر. وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه نهارا، ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار، وكانت أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام.
أقول: وفي الدر عن عائشة «رضي الله ع»: ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبدالله بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر، فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة، فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما.
وفي الفصول المهمة «وأقام رسول الله ﷺ ثلاثة أيام بلياليها في الغار وقريش لا يدرون أين هو؟ وأسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما، فلما كان بعد الثلاث أمرها أن تأتي عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضي ساعة من الليلة الآتية: أي وهي الرابعة: فجاءت أسماء إلى علي كرم الله وجهه فأخبرته بذلك، فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبدالله الليثي، وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل الجبل ليلا، فلما سمع النبي ﷺ رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه» أي والذي في البخاري «فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا». وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبي ﷺ وأبو بكر.
وقد يجمع بأن المراد باستئجار علي «رضي الله ع» إعطاؤه الأجرة، وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر، وركب النبي ﷺ وركب أبو بكر وركب الدليل.
وفي الدر المنثور «فمكث هو وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعليّ يجهزهما، فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا، فلما كان في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم عليّ بالإبل والدليل». فليتأمل ذلك مع ما قبله.
وفي حديث مرسل «مكثت مع صاحبي في الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير» أي الأراك. وتقدم في باب رعية الغنم أن ثمر الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فثاء مثلثة.
قال ابن عبد البر: وهذا أي القول بأنهما مكثا في الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث. قال لحافظ ابن حجر: والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما، وذكر في الغار: أي الاقتصار عليه من بعض الرواة، والله أعلم.
قال: وعن أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» «أن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس «رضي الله ع» «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه ـ يعني أبا بكر ـ قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لابأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ ا هـ.
أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان «رضي الله ع» هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ** طاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله ﷺ لم يعدل به غيره.
أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر «رضي الله ع» هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك، والله أعلم. وعن أبي بكر «رضي الله ع» قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى وقال: أنا والله صاحبه.
وعن أبي الدرداء «رضي الله ع» قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فوالذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال: رسول الله «حب أبي بكر واجب على أمتي».
قال: وعن أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» «أن أبا بكر أرسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف، وكان حين أسلم أربعين ألف درهم» وفي لفظ «أربعين ألف دينار» أي ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس «رضي الله ع» «أنفق أبو بكر على النبي ﷺ أربعين ألف دينار، فحمل إليه ذلك في الغار» قالت أسماء: فدخل علينا جدّي أبو قحافة «رضي الله ع»، فإنه أسلم بعد ذلك، وكان قد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه ـ يعني أبا بكر ـ قد فجعكم بماله مع نفسه فقالت: كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا، قالت فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة: أي طاقة في البيت كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه فقال: لابأس إن كان ترك لكم هذا، ففي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ ا هـ.
أي ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه وكان مريضا فقال: لا عذر لي في مقامي بمكة فأمر أهله فخرجوا به، فلما وصل إلى التنعيم مات به، فأنزل الله تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} وقيل نزلت في خالد بن حرام بن خويلد بن أسد، أسلم قديما، وهاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، فمات من نهش حية قبل أن يصل. وجاء «أنه قال لحسان «رضي الله ع» هل قلت في أبي بكر شيئا؟ قال نعم، قال: قل وأنا أسمع، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف وقدطاف العدّو به إذ صاعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ** من البرية لم يعدل به رجلا
فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه» أي وفي لفظ «فتبسم، ثم قال صدقت يا حسان، هو كما قلت» إنه أحب البرية إليه، أي إلى رسول الله ﷺ لم يعدل به غيره.
أقول: في ينبوع الحياة: والذي أعرف في هذين البيتين، أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر «رضي الله ع» هذا كلامه.
وقد يقال: لا مانع أن يكون أدخلهما حسان في مرثيته لأبي بكر بعد ذلك، والله أعلم. وعن أبي بكر «رضي الله ع» قال لجماعة: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل أنا أقرأ، فلما بلغ {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} بكى وقال: أنا والله صاحبه.
وعن أبي الدرداء «رضي الله ع» قال «رآني رسول الله أمشي أمام أبي بكر، فقال: يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو أفضل منك في الدنيا والآخرة؟ فوالذي نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول «أتاني جبريل فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر» وعن أنس قال: رسول الله «حب أبي بكر واجب على أمتي».
باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم، جاءهما الدليل الذي هو الرجل الدؤلي براحلتيهما، فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامر بن فهيرة: أي رديفا لأبي بكر يخدمهما، أي وفي البخاري «أن أبا بكر كان رديفا له » أي ولا مخالفة لما سيأتي.
ويروى «أنه لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه» أي بركابه، والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاي: ركاب الإبل خاصة «فقال: ألا أبشرك؟ قال بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله «عَزَّ وجَلّ» يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة» قال الخطيب: هذا الحديث لا أصل له. قال السيوطي: رأيت له متابعات «ودعا بدعاء منه: اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي».
«وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل، وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبي ﷺ من هذا الذي معك» أي وفي رواية: «من هذا الذي بين يديك؟ » وفي رواية: «من هذا الغلام بين يديك» أي بناء على أنه كان رديفا له يقول: هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير، أي لأنه قال لأبي بكر «أله الناس» أي أشغل الناس عني: أي تكفل عني بالجواب لمن سأل عني، فإنه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب: أي ولو صورة كالتورية، فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبي ﷺ ما ذكر، وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه، لأن أبا بكر كان معروفا لهم، لأنه كان يكثر المرور عليهم في التجارة للشام: أي معروفا لغالبهم، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت؟ يقول: باغي أي طالب حاجة، فعلم أن الأنبياء لا ينبغي لهم الكذب ولو صورة، ومن ذلك التورية، لكن سيأتي في غزوة بدر وقوع التورية منه.
وفي رواية «ركب رسول الله ﷺ وراء أبي بكر ناقته» وفي التمهيد لابن عبد البر «أنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله ﷺ أن يركب ويردفه، فقال رسول الله ﷺ: بل أنت اركب وأردفك أنا، فإن الرجل أحق بصدر دابته، فكان إذا قيل له من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل».
أقول: لا مخالفة بين هذا وما تقدم، لأنه يجوز أن يكون ركب تارة خلف أبي بكر على ناقة أبي بكر، وتارة ركب على ناقة نفسه أمامه، وأن ركوبه لها كان في أثناء الطريق، ويكون إما أركب راحلته عامر بن فهيرة، أو ترك ركوبها لأجل إراحتها، والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر، وإن كان الأوّل هو الغالب والله أعلم، وإلى توجهه إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله:
فونحا المصطفى المدينة واشتا ** قت إليه من مكة الأنحاء
أي وقصد المدينة واشتاقت إليه الجهات والنواحي من مكة. وقد جاء «أنه لما خرج من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه {إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد} أي إلى مكة».
وأهل الرجعة يقولون إلى الدنيا: أي من يقول بأن النبي ﷺ يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى، وقد أظهرها عبدالله بن سبأ، كان يهوديا وأمه يهودية سوداء؛ ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، أظهر الإسلام في خلافة عمر «رضي الله ع»، وقيل في خلافة عثمان «رضي الله ع»، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد، وقد قال الله تعالى {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام، وتقدم ذلك في أثناء الكلام على بدء الوحي، وسيأتي ذلك عند بناء المسجد. وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة، أي فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان.
فعن سراقة «جاءنا رسول كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج: أي بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت أسودة: أي أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا: أي بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم، أي وفي لفظ «قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا عليّ آنفا» أي قريبا «إني لأراهم محمدا وأصحابه. قال سراقة: فأومأت إليه أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت إلى منزلي، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي خفية إلى بطن الوادي وتحبسها عليّ، وأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه في الأرض» والزج الحديدة التي تكون في أسفل الرمح «وخفضت عالية» أي أمسكت بأعلاه «وجعلت أسفله في الأرض لئلا يراه أحد» وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره، ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما، زاد في رواية «ثم انطلقت فلبست لأمتي، وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء يعني قومه. قال: حتى أتيت فرسي» أي وكان يقال لها العود، والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى. قال في النور: والمراد هنا الأنثى، لقوله «فركبتها» ولقوله «فرفعتها» أي بالغت في إجرائها «حتى دنوت منهم». .
وفي لفظ: «فرفعتها تقرب بي» وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها، لأن التقريب دون العدو وفوق العادة «فعثرت بي فرسي» أي فوقعت لمنخريها كما في حديث أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع».
زاد في رواية «ثم قامت تحمحم، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي على كنانتي فاستخرجت الأزلام» أي وهي عيدان السهام التي لا ريش لها ولم تركب فيها النصال «واستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره وهو عدم إضرارهم» أي لأنه مكتوب عليها افعل لا تفعل، ويقال للأوّل الآمر، ويقال للثاني الناهي «فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله ﷺ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت» أي غابت «يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان» أي غبار «ساطع في السماء مثل الدخان أي مع كون الأرض جلدة، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان: أي وقلت أنظروني لا أوذيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه».
أي وفي رواية: «ناديت القوم، وقلت أنا سراقة بن مالك، انظروني أكلمكم، أنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي: أي أن بلغهم ذلك وأنا راجع رادّهم عنكم، قال رسول الله ﷺ لأبي بكر: قل له: ماذا تبتغي؟ فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم».
وفي رواية «قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي» وفي رواية قال «يا هذان ادعوا لي الله ربكما، ولكما أن لا أعود ففعل: أي دعا له رسول الله ﷺ فانطلق الفرس» وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخافة/ «قال: فركبت فرسي» أي بعد نهوضها «حتى جئتهم، فقلت: إن قومك جعلوا فيك الدية: أي مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك» وهذا هو المراد بقوله في الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم، وكأنه رأى أن ذلك كاف في لحوقه بهم عن ذكر أبي بكر. «قال سراقة وعرضت عليهما الزاد و المتاع فلم يقبلا وقالا: اخف عنا» أي وفي رواية «عرضت عليهما الزاد والحملان» أي ولعل الحملان هو المراد بالمتاع، أي لأنه جاء «أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتي، وغنمي وإبلي بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما، فقالا: اكفنا نفسك، فقال: كفيتماهما».
أقول: وفي رواية قال له «يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك». وفي رواية عن أبي بكر «رضي الله ع»، قال «لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا (قال لا تحزن إن الله معنا) أي وقد تقدم أنه قال ذلك له في الغار فلما، كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله، فقال: اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة» أي ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين، لجواز أن يكون ذلك في أوّل أمرها، ثم صارت إلى بطنها، وذلك كله في المرة الأولى، فلا يخالف ما في الإمتاع «لما قرب من رسول الله ﷺ ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال: ادع لي يا محمد أن يخلصني الله تعالى ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا فخلص فعاد فتبعهم، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ» الحديث إذ هو يدل على أنها في المرة الأولى وصلت إلى بطنها؛ وفي الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك. وقد يدل له ما يأتي عن الهمزية، ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها في الأرض في المرة الثانية. وفي لفظ «فقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا».
وفي السبعيات للهمداني «أن سراقة لما دنا منه صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله ﷺ: يمنعني الجبار الواحد القهار، ونزل جبريل "عليه السلام" وقال: يا محمد إن الله «عَزَّ وجَلّ» يقول: جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت، فقال رسول الله ﷺ: يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب، فساق سراقة فرسه فلم يتحرك، فقال: يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتني لأكونن لك لا عليك، فقال: يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده».
وروي في بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد، وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه في الأرض؛ وهذا أي الاقتصار على غوص قوائم فرسه في الأرض لا ينافي الزيادة، فلا يخالف ما سبق، وفي السابعة تاب توبة صدق.
وفي الفصول المهمة «لما اتصل خبر مسيره إلى المدينة وذلك في اليوم الثاني من خروجه من الغار جمع الناس أبو جهل وقال: بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيكم يأتيني بخبره فوثب سراقة، فقال، أنا لمحمد يا أبا الحكم. ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا: أي في أثر النبي ﷺ سيرا عنيفا حتى لحقا به، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دهينا، هذا سراقة قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور، فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم، فلما قرب منهم، قال النبي ﷺ اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت؛ فغابت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك، فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال: يا محمد أنت أنت وأصحابك، أي أنت كما أنت أي آمن وأصحابك، فادع ربك يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك، فرفع النبي ﷺ يديه إلى السماء، وقال: اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده قال: فأطلق الله تعالى قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما» أي ولعل هذا في المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم، وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافي الزيادة عليها، فلا يخالف ما سبق في هذه الرواية «ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا، فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة» وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل:
فأباحكم والله لو كنت شاهدا ** لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا ** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبي ﷺ من مكة، ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره في الجبل؛ لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه.
وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذي سلكها النبي ﷺ فلم يجده وسبقه على قديد فجلس في مجلس قومه؛ فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود في مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده.
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار، ويسبقهم على قديد. ولا ينافي ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش، لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقة. ولا ينافي ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره، لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل. وفي كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبي جهل. ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما.
وفي رواية «أنه لما لحق بهم قال: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا».
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت. ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهي: فعثرت بي فرسي فخررت عنها. وحينئذ يكون عثورها بدعائه، والله أعلم.
قال سراقة «فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله ».
وفي السبعيات «قال سراقة: يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم؛ وتملك رقاب الناس، فعاهدني أني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني، فأمر عامر بن فهيرة، أي وقيل أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، أي وقيل في قطعة من عظم، وقيل في خرقة».
أقول: وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب، فأمره رسول الله ﷺ بكتابة ذلك، فأحدهما كتب في الرقعة من الأدم، والآخر كتب في العظم أو الخرقة. أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم، فلا مخالفة.
«ولما أراد الانصراف قال له: يكف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى؟ قال كسرى بن هرمز؟ قال نعم» وسيأتي أن سراقة أسلم بالجعرانة، ولما قدم على رسول الله ﷺ بها قال له مرحبا بك.
وعن سراقة «لما فرغ رسول الله ﷺ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله ﷺ وهو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابي وأنا سراقة، فقال رسول الله ﷺ: يوم وفاء وبشر، أدنه، فدنوت منه وأسلمت».
ولما جيء لعمر «رضي الله ع» في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته أي وبساطه وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا، منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، كان يبسط له في إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور ـ وجيء له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكنّ ثلاثا وعليهنّ الحليّ والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. وعند ذلك دعا سراقة وقال: ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك: أي ورفع عمر بها صوته وصبّ المال الذي جيء به من أموال كسرى في صحن المسجد، وفرقه على المسلمين، ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين، فأصاب عليا «رضي الله ع» منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار. ثم جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنّ، وأن يزيل نقابهنّ عن وجوههنّ ليزيد المسلمون في ثمنهن، فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادي في صدره فغضب عمر «رضي الله ع» وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين، فقال له علي «رضي الله ع»: مهلا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فسكن غضبه، فقال له علي: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال له عمر: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: يقوّمن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومن وأخذهن علي «رضي الله ع»، فدفع واحدة لعبدالله بن عمر فجاء منها بولده سالم، وأخرى لمحمد بن أبي بكر فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسريّ، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه.
ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب وأعجب سعيد بي يوما، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبدالله بن عمر، فلما خرج من عنده، قلت له: يا عم من هذا؟ قال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبدالله بن عمر، قلت فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض، فلما خرج قلت: يا عم من هذا؟ قال: ما أعجب أمرك! أتجهل مثل هذا؟ هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل عليه علي بن حسين فجلس ثم نهض، فلما خرج قلت له: من هذا؟ قال: عجبت منك! أتجهل مثل هذا؟ هذا علي زين العابدين بن الحسين، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمي رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة فما لي في هؤلاء أسوة؟ فقال: أجل وعظمت في عينه جدا.
ولما رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلا ردّه، يقول: سيرت أي اختبرت الطريق فلم أرد أحدا. وفي لفظ قال لقريش: أي الجماعة منهم قصدوه كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك: قد عرفتم بصري بالطريق، وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا» أي فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أي ومن غيره بأنه نزل في خيمة أم معبد كما سيأتي، أرسلوا سرية في طلبه، يقول قائلهم: اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة، فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله ﷺ وآخر النهار مسلحة أي سلاحا له.
وفي رواية «قال سراقة: خرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما، ورجعت وأنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما أحد» ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أمّ معبد.
ففي تتمة الخبر: أن تلك السرية جاءت إلى أمّ معبد فسألوها عن رسول الله، فأشفقت: أي خافت عليه منهم، فتعاجمت عليهم: أي أظهرت عدم علمها بذلك؛ فقالت: إنكم تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا، ثم قالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخنّ في قومي عليكم وكانت في عز من قومها، فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه: أي من أي طريق توجه، أي ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة سراقة قبل قصة أمّ معبد، وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله:
غرّت سراقة أطماع فساخ به ** جواده فانثنى للصلح مطلبا
وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله:
واقتفى أثره سراقة فاستهـ ** وته في الأرض صافن جرداء
ثم ناداه بعد ما سيمت الخسـ ** ـف وقد ينجد الغريق النداء
أي وتبع أثره سراقة، فهوت: أي سقطت به صافن، وهي الفرس التي تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر، وهو وصف محمود في الخيل. جرداء، قصير الشعر، وذلك وصف محمود في الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها. وقد يخلص الدعاء الغريق، كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.
قال: وعن أبي بكر الصديق «رضي الله ع» «أنه قال: سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد، رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله ﷺ في ظلها، ثم بسطت له فروة معي، ثم قلت: يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرّف من تخافه فنام وإذا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه: أي وهو الظل، فلقيته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته» أي وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الراعي ولا على اسم صاحب الغنم «قال أبو بكر «رضي الله ع»: فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال نعم، فأخذ شاة فحلب لي في قعب معه» وفي رواية في إداوة معي على فيها خرقة فأتيت النبي، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت حتى أستيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله أشرب من هذا اللبن فشرب، لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك أي كما تقدم، فلا ينافي ما جاء «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غير معرفة الراعي.
وأما قول بعضهم «إنما استجاز شربه لأنه مال حربي، ففيه نظر، لأن الغنائم: أي أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ؛ ثم قال: يعني النبي ﷺ: ألم يأن للرحيل؟ قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس» انتهى.
أي وفي رواية «أن أبا بكر، قال: قد آن الرحيل يا رسول الله» أي دخل وقته، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بينهما بأن يكون النبي ﷺ بدأ فسأل فقال له أبو بكر: بلى، ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل «واجتازوا في طريقهم بأمّ معبد» أي واسمها عاتكة، وكان منزلها بقديد، أي وهو محل سراقة كما تقدم، ولعلها كانت بطرفه الأخير الذي يلي المدينة، ومنزل سراقة بطرفه الذي يلي مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل. «وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة تختبي بفناء بيتها وتطعم وتسقي وهي لا تعرفهم، أي وسألوها لحما وتمرا» أي وفي رواية «أو لبنا يشترونه، فقالت: والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم» أي للشراء، وفي رواية «ما أعوزناكم القرى» لأنهم كانوا مسنتين: أي مجدبين «فقال لها رسول الله ﷺ: يا أم معبد هل عندك من لبن؟ قالت: لا والله، فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم» أي لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال «قال هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك» أي أصلح شأنك «بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها، فدعا بها فمسح ظهرها بيده» أي وفي رواية «فبعث النبي ﷺ معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام هات فرقا، فمسح ظهرها» وفي رواية «فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى، أي وقال: اللهم بارك لنا في شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت» أي فتحت ما بين رجليها للحلب «ثم دعا بإناء يربض الرهط» أي يرويهم يحيث يغلب عليهم الريّ فيربضون وينامون. والرهط من الثلاثة للعشرة، وقيل من التسعة إلى الأربعين «فحلب فيها ثجا» أي بقوة لكثرة اللبن. ومن ثم قال «حتى علاه البهاء» وفي رواية «حتى علته الثمالة» بضم المثلثة: أي الرغوة. وفي رواية «فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل» أي مرة ثانية بعد الأولى «ثم شرب، فكان آخرهم شربا»
وقال «ساقي القوم آخرهم شربا» ثم حلب فيه وغادره» أي تركه عندها وارتحل، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي بقوله في تائيته:
مسحت على شاة لدى أم معبد ** بجهد فألفتها أدرّ حلوبة
وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:
درت الشاة حين مرت عليها ** فلها ثروة بها ونماء
أي أرسلت الشاة لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة.
وعن أم معبد: أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب «رضي الله ع» إلى سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة من الهجرة، ويقال لتلك السنة عام الرمادة: أي وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها، أي لخبث لحمها، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وعند ذلك آلى عمر «رضي الله ع» أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس: أي يجيء عليهم الحيا وهو المطر، وقال: كيف لا يعنيني شأن الرعية إذ لم يمسني ما مسهم، وهذا السياق يدل على أن الذي حلبه عند أم معبد شاة واحدة.
وفي تاريخ العيني شارح البخاري، قال يونس «عن ابن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال اشربي يا أم معبد، فقالت أشرب أشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك، فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، وطلبت قريش رسول الله ﷺ حتى بلغوا أم معبد، فسألوا عنه، ووصفوه لها، فقالت: ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذلك الذي نريده».
وعند قول عمر «رضي الله ع» ذلك، قال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي، وصنو أبيه، وسيد بني هاشم يعني العباس، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس، فصعد عمر المنبر ومعه العباس، وقال: اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين؛ ثم قال عمر للعباس: يا أبا الفضل قم وادع، فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه: اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا. اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع. اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك، فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم، وخاضوا في الماء وأخصبت الأرض، وعاش الناس، فقال عمر: هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى، فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئا لك، سقينا في الحرمين.
وذكر السهيلي أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح في السحاب. أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
هذا، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر «رضي الله ع»، لأستسقين غدا بمن يسقيني الله به، فلما أصبح غدا للعباس «رضي الله ع» فدق عليه الباب، فقال من؟ قال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا، والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيبا وطيبهم، ثم خرج وعليّ أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا. اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره. قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي خمس مرات، أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي، هذا كلامه فلينظر الجمع.
قال ابن شهاب: كان أصحاب النبي ﷺ يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه: أي وكان لا يمر عمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس، وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له، أي لأنه قال «احفظوني في العباس، فإنه عمي وصنو أبي» وفي رواية «فإنه بقية آبائي».
قالت أم معبد في وصف تلك الشاة «وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا» أي بكرة وعشية وما في الأرض قليل ولا كثير: أي مما يتعاطى الدواب أكله «ولما جاء زوجها أبو معبد» قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم، وقيل خنيس، وقيل عبدالله «جاء عند المساء يسوق أعنزا عجافا، ورأى اللبن الذي حلبه عجب، وقال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب في البيت؟ أي والشاة عازب» أي لم يطرقها فحل، لكن رأيته في النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التي لا تأوي إلى المنزل في الليل. وفي الصحاح: العازب الكلأ البعيد الذي لم يؤكل لم يوطأ.
قالت: «مرّ بنا رجل مبارك، قال: صفيه، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه» أي مشرقه «في أشفاره» أي أجفان عينيه أي شعرها النابت بها «وطيف» أي طول «وفي عينيه دعج» أي شدة سواد في بياض، أي وهذا هو الحور، ومن ثم فسر بعضهم الدعج بشدة السواد. وفيه أنه لم يكن بياض عينيه شديد البياض، بل كان أشكل العين. والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو دليل الشهامة، وهي من علامات نبوته في الكتب القديمة كما تقدم «وفي صوته صحل» أي بحة بضم الموحدة، أي ليس حاد الصوت «غصن بين الغصنين، لا تشنؤه من طول» أي لا تبغضه لفرط طوله «ولا تقتحمه من قصر» أي تحتقره من قصره «لم تعبه ثجلة» أي عظم البطن وكبرها «ولم تزر به صعلة» أي صغر الرأس/ «كأن عنقه إبريق فضة» أي والإبريق السيف الشديد البريق «إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، له كلام كخرزات النظم، أزين أصحابه منظرا، وأحسنهم وجها، أصحابه يحفون به، إذا أمر ابتدروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه».
قال: وفي لفظ «أنها قالت: رأيت رجلا ظاهرا الوضاءة أبلج الوجه» أي مشرقه «حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صعلة، وسيما قسيما» أي حسنا «في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل» أو قالت «صهل، أحور أكحل» أي في أجفان عينيه سواد خلقة «وفي عنقه سطع» أي نور «وفي لحيته كثافة» أي لا طويلة ولا دقيقة «أزج» أي رقيق طرف «الحاجب، أقرن» أي مقرون الحاجبين «شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به» أي ارتفع على جلسائه «وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة لا تشنؤه» أي تبغضه «من طول» أي من فرط طوله «ولا تقتحمه عين من نظر» أي لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له «غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا؛ له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود مخدوم محشود، له حشد وجماعة، لا عابس ولا مفند» أي يكثر اللوم ا هـ «قال: هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجتهدن أن أفعل».
أي وفي الإمتاع «ويقال إنها» أي أم معبد «ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، ووضعت لهم في سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة، وبقي عندها أكثر لحمها».
وفي الخصائص الكبرى «أنه بايعها» أي أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها. وفي كلام ابن الجوزي أن أم معبد هاجرت وأسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم.
أقول: في شرح السنة للبغوي: وهاجرت هي وزوجها؛ وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر، واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ويقال بأن زوجها خرج في أثرهم فأدركهم، وبايعه ورجع.
وفي الأجوبة المسكتة لابن عون، قيل لأم معبد: ما بال صفتك لرسول الله ﷺ أشبه به من سائر صفات من وصفه: أي من الرجال، فقالت: أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟ .
وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن هند بنت الجون «أنه لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهي أعظم دوحة» أي شجرة ذات فروع كثيرة «وجاءت بثمر كأعظم ما يكون، في لون الورس، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برىء، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ فكنا نسميها المباركة، فأصبحنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر ورقها ففزعنا لذلك، فما راعنا إلا نعي رسول الله » قال: والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة.
وعن أم معبد أنها قالت: مرّ علي خيمتي غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان، فقلت ما هذا؟ قال: إن النبي ﷺ كتب إلى مولاي: يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السير كي لا تنشف القرب، أي فإنه كتب إلى سهيل بن عمرو «إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إليّ من ماء زمزم» فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر» ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله ﷺ وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد في أبيات، منها:
جزى الله رب الناس خير جزائه ** رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** فأفلح من أمسى رفيق محمد
فعلموا توجهه ليثرب: أي وفي طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد، قال بعضهم: وليست بأم معبد التي نزل بها رسول الله ﷺ لما هاجر إلى المدينة.
ويجوز أن يكون الخبر الذي وصل إليهم في اليوم الثاني من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم، وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقولة:
وتغنت بمدحه الجن حتى ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء
أي وأظهرت الجن أوصافه الحميدة في صورة الغناء الذي تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه، وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله:
إن يسلم السعدان يصبح محمد ** من الأمر لا يخشى خلاف المخالف
فقالوا: السعود سعد بن زيد مناة، وسع، هديم، فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا ** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
فقالوا: سعد الأوس سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة، ففيه نظر، لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك؟ فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان.
أقول: يجوز أن تكون أن هنا بمعنى إذ: أي صيرورته آمنا لا يخشى خلاف المخالف لأجل إسلام السعدين، أو المراد دوامهما على الإسلام، على أنه ذكر في الأصل إن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ.
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة: أربعة من الأوس: سعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن عبيد، وسعد بن زيد، وثلاثة من الخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة، والله أعلم.
قال: وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما في الأصل، وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذي صرح به جماعة ا هـ.
أقول: ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد.
وعن أسماء بنت أبي بكر «رضي الله ع» قالت: لما خرج رسول الله ﷺ أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: والله لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، أي وفي لفظ: طرح منها قرطي. والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، قالت. ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أي توجه رسول الله ﷺ إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول: جزى الله رب الناس الأبيات كذا في الأصل.
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله ﷺ ظاهر في خروجه للغار، وقولها فمضى ثلاث لا ندري أين توجه يقتضي أن المراد خروجه من الغار، وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار، وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل.
وقد تبع الأصل في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قدّم خبر سراقة على قصة أم معبد، إلا أن يقال الدمياطي لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته، وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص. قيل هي قصة أم معبد وقيل غيرها. «وهي أنه اجتاز بغنم فقال لراعيها لمن هذه؟ فقال لرجل من أسلم، فالتفت قال لأبي بكر وقال: سلمت إن شاء الله تعالى، ثم قال للراعي: ما اسمك؟ قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر «رضي الله ع» فقال: سعدت إن شاء الله تعالى».
وفي الإمتاع: ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمي «رضي الله ع» في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا: أي والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد.
وفي الشرف «أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبي ﷺ طمع في ذلك، فخرج هو في سبعين من أهل بيته. وفي لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا، وحينئذ يراد ببيته قومه، فلما رآه قال له: من أنت؟ قال: بريدة ابن الحصيب، فالتفت النبي ﷺ: قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، قال: ممن أنت؟ قال: من أسلم من بني سهم، قال النبي ﷺ سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر» أي لأنه كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم. ثم قال بريدة للنبي من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب رسول الله، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وكل من كان معه: أي وصلوا خلفه العشاء الآخرة، ثم قال بريدة: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ بريدة عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه: أي وقال له كما في الوفاء: تنزل علام يا نبي الله؟ فقال النبي ﷺ: إن ناقتي هذه مأمورة، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم» يعني قومه «طائعين غير مكرهين».
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله ﷺ من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة.
أقول: ولعلّ خروجهم كان في ثلاثة أيام، وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها في الغار، والله أعلم.
فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أي وأحرقتهم الشمس، وإذا رجل من اليهود صعد على أطم: أي محل مرتفع من آطامهم أي من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين: أي لأنهم لقوا الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجار قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله ﷺ وأبا بكر ثيابا بيضا كما في البخاري.
وقيل إن الذي كساهما طلحة بن عبيدالله. فقال في النور: ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكره، وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطي لهذا القيل ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذي في السير. ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه في ابتداء أمره، فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة.
فلما رآهم ذلك اليهودي يزول بهم السراب، أي يرفعهم ويظهرهم: أي والسراب ما يرى كالماء في وسط النهار في زمن الحرّ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون، أي وفي رواية: فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي امامة وأصحابه من الأنصار، أي ولا مانع من وجود الأمرين، فثار المسلمون إلى السلاح، فبلغوا رسول الله ﷺ بظهر الحرة، أي وفي لفظ: فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة، ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطمئنين. وفي لفظ: فاستقبله زهاء خمسمائة أي ما يزيد على خمسمائة من الأنصار، فقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم: أي لأنه كان شيخ بني عمرو بن عوف: أي وهم بطن من الأوس، قيل وكان يومئذٍ مشركا ثم أسلم وتوفي قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله المدينة، أي وعند نزوله نادى كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله ﷺ: أنجحت يا أبا بكر، وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه في بيت سعد بن خيثمة: أي لأنه كان عزبا لا أهل له هناك، أي وكان منزله يسمى منزل العزاب، والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب، وقيل هي لغة رديئة.
أقول: وبذلك يجمع بين قول من قال: نزل على كلثوم وقول من قال: نزل على سعد بن خيثمة، ثم رأيت الحافظ الدمياطي أشار إلى ذلك، والله أعلم.
ونزل عليّ بن أبي طالب «رضي الله ع» لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد أن تأخر بمكة بعده ثلاث ليال يؤدي الودائع التي كانت عند النبي، لأمره له بذلك كما تقدم.
فلما توجه إلى المدينة قام عليّ «رضي الله ع» بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله ﷺ وديعة فليأت تؤدى إليه أمانته، فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله ﷺ بالشخوص إليه؛ فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم، ومعه أم أيمن وولدها أيمن، وجماعة من ضعفاء المؤمنين.
أقول: سيأتي ما يخالف ذلك، وهو «أنه لما نزل في دار أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة» إلا أن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا علي «رضي الله ع» للهجرة كان مع زيد وأبي رافع «رضي الله ع» وأنهما صحباه. ولا ينافي ذلك ما تقدم من أنه تأخر بعد عليّ «رضي الله ع» بمكة ثلاث ليال يؤدي الودائع، لأن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع؛ ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله، وحينئذ يكون قدم على النبي ﷺ بالمدينة بعد نزوله بقباء على كلثوم فلا مخالفة، لكن في السيرة الهشامية «فنزل: أي عليّ معه أي مع النبي ﷺ على كلثوم» وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه مكث في قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتي، وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبي رافع، لما علمت أنه إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة.
وفي الإمتاع: لما قدم عليّ من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تقطرت قدماه، فاعتنقه النبي، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ولا مانع من وقوع ذلك من عليّ مع وجود ما يركبه، لأنه يجوزأن يكون هاجر ماشيا رغبة في عظيم الأجر.
وفي السيرة الهشامية: أن إقامة عليّ بقباء كانت ليلة أو ليلتين، وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، قال علي: فسألتها فقالت: هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا: أي اجعليه للنار، فكان عليّ يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم.
قال: ونزل أبو بكر على حبيب بن أبي إساف، وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فحاء مهملة.
وعن ابن عباس «رضي الله ع»: ولد نبيكم يوم الاثنين، وحملت به أمه يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي من الغار يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
قال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. زاد بعضهم: وفتح مكة كان يوم الاثنين، ووضع الركن كان يوم الاثنين.
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكي، وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه. وقيل خرج من مكة أي إلى الغار يوم الخميس، وعليه يكون مكث في الغار تلك الليلة التي هي ليلة الجمعة، وليلة السبت وليلة الأحد، وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد.
ففي البخاري «أتاهما» أي الدليل «براحلتهما صبح ثلاث» وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبي بكر، وقول أبي بكر «سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة» يقتضي أنهما خرجا من الغار ليلا، بل أول الليل، لأن مع التأكيد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا، وتقدم عن البخاري «أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» وحمل ذلك على ما قارب الصبح من الليل بعيد فليتأمل هذا المحل. وقيل دخلها أي المدينة ليلا كما في رواية لمسلم، أي وقال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا.
أقول: لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة، فلا يخالف ما تقدم، وقيل دخلها يوم الجمعة. وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم.
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله في المدينة. فعن البراء «رضي الله ع»، قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله.
وعن أنس بن مالك «رضي الله ع» قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ أضاء منها كل شيء وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير: أي الأسطحة عند قدومه يعلنّ بقولهن: طلع البدر علينا. الخ.
وعن عائشة «رضي الله ع»: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الواداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داعي
أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع
قال: واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة، بل هي من جهة الشام. فقد قال ابن القيم في الهدي في غزوة تبوك: ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة. ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك، وليس في محله، وأجيب بأنه جاء من جهتها في دخوله للمدينة عند خروجه من قباء ا هـ.
أي وفي كلام بعضهم: ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها، فإن لم يعبر منها مات قبل إن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود، فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به؛ وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشي مع المسافر من المدينة إليها، وهو اسم قديم جاهلي، وقيل إسلامي؛ سمي ذلك المحل لذلك، وقيل لأن الصحابة «رضي الله ع» ودعوا فيها النساء اللاتي استمتعوا بهن في خيبر عند رجوعهن من خيبر، أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها، أو لكونه ودّع بعض المسافرين عندها، وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء، وسياق بعضهم يقتضيه؛ وسياق بعض آخر يقتضي أنه كان عند دخوله قباء؛ ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء، ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله في المدينة؛ فعن البراء إلى آخره، وهي المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم؛ وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ﷺ المدينة إلى آخره، ولعل منه ما في بعض الروايات المتقدمة «دخل المدينة يوم الجمعة» الذي حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم.
«ولما جلس رسول الله ﷺ قام أبو بكر للناس» أي وأبو بكر شيخ: أي شيبه ظاهر، والنبي ﷺ شاب: أي شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبي بكر كما تقدم. وقد قال أنس: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر «فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله ﷺ يجيء أبا بكر فيعرفه بالنبي ﷺ حتى أصابت الشمس رسول الله، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفه الناس» أي عرفه من جاء منهم بعد ذلك: أي لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم.
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم «ولبث رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف» أي في قباء «بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثة ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة» وقيل لبث بضع عشرة ليلة، وهو المنقول عن البخاري.
وعن ابن عقبة «أقام ثنتين وعشرين ليلة» وفي الهدى «أقام أربعة عشر يوما» وهو ما في صحيح مسلم فليتأمل «وأسس في قباء المسجد الذي أسس على التقوى: أي الذي نزلت فيه الآية، وصلى فيه رسول الله » قال في الهدى: ولا ينافي هذا قوله «وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدكم هذا، وأشار لمسجد المدينة» أي وفي رواية «فأخذ حصاة فضرب به الأرض، وقال: مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة، لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه. ويوافقه ما نقل عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه كان يرى كل مسجد بني المدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى: أي لكن الذي نزلت فيه الآية مسجد قباء «وكان خروجه من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار» قال: قيل وكان محل مسجد قباء مربد أي محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم، وهو أول مسجد بني في الإسلام لعموم المسلمين، فلا ينافي أنه بنى قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه كالمسجد الذي بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول من بنى مسجدا في الإسلام عمار بن ياسر.
وفي السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة «لما قدم رسول الله ﷺ فنزل قباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله ﷺ بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء» أي فإنه لما جمع الحجارة أسسه واستتم بنيانه عمار، فعمار أول من بني مسجدا لعموم المسلمين.
قال: وعن جابر «لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي ﷺ بسنتين، نعمر المساجد، ونقيم الصلاة» انتهى.
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير. ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد في المدينة قبل قدومه.
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال: كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم، أي ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثني عشر من الأنصار به ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه للمدينة سنتان.
وقد يقال: ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من دوم الاثني عشر عليه، بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر، والمدة تزيد على السنتين فليتأمل. وهو: أي مسجد قباء أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين.
وقيل: إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه، فلما هاجر رسول الله ﷺ وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا.
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية، وما في الطبراني بسند رجاله ثقات، عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان «رضي الله ع» قالت «نظرت إلى رسول الله ﷺ حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر» أي يتبعه «فيأتي الرجل من أصحابه فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي تعطيني أكفك. فيقول: لآخذ مثله حتى أسسه.
أي وجاء «أنه لما أراد بناءه قال: يا أهل قباء ائتوني بأحجار من الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه، ثم قال: يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر» قال بعضهم: كأنه أشار إلى ترتيب الخلافة، وسيجيء في بناء مسجد المدينة نحوه، ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.
وبعد تحوله إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال «من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» وروي: أي الترمذي والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبي ﷺ أنه قال «صلاة في مسجد قباء كعمره» وفي رواية «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وكان عمر «رضي الله ع» يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف. وفي رواية في أفق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل.
أي وصح الحاكم عن ابن عمر «رضي الله ع» قال «كان رسول الله ﷺ يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا» وعن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» عن أبيه قال «خرجت مع رسول الله ﷺ يوم الاثنين إلى قباء» وعن بن عمر «أنه كان يأتي مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين» وعنه قال «خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى قباء فقام يصلي فجاءته الأنصار تسلم عليه. فقلت فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله ﷺ يرد عليهم، قال: يشير إليهم بيده وهو يصلي» أي يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق.
وقد وقعت له الإشارة في الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته «رضي الله ع» من الحبشة وهو يصلي فسلمت فأومأ إليها برأسه.
وفي الهدى: وأما حديث «من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته» فحديث باطل. وفي كلام بعضهم: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة «أنه كان إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة أشار بأصبعه المباركة جواب السلام» وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول، وهو «من أشار في صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته» وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة.
ولما نزل قوله تعالى {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} أرسل رسول الله ﷺ يسألهم عن ذلك فقال: ما هذا الطهور الذي أنثى الله عليكم به. فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، فقال: هو هذا» وفي لفظ «أتاهم رسول الله في مسجد قباء» أي وفي الكشاف «ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم، فقال "عليه الصلاة والسلام: أتؤمنون بالقضاء؟ قالوا نعم، قال: وتصبرون على البلاء؟ قالوا نعم، قال: أتشكرون على الرخاء؟ قالوا نعم، قال "عليه الصلاة والسلام: مؤمنون ورب الكعبة، فجلس وقال: يا معشر الأنصار إن الله «عَزَّ وجَلّ» قد أثنى عليكم، فما الذي تتبعون عند الوضوء وعند الغائط» أي المعبر عنه بالطهور «فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي {فيه رجال يحبون أن يتطهروا}» هذا كلامه. وفي رواية/ «فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء في الطهور، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ قالوا: يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلناها كما غسلوا» وفي لفظ «كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعه، قال: فلا تدعوه» وفي لفظ «قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنانة، فقال: هل مع ذلك غيره؟ قالوا لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء» وفي رواية/ «نستنجي من البول والغائط» زاد في رواية «ولا ننام الليل كله على الجنابة، قال: هو ذاك فعليكموه» أي ألزموه.
أي وفي مسند البزار عن ابن عباس «رضي الله ع» أنه لما سألهم قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال بعضهم في إسناده ضعف، وبهذا وما تقدم من ذكر الحجارة يرد على الإمام النووي حيث قال: هكذا أي ذكر الحجر مع الماء في خبر الأنصار بقباء رواه الفقهاء في كتبهم، وليس له أصل في كتب الحديث، بل المذكور فيها أنهم قالوا كنا نستنجي بالماء وليس فيها مع الحجر. أي ويكون السكون عن ذكر الحجر لكونه كان معلوما فعله.
وفي الخصائص الصغرى أن مما اختص به في شرعه وأمته الاستنجاء بالجامد، وبالجمع فيه بين الماء والحجر.
ومن أهل قباء عويمر بن ساعدة قال في حقه «نعم العبد من عباد الله والرجل من أهل الجنة عويمر بن ساعدة» أي لأنه كان أول من استنجى بالماء كما قيل، أي ومن ثم جاء تخصيصه بالسؤال. فقد روى البيهقي عن ابن عباس «رضي الله ع» «بعث رسول الله ﷺ إلى عويمر بن ساعدة فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به. فقال: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط» الحديث، وهذا السياق ربما يقتضي أن الاستنجاء بالماء لم يكن معروفا في غير أهل قباء نزول هذه الآية.
وفي كلام بعضهم: أول من استنجى بالماء إبراهيم الخليل. وكره بعض الصحابة الاستنجاء بالماء وهو حذيفة، ولعله لكونه في الاستنجاء بالماء عدول عن الرخصة.
ونقل عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، ولعله لما ذكرنا، وكذا ما نقل عن ابن الزبير «ما كنا نفعله» وعن الإمام أحمد أنه لم يصح حديث في الاستنجاء بالماء. وبالغ مغلطاي في رده. وعن سيدنا مالك إنكار أن النبي ﷺ استنجى بالماء، ولعل المراد إنكار صحة ذلك عنه فليتأمل.
وذكر الأحجار في الخبر يؤيد ظاهره ما ذكره إمامنا في الأم أن سنة الجمع بين الحجر والماء تتوقف على كون الاستنجاء بالحجر كافيا لو اقتصر عليه بقوله والاستنجاء بالحجر كاف، ولو أتى به: أي بالاستنجاء الكافي رجل ثم غسل بالماء كان أحب إليّ، وإنما قلنا ظاهره لإمكان رجوع الضمير للاستنجاء لا بقيد كونه كافيا.
والذي عليه متأخرو أصحابنا أن سنة الجمع يكتفي فيها بازالة العين ولو بحجر واحد. وقد يقال هذا محبوب، وما ذكره الإمام أحب.
ولا يخفى أن حديث الأنصار يقتضي اختصاص سن الجمع بين الحجر والماء بالغائط، وبه قال القفال في كتابه (محاسن الشريعة) والمفهوم من نص الأم أن مثل الغائط البول، ثم بعد إقامته المدة المذكورة بقباء ركب راحلته الجدعاء، وقيل القصواء، وقيل العضباء. أي قاصدا المدينة. والجدعاء بالدال المهملة: المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها. والقصواء: المقطوع طرف أذنها. والغضباء: المشقوقة الأذن. قال بعضهم. وهذه ألقاب، ولم يكن بها: أي بتلك النوق شيء من ذلك، وسيأتي عن الأصل أن هذه ألقاب لناقة واحدة.
ولما ركب وخرج من قباء وسار سار الناس معه ما بين ماش وراكب أي ولا زال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا: أي حرصا على كرامة رسول الله ﷺ وتعظيما له حتى دخل المدينة. قال: وصار الخدم والصبيان يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، جاء محمد، ولعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله. وقد قالت بنو عمرو بن عوف له: «يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دار خيرا من دارنا؟ قال إني أمرت بقرية تأكل القرى» أي تغلبها وتقهرها، والمراد أهلها: أي أن أهلها تفتح القرى فيأكلون أموال أهل تلك القرى، ويسبون ذراريهم فخلوا سبيلها، يعني ناقته، أي ومن أسماء تلك القرية المدينة.
وروى الشيخان «أمرت بقرية تأكل القرى يثرب وهي المدينة» فالمدينة علم بالغلبة على تلك القرية كالنجم للثريا إذا أطلق فهي المرادة، وإن أريد غيرها قيد، والنسبة إليها مدني، ولغيرها من المدن مديني للفرق بينهما. ويثرب: اسم محل فيها سميت كلها به، ولعل ذلك المحل سمي بذلك لأنه نزل به يثرب من نسل نوح. وفي الحديث «المدينة تنفي الناس» أي شرارهم «كما ينفي الكير خبث الحديد.
ففي بعض الروايات «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» قيل وكان ذلك في حياته. وقيل يكون ذلك في زمن الدجال، فقد جاء أن الدجال يرجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه» وفي رواية «ينزل الدجال السبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل منافق وكافر» وبهذا استدل من قال: كون المدينة تنفي الخبث ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، لأن المنافقين كانوا بها، وخرج منها جماعة من خيار الصحابة منهم علي وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود.
وفي كلام ابن الجوزي أن عبدالله بن مسعود مات بالمدينة، وقد قال: «أيّ أرض مات بها رجل من أصحابي كان قائدهم ونورهم يوم القيامة» وفي رواية «فهو شفيع لأهل تلك الأرض».
وأما قوله «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» أي خير لهم من بلاد الرخاء، بدليل صدر الحديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله من هو خير منه» أي من خرج منها رغبة عنها إلى غيرها من بلاد الرخاء والسعة فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة.
ومن أسمائها أكالة البلدان، ومن أسمائها البارة بتشديد الراء، وتسمى الفاضحة لأن من أضمر فيها شيئا أظهر الله ما أضمره وافتضح به: أي فالمراد أضمر شيئا من السوء. وقد قال «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى، هي طابة» كشامة «هي طابة، هي طابة، قال ذلك ثلاثا» وفي رواية «فليستغفر الله، فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة» كهيبة «هي طيبة، هي طيبة، هي طائب» ككاتب.
قيل: وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم: أي لأن ترابها يشفي من الجذام، وتسميتها يثرب في القرآن إنما هو حكاية لقول المنافقين أي بعد نهيهم عن ذلك، وقوله «لا أراها إلا يثرب» أي ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه من تسميتها بذلك كان قبل النهي عن ذلك انتهى.
أي وجاء «إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها» ويأزر بكسر الزاي أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض، وفي رواية «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، يأزر كما تأزر الحية إلى حجرها»، وإنما كرهت تسميتها بيثرب، لأن يثرب مأخوذ من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، ومنه قوله تعالى {لا تثريب عليكم اليوم} أو من الثرب بالتحريك وهو الفساد.
وعن القاسم بن محمد، قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، وقيل أحد عشر، من جملتها سكينة، أي ومن جملتها الجابرة: أي التي تجبر، والعذراء والمرحومة. وفي كلام بعضهم: لها نحو مائة اسم منها دار الأخيار، ودار الأبرار، ودار الإيمان، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الفتح. قال الإمام النووي: لا يعرف في البلاد أكثر اسما منها ومن مكة.
ومما يدل على أن خروجه من قباء متوجها إلى المدينة كان يوم الجمعة قول بعضهم: وعند مسيره إلى المدينة أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي بمن معه من المسلمين وهم مائة، وصلاها بعد ذلك في المدينة وكانوا به أربعين.
فعن ابن مسعود «رضي الله ع» «أنه جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا، أي ولم يحفظ أنه صلاها مع النقص عن هذا العدد ومن حينئذ صلى الجمعة في ذلك المسجد. سمي هذا المسجد بمسجد الجمعة، وهو على يمين السالك نحو قباء، فكانت أوّل جمعة صلاها بالمدينة: أي وخطب لها، وهي أول خطبة خطبها في الإسلام أي ومن خطبته تلك «فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإنها تجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسلام على رسول الله ﷺ ورحمة الله وبركاته» وفي رواية «والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ونقل القرطبي هذه الخطبة في تفسيره، وأوردها جميعها في المواهب، وليس فيها هذا اللفظ.
أقول: هذا واضح إن كان أقام في قباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس كما تقدم وأما على أنه أقام بضع عشر ليلة أو أكثر من ذلك كما تقدم، فيبعد أنه لم يصل الجمعة في قباء في تلك المدة. ثم رأيت في كلام بعضهم أنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك.
أي ويبعد أن صلاها من غير خطبة. وفي الجامع الصغير «إن الله كتب عليكم الجمعة في مقامي هذا، وفي ساعتي هذه، في مشهدي هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، من تركها من غير عذر مع إمام عادل أو إمام جائر فلا جمع له شمله ولا بورك له في أمره، إلا ولا صلاة له ولا حج له، ألا ولا بركة له ولا صدقة له» فإن كان قال ذلك في هذه الخطبة التي خطبها في مسجد الجمعة كما هو المتبادر، اقتضى ذلك أنها لم تكن واجبة قبل ذلك وهو مخالف قول فقهائنا أنها وجبت بمكة ولم تقم بها لعدم قدرتهم على إظهارها بمكة، لأن إظهارها أقوى من إظهار جماعة الصلوات الخمس.
وفي الإتقان مما تأخر حكمه عن نزوله آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة. وقول ابن الغرس إن اقامة الجمعة لم تكن بمكة قط يرده ما أخرجه ابن ماجة عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع النداء يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا؟ قال: أي بني، كان أول من صلى بنا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله ﷺ من مكة، هذا كلامه، وليتأمل ما وجه الرد من هذا.
وجاء «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها، وصيام شهر رمضان في المدينة ألف شهر فيما سواها» كذا في الوفاء عن نافع عن ابن عمر. وأوّل قرية صليت فيها الجمعة بعد المدينة قرية عبد القيس بالبحرين، وهل كانت الخطبة قبل الصلاة أو بعدها.
في الدر أنه كان وهو بالمدينة يخطب الجمعة بعد أن يصلي مثل العيدين، فبينما هو يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير دحية الكلبي، وكان إذا قدم يخرج أهله للقائه بالطبل واللهو، ويخرج الناس للشراء من طعام تلك العير والتفرج عليها، وقيل للتفرج على وجه دحية، فقد قيل كان إذا قدم دحية المدينة لم تبق معصر إلا خرجت لتنظر إليه لفرط جماله. ولا مانع أن يكون ذلك لاجتماع الأمرين، فانفض الناس ولم يبق معه إلا نحو اثني عشر رجلا. والجلال المحلي في قطعة التفسير أسقط لفظ نحو: أي وانفضاض ما عدا هؤلاء، يحتمل أن يكون بعد ذلك في حال الخطبة قبل تمام الأركان. ويحتمل أن يكون بعد ذلك.
وعلى الأول: يجوز أن يكون رجع ممن انفض ما يكمل به العدد أربعين قبل طول الفصل. وقد أعاد ما لم يسمعوه من أركان الخطبة عند انفضاضهم، فلا يخالف ما ذهب إليه إمامنا الشافعي «رضي الله ع» من وجوب سماع أربعين لأركان الخطبة.
قال مقاتل: بلغني أنهم فعلوا ذلك أي الانفضاض عند الخطبة ثلاث مرات، فأنزل الله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا} الآية. ثم صار يخطب قبل أن يصلي أي ليحافظ الناس على عدم الإنفضاض لأجل الصلاة، وعليه انعقد الإجماع، فلا نظر لمخالفة الحسن البصري. وحينئذ يكون قول بعض فقهائنا استدلالا على وجوب تأخر صلاة الجمعة عن الخطبتين يثبت صلاته بعد خطبتين أي استقر ثبوت ذلك.
وعن الزهري «بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول إذا خطب» أي في غير الخطبة المتقدمة «كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر من الناس، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا، فما شاء الله كان لا ما شاء الناس، وما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله» والله أعلم.
ثم ركب راحلته بعد الجمعة متوجها للمدينة: أي وقد أرخى زمامها ولم يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فسأله بنو سالم منهم عتبان بكسر العين المهملة ابن مالك، ونوفل بن عبدالله بن مالك، وعبادة بن الصامت، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعزة والمنعة. وفي لفظ «والثروة» وفي لفظ «أنزل فينا، فإن فينا العدد والعدة والحلقة» أي السلاح «ونحن أصحاب الحدائق والدرك، يا رسول الله كان الرجل من العرب يدخل هذه البحيرة خائفا فيلجأ إلينا، فقال لهم خيرا، وقال: خلوا سبيلها» يعني ناقته «دعوها فإنها مأمورة»، أي وفي رواية «إنها مأمورة خلوا سبيلها وهو يتبسم ويقول: بارك الله عليكم، فانطلقت حتى وردت دار بني بياضة» أي محلتهم، أي والمراد القبيلة «فسأله بنو بياضة أي ومنهم زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو ومثل ما تقدم، وأجابهم بأنها مأمورة خلوا سبيلها، فانطلقت حتى وردت دار بني ساعدة أي ومنهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك وأجابهم بخلوا سبيلها فإنها مأمورة، فانطلقت حتى مرت بدار عديّ بن النجار وهم أخواله » أي أخوال جده عبد المطلب كما تقدم أي بأوائل دورهم «فسأله بنو عدي بن النجار أي أولئك الطائفة منهم بمثل ما تقدم» أي وفي رواية «أنهم قالوا له: نحن أخوالك، هلم إلى العدة والمنعة والعزة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله» إي زاد في رواية لا تجاوزنا، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا، وأجابهم بأنها مأمورة، فانطلقت حتى بركت في محل من محلات بني النجار وذلك في محل المسجد، أي محل بابه أو في محل المنبر الآن وذلك عند دار بني مالك بن النجار، وعند باب أبي أيوب الأنصاري» أي واسمه خالد بن زيد النجاري الأنصاري الخزرجي شهد العقبة وسائر المشاهد مع رسول الله، وكان مع علي بن أبي طالب من خاصته شهد معه الجمل وصفين والنهروان. غزا أيام معاوية أرض الشام مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين فتوفي عند مدينة قسطنطينية فدفن هناك. وأمر يزيد بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبره حتى خفي أثر القبر خوفا أن تنبشه الكفار، فكان المشركون إذا أمحلوا كشفوا عن قبره فيمطروا فلم ينزل عنها ثم وثبت، وسارت غير بعيد ورسول الله ﷺ واضع لها زمامها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها فبركت فيه وتجلجلت أي بالجيم تضعضعت ووضعت جرانها أي باطن عنقها من المذبح إلى المنحر، وأزرمت أي صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها، وقال {رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين} أي قال ذلك أربع مرات، وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي أي وسريّ عنه وقال: هذا إن شاء الله يكون المنزل أي وأمر أن يحط رحله وفي لفظ: أن أبا أيوب قال له ائذن لي أن أنقل رحلك فأذن له، واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته، أي وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، أي وذكر بعضهم أن أبا أيوب لما نقل رحله أناخ الناقة في منزله. وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون أسعد أخذ بزمامها بعد ذلك فكانت عنده.
أي وعن أبي أيوب رضى الله تعالى عنه «لما قدم النبي ﷺ المدينة اقترعت الأنصار أيهم يأويه فقرعتهم» الحديث. وقد يقال: مراده بالأنصار أهل تلك المحلة التي بركت فيها الناقة.
وذكر السهيلي أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار: أي في محل من محلاتها جعل رجل من بني سلمة وهو جبار بن صخر، أي وكان من صالحي المسلمين ينخسها رجاء أن تقوم فينزل في دار بني سلمة فلم تفعل.
وجاء أنه «قال خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير».
ولما بلغ ذلك سعد بن عبادة وجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع، أسرجوا إليّ حماري أت رسول الله ﷺ فكلمه ابن أخته سهل، فقال: أتذهب لتردّ على رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ أعلم؟ أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحل عنه. وفي رواية قال له: اجلس، ألا ترضى أن سماك رسول الله في الأربع الدور التي سمى، فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمي، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله ﷺ وخرجت جويريات من بني النجار بالدفوف يقلن:
نحن جوار من بني النجار ** يا حبذا محمد من جار
فخرج إليهن رسول الله، وقال: «أتحببنني، وفي رواية أتحبوني؟ قلن نعم يا رسول الله، فقال: الله يعلم أن قلبي يحبكن» وفي رواية «والله أحبكم» وفي رواية «وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم قال ذلك ثلاثا» وهذا دليل لسماع الغناء على الدفّ من المرأة لغير العرس؛ ويدل لذلك أيضا ما جاء عن ابن عباس مرفوعا «أن أصحاب النبي ﷺ جلسوا سماطين، وجاءت جارية يقال لها سيرين معها مزهر تختلف به بين القوم، وهي تغنيهم وتقول:
هل عليّ ويحكم ** إن لهوت من حرج
فتبسم النبي ﷺ وقال: «لا حرج إن شاء الله تعالى».
وما روي عن عائشة «رضي الله ع» «دخل عليّ رسول الله ﷺ وعندي جاريتان من جواري الأنصار يغنيان» وفي رواية «يضربان بدفين، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر «رضي الله ع» فانتهرني، فأقبل عليه رسول الله ﷺ فقال: دعها» وفي رواية «قال أبو بكر بمزمور» وفي رواية «بمزمار» وفي لفظ «بمزمارة الشيطان في بيت رسول الله، قال ذلك مرتين وانتهرني، وكان متغشيا بثوبه، فكشف النبي ﷺ عن وجهه الشريف، فقال: دعها يا أبا بكر فإنها أيام عيد» أي لأن تلك كانت أيام منى.
وقيل كان يوم عيد الفطر. وقيل الأضحى، ولا مانع من تعدد الواقعة.
أقول: في البخاري عن الربيّع بنت معوّذ «أنه دخل عليها غداة بنى عليها وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال لها النبي ﷺ لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين».
وفي حديث أبي هريرة «أن النبي ﷺ خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها وقعدت عليه؛ فقال النبي ﷺ: إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب ودخل أبو بكر وهي تضرب، فلما دخلت أنت ألقت الدف» أي وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل.
ولا ينافي هذا: أي سماعه الغناء من المرأة مع الضرب على الدف ما تقدم في باب ما حفظ به في صغره من أمر الجاهلية، لأن الدف ثم كان معه مزمار بخلافه هنا، وتسمية أبي بكر «رضي الله ع» الدف مزمارا، لأنه كان يعتقد حرمة ذلك، فشبهه بالمزمار المحرم سماعه.
قال بعضهم: واعلم أن السماع في طريق القوم معروف وفي الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف. وقال بعض آخر: إنه من أكبر مصايد النفوس أي والرجوع بها إلى الله تعالى. وقد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار، ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع.
وعن أبي بشير: أن النبي ﷺ وأبا بكر مرّا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون ويقولون:
يا أيها الضيف المعرج طارقا ** لولا مررت بآل عبد الدار
لولا مررت بهم تريد قراهم ** منعوك من جهد ومن إقتار
أي ولم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر، فقد صحت الأخبار وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه بالأصوات الطيبة مع الدف وبغيره، وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ولو فيه جلاجل لما هو سبب لإظهار السرور. وعلى جواز إنشاد الشعر واستماعه، حيث خلا عن هجو لغير نحو فاسق متجاهر بفسقه، وخلا عن تشبب بمعين من امرأة أو غلام، والخلاف إنما هو في سماع الملاهي كالأوتار والمزامير، وخوف الفتنة من سماع صوت المرأة أو الأمرد الجميل.
ونقل عن الجنيد أنه قال: الناس في السماع: أي سماع الآلات على ثلاثة أضرب العوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم. والزهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهداتهم. والعارفون وهو مستحب لهم الحياة قلوبهم. وذلك نحوه أبو طالب المكي، وصححه السهروردي في عوارف المعارف.
وفي كلام بعضهم: جبلت النفوس حتى غير العاقلة على الإصغاء إلى ما يحسن من سماع الصوت الحسن، فقد كانت الطيور تقف على رأس داود "عليه الصلاة والسلام لسماع صوته، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن صفوان بن أمية وهو من المؤلفة قال: «كنا عند النبي ﷺ إذ جاء عمر بن قرة، فقال: يا رسول الله إن الله كتب عليّ الشقوة فلا أنال الرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال النبي ﷺ: لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ الله: أي يا عدوّ الله، والله لقد رزقك الله طيبا ف فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد كهذه المقالة، لضربتك ضربا وجيعا» إلا أن يقال هذا النهي إن صح محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة، وهو مكروه تنزيها. وقوله «اخترت ما حرم الله عليك» إلى آخره للمبالغة في التنفير عن ذلك.
«ونزل على أبي أيوب وقال: المرء مع رحله، أي بعد أن قال أي بيوت أهلنا يعني أهل تلك المحلة من بني النجار أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري هذه وقد حططنا رحلك فيها، فذهبت تلك الكلمة أي التي هي: المرء مع رحله مثلا وقال: اذهب فهيىء لنا مقيلا فذهب فهيأ ذلك، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت مقيلا فقم على بركة الله تعالى، ونزل معه زيد بن حارثة «رضي الله ع»».
أقول: وفي رواية «فتنازع القوم أيهم ينزل عليه» أي كل يحرص على أن تكون داره له منزلا أي مقاما «فقال رسول الله ﷺ: أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غدا حيث أمر» وحينئذ يكون قوله: أنزل الليلة: أي غد تلك الليلة، ولا يخالف هذا ما قبله من قول بني النجار هلم إلينا، وقوله لهم: إنها مأمورة، لجواز أن يكون أمر بالنزول عليهم.
واعلم أن خصوص البقعة والمحلة من محلات بني النجار التي ينزل بها من دارهم ما تبرك به الناقة. وفيه أنه يبعد مع ذلك، أي مع قوله المذكور أي أنه ينزل على بني النجار سؤال غير بني النجار في النزول عنده، إلا أن يقال لعل السائلين له في ذلك لم يبلغهم قوله المذكور، أو جوزوا أن يكون رسول الله ﷺ بدا له في ذلك رأي، وقد أشار إلى نزوله على بني النجار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
نزلت على قوم بأيمن طائر ** لأنك ميمون السنا والنقيبة
فيا لبني النجار من شرف به ** يجرون أذيال المعالي الشريفة
وهذا السياق يدل على أن تنازع القوم، وقوله لهم المذكور كان في آخر ليلة، وهو في قباء، وهو يرد قول بعضهم: يشبه أن يكون ذلك في أول قدومه من مكة قبل نزوله قباء، لا في قدومه باطن المدينة. فالمراد بأهل المدينة أهل قباء.
ويرد قول سبط ابن الجوزي لعله نزل على بني النجار ليلة انتهى: أي تلك الليلة ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف أي في قباء هذا. وفي رواية عن أنس بن مالك «رضي الله ع» «لما قدم رسول الله ﷺ المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار فجاؤوا متقلدين سيوفهم. قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ على راحلته وأبو بكر رديفه وملأ من بني النجار حوله حتى أناخ بفناء أبي أيوب» وهذه الرواية وقع فيها اختصار كبير.
ويقال «إنه عرّج على عبدالله بن أبي ابن سلول وكان جالسا محتبيا وأراد النزول عليه، فقال له اذهب إلى الذين دعوك وأنزل عليهم، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله لا تجد في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه» وقد وقع له في بعض الأيام «أنه، قيل له: يا رسول الله لو أتيت عبدالله بن أبي ابن سلول» أي متألفا له ليكون ذلك سببا لإسلام من تخلف من قومه، وليزول ما عنده من النفاق «فانطلق النبي ﷺ وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبي ﷺ قال له: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحا منك، فغضب لعبدالله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد، والأيدي والنعال، فنزل {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} كذا في البخاري.
وفيه أيضا «أن رسول الله ﷺ مرّ على بن أبي ابن سلول وهو في جماعة فقال ابن أبيّ: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبدالله «رضي الله ع»، فاستأذن رسول الله ﷺ أن يأتيه برأسه، فقال له لا، ولكن برّ أباك» وكان ابن أبيّ جميل الصورة ممتلىء الجسم، فصيح اللسان، وهو المعنيّ بقوله تعالى {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} الآية، ولكونه متبوعا جيء فيه بصيغة الجمع.
وعن الزهري «أخبرني عروة بن أسامة بن زيد أن رسول الله ﷺ ركب حمارا على إكاف وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ بمجلس فيه عبدالله بن أبي ابن سلول وذلك قبل إن يسلم عبدالله بن أبي ابن سلول، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبدالله بن رواحة فثار غبار من مشي الحمار، فخمر ابن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا؛ فسلم رسول الله ﷺ عليهم ثم نزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال ابن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا فإنا نحب ذلك، واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتبادرون، فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله ﷺ دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله ﷺ: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يعني ابن أبيّ، قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما ردّ بالحق الذي أعطاك الله شرق، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله » والله أعلم.
ومكث ببيت أبي أيوب إلى أن بني المسجد وبعض مساكنه، وقد مكث في بناء ذلك من شهر ربيع الأول إلى شهر صفر من السنة القابلة، أي وذلك اثنا عشر شهرا: وقيل مكث ببيت أبي أيوب سبعة أشهر.
«قال ولما تحول رسول الله ﷺ من بين عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون» أي غالبهم أخذا مما يأتي «فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم. فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم» ا هـ.
وكان من جملة محل مسجده مسجد لأبي أمامة أسعد بن زرارة «رضي الله ع»، وكان أبو أمامة يجمع فيه بمن يليه، بناه في بعض مربد للتمر لسهل وسهيل: أي يجفف فيه التمر، ويرادف المربد الجرين والمسطح والبيدر: وهو ما يبسط فيه الزرع أو التمر للتجفيف.
«وكان رسول الله ﷺ يصلي في ذلك المسجد، قال: فعن أمّ زيد بن ثابت أنها قالت: رأيت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله ﷺ المدينة يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله ﷺ لما قدم وصلى بهم في ذلك المسجد وبناه» أي مع إدخال بقية ذلك المربد فهو مسجده.
وحينئذ لا يخالف ذلك قول الحافظ بن الدمياطي عن الزهري قال «بركت ناقة رسول الله ﷺ عند موضع مسجد رسول الله، وهو يومئذٍ يصلي فيه رجال من المسلمين قبل قدومه، وكان مربدا لسهل وسهيل، وكان جدار مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه ويجمع بهم فيه الجمعة قبل قدوم رسول الله، أي ولما قدم رسول الله ﷺ المدينة صار يصلي فيه».
وفي الإمتاع «كان أسعد بن زرارة بنى فيه جدارا تجاه بيت المقدس كان يصلي إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير، ثم صلى بهم إليه مصعب» هذا كلامه، وتعلم ما فيه لما قدّمناه في قدوم مصعب المدينة، لكن في البخاري «أنه كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يبني المسجد» أي ولعله اتفق له ذلك في بعض الأوقات، لأنه كان يصلي حيث أدركته الصلاة.
«ثم إنه بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة التي كان من جملتها ذلك المسجد ليجعلها مسجدا فإنها كانت في يده ليتيمين في حجره، وهما سهل وسهيل، وقيل كانا في حجر معاذ بن عفراء» قال في الأصل، وهو الأشهر.
وفي المواهب: أن الأول من المرجح، واليتيمان المذكوران من بني مالك بن النجار، وقيل كانا في حجر أبي أيوب الأنصاري. قال بعضهم: والظاهر أن الكل: أي من أسعد ومعاذ وأبي أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عمّ فنسبا إلى حجر كل.
«وقد عرض أبو أيوب عليه أن يأخذ تلك الأرض ويغرم لليتيمين قيمتها، فأبى رسول الله ﷺ وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر» أي وفي رواية «فدعا الغلامين فساومهما بالمربد فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك» أي وحينئذ يكون وصفهما باليتيم باعتبار ما كان.
وفي رواية «أرسل إلا ملأ من بني النجار ولعلهم من تقدم وهم أسعد ومعاذ وأبو أيوب ومعهم سهل وسهيل فجاؤوه، فقال لهم ثامنوني بحائطكم هذا أي خذوا مني ثمنه. قالوا لا يا رسول الله، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى أن يأخذه إلا بالثمن».
قال «وجاء أن أسعد بن زرارة عوض اليتيمين من تلك الأرض نخلا أي له في بني بياضة، وقيل: أرضا هما فيها أبو أيوب، وقيل معاذ بن عفراء».
وطريق الجمع بين ذلك أنه يحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب ومعاذ بن عفراء دفع للغلامين شيئا: أي زيادة على العشرة دنانير فنسب ذلك لكل منهم.
وجاء «أنه كان في تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها فنبشت؛ وأمر بالعظام فألقيت» ا هـ، أي وفي رواية «وأمر بالعظام أن تغيب» أي وفي رواية «كان في موضع المسجد نخل وخرب» أي حفر ومقابر للمشركين «فأمر بالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت».
أي وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فأمر رسول الله ﷺ بالنخل الذي في الحديقة» أي وهي تلك الأرض التي كانت مربدا، أي وسمي حديقة لوجود النخل به «وأمر بالغرقد الذي فيه أن يقطع» أي والغرقد: شجر معروف. وبقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة. وشجر الغرقد: يقال له شجر اليهود، فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به عند نزول عيسى "عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال ولجنده من اليهود، فإذا توارى اليهودي بشجرة نادته يا روح الله هاهنا يهودي، فيأتي حتى يقف عليه، فإما أن يسلم وإما أن يقتل؛ إلا شجر الغرقد فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به؛ فقيل له شجر اليهود لذلك.
قال: وكان في المربد ماء مستبحر فسيروه حتى ذهب. والمستبحر الذي ينشع ويظهر من الأرض.
«ثم إن رسول الله ﷺ أمر باتخاذ اللبن فاتخذ وبنى المسجد» وجاء «أنه عند الشروع في البناء وضع لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة أي بجانب لبنته، ثم دعا عمر فوضع لبنة بجانب لبنة أبي بكر، ثم جاء عثمان فوضع لبنة بجانب لبنة عمر».
أي وقد أخرج ابن حبان «لما بنى رسول الله ﷺ المسجد ووضع في البناء حجرا وقال لأبي بكر: ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدي» قال أبو زرعة إسناده لابأس به، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وفي رواية «هؤلاء ولاة الأمر بعدي» قال ابن كثير وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جدا.
قال بعضهم: وقوله لعثمان ما ذكر. أي ضع حجرك إلى جنب حجر عمر يرد على من زعم أن هذا منه إشارة إلى قبورهم، أي إذ لو كان إشارة إلى ذ لك لدفن عثمان بجانب عمر كما دفن عمر بجانب أبي بكر، بل هو إشارة إلى ترتيب الخلافة، أي لأنه لا يستفاد من قوله «هؤلاء الخلفاء بعدي إلا ذلك» ومن ثم جاء في رواية «فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك، فقال أمر الخلافة من بعدي».
وتصحيح الحاكم لما ذكر يظهر التوقف في قول بعضهم إن هذا لم يجىء في الصحيح إلا أن يريد صحيح الشيخين.
وأما قوله قال البخاري في تاريخه: إن ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور، لأن عمر وعثمان وعليا قالوا: لم يستخلف النبي، فقد يقال عليه: معناه لم ينص على استخلاف أحد بعينه عند موته، وذلك لا ينافي الإشارة إلى وقوع الخلافة لهؤلاء بعده، ولا ينافي قوله «هؤلاء الخلفاء بعدي» لجواز أن يراد الخلافة في العلم. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي أشار إلى ذلك حيث قال: قلت هذا أي وضع تلك الأحجار، وقوله «هؤلاء الخلفاء بعدي» مع احتماله للخلافة في العلم والإرشاد متقدم على وقت الاستخلاف عادة وهو قرب الموت، فلم يكن نصا سالما من المعارض هذا كلامه «ثم قال للناس ضعوا أي الحجارة فوضعوا، ورفع بالحجارة أي قريب من ثلاثة أذرع، وبنى باللبن وجعل عضادتيه أي جانبيه بالحجارة وسقفه بالجريد، وجعلت عمد» وفي رواية «سواريه من جذوع النخل، وطول جداره قامة» أي كان ارتفاعه قدر قامة.
قال: وعن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله ﷺ أن يبني المسجد قال «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام أصاب رأسه السقف» انتهى.
أي فالمراد اجعلوا سقفه يكون بحيث إذا قمت أصاب رأسي السقف، أو رفعت يدي أصابت السقف.
والجمع بين هاتين الروايتين يدل على أن المراد ما هو قريب من ذلك، بحيث لا يكون كثر الارتفاع، فلا ينافي ما يأتي من أمره بجعل ارتفاعه سبعة أذرع فليتأمل.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فقيل له: ألا تسقف؟ فقال: عريش كعريش موسى، خشبات وثمام» أي وقيل للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العرش: يعني السقف.
وفي رواية «لما أراد رسول الله ﷺ بناء المسجد، قال: قيل لي: أي قال له جبريل: عريش كعريش أخيك موسى، سبعة أذرع طولا في السماء، وكان سبعة أذرع بحيث يصيب رأسه ولا نزخرفه، ثم الأمر أعجل من ذلك» أي وفيه أن هذا يقتضي أن موسى كان طوله سبعة أذرع، وهو يخالف ما اشتهر أن قامة موسى كانت أربعين ذراعا، وعصاه كذلك، ووثبته كذلك. وقد جاء «ما أمرت بتشييد المساجد» أي ولعل قوله ذلك كان «لما جمع الأنصار مالا جاؤوا به إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله ابنِ هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد».
وجاء «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». وجاء «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» أي تزخرفها كما تزخرف اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم ولم يكن على السقف كبير طين، إذ كان المطر يكف: أي ينزل منه ماء المطر المخالط للطين عليهم بحيث يمتلىء: أي المسجد طينا، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت فطين: أي جعل عليه طين كثير بحيث لا ينزل عليه المطر فقال: «لا عريش كعريش موسى» فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله، وعند بنائه عمل فيه المسلمون المهاجرون والأنصار، وعمل فيه رسول الله ﷺ بنفسه ليرغب المسلمين في العمل فيه.
قال: فقد جاء «أنه صار ينقل اللبن» أي في ثيابه. وفي رواية «في ردائه حتى اغبرّ صدره الشريف، وصار يقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبرّ ربنا وأطهر»
أي هذا المحمول من اللبن أبرّ وأطهر يا ربنا مما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب، فالحمال بالحاء المهملة بمنى المحمول؛ ووقع في رواية بالجيم جمع جمل، قال بعضهم: وله وجه، والأول أظهر، ولا يحسن هذا الوجه إلا إذا كانت جمال خيبر أنفس من جمال غيرها وصار يقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره
قال البلاذري: وهذا القول لامرأة من الأنصار، وتمامة:
وعافهم من حرّ نار ساعره ** فإنها لكافر وكافره
والذي في البخاري «فاغفر للأنصار والمهاجره» ولعله هو الذي أخرجه عن الوزن كما هو عادته في إنشاد الشعر كما سيأتي: وفي لفظ «فأصلح» وفي لفظ «فأكرم» وفي رواية «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأناصره» وفي رواية «فانصر الأنصار والمهاجرِ» وعن الزهري أنه كان يقول «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأنصار» لأنه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا، وفيه أنه مع قوله: اللهم إن الأجر إلى آخره لا يكون شعرا موزونا، إلا إن حذف أل من اللهم وقال لا هم وكسر همزة فارحم؛ وحينئذ تكون المرأة من الأنصار إنما نطقت بذلك: أي قالت لا هم إلى آخره، وهو هو الذي غيره.
ونقل عن الزهري «أنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال» البيت، ولم أقف على قائله، وسيأتي عن الزهري أنه من إنشائه وسيأتي ما فيه.
وفي كلام بعضهم: قال ابن شهاب: يعني الزهري: لم يبلغنا في الأحاديث أنه تمثل ببيت شعر تام: أي موزون إلا هذه الأبيات، قال ابن عائذ: أي التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد: أي وفيه أن هذا مخالف لما تقدم عن الزهري أنه لم يقل بيتا موزونا إلا قوله هذا الحمال، فلا يحسن أن يفسر كلامه بذلك، على أنه تمثل ببيت شعر تام موزون غير ذلك، فقد جاء «أنه جعل يدور بين قتلى بدر ويقول:
نفلق هاما من رجال أعزة ** علينا وهم كانوا أعقّ وألاّما
وفي المواهب: وقد قيل أن الممتنع عليه إنشاء الشعر لا إنشاده، أي ولذلك جاء «ما أبالي ما أوتيت إن أنا قلت الشعر من قبل نفسي» وفي الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، ولا دليل على منع إنشاده أي الشعر موزونا متمثلا.
أقول: نقل الحافظ الدمياطي عن الزهري أنه كان يقول: إنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله إلا قوله:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبرّ ربنا وأطهر
أي فإنه من قوله، وهو يخالف ما تقدم عنه، ولعله سقط من عبارة الزهري المذكورة شيء، والأصل أنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله، ولم يقل ما قبله تاما: أي موزونا إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، فلا يخالف ما تقدم عنه، وكونه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا هو المنقول عن عائشة «رضي الله ع»، فقد قيل لها: هل كان رسول الله ﷺ يأتي بشيء من الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره وآخره أوله: أي غالبا كان يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، ويقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا أي وذلك قول سحيم بمهملة مصغرا عبد بني الحساس، شاعر مشهور مخضرم * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا * ولما غير ذلك رسول الله ﷺ قال له الصديق «رضي الله ع»: إنما قال الشاعر كذا، فأعاده كالأول، فقال الصديق: أشهد أنك رسول الله {وما علمناه الشعر}. ولما سمع رسول الله ﷺ قول سحيم:
الحمد لله حمدا لا انقطاع له ** فليس إحسانه عنا بمقطوع
قال أحسن وصدق، وقول الصديق أشهد أنك رسول الله{وما علمناه الشعر} يدل على أنه لا يجري الشعر على لسانه موزونا وقد قيل له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
ألم ترياني كلما جئت طارقا ** وجدت بها وإن لم تطيب طيبا
الأصل وجدت بها طيبا وإن لم تطيب.
وكان أبو بكر «رضي الله ع» يقول له: بأبي أنت وأمي يارسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية، والمراد بكون الشعر أبغض إليه الإتيان به، وإلا فقد كان يسمع الشعر كما تقدم ويستنشده، فقد ذكر بعضهم «أنه كان يستنشد الخنساء أخت صخر لأمه، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس، ويومىء بيده».
وقد قال بعضهم: أجمع أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ومن شعرها في أخيها المذكور
أعينيّ جودا ولا تجمدا ** ألا تبكيان لصخر الندى
طويل النجاد عظيم الرماد ** وساد عشيرته أمردا
وللجلال السيوطي كتابه سماه (نزهة الجلساء في أشعار الخنساء) وقولنا في قول عائشة إنه كان يتمثل بالشعر، ويجعل أوله آخره: أي غالبا حتى لا ينافي ما جاء عنها: كان يتمثل بشعر ابن رواحة:
- ويأتيك بالأخبار من لم تزود * وقولها: ما سمعت رسول الله ﷺ ينشد شعرا إلا بيتا واحدا:
تفاءل لما تهوى بكن فلقلما ** يقال لشيء كان إلا تخلفا
وفي الخصائص الكبرى قال المزني: ولم يبلغني أنه أنشد بيتا تاما على رويه، بل إما الصدر كقول لبيد * ألا كل شيء ما خلا الله باطل * أو العجز كقول طرفة * ويأتيك بالأخبار من لم تزود * أي وفيه ما تقدم عن عائشة، وكقوله ـ وقد أنشده أعشى بني مازن أبياتا في ذم النساء، آخر تلك الأبيات وهن من شعر غالب لمن غلب * فجعل يقول: وهن شر غالب لمن غلب، فإن أنشد بيتا كاملا غيره أي غالبا، لما تقدم كبيت العباس بن مرداس، أي فإنه قال يوما للعباس بن مرداس «أرأيت قولك» وفي لفظ «أنت القائل:
أصبح نهبي ونهب العبيـ ** ـد بين الأقرع وعيينة
فقيل له: إنما هو بين عيينة والأقرع، فقال "عليه الصلاة والسلام: إنما هو الأقرع وعيينة، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: بأبي أنت وأمي يا رسول الله» وفي لفظ «أشهد أنك رسول الله، ما أنت بشاعر ولا راويه، ولا ينبغي لك» إنما قال بين عيينة والأقرع: أي أنه لا ينبغي لك أن تكون شاعرا كما قال الله، ولا ينبغي لك أن تكون راويا للشعر: أي بأن تأتي به على وجهه، أي لا يكون شأنك ذلك مباعدة عن الشعر، وكون شأنه ذلك لا ينافي وجوده منه على وجهه في بعض الأحيان فليتأمل.
وعن بعضهم: ما جمع رسول الله ﷺ بيت شعر قط أي موزونا. وقد يقال: لا يخالف هذا ما تقدم عن المواهب، لأنه يجوز أن يكون هذا المنقول عن عائشة.
وعن المزني وعن بعضهم: كان أغلب أحواله كما قدمناه في المنقول عن عائشة ثم رأيته في الامتاع أشار إلى ذلك بقوله: وربما أنشد البيت المستقيم في النادر، وقول المواهب: لا دليل على منع إنشاده متمثلا، أي دائما وأبدا، ويدل لذلك قول الزهري: إنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، وفيه ما علمت ولا يخفى أن الشعر عرف بأنه كلام عربي موزون عن قصد. قال البدر الدمياطي. وقولنا عن قصد يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها: أي من بحور الشعر الستة عشر، وقد ذكرها الجلال السيوطي في نظمه للتخليص، وذلك كما في قوله تعالى {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وكقوله تعالى {وجفان كالجواب وقدور راسيات} وقوله تعالى {نصر من الله وفتح قريب} وككلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود، كما في قول النبي ﷺ:
هل أنت إلا أصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت
أي بناء على تسليم أنه من قوله، وإلا فقد قيل إنه من قول عبدالله ابن رواحة: أي فإن ذلك مذكور في أبيات قالها في غزوة مؤتة وقد صدمت أصبعه فدميت، وذكر بدل «في سبيل الله» في كتاب الله، ولا مانع أن يكون ابن رواحة أدخل ذلك البيت في تلك الأبيات التي صنعها كما تقدم.
وفي كلام ابن دحية: ولا يمرّ على لسان رسول الله ﷺ من ضروب الرجز إلا ضربان منهوك ومشطور؛ فالمنهوك *أنا النبي لا كذب * والمشطور * هل أنت إلا أصبع دميت * وقيل البيت الواحد لا يكون شعرا، على أنه قيل: إن الرجز ليس من الشعر عند الأخفش خلافا للخليل: أي فإن الأخفش احتج على أن الرجز ليس بشعر رادا على الخليل ومن تبعه القائلين بأنه من الشعر حيث قال: لأحتجنّ عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا: لم كان شعرا ما جرى على لسان رسول الله، لأن الله تعالى يقول{وما علمناه الشعر وما ينبغي له} هذا كلامه. قال في النور: والصحيح أنه شعر أي موافقة للخليل، وقد علمت أن ما جرى منه على لسانه ليس شعرا لعدم قصده فليتأمل.
وقد نقل الماوردي من أئمتنا أنه كما يحرم عليه قول الشعر أي إنشاؤه، يحرم عليه روايته أي دون إنشاده متمثلا.
وفرق بعضهم بين الإنشاد والرواية، بأن الرواية يقول: قال فلان كذا؛ وأما إنشاده متمثلا، فلا يقول ذلك هذا كلامه.
وفيه أنه قال لما قيل له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول إلى آخره. وقال للعباس ابن مرداس: أنت القائل إلى آخره. قال ذلك البعض. وكان الفرق بين الرواية والإنشاد أن في قوله قال فلان فيه رفعة للقائل بسبب قوله، وهذا متضمن لرفع شأن الشعر، والمطلوب منه الإعراض عن الشعر من حيث كونه شعرا.
وفيه أن الصديق قال له عند كل من الرواية والإنشاد، لست براوية كما تقدم، وعن الخليل: كان الشعر أحب إليه من كثير من الكلام.
أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن عائشة «رضي الله ع»: كان أبغض الحديث إليه الشعر، لأن المراد بالشعر الذي يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق؛ والذي يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو ونحو ذلك.
ومن ثم قيل: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. وفي الجامع الصغير: الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، الشعر الحسن أحد الجمالين، يكسوه الله المرء المسلم.
وقد قال ابن عباس «رضي الله ع»: إذا خفي عليكم شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، وفي كلام سيدنا عمر «رضي الله ع»: نعم الأبيات من الشعر يقدمها الرجل في صدر حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها لؤم اللئيم.
والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه إنما هو إنشاد الشعر: أي الاتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه، وهذا هو المعنى بقوله تعالى {وما علمناه الشعر}.
فإن فرض وقوع كلام موزون منه لا يكون ذلك شعرا اصطلاحا لعدم قصد وزنه، فليس من الممنوع منه.
والغالب عليه أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله لا يأتي به موزونا، وربما أتى به موزونا.
وادعى بعض الأدباء أنه كان يحسن الشعر: أي يأتي به موزونا قصدا، ولكنه كان لا يتعاطاه: أي لا يقصد الإتيان به موزونا. قال: وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا بأنه كان لا يحسنه، وفيه أن في ذلك تكذيبا للقرآن.
وفي التهذيب للبغوي. من أئمتنا، قيل: كان يحسن الشعر ولا يقوله. والأصح أنه كان لا يحسنه، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون. ثم رأيته في ينبوع الحياة. قال: كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظا لنفسه وماله يعرّض في كلامه بأن النبي ﷺ كان يحسن الشعر، يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله تعالى {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}.
قال بعضهم: والحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق، ومجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخيل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله تعالى نبيه عنه، ولأجل شهر الشعر بالكذب سمَّى أصحاب البرهان القياسات المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية.
وقد جاء التنفير عن إنشاد الشعر في المسجد، قال «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات» والأخذ بعمومه فيه من العسر ما لا يخفى.
وفي العرائس عن ابن عباس «رضي الله ع»، قال: من قال آدم قد قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالإثم، وإن محمدا والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم في النهي عن الشعر سواء.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} اعلم أن الشعر محل الإجمال واللغز والتورية: أي ما رمزنا لمحمد شيئا ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئا آخر، ولا أجملنا له الخطاب بحيث لم يفهمه، وأطال في ذلك. وهل يشكل على ذلك الحروف المقطعة أوائل السور، ولعله «رضي الله ع» لا يرى أن ذلك من المتشابه، أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه والله أعلم.
ولما رأته الصحابة ينقل اللبن بنفسه دأبوا في ذلك، أي في نقل اللبن أي وهو المراد بالصخر في قول بعضهم وجعل أصحابه ينقلون الصخر، أو المراد الصخر الذي يبني به الجدار وجانبا الباب كما تقدم، حتى قال قائلهم:
فلئن قعدنا والنبي يعمل ** لذاك منا العمل المضلل
وجعل يحمل كل رجل لبنة لبنة، وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين، فجعل رسول الله ﷺ ينفض التراب عن رأس عمار ويقول: «يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟ قال: إني أريد الأجر من الله تعالى» وفي رواية «كان يحمل لبنة عن نفسه ولبنة عنه، فمسح رسول الله ﷺ ظهره وقال: يا ابن سمية: للناس أجر، ولك أجران، وآخر زادك أي من الدنيا شربة من لبن» وجاء في حق عمار بن سمية «ما عرض عليه أمران قط إلا اختار «رضي الله ع» الأرشد منهما، إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وتقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة، وتدعوك إلى النار، وعمار يقول: أعوذ بالله». وفي رواية: بالرحمن من الفتن، أي وهذا السياق يدل على أنه لم يستمر ينقل اللبن، بل نقل ذلك في بعض الأوقات.
وفي مسلم وعن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» قال أخبرني من هو خير مني «أن رسول الله ﷺ نظر لعمار حين شغل بحفر الخندق، فجعل يمسح رأس عمار ويقول: ابن سمية تقتلك فئة باغية». وفي رواية: تعيين من أبهمه أبو سعيد وهو أبو قتادة. وزاد في رواية «أن النبي ﷺ لما حفر الخندق وكان الناس يحملون لبنة لبنة» أي من الحجارة التي تقطع «وعمار ناقه من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين، قال لعمار: بؤسا لك يا ابن سمية، تقتلك الفئة الباغية».
ثم رأيت بعضهم قال: يشبه أن يكون ذكر الخندق وهما، أو قالها عند بناء المسجد وقالها يوم الخندق، هذا كلامه: أي ويكون عمار بن ياسر في الخندق قد صار يحمل الحجرين وكان في بناء المسجد يحمل اللبنتين، وكان عثمان بن مظعون «رضي الله ع» رجلا متنظفا أي مترفها، فكان إذا حمل اللبنة يجافي بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب «رضي الله ع» وأنشد يقول: أي مباسطة مع عثمان بن مظعون لأطعنا فيه
لا يستوي من يعمر المساجدا ** يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن التراب حائدا أي وكان عثمان هذا من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني.
وذكر ابن إسحاق قال: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز، هل تمثل به عليّ أو أنشأه؟ فكل يقول: لا أدري، فسمع ذلك الرجز عمار بن ياسر، فصار يرتجز بذلك وهو لا يدري من يعني بذلك، فمرّ يرتجز بذلك على عثمان، فظن عثمان أن عمارا يقصد التعريض به، فقال له عثمان: يا ابن سمية ما أعرفني بمن تعرض به، لتكفنّ أو لأعترضنّ بهذه الحديدة ـ لحديدة كانت معه ـ وجهك، وفي لفظ: والله إني أراني سأعرض هذه العصا بأنفك، لعصا كانت في يده، فسمعه رسول الله ﷺ فغضب وقال «إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني. ووضع يده الشريفة بين عينيه الشريفتين فقال الناس لعمار: قد غضب رسول الله ﷺ: أي ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه، فقال: يا رسول الله مالي ولأصحابك؟ قال: مالك ولهم؟ قال: يريدون قتلي فيحملون لبنة لبنة ويحملون عليّ لبنتين لبنتين» أي وفي لفظ «يحملون عليّ اللبنتين والثلاث» أي ولعله حمل ثلاث لبنات في بعض الأوقات «فأخذ بيده وطاف به المسجد، وجعل يمسح ذفرته من التراب» والذفرة بالذال المعجمة: الشعر الذي جهة القفا، ويقول يا ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة» أي إلى سببها، وهو اتباع الإمام الحق، لأنه كان يدعو إلى اتباع عليّ وطاعته وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك «ويدعونه إلى النار» أي إلى سببها، وهو عدم اتباع عليّ وطاعته واتباع معاوية وطاعته.
وفيه أن تلك الفئة التي كان فيها قاتله كان فيها جمع من الصحابة وهم معذورون بالتأويل الذي ظهر لهم، إلا أن يقال: يدعونه إلى النار باعتبار اعتقاده، وإطلاق البغي عليهم حينئذ باعتبار ذلك، قال بعضهم: وفئة معاوية وإن كانت باغية لكنه بغي لا فسق فيه، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه انتهى، أي وما زاده بعضهم في الحديث: «لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة» قال ابن كثير: من روى هذا فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله ﷺ فإنه لم يقلها، إذ لم تنقل عمن يقبل. وقال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا كذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم، بإسناد معروف وكذلك قوله «عمار جلدة ما بين عينيّ» لا يعرف له إسناد. والذي في الصحيح «تقتل عمارا الفئة الباغية» وعن أبي العالية، سمعت رسول الله ﷺ يقول «قاتل عمار في النار» ومن العجب أن أبا العالية هذا هو القاتل لعمار يوم صفين، فكان أبو العالية مع معاوية، وكان عمار مع عليّ، أي ويقول: إن عمارا لما برز للقتال قال: اللهم لو أعلم رضاك عني أن أوقد نارا فأرمي نفسي فيها لفعلت، أو أغرق نفسي لفعلت، وإني لا أريد قتال هؤلاء إلا لوجهك الكريم، وأنا أرجو أن لا تخيبني وجعلت يده ترتعش على الحربة، أي لأن عمره يومئذٍ كان ثلاثا وسبعين سنة، أي وقد كان جيء له بلبن فضحك، فقيل له: ما يضحكك؟ قال: سمعت رسول الله «آخر شراب تشربه حين تموت لبن» وفي رواية «آخر زادك من الدنيا مشيج من اللبن» ثم نادى: اليوم زخرفت الجنان، وزينت الحور الحسان، اليوم نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.
ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال: قتل عمار، فقال معاوية قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت، أي زلقت في بولك، أنحن قتلناه، إنما قتله من أخرجه، وفي رواية قال له: اسكت، فوالله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، إنما قتله عليّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا.
وذكر أن عليا «رضي الله ع» لما احتج على معاوية «رضي الله ع» بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره، قال إنما قتله من أخرجه من داره يعني بذلك عليا، فقال علي «رضي الله ع» فرسول الله ﷺ إذن قتل حمزة حين أخرجه.
ولما قتل عمار، جرد خزيمة بن ثابت «رضي الله ع» سيفه وقاتل مع علي وكان قبل ذلك اعتزل عن الفريقين، وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقاتل معاوية حتى قتل. وكان ذو الكلاع «رضي الله ع» مع معاوية، وقال له يوما ولعمرو بن العاص: كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر، فقالا له، إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار.
ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى علي أي لأن ذا الكلاع كان ذووه أربعة آلاف أهل بيت، وقال عشرة آلاف.
وكان عبدالله بن بديل بن ورقاء «رضي الله ع» مع علي «رضي الله ع»، فلما قتل عمار أخذ سيفين ولبس درعين، ولم يزل يضرب بسيفه حتى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه، وأزال أصحابه الذين كانوا معه عن موقفهم. ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ ثم قال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ونازع الأمر أهله. ومن ليس قبله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين، فقاتلوا الطغاة الجناة؛ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله، قوموا رحمكم الله.
ولما قتل عمار ندم ابن عمر «رضي الله ع» على عدم نصرة عليّ والمقاتلة معه، وقال عند موته: ما أسفي على شيء ما أسفي على ترك قتال الباغية، قال بعضهم: شهدنا صفين مع علي بن أبي طالب في ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان، وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر، وكان خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله ﷺ شهادته بشهادة رجلين كان مع علي يوم صفين كافا سلاحه حتى قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل، لأنه كان يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول «عمار تقتله الفئة الباغية».
وفي الحديث «من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، مما يزول مع الحق حيث يزول، عمار خلط الإيمان بلحمه ودمه، عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما».
وجاء «أن عمارا دخل على النبي ﷺ فقال: مرحبا بالطيب المطيب إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا» وفي رواية «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه».
وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالدا أميرا، فلما جاء إليه استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن هذا العبد الأجدع يشتمني، فقال رسول الله ﷺ: يا خالد لا تسب عمارا؛ فإن من سب عمارا فقد سب الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله، ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه، فرضي عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع»؛ أن رسول الله ﷺ قال «الحق مع عمار ما لم يغلب عليه دلهة الكبر» وهذا الحديث من أعلام النبوّة، فإن عمارا وقع بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشحناء، وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان، فاستدعاه سعد بن أبي وقاص وكان مريضا، فقال له: ويحك يا أبا اليقظان، كنت فينا من أهل الخير، فما الذي بلغني عنك، من السعي في الفساد بين المسلمين، والتألب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فغضب عمار ونزع عمامته وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه، فقال سعد: إنا الله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك، خلعت ربقة الإسلام من عنقك، وخرجت من الدين عريانا كما ولدتك أمك، فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد، وعند ذلك روى سعد الحديث وقال: قد دله وخرف عمار، وأظهر عمار القوم على ذلك.
قال: وجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره والباب الذي كان يقال له باب عاتكة، وكان يقال له باب الرحمة، والباب الذي يقال له الآن باب جبريل. انتهى، أي وهو الباب الذي كان يدخل منه ويقال له باب عثمان، لأنه كان يلي دار عثمان، وهو الذي يخرج منه الآن إلى البقيع.
أقول: وجعل قبلته إلى بيت المقدس كان قبل أن تحول القبلة، ولما حولت قبلته إلى الكعبة وهذا محمل قوله «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أتيممها أو أؤمها« أي أقصدها. وفي رواية «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة» والله أعلم.
أي وفي كلام بعضهم: ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي، أن موضع المسجد كان ابتاعه تبع لرسول الله ﷺ قبل مبعثه بألف سنة، وإنه لم يزل على ملكه: أي متعلقا به من ذلك العهد على ما دل عليه كتاب تبع.
أقول: سيأتي أن تبعا بنى للنبي دارا بالمدينة إذا قدمها ينزل في تلك الدار، وأنه يقال: إنها دار أبي أيوب.
وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ذلك المربد ودار أبي أيوب مجموعهما تلك الدار، وأن تلك الدار قسمت فكان دار أبي أيوب بعضها وذلك المربد بعضها الآخر؛ وأن الأيدي تداولت سكنى تلك الدار إلى أن صارت سكنا لأبي أيوب، وهذا هو المراد بقول المواهب: تداولت الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب.
لكن قد يقال: لو كانت الدار مذكورة في الكتاب لذكر ذلك لرسول الله، فإن الكتاب كما سيأتي وصل إليه في مكة في أول البعثة ونزوله دار أبي أيوب، وأخذه المربد على الكيفية المذكورة يبعد ذلك، أي أنه ذكر له أمر تلك الدار، والله أعلم.
قال «ومكث يصلي في المسجد بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر، ولما حولت القبلة سد الباب الذي كان في مؤخر المسجد».
وفي كلام بعضهم: لما حولت القبلة لم يبق من الأبواب التي كان يدخل منها إلا الباب الذي يقال له باب جبريل "عليه السلام"، أي فإنه بقي في محله وأما باب الرحمة الذي كان يقال له أيضا باب عاتكة فأخر عن محله.
وسبب وضع الحصا في المسجد أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته ليصلي عليه، فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة قال: «ما أحسن هذا» وفي رواية «ما أحسن هذا البساط».
وقد يعارض هذا ما قيل «إن رسول الله ﷺ أمر أن يحصب المسجد» فمات قبل ذلك فحصبه عمر «رضي الله ع».
أقول: قد يقال لا معارضة، لأنه يجوز أن يكون لما أعجبه ذلك من فعل بعض الصحابة أمره أن يحصب جميع المسجد، لأن الواقع تحصيب بعضه، لكن يشكل على ذلك قول بعضهم من البدع فرش المساجد، إلا أن يراد بالحصر ونحوها لأنه لم يكن زمنه ولا أمر به، ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: أول من فرش الحصر في المساجد عمر بن الخطاب، وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصباء أي في زمنه كما تقدم.
وفي الإحياء: أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة «رضي الله ع»، إذ من عزيز المعروف في زماننا فرش المساجد بالبسط الرقيقة فيها، وقد كان يعدّ فرش البواري في المسجد بدعة؛ كانوا لا يرون أن يكون بينه وبين الأرض حائل، هذا كلام الإحياء: أي والحصباء لا تعد حائلا، وسيأتي أن المسجد بني بعد فتح خيبر، وهي التي عناها خارجة «رضي الله ع» بقوله «ما كثر الناس قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل» ولعلها هي التي أدخل فيها الأرض التي اشتراها عثمان «رضي الله ع» من بعض الأنصار بعشرة آلاف درهم، ثم جاء عثمان إلى النبي، فقال: يا رسول الله أتشتري مني البقعة التي اشتريتها من الأنصار أي التي كانت مجاورة للمسجد «فاشتراها منه ببيت في الجنة».
أي وفي رواية: أن عثمان «رضي الله ع» لما حصر، أي الحصرة الثانية وأشرف على الناس من فوق سطح داره، وقد اشتد به العطش، قال: أهاهنا عليّ؟ قالوا لا، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا لا، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله ﷺ قال «من يبتاع مربد بني فلان» أي لمربد كان مجاورا للمسجد «غفر الله له» فابتعته بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا شك عثمان، وتقدم أنه اشتراها بعشرة آلاف درهم فليتأمل «فأتيت النبي ﷺ فقلت: قد ابتعته، فقال اجعله مسجدنا وأجره لك، قالوا: اللهم نعم، قد كان ذلك» وفي لفظ، أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله ﷺ من يشتري بقعة ابن فلان لبقعة كانت إلى جنب المسجد؟ فقال: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها» وفي لفظ «خير له منها في الجنة» فاشتريتها ووسعتها في المسجد فأنتم الآن تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين، أي وزاد فيه عثمان «رضي الله ع» بعد ذلك زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج كما في البخاري، وعدد عثمان «رضي الله ع» أشياء منها أنه قال «أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن رسول الله ﷺ قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله ﷺ: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين» في لفظ: «ليكون دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» وفي لفظ له «بها مشرب في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، بل وتمنعوني الماء: ألا أحد يسقينا فإني أفطر على الماء الملح وفي رواية: هل فيكم من يبلغ عليا عطشنا فأبلغوه، فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية أي وكانت هذه البئر ركية ليهودي يقال له رومة، يقال إنه أسلم، وكان يبيع المسلمين ماءها، كانت بالعقيق، وتفل فيها فعذب ماؤها: ولما قال رسول الله «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فساومه فيها عثمان فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، وجعل ذلك للمسلمين، وجعل له يوما ولليهودي يوما، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت عليّ زكيتي، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف، وقيل جملة ما اشتراها به خمسة وثلاثون ألف درهم. وقول عثمان جعلتها للغني والفقير وابن السبيل، دليل على أن قوله دلوي فيها كدلاء المسلمين على أنه لم يشترط ذلك بل قصد به التعميم في الموقوف عليه. ولا دليل فيه على جواز أن للواقف أن يشترط له الانتفاع بما وقفه كما زعمه بعضهم.
وكان حصار عثمان «رضي الله ع» شهرين وعشرين يوما. وفي كلام سبط ابن الجوزي: كان الحصار الأول عشرين يوما، والثاني أربعين يوما، وفي يوم من تلك الأيام قال: وددت لو أن رجلا صادقا أخبرني عن أمري هذا: أي من أين أوتيت؟ فقام رجل من الأنصار، فقال أنا أخبرك يا أمير المؤمنين، إنك تطأطأت لهم فركبوك وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك، فقال له: صدقت، اجلس.
وأول من دخل عليه الدار محمد بن أبي بكر، تسور عليه هو وجماعة من الحائط من دار عمرو بن حزم فأخذ بلحيته، فقال له: دعها يا ابن أخي، فوالله لقد كان أبوك يكرمها فاستحى وخرج. وفي رواية: لما أخذ بلحيته هزها وقال له ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن أبي سرح، فقال له: يا ابن أخي أرسل لحيتي، فوالله إنك لتجر لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضي مجلسك هذا مني، فتركه وخرج، ويقال إنه قال له: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك، فقال عثمان: أستنصر بالله عليك وأستعين به، ثم طعن جبينه بمشقص كان في يده، ثم ضربه بعض هؤلاء بالسيف فأتته نائلة زوج عثمان فقطع أصابع يدها الخمس.
وعن ابن الماجشون، عن مالك أن عثمان بعد قتله ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، وقيل أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام لا يستطيع أحد أن يدفنه، فلما كان الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبدالله بن الزبير، وقيل صلى عليه أربعة، وإن ابن الزبير لم يشهد قتل عثمان فاحتملوه، فلما اجتازوا به للمقبرة منعوهم وقالوا: والله لا يدفن في مقابر المسلمين فدفنوه بمحل كان الناس يتوقون أن يدفنوا موتاهم به، فكان يمر به ويقول: سيدفن هنا رجل صالح فيتأسى به الناس في دفن موتاهم به وكان ذلك المحل بستانا فاشتراه عثمان وزاده في البقيع، فكان هو أول من قبر فيه، وحملوه على باب وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعهم به من شدة الخوف، ولما دفنوه عفّوا قبره خوفا عليه أن ينبش. وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب.
وسبب هذه الفتنة أنهم نقموا عليه أمورا:
منها عزلة لأكابر الصحابة ممن ولاه رسول الله، ومنهم من أوصى عمر «رضي الله ع» بأن يبقى على ولايته، وهو أبو موسى الأشعري «رضي الله ع» من البصرة، فإن عمر «رضي الله ع» أوصى بأن يبقى على ولايته، فعزله عثمان وولى ابن خاله عبدالله بن عامر محله، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها ابن أبي سرح وعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وعزل ابن مسعود «رضي الله ع» عنها أيضا وأشخصه إلى المدينة، وعزل سعد بن أبي وقاص «رضي الله ع» عن الكوفة وولى أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله تعالى فاسقا بقوله تعالى {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا} وصار الناس يقولون بئس ما فعل عثمان، عزل اللين الهين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر، ولعل مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه «من ولى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين».
ومنها أنه أدخل عمه الحكم بن أبي العاص والد مروان المدينة وكان يقال له طريد رسول الله ﷺ لعنه، وقد كان طرده إلى الطائف، ومكث بها مدة رسول الله ﷺ ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة فأبى، فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه عثمان في ذلك، فقال له: ويحك يا عثمان، تتكلم في لعين رسول الله ﷺ وطريده وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان ردّه إلى المدينة، فاشتد ذلك على المهاجرين والأنصار، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه، واعتذر عثمان عن ذلك بأن النبي ﷺ كان وعده برده وهو في مرض موته، قال: فشهدت عند أبي بكر، فقال إنك شاهد واحد ولا تقبل شهادة الواحد، ثم قال لي عمر كذلك، فلما صار الأمر إليَّ قضيت بعلمي. أي: وأما عزله لأبي موسى، فإن جند عمله شكوا شحه فعزله خوف الفتنة.
ومنها أنه جاء إلى عثمان أهل مصر يشكون ممن ولاه عليهم وهو ابن أبي سرح وقالوا: كيف توليه على المسلمين وقد أباح رسول الله ﷺ يوم الفتح دمه؟ وتعزل عمرو بن العاص عنا.
وردّ هذا بأن عزله لعمرو إنما كان لكثرة شكايتهم منه، وابن أبي سرح أسلم بعد الفتح وحسن حاله ووجدوه لسياسة الأمر أقوى من عمرو بن العاص، وعزله للمغيرة بأنه أنهي إليه فيه أنه ارتشى فرأى المصلحة في عزله، فلما عادوا إلى مصر قتل ابن أبي سرح رجلا منهم فعادوا إلى عثمان وكلموا أكابر الصحابة كعلي وطلحة بن عبيدالله، فقالوا اعزله عنهم فإنهم يسألونك رجلا مكانه، فقال لهم عثمان: يختارون رجلا أوليه عليهم، فاختاروا محمد بن أبي بكر، فكتب إليه عهده وولاه، فخرج وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار وجماعة من التابعين لينظروا بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما كان محمد بن أبي بكر ومن معه على مسيرة ثلاثة مراحل من المدينة، فإذا هم بغلام أسود على بعير، فقالوا له: ما قضيتك؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، أرسلني إلى عامل مصر، فقال له واحد منهم: هذا عامل مصر يعني محمد بن أبي بكر، فقال: ما هذا أريد، فلما أخبر ذلك الرجل محمد بن أبي بكر استدعاه، فقال له بحضور من معه من المهاجرين والأنصار: أنت غلام من؟ فصار تارة يقول غلام أمير المؤمنين وتارة يقول غلام مروان، فعرفه رجل من القوم وقال: هذا غلام عثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر برسالة، قال: معك كتاب؟ قال لا، ففتشوه فإذا معه كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح في قصبة من رصاص في جوف الإداوة في الماء، ففتح الكتاب، فحضره جميع من معه، فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وفي رواية: انظر فلانا وفلانا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقهم، وعاقب فلانا بكذا وفلانا بكذا، منهم نفر من الصحابة ونفر من التابعين.
وفي رواية: اذبح محمد بن أبي بكر واحش جلده تبنا، وكن على عملك حتى يأتيك كتابي، فلما قرؤوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وقرىء الكتاب على جميع من بالمدينة من الصحابة والتابعين، فما منهم أحد إلا واغتم لذلك، فدخل عليه عليّ مع جماعة من أهل بدر ومعه الكتاب والغلام، فقالوا له: هذا الغلام غلامك؟ قال نعم، قالوا والبعير بعيرك؟ قال نعم، قالوا: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذاالكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به، فقال له عليّ: والخاتم خاتمك، قال نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتابك عليه ختمك وأنت لا تعلم به؟ فحلف بالله ما أمرت بهذا الكتاب ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر، فعرفوا أنه خط مروان لا عثمان، لأن عثمان لا يحلف باطلا: وفي رواية: الخط خط كاتبي، والخاتم خاتمي. وفي رواية: انطلق الغلام بغير أمري وأخذ الجمل بغير علمي، قالوا. فما نقش خاتمك؟ قال: نقش عليه مروان، فسألوه أن يدفع لهم مروان وكان مروان عنده في الدار فأبى، فخرجوا من عنده غضابا، وقالوا لا يبرأ عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونعرف حال الكتاب، فإن كان عثمان أمر به عزلناه، وإن كان مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان، فأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان خوفا عليه من القتل، فحوصر عثمان بسبب ذلك، ومنعوه الماء ووقع ما تقدم.
وذكر ابن الجوزي أنه لما دخل المصريون على عثمان «رضي الله ع» والمصحف في حجره يقرأ فيه، فمدوا إليه أيديهم، فمد يده فضربت فسال الدم. وقيل: وقعت قطرة على {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} فقال: أما إنها أول يد خطت المفصل هذا كلامه: أي وهذا من أعلام النبوة. فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس «رضي الله ع» أن رسول الله ﷺ قال «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على {فسيكفيكهم الله} قال الذهبي: إنه حديث موضوع: أي قوله فيه وأنت تقرأ إلى آخره.
وروي أنه لما حوصر قال: والله ما زينت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا فبم تقتلونني؟ وقال {يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد} يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه، وقال معددا لنعم الله تعالى عليه: ما وضعت يدي على فرجي منذ بايعت رسول الله، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، قال بعضهم: وجملة من أعقته عثمان ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.
وذكر أنه رأى في الليلة التي قتل في يومها المصطفى وأبا بكر وعمر في المنام وقالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة، فلما أصبح دعا بالمصحف فنشره بين يديه ولبس السراويل، ولم يكن لبسها قبل ذلك في الجاهلية ولا في الإسلام خوفا أن يطلع على عورته عند قتله.
وكان من جملة ما انتقم به على عثمان «رضي الله ع»، أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية. وأعطى الحارث عشر ما يباع في السوق: أي سوق المدينة. وأنه جاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنه أنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره، وأنه حمى لنفسه دون إبل الصدقة، وأنه حبس عبدالله بن مسعود وهجره، وحبس عطاء وأبي بن كعب، ونفى أبا ذر إلى الربذة، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة، ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق، وإنه أقطع أكثر أراضي بيت المال، وأن لا يشتري أحد قبل وكيله وأن لا تسير سفينة في البحر إلا في تجارته، وأنه أحرق الصحف التي فيها القرآن، وأنه أتمّ الصلاة بمنى ولم يقصرها لما حج بالناس، وأنه ترك قتل عبيدالله وقد قتل الهرمزان. وقد أجاب عن ذلك كله في الصواعق فراجعه.
وما رواه الزبير بن بكار عن أنس من أنه لم يعمل اللبن ولم يبن به المسجد إلا بعد أربع سنين من الهجرة رأيت ما يرده في تاريخ للمدينة. ونصه: ما روي عن أنس واه أو مؤوّل، والمعروف خلافه والله أعلم.
وعن أبي هريرة «رضي الله ع»: أن رسول الله ﷺ قال «لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي» قال بعضهم: إن صح هذا كان من أعلام نبوته، أي لأنه وسع بعد ذلك: أي وسعه المهدي وذلك في سنة ستين ومائة ثم زاد فيه المأمون في سنة اثنتين ومائتين.
وبه يرد القول بأن المضاعفة خاصة بالموجود حين الإشارة: أي لكن المحافظة على الصلاة فيما كان في عهده أولى.
قال: وبنى حجرتين لعائشة وسودة: أي بناهما مجاورتين للمسجد وملاصقتين له على طرز بناء المسجد من لبن، وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد: أي وقدم رجل من أهل اليمامة عند الشروع في بناء المسجد يقال له طلق من بني حنيفة. فعنه «رضي الله ع» قال: قدمت على النبي ﷺ وهو يبني مسجده والمسلمون يعملون معه فيه، وكنت صاحب علاج الطين، فأخذت المسحاة وخلطت بها الطين، فقال لي: يعني رسول الله «رحم الله امرأ أحسن صنعته» وقال لي «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه» وفي لفظ «إن هذا الحنفي لصاحب طين» وفي لفظ «قربوا اليماني من الطين، فإنه أحسنكم له مسكا، وأشدكم منكبا» وفي لفظ «دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين» وأرسل وهو في بيت أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ليأتيا بأهله: أي والخمسمائة أخذها من أبي بكر ليشتريا بها ما يحتاجان إليه، فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة، وأرسل معهما أبو بكر «رضي الله ع» عبدالله بن الأريقط دليلا أي ببعدين أو ثلاثة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتيه وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد، فأسامة أخو أيمن لأمه، وكان أسامة حب رسول الله ﷺ وابن حبه وابن حاضنته.
عن عائشة «رضي الله ع» «أن أسامة عثر يوما في أسكفة الباب فشج وجهه، فقال لي رسول الله ﷺ: أميطي عنه، قالت عائشة: فكأني تقذرته» أي لأنه كان أسود أفطس «فجعل رسول الله ﷺ يمصه» يعني الدم «ثم يمجه».
وأما بنته زينب التي هي أكبر بناته، فكانت مع زوجها ابن خالتها أبي العاص بن الربيع فمنعها من الهجرة، وسيأتي أنها هاجرت بعد ذلك قبله وتركته على شركه، وبعد أن أسر في بدر وأطلق، وأمره بأن يخلي سبيلها، ففعل ثم لما أسلم ردها إليه.
وأما بنته رقية، فتقدم أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان، وخرج مع فاطمة ومن ذكر معها عبدالله بن أبي بكر، ومعه عيال أبي بكر فيهم زوجته أم رومان وعائشة وأختها أسماء زوج الزبير: أي وهي حامل بابنها عبدالله بن الزبير، وعن عائشة «رضي الله ع» «أنها كانت هي وأمها على بعير في محفة فنفر البعير، قالت: فصارت أمي تقول: وابنتاه واعروساه، فمسك البعير وسلم الله» وفي رواية عن عائشة «رضي الله ع»: «لما صارت أمي تقول: واعروساه وابنتاه سمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه، فوقف باذن الله، وسلمنا الله» وأم رومان ولدت لأبي بكر عائشة وعبد الرحمن «رضي الله ع»؛ وكانت قبل أبي بكر تحت عبدالله بن الحارث فولدت له الطفيل، قال في حقها «من يسره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان» وتوفيت في حياة رسول الله. ماتت سنة ست من الهجرة «ونزل رسول الله ﷺ في قبرها، وقال: اللهم إنه لم يخف عليك ما لاقت أم رومان فيك وفي رسولك ».
وعورض القول بموتها في حياة رسول الله ﷺ بما في البخاري عن مسروق قال: سألت أم رومان وهي أم عائشة «رضي الله ع»، ومسروق ولد بعد موت النبي ﷺ بلا خلاف، وما في البخاري حديث صحيح مقدم على ما ذكره أهل السير من موتها في حياته.
وفي البخاري عن أسماء «فنزلت بقباء فولدته بها» يعني ولدها عبدالله بن الزبير/ «ثم أتيت النبي ﷺ فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله، ثم حنكه بتمرة» أي بتلك التمرة. ففي المواهب «وحنكه بها، ثم دعا له وبرك عليه» وهو أوّل مولود ولد في الإسلام أي للمهاجرين.
وفيه أن أسماء إنما قدمت المدينة: أي إلى قباء بعد تحوله من قباء، ويدل له قول بعضهم: قدم آل أبي بكر من مكة وهو يبني مسجده، وأنزلهم أبو بكر في السنح، إلا أن يقال: يجوز أن يكون جاء إلى قباء بعد ذلك فقد قال بعضهم: وهذا السياق يدل على أن عبدالله بن الزبير ولد في السنة الأولى لا في الثانية كما قاله الواحدي وتبعه غيره، فقال: ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة ففرح به المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم مولود، وهذا ربما يؤيد القول الثاني، إلا أن يقال: يجوز أن يكون عبدالله مكث في بطنها المدة المذكورة.
فقد ذكر أن مالكا «رضي الله ع» مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين. وفي المحاضرات للجلال السيوطي أن مالكا مكث في بطن أمه ثلاث سنين، وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة بحمل أربع سنين، وحينئذ يجوز أن تكون سيدتنا أسماء جاءت إلى قباء فولدت سيدنا عبدالله، وصادف مجيئه إلى قباء في ذلك اليوم، وقد سماه عبدالله، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق «رضي الله ع».
وروي «أنه جاء إلى النبي ﷺ وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله، وقد أمره والده الزبير بذلك فتبسم رسول الله ﷺ وبايعه» وكون آل أبي بكر نزلوا عند مجيئهم المدينة في السنح لا ينافي كون أسماء نزلت بقباء وولدت بها لأنه يجوز أن يكون نزول أسماء في السنح بعد نزولها في قباء، قصدا لراحتها لكونها كانت حاملا حتى وضعت، والسياق المتقدم يدل على ذلك، وكون عبدالله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة كذلك عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، أول مولود ولد للمهاجرين بالحبشة، ويقال له عبدالله الجواد.
واتفق أن النجاشي ولد له مولود يوم عبدالله هذا، فأرسل إلى جعفر يقول له: كيف سميت ابنك، فقال: سميته عبدالله، فسمى النجاشي ابنه عبدالله وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبدالله المذكور، فكانا يتراسلان بتلك الأخوة من الرضاع.
وأوّل مولود ولد للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، وقيل النعمان بن بشير. وذكر أن أم أسماء قدمت المدينة وهي مشركة على أسماء بهدية، فحجبتها أسماء وردت عليها هديتها، فسألت عائشة «رضي الله ع» عن ذلك، فأمر أسماء أن تؤوي أمها وتقبل هديتها.
قيل وفي ذلك وفي إرسال عبد الرحمن بن أبي بكر وهو بمكة على دينه قبل أن يسلم إلى أبيه يسأله النفقة فأبى أبوه أن ينفق عليه أنزل الله الاذن في الإنفاق على الكفار.
وقال أبو أيوب الأنصاري «لما نزل رسول الله ﷺ في بيتي نزل في أسفل البيت وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون في العلو وتكون تحتي، فأظهر أنت وكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: يا أبا أيوب أرفق بنا»: أي السفل أرفق بنا «وبمن يغشانا» أي وفي لفظ «إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت، قال أبو أيوب: فانكسر حب لنا فيه ماء» والحب بضم الحاء المهملة: الجرة الكبيرة «فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاأن يقطر منه على رسول الله ﷺ شيء فيؤذيه، ولم أزل أتضرع للنبي حتى تحول في العلو» أي وفي رواية عن أبي أيوب قال «نزل عليّ رسول الله ﷺ حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب، فقلت لها: رسول الله ﷺ أحق بالعلو منا، ينتثر التراب عليه من وطء أقدامنا، وتنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي» وفي رواية «ينزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل، فما بت تلك الليلة أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب قال: لم؟ يا أبا أيوب؛ قلت: كنت أحق بالعلو منا، ينزل عليك الملائكة، وينزل عليك الوحي والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا» أي وعن أفلح مولى أبي أيوب «أن رسول الله ﷺ لما نزل أسفل وأبو أيوب في العلو انتبه أبو أيوب ذات ليلة؛ فقال: نمشي فوق رسول الله ﷺ فباتا في جانب، فلما أصبح» الحديث.
وعند نزوله في بيت أبي أيوب صارت تأتي إليه جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد به زرارة كل ليلة، أي وكانت جفنة سعد بن عبادة؛ بعد ذلك تدور معه في بيوت أزواجه، فقد جاء «كانت لرسول الله ﷺ من سعد بن عبادة جفنة من ثريد» أي عليه لحم أو خبز في لبن أو في سمن أو في عسل أو بخل وزيت، في كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه، وصار وهو في بيت أبي أيوب يأتي إليه الطعام من غيرهما» أي فقد جاء «وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله ﷺ الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون، حتى تحول رسول الله ﷺ من منزل أبي أيوب» أي وفي لفظ «وجعل بنو النجار يتناوبون في حمل الطعام إليه مقامه في منزل أبي أيوب «رضي الله ع» وهو تسعة أشهر. وأول طعام جيء به إليه في دار أبي أيوب قصعة أم زيد بن ثابت».
فعن زيد بن ثابت «أول هدية دخلت على رسول الله ﷺ في بيت أبي أيوب قصعة أرسلتني بها أمي إليه فيها ثريد خبز برّ بسمن ولبن فوضعتها بين يديه، وقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال له: بارك الله فيها» أي وفي رواية «بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا» قال زيد: فلم أرم الباب: أي أرده حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم» أي بفتح العين عظم عليه لحم، فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين. وقد جاء «كان أحب الطعام إلى رسول الله ﷺ الثريد» ويقال له الثفل بالمثلثة والفاء.
ولما بني المسجد جعل في المسجد محلا مظللا يأوي إليه المساكين يسمى الصفَّة، وكان أهله يسمون أهل الصفة، وكان في وقت العشاء يفرقهم على أصحابه ويتعشى معه منهم طائفة.
وظاهر السياق أن ذلك: أي المحل فعل في زمن بناء المسجد وآوى إليه المساكين من حينئذ، لكن روى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: «لما كثر المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم زاد ولا مأوى، أنزلهم رسول الله ﷺ المسجد، وسماهم أصحاب الصفة؛ وكان يجالسهم ويأنس بهم، أي وكان إذا صلى أتاهم فوقف عليهم فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة».
أقول: ذكر «أن المسجد كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال له رسول الله ﷺ نوّرت مسجدنا نوّر الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة لأنكحتكها».
هذا، وفي كلام بعضهم: أول من جعل في المسجد المصابيح عمر بن الخطاب «رضي الله ع». ويوافقه قول بعضهم: والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها: أي المساجد. وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب «رضي الله ع»، فإنه لما جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح علق القناديل، فلما رآها عليّ تزهر قال: نورت مساجدنا نور الله قبرك يا ابن الخطاب، ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة، فلا يخالف ما تقدم عن تميم الداري.
ثم رأيت في أسد الغابة عن سراج غلام تميم الداري قال «قدمنا على رسول الله ﷺ ونحن خمسة غلمان لتميم الداري، فأمرني يعني سيده فأسرجت المسجد بقنديل فيه زيت وكانوا لا يسرجون فيه إلا بسعف النخل، فقال رسول الله ﷺ: من أسرج مسجدنا؟ فقال تميم: غلامي هذا، فقال: ما اسمه؟ فقال فتح. فقال رسول الله ﷺ بل اسمه سراج، فسماني رسول الله ﷺ سراجا».
وعن بعضهم قال: أمرني المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في المساجد، فلم أدر ما أكتب، لأنه شيء لم أسبق إليه، فأريت في المنام أكتب، فإن فيها أنسا للمجتهدين، ونفيا لبيوت الله عن وحشة الظلم، فانتبهت وكتبت بذلك. قال بعضهم: لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان، ويقال لها ليلة الوقود ينبغي أن يكون ذلك كتزويق المساجد ونقشها. وقد كرهه بعضهم والله أعلم.
قال: وذكر ابن إسحاق في كتاب المبدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن تبع بن حسان الحميري، هو تبع الأول: أي الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وتبع بلغة اليمن: الملك المتبوع، ويقال له الرئيس لأنه رأس الناس بما أوسعهم من العطاء وقسم فيهم من الغنائم، وكان أول من غنم.
ولما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح كما تقدم، وتقدم أنه بعد ذلك كسا الكعبة، وبعد ذلك اجتاز بيثرب، وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فأخبر أن أربعمائة رجل من أتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في ذلك؟ فقالوا: إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها، فبنى فيها لكل واحد منهم دارا، واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطاهم عطاء جزيلا، وكتب كتابا وختمه ودفعه إلى عالم عظيم منهم، وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد إن أدركه، وفي ذلك الكتاب، أنه آمن به وعلى دينه، وبنى دار له ينزلها إذا قدم تلك البلد ويقال إنها دار أبي أيوب. أي كما تقدم، وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، أي فهو لم ينزل إلا داره أي على ما تقدم.
ولما خرج رسول الله ﷺ: أي دعا إلى الإسلام أرسلوا إليه ذلك الكتاب مع شخص يسمى أباليلى، فلما رآه رسول الله ﷺ قال له: أنت أبو ليلى الذي معك كتاب تبع الأول؟ فقال له أبو ليلى: من أنت؟ قال: أنا محمد، هات الكتاب، فلما قرأه: أي قرىء عليه. وذكر بعضهم: أن مضمون الكتاب. أما بعد يا محمد، فإني آمنت بك وبربك ورب كل شيء، وبكل ما جاءك من ربك من شرائع الإسلام والإيمان. وإني قلت ذلك، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أصل الأولين، وبايعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله، وأنا على ملتك وملة إبراهيم. وختم الكتاب وتلا: أي قرأ عليه {لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله} فقد قرأ هذا قبل نزوله: وكتب عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين ورسول رب العالمين، من اتبع، لأول حمير، أمانة الله في يد من وقع هذا الكتاب في يده، إلى أن يدفعه إلى صاحبه ودفعه إلى رأس العلماء المذكورين. ثم وصل الكتاب المذكور إلى النبي ﷺ على يد بعض ولد العالم المذكور حين هاجر وهو بين مكة والمدينة، وسياق الرواية الأولى يدل على أن ذلك كان في أول البعثة، وبعد قراءة الكتاب عليه قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات» وكان بين تبع هذا، أي بين قوله إنه آمن به وعلى دينه، وبين مولد النبي ﷺ ألف سنة سواء، أي وتقدم أنه ابتاع المحل الذي بناه دارا له قبل مبعثه بألف سنة فليتأمل. ويقال إن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء ا هـ.
أقول: قد علمت أن نزوله دار أبي أيوب على الوجه المتقدم، وأخذه المربد على الكيفية المتقدمة مع وصول الكتاب إليه أول البعثة أو بين مكة والمدينة وهو مهاجر إلى المدينة يبعد هذا.
وفيه أيضا: أن الذي في (التنوير) لابن دحية أن هذا تبع الأوسط، وأنه الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه محمد.
أي فقد ذكر بعضهم أن تبعا أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود، فقال له رجل منهم بلغ من العمر مائتين وخمسين سنة: الملك أجل من أن يستخفه غضب، وأمره أعظم أن يضيق عنا حلمه أو نحرم صفحه، مع أن هذه البلدة مهاجر نبي يبعث بدين إبراهيم. فكتب كتابا وذكر فيه شعرا، فكانوا يتوارثون ذلك الكتاب إلى أن هاجر النبي، فأدوه إليه. ويقال إن الكتاب كان عند أبي أيوب الأنصاري وكان ذلك قبل مبعثه بسبعمائة عام.
وفي (التنوير) أيضا أن ابن أبي الدنيا ذكر أنه حفر قبر بصنعاء قبل الإسلام، فوجد فيه امرأتان لم يبليا، وعهد رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع، ما تتاوهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وجاء «لا تسبوا تبعا، فإنه كان مؤمنا». . وفي رواية «لا تسبوا تبعا الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة» قال السهيلي: وكذا تبع الأول كان مؤمنا بالنبي، وقال شعرا ينبىء فيه بمبعثه، والله أعلم.
وكانت المدينة في الجاهلية معروفة بالوباء: أي الحمى، وكان إذا أشرف على واديها أحد ونهق نهيق الحمار لا يضره الوباء. وفي لفظ: كان إذا دخلها غريب في الجاهلية يقال له إن أردت السلامة من الوباء فانهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك سلم.
وفي حياة الحيوان: كانوا في الجاهلية إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار: أي نهقوا عشرة أصوات في طلق واحد قبل أن يدخلوها، وكانوا يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء.
ولما قدم المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى{ويل للمطففين} الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
ولما قدم المدينة وأصحابه أصابت أصحابه بالحمى. وفي لفظ: استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم، فمرض كثير منهم وضعفوا، حتى كانوا يصلون من قعود، فرآهم، فقال: «اعلموا: أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا المشقة وصلوا قياما».
قالت عائشة «رضي الله ع» «قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، ولما حصلت لها الحمى قال لها رسول الله ﷺ: مالي أراك هكذا؟ قالت: بأبي أنت وأمي هذه الحمى وسبتها، فقال: لا تسبيها فإنها مأمورة، ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله تعالى عنك، قالت: فعلمني، قال، قولي: اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق، من شدة الحريق؛ يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلها آخر، فقالتها، فذهبت عنها».
وعن علي «رضي الله ع» «لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فأصابنا بها وعك»: أي حمى، ومن جملة من أصابته الحمى سيدنا أبو بكر «رضي الله ع» ومولياه عامر بن فهيرة وبلال: أي وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد:
فكل امرىء مصبح في أهله ** والموت أدنى من شراك نعله
أي وهذا من شعر حنظلة بن يسار، بناء على الصحيح أن الرجز يقال له شعر كما تقدم؛ وليس من شعر أبي بكر.
فعن عائشة «رضي الله ع» أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أي ولا في الجاهلية كما في رواية عنها: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام: أي لم ينشئه حتى مات، أي وهذا ربما ينافي ما في الينبوع: ليس عمل الشعر رذيلة، قد كان الصديق وعمر وعلي رضوان الله تعالى عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبي بكر وعمر. وما تقدم عن عائشة معارض بظاهر ما روي عن أنس بن مالك «رضي الله ع» قال: كان أبو بكر الصديق «رضي الله ع» إذا رأى النبي ﷺ يقول:
أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظلام
إلا أن يحمل قولها على أنها لما تسمع ذلك منه بناء على أن ذلك من إنشاء الصديق. وكان بلال إذا أقلعت عنه الحُمى يرفع عقيرته: أي صوته يقول متشوقا إلى مكة
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة ** وهل يبدون لي شامة وطفيل
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، وأراد بلال بالوادي وادي مكة. والإذخر: نبت معروف. وجليل: بالجيم نبت ضعيف، وشامة وطفيل: جبلان بقرب مكة، أي وفي رواية * وهل يبدون لي عامر وطفيل * وعامر أيضا: جبل من جبال مكة.
وفي شرح البخاري للخطابي: كنت أحسب شامة وطفيلا جبلين حتى مررت بهما، فإذا هما عينان من ماء هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن تكون العينان بقرب الجبلين المذكورين، فأطلق اسم كل منهما على الآخرين، ولعل هذا اللعن من بلال كان قبل النهي عن لعن المعين، لأنه لا يجوز لعن الشخص المعين على الراجح، إلا إن علم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب دون الكافر الحيّ، لأنه يحتمل أن يختم له بالحسنى فيموت على الإسلام، لأن اللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى المستلزم لليأس منها. وأما اللعن على الوصف كآكل الربا فجائز أو أن ذلك محمول في ذلك على الإهانة والطرد عن مواطن الكرامة لا على الطرد عن رحمة الله تعالى الذي هو حقيقة اللعن، وكان كل من أبي بكر وعامر وبلال في بيت واحد. قالت عائشة «رضي الله ع»: فاستأذنت رسول الله ﷺ في عيادتهم، فدخلت عليهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فإذا بهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من شدة الوعك فسلمت عليهم، أي وقالت لأبيها: يا أبت كيف أصبحت؟ فأنشدها الشعر المتقدم، قالت: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي، قالت: فقلت لعامر بن فهيرة: كيف تجدك؟ فقال:
فإني وجدت الموت قبل ذوقه ** إن الجبان خنقه من فرقه
قالت: فقلت: هذا والله لا يدري ما يقول، قالت: ثم قلت لبلال: كيف أصبحت فإذا هو لا يعقل. وفي رواية فأنشدها البيتين، قالت: وذكرت حالهم للنبي، وقلت: إنهم يهذون ولا يعقلون من شدة الحمى.
أي وهذا السياق يخالف ما في السيرة الهشامية أن الصديق «رضي الله ع» لما قدم المدينة أخذته الحمى هو وعامر بن فهيرة وبلال، إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أنها أخذتهم أولا وأقلعت عنهم ثم عادت عليهم بعد دخوله بعائشة، أو أن عائشة استأذنته في ذلك وذكرت له حالهم قبل دخوله بها لأنها كانت معقودا عليها، ولعل الصديق كان في غير بيت أم عائشة.
والذي في تاريخ الأزرقي عن عائشة «رضي الله ع» قالت «لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها، فعاد النبي ﷺ أبا بكر «رضي الله ع»، فقال: كيف تجدك؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على بلال فقال: كيف تجدك يا بلال؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال: كيف تجدك يا عامر؟ فأنشده ماتقدم» ولا مانع من التعدد فليتأمل.
وحين ذكرت عائشة «رضي الله ع» له ذلك نظر إلى السماء، أي لأنها قبلة الدعاء وقال «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد» وفي رواية «وأشدّ وبارك لنا في مدّها وصاعها، وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة» أي الجحفة كما في رواية. وهي قرية قريبة من رابع محل إحرام من يجيء من جهة مصر حاجا، وكان سكانها إذ ذاك يهود. ودعاؤه أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حبّ الوطن والحنين إليه، ومن ثم جاء في حديث «أن عائشة «رضي الله ع» سألت رجلا بحضور رسول الله ﷺ قدم المدينة من مكة، فقالت له: كيف تركت مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله ﷺ وقال: «لا تشوقنا يا فلان» وفي رواية «دع القلوب تقر».
أقول: ودعاؤه بنقل الحمى كان في آخر الأمر، وأما عند قدومه المدينة فخير بين الطاعون والحمى: أي بقائها، فأمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام كما جاء في بعض الأحاديث «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام» وقولنا أي بقائها ردّ لما قد يتوهم من الحديث أن الحمى لم تكن بالمدينة قبل قدومه إليها، وإنما اختار الحمى على الطاعون لأنه كان حينئذ في قلة من أصحابه، فاختار بقاء الحمى لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون. ثم لما أحتاج للجهاد وأذن له في القتال ووجد الحمى تضعف أجساد الذين يقاتلون دعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله تعالى بعد أن كانت بخلاف ذلك، كذا قيل فليتأمل.
فإنه يقتضي أن الحمى لما نقلت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وهو الموافق لما يأتي عن الخصائص، وحين نقلت الحمى إلى الجحفة صارت الجحفة لا يدخلها أحد إلا حم، بل قيل إذا مر بها الطائر حم.
واستشكل حينئذ جعلها ميقاتا للإحرام، وقد علم من قواعد الشرع أنه لا يأمر بما فيه ضرر.
وأجيب بأن الحمى انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها، كذا قيل فليتأمل.
وعنه قال «رأيت» أي في النوم «امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة».
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: «وصرف الحمى عنها: يعني المدينة أول ما قدمها ونقلها إلى الجحفة، ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره إياها لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار».
فقد جاء «إن الحمى جاءت إلى رسول الله ﷺ وقالت: أنا أم ملدم» وفي رواية «أنا الحمى، أبري اللحم، وأشرب الدم، قال: لا مرحبا بك ولا أهلا».
وفيه أنه تقدم «أنه نهى عائشة عن سبها، فقالت له: أمضي إلى أحب قومك أو أحب أصحابك إليك، فقال: اذهبي للأنصار، فذهبت إليهم فصرعتهم فقالوا له: ادع لنا بالشفاء، فقال: إن شئتم دعوت الله «عَزَّ وجَلّ» يكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم» وفي رواية «كانت لكم طهورا، فقالوا بلى دعها يا رسول الله» ولعله هذا كان لطائفة من الأنصار، فلا ينافي ما جاء «أن الأنصار لما شكوا له الحمى وقد مكثت عليهم ستة أيام بليالها دعا لهم بالشفاء، وصار يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية» وهذا الذي في الخصائص يدل على أن الحمى لما ذهبت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وأنها بعد ذلك عادت إلى المدينة باختيار منه.
والذي نقله هو عن الحافظ ابن حجر أن الحمى كانت تصيب من أقام بالمدينة من أهلها وغيرهم، فارتفعت بالدعاء عن أهلها إلا النادر ومن لا يألف هواها.
وقد جاء «وإن حمى ليلة كفارة سنة، ومن حم يوما كانت له براءة من النار، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
والذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن جابر «استأذنت الحمى على رسول الله ﷺ فقال: من هذه؟ قالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فشكوا إليه، فقال: إن شئتم دعوت الله تعالى ليكشفها وإن شئتم تكون لكم طهورا، قالوا أو يفعل؟ قال نعم، قالوا فدعها» والله أعلم.
ثم دعا بقوله «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة وفي رواية «واجعل مع البركة بركتين» وجاء «أنهم شكوا له سرعة فناء طعامهم، فقال لهم: قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» قيل معناه تصغير الأرغفة، ودعا لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال «اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ملئها في غيرها من البلاد» أي ولعل الدعاء بذلك ليس خاصا بتلك الأغنام الموجودة في زمنه.
ويدل لذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص الصغرى: مما اختصت به المدينة أن غبارها يطفىء الجذام، ونصف أكراش الغنم فيها مثل ملئها في غيرها من البلاد، والكرش كالمعدة للإنسان.
وكما صينت المدينة عن الطاعون بإرساله إلى الشام صينت عن الدجال. روى الشيخان عن أبي هريرة «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «على أنقاب المدينة» أي على أبوابها «ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفي رواية «لها»: أي المدينة «سبعة أبواب على كل باب ملك».
فإن قيل: كيف مدحت المدينة بعدم دخول الطاعون، وكيف أرسله إلى الشام مع أنه شهادة؟ .
وأجيب بأنه إنما أرسله إلى الشام لما تقدم، وصينت عنه بعد انتفاء ما تقدم، لأن سببه طعن كفار الجن وشياطينهم، فمنع من المدينة احتراما لها، ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
ويقال إنه وقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف لما هدم السيل الكعبة: أي الجانب الذي جهة الحجر. قال بعضهم: فمن حين انهدم وجد الطاعون بمكة، واستمر إلى أن أقاموا الأخشاب موضع المنهدم وجعلوا عليها الستر، فعند ذلك ارتفع الطاعون، كذا أخبر بعض الثقات من أهل مكة.
وكونه لم يتفق دخول الطاعون في المدينة في زمن من الأزمنة يخالفه قول بعضهم: وفي السنة السادسة من الهجرة وقع طاعون في المدينة أفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله «إذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها، وإن سمعتم به في أرض فلا تقربوها».
ويروى «أنه لما قدم المدينة رفع يديه وهو على المنبر وقال: اللهم انقل عنها الوباء ثلاثا» أي وفيه أن هذا قد يخالف ما سبق من أن هذا كان في آخرة الأمر لا عند قدومه المدينة، إلا أن يحمل على أن قدومه كان من سفر لا للهجرة.
وفي الحديث «سيأتي على الناس زمان يلتمسون فيه الرخاء فيحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون؛ لا يلبث فيها أخذ فيصبر للأوائها وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا وشفيعا».
وفي مسلم: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا وكنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» أي شفيعا للعاصي وشهيدا للطائع. واللأواء بالمد الجوع.
وعن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإني أشفع لمن يموت بها، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى ذوب الملح في الماء» وفي رواية «أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» أي وفي رواية في مسلم «تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» وتقدم أن هذا ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، وفي رواية «مكة والمدينة ينفيان الذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله «عَزَّ وجَلّ» وعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» أي وبهذا الحديث تمسك من جوّز اللعن على يزيد، لما تقدم عنه في إباحة المدينة في وقعة الحرة.
وردّ بأنه لا دلالة فيه على جواز لعن يزيد باسمه، والكلام إنما هو فيه، وإنما يدل على جواز لعنه بالوصف وهو «من أخاف أهل المدينة» وليس الكلام فيه، والفرق بين المقامين واضح كما علمت.
وجاء «أهل المدينة جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر من حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال، أي وهي عصارة أهل النار» وفي لفظ «من أخاف هذا الحيّ من الأنصار، فقد أخاف ما بين هذين ووضع يده على جنبيه» وقيل لها طيبة لطيب العيش بها، ولأن للعطر أي الطيب بها رائحة لا توجد فيه في غيرها.
ومن خصائصها أن ترابها شفاء من الجذام كما تقدم. زاد بعضهم: ومن البرص، بل من كل داء، وعجوتها شفاء من السم.
أي وفي الحديث «تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة، وإن خرابها يكون من الجوع، وإن خراب اليمن يكون من الجراد» أي وقد دعا على الجراد، فقال «اللهم أهلك الجراد، واقتل كباره، وأهلك صغاره واقطع دابره، وخذ بأفواهها عن مواشينا وارزقنا إنك سميع الدعاء» وفي مسلم عن أبي هريرة «رضي الله ع» «كان يؤتى بأول التمر فيقول: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارها، وفي مُدِّنا، وفي صاعنا بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وإني عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه».
ثم بنى بقية الحُجَر التسع عند الحاجة إليها، أي وهذا هو الموافق لما سبق أن بعضها بني مع المسجد وهي حجرة سودة وحجرة عائشة «رضي الله ع» كما تقدم.
وفي كلام أئمتنا أن بيوته كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا عن المسجد، وكلام الأصل يقتضي أنها بنيت كلها في السنة الأولى من الهجرة حيث قال: وفيها: أي السنة الأولى بني مسجده ومساكنه: أي وخط للمهاجرين في كل أرض ليست لأحد وفيما وهبته له الأنصار من خططها. وأقام قوم منهم ممن لم يمكنه البناء بقباء عند من نزلوا عليه بها.
قال عبدالله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي ﷺ حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك: أي بعد موت أزواجه. قال بعضهم: حضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ بادخالها في المسجد، ، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم: أي وكانت تسعة: أربعة مبنية باللبن، أي وسقفها من جريد النخل مطين بالطين، ولها حجر من جريد، أي غير بيت أم سلمة فإنها جعلت حجرتها بناء.
وكان في غزوة دومة الجندل، فلما قدم دخل عليه أول نسائه فقال لها: ما هذا البنيان؟ قالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال «وإن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان» وعن علي «رضي الله ع» «إن لله بقاعا تسمى المنتقمات، فإذا اكتسب الرجل المال من حرام سلط الله عليه الماء والطين، ثم لا يمتعه به» أي وكانت تلك الحجر التي من الجريد مغشاة من خارج بمسوح الشعر، وخمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر بها، على أبوابها ستور من مسوح الشعر، أي وهي التي يقال لها البلانس ذرع الستر فوجد ثلاثة أذرع في ذراع.
هذا، وفي كلام السهيلي: كانت مساكنه مبنية من جريد عليه. طين، وبعضها من حجارة موضوعة وسقوفها كلها من جريد، وكانت حجرته "عليه الصلاة والسلام أكسية من شعر مربوطة بخشب من عرعر، هذا كلامه.
قال بعضهم: وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، يرضون ما رضي الله تعالى لنبيه ومفاتيح خزائن الأرض بيده، أي فإن ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في البنيان.
وجاء «أنه خرج إلى بعض طرق المدينة فرأى فيه مشرعة، فقال: ما هذه؟ قالوا: هذه لرجل من الأنصار، فجاء ذلك الرجل فسم على النبي ﷺ فأعرض عنه فعل ذلك مرارا، فاعلم بالقصة فهدمها الرجل».
وعن الحسن البصري قال: كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي ﷺ في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي، أي لأن الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب يقينا، وكان ابنا لمولاة لأم سلمة زوج النبي ﷺ اسمها خيرة، وكانت أم سلمة تخرجه للصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر «رضي الله ع» فدعا له بقوله: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، وكان والده من جملة السبي الذي سباه خالد في خلافة الصديق من الفرس.
وروى عن عليّ بن أبي طالب «رضي الله ع»، لأن عمره كان قبل أن يخرج عليّ من المدينة إلى الكوفة، وذلك بعد قتل عثمان أربع عشرة سنة. قيل له: يا أبا سعيد: إنك تقول قال رسول الله ﷺ وإنك لم تدركه؟ فقال لذلك السائل: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله ﷺ فهو عن علي بن أبي طالب «رضي الله ع»، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا، أي خوفا من الحجاج.
وقد أخرج له عن عليّ جماعة من الحفاظ كالترمذي والنسائي والحاكم والدارقطني وأبو نعيم ما بين حسن وصحيح، وبه يردّ قول من أنكر أنه لم يسمع من علي، لأن المثبت مقدم على النافي، أو هو محمول على أنه لم يسمع من علي بعد خروج علي من المدينة.
قال بعضهم: وتلك الفصاحة التي كانت عند الحسن والحكمة من قطرات لبن شربها من ثدي أم المؤمنين أم سلمة «رضي الله ع»، فإن أمه ربما غابت فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فربما در عليه ثديها فشربه.
قال بعضهم: كان الحسن البصري أجمل أهل البصرة. وفي كلام ابن كثير: كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا، هذا كلامه. وكان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له.
وعن الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أخذ رسول الله ﷺ أهلا تحول له حارثة عن منزل حتى صارت منازله كلها لرسول الله، أي وهذا يخالف ما تقدم عن الأصل، من أن مساكنه بنيت في السنة الأولى.
ومات عثمان بن مظعون، وهو أخوه من الرضاعة «وأمر أن يرش قبره بالماء، ووضع حجرا عند رأس القبر، أي بعد أن أمر رجلا أن يأتيه بحجر، فأخذ الرجل حجرا ضعف عن حمله، فقام إليه رسول الله ﷺ فحسر عن ذراعيه ثم حمله ووضعه في المحل المذكور، وقال: أتعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» أي ومن ثم دفن ولده إبراهيم عند رجليه.
وعن عائشة «رضي الله ع»: «أنه قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: ورأيت دموع رسول الله ﷺ على خدي عثمان بن مظعون.
أي وفي الاستيعاب «أنه مات بعد شهوده بدرا، فلما غسل وكفن قبله رسول الله ﷺ بين عينيه» ولا معارضة بينه وبين خبر عائشة «رضي الله ع» السابق كما لا يخفى «وجعل النساء يبكين، فجعل عمر يسكتهنّ، فقال رسول الله ﷺ: مهلا يا عمر، ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ومهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وقالت امرأته، وهي خولة بنت حكيم، وقيل أمّ العلاء الأنصارية وكان نزل عليها، وقيل أم خارجة بن زيد: طبت، هنيئا لك الجنة أبا السائب، فنظر إليها رسول الله ﷺ نظرة غضب وقال: وما يدريك؟ فقالت: يا رسول الله مارسك وصاحبك، فقال رسول الله ﷺ: وما أدري ما يفعل بي، فأشفق الناس على عثمان».
وعن عائشة «رضي الله ع» «أن خولة بنت حكيم دخلت عليها وهي متشوشة الخاطر، فقالت لها عائشة: ما بالك؟ قالت: زوجي «تعني عثمان بن مظعون» يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي ﷺ على عائشة فذكرت له ذلك، فلقي عثمان فقال له: يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أمالك بي أسوة، والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا» أي وسماه السلف الصالح فقال عند دفن ولده إبراهيم «الحق بسلفنا الصالح» وقال عند دفن بنته زينب «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون».
ومات أسعد بن زرارة «رضي الله ع» «ووجد» أي حزن «رسول الله ﷺ وجدا شديدا عليه، وكان نقيبا لبني النجار، فلم يجعل لهم رسول الله ﷺ نقيبا بعده، أي بعد أن قالوا له اجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، وقال لهم: أنتم أخوالي وأنا نقيبكم، وكره أن يخص بذلك بعضهم دون بعض، فكانت من مفاخرهم».
أي ووهم ابن منده وأبو نعيم في قولهما إن أبا أمامة كان نقيبا لبني ساعدة، لأنه كان يجعل نقيب كل قبيلة منهم، ومن ثم كان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة.
أي وقد قيل إن قبل قدومه المدينة مات البراء بن معرور، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة ذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه وارض عنه وقد فعلت» وهي أول صلاة صليت على الميت في الإسلام بناء على أن المراد بالصلاة حقيقتها، وإلا جاز أن يراد بالصلاة الدعاء، ويوافق ذلك قول الإمتاع: لم أجد في شيء من كتب السير متى فرضت صلاة الجنازة.
ولم ينقل أنه صلى على عثمان بن مظعون. وقد مات في السنة الثانية، وكذلك أسعد بن زرارة مات في السنة الأولى.
ولم ينقل أنه صلى عليه الصلاة الحقيقة، وقد تقدم ذلك وتقدم ما فيه.
وكتب رسول الله ﷺ كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود، أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير: أي صالحهم على ترك الحرب والأذى: أي أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم، وأن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بها عدوّ ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم.
وقد ذكر في الأصل صورة الكتاب، وآخى بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وهي دار أبي طلحة زوج أمّ أنس، أي واسمه زيد ابن سهل، وقد ركب البحر غازيا فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها ولم يتغير.
وعن أنس «رضي الله ع» أن أبا طلحة لم يكن يكثر من الصوم في عهد رسول الله بسبب الغزو، فلما مات سرد الصوم. وكانت المؤاخاة ـ بعد بناء المسجد، وقيل والمسجد يبني ـ عل المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام، وفي لفظ دون القرابة، فقال «تآخوا في الله أخوين أخوين».
أقول: ذكر ابن الجوزي عن زيد بن أبي أوفى قال «دخلت على رسول الله ﷺ في مسجد المدينة، فجعل يقول: أين فلان أين فلان؟ فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده، فقال: إني محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم: إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا هذه الآية {الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس} وإني أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه، وأواخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته، قم يا أبا بكر، فقام فجثا بين يديه، فقال: إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي وحرك قميصه بيده، ثم قال: ادن يا عمر، فدنا فقال: قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص، فدعوت الله أن يعزّ بك الدين أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة، وآخى بينه وبين أبي بكر» هذا كلام ابن الجوزي، وهو يقتضي أنه بعد الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار أيضا كما آخى بينهم قبل الهجرة، وهذا لا يتم إلا لو آخى بين غير أبي بكر وعمر من المهاجرين، ويكون ابن أبي أوفى اقتصر.
والمعروف المشهور أن المؤاخاة إنما وقعت مرتين مرة بين المهاجرين قبل الهجرة، ومرة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة والله أعلم. ويدلّ لذلك قول بعضهم: كانوا إذ ذاك خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، أي وقيل كانوا تسعين «فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال: هذا أخي، فكان رسول الله ﷺ وعليّ أخوين، وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد» وكان صهرا لأبي بكر، كانت ابنته تحت أبي بكر «وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين أبي رويم الخثعمي وبين بلال، وبين أسيد بن حضير وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد ممن كناه النبي ﷺ كناه أبا عبس، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد العقلاء أهل الرأي، وكان الصديق «رضي الله ع» يكرمه ولا يقدم عليه أحدا، وآخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ، وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وعند ذلك قال سعد لعبد الرحمن: ياعبد الرحمن إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له بارك الله لك في أهلك ومالك».
وفي الأصل عن ابن إسحاق «آخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: تآخوا في الله أخوين أخوين».
وفي كلام بعضهم «أنه آخى بين حمزة وبين زيد بن حارثة» وإليه أوصى حمزة يوم أحد، فليتأمل فإنهما مهاجران «ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال هذا أخي، فكان رسول الله ﷺ وعليّ أخوين» وفيه أن هذا ليس من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وفي تقدم في المؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة مؤاخاته له. وفي رواية «لما آخى رسول الله ﷺ بين أصحابه جاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله ﷺ: أنت أخي في الدنيا والآخرة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب «وآخى بين جعفر بن أبي طالب، وهو غائب بالحبشة وبين معاذ بن جبل» أي أرصد، معاذا لأخوة جعفر إذا قدم من الحبشة.
وبه يردّ ما قيل جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر سنة سبع، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه "عليه الصلاة والسلام «وآخى بين أبي ذرّ الغفاري والمنذر بن عمرو، وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب».
وفي الاستيعاب «أنه آخى بين سلمان وأبي الدرداء» وجاء سلمان لأبي الدرداء زائرا فرأى أمّ الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فسأل أبو الدرداء النبي ﷺ عما قال سلمان، فقال له مثل ما قال سلمان» ولعل هذه المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء كانت قبل عتق سلمان، لأنه تأخر عتقه عن أحد، لأن أول مشاهده الخندق كما تقدم.
وروى الإمام أحمد عن أنس «أنه آخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة» وقد تقدم أنه آخى بينه وبين سعد بن معاذ، وقال المهاجرون «يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤونة وأشركونا في المهنة. أي الخدمة «حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله» قال: لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم» أي فإن ثناءكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة.
قال بعضهم: والمؤاخاة من خصائصه، ولم يكن ذلك لنبيّ قبله «ثم إن رسول الله ﷺ قال: من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص» أي المحبوسين عند قريش المانعين لهما من الهجرة، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة» أي بعد أن خرج إلى المدينة من حبس أهله له بمكة كما تقدم «أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعهما وكان بيتا لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة: أي حجرا فوضعها تحت قيدهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة، ثم جعلهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فأنشد أي متمثلا:
فهل أنت إلا إصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت
ثم قدم بهما على رسول الله » وتقدم أن ذلك يردّ القول بأن عياشا استمرّ محبوسا حتى فتح رسول الله ﷺ مكة، وقد دعا في قنوت الصلاة بقوله «اللهم أنج الوليد بن الوليد» أي وذلك أن يتخلص من حبسه بمكة، أي فإن الوليد أسر يوم بدر، أسره عبدالله بن جحش فقدم في فدائه أخواه خالد وكان أخاه لأبيه وهشام وكان أخاه لأمه وأبيه، أي ومن ثم لما أبى عبدالله أن يأخذ في فداء الوليد إلا أربعة آلاف درهم وصار خالد يأبى ذلك، قال له هشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت.
ويقال «إنه قال لعبدالله بن جحش: «ولا تقبل في فدائه إلا شملة أبيه» وهي درع فضفاضة مقومة بمائة دينار «فجاءا بها وسلماها إلى عبدالله» فلما افتدي وقدم إلى مكة أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الإسار، فلما أسلم حبسه أهل مكة، ثم أفلت ولحق برسول الله، وشهد عمرة القضاء، وكتب إلى أخيه خالد، فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان خالد من جملة من خرج من مكة فارّا لئلا يرى رسول الله ﷺ وأصحابه كراهة الإسلام وأهله، فسأل رسول الله ﷺ الوليد عنه، وقال «لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله يجهل الإسلام» فكتب له أخو الوليد عنه، وقال «لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله يجهل الإسلام» فكتب له أخوه الوليد بذلك، وفي مدة حبس الوليد كان في كل ليلة إذا صلى العشاء الآخرة قنت في الركعة الأخيرة يقول «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم انج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج هشام بن العاص، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف، فأكلوا العلهز؛ ثم لم يزل يدعو للمستضعفين حتى نجاهم الله» أي بعد أن نجى عياشا وهشاما والوليد.
أقول: هذه الرواية تدل على أنه كان يدعو بما ذكر في الركعة الأخيرة من العشاء الآخرة. وفي البخاري أن ذلك كان في الركعة الأخيرة من الصبح.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه كان تارة يدعو في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة، وتارة في الركعة الأخيرة من الصبح، أو كان يدعو بذلك فيهما ولك روى بحسب ما رأى، والله أعلم.
ثم لا زال المهاجرون الأنصار يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر {وأولوا الأرحام} أي القرابات {بعضهم أولى ببعض} أي في الإرث {في كتاب الله} أي اللوح المحفوظ فنسخت ذلك، أي لأنه كان الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة، وشدّ أزر بعضهم ببعض؛ فلما عزّ الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، بطل التوارث، ورجع كل إنسان إلى نسبِ وذوي رحمه: أي ومن ثم قيل لزيد بن حارثة زيد بن حارثة: أي بعد أن كان يقال له زيد بن محمد، وكانت المؤاخاة بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل غير ذلك.
أقول: تقدم أن سبب امتناع أن يقال زيد بن محمد نزول قوله تعالى{ادعوهم لآبائهم} أي ومن ثم قيل للمقداد بن عمرو، وكان يقال له المقداد بن الأسود، لأن الأسود كان تبناه في الجاهلية، ومن لم يعرف أبوه ردّ إلى مواليه؛ ومن ثم قيل لسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بعد أن كان يقال له سالم بن أبي حذيفة، فكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، ومن ثم أنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة.
وجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله، فقالت: «يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل عليّ وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل عليّ، وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فماذا ترى فيه؟ فقال: أرضعيه تحرمي».
وعن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت لعائشة «ما ترى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله ﷺ لسالم» وكان سالم «رضي الله ع» يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر.
وفي ينبوع الحياة: كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار توجب التوارث بينهم ثم نسخ ذلك قبل العمل به، وأما قول ابن عباس «رضي الله ع»: كانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} فمعناه أنهم التزموا هذا الحكم ودانوا به.
ومن المشكل حينئذ ما نقل «أن الحتات» بضم الحاء وفتح المثناة فوق مخففة «كان آخى بينه وبين معاوية، ولما مات الحتات عند معاوية في خلافته ورثه بالأخوة مع وجود أولاده» ثم رأيت الحافظ ابن حجر في الإصابة ذكر ذلك ونظر فيه، والله أعلم.
باب بدء الأذان ومشروعيته أي والإقامة ومشروعيتها
وكل منهما من خصائص هذه الأمة، كما أن خصائصها الركوع والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير، فإن صلاة الأمم السابقة كانت لا ركوع فيها ولا جماعة، وكانت الأنبياء كأممهم يستفتحون الصلاة بالتوحيد والتسبيح والتهليل، أي وكان دأبه في إحرامه لفظة الله أكبر، ولم ينقل عنه سواها أي كالنية.
ولا يشكل على الركوع قوله تعالى لمريم {واسجدي واركعي مع الراكعين} لأن المراد به في ذلك الخضوع أو الصلاة، لا الركوع المعهود كما قيل، لكن في البغوي قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليست الواو للترتيب بل للجمع هذا كلامه فليتأمل، وكان وجود ذلك: أي الأذان والإقامة في السنة الأولى، وقيل في الثانية.
ذكر أن الناس إنما كانوا يجتمعون للصلاة لتحين مواقيتها، أي لدخول أوقاتها من غير دعوة، أي وقد قال ابن المنذر: هو كان يصلي بغير أذان منذ فرض الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور.
قال: ووردت أحاديث تدلّ على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة من تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر «رضي الله ع» قال «لما أسري برسول الله ﷺ أوحى الله تعالى إليه بالأذان، فنزل به وعلمه بلالا» قال الحافظ ابن رجب: هو حديث موضوع.
ومنها ما رواه ابن مردويه عن عائشة «رضي الله ع» مرفوعا «لما أسري بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه» أي جبريل «يصلي بهم، فقدمني فصليت» قال فيه الذهبي: حديث منكر، بل موضوع هذا كلامه. على أنه يدل على أن المراد بالأذان الإقامة كما تقدم أنها المرادة بالأذان انتهى.
أقول: ومن أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل «إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين أهبط من الجنة» وقد سئل الحافظ السيوطي: هل ورد أن بلالا أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة؟ فأجاب بقوله: ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها. والمشهور الذي صححه أكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان إنما شرع بعد الهجرة، وأنه لم يؤذن قبلها لا بلال ولا غيره. وذكر في الدرّ في قوله تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} أنها نزلت بمكة في شأن المؤذنين، والأذان إنما شرع في المدينة، فهي مما تأخر حكمه عن نزوله هذا كلامه.
وفي كلام الحافظ ابن حجر ما يوافقه، حيث ذكر أن الحق أنه لا يصح شيء من الأحاديث الدالة على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، وذكر ما تقدم عن ابن المنذر، من أنه كان يصلي من غير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة، إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك: أي فقد ائتمر هو وأصحابه كيف يجمع الناس للصلاة؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رآها الناس آذن» أي أعلم «بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، فذكر له بوق «يهود» أي ويقال له الشبور بفتح الشين المعجمة ثم موحدة مشددة مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء، ويقال له القبع بضم القاف وإسكان الموحدة وقيل بفتحها، وقيل باسكان النون وبالعين المهملة.
قال السهيلي: وهو أولى بالصواب، وقيل بالمثناة فوق، وقيل بالمثلثة، وهو القرن الذي يدعون به لصلاتهم: أي يجتمعون لها عند سماع صوته «فكرهه وقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس الذي يدعون به النصارى لصلاتهم، فقال: هو من أمر النصارى، أي فقالوا لو رفعنا نارا أي فإذا رآها الناس أقبلوا إلى الصلاة، فقال ذلك للمجوس، وقيل كما في حديث الشيخين عن ابن عمر «أن عمر «رضي الله ع» قال: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة» أي بحضورها «أي ففعلوا ذلك وكان المنادي هو بلال «رضي الله ع»».
قال الحافظ ابن حجر: وكان اللفظ الذي ينادي به بلال: أي قبل رؤيا عبدالله «الصلاة جامعة» كما رواه ابن سعد وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وقد جاء أنه قال «لقد هممت أن أبث رجالا ينادون الناس بحين الصلاة» أي في حينها: أي وقتها «وقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة» أي ولعل هذا كان منه قبل وقوع ما تقدم بلال، ثم أمر بلال بما تقدم.
وقيل ائتمر رسول الله ﷺ هو وأصحابه بالناقوس: أي اتفقوا عليه فنحت ليضرب به المسلمون: أي وهو خشبة طويلة يضرب عليها بخشبة صغيرة، فنام عبدالله بن زيد، فأري الأذان أي والإقامة في منامه.
فعنه «رضي الله ع»، قال «لما أمر رسول الله ﷺ بالناقوس فاطف بي وأنا نائم رجل» وفي لفظ «إني لبين نائم ويقظان طاف بي رجل» والمراد أنه نام نوما خفيفا قريبا من اليقظة فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة.
قال الحافظ السيوطي: أظهر من هذا أن يحمل على الحالة التي تعتري أرباب الأحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون، ويسمعون ما يسمعون، والصحابة «رضي الله ع» أجمعين هم رؤوس أرباب الأحوال، أي وهذه الحالة هي التي عناها الشيخ عبدالله الدلاصي بقوله: كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح، فلما أحرم الإمام وأحرمت أخذتني أخذة، فرأيت رسول الله ﷺ يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم، فقرأ رسول الله ﷺ في الركعة الأولى سورة المدثر، وفي الثانية {عمّ يتساءلون} ثم سلم الإمام فعقلت تسليمه فسلمت.
أي ويدل لذلك قول عبدالله بن زيد كما جاء في رواية: ولولا أن يقول الناس: أي يستعبد الناس ذلك لقلت إني كنت يقظان غير نائم وذلك الرجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده؛ فقلت: يا عبدالله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ فقلت بلى: أي وفي رواية فقلت أتبيع الناقوس؛ فقال: ماذا تريد به؟ فقلت: أريد أن أبتاعه لكي أضرب به للصلاة لجماعة الناس، قال: فأنا أحدثك بخير لك من ذلك، فقلت بل، قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال عبدالله: ثم استأخر عني: أي ذلك الرجل غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله: أي ففي هذه الرواية إفراد ألفاظ الإقامة إلا لفظها ولفظ التكبير أولا وآخرا. وفي رواية «رأى رجلا عليه ثياب خضر وهو قائم على سقف المسجد. وفي رواية: على جذم حائط، بكسر الجيم وسكون المعجمة: أي أصل الحائط، ولا مخالفة لما سيعلم فأذن ثم قعد قعدة، ثم قام فقال مثلها، أي مثل الكلمات: أي كلمات الأذان، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، أي زيادة على تلك الكلمات التي هي الأذان. ففي هذه الرواية تثنية ألفاظ الإقامة والإتيان بالتكبير في أولها أربعا كالأذان، أي وهذا: أي كونه على سقف المسجد، وكونه على جذم حائط لا مخالفة بينهما، لأنه يجوز أن يكون لما قال له تقول الله أكبر، إلى آخر الأذان والإقامة كانا قائما على سقف المسجد قريبا من جذم الحائط، فنسب قيامه إلى كل منهما، ويكون قوله ثم استأخر عني غير بعيد: أي سكت غير طويل. قال عبدالله: فلما أصبحت أتيت رسول الله ﷺ فأخبرته بما رأيت. أي وفي رواية: أنه أتاه ليلا وأخبره، وهي المذكورة في سيرة الحافظ الدمياطي.
ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون قول عبدالله: فلما أصبحت: أي قاربت الصباح، فقال له رسول الله: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به فإنه أندى» وفي رواية «أمدّ صوتا منك» أي أعلى وأرفع. وقيل أحسن وأعذب. ولا مانع من إرادة ذلك كله هنا «فقمت مع بلال» وفي رواية «فقال لبلال: قم فانظر ما أمرك به عبدالله بن زيد فافعله، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به» أي فبلال أول مؤذنيه، أي وقيل أول مؤذنيه عبدالله بن زيد ذكره الإمام الغزالي، وأنكره ابن الصلاح، أي حيث قال لم أجد هذا بعد البحث عنه، هذا كلامه.
وقد يقال: لا منافاة لأن عبدالله أول من نطق بالأذان، وبلال أول من أعلن به، وحينئذ يكون أوّل مشروعيته كان في أذان الصبح، فلما سمع بذلك: أي بأذان بلال عمر بن الخطاب «رضي الله ع» وهو في بيته خرج يجر رداءه. وفي رواية: إزاره أي عجلا، أي وقد أعلم بالقصة لقوله «والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى عبدالله بن زيد «رضي الله ع»». وفي رواية «مثل ما يقول» أي بلال «رضي الله ع» «فقال رسول الله، فلله الحمد» قال الترمذي: عبدالله ابن زيد بن عبد ربه لا نعرف له عن النبي ﷺ شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان.
وقيل رأى مثل ما رأى عبدالله أبو بكر «رضي الله ع». وقيل سبعة من الأنصار وقيل أربعة عشر.
قال ابن الصلاح: لم أجد هذا بعد إمعان النظر، وتبعه النووي، فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف، وإنما الثابت خروج عمر يجرّ رداءه، وقيل رآه ليلة الإسراء «أسمع ملكا يؤذن» أي فقد جاء في حديث بعض رواته متروك.
بل قيل إنه من وضعه «أنه لما أراد الله «عَزَّ وجَلّ» أن يعلم رسوله الأذان جاء جبريل "عليه الصلاة والسلام بدابة يقال لها البراق، فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك خرج من الحجاب ملك فقال: الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر» وذكر بقية الأذان.
فرؤيا عبدالله دلت على أن هذا الذي رآه في السماء يكون سنة في الأرض عند الصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، أي فلذلك قال «إنها لرؤيا حق إن شاء الله».
وفيه أن الذي تقدم عن الخصائص أن المراد بهذا الأذان الذي أتى به الملك الإقامة لا حقيقة الأذان، أي ويدل لذلك أن الملك قال فيه «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فقال الله: صدق عبدي، أنا أقمت فريضتها، ثم قيل لرسول الله ﷺ تقدم، فأمّ أهل السماء فيهم آدم ونوح».
قال بعضهم: والأذان ثبت بحديث عبدالله بن زيد بإجماع الأمة لا يعرف بينهم خلاف في ذلك، إلا ما روي عن محمد بن الحنفية. وعن أبي العلاء قال: قلت لمحمد بن الحنفية: إنا لنتحدث أن بدء هذا الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمدا بن الحنفية فزعا شديدا، وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب، وقد تكون أضغاث أحلام؛ قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس، قال: هذا والله هو الباطل، ثم قال: «وإنما أخبرني أبي أن جبريل "عليه الصلاة والسلام أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء، وأقام، ثم أعاد جبريل الأذان لما عرج بالنبي ﷺ إلى السماء فسمعه عبدالله بن زيد وعمر بن الخطاب.
وفي رواية عنه أنه لما انتهى إلى مكان من السماء وقف به وبعث الله ملكا، فقيل له علمه الأذان، فقال الملك: الله أكبر، فقال الله: صدق عبدي، أنا الله أكبر، إلى أن قال: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفيه ما علمت أن هذه الإقامة لا الأذان، وقد ردّ عليه بأنه لو ثبت بقول جبريل لما احتاج إلى المشورة، والمعراج كان بمكة قبل الهجرة.
والأولى أن يتمسك ابن الحنفية بما يأتي عن بعض الروايات، من قوله لعبدالله «قد سبقك بذلك الوحي» وكونه أتى بالبراق إلى الحجاب هو بناء على أن العروج كان على البراق وتقدم ما فيه. ويحتمل أن يكون هذا عروجا آخر غير ذلك، وحينئذ لا يخالف هذا ما تقدم أنه لما أسري به أذن جبريل وتقدم ما فيه، ولا ما جاء عن عليّ «رضي الله ع» «مؤذن أهل السماء جبريل» لجواز حمل ذلك على الغالب، وحينئذ لا يخالف أيضا ما جاء «إسرافيل مؤذن أهل السماء، وإمامهم ميكائيل عند البيت المعمور» وفي لفظ «يؤم بالملائكة في البيت المعمور» ولعلّ كون ميكائيل إمام إهل السماء لا يخالف ما جاء عن عائشة «رضي الله ع» «إمام أهل السماء جبريل» لما علم، وجاء «إن مؤذن أهل السماء يؤذن لاثنتي عشرة ساعة من النهار، ولاثنتي عشرة ساعة من الليل».
أقول: وفي النور لو رآه أي الأذان ليلة الإسراء لم يحتج إلا إلى ما يجمع به المسلمين إلى الصلاة. ويردّ بأنه لم يكن يعلم قبل هذه الرؤيا أن ما رآه في السماء يكون سنة للصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة، فبتلك الرؤيا علم أن ذلك سنة في الأرض كما تقدم.
وعبارة بعضهم: ولا يشكل على أذان جبريل ببيت المقدس أن الأذان إنما كان بعد الهجرة، لأنه لا مانع من وقوعه ليلة الإسراء قبل مشروعيته للصلوات الخمس، وهذا كله على تسليم أن المرئي له الأذان حقيقة لا الإقامة، وقد علمت ما فيه.
ثم رأيت بعضهم قال: وأما قول القرطبي. لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان، أي لأن المتبادر تعليمه الأذان الذي يأتي به في الأرض للصلوات.
وقد يقال: على تسليم ذلك قد علمت أن المراد بالأذان الذي سمعه ليلة الإسراء الإقامة وقد قال الحافظ ابن حجر: الحق أنه لم يصح شيء من هذه الأحاديث الواردة بأنه سمعه ليلة الإسراء، ومن ثم قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة بأنه سمع هذا الأذان في السماء ليلة المعراج: هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي أنه صحيح، بل هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية، وهو من المتهمين، وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى: خص بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى، والله أعلم.
أي وروي بسند واهٍ: إن أول من أذن بالصلاة جبريل "عليه الصلاة والسلام في سماء الدنيا، فسمعه عمر وبلال «رضي الله ع»، فسبق عمر بلالا، فأخبر النبي؛ ثم جاء بلال، فقال له: سبقك بها عمر، وهذا لا دلالة فيه، لأنه يجوز أن يكون ذلك بعد رؤيا عبدالله.
وذكر أن عمر «رضي الله ع» رآه من عشرين يوما وكتمه، ولما أخبر بذلك، قال له: ما منعك أن تخبرني؟ قال سبقني عبدالله بن زيد فاستحييت منه.
أقول: في هذا الكلام ما لا يخفى فليتأمل، إنما قال له «إنها رؤيا حق» لأنه يجوز أن يكون جاءه الوحي بذلك قبل أن يجيء إليه عبدالله بن زيد به، ومن ثم قال له حين أخبره بذلك على ما في بعض الروايات «قد سبقك بذلك الوحي» فالأذان إنما ثبت بالوحي لا بمجرد رؤيا عبدالله.
قال بعضهم في قوله {وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا} الآية، كان اليهود إذا نودي إلى الصلاة وقام المسلمون إليها يقولون: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء والسخرية.
وفيها دليل على مشروعية الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده هذا كلامه. ورده أبو حيان بأن هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها هذا كلامه أي وذلك على تسليم أن يكون المدعوّ به للصلاة خصوص اللفظ الذي وجد في المنام، وصار بلال يؤذن بذلك للصلوات الخمس، وينادي في الناس لغير الصلوات الخمس، لأمر يحدث يطلب له حضور الناس كالكسوف والخسوف والاستسقاء «الصلاة جامعة».
قيل «وكان بلال إذا أذن، قال: أشهد أن لا إله إلا الله حيّ على الصلاة، فقال له عمر على أثرها: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ لبلال: قل كما قال عمر» وهذا روي عن ابن عمر في حديث فيه راو ضعيف، ولولا التعبير بكان لأمكن حمل ذلك على أن بلالا أتى بذلك ناسيا في ذلك الوقت لما لقنه عبدالله بن زيد. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي، قال: والحديث الصحيح الثابت في أول مشروعية الأذان يرد هذا كله، هذا كلامه.
قيل وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات «الصلاة خير من النوم مرتين» فأقرها » أي لأن بلالا كان يدعو النبي ﷺ للصلاة، فيقول له الصلاة «فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله ﷺ نائم، فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم مرتين» أي اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم.
أقول: وهذا يقال له التثويب، وذكر فقهاؤنا أنه صح أنه لقن ذلك لأبي محذورة أي قال له «فإن كانت صلاة الصبح، قلت الصلاة خير من النوم» ولا منافاة لأن تعليم أبي محذورة للأذان كان عند منصرفه. من حنين على ما سيأتي، وكذا ما ورد من أنه قال إن ذلك من السنة، لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر منه بعد أن أقرّ بلالا عليه، نعم ذكر أنه لم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يقوله، أي لقول بلال له في الأذان الأول، وهو يدل لمن قال إنه إذا قيل في الأذان الأول لا يقال في الثاني، لأن أذانه للصبح كان متأخرا عن أذان بلال في أكثر الأحوال، وهو محمل ما جاء في كثير من الأحاديث «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ومن غير الأكثر محمل ما جاء «إن ابن أم مكتوم ينادي بليل وكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال، ابن أم مكتوم أعمى، فإذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا، وإذا أذن بلال فأمسكوا ولا تأكلوا» والراجح أنه يقوله فيهما: لكن ربما يخالف ذلك ما في الموطأ أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما، فقال: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر «رضي الله ع» أن يجعلها في نداء الصبح» وفي الترمذي «أن بلالا قال: قال رسول الله ﷺ: لا تثويب في شيء من الصلاة» أي من أذان الصلاة «إلا في صلاة الفجر» أي يقول الصلاة خير من النوم.
وعن ابن عمر «رضي الله ع» أنه سمع الأذان في مسجد، فأراد أن يصلي فيه، فسمع المؤذن يثوب في غير الصبح، فقال لرفيق له: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، فإن هذه بدعة: أي سمع المؤذن يقول بين الأذان والإقامة على باب المسجد الصلاة، الصلاة وهذا هو المراد بالتثويب الذي سمعه ابن عمر كما قاله بعضهم.
وفي كلام بعضهم: من المحدثات أن المؤذن يجيء بين الأذان والإقامة إلى باب المسجد فيقول: حي على الصلاة. قيل وأول من أحدثه مؤذن معاوية «رضي الله ع» فكان يأتيه بعد الأذان وقبل الإقامة يقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، وحي على الفلاح، حي على الفلاح يرحمك الله.
أما قول المؤذن بين الأذان والإقامة: الصلاة الصلاة فليس بدعة، لأن بلالا كان يقول ذلك للنبي. وأما قوله «حي على الصلاة» فهذا لم يعهد في عصره.
ثم رأيت في (درر المباحث في أحكام البدع والحوادث): اختلف الفقهاء في جواز دعاء الأمير إلى الصلاة بعد الأذان وقبل الإقامة؛ بأن يأتي المؤذن باب الأمير، فيقول: حي على الصلاة حي على الفلاح أيها الأمير، وفسر به التثويب. فاحتج من قال بجوازه: أي بسنتيه «أن بلالا كان إذا أذن يأتي النبي ﷺ ثم يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله» أي كما كان يفعل مؤذن معاوية «رضي الله ع»، فليس من المحدثات.
وفي الحديث المشهور «أنه في مرضه أتاه بلال، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال له: مر أبا بكر فليصلّ بالناس». واحتج من قال بالمنع، بأن عمر «رضي الله ع» لما قدم مكة أتاه أبو محذورة فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فقال: ويحك أمجنون أنت؟ أما كان في دعائك الذي دعوته ما يكفيك حتى تأتينا؟ ولو كان هذا سنة لم ينكر عليه، أي وكون عمر «رضي الله ع» لم يبلغه فعل بلال من البعيد.
وعن أبي يوسف: لا أرى بأسا أن يقول المؤذن: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة يرحمك الله، لاشتغال الأمراء بمصالح المسلمين، أي ولهذا كان مؤذن عمر بن عبد العزيز «رضي الله ع» يفعله.
وذكر بعضهم أن في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل، فلما كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذّنين من ذلك، وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك: الصلاة خير من النوم مرتين، وذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
ونقل عن ابن عمرو عن علي بن الحسين «رضي الله ع» أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح: حي على خير العمل.
ورد الترجيح في خبر أذان أبي محذورة أيضا، وهو أن يخفض صوته بالشهادتين قبل رفعه بهما. ففي مسلم عن أبي محذورة أنه قال «قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدّم رأسي وقال: تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله» وكان أبو محذورة يشفع الإقامة كالأذان: أي يكرر ألفاظها فيقول «الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله» لقنه ذلك وهي الرواية الثانية التي تقدمت عن عبدالله بن زيد «رضي الله ع».
وذكر الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن النقل ثبت أن النبي ﷺ علم أبا حذورة الأذان فيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان، وأن بلالا كان يشفع الأذان ويوتر الإقامة، أي ولا يرجع الأذان.
ففي الصحيحين «أمر بلال أن يشفع الأذان» أي ومن شفع الأذان التكبير أوله أربعا، ولم يصح عنه الاقتصار فيه على مرتين وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، نعم يرد على شفع الأذان التهليل آخره فإنه مفرد، فالأولى أن يقال يشفع معظم الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة: أي لفظها، أي وهي «قد قامت الصلاة» فإنه يكررها مرتين يقول «قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة» ولم يصح عنه إفرادها البتة أي وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي، وصح عنه تكرير لفظ التكبير مرتين أولا وآخرا؛ وحينئذ يكون المراد بإفراد الإقامة إفراد معظمها، فكان يقول في الإقامة «الله أكبر، الله أكبر؛ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله» ولم يكن في أذانه ترجيع: أي وهو الإتيان بالشهادتين مرتين سرا، ثم يأتي بهما جهرا: أي كما تقدم، قال: فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب، وتثنيتها صحيح بلا ريب.
أي وكل روى عن عبدالله بن زيد كما علمت، قال: أي ابن تيمية وأحمد وغيره: أخذوا بأذان بلال وإقامته، أي فلم يستحبوا الترجيع في الأذان، واستحبوا إفراد الإقامة إلا لفظها.
والشافعي «رضي الله ع» أخذ بأذان أبي محذورة وإقامة بلال، فاستحب الترجيع في الأذان والإفراد في الإقامة إلا لفظها.
وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، أي فلم يستحب الترجيع، واستحب تثنية ألفاظ الإقامة.
قال في الهدى: وأخذ مالك بما عليه عمل أهل المدينة من الاقتصار في التكبير على مرتين في الأذان وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة؛ أي ولعل هذا بحسب ما كان في المدينة، وإلا ففي أبي داود «ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة» أي معظم ألفاظها «ويحكونه عن جدهم» غير أن التثنية عنه أكثر؛ فيحتمل أن إتيان أبي محذورة بالإقامة فرادى، واستمراره وولده بعده على ذلك كان بأمر منه له بذلك بعد أمره أولا له بتثنيتها، أي فيكون آخر أمره الإفراد. وقد قيل لأحمد «رضي الله ع» ـ وقد كان يأخذ بأذان بلال أي كما تقدم: أليس أذان أبي محذورة بعد أذان بلال، أي لأن النبي ﷺ علمه له عند منصرفه من حنين على ما سيأتي، وهو الذي رواه إمامنا الشافعي «رضي الله ع» عن أبي محذورة أنه قال «خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله ﷺ من حنين، فلبث رسول الله ﷺ في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول الله ﷺ بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن وننحن متنكبون» أي عن الطريق «فصرنا نحكيه ونستهزىء به، فسمع النبي ﷺ فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله ﷺ: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ فحبسني» أي أبقاني عنده «وأرسلهم وقال: قم فأذن، فقمت ولا شيء أكره إليّ من النبي ﷺ ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله، فألقى عليّ التأذين هو بنفسه » الحديث «ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي، ثم بين يدي، ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك عليك، فقلت: يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة، فقال: قد أمرتك به» وذهب كل شيء كان لرسول الله ﷺ من كراهته وعاد ذلك كله محبة لرسول الله، فقدمت على عتاب بن أسيد «رضي الله ع» عامل رسول الله ﷺ على مكة فأذنت بالصلاة عن أمر رسول الله.
وقيل علمه ذلك يوم فتح مكة لما أذن بلال «رضي الله ع» للظهر على ظهر الكعبة، وصار فتية من قريش يستهزئون ببلال ويحكون صوته، وكان من جملتهم أبو محذورة، فأعجبه صوته فدعاه وعلمه الأذان، وأمره أن يؤذن لأهل مكة فليتأمل الجمع، وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله ﷺ: أي بالمتأخر عنه، لأن المتأخر ينسخ المتقدم، فقال: أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه؟ .
قال أبو داود: وتثنية الأذان وإفراد الإقامة مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب، أي إلا مصر في المساجد التي تغلب صلاة الأروام بها فإن الإقامة تثنى كالأذان فيها.
وقد ذكر أن أبا يوسف رحمه الله ناظر إمامنا الشافعي «رضي الله ع» في المدينة بين يدي مالك «رضي الله ع» والرشيد، فأمر الشافعي بإحضار أولاد بلال وأولاد سائر مؤذني رسول الله ﷺ وقال لهم: كيف تلقيتم الأذان والإقامة عن آبائكم؟ فقالوا: الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى، هكذا تلقيناه من آبائنا، وآباؤنا عن أسلافنا إلى زمن رسول الله. وجاء «أنه سمع بلالا يقيم الصلاة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال أقامها الله وأدامها» وفي البخاري «من قال حين يسمع النداء: أي الأذان، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وجبت له شفاعتي يوم القيامة».
قال بعضهم: كان المؤذنون في عهد رسول الله ﷺ مؤذنين بلالا وابن أم مكتوم، فلما كان زمن عثمان «رضي الله ع» جعلهم أربعا وزاد الناس بعده.
ولما مات ترك بلالا الأذان ولحق بالشام، فمكث زمانا، فرأى النبي ﷺ في المنام فقال له: يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا فاقصد إلى زيارتنا. وفي لفظ أنه قال له: ما هذه الجفوة يا بلال؟ ما آن لك أن تزورنا فانتبه بلال «رضي الله ع» فقصد المدينة، فلما انتهى إلى المدينة تلقاه الناس، أي وأتى قبر النبي ﷺ وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه، وأقبل على الحسن والحسين يقبلهما ويضمهما، وألحوا عليه أن يؤذن، فلما صعد ليؤذن اجتمع أهل المدينة رجالهم ونساؤهم، وخرجت العذارى من خدورهن ليستمعوا أذانه «رضي الله ع»، فلما قال: الله أكبر ارتجت المدينة وصاحوا وبكوا؛ فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعا، فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله لم يبق ذو روح إلا بكى وصاح، وكان ذلك اليوم كيوم موت رسول الله، ثم انصرف إلى الشام وكان يرجع إلى المدينة في كل سنة مرة فينادي بالأذان إلى أن مات «رضي الله ع».
أقول: في كلام بعضهم كان سعد القرظ «رضي الله ع» مؤذنه بقباء، فلما لحق بلال بالشام أيام عمر «رضي الله ع» أمر سعد القرظ أن يؤذن في مسجد رسول الله، أي فإن بلالا لما توفي رسول الله ﷺ جاء إلى أبي بكر «رضي الله ع» فقال: يا خليفة رسول الله، إني سمعت رسول الله ﷺ يقول «أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله» وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت، فقال له أبو بكر «رضي الله ع»: أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي عليك أن لا تفارقني، فأقام بلال حتى توفي أبو بكر «رضي الله ع» وهو يؤذن. ثم جاء إلى عمر فقال له كما قال لأبي بكر وردّ عليه «رضي الله ع» كما رد عليه أبو بكر، فأبى وخرج إلى الشام مجاهدا.
وفي (أنس الجليل): لما فتح أمير المؤمنين عمر «رضي الله ع» بيت المقدس حضرت الصلاة، فقال: يا بلال أذن لنا يرحمك الله، قال بلال: يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن بعد رسول الله ﷺ إلى أحد ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها، فلما أذن بلال وسمعت الصحابة «رضي الله ع» صوته ذكروا النبي ﷺ فبكوا بكاء شديدا، ولم يكن من الصحابة يومئذٍ أطول بكاء من أبي عبيدة ومعاذ بن جبل، حتى قال لهما عمر «رضي الله ع»: حسبكما رحمكما الله تعالى، فلم يؤذن بلال بعد رسول الله ﷺ إلا مرة واحدة لما أمره عمر بالأذان؛ هذا ما في أنس الجليل، أي فالمراد بالمرة هذه المرة التي كانت ببيت المقدس.
وفيه أن هذا يخالف ما تقدم مما ظاهره أنه استمر يؤذن مدة خلافة أبي بكر «رضي الله ع»، وما تقدم من إلحاح الحسن والحسين عليه في أن يؤذن عند مجيئه للمدينة.
إلا أن يقال: المراد لم يؤذن خارج المدينة فلا يخالف ما سبق من أذانه بعد إلحاح الحسن والحسين، ولعل ما سبق كان بعد فتح بيت المقدس، بل وبعد موت الخلفاء الأربعة.
ثم رأيت الزين العراقي قال: لم يؤذن بلال بعد موت النبي ﷺ لأحد من الخلفاء، إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال، هذا كلامه فليتأمل مع ما سبق.
وفي الكتاب المذكور: روي عن جابر بن عبدالله «رضي الله ع» «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة، قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال الشهداء، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال مؤذنو بيت الحرام قال: ثم من؟ قال مؤذنو مسجدي، قال: ثم من؟ قال سائر المؤذنين».
ثم رأيت في نسخة من شرح المنهاج للدميري عن جابر تقديم مؤذني المسجد الحرام على مؤذني بيت المقدس. ورأيت في بعض الروايات ما يوافقه، وهي «أول من يدخل الجنة بعدي أبو بكر ثم الفقراء، ثم مؤذنو المسجد الحرام، ثم مؤذنو بيت المقدس، ثم مؤذنو مسجدي، ثم سائرهم على قدر أعمالهم».
وفي (البدور السافرة) عن جابر «رضي الله ع» «أن رجلا قال: يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة يوم القيامة؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال الشهداء، قال ثم من؟ قال: مؤذنو الكعبة، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو بيت المقدس، قال: ثم من؟ قال: مؤذنو مسجدي هذا، قال: ثم من؟ قال: سائر المؤذنين على قدر أعمالهم».
وفيها عن جابر أيضا «أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم، ثم محمد، ثم النبيون والرسل، ثم يكسى المؤذنون».
وجاء «إن الصحابة «رضي الله ع» قالوا: يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك، فقال: أما إنه يكون قوم بعدكم كفلتهم مؤذنوهم» قيل وهذه الزيادة منكرة وقال الدارقطني: ليست محفوظة.
وجاء «إذا أخذ المؤذن في أذانه وضع الرب جل وعز يده فوق رأسه، ولا يزال كذلك حتى يفرغ من أذانه، وإنه ليغفر له مدّ صوته، فإذا فرغ قال الرب: صدقت عبدي؛ وشهدت شهادة الحق، فأبشر» والله أعلم.
قال: وعن ابن عباس «رضي الله ع» قال: كان رجل من اليهود أي من التجار وعن السدي: من النصارى بالمدينة سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، قال: أخزى الله الكاذب. وفي رواية: أحرق الله الكاذب، فدخلت خادمه بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله انتهى.
أي وفي بعض الأسفار «حضر وقت الصلاة: أي صلاة الصبح فطلبوا بلالا يؤذن فلم يوجد أي لتأخره في السير عن رسول الله، فأذن زياد بن الحارث الصدائي أي بأمره، فقال له أذن يا أخا صداء» وصداء حي من اليمن.
وعنه «رضي الله ع» «سألت رسول الله ﷺ يؤمرني على قومي، فقال: لا خير في الإمرة لرجل مؤمن، فقلت: حسبي، ثم سار النبي ﷺ مسيرا فسرت معه، فانقطع عنه أصحابه وأضاء الفجر، فقال لي: أذن يا أخا صداء، فأذنت، ثم لما حضرت الصلاة أراد بلال أن يقيم، فقال رسول الله ﷺ لا، إنما يقيم من أذن» واختلف هل أذن بنفسه؟ فقيل نعم أذن مرة، واستدل على ذلك بأنه جاء في بعض الأحاديث، أي وقد صح «أنه أذن في السفر وصلى وهم على رواحلهم، فتقدم على راحلته فصلى بهم يومىء إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع» وقيل ما أذن، وإنما أمر بلالا بالأذان كما في بعض طرق ذلك الحديث.
ففي الهدي: « وصلى بهم الفرض على الرواحل لأجل المطر والطين» وقد روى أحمد والترمذي «أنه انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، والسماء من فوقهم، والمسيل من أسفل منهم فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله ﷺ فصلى بهم» الحديث والمفصل يقضي على المجمل.
وفي رواية « أذن اختصارا»: أي أمر بالأذان، أي وهذا المجمل الذي تشير إليه هو «فأذن على راحلته وأقام»: أي ويروى» أن بلالا كان يبدل الشين في أشهد سينا، فقال: سين بلال عند الله شين» قال ابن كثير: لا أصل لرواية سين بلال شين في الجنة، ولا يلزم من كون هذه الرواية لا أصل لها أن تكون تلك الرواية كذلك.
وكان بلال وابن أم مكتوم يتناوبان في أذاني الصبح، فكان أحدهما يؤذن بعد مضي نصف الليل الأول والليل باق، والثاني يؤذن بعد طلوع الفجر» وروى الشيخان «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» أي وفي مسلم عن ابن مسعود «رضي الله ع» قال: قال رسول الله «لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو قال نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن، أو قال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم، إنما يؤذن بليل بعد نصفه الأول، فيرجع القائم المتهجد إلى راحلته لينام غفوة ليصبح نشيطا ويستيقظ النائم ليتأهب للصبح».
قال في الهدي: وانقلب على بعض الرواة، فقال إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال. أي وقد علمت أنه لا قلب وأنهما كانا يناديان، فكان بلال تارة يؤذن بليل وابن أم مكتوم عند الفجر الثاني، وتارة يكون ابن أم مكتوم بالعكس، فوقع كل من الأحاديث باعتبار ما هو موجود عند النطق، ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا: أي أن ينزل المؤذن الأول من أذانه ويرقى المؤذن الثاني كما ذكر، فمن كان يؤذن أولا يتربص بعد أذانه لنحو الدعاء ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر صاحبه فيرقى ويؤذن مع الفجر أو عقبه من غير فاصل، وهذا هو المراد مما قيل «إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت».
وعن ابن عمر كان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه. وفي أبي داود عن ابن عمر «أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» أي غفل عن الوقت، أو رجع لينام لبقاء الليل، ولعل هذا كان قبل أن يتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا ثانيا أو كان أذان بلال في هذه المرة بعد أذان ابن أم مكتوم على ما تقدم، فلا مخالفة.
والثابت في الجمعة أذان واحد كان يفعل بين يديه إذا صعد المنبر وجلس عليه، كذا قال فقهاؤنا، مستدلين على ذلك بحديث البخاري عن السائب بن يزيد قال «كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر «رضي الله ع»» وليس فيه أن ذلك الأذان كان بين يديه ولما كثر المسلمون أمر عثمان «رضي الله ع»، أي وقيل عمر، وقيل معاوية بأن يؤذن قبله على المنارة.
وعبارة بعضهم: وفي السنة الرابعة والعشرين زاد عثمان النداء على الزوراء يوم الجمعة ليسمع الناس فيأتوا إلى المسجد؛ وأول من أحدثه بمكة الحجاج، والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون.
وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي ﷺ: أي على الكيفية المعهودة الآن بعد تمام الأذان على المنارة، أي في غير المغرب في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي في أواخر القرن الثامن، واستمر ذلك إلى الآن، لكن في غير أذان الصبح الثاني وغير أذان الجمعة أول الوقت، أما أذان الصبح الثاني وأذان الجمعة المذكور، فتقدم الصلاة والسلام عليه على الأذان فيهما، وكان أحدث ذلك في زمان صلاح الدين بن أيوب، وعلل الحكمة في ذلك، أما في الأول فلاستيقاظ النائم، وأما في الثاني فلأجل حصول التكبير المطلوب في الجمعة.
ولا يخفى أن من السنة مطلق الصلاة والسلام عليه بعد فراغ الأذان ففي مسلم «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ» وقيس بذلك الإقامة، فالأذان والإقامة من المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي، لقوله تعالى {ورفعنا لك ذكرك} فقد قيل في معناه: لا أذكر إلا وتذكر معي، لكن بعد فراغهما لا عند الابتداء بهما كما يقع لبعض الأروام أن يقول المقيم للصلاة عند ابتداء الإقامة اللهم صل على سيدنا محمد الله أكبر الله أكبر فإن ذلك بدعة.
ومن البدع التطريب في الأذان والتلحين فيه. وفي كلام إمامنا الشافعي «رضي الله ع»: ويكون الأذان مرسلا بغير تمطيط ولا تغنٍ. قيل التمطيط التفريط في المد والتغني أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار.
ومن البدع رفع المؤذنين أصواتها بتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين. قال بعضهم: ولا بأس به لما فيه من النفع، أي حيث لم يبلغهم صوت الإمام بخلاف ما إذا بلغهم.
ففي كلام بعضهم: التبليغ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة حيث بلغ المأمومين صوت الإمام، ومعنى منكرة أنها مكروهة.
وأول ما أُحْدِث التسبيح بالأسحار في زمن موسى "عليه الصلاة والسلام حين كان بالتيه، واستمر إلى أن بنى داود "عليه الصلاة والسلام بيت المقدس، فرتب فيه جماعة يقومون به على الآلات إلى ثلت الليل الأخير، ثم بعد ثلث الليل الأخير يقومون به على الآلات عند الفجر.
وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر، أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي «رضي الله ع»، فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو، ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر. ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية «رضي الله ع»، وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص، وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر، وكان عتبة خطيبا فصيحا.
قال الأصمعي: الخطباء من بني أمية: عتبة بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان. خطب عتبة يوما أهل مصر فقال: يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا، يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة، فألزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا، وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب.
ومما يؤثر عنه: ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم. وقال لبنيه يوما: تلقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها.
ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد، فلما ولي أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون، فلما ولي صلاح الدين يوسف بن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة، وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات، ولم أقف على اسم مؤلفها، فواظبوا على ذكرها في كل ليلة.
قيل في سبب نزول قوله تعالى {قل كلّ من عند الله} أن اليهود قالوا في حق رسول الله ﷺ: منذ دخل المدينة نقصت ثمارها، وغلت أسعارها، فرد الله تعالى عليهم بقوله {قل كل من عند الله} أي يبسط الأرزاق ويقبضها، وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله ﷺ فنزل قوله تعالى لرسول الله {قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر} وقال في موضع آخر {إن تمسسكم حسنة تسؤهم}.
وعن صفية أم المؤمنين «رضي الله ع» بنت حيي قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة غدوا إليه ثم جاءا من العشي، فسمعت عمي يقول لأبي؛ أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت؛ قال: وفي رواية أنها قالت: إن عمي أبا ياسر حين قدم رسول الله ﷺ المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعوني، فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه، ثم انطلق أبي إلى رسول الله، ثم رجع إلى قومه فقال لهم: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا. فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لا تهلك، فقال: والله لا نطيعك ا هـ، أي ثم وافق أخاه حييا فكانا أشد اليهود عداوة لرسول الله ﷺ جاهدين في رد الناس من الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله تعالى فيهما وفيمن كان موافقا لهما في ذلك {ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق}.
وحيي بن أخطب هذا، قيل هو الذي قال لما نزل قوله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}: يستقرضنا ربنا؛ وإنما يستقرض الفقير الغني، فأنزل الله تعالى {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}.
أي وقيل في سبب نزولها إن أبا بكر «رضي الله ع» دخل بيت المدراس، فقال لفنحاص: اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله، فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: والله لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك، فشكاه فنحاص إلى رسول الله، فذكر له أبو بكر ما كان منه، فأنكر قوله ذلك؛ فنزلت الآية.
وقيل في سبب نزولها أيضا «إن رسول الله ﷺ أرسل أبا بكر «رضي الله ع» إلى فنحاص بن عازوراء بكتاب، وكان انفرد بالعلم والسيادة على يهود بني قينقاع بعد إسلام عبدالله بن سلام، يأمرهم في ذلك الكتاب بالإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وأن يقرضوا الله قرضا حسنا، فلما قرأ فنحاص الكتاب قال: أقد احتاج ربكم؟ سنمده». وفي رواية «قال: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، فإن كان حقا ما تقول، فإن الله جل وعلا إذن لفقير ونحن أغنياء، فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: لقد هممت أن أضربه بالسيف وما منعني أن أضربه بالسيف إلا أن رسول الله ﷺ لما دفع إليّ الكتاب قال لي: لا تفتت عليّ بشيء حتى ترجع إليّ، فجاء فنحاص إلى النبي ﷺ وشكا أبا بكر «رضي الله ع»، فقال لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله إنه قال قولا عظيما، زعم أن الله «عَزَّ وجَلّ» فقير وأنهم أغنياء، فغضبت لله تعالى، وقال فنحاص: والله ما قلت هذا، فنزلت الآية تصديقا لأبي بكر «رضي الله ع»».
وقد قال بعض اليهود لبعض العلماء إنما قلنا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه استقرض أموالنا، فقال له: إن كان استقرضها لنفسه فهو فقير، وإن كان استقرضها لفقرائكم ثم يكافيء عليها فهو الغني الحميد.
ومن شدة عداوتهم: أي اليهود أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي ﷺ في مشط أي له وقيل في أسنان من مشطه ومشاطة: وهي ما يخرج من الشعر إذا مشط: أي من شعر رأسه، أعطاها لهم غلام يهودي كان يخدمه، وجعل مثالا من شمع. وقيل من عجين كمثال رسول الله ﷺ وغرز فيه إبرا وجعل معه وترا عقد فيه إحدى عشرة عقدة.
وفي لفظ أن الإبر كانت في العقد، ودفن ذلك تحت راعونة في بئر ذي أروان. وقد مسخ الله ماءها حتى صار كنقاعة الحناء، . فكان يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله: أي ومكث في ذلك سنة، وقيل ستة أشهر، وقيل أربعين يوما.
قال بعضهم: ويمكن أن تكون السنة أو الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه الشريف، وأن مدة اشتداده كانت في الأربعين، وقيل اشتد عليه ثلاثة أيام. وقد يقال هي أشدّ الأربعين، فلا منافاة. وعند ذلك نزل جبريل "عليه الصلاة والسلام وقال له «إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ودفنها بمحل كذا فأرسل عليا «رضي الله ع» فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وجد بذلك خفة حتى قام كأنما نشط من عقال» وفي رواية: أن اليهودي دفن ذلك بقبر، فأنزل الله تعالى سورة الفلق وسورة الناس وهما إحدى عشرة آية، سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها. وفي لفظ: فإذا وتر في إحدى عشرة عقدة مغروزة بلإبر، فلم يقدروا على حل تلك العقد، فنزلت المعوذتان، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة، ووجد بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال، وجعل جبريل يقول: «بسم الله أرقيك، والله يشفيك من كل داء يؤذيك» أي ولعله كان يقول ذلك عند حل كل عقدة بعد قراءة الآية أي وكان ذلك بين الحديبية وخيبر.
وذكر بعضهم أنه بعد خيبر جاءت رؤساء يهود الذين بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام إلى لبيد بن الأعصم وكان أعلمهم بالسحر، فقالوا له: يا أبا الأعصم قد سحرنا محمدا، سحره منا الرجال فلم يصنع شيئا أي ولم يؤثر سحرهم، وأنت ترى أمره فينا وخلافه في ديننا ومن قتل وأجلى، ونجعل لك على سحره ثلاثة دنانير ففعل ذلك. ثم إنه قال «جاني رجلان» أي وهما جبريل وميكائيل كما في بعض طرق الحديث «فقعد أحدهما عند رأسي والآخر تحت رجلي» فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ فقال الآخر: مطبوب، أي مسحور، فقال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فيم؟ قال في مشط ومشاطة» وفي لفظ «ومشاقة» أي وهي المشاطة. وقيل هي مشاقة الكتان وجف بالجيم والفاء، وقيل بالباء الموحدة طلعة ذكر: أي غشاء طلع الذكر الذي يقال له كوز الطلع، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي ذروان» على وزن مروان. وفي لفظ «بئر ذي أروان» وفي لفظ «بئر ذروان» وعليه اقتصر في الإمتاع «تحت صخرة في الماء قال: فما دواء ذلك؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتوجد الكدية فيها تمثال فيه إحدى عشرة عقدة فتحرق: فإنه يبرأ بإذن الله تعالى، ثم أحضر لبيدا فاعترف فعفا عنه لما اعتذر له بأن الحامل له على ذلك حب الدنانير. وقيل له: يا رسول الله لو قتلته، فقال: قد عافاني الله، ما وراءه من عذاب الله تعالى أشد».
ويحتاج إلى الجمع بين كون جبريل قال له سحرك إلى آخره، وكون جاءه رجلان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل إلى آخره قيل وهذا: أي عدم قتل الساحر ربما يعارض القول بأن الساحر يتحتم قتله. فيه أنه عندنا لا يتحتم قتله، ولا يقتل إلا إذا قتل بسحره واعترف بأن سحره يقتل غالبا.
ولبيد هذا قيل إنه أول من قال بنفي صفات الباري، وقال بها الجهم بن صفوان وأظهرها، فقيل لأتباعه في ذلك الجهمية.
«فعند ذلك بعث عليا وعمار بن ياسر إلى تلك البئر فاستخرجا ذلك». وقيل الذي استخرج السحر بأمر رسول الله ﷺ قيس بن محصن.
وفي الصحيح عن عائشة «رضي الله ع» «أنه توجه إلى البئر مع جماعة من أصحابه، فإذا ماؤها كأنه خضب بالحناء، فاستخرجا» أي النبي ﷺ وجماعته «منها ذلك».
ويحتاج إلى الجمع بين كون أرسل لاستخراج السحر عليا كرم الله وجهه، وكونه بعث لاستخراجه عليا وعمار بن ياسر، وكونه أمر قيس بن محصن باستخراجه، وكونه ذهب هو وجماعته لاستخراجه، فإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة: أي وإذا فيها إبر مغروزة، ونزلت المعوذتان، فجعل رسول الله ﷺ كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد، فذهب عنه ما كان يجد.
أي ولا ينافي ما تقدم أن القارىء لذلك جبريل "عليه الصلاة والسلام، لجواز أن يكون كلاهما صار يقرأ الآية، أو أنه صار يقرأ بعد قراء جبريل.
وفي الإمتاع عن عائشة «رضي الله ع» أنها قالت له «أفلا استخرجته؟ قال: لا، أما أنا فقد عافاني الله؛ وكرهت أن أثير على الناس شرا» ومراد عائشة بقولها أفلا استخرجته السحر: أي هلا استخرجت السحر من الجف والمشاطة حتى تنظر إليه، فقال أكره أن أثير على الناس شرا.
قال ابن بطال: أي كره أن يخرجه فيتعلم منه بعض الناس، فذلك هو الشر الذي كرهه: وذكر السهيلي أنه يجوز أنه يكون الشر غير هذا، وهو أنه لو أظهر للناس لربما قتله طائفة من المسلمين، ويغضب آخرون من عشريته فيثور شر.
وعن عائشة «رضي الله ع» «أنها قالت له: هلا تنشرت»؟ أي استعملت النشرة قال بعضهم: وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليها قولها. وكرهها جمع واستندوا لحديث في أبي داود مرفوعا «النشرة من عمل الشيطان» وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم «فأمر بها فطمت» أي تلك البئر، وحفروا بئرا أخرى، فأعانهم رسول الله ﷺ في حفرها حيث طموا الأخرى التي سحر فيها، هذا كلامه، فليتأمل مع ما قبله.
وقيل إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد، ودخلت إحداهنّ على عائشة فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله ﷺ من بصره ثم خرجت إلى أخواتها فأخبرتهن بذلك، فقالت إحداهن: إن يكن نبيا فسيخبر، وإن يكن غير ذلك فسوف يذهله هذا السحر حتى يذهب عقله، فدله الله تعالى عليه.
وقد يجمع بين كون الساحر له لبيدا وكون الساحر له أخوات لبيد بأن الساحر له أخوات لبيد، ونسب السحر إلى لبيد لأنه جاء أنه الذي ذهب به فأدخله تحت راعونة البئر: أي أو في القبر كما تقدم. ولا منافاة، لجواز أن يكون وضعه في القبر مدة ثم أخرجه منه ووضعه تحت تلك الراعونة أي وهي حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظف البئر، أي والثاني هو المراد بدليل ما سبق.
وفي النهر لأبي حيان: ونص القرآن والحديث أن السحر تخييل: أي لا يقلب الأعيان ولا شك في وجوده في زمن الرسول، وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء، فلا يصبح منه شيء ألبتة.
وطعنت المعتزلة وطوائف من أهل البدع في كونه سحر وقالوا: لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا، ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا وقد عصموا من الناس.
وردّ بأن الحديث الدال على ذلك صحيح، والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها، والسحر إنما أثر في بعض جوارحه فقد تقدم عن عائشة «رضي الله ع» من ذكرها ما أنكر من بصره لكن تقدم أنه صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وهذا متعلق بالعقل.
ثم رأيت أبا بكر بن العربي قال: لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمر، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له.
قال: ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعنا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقدح فيها؛ وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه.
وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس، كان شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم. مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدّثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم بعدما كان بينهم من العداوة، فقال: قد اجتمع بنو قيلة، والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأمر فتى شابا من يهود، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم؛ ثم اذكر يوم بعاث: أي أيوب الحرب الذي كان بينهم، وما كان فيه، وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل، فتكلم القوم عند ذلك: أي قال أحد الحيين: قد قال شاعرنا كذا، وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا، وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة: أي قالوا: تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت، فنادى هؤلاء يا للأوس، ونادى هؤلاء يا للخزرج، ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح، واصطفوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين الله الله» أي اتقوا الله «أبدعوى الجاهلية» أي وهي يا للخزرج يا للأوس «وأنا بين أظهركم؟ بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وألفكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر؛ وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج، ثم انصرفوا مع رسول الله، فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس {يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا} الآية».
وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية، وهي: يا لفلان قوله «إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا»أي قولوا له اعضض على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن؛ فلا تقولوا على هن أبيك، بل قولوا على ذكر أبيك، تنكيلا له وزجرا عما أتى به: أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} الآية، وقد قرأها رسول الله ﷺ وهو بين الصفين رابعا بها صوته، فألقوا السلاح وفعلوا ما تقدم.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «أن يهود كانوا يستفتحون» أي يستنصرون «على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه» أي يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما تقدم عند مبايعة العقبة، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وكفر، وتخبرونا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام» أي بالتشديد «ابن مشكم من عظماء يهود بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، ما هو الذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}».
وقيل في سبب نزول قوله تعالى {ما أنزل الله على بشر من شيء} أنه قال لمالك بن الصيف وكان رئيسا على اليهود: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود، فضحك القوم، فغضب والتفت إلى عمر «رضي الله ع»، فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقالت له اليهود: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف» أي لأن في قوله المذكور طعنا في التوراة.
وقيل «إن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهم كانوا إذا قاتلوا من بينهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة قبل مبعث النبي ﷺ يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك باعثه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم» وفي لفظ «قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون» وفي لفظ «يقولون: اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم» وفي لفظ «أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود، فدعت يوما: اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فيهزمون غطفان وصار اليهود يسألونه عن أشياء ليلبسوا الحق بالباطل» أي ومن جملة ما سألوه عن الروح؛ فعن ابن مسعود «رضي الله ع»، قال «كنت أمشي مع النبي ﷺ في حرث المدينة يتوكأ على عسيب» أي جريدة من جريد النخل «إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون» وفي رواية: «لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه» أي يجيبكم بما هو دليل عندكم على أنه النبي الأمي وأنتم تنكرون نبوّته «فقاموا إليه فقالوا: يا محمد» وفي رواية «يا أبا القاسم ما الروح؟ » وفي رواية «أخبرنا عن الروح فسكت» قال ابن مسعود: فظننت أنه يوحي إليه، فقال {ويسألونك عن الروح} أي التي يكون بها الحيوان حيا {قل الروح من أمر ربي} فقالوا: هكذا نجد في كتابنا أي التوراة» وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على فترة الوحي.
قال صاحب الإفصاح: إنه إنما سأل اليهود عن الروح تعجيزا وتغليطا؛ لأن الروح تطلق بالاشتراك على الروح للإنسان، وعلى القرآن، وعلى عيسى، وعلى جبريل، وعلى ملك آخر، وعلى صنف من الملائكة، فقصد اليهود أنه بأي شيء أجابهم به، قالوا: ليس هو، فجاءهم الجواب مجملا، فكان هذا الجواب لرد كيدهم، لأن كل واحد مما ذكر أمر من مأمورات الحق تعالى. ولما أنزل الله تعالى في حق اليهود {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قالوا أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، فأنزل الله تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} وفي الكشاف «أنهم قالوا: نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال: نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك، ساعة تقول {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} وساعة تقول هذا، فنزلت {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} هذا كلامه «وسألوه متى الساعة إن كنت نبيا» فأنزل الله تعالى {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} الآية».
أي «وجاء يهوديان إلى رسول الله، فسألاه عن قوله تعالى {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات}، فقال لهما لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت، فقبلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبيّ، قال: ما يمنعكما أن تسلما؟ فقالا: نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود».
أي «وسألوه عن خلق السموات، أي في أيّ زمن، والأرض وما بينهما، أي مدة ما بينهما؟ فقال لهم: خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيها يوم الثلاثاء» أي، ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل «وخلق البحر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس، وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الجمعة، قالوا: ثم ماذا يا محمد؟ قال: ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو تممت ثم استراح» أي لو قلت هذا اللفظ، لأنهم يقولون إنه استراح جل وعز يوم السبت، ومن ثم يسمونه يوم الراحة، فأنزل الله تعالى {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أي تعب {فاصبر على ما يقولون}.
وفي رواية «خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت».
وهذا يشكل على ما تقدم أن مبدأ الخلق يوم السبت حتى يكون آخر الأسبوع يوم الجمعة، وهو الراجح على ما تقدم.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} إلى قوله {إن الدين عند الله الإسلام} أن حبرين من أراضي الشام لم يعلما ببعثته، فقدما المدينة، فقال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، فأخبرا بمهاجرة النبي ﷺ ووجوده في تلك المدينة، فلما رأياه قالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: نسألك مسألة إن أخبرتنا بها آمنا، فقال: اسألاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى، فنزلت هذه الآية، فتلاها عليهما فآمنا».
قال: وعن قتادة «رضي الله ع» «أن رهطا من اليهود جاؤوا إلى رسول الله، فقالوا: يا محمد هذا الذي خلق الجن والإنس من خلقه» وفي لفظ «خلق الله الملائكة من نور الحجاب، وآدم من حمأ مسنون، وإبليس من لهب النار، والسماء من دخان، والأرض من زبد الماء، فأخبرنا عن ربك من أي شيء خلق؟ فغضب حتى انتقع لونه، فجاء جبريل "عليه الصلاة والسلام، وقال له: خفض عليك، فأنزل الله تعالى عليه {قل هو الله أحد} السورة» أي متوحد في صفات الجلال والكمال، منزه عن الجسمية، واجب الوجود لذاته: أي اقتضت ذاته وجوده، مستغن عن غيره، وكل ما عداه محتاج إليه ا هـ.
أقول: ونزول جبريل بذلك ربما يدل على أنه توقف ولم يدر ما يقول كما وقع له لما سأله عبدالله بن سلاّم «رضي الله ع»، وقال له صف ربك كما سيأتي.
ثم رأيت عن الشيخين وغيرهما أن ابن مسعود «رضي الله ع» ذكر في سبب نزول هذه السورة غير ما ذكر، ولعله ما سيأتي في قصة إسلام عبدالله بن سلام، ولا مانع من تكرر النزول لأسباب مختلفة.
ثم رأيته في الإتقان ذكر أن سورة الإخلاص تكرر نزولها، فنزلت جوابا للمشركين بمكة وجوابا لأهل الكتاب بالمدينة، وقال قبل ذلك إنها إنما نزلت بالمدينة.
وفي دعوى تكرر نزولها يقال: حيث سئل أولا ونزلت جوابا كيف يتوقف ثانيا عند السؤال الثاني حتى يحتاج إلى نزولها مع بعد نسيان ذلك له.
ثم رأيت عن البرهان: قد ينزل الشيء مرتين، تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه، وهو كما ترى لا يدفع التوقف. وكان من أعلم أحبار يهود عبدالله بن سلام بالتخفيف: وكان قبل أن يسلم اسمه الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله ﷺ عبدالله وكان من ولد يوسف الصديق: أي وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله تعالى {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم} وكان من يهود بني قينقاع كما تقدم. جاء إلى النبي ﷺ وسمع كلامه، أي في أول يوم دخل فيه رسول الله دار أبي أيوب أي ولعل الذي سمعه من النبي، هو قوله «يا أيها الناس أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
فعنه «رضي الله ع»، قال «لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل إليه الناس» أي بالجيم: أسرعوا «فكنت ممن أتى إليه» أي وهذا يدل على أنه جاءه في قباء وسيأتي «قال: فلما رأيت وجهه عرفت أنه وجه غير كذاب» أي لأن صورته وهيئته وسمته تدل العقلاء على صدقه، وأنه لا يقول الكذب، قال عبدالله «فسمعته يقول: أيها الناس إلى آخره».
أي ولا مانع أن يكون ذلك تكرر منه، وعند ذلك قال: أشهد أنك رسول الله حقا، وأنك جئت بحق ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئته، أي في بيت أبي أيوب وقلت له لقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم قوم بُهت» أي بضم الباء والهاء «يواجهون الإنسان بالباطل، وأعظم قوم عضيهة» أي كذبا/ «وإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ، وخذ عليهم ميثاقا أني إن أتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك، فأرسل رسول الله ﷺ إليهم فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله ﷺ: يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، أسلموا، قالوا ما نعلم، فأعاد ذلك عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك، قال فأي رجل فيكم ابن سلاّم؟ قالوا، ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا» وفي رواية «خيرنا وابن خيرنا» بالخاء المعجمة والياء المثناة تحت أفعل تفضيل، وقيل بالمهملة والياء الموحدة، أي أعلمنا بكتاب الله «سيدنا وعالمنا وأفضلنا، قال: أفرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل عليّ تؤمنوا بي؟ قالوا نعم، فدعاه، فقال: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج عليهم فقال: يا عبدالله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله تجدني عندكم مكتوبا في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي وأن تتبعوني من أدركني منكم؟ قال ابن سلام: بلى يا معشر يهود، ويلكم اتقوا الله، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا، وأنه جاء بالحق»، قال زاد في رواية «تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، قالوا: كذبت، أنت أشرنا، وابن أشرنا» وهذه لغة رديئة، والفصحى شرنا وابن شرنا بغير همزة وهي رواية البخاري «قال ابن سلام «رضي الله ع»: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بُهت أهل غدر وكذب وفجور؟ » انتهى «فأخرجهم رسول الله ﷺ وأظهرت إسلامي، وأنزل الله تعالى {قل أرأيتم إن كان من عند الله} يعني الكتاب أو الرسول {وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل} يعني عبدالله بن سلام {على مثله} يعني اليهود {فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}».
أقول: هذا السياق لا يناسب ما حكاه في الخصائص الكبرى عن تاريخ الشام لابن عساكر: أن ابن سلام اجتمع بالنبي ﷺ بمكة قبل أن يهاجر، فقال له النبي ﷺ، أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟ قال نعم، قال: ناشدتك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله يعني التوراة؟ قال: أنسب ربك يا محمد، فأرتج النبي » أي توقف «ولم يدر ما يقول، فقال له جبريل: {قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}، فقال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله تعالى {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} أنت عبدي ورسولي» إلى آخر ماتقدم عن التوراة، فإنه يدل على أن ابن سلام أسلم بمكة وكتم إسلامه، ولو كان كذلك لما قال «فلما رأيت وجهه الشريف عرفت أنه غير وجه كذاب» ولما قال «وكنت عرفت صفته واسمه» ولما سأله عن الأمور الآتية، ولما احتاج إلى الإسلام ثانيا، إلا أن يقال على تسليم صحة ما قاله ابن عساكر جاز أن يكون قال ذلك، وفعل ما ذكر إقامة للحجة على اليهود.
وقد وقع لابن سلام هذا أنه لقي عليا بالربذة وقد خرج بعد قتل عثمان وبعد أن بويع بالخلافة متوجها إلى البصرة لما بلغه أن عائشة وطلحة والزبير ومن معهم خرجوا إلى البصرة في طلب دم عثمان، وكان ذلك سببا لوقعة الجمل، فأخذ بعنان فرس عليّ، وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها يعني المدينة، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا، فسبه بعض الناس، وقال له: مالك ولهذا؟ يا ابن اليهودية، فقال عليّ: دعوه، فنعم الرجل من أصحاب النبي ».
وعن أبي هريرة «رضي الله ع» قال: لقد لقيت عبدالله بن سلام، فقلت له: أخبرني عن ساعة الإجابة يوم الجمعة، فقال في آخر ساعة في يوم الجمعة؟ قلت: وكيف وقد قال رسول الله «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة لا صلاة فيها؟ فقال ابن سلام: ألم يقل رسول الله «من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي».
وفيه أن في الصحيحين «إن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي فسأل الله «عَزَّ وجَلّ» شيئا إلا أعطاه إياه» ثم رأيت عن سنن ابن ماجه أن جواب ابن سلام تلقاه عن النبي.
ونص السنن المذكورة، عن عبدالله بن سلام «رضي الله ع»، قال «قلت ورسول الله ﷺ جالس، إنا لنجد في كتابنا يعني التوراة، في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله «عَزَّ وجَلّ» فيها شيئا إلا قضى حاجته، قال عبدالله بن سلام: فأشار إلى رسول الله ﷺ أو بعض ساعة؟ فقلت: صدقت يا رسول الله، أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال: آخر ساعة من ساعات النهار، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: بلى؛ إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يحبسه إلا الصلاة فهو في الصلاة» أي ولعل لفظ قائم في رواية الصحيحين يراد به مريد القيام إلى الصلاة، أي صلاة العصر. وقد قيل: إن تلك الساعة رفعت بعد موته. وقيل هي باقية، وهو الصحيح. وعليه، فقيل لا زمن لها معين، وقيل هي في زمن معين وعليه ففي تعيينها أحد عشر قولا، وقيل أربعون قولا.
وقد وقع لميمون بن يامين وكان رأس اليهود مثل ما وقع لابن سلام مع اليهود «فإنه جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما فإنهم يرجعون إليّ، فأدخله داخلا وأرسل إليهم، فجاؤوه، فقال لهم اختاروا رجلا حكما يكون بيني وبينكم، قالوا: قد رضينا ميمون بن يامين، فقال: أخرج إليهم، فقال: أشهد إنه لرسول الله، فأبوا أن يصدقوه» والله أعلم.
وقد أشار إلى إنكارهم نبوته مع معرفتهم لها صاحب الهمزية يقوله:
عرفوه وأنكروه فظلما ** كتمته الشهادة الشهداء
أو نور الإله تطفئه الأفـ ** ـواه وهو الذي به يستضاء
كيف يهدي الإله منهم قلوبا ** حشوها من حبيبه البغضاء
أي عرفوه أنه النبي المنتظر، وأنكروه بظواهرهم، ولأجل ظلمهم كتمت الشهادة به العارفون به. أو نور الإله الذي هو النبوة تذهبه الألسن؟ لا يكون ذلك، وكيف يكون ذلك وهو الذي يستضاء به في الظاهر والباطن، كيف يوصل الإله قلوبا للحق وملؤها البغضاء لحبيبه؟
أقول: وقيل في سبب نزول سورة {قل هو الله أحد} أن وفد نجران لما نطقوا بالتثليث، قال لهم المسلمون: من خلقكم؟ قالوا الله، قالوا لهم: فلم عبدتم غيره وجعلتم معه إلهين؟ فقالوا: بل هو إله واحد؛ لكنه حل في جسد المسيح، إذا كان في بطن أمه، فقالوا لهم: هل كان المسيح يأكل الطعام؟ قالوا: كان يأكل الطعام، فأنزل الله تعالى {قل هو الله أحد الله الصمد} تكذيبا لهم في أنه ثالث ثلاثة، والصمد: هو الذي لا جوف له، فهو غير محتاج إلى الطعام.
وقيل سبب نزولها أن قريشا هم الذين قالوا له انسب لنا ربك يا محمد؛ وتقدم ما فيه والله أعلم.
وقد جاء عن ابن عباس «رضي الله ع» في تفسير قوله تعالى {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} قال الله تعالى للأحبار من اليهود {أوفوا بعهدي} الذي أخذته في أعناقكم للنبي إذ جاءكم بتصديقه واتباعه {أو بعهدكم} أنجز لكم ما وعدتم عليه؛ بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال {ولا تكونوا أوّل كافر به} وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي، وبما جاء به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
قال بعضهم: ولم يسلم من رؤساء علماء اليهود إلا عبدالله بن سلام وضم إليه السهيلي عبدالله بن صوريا، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف لعبدالله بن صوريا على إسلام من طريق صحيح، وإنما نسب لتفسير النقاش؛ أي ويضم لعبدالله بن سلام ميمون المتقدم ذكره.
وروي في سبب إسلام عبدالله بن سلام: أي إظهار إسلامه على ما تقدم أنه لما بلغه مقدم النبي ﷺ أتاه في قباء، فعنه «رضي الله ع» «جاء رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة أعمل فيها وعمتي تحتي جالسة، فلما سمعت بقدوم رسول الله ﷺ كبرت، فقالت لي عمتي: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت، فقلت لها: أي عمة، فوالله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به. قالت يا بن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع بعث الساعة وفي لفظ «مع نفس الساعة، فقلت لها نعم».
أي وقد جاء عن ابن عمر «رضي الله ع» «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري» وجاء أنه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين وقال بأصبعيه هكذا يعني السبابة والوسطى» أي جمع بينهما. وفي رواية «بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه» وفي رواية «سبقتها بما سبقت هذه هذه وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة» قال الطبري الوسطى تزيد على السبابة نصف سُبَع أصبع، كما أن نصف يوم من سبعة أيام نصف سبع، أي وقد تقدم عن ابن عباس «رضي الله ع»: الدنيا سبعة أيام، كل يوم ألف سنة، وبعث رسول الله ﷺ في آخر يوم منها، وتقدم في حديث أخرجه أبو داود «لن يعجز الله أن يؤخر هذه الأمة نصف يوم» يعني خمسمائة سنة قال بعضهم: فإن قيل ما وجه الجمع بين هذا وبين قوله لما سئل عن الساعة «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» لدلالة الرواية الأولى على علمه بها.
أجيب بأن القرآن نطق بأن علمها عند الله لا يعلمها إلا هو. ومعنى قوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» أنه ليس بيني وبينها نبي آخر يأتي بشريعة ولا يتراخى إلى أن تندرس شريعتي، فهو أول أشراطها لأنه نبي آخر الزمان، وهذا لا يقتضي أن يكون عالما بخصوص وقتها. قال ابن سلام: وكنت عرفت صفته واسمه: أي في التوراة. زاد في رواية «فكنت مسرّا لذلك ساكتا عليه حتى قدم المدينة فجئته، فقلت: يا محمد إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي ﷺ: أخبرني بهن جبريل آنفا، فقال ابن سلام: ذلك يعني جبريل عدو اليهود من الملائكة».
وقيل قائل ذلك عبدالله بن صوريا، ولا مانع من أن يكون قال ذلك كل منهما: أي وعن ابن صوريا أنه قال له: «من ينزل عليك بالوحي؟ قال جبريل، قال: ذلك عدّونا لو كان غيره» وفي لفظ «لو كان ميكائيل لآمنا بك لأن جبريل ينزل بالخسف والحرب والهلاك، وميكائيل، ينزل بالخصب والسلم».
وسبب العداوة أنهم زعموا أنه أمر أن يجعل النبوة فيهم: أي يجعل النبي المنتظر في بني إسرائيل الذين هم أولاد إسحاق فعجلها في غيرهم: أي في ولد إسماعيل.
وقيل سبب عداوتهم لجبريل أنه أنزل على نبيهم أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثوا من يقتله من أعظم بني إسرائيل قوة، فأراد قتله فمنعه عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بإهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، فصدقه ورجع عنه.
أي فإن بني إسرائيل لما اعتدوا وقتلوا شعياء جاء بختنصر ملك فارس وحاصر بيت المقدس وفتحها عنوة وأحرق التوراة وخرب بيت المقدس.
وقيل في سبب العداوة كونه يطلع النبي ﷺ على سرهم، ولا مانع من أن يكون كل ذلك سببا للعداوة.
ثم قال: «أما أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت» أي وهي القطعة المنفردة المعلقة بالكبد. قال بعضهم: وهي في الطعم في غاية اللذة. ويقال إنها أهنأ طعام وأمرؤه.
وروي «أن الثور ينطح الحوت بقرنه فيموت فتأكل منه أهل الجنة، ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فتأكله أهل الجنة، ثم يحيا، قال: وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها» أي لكن في فتح الباري عن عائشة «رضي الله ع» «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه أخواله» والمراد بالعلو السبق.
وعن ثوبان «إذ علا منيّ الرجل منيّ المرأة جاء الولد ذكرا، وإن علا منيّ المرأة منيّ الرجل جاء أنثى» والعلو فيه على بابه هذا كلامه، أي وإذا استوى الماءان جاء خنثي وفي رواية «قالوا له: أين تكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ ومن أول الناس إجازة وما تحفتهم» أي الناس حين يدخلون الجنة «وما غذاؤهم على أثره، وما شرابهم عليه؟ فأجابهم "عليه الصلاة والسلام بأنهم يكونون في ظلمة دون الجسر» ولعل المراد بالجسر الصراط، لكن في رواية مسلم «أين الناس يومئذٍ؟ قال: على الصراط» ثم رأيت عن البيهقي أن قوله: على الصراط مجاز لكونهم بمجاورته.
ونقل القرطبي على صاحب الإفصاح أن الأرض والسماء يتبدلان مرتين.
المرأة الأولى: تتبدل صفتهما فقط، وذلك قبل نفخة الصعق فتتناثر كواكبها، وتخسف الشمس والقمر وتتناثر السماء كالمهل، وتنكشط الأرض، وتسير الجبال.
والمرة الثانية: تتبدل ذاتهما، وذلك إذا وقفوا في المحشر، فتتبدل الأرض بأرض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة: أي والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي «رضي الله ع».
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الخباز كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة، فيأكل المؤمن من تحت رجليه، ويشرب من الحوض».
قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعذبون بالجوع في طول زمان الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض خبزا حتى يأكلون منها من تحت أقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة.
قال: ويؤيد أن هذا مراد الحديث ما جاء «تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها أهل الإسلام حتى يفرغوا من الحساب» هذا كلامه، فليتأمل ما مع قبله من أن الأرض تبدل بأرض من فضة، وأن هذا يدل على أن تلك الأرض التي تكون خبزة تكون في موقف الحساب. وما جاء عن عليّ «رضي الله ع» يدل على أنها تكون بعد مجاوزتهم الصراط «وأول الناس إجازة فقراء المهاجرين، وتحفة أهل الجنة حين يدخلونها زيادة كبد النون» أي الحوت «وغذاؤهم ينحر لهم ثور الجنة التي يأكل من أطرافها، وشرابهم من عين تسمى سلسبيلا. وسألوه فقالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ فقال "عليه الصلاة والسلام: تنام عيناه ولا ينام قلبه. وسألوه أي طعام حرم إسرائيل على نفسه قبل أن تنزل التوراة؟ قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمنّ أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، فكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا: اللهم نعم» أي حرمهما ردعا لنفسه ومنعا لها عن شهواتها. وقيل لأنه كان به عرق النسا وكان إذا طعم ذلك هاج به.
وذكر أن سبب نزول قوله تعالى {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه} قول اليهود له «كيف تقول إنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وتشرب ألبانها وكان ذلك محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا أي علمه في التوراة، فنحن أولى الناس بإبراهيم منك ومن غيرك، فأنزل الله تعالى الآية تكذيبا لهم أي بأن هذا إنما حرمه يعقوب على نفسه، ومن ثم جاء فيها {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}.
وكانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها أي وفي كلام الواحدي قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت كفعل المجوس هذا كلامه «فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك» أي قال له بعض الأعراب «يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلك الحيض فأنزل الله تعالى {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} الآية فقال لهم رسول الله ﷺ: اصنعوا كل شيء إلا النكاح» أي الوطء وما في معناه، وهو مباشرة ما بين السرة والركبة، أي فإن الآية لم تنص إلا على عدم قربانهن بالوطء في الحيض.
ومن ثم جاء في رواية «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر إلى رسول الله، وقالا إن اليهود قالت كذا فهلا نجامعهن؟ أي نوافقهن، فتغير وجه رسول الله » أي وعند ذلك قال بعض الصحابة «فظننا أنه قد وجد أي غضب عليهما فلما خرجا استقبلتهما هدية من لبن إلى النبي ﷺ فأرسل في أثرهما فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجد عليهما».
وذكر المفسرون أن في منع الوطء للحائض اقتصادا من إفراط اليهود وتفريط النصارى، فإنهم لا يمتنعون من وطء الحيض، أي وذكر أن ابن سلام وغيره ممن أسلم من يهود استمروا على تعظيم السبت وكراهة أكل لحم الإبل وشرب ألبانها، فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا: إن التوراة كتاب الله فنعمل به أيضا، فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}: أي وفي رواية «قالوا له ما هذا السواد الذي في القمر؟ فأجابهم عن ذلك بأنهما كانا شمسين أي شمس في الليل وشمس في النهار، قال الله تعالى {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} فالسواد الذي يُرى هو المحو» أي أثره. قال بعضهم في قوله تعالى {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} أن الليل ذكر والنهار أنثى، فالليل كآدم والنهار كحواء.
وقد ذكر أن الليل من الجنة والنهار من النار، ومن ثم كان الأنس بالليل أكثر وجاء «أنه قال لرجل من علماء اليهود: أتشهد أني رسول الله؟ قال لا، قال أتقرأ التوراة؟ قال نعم، قال: والإنجيل؟ قال نعم، فناشده هل تجدني في التوراة والإنجيل؟ قال: نجد مثلك ومثل مخرجك ومثل هيئتك، فلما خرجت خفنا أن تكون أنت، فنظرنا فإذا أنت لست هو، قال: ولم ذاك؟ قال: معه من أمته سبعون ألفا ليس عليهم حساب ولا عذاب، وإنما معك نفر يسير، قال: والذي نفسي بيده لأنا هو وإنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا» وقد سأله عن الرعد أي والبرق فقال «صوت ملك موكل بالسحاب يسوقه أي بمخراق من نار في يده يزجر به السحاب إلى حيث أمره الله تعالى».
وعن علي بن أبي طالب «رضي الله ع» قال «البرق مخاريق من نار بأيدي ملائكة يزجرون به السحاب» والمخراق المنديل يلف ليضرب به، أي وحينئذ فالمراد بالملك الجنس. وفي رواية «إن الله ينشىء السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك، ومنطقها الرعد، وضحكها البرق».
وفي بعض الآثار «لله ملائكة يقال لهم الحيات، فإذا حركوا أجنحتهم فهو البرق» أي وتحريكهم لأجنحتهم يكون غالبا عند الرعد، لأن الغالب وجود البرق عند الرعد.
وعن بعضهم قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة وجوه، وجه إنسان، ووجه ثور ووجه نسر، ووجه أسد، فإذا مصع بذنبه، أي حركه فذلك البرق، أي وتحريكه غالبا يكون عند وجود الرعد.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «البرق ملك يتراءى» أي يظهر ويغيب وفي رواية «الرعد ولك يزجر السحاب، والبرق طرف ملك» أي ينظر به عند وجود الرعد غالبا. وفي رواية «إن ملكا موكل بالسحاب في يده مخراق، فإذا رفع برقت، وإذا زجر رعدت، وإذا ضربه صعقت».
وعن مجاهد: «الرعد ملك، والبرق أجنحته يسوق بها السحاب» فيكون المسموع صوته أو صوت سوقه، فليتأمل الجمع بين هذه الروايات.
وذهب الفلاسفة إلى أن الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها، فقد زعموا أن عند اصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود.
وقيل في سبب نزول قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} أن اليهود أنكروا النسخ فقالوا، ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافة، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت.
«وسألوه مم يخلق الولد؟ فقال: يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة أي بيضاء منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة أي صفراء منها اللحم والدم؛ فقالوا: هكذا كان يقول من قبلك أي من الأنبياء» وتقدم في ترجمة سطيح إيراد عيسى "عليه الصلاة والسلام على ذلك، أي وقالوا إغاظة له ما نرى لهذا الرجل همة، إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء؛ فأنزل الله تعالى {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية}.
فقد جاء «إنه كان لسليمان "عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وتسعمائة سرية».
«وسألوه عن رجل زنى بامرأة بعد إحصانه: أي كان شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله ﷺ: أي قالوا لهم إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فسألوه فأجابهم بالرجم؛ فلم يفعلوا ذلك فقال لجمع من علمائهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان الرجم؟ الرجم فأنكروا ذلك، فقال عبدالله بن سلام كذبتم، فإن فيها آية الرجم فأتوا بالتوراة، فوضع واحد منهم يده على تلك الآية، فقال له ابن سلام ارفع يدك عنها فرفعها فإذا آية الرجم.
أقول: هذا كان في السنة الرابعة، وهو يخالف ما في بعض الروايات «أن بعض أحبار يهود أي وهم كعب بن الأشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة ابن أبي الحقيق اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله ﷺ المدينة وقد زنى رجل من يهود بعد إحصانه بامرأة محصنة من اليهود وقالوا: إن أفتانا بالجلد أخذنا به واحتججنا بفتواه عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، وإن أفتانا بالرجم خالفناه، لأنا خالفنا التوراة فلا علينا من مخالفته».
وفي رواية الصحيحين عن ابن عمر «رضي الله ع» «أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا: أي بعد إحصان، فقال لهم رسول الله: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ قالوا: نفضحهما: أي بأن نسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل إدبار الحمار» وفي لفظ «يحملان على الحمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما ويجلدان، أي بحبل من ليف مطلي بقار، فقال عبدالله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبدالله بن سلام: ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فيها آية الرجم».
وقد جاء «إن موسى "عليه الصلاة والسلام خطب بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده، ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة، ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة جلدة، ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت» والله أعلم.
قال «ولما جاؤوا إليه قالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا: أي بعد إحصان فقال لهم: ما تجدون في التوراة؟ فقالوا: دعنا من التوراة، فقل لنا ما عندك فأفتاهم بالرجم فأنكروه، فلم يكلمهم رسول الله ﷺ حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: يا معشر يهود أخرجوا إليّ أعلمكم، فأخرجوا إليه عبدالله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد إحصان قالوا: يحم أي يعير ويجتنب، فقال عبدالله بن سلام كذبتم فإن فيها آية الرجم، أي وفي رواية «لما سألهم وأجابوه إلا شابا منهم فإنه سكت، فألح عليه في النشدة فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم، ولكن رأينا أنه إن زنى الشريف جلدناه والوضيع رجمناه كان من الحيف، فاتفقنا على ما نقيمه على الشريف والوضيع وهو ما علمت فعند ذلك قال رسول الله ﷺ: أنا أحكم بما في التوراة» ولعل هذا الشاب ابن صوريا، ففي الكشاف «أنه لما أمرهم "عليه الصلاة والسلام بالرجم فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبريل "عليه السلام": اجعل بينك وبينهم ابن صوريا حكما» أي ووصفه له جبريل «فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا نعم؛ وهو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى في التوراة ورضوا به حكما، فقال له رسول الله ﷺ: أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وفلق البحر، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم، وأغرق فرعون، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المنّ والسلوى والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال: نعم، فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب»، وفي رواية «قال نعم، والذي ذكرتني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبتك ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، فقال ابن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى» فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها «ثم سأله رسول الله ﷺ عن أشياء يعرفها من أعلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي» وهذا مما يدل على إسلامه، وتقدم إنكار صحته عن الحافظ ابن حجر، فقال رسول الله ﷺ: ائتوا بالشهود، فجاؤوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده » قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، فكان ذلك سببا لنزول قوله تعالى {إنا أنزلنا التوراة فيه هدى ونور} ولنزول قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} وفي آية أخرى {فأولئك هم الفاسقون}وفي أخرى {فأولئك هم الكافرون}.
وعن عمرو بن ميمون قال: رأيت الرجم في الجاهلية في غير بني آدم، كنت في اليمن في غنم لأهلي، فجاء قرد ومعه قردة فتوسد يدها ونام، فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد برفق وذهبت معه، ثم جاءت فاستيقظ القرد فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القردة، فجعل يصيح ويومي إليها بيده، فذهبت القردة يمنة ويسرة، فجاؤوا بذلك القرد، فحفروا لهما حفرة فرجموهما. وفي لفظ: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة ورجمتها معهم.
قال في الاستيعاب: وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر لإضافة الزنا إلى غير المكلف وإقامة الحدود في البهائم، ولو صح هذا لكانوا من الجن، لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما، هذا كلامه فليتأمل والله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أن أحبار يهود غيروا صفته التي في التوراة خوفا على انقطاع نفقتهم، فإنهم كانت على عوامهم لقيامهم بالتوراة، فخافوا أن تؤمن عوامهم فتنقطع عنهم النفقة، أي وكانوا يقولون لمن أسلم: لا تنفقوا مالكم على هؤلاء، يعني المهاجرين فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} أي من صفة النبي ﷺ التي يجدونها في كتابهم، فقد كان فيه «أكحل عين؛ ربعة جعد الشعر، حسن الوجه، فمحوه وقالوا نجده طويلا، أزرق العين، سبط الشعر، وأخرجوا ذلك إلى أتباعهم، وقالوا: هذا نعت النبي الذي يخرج آخر الزمان، وعند ذلك أنزل الله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} الآية.
وكان اليهود إذا كلموا النبي ﷺ قالوا راعنا سمعك (واسمع غير مسمع)، ويضحكون فيما بينهم، أي لأن ذلك كما قال ابن عباس «رضي الله ع» بلسان اليهود السب القبيح، فلما سمع المسلمون منهم ذلك ظنوا أن ذلك شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فصاروا يقولون ذلك للنبي، ففطن سعد بن معاذ لليهود يوما وهم يضحكون. فقال لهم: يا أعداء الله لئن سمعنا من رجل منكم هذا بعد هذا المجلس لأضربن عنقه: فأنزل الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا}.
وفي رواية أن اليهود لما سمعوا الصحابة «رضي الله ع» تقول له إذا ألقى عليهم شيئا: يا رسول الله راعنا: أي انتظرنا وتأن علينا حتى نفهم، وكانت هذه الكلمة عبرانية تتسابب به اليهود، فلما سمعوا المسلمين يقولون له راعنا خاطبوا رسول الله ﷺ براعنا يعنون بها تلك السبة، ومن ثم لما سمع سعد بن معاذ ذلك من اليهود قال لهم: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله ﷺ لأضربن عنقه، فقالوا: ألستم تقولونها فنزلت «وجاءه جماعة من اليهود بأطفالهم، فقالوا له: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال لا، فقالوا: والذي يحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار وما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، فأنزل الله تعالى {ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم} الآية.
وجاء «أن أحبار يهود منهم ابن صوريا: أي قبل أن يسلم على ما تقدم وشاس بن قيس وكعب بن أسيد اجتمعوا وقالوا نبعث إلى محمد لعلنا نفتنه في دينه، فجاؤوا إليه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم، وإن اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك، فأبى ذلك عليهم فنزل قوله تعالى {وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} الآية».
ومن اليهود من دخل في الإسلام تقية من القتل، لما قهرهم الإسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه، فكان هواهم مع يهود في السر، أي هم المنافقون.
وقد ذكر بعضهم «أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ ثلثمائة منهم الجلاس بجيم مضمومة فلام مخففة فألف فسين مهملة ابن سويد بن الصامت قال يوما إن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير، فسمعها عمير بن سعد «رضي الله ع»، وهو ابن زوجة جلاس، أي فإن الجلاس كان زوجا لأم عمير، وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له، وكان يكفله ويحسن إليه، فجاء الجلاس ليلة فاستلقى على فراشه فقال: لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير. فقال له عمير: يا جلاس إنك لأحب الناس وأحسنهم عندي يدا، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك، ولئن صمتّ عليها: أي سكت عنها ليهلكن عليّ ديني ولأحداهما أيسر علي من الأخرى فمشى إلى رسول فذكر له مقالة جلاس، فأرسل رسول الله ﷺ إلى جلاس، فحلف بالله لقد كذب عليّ عمير وما قلت ما قال عمير، فقال عمير: بلى والله لقد قلته فتب إلى الله، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته».
وجاء «أنه استحلف الجلاس عند المنبر، فحلف أنه ما قال، واستحلف الراوي عنه فحلف لقد قال وقال: اللهم أنزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق، فقال النبي ﷺ آمين، فنزل قوله تعالى {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} إلى قوله {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} فاعترف الجلاس وتاب، وقبل منه توبته، وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير؛ فكان ذلك مما عرف به حسن توبته، فقال لعمير: وقيت أذنك».
ومنهم نبتل بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلام ابن الحارث قال النبي «من أحبّ أن فلينظر إلى الشيطان فلنيظر إلى نبتل بن الحارث، كان يجلس إليه ثم ينقل حديثه للمنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن، من حدثه بشيء صدقه فأنزل الله فيه {ومنهم الذين يؤذون النبّي ويقولون هو أذن} الآية».
وجاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال له «يجلس إليك رجل معك صفته كذا، نقال: أي للحديث الذي تحدث به، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره».
ومنهم عبدالله بن أبيّ ابن سلول وهو رأس المنافقين، ولاشتهاره بالنفاق لم يعدّ في الصحابة، وكان من أعظم أشراف أهل المدينة، وكانوا قبل مجيئه للمدينة قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، أي كما تقدم، لأن الأنصار من آل قحطان. ولم يتوج من العرب إلا قحطان، ولم يبق من الخرز إلا خرزة واحدة كانت عند شمعون اليهودي، فلما جاءهم الله تعالى برسوله انصرف عنه قومه إلى الإسلام فضغن: أي أضمر العداوة، لأنه رأى أن رسول الله ﷺ قد سلبه ملكا عظيما، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق، أي وكان له إماء يكرههن على الزنا ليأخذ أجورهن، فأنزل الله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} الآية.
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} أي عبدالله بن أبيّ وأصحابه خرجوا ذات يوم، فاستقبلهم قوم من أصحاب رسول الله ﷺ فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضى الله تعالى عنهم. فقال عبدالله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم فأخذ بيد أبي بكر، فقال: مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله ﷺ في الغار، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عمر، فقال: مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دين الله، الباذل نفسه وماله لرسول الله. ثم أخذ بيد عليّ فقال: مرحبا بابن عمّ رسول الله ﷺ وختنه، سيد بني هاشم ما خلا رسول الله، ثم افترقوا فقال له عليّ: اتق الله يا عبدالله ولا تنافق، فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى، فقال له عبدالله: مهلا يا أبا الحسن، إليّ تقول هذا؟ والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم. فقال لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت؟ فأنثوا عليه خيرا فنزلت.
وقد قال «مثل المنافق مثل الشاة العابرة بين الغنمين» أي المترددة بينهما تعبر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
وفي السنة الأولى من الهجرة أعرس بعائشة «رضي الله ع» كذا في الأصل. وفي المواهب أن ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة في شوال على رأس ثمانية عشر شهرا، وقيل بعد سبعة أشهر، وقيل بعد ثمانية أشهر من مقدمه.
قالت عائشة «رضي الله ع» «تزوجني رسول الله وبنى بي في شوال فأيّ نساء رسول الله ﷺ كانت أحظى عنده مني» أي فما توهمه بعض الناس من التشاؤم بذلك، لكونه بين العيدين، فتحصل المفارقة بين الزوجين لا عبرة به ولا التفات إليه.
وعن عائشة «رضي الله ع» «جاء رسول الله ﷺ فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال ونساء من الأنصار، فجاءتني أمي وإني لفي أرجوحة بين عذقين» أي نخلتين «فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة» أي شعر «لأني وعكت» أي مرضت «لما قدمنا المدينة» أي أصابتها الحمى.
فعن البراء «رضي الله ع» قال «دخلت مع أبي بكر الصديق على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها الحمى، فرأيت أباها يقبل خدها ويقول: كيف أنت يا بنية؟ قالت عائشة «رضي الله ع»: فتمزق شعري، ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن نفسي، ثم دخلت بي، فإذا رسول الله ﷺ على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء الأنصار، فأجلستني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك، بارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك، فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله ﷺ في بيتنا» أي فقد بني بها نهارا.
وفي الصحاح: العامة تقول: بنى بأهله وهو خطأ، وإنما يقال بني على أهله، قال الحافظ ابن حجر: ولا يغني عن الخطأ كثرة استعمال الفصحاء له: أي كاستعمال عائشة له هنا. وفي الاستيعاب وأقره، عن عائشة «رضي الله ع» «أن أبا بكر «رضي الله ع» قال؛ يا رسول الله ما يمنعك أن تبني بأهلك؟ قال: الصِداق، فأعطاه أبو بكر اثنتي عشرة أوقية ونشا، فبعث بها إلينا وبنى بي رسول الله ﷺ في بيتي هذا الذي أنا فيه، وهو الذي توفي به، ودفن فيه رسول الله » وفيه أن سياق ما تقدم وما يأتي يدلّ على أنه إنما دخل بها في بيت أبيها بالسنح.
ثم رأيت بعضهم صرح بذلك، فقال «كان دخوله بها "عليه الصلاة والسلام بالسنح نهارا» وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم هذا كلامه. وفي رواية عنها «أتتني أمي وإني لفي أرجوحة مع صواحب لي فصرخت بي، فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى وقفت بي على باب الدار وأنا أنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة، وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهنّ وأصلحن من شأني، فلم يرعني إلا رسول الله ﷺ ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين» قال بعضهم: دخل رسول الله ﷺ بعائشة ولعبتها معها.
أي وعنها «رضي الله ع» أنها كانت تلعب بالبنات أي اللعب عند رسول الله، وكانت تأتيها جويريات يلعبن معها بذلك، وربما كان رسول الله ﷺ يسيرهن إليها: أي يطلبهن لها ليلعبن معها. قالت «وقدم رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أو حنين، فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي، فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: بناتي، ورأى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع، قال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قلت: فرس. قال: وما هذا الذي عليه؟ قلت جناحان، قال: جناحان! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة فضحك حتى بدت نواجذه» وفيه هلا أمرها بتغيير ذلك.
وأجيب بأن هذا مستثنى من عدم جواز تصوير ذي الروح، وقولها « أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة» وإقراره لها على ذلك يدل على صحته.
ثم رأيت بعضهم أورد أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة، وقد ذكرت ذلك عند الكلام على إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه في أوائل هذه السيرة.
وعنها «رضي الله ع» أيضا أنها قالت: «وما نحرت عليّ جزور ولا ذبحت عليّ شاة، أي عند بنائه بها حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنته التي كان يرسلها» وأرسل بها إلى رسول الله » أي وفي كلام بعضهم: وروي «أنه ما أو لم على عائشة «رضي الله ع» بشيء غير أن قدحا من لبن أهدي من بيت سعد بن عبادة، فشرب النبي ﷺ بعضه وشربت عائشة «رضي الله ع» باقيه».
أقول: يجوز أن يكون سعد «رضي الله ع» أرسل بالقدح من اللبن وبالجفنة، وأن بعض الرواة اقتصر على أحدهما.
ثم لا يخفى أنه يجوز أن تكون الرواية الأولى واقعة بعد هذه الرواية الثانية، وأنها ذهبت إلى الأرجوحة ثانيا بعد أن أصلح النساء من شأنها، وفعلت بها أمها ما ذكر، وأنه وقع الاقتصار في الرواية الأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب ذكر مغازيه
ذكر أن مغازيه: أي وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعا وعشرين، أي وهي: غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة سفوان، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة السويق، ثم غزوة قريرة الكدر، ثم غزوة غظفان وهي غزوة ذى أمر، ثم غزوة نجران بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوت ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني تغلبة، ثم غزوة بدر الآخرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق ويقال لها المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد ويقال لها قرد بضمتين. وهي في اللغة: الصوف الرديء، ثم غزوة حنين، ثم غزوة وادي القرى، ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين والطائف، ثم غزوة تبوك.
والتي وقع فيها القتال من تلك الغزوات: أي وقع القتال فيها من أصحابه وهو المراد بقول بعضهم كالأصل التي قاتل فيها رسول الله ﷺ تسع، وهي: غزوة بدر الكبرى وأحد والمريسيع؛ أعني بني المصطلق والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، أي وبعضهم أسقط فتح مكة. قال النووي رحمه الله: ولعل مذهبه أنها فتحت صلحا كما قال إمامنا الشافعي وموافقوه، أي فيصح بيع دورها وإجارتها، واستدل لذلك بأنها لو كانت فتحت عنوة لقسمها بين الغانمين، وسيأتي الجمع بأن أسفلها فتح عنوة، أي لوقوع القتال فيه من خالد بن الوليد مع المشركين؛ وأعلاها فتح صلحا لعدم وجود القتال فيه.
وفي الهدي: من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور إنها فتحت عنوة: أي لوقوع القتال بها.
ومما يدل على ذ لك أنه لم يصالح أهلها عليها، وإلا لم يحتج إلى قوله «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن إلى الخ» وإنما لم يقسمها لأنها دار المناسك، فكل مسلم له فيها حق.
أقول: هذا واضح في غير دورها، وسيأتي الجواب عن ذلك، وبما قررناه يعلم أن قول المواهب قاتل في تسع بنفسه، فيه نظر ظاهر، لأنه لم يقاتل بنفسه في شيء من تلك الغزوات إلا في أحد كما سيأتي، وكأنه اغتر في ذلك بقول بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول الله، وقد علمت المراد منه والله أعلم.
ولا يخفى أنه مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال، صابرا على شدة أذية العرب بمكة، واليهود بالمدينة له ولأصحابه لأمر الله تعالى له بذلك: أي بالإنذار والصبر على الأذى والكف بقوله (وأعرض عنهم) وبقوله (واصبر) ووعده بالفتح، أي فكان يأتيه أصحابه بمكة ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم «اصبروا، فإني لم أومر بالقتال» لأنهم كانوا بمكة شرذمة قليلة. ثم لما استقر أمره: أي بعد الهجرة وكثرت أتباعه، وشأنهم أن يقدموا محبته على محبة آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، وأصرّ المشركون على الكفر والتكذيب أذن الله تعالى لنبيه أي ولأصحابه في القتال، أي وذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة، لكن لمن قاتلهم وابتدأهم به بقوله {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} قال بعضهم: ولم يوجبه بقوله تعالى {أذن للذين يقاتلون} أي للمؤمنين أن يقاتلوا {بأنهم ظلموا} أي بسبب أنهم ظلموا {وإن الله على نصرهم لقدير}، أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم.
وذكر في سبب نزول قوله تعالى {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} الآية «أن جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة، فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فأذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم وشق عليه ذلك، فأنزل الله تعالى الآية».
لا يقال: يدل لما تقدم من أنه قاتل بنفسه في تلك الغزوات ما جاء عن بعض الصحابة «كنا إذا لقينا كتيبة أو جئنا أول من يضرب النبي » لأني أقول لا يبعد أن يكون المراد بالضرب السير في الأرض: أي أول من يسير إلى تلقاء العدو. ويؤيده ما جاء عن عليّ «رضي الله ع» «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه ».
وفي رواية «كنا إذا حمي البأس والتقى القوم بالقوم اتقينا رسول الله، أي كان وقاية لنا من العدوّ.
وقد نقل إجماع المسلمين على أنه لم يروِ أحد قط أنه انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته في جميع المواطن.
لا يقال: سيأتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزوٍّ لأحد أنه قاتل بنفسه قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر «رضي الله ع» وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء، فقاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين وأيضا سيأتي في خيبر ما قد يدل على أنه قاتل بنفسه.
لأنا نقول: سيأتي ما في ذلك مما يدل على أنه لم يباشر القتال إلا في أحد كما سيأتي، ولم تقاتل معه الملائكة إلا في بدر وإلا في حنين. قيل وأحد، وسيأتي ما في ذلك، ولم يرم بالحصباء في وجوه العدوّ في شيء من الغزوات إلا في هذه الثلاثة على خلاف في الثلاثة، أي ولم يجرح أي لم يصبه جراحة في غزوة من الغزوات إلا في أحد، ولم ينصب المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، وسيأتي الجمع بينهما، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب.
ثم لا يخفى أن الآية المذكورة: أي التي هي {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قال بعضهم: هي أول آية نزلت في شأن القتال، ولما نزلت أخبر بقوله «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» أي وفي لفظ «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، قيل: وما حقها؟ قال زنا بعد إحصان وكفر بعد إسلام، أو قتل نفس».
أقول: وظاهر هذا الساق يقتضي أن الآية فيها الأمر له بالقتال المذكور. وقد يتوقف في ذلك، ولعله أمر بذلك بغير الآية المذكورة، لأن الآية إنما هي ظاهرة في الإباحة والمباح ليس مأمورا به، وحينئذ يكون قوله في الآية الأخرى وهي {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} للإباحة، لأن صيغة أفعل تأتي لها وإن كان الأصل فيها الوجوب.
وعلى أن قوله «أمرت» وأن أمره كان بغير هذه الآية يحمل على أن المراد الندب، لأن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، فلا ينافي ما تقدم من أنه لم يكن وجب عليه القتال حينئذ والله أعلم.
ثم لما رمتهم العرب قاطبة عن قوس، وتعرضوا لقتالهم من كل جانب كانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه ويقولون ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله «عَزَّ وجَلّ»؛ أنزل الله «عَزَّ وجَلّ» {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} ثم أذن في القتال، أي أبيح الابتداء به حتى لمن لم يقاتل أي لكن في غير الأشهر الحرم أي التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، أي بقوله {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية ثم أمر به وجوبا أي بعد فتح مكة في السنة الثانية مطلقا، أي من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله {وقاتلوا المشركين كافة} أي جميعا في أي زمن.
فعلم أن القتال كان قبل الهجرة وبعدها إلى صفر من السنة الثانية محرّما، أي لأنه كان في ذلك مأمورا بالتبليغ، وكان إنذارا بلا قتال، لأنه نهى عنه في نيف وسبعين آية ثم صار مأذونا له فيه أي أبيح قتال من قاتل ثم أبيح قتال من لم يبدأ به في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقا: أي لمن قاتل ومن لم يقاتل في كل زمن؛ أي في الأشهر الحرم وغيرها.
وظاهر كلام الإمام الإسنوي أن القتال في الحالة الثانية كان مأمورا به لا مباحا كالحالة الأولى. وعبارته: لما بعث أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، فقال {واعرض عنهم} وقال {واصبر} ثم أذن له بعد الهجرة في القتال إن ابتدؤوا فقال {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} ثم أمر بذلك ابتداء ولكن في غير الأشهر الحرم فقال {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} ثم أمر به مطلقا فقال {وقاتلوا المشركين كافة} هذا كلامه.
ولا يخفى أن الإسنوي ممن يرى أن «أمر» للوجوب، وهو يقتضي أن يكون الأمر به في الحالة الثانية للوجوب. والراجح ما علمت أن «أمر» مشترك بين الوجوب والندب، وأنه في الحالة الثانية مباح لا مأمور به.
ثم استقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول محاربون له، وهؤلاء المحاربون إذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم على الكفاية في كل عام مرة أي يكفي ذلك في إسقاط الحرج كإحياء الكعبة، واستدل لذلك بقوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} أي فهلا نفر. وقيل كان فرض عين، لقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك. ويحتاج إلى الجواب عن ذلك.
وقيل كان فرض كفاية في حق الأنصار، وفرض عين في حق المهاجرين.
والقسم الثاني أهل عهد وهم المؤمنون من غير عقد الجزية: أي صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّهم، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
والقسم الثالث أهل ذمة: أي وهم من عقدت لهم الجزية.
وهناك قسم آخر، وهو من دخل في الإسلام تقية من القتل وهم المنافقون كما تقدم. وأمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، فكان معرضا عنهم إلا فيما يتعلق بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلاة فلا يخالف ما رواه الشيخان «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» فقد ذكر أئمتنا أن ذلك ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون: أي أصلا بدليل السياق، أي لأن صدر الحديث «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر» أي جماعتهما «ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت الخ».
وفي الخصائص الصغرى: وكان الجهاد في عهده فرض عين في أحد الوجهين عندنا، وكان إذا غزا بنفسه يجب على كل أحد الخروج معه، لقوله تعالى {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} ومن ثم وقع لمن تخلف عنه في غزوة تبوك ما وقع.
وأما بعده فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه. وعند الإذن له في القتال خرج لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة: أي مكث بالمدينة باقي الشهر الذي قدم فيه وهو شهر ربيع الأوّل وباقي ذلك العام كله إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة.
«فخرج غازيا حتى بلغ ودّان» بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون: وهي قرية كبيرة، بينها وبين الأبواء ستة أميال أو ثمانية. والأبواء بالمد: قرية كبيرة بين مكة والمدينة كما تقدم؛ سميت بذلك لتبوؤِ السيول بها. وقيل لما كان فيها من الوباء فيكون على القلب، وإلا لقيل الأوباء. وحينئذ لا تخالف بين تسمية ابن الخفاف لها بغزوة ودّان وبين تسمية البخاري لها بغزوة الأبواء لتقارب المكانين، أي وفي الإمتاع: ودان جبل بين مكة والمدينة.
وأقول: قد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن تكون تلك القرية كانت عند الجبل المذكور فسميت باسمه، والله أعلم.
وكان خروجه بالمهاجرين ليس فيهم أنصاري يعترض عيرا لقريش ولبني ضمرة أي وخرج لبني ضمرة، فكان خروجه للشيئين كما يفهم من الأصل.
ويوافقه قول بعضهم: وخرج في سبعين رجلا من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة. والمفهوم من سيرة الشامي أن خروجه إنما كان لاعتراضه العير، وإنه اتفق له موادعة بني ضمرة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: خرج يعترض عيرا لقريش، فلم يلق كيدا. وفي هذه الغزوة وادع بني ضمرة هذا كلامه، أي صالح سيدهم حينئذ، وهو مجدي بن عمر.
وعبارة بعضهم: فلما بلغ الأبواء لقي سيد بني ضمرة مجدي بن عمر الضمري، فصالحه ثم رجع إلى المدينة والمصالحة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه جمعا ولا يعينوا عليه عدوّا، قال: وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الكتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم» أي قصدهم «أإلا أن يحاربوا في دين الله، ما بلّ بحرصوفة» أي ما بقي فيه ما يبل الصوفة «وأن النبي ﷺ إذا دعاهم لنصره أجابوه عليهم، بذلك ذمة الله وذمة رسوله» أي أمانهما انتهى.
وكان لواؤه أبيض. وكان من عمه حمزة؛ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وانصرف إلى المدينة راجعا، فهي أوّل غزواته، أي وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، والله أعلم.
غزوة بواط
ثم غزا رسول الله ﷺ في شهر ربيع الأول، أي وقيل الآخر: أي من السنة المذكورة، يريد عيرا لقريش فيها أمية بن خلف، ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير خرج في مائتين من أصحابه: أي من المهاجرين خاصة، وحمل اللواء وكان أبيض سعد بن أبي وقاص، واللواء: هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع أمير الجيش. وقد يحمله أمير الجيش، وقد يجعل في مقدم الجيش.
وأول من عقد الألوية إبراهيم الخليل: بلغه أن قوما أغاروا على لوط "عليه السلام"، فعقد لواءً وسار إليهم بعيدة ومواليه. قال بعضهم: صرح جماعة من أهل اللغة بترادف اللواء والراية، أي فيطلق على كل اسم الآخر.
وعن ابن إسحاق وابن سعد أن اسم الراية إنما حدث بعد خيبر، واستعمل على المدينة سعد بن معاذ وقيل السائب بن مظعون: أي أخا عثمان بن مظعون وقيل السائب بن عثمان حتى بلغ بواط ـ بضم الموحدة وفتحها وتخفيف الواو والطاء المهملة ـ أي وهي جبل الينبع، أي ومن ثم قيل لها غزوة بواط.
قال بعضهم: ومن هذا الجبل تقلع أحجار المسانّ، وهذا الجبل لجهينة من ناحية رضوى، وهو أحد الأجبل التي بني منها أساس الكعبة.
وفيه أنه لم يذكر رضوى في تلك الأجبل الخمس التي كان منها أساس الكعبة المتقدم ذكرها على المشهور.
وقد جاء في الحديث «رضوى «رضي الله ع»» وتزعم الكيسانية وهم أصحاب كيسان مولى علي «رضي الله ع» أن محمد بن الحنفية مقيم برضوى حي يرزق وهو الإمام المنتظر عندهم.
أي وفي كلام بعضهم أن المنتظر هو محمد القاسم بن الحسن العسكري الذي تزعم الشيعة أنه المنتظر وهو صاحب السرداب، يزعمون أنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه فلم يخرج إليها، وكان عمره تسع سنين، وأنه يعمر إلى آخر الزمان كعيسى، وسيظهر فيملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا، واختفاؤه الآن خوفا من أعدائه. قال: وهو زعم باطل لا أصل له، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا أي حربا وأصل الكيد الاحتيال والاجتهاد ومن ثم يسمى الحرب كيدا، والله أعلم.
غزوة العشيرة
أي وبها بدأ البخاري المغازي، ويدل له ما جاء عن زيد بن أسلم وقد قيل له: ما أول غزوة غزاها رسول الله؟ فقال: ذات العشيرة. وأجيب عنه بأن المراد ما أول غزوة غزاها وأنت معه.
ثم غزا رسول الله ﷺ في شهر جمادي الأولى. وفي سيرة الدمياطي الآخرة من تلك السنة.
أي وفي الإمتاع في جمادي الآخرة: ويقال جمادي الأولى، يريد عيرا لقريش متوجهة للشام. يقال إن قريشا جمعت جميع أموالها في تلك العير لم يبق بمكة لا قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في تلك العير إلا حويطب بن عبد العزى، يقال إن في تلك العير خمسين ألف دينار أي وألف بعير. وكان فيها أبو سفيان، أي قائدها. وكان معه سبعة وعشرون وقيل تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام. وكان سببا لوقعة بدر الكبرى كما سيأتي. خرج في خمسين ومائة؛ ويقال في مائتين من المهاجرين خاصة حتى بلغ العشيرة بالمعجمة والتصغير آخره هاء، أي ولم يختلف فيه أهل المغازي كما قال الحافظ ابن حجر. وفي البخاري آخرها همزة، وفيه أيضا العسيرة بالسين المهملة آخره هاء أي بالتصغير. وأما التي بغيرتصغير فهي غزوة تبوك كما سيأتي، والتي بالتصغير فقال أيضا لموضع ببطن الينبع: أي وهو منزل الحاج المصري، وهي لبني مدلج. واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء ـ وكان أبيض ـ عمه حمزة بن عبد المطلب، خرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها، فوجدوا العير قد مضت قبل ذلك بأيام، ورجع ولم يلق حربا. ووادع فيها بني مدلج، قال في الأصل وحلفاءهم من بني ضمرة.
وذكر في المواهب هنا صورة الكتاب الذي كتبه لبني ضمرة في غزوة ودّان الذي قدمناه ثم، فليتأمل ذلك؛ وكنى فيها عليا بأبي تراب حين وجده نائما وهو وعمار بن ياسر وقد علق به التراب، فأيقظه "عليه الصلاة والسلام برجله وقال له «قم أبا تراب» لما يرى عليه من التراب: أي الذي سفته عليه الريح؛ ولما قام قال له «ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين: عاقر الناقة والذي يضربك على هذا ووضع يده على قرن رأسه، فيخضب هذه ووضع يده على لحيته» وفي رواية «أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين قاتلك». وفي رواية «أنه قال يوما لعليّ كرم الله وجهه من أشقى من الأولين؟ فقال عليّ: الذي عقر الناقة يا رسول الله قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال عليّ: لا علم لي يا رسول الله قال: الذي يضربك على هذه وأشار إلى يافوخه» وكان كما أخبر، فهو من أعلام نبوته.
فإنه لما كان شهر رمضان سنة أربعين صار يفطر ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين وليلة عند عبدالله بن جعفر، لا يزيد في أكله على ثلاث لقم ويقول: أحب أن ألقى الله وأنا خميص، فما كانت الليلة التي ضرب صبيحتها أكثر الخروج والنظر إلى السماء، وجعل يقول: والله إنها الليلة التي وعدت، فلما كان وقت السحر وأذن المؤذن بالصلاة خرج إلى المسجد فأقبل الأوز الذي في داره يصحن في وجهه فمنعهن بعض نساء أهل بيته، فقال: دعوهن فإنهن نوائح، فلما دخل المسجد أقبل ينادي «الصلاة الصلاة» فشد عليه عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله من طائفة الخوارج، فضربه الضربة التي أخبر بها، وعند ذلك شد عليه الناس من كل جانب فطرح عليه رجل قطيفة ثم طنبوه وأخذ السيف منه، وقالوا له: يا أمير المؤمنين خلّ بيننا وبين مراد، يعنون قبيلة الرجل الذي ضربه، فقال: لا، ولكن احبسوا الرجل، فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. فحبس.
فلما مات «رضي الله ع» غسله الحسن والحسين وعبدالله بن جعفر، ومحمد بن الحنفية يصب الماء، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى عليه الحسن وكبر عليه سبعا، ودفن ليلا؛ قيل بدار الإمارة بالكوفة، وقيل بغير ذلك، وأخفي قبره لئلا تنبشه الخوارج. وقيل حملوه على بعير ليدفنوه مع رسول الله، فبينا هم في مسيرهم ليلا إذ ندّ البعير الذي عليه فلم يدر أين ذهب. ومن الناس من يزعم أنه انتقل إلى السماء، وأنه الآن في السحاب.
ولما أصيب كرم الله وجهه دعا الحسن والحسين «رضي الله ع» فقال لهما: أوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا، ولا تبكيا على شيء زوى منها عنكما، وقولا الحق فلا تأخذكما في الله لومة لائم. ثم نظر إلى ولده محمد ابن الحنفية فقال: هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟ فقال نعم، فقال: أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظم حقهما عليك، ولا ترينّ أمرا دونهما، ثم قال: أوصيكما به فإنه أخوكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه، ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله إلى أن قبض، فلما قبض أخرج الحسن «رضي الله ع» ابن ملجم من الحبس وقتله.
أقول: ذكر بعضهم عن المبرد قال ابن ملجم لعليّ كرم الله تعالى وجهه: إني اشتريت سيفي هذا بألف، وسممته بألف، وسألت الله تعالى أن يقتل به شر خلقه، فقال عليّ: قد أجاب الله دعوتك، يا حسن إذا أنا مت فاقتله بسيفه ففعل به الحسن ذلك ثم أحرقت جثته. وقد ذكر أنه قطعت أطرافه وجعل في قوصرة وأحرقوه بالنار.
وقد ذكر أن عليا قال يوما وهو مشير لابن ملجم: هذا والله قاتلي، فقيل له ألا نقتله؟ فقال: من يقتلني؟ وتبع الأصل في كون تكنية عليّ بأبي تراب في هذه الغزوة شيخه الدمياطي.
واعترضه في الهدي بأنه إنما كناه بذلك بعد نكاحه فاطمة رضي الله تعال عنها «فإنه دخل عليها يوما وقال أين ابن عمك؟ قالت: خرج مغاضبا، فجاء إلى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب، فجعل ينفضه عنه ويقول: اجلس أبا تراب» وقيل إنما كناه أبا تراب لأنه كان إذا غضب على فاطمة في شيء لم يكلمها ولم يقل لها شيئا تكرهه، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه. وكان رسول الله ﷺ إذا رأى التراب على رأسه عرف أنه عاتب على فاطمة.
قال في النور: يجوز أن يكون خاطبه بهذه الكنية مرتين، أي ويكون سبب الكنية علوق التراب به، وكونه يضعه على رأسه، والله أعلم.
غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الأولى
وحين قدم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليالي لم تبلغ العشرة حتى غزا وخرج خلف كرز بن جابر الفهري وقد أغار قبل أن يسلم على سرح المدينة: أي النعم والمواشي التي تسرح للمرعى بالغداة. خرج في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان بالمهملة والفاء ساكنة، وقيل مفتوحة من ناحية بدر، أي ولذا قيل لها غزوة بدر الأولى، وفاته كرز ولم يدركه. وكان قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة، وحمل اللواء ـ وكان أبيض ـ علي بن أبي طالب «رضي الله ع»، وقد تبعت الأصل في تقديم غزوة العشيرة على غزوة سفوان لما تقدم، وهو عكس ما في سيرة الشامي الموافق لسيرة الدمياطي ولما في الإمتاع، والله أعلم.
باب تحويل القبلة
وحولت القبلة في شهر رجب من السنة المذكورة التي هي الثانية في نصفه، وقيل في نصف شعبان. قال بعضهم: وعليه الجمهور الأعظم، وقيل كان في جمادي الآخرة، أي فقد قيل «إنه في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا وقيل أربعة عشر شهرا، وقيل غير ذلك، وتقدم أنه صلى في مسجده بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر».
والأكثرون على أن تحويلها كان في صلاة الظهر، وقيل العصر، أي ففي الصحيحين عن البراء «إن أول صلاة صلاها رسول الله ﷺ أي للكعبة صلاة العصر».
وقد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون المراد أول صلاة صلاها كلها للكعبة صلاة العصر، لأن الظهر صلى نصفها الأول لبيت المقدس ونصفها الثاني للكعبة: ثم رأيت الحافظ ابن حجر فعل كذلك، حيث قال: التحقيق أن أول صلاة صلاها بالمسجد النبوي صلاة العصر، أو أن التحويل في العصر كان في محل آخر للأنصار أي وهم بنو حارثة. وقيل حولت في صلاة الصبح وهو محمول على أن ذلك كان في قباء، لأن الخبر لم يبلغهم إلا حينئذ كما سيأتي، وإنما حولت لأنه كان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة سيما لما بلغه أن اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا. أي وفي لفظ: قالوا للمسلمين: لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها.
وفي لفظ «كان يحب أن يستقبل الكعبة محبة لموافقة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وكراهة لموافقة اليهود، ولقول كفار قريش للمسلمين لم تقولون نحن على ملة إبراهيم وأنتم تتركون قبلته وتصلون إلى قبلة اليهود؟ أي ولأنه لما هاجر صار إذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة، فشق ذلك عليه، فقال لجبريل: وددت أن الله سبحانه وتعالى صرفني عن قبلة اليهود، فقال جبريل: إنما أنا عبد لا أملك لك شيئا إلا ما أمرت به، فادع الله تعالى، فكان رسول الله ﷺ يدعو الله تعالى، يكثر إذا صلى إلى بيت المقدس من النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى» أي لأن السماء قبلة الدعاء، وفي رواية، أن رسول الله ﷺ قال لجبريل: وددت أنك سألت الله تعالى أن يصرفني إلى الكعبة، فقال جبريل: لست أستطيع أن أبتدىء الله جل وعز بالمسألة، ولكن إن سألني أخبرته، وخرج رسول الله ﷺ زائرا أمّ بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما، وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه في مسجد هناك، فلما صلى ركعتين نزل جبريل فأشار إليه أن صلّ إلى الكعبة واستقبل الميزاب، فاستدار رسول الله ﷺ إلى الكعبة، أي فاستدار النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء» أي فقد تحول من مقدم المسجد إلى مؤخره، لأن من استقبل الكعبة في المدينة يلزم أن يستدبر بيت المقدس أي كما أن من يستقبل بيت المقدس يستدبر الكعبة، وهو لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. قيل وكان ذلك وهم راكعون، وفيه أن هذا يستدعى عملا كثيرا في الصلاة وهو مفسد لها عندنا إذا توالى.
وقد يقال: لا مانع لجواز أن يكون ذلك قبل تحريم العمل الكثير في الصلاة، أو أن هذا العمل لم يكن على التوالي.
أقول: وبدخوله أي على أم بشر وعلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء، وعلى أم حرام بنت ملحان، وعلى أختها أم سليم، والخلوة بكل منهن، فقد كانت أم حرام بنت ملحان تفلي رأسه الشريفة وينام عندها، استدل أن من خصائصه جواز النظر إلى الأجنبية والخلوة بها لأمنه الفتنة كما سيأتي، والله أعلم.
وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين، وقيل كانت تلك الصلاة التي هي صلاة الظهر التي وقع التحول فيها في مسجده، فخرج عباد بن بشر وكان صلى مع رسول الله ﷺ ومرّ على قوم من الأنصار يصلون العصر وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله ﷺ قبل البيت يعني الكعبة ثم بلغ أهل قباء ذلك وهم في صلاة الصبح في اليوم الثاني أي وهم ركوع، وقد ركعوا ركعة فنادى مناد: ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة، فتحولوا إليها.
أي وفي البخاري «بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت، فقال: إن رسول الله ﷺ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فاستداروا إلى الكعبة، وفي مسلم بدل صلاة الصبح صلاة الغداة. قال الحافظ ابن حجر: وهو أحد أسمائها.
وقد نقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك، ولم ينقل أنهم أمروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء، ولا إعادة الركعة التي صلوها من الصبح، وهو دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله. وعلى أنه يجوز ترك الأمر المقطوع به، وهو استقبال بيت المقدس إلى أمر مظنون وهو خبر الواحد.
وأجيب عن هذا الثاني بأن الخبر المذكور احتفت به قرائن أفادت القطع عندهم بصدق المخبر، فلم يتركوا الأمر المعلوم إلا لأمر معلوم أيضا. على أنه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد، لأن محل النسخ الحكم، ودلالة المتواتر عليه ظنية كما تقرر في محله. ويقال إن المبلغ لهم عباد ابن بشر أيضا فيكون عباد أتى بني حارثة أولا في صلاة العصر ثم توجه إلى أهل قباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح، والقرآن الذي نزل قوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآيات أي وإلى هذا يشير بعضهم بقوله:
كم للنبي المصطفى من آية ** غراء حار الفكر في معناها
لما رأى الباري تقلب وجهه ** ولاه أيمن قبلة يرضاها
وعن عمارة بن أوس الأنصاري، قال: صلينا إحدى صلاتي العشى أي وهما الظهر والعصر، فقام الرجل على باب المسجد ونحن في الصلاة، فنادى: إن الصلاة قد وجهت نحو الكعبة فتحول إمامنا نحو الكعبة وقوله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أي متطلعا نحو الوحي ومتشوقا للأمر باستقبال الكعبة {فلنولينك} أي نحولنك {قبلة ترضاها} أي تحبها {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه، والمراد بالمسجد الحرام الكعبة {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق} أي الرجوع إلى الكعبة {من ربهم} أي لما في كتبهم من نعته بأنه يتحول إلى الكعبة.
أقول: ولعل هذه القصة التي رواها عمارة هي التي رويت عن رافع بن خديج، قال «أتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل، فقال إن رسول الله ﷺ قد أمر أن يتوجه إلى الكعبة فدار أمامنا إلى الكعبة ودرنا معه» والله أعلم.
«واجتمع قوم من كبار اليهود جاؤوا إليه وقالوا له: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه أي وما كنت عليه قبلة إبراهيم» وهذا بناء على دعواهم أن بيت المقدس كان قبلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سيأتي عنهم، وسيأتي ما فيه ثم قالوا ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك «وإنما يريدون بذلك فتنتة ليعلم الناس أنه في حيرة من أمره» أي واختبارا لما يجدونه في نعته من أنه يرجع عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأنه لا يرجع عن تلك القبلة، وفي رواية أنهم قالوا للمسلمين: ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء» أي ويوافقه قول الزهري «لم يبعث الله منذ هبط آدم "عليه الصلاة والسلام إلى الأرض نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس» ويوافق هذا ظاهر قول الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته
وصليت نحو القبلتين تفردا ** وكل نبيّ ما له غير قبلة
قال شارحها: يشير إلى أن كل نبي كانت قبلته بيت المقدس، وهو قد شاركهم فيها، أي واختص بالكعبة.
ومن ثم جاء في التوراة في وصفه «صاحب القبلتين» وفيه أن قبلة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنما هي الكعبة. فعن أبي العالية. كانت الكعبة قبلة الأنبياء، وكان موسى يصلي إلى صخرة بيت المقدس، وهي بينه بين الكعبة، ومثل هذا لا يقال إلا عن توقيف، أي ويقال بمثل هذا فيما تقدم عن اليهود وعن الزهري، على تسليم صحته أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة لجميع الأنبياء أنهم كانوا يصلون إليها ويجعلونها بينهم وبين الكعبة، فلا مخالفة.
لا يقال: هذا ليس أولى من العكس، أي أن استقبال الأنبياء للكعبة إنما كانوا يجعلونها بينهم وبين صخرة بيت المقدس. لأنا نقول: قد ذكر في الأصل في تفسير قوله تعالى {ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك} أي يكتمون ما علموا من أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، أي المقصودة بالاستقبال، لا أنهم يستقبلونها لأجل صخرة بيت المقدس.
وذكر عن بعضهم أن اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة، وإنما كان تابوت السكينة على الصخرة، فلما غضب الله على بني إسرائيل رفعه فصلوا إلى الصخرة بمشاورة منهم، أي وادعوا أنها قبلة الأنبياء ـ وما تقدم عن الزهري تقدم الجواب عنه ـ ثم قالوا والله إن أنتم إلا قوم تفتنون، فأنزل الله تعالى {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب} أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أيّ جهة شاء لا اعتراض عليه {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} أي فكان أوّل ما نسخ أمر القبلة.
فعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما يذكر لنا والله أعلم شأن القبلة فاستقبل بيت المقدس ـ أي بمكة والمدينة ـ ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة.
أي وأما قوله تعالى {فأينما تولوا فثم وجه الله} فمحمول على النفل في السفر إذا صلى حيث توجه.
وما قيل إن سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة، قال «كنا في سفر ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة، فصلى كل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله ﷺ فنزلت» ففيه نظر لضعف الحديث؛ أو هو محمول على ما إذا صلوا باجتهاد.
أي ولما توجه إلى الكعبة، قال المشركون من أهل مكة توجه محمد بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أي يقرب أن يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة ها هنا ومرة ها هنا.
«ولما حوّلت القبلة إلى الكعبة أتى رسول الله ﷺ مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الآن، وقالت الصحابة له؛ يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول، فهل يقبل منا ومنهم؟ فأنزل الله تعالى قوله {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم إلى بيت المقدس». وذكر في الأصل «أن الصحابة قالوا: مات قبل أن تحول قبل البيت رجال وقتلوا، أي وهم عشرون، ثمانية عشر من أهل مكة، واثنان من الأنصار وهما البراء بن معرور، وأسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم؛ فأنزل الله تعالى {وما كان الله ليضيع إيمانكم} الآية» ولفظة القتل وقعت في البخاري.
وأنكرها الحافظ ابن حجر فقال: ذكر القتل لم أره إلا في رواية زهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شيء من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر، قتل في تلك المدة في غير الجهاد.
ثم قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار، فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإسراء، هذا كلام الحافظ وفيه أن الركعتين اللتين كان يصليهما وهو والمسلمون بالغداة وبالعشي قبل فرض الصلوات الخمس كانتا لبيت المقدس، فقد تقدم أنه كان يصلي هو وأصحابه إلى الكعبة ووجوههم إلى بيت المقدس، فكانوا يصلون بين الركنين اليماني والذي عليه الحجر الأسود لأجل استقبال بيت المقدس، وتقدم أنه لم يتلزم ذلك بل كان في بعض الأوقات يصلي إلى الكعبة في أي جهة أراد.
ثم لما قدم المدينة صار يستقبل بيت المقدس ويستدبر الكعبة إلى وقت التحويل، ومن ثم قال في الأصل «ولما كان يتحرى القبلتين جميعا أي يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة» أي فإنه استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس.
فقول ابن عباس؛ لما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، واليهود يستقبلون بيت المقدس، أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، معناه أمره الله تعالى أن يستمر على استقبال بيت المقدس، وهذا هو المراد بقوله الذي نقله بعضهم عنه، وهو أنه وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلى الكعبة، فلما هاجروا أمره الله تعالى أن يصلي نحو صخرة بيت المقدس، أي يستمر على ذلك ويستدبر الكعبة، ثم أمره الله باستقبال الكعبة واستدبار بيت المقدس؛ فلم يقع النسخ مرتين كما قد يفهم من ظاهر السياق ومن قول ابن جرير أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة، فصلى صلاة ثلاث حجج، ثم هاجر فصلى إليه، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة» هذا كلامه، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: هذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين. قيل وكان أمره بمداومة استقبال بيت المقدس ليتألف أهل الكتاب لأنه كان ابتداء الأمر يحب أن يتألف أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، فلا يخالف ما سبق من أنه كان يحب أن يستقبل الكعبة كراهة لموافقة اليهود في استقبال بيت المقدس ولا يخالف هذا قول بعضهم، كان قبل فتح مكة يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، وبعد الفتح يحب مخالفتهم، لجواز أن يكون ذلك أغلب أحواله.
وقد يؤخذ من استدامة استقباله لبيت المقدس كان لتألف أهل الكتاب، جواب عما يقال إذا كانت الكعبة قبلة الأنبياء كلهم، فلم وفق إلى استقبال بيت المقدس وهو بمكة؟ بناء على أن صلاته لبيت المقدس وهو بمكة كانت باجتهاد.
وحاصل الجواب أنه أمر بذلك أو وفق إليه، لأنه سيصير إلى قوم قبلتهم بيت المقدس، ففيه تأليف لهم، وقد يوافقه ما في الأصل عن محمد بن كعب القرظي قال: ما خالف نبي نبيا قط في قبلة إلا أن رسول الله ﷺ استقبل بيت المقدس، أي فهو مخالف لغيره من الأنبياء في ذلك، وهذا موافق لما تقدم عن أبي العالية: كانت الكعبة قبلة الأنبياء: أي ثم في السنة المذكورة التي هي الثانية فرض صوم رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وطلبت الأضحية، أي استحبابا.
وعن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع»» فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان، أي على ما تقدم «وكان يصوم هو وأصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، أي وهي الأيام البيض وهي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر» قيل وجوبا.
فعن ابن عباس «رضي الله ع» «كان رسول الله ﷺ لا يفطر الأيام البيض في حضر ولا سفر، وكان يحث على صيامها».
وقيل: كان الواجب عليه قبل فرض رمضان صوم عاشوراء، ثم نسخ ذلك بوجوب رمضان.
وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم: ففي البخاري، ثم عن ابن عمر «رضي الله ع» «صام النبي ﷺ عاشوراء، فلما فرض رمضان ترك صوم عاشوراء، هذا والمشهور من مذهبنا معاشر الشافعية أنه لم يجب على هذه الأمة صوم قبل رمضان.
وحديث ابن عباس «رضي الله ع» لا دلالة فيه على الوجوب، لجواز أن يكون شأنه صيام تلك الأيام على الوجه المذكور حتى بعد فرض رمضان. وحديث البخاري أيضا لا دلالة فيه، لجواز أن يكون تركه لصوم يوم عاشوراء في بعض الأحايين، بعد فرض رمضان خشية اعتقاد وجوب صومه كرمضان.
ويجاب بمثل ذلك عما في الترمذي، عن عائشة «رضي الله ع» قالت «كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ﷺ يصومه موافقة لهم» أي ولم يأمر أحد من أصحابه بصيامه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه «أي ترك صومه خوفا من توهم أنه فرض كرمضان، وقولها «رضي الله ع» فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه» أي لأنه حين قدم المدينة: أي في أيام قدومه للمدينة، وذلك في شهر ربيع الأول وجد اليهود تصومه وتعظمه، فسألهم عن ذلك، فقالوا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال رسول الله «نحن أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه» كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي تعالى عنهما.
وفي كلام الحافظ ناصر الدين عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ قدم المدينة يوم عاشوراء، فإذا اليهود صيام، فقال رسول الله ﷺ ما هذا؟ قالوا: هذا يوم أغرق الله تعالى فيه فرعون وأنجى فيه موسى، فقال رسول الله ﷺ أنا أولى بموسى، فأمر رسول الله ﷺ بصومه» هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم.
والمدينة يحتمل أن المراد بها قباء، ويحتمل أن المراد بها باطنها، قال ابن عباس «رضي الله ع»» فلما فرض رمضان قال أي لأصحابه، من شاء صامه ومن شاء تركه، أي قال ذلك لهم خشية اعتقادهم وجوب صومه كوجوب صوم رمضان.
وفي كونه وجدهم صائمين لذلك اليوم إشكال، لأن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم كما تقدم، أو هو اليوم
التاسع من كما يقول ابن عباس «رضي الله ع» فكيف يكون في ربيع الأول.
وأجيب بأن السنة عند اليهود شمسية لا قمرية، فيوم عاشوراء الذي كان عاشر المحرم واتفق فيه غرق فرعون لا يتقيد بكونه عاشر المحرم، بل اتفق في ذلك الزمن: أي زمن قدومه وجود ذلك اليوم بدليل سؤاله، إذ لو كان ذلك اليوم يوم عاشوراء ما سأل.
ومما يدل على ذلك ما في المعجم الكبير للطبراني عن خارجة بن زيد، قال ليس يوم عاشوراء اليوم الذي تقوله الناس؟ إنما كان يوم تستر في الكعبة، وتلعب فيه الحبشة عند رسول الله، وكان يدور في السنة، وكان الناس يأتون فلانا اليهودي فيسألونه، فلما مات اليهودي أتو زيد بن ثابت فسألوه، فصام ذلك اليوم وأمر بصيامه، حتى إنه أرسل في ذلك اليوم أسلم بن حارثة إلى قومه وهم أسلم وقال: مر قومك بصيام عاشوراء، فقال: أرأيت إن وجدتهم قد طعموا؟ قال: فليتموا أي يمسكوا تعظيما لذلك اليوم.
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابيات قالت «كان رسول الله ﷺ يعظم يوم عاشوراء ولقد سمعت رسول الله ﷺ يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في أفواههم ويقول للأمهات لا ترضعنهن إلى الليل».
والظاهر أن المراد بيوم عاشوراء هذا اليوم الذي هو عاشر المحرم الهلالي لا الشمسي، وكذا يقال في قوله وقيل سمي إلخ فليتأمل.
وقيل: سمي يوم عاشوراء لأن عشرة من الأنبياء أكرمهم الله تعالى فيه بعشر كرامات تاب الله فيه على آدم واستوت فيه سفينة نوح على الجودي أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكرا لله ورفع الله فيه إدريس، ونصر الله فيه موسى. ونجى فيه إبراهيم من النار وفيه أخرج يوسف من السجن، أي وفيه ولد، ورد فيه على والده يعقوب، وأخرج فيه يونس من بطن الحوت، أي وتاب الله على أهل مدينته، وتاب الله فيه على داود، وعوفي فيه أيوب.
وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن أبي هريرة «رضي الله ع»، قال: قال رسول الله «إن الله «عَزَّ وجَلّ» افترض على بني إسرائيل صوم يوم في السنة» وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، فصوموه ووسعوا على أهاليكم فيه فإنه من وسع على أهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته، فصوموه، وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وذكر ما تقدم وزاد عليه/ «وأنه اليوم الذي أنزل الله فيه التوراة على موسى، وفيه فدى الله إسماعيل من الذبح، وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره، وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه، وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد ذنبه ما تقدم وما تأخر، وأول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء، وأول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء، وأول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء، فمن صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كله، وهو صوم الأنبياء، الحديث بطوله، ثم قال: هذا حديث حسن، ورجاله ثقات.
وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم قال: كنت أفت للنمل خبزا في كل يوم، فلما كان يوم عاشوراء لم تأكل، وتقدم أن الصُّرد أول طير صام عاشوراء.
وفي كلام بعضهم: ما قيل في يوم عاشوراء كانت توبة آدم إلى آخر ما تقدم من الأحاديث الموضوعة، وفي كلام بعض آخر: ما يفعل فيه من إظهار الزينة بالخضاب والاكتحال، ولبس الجديد، وطبخ الحبوب والأطعمة والاغتسال والتطيب من وضع الكذابين.
والحاصل أن الرافضة اتخذوا ذلك مأتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه، والجهال اتخذوا ذلك موسما وكلاهما مخطىء مخالف للسنة، وأما التوسعة فيه على العيال، فحديثها وإن لم يكن صحيحا فهو حسن، خلافا لقول ابن تيمية إن التوسعة على العيال لم يرد فيها شيء عنه وكان يصوم عاشوراء كما تصومه اليهود، أي ويوم عاشوراء مختلف، لأنه عند اليهود من السنة الشمسية، وعند أهل الإسلام من السنة الهلالية.
وفي مسلم عن ابن عباس «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ حين صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قال له بعض الصحابة يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود، فقال رسول الله ﷺ: إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع قبله» أي مخالفة لليهود، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ وفي هذا الحديث إشكال، فإن سياقه يدل على أنه ما صام يوم عاشوراء ولا أمر بصيامه، إلا في السنة التي توفي فيه وهو مخالف لما سبق.
ويجاب عن هذا الإشكال بأن المراد بقوله حين صام: أي حين واظب على صومه. واتفق أن قول بعض الصحابة ذلك كان في السنة التي توفي فيها، وهو كان شأنه موافقة أهل الكتاب قبل فتح مكة ومخالفتهم بعده كما تقدم، وبعض متأخري فقهائنا ظن أن قوله «إذا كان العام المقبل إن شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع» من تتمة حديث «ولما قدم المدينة وجد اليهود تصومه فصامه وأمر بصيامه» فاستشكل.
وأجاب، بأن المراد لما قدم من سفرة سافرها من المدينة بعد الهجرة. أي وكان قدومه من تلك السفرة في السنة التي توفي فيها، وقد علمت أنهما حديثان؛ وقد علمت معنى الحديث الذي تتمته إذا كان العام المقبل. وفي كون إغراق فرعون ونجاة موسى كان يوم قدومه المدينة يلزم عليه أن ذلك اليوم انتقل من ذلك الشهر إلى اليوم العاشر من المحرم الذي هو الشهر الهلالي من السنة الثانية، واستمر كذلك كما هو ظاهر سياق الأحاديث أن الذي واظب على صيامه إنما هو ذلك اليوم، وكونه وافق اليهود على صوم ذلك اليوم، ثم خالفهم في السنة الثانية وما بعدها من أبعد البعيد.
ثم رأيت أبا الريحان البيروتي نازع في ذلك في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الخالية) حيث قال: رواية أن الله أغرق فرعون ونجى موسى وقومه يوم قدومه المدينة الامتحان يشهد عليها بالبطلان، وبين ذلك بما يطول. وحينئذ يكون من جملة ما يحكم عليها بالبطلان إقرارهم على ذلك؛ وكونه صامه وأمر بصيامه وفرض الله «عَزَّ وجَلّ» عليه وعلى أمته صيام شهر رمضان إو الإطعام عن كل يوم مسكينا بقوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه} من الأصحاء المقيمين {فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا}: أي زاد على إطعام المسكين {فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} أي من الفطر والإطعام، فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم عن كل يوم مدا.
ثم إن الله تعالى نسخ هذا التخيير بإيجاب صوم رمضان عينا بقوله {فمن شهد منكم الشهر} أي علمه {فليصمه} إلا في حق من لا يستطيع صومه لكبر أو لمرض لا يرجى زواله فيجزيه الإطعام ورخص فيه للمريض، أي إذا كان بحيث تحصل له مشقة تبيح التيمم، وللمسافر أي الذي يباح له قصر الصلاة وإن لم يحصل له مشقة بالكلية مع وجوب القضاء إذا زال المرض والسفر بقوله تعالى {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} أي فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر من أيام أخر، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا بعد الغروب أو يدخل وقت العشاء الآخرة، فإذا ناموا أو دخل وقت العشاء الآخرة امتنع عليهم ذلك إلى الليلة القابلة، ثم نسخ الله ذلك، وأحل الأكل والشرب وإتيان النساء إلى طلوع الفجر ولو بعد النوم ودخول وقت العشاء بقوله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} ثم قال تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولما فهم بعض الصحابة أن المراد الخيط حقيقة حتى صار يجعل عند وسادته حبلا أبيض وحبلا أسود أنزل الله تعالى من الفجر إشارة إلى أن المراد بياض النهار وسواد الليل.
وذكر في التفسير في سبب نزول هذه الآية: «أن عمر بن الخطاب «رضي الله ع» واقع أهله بعد ما صلى العشاء، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي، فجامعت أهلي، فقال النبي ﷺ: ما كنت جديرا بذلك يا عمر. فقام رجال فاعترفوا بمثله، فنزلت» وذكر له أن بعض أصحابه سقط مغشيا عليه بسبب الصوم، فسأله عن ذلك فأخبر أنه أهل حرث، وأنه جاء لينظر ما تعمله له زوجته ليتعشى به فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ إلا بعد الغروب، فلم يتناول شيئا فأنزل الله تعالى {وكلوا واشربوا} الآية: وقوله تعالى {كما كتب على الذين من قبلكم} جاء في بعض الروايات، أن المراد بهم أهل الكتاب: أي اليهود والنصارى، جاء في بعضها أن المراد بهم النصارى خاصة، وجاء في بعض الروايات أن المراد بهم جميع الأمم السابقة: فقد جاء «ما من أمة إلا وجب عليها صوم رمضان إلا أنهم أخطؤوه ولم يهتدوا له» وهذه الرواية تدل على أنه لم يصمه أحد من الأمم السابقة. فصومه من خصوصيات هذه الأمة.
وفي الأنساب لابن قتيبة «أول من صام رمضان نوح "عليه الصلاة والسلام» هذا كلامه: وفي بعض الروايات ما يفيد أن النصارى صامته، واتفق أنه وقع في بعض السنين في شدة الحر فاقتضى رأيهم تأخيره بين الصيف والشتاء، وأن يزيدوا في مقابلة تأخيره عشرين يوما، وعلى هذا فصومه ليس من خصائص هذه الأمة، وقيل التشبيه إنما هو في مطلق الصوم لا في خصوص صوم رمضان، لأنه كان الواجب على جميع ما تقدم من الأمم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، صام ذلك نوح فمن دونه حتى صامه النبي ﷺ كما تقدم؛ وتقدم أن تلك الأيام التي صامها كانت البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وتقدم أنه قيل: إن صوم ذلك كان واجبا عليه وعلى أمته.
وقيل: كان الواجب عليه وعلى أصحابه قبل صوم رمضان عاشوراء، وتقدم رده، وكان فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين «وكان يخطب قبل العيد بيومين يعلم الناس زكاة الفطر فيأمر باخراج تلك الزكاة قبل الخروج إلى صلاة العيد» أي بعد أن شرعت، لأن مشروعيتها تأخرت عن مشروعية صلاة عيد الأضحى، وكان فرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة الأموال، وكان فرض زكاة الأموال في تلك السنة التي هي الثانية، ولم أقف على خصوص الشهر الذي وجبت فيه. قال بعضهم: ولعل هذا محمل قول بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث، لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة: أي زكاة المال، ولعله عنى ببعض المتأخرين الإمام سراج الدين البلقيني رحمه الله، لأن الإمام سراج الدين البلقيني سئل هل علمت السنة التي فرضت فيها زكاة المال؟ فأجاب بقوله: لم يتعرض الحفاظ ولا أصحاب السير للسنة التي فرض فيها زكاة المال، ووقع لي حديثان ظهر منهما تقريب ذلك ولم أسبق إليه. ثم قال: فقد ظهر أن زكاة المال بعد زكاة الفطر؛ وقيل قدوم ضمام بن ثعلبة، وقدومه كان في السنة الخامسة هذا كلامه.
وقيل: فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة، وعليه يحمل ظاهر ما في (سفر السعادة) كان يرسل مناديا ينادي في الأسواق والمحلات والأزقة من مكة: ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة الحديث.
ورد بأنه لم يفرض قبل الهجرة بعد الإيمان إلا الصلوات الخمس، وكل الفروض فرضت بعد الهجرة. وفيه أنه فرض قيام الليل كما تقدم، وصلاة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي على ما تقدم. إلا أن يقال المراد الفروض الموجودة الآن المستمر فرضها وما تقدم عن (سفر السعادة) يجوز أن يكون يرسل المنادي الذي ينادي في مكة بوجود زكاة الفطر وهو بالمدينة بعد وجوبها بالمدينة «وأمر أن تخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من زبيب أو صاع من بر، فكان يصلي العيدين قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة»» أي بل يقال: الصلاة جامعة، لكن في (سفر السعادة) «وكان إذا بلغ المصلى شرع في الصلاة من وقته بلا أذان ولا إقامة ولا الصلاة جامعة» والسنة أن لا يكون شيء من هذا كله هذا كلامه «وكانت تحمل العنزة بين يديه، فإذا وصل المصلى نصبت تجاهه» وهي عصا قدر نصف الرمح في أسفلها زج من جديد «وكان تلك العنزة للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه وكان يصلي إليها» أي أخذها منه بعد وقعة بدر. وقد قتل بها الزبير عبيدة بفتح العين المهملة وبضمها ابن سعيد بن العاص الذي كان يقال له أبو ذات الكرش. قال الزبير: لقيته لا يرى منه إلا عيناه، فقال لي أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات، وأردت إخراجها فوضعت رجلي عليه، ثم تمطيت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها. ولما قبض أخذها الزبير، ثم طلبها أبو بكر «رضي الله ع» فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر «رضي الله ع» أخذها الزبير ثم سألها عمر «رضي الله ع» فأعطاه إياه، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان فأعطاه إياها، فلما قتل دفعت إلى علي، ثم أخذها عبدالله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.
«وكان إذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته يقسم زكاة الفطر بين المساكين» ولعل المراد الزكاة المتعلقة به لأنه تقدم أنه كان يأمر الناس بإخراجها قبل الصلاة. إلا أن يقال المراد بإخراجها جمعها له ليفرقها.
«وإذا فرغ من صلاة الأضحى وخطبته يؤتى له بكبشين وهو قائم في مصلاه فيذبح أحدهما بيده ويقول: هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ».
وعند الحاكم عن أبي سعيد الخدري «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ ذبح كبشا أقرن بالمصلى، أي بعد أن قال: بسم الله والله أكبر. وقال: اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي».
واستدل بذلك على أن من خصائصه أن يضحي عن غيره بغير إذنه «ويذبح الآخر ويقول: هذا عن محمد وآل محمد، فيأكل هووأهله منهما، ويطعم المساكين، ولم يترك الأضحية قط» وهل كانت من بعد إبراهيم تضحي هم وأممهم أو هم خاصة؟ وكان في مسجده يوم الجمعة قبل أن يوضع له المنبر يخطب ويسند ظهره إلى أسطوانة من جذوع النخل أو من الدوم وهو شجر المقل.
وعبارة بعضهم «كان يخطب الناس وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي، فلما كثر الناس أي وقالوا له: لو اتخذت شيئا تقوم عليه إذا خطبت يراك الناس وتسمعهم خطبتك، فقال: ابنو لي منبرا لما بني له المنبر عتبتين، أي ومحل الجلوس، فكان ثلاث درجات، وقام عليه في يوم جمعة أي وخطب» وفي لفظ «لما عدل إلى المنبر ليخطب عليه وجاوز ذلك الجذع سمع لتلك الأسطوانة حنين كحنين الواله بصوت هائل سمعه أهل المسجد حتى ارتج» أي اضطرب «المسجد، وكثر بكاء الناس لذلك، ولا زالت تحنّ حتى تصدعت وانشقت» أي وفي رواية «سمع له صوت كصوت العشار» أي النوق التي أتى لحملها عشرة أشهر. وقيل التي أخذ ولدها. وفي بعض الروايات «كحنين الناقة الحاوج» وهي التي انتزع ولدها منها. وفي رواية «جأر» بفتح الجيم وبعدها همزة مفتوحة: أي صوت، أو بالخاء المعجمة بلا همزة وهو بمعناه «كخوار الثور، فنزل فالتزمها وحضنها» أي فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت فيسكت.
أي وفي كلام بعضهم: وذكر الإسفراييني «أن النبي ﷺ دعاه إلى نفسه فجاءه يخرق الأرض، فالتزمه فعاد إلى مكانه» وفي رواية «ووضع يده عليها، وقال لها اسكتي واسكتي فسكتت» وفي رواية «أن هذا» أي الجذع «يبكي لما فقد من الذكر، والذي نفسي بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا» أي يحن إلى يوم القيامة. زاد في رواية «حزنا على رسول الله » وقوله لما فقد من الذكر هو واضح على الرواية الأولى. وأما على الثانية فالمراد لما يفقده من الذكر، وإلى حنين الجذع أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله
وحن إليك الجذع حين تركته ** حنين الثكالى عند فقد الأحبة
وعن بعضهم قال: قال لي الإمام الشافعي «رضي الله ع»: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطى محمدا حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك. وفي رواية «لا تلوموه» أي الجذع «على حنينه فإن رسول الله ﷺ لم يفارق شيئا إلا وجد عليه» أي حزن. وفي رواية «أنه قال له: إن شئت أردك إلى الحائط» أي البستان الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك حوص وثمرة، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك. ثم أصغى له يسمع ما يقول فقال بصوت سمعه من يليه: بل تغرسني في الجنة، فقال رسول الله ﷺ قد فعلت قد فعلت» وفي رواية «لما أصغى إليه رسول الله ﷺ فقال: اختار أن أغرسه في الجنة» أي وفي رواية «اختار دار البقاء على دار الفناء» ولا يخالف ما قبله، لأنه يجوز أن يكون السائل من غير من سمع جوابه وأمر به فدفن تحت المنبر، وقيل جعل في السقف وأخذه عنده أبيّ «رضي الله ع» بعد أن هدم المسجد وأزيل سقفه، فكان عنده إلى أن أكلته الأرضة وعاد رفاتا أي متكسرا من شدة اليبس.
أقول: في سيرة الحافظ الدمياطي قالوا «كان رسول الله ﷺ يوم الجمعة يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال: إن القيام شق عليّ، فقال له تميم الداري ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، أي تصنعه النصارى في كنائسهم لأساقفتهم تسمى المرقاة يصعدون إليها عند تذكيرهم فتشاور رسول الله ﷺ مع المسلمين في ذلك، فرأوا أن يتخذوه، فقال العباس بن عبد المطلب «رضي الله ع» إن لي غلاما يقال له كلاب أعلم الناس أي بالنجارة، فقال رسول الله ﷺ مره أن يعمله، فأرسله إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعدا، ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم، فجاء رسول الله، وقام عليه» أي وقال «إن أتخذ منبرا فقد اتخذه أبي إبراهيم» أي ولعله عنى به المقام الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وهو الحجر، إلا إن ثبت أن إبراهيم كان له منبر يحدث عليه الناس.
وعن ابن عمر «رضي الله ع» قال: سمعت النبي ﷺ وهو عند المنبر يقول «يأخذ الجبار بسمواته وأرضه بيده، ثم يقول: أنا الجبار أنا الجبار، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ويميل يعني النبي ﷺ عن يمينه وشماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله » وفي رواية عنه «فقال المنبر هكذا وهكذا، فجاء وذهب ثلاث مرات». وفي رواية عن عائشة «رضي الله ع» «فرجف برسول الله ﷺ منبره حتى قلن ليحزن، وقال: منبري هذا على ترعة» بضم المثناة فوق وإسكان الراء وبالعين المهملة «من ترع الجنة، أي أفواه جداول الجنة، وقوائم منبري رواتب أي ثوابت في الجنة» وقال «منبري على حوضي» وقال «إن حوضي كما بين عدن إلى عمان، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، أباريقه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأكثر الناس ورودا عليه يوم القيامة فقراء المهاجرين. قلنا: من هم يا رسول الله؟ قال: الشعثة، رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا ينكحون المنعمات، ولا تفتح لهم السدد، أي الأبواب الذين يعطون الذي عليهم ولا يأخذون الذي لهم» وقال «ما بين قبري ومنبري». وفي رواية بدل قبري «بيتي» وفي لفظ «حجرتي» والمراد قبره الشريف، فإنه في حجرته، وحجرته هي بيته «روضة من رياض الجنة» أي يكون بعينه في الجنة بقعة من بقاعها أي ينقلها الله تعالى فتكون في الجنة بعينها.
وقيل إن الصلاة والدعاء فيها يستحق بذلك من الثواب ما يكون موجبا لدخول الجنة، كما قيل بذلك في قوله «الجنة تحت ظلال السيوف» مع أن تلك السيوف كانت بأرض الكفر. وقيل إنها لبركتها أضيفت إلى الجنة كما قيل في الضأن إنها من دواب الجنة.
وقال ابن حزم: ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة. وقال «من حلف على منبري كاذبا ولو على سواك أراك فليتبوأ مقعده من النار» وفي رواية «إلا وجبت له النار».
أقول: وجاء «أنه كان على المنبر يعتمد على عصا من شوحط» وفي الهدى: لم يعتمد في خطبته على سيف أبدا، وقبل أن يتخذ له المنبر كان يعتمد على قوس أو عصا، أي وقيل كان يعتمد على قوس إن خطب في الحرب وعلى عصا إن خطب في غيره.
واختلف فيها؛ يعني تلك العصا، هل هي العُنزة التي كان يصلي إليها أو غيرها، وما يظنه بعض الناس من أنه كان يعتمد على سيف، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف فمن فرط جهله هذا كلامه. وفيه أن بعض فقهائنا ذكر أن اعتماده في خطبته كان على سيف روي ولم يثبت.
وذكر فقهاؤنا تلك الحكمة حيث قالوا: وحكمة اعتماده على العصا أو القوس أو السيف الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، وقول صاحب الهدى: وكان قبل أن يتخذ المنبر يعتمد على قوس أو عصا، يقتضي أن بعد اتخاذ المنبر لم يعتمد على شيء من ذلك، أي وصرح به صاحب القاموس في (سفر السعادة) حيث قال: لم يكن يأخذ السيف والحربة بيده، بل كان يعتمد على القوس أو العصا، وذا قبل اتخاذ المنبر؛ وأما بعد اتخاذ المنبر فلم يحفظ أنه اعتمد على العصا، ولا على القوس، ولا على غير ذلك هذا كلامه؛ فيكون الاعتماد على ذلك فوق المنبر بدعة، وهو خلاف ما عليه أئمتنا من أنه يسن أن يشغل يمناه بحرف المنبر ويسراه بما يعتمد عليه من نحو العصا، لكن قالوا: كعادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس، وهو لا يأتي في العصا ولا يأتي في السيف إذا كان في غمده.
ووجود المرقى الذي يقرأ الآية والخبر المشهور بدعة، لأنه حدث بعد الصدر الأول ولم أقف على أول زمان فعل فيه ذلك، لكن ذكر بعضهم أنه في حجة الوداع أمر من يستنصت له الناس عند إرادة خطبته، وعليه إن كان استنصتهم بالحديث فذكر المرقى للخبر ليس من البدعة. إلا أن يقال هو بالنسبة لخطبة الجمعة بدعة، لأنه كان يذكر الحديث على المنبر، فالسنة أن يذكره الخطيب كذلك.
ففي (سفر السعادة): وكان في أثناء الخطبة يأمر الناس بالإنصات ويقول «إن الرجل إذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له» وكان يقول «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا، والذي يقول أنصت ليس له جمعة».
وقول الحافظ الدمياطي: كان يخطب على جذع قائما، وأنه قال: إن القيام شق عليّ، يقتضي أن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الخشب، وأنه لم يتخذ قبل ذلك المنبر من الطين الذي قدمناه، وفيه نظر. وكذا في قوله: وقال له تميم الداري إلى آخره، لأن تميما الداري إنما أسلم في السنة التاسعة، وهذا المنبر الذي من الخشب إنما فعل في السابعة أو الثامنة، وعلى هذا اقتصر الأصل حيث قال في الحوادث.
وفيها: أي السنة الثامنة اتخاذ المنبر والخطبة عليه، وحنين الجذع، وهو أول منبر عمل في الإسلام، وهو في ذلك موافق لما قدمه هو: أي الأصل من اتخاذ المنبر له من الطين قبل ذلك، وأنه كان عنده حنين الجذع.
وعلى كون المنبر عمل في الثامنة، لا يشكل كون العباس «رضي الله ع» أمر غلامه بعمله، لأن العباس «رضي الله ع» قدم المدينة في السنة الثامنة، لكن في بعض الروايات «أنه دعا رجلا فقال: أتصنع لي المنبر؟ قال نعم، قال: ما اسمك؟ قال فلان، قال لست بصاحبه، ثم دعا آخر فقال له مثل ذلك، ثم دعا الثالث فقال له: ما اسمك؟ قال إبراهيم، قال خذ في صنعته فصنعه» وفي رواية «عمله رجل رومي اسمه باقوم، غلام سعيد بن العاص» أي ولعله هو الذي تقدم ذكره عند بناء قريش للكعبة.
وفي رواية «أنه أرسل إلى امرأة فقال لها: مري غلامك يعمل لي أعوادا أكلم الناس عليها، فعمل له درجات من طرفاء الغابة» ويجوز أن يكون غلام العباس «رضي الله ع» انتقل إلى ملك تلك المرأة، وأنه كان غلاما لسعيد بن العاص، وأنه اشترك في عمله مع إبراهيم المتقدم ذكره فنسب لكل منهما.
فعلم من كلام الأصل في غير الحوادث، أنه كان يخطب أولا على الجذع، ثم على المنبر من الطين، وأن حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الطين، وهو مخالف لكلامه في الحوادث، أن حنين الجذع كان عند اتخاذه المنبر من الخشب، وأنه أول منبر عمل في الإسلام. إلا أن يقال أول منبر عمل في الإسلام من خشب، ويكون ذكر حنين الجذع عند القيام عليه من تصرف بعض الرواة، لأن حنين الجذع لم يتكرر حتى يقال جاز أن يكون كان عند قيامه على المنبر من الطين، ثم عند قيامه على المنبر من الخشب.
ثم رأيته في النور رجع كلام الأصل في غير الحوادث إلى كلام الأصل في الحوادث من أنه لم يكن له منبر من طين حيث قال: قوله أي الأصل فبنوا له منبرا، وهذا الكلام فيه تجوّز، يعني اتخذوا له منبرا، وذلك لأن المنبر كان من طرفاء الغابة وهو شجر معروف هذا كلامه، وليته عكس، لأن هذا منه يقتضي حينئذ أن يكون استمر من حين خطب في المسجد إلى السنة الثامنة يخطب إلى الجذع، لأن المنبر من الخشب اتخذ في السنة الثامنة كما تقدم عن الأصل.
ويشكل عليه قول عائشة «رضي الله ع» في قصة الإفك: فثار الحيان، الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ على المنبر» لأن قصة الإفك كانت في سنة خمس.
ثم رأيت في كتاب الشريعة للآجري عن أنس بن مالك «رضي الله ع» «كان يخطب مسندا ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين» أي غير المستراح «فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة» الحديث.
وعن سهل بن سعد «رضي الله ع» «لما كثر الناس وصار يجيء القوم ولا يكادون يسمعون رسول الله ﷺ في الخطبة، قال الناس: يا رسول الله، قد كثر الناس وكثير منهم لا يكاد يسمع كلامك، فلو أنك اتخذت شيئا تخطب عليه مرتفعا من الأرض ويسمع الناس كلامك، ؛ فأرسل إلى غلام نجار لامرأة من الأنصار فاتخذ له مرقاتين من طرفاء الغابة، فلما قام حنت الخشبة التي كان يخطب إليها» هذا كلامه، وهو موافق لما تقدم عن الأصل في الحوادث.
والذي ينبغي الجمع بين الروايتين لأن ما علم من أن اتخاذ المنبر من طرفاء الغابة كان بعد اتخاذه من الطين، لأنه أقوى من الارتفاع من منبر الطين، وكون حنين الجذع عند اتخاذ المنبر من الطرفاء من تصرف بعض الرواة، لأن حنينه إنما كان عند اتخاذ المنبر من الطين، ولم يتكرر حنينه كما تقدم.
ولما ولي معاوية الخلافة كسا ذلك المنبر قُبطية، ثم كتب إلى عامله بالمدينة وهو مروان بن الحكم أن يرفع ذلك المنبر عن الأرض، فدعا بالنجارين وفعل ست درج، ورفع ذلك المنبر عليها فصارت تسع درجات. وهذا يدل على أن قوله فأتخذ له مرقاتين أي غير المستراح، ومن ثم تقدم «فعمل له درجات».
وقيل أمره بحمله إلى الشام، فلما أرادوا قلعه أظلمت المدينة وكسفت الشمس حتى بدت النجوم، وثارت ريح شديدة، فخرج مروان إلى الناس فخطبهم، وقال: يا أهل المدينة إنكم تزعمون أن أمير المؤمنين بعث إليّ أن أبعث إليه بمنبر رسول الله ﷺ وأمير المؤمنين أعلم بالله من أن يغير منبر رسول الله، إنما أمرني أن أكرمه وأرفعه ففعل ما تقدم.
وقيل: إن معاوية لما حج أراد أن ينقل المنبر إلى الشام، فحصل ما تقدم من كسوف الشمس الخ، فاعتذر معاوية للناس وقال: أردت أن أنظر إلى ما تحته وخشيت عليه من الأرضة، وكساه يومئذٍ قبطية.
ولا مانع من تعدد الواقعة، وأن واقعة معاوية سابقة على واقعة مروان، لقوله: لأنظر ما تحته، وإلا فمروان رفعه عن الأرض.
ثم إن هذا المنبر أحزق بسبب الحريق الواقع في المسجد أول مرة، فأرسل صاحب اليمن منبرا فوضع موضعه مكث عشر سنين.
وفي الإمتاع: ثم تهافت المنبر النبوي على طول الزمان، فعمل بعض خلفاء بني العباس منبرا واتخذ من أعواد المنبر النبوي أمشاطا يتبرك بها، فاحترق هذا المنبر المجدد في حريق المسجد، فبعث المظفر ملك اليمن منبرا هذا كلامه. ثم أرسل الملك الظاهر بيبرس من مصر منبرا، فرفع منبر صاحب اليمن ووضع منبر الملك الظاهر، فمكث مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة، فبدأ فيه أكل الأرضة، فأرسل الظاهر برقوق منبرا، فرفع منبر الملك الظاهر بيبرس ووضع منبر الملك الظاهر برقوق، ومكث ثلاثا أو أربعا وعشرين سنة.
ثم إن السلطان المؤيد شيخ لما بنى مدرسته بالقاهرة التي يقال لها المؤيدية عمل أهل الشام له منبرا وأرسلوا به إليه ليجعله في مدرسته، فوجد أهل مصر قد صنعوا لها منبرا فسير المؤيد منبر أهل الشام إلى المدينة فمكث سبعا وستين سنة. ثم أحرق في الحريق الواقع في المسجد ثاني مرة، ثم جعل موضعه منبر مبني بالآجر مطلي بالنورة، فمكث إحدى وعشرين سنة ثم جعل موضعه المنبر الرخام الموجود الآن.
قيل: وأعجب منبر في الدنيا منبر جامع قرطبة قاعدة بلاد الأندلس بالمغرب. ذكر أن خشبه من ساج وأبنوس وعود قاقلي، أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه سبع صناع، لكل صانع في كل يوم نصف مثقال ذهب، فكان جملة ما صرف على أجرته عشرة آلاف مثقال وخمسين مثقالا، وبالجامع المذكور مصحف فيه أربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان «رضي الله ع» بخط يده، وفيه نقط من دمه. وفي هذا المسجد ثلاثة أعمدة حمر، مكتوب على أحدها اسم محمد. وعلى الثاني صفة عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأهل الكهف. وعلى الثالث صورة غراب نوح، الجميع خلقة ربانية ولا بدع.
فقد ذكر بعضهم رأيت بحمام القاهرة رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم مفسرا يقرؤه كل أحد خلقة.
وعن سهل قال «رأيت رسول الله ﷺ أول يوم جلس على المنبر أي من الخشب كبّر، فكبر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رجع فنزل القهقري، ثم سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى إذا فرغ من الصلاة يصنع فيها كما يصنع في الركعة الأولى. فلما فرغ أقبل على الناس وقال: أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» وقوله لتأتموا بي: أي تقتدوا بي في مثل هذا الفعل من الإحرام والركوع على المحل المرتفع ثم النزول عنه و السجود تحته ثم الصعود إليه، وهكذا إلى أن تتم الصلاة، وهذا عند أئمتنا مخصوص جوازه بما إذا لم يلزم عليه استدبار القبلة أو توالي حركات ثلاث، وقوله: «ولتعلموا صلاتي» هو واضح، لو كان ذلك أول صلاة. إلا أن يقال المراد ولتعلموا جواز صلاتي هذه.
وفي كلام فقهائنا أنه كان ينزل من المنبر، ويسجد للتلاوة أسفل المنبر، وآخر الأمرين ترك ذلك. فعلم أن منبره كان ثلاث درجات بالمستراح. وحينئذ يشكل إن صح، ما روى أن أبا بكر نزل درجة عن موقفه، وعمر نزل درجة أخرى، وعثمان درجة أخرى. ومن ثم قال في النور: وهذا يدل على أنه كان أكثر من ثلاث درجات. أي أربعة غير المستراح، وإلا يلزم أن يكون عمر وعثمان كانا يخطبان على الأرض.
قال: ويمكن تأويله، هذا كلامه، ولينظر ما تأويله، فإنه يلزم على كونه درجتين غير المستراح، أن يكون الصدّيق كان يخطب على الدرجة الثانية، وعمر يخطب على الأرض، وأن عثمان فعل كفعل عمر. وحينئذ لا يحسن قولهم وعثمان نزل درجة أخرى، إذ لا درجة بعد الدرجة الثانية ينزل عنها. وحينئذ يشكل ما في الإمتاع وهو: كان منبره درجتين ومجلسا، وكان رسول الله ﷺ يجلس على المجلس ويضع رجليه إذا قعد على الدرجة الثانية، فلما ولي أبو بكر «رضي الله ع» قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى، فلما ولي عمر «رضي الله ع»، قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الأرض إذا قعد، فلما ولي عثمان «رضي الله ع» فعل كذلك: أي كفعل عمر ست سنين من خلافته ثم علا إلى موضع وقوفه، هذا كلامه، وكان ينبغي أن يقول: بدل قوله، فلما ولي أبو بكر قام على الدرجة الثانية جلس على الدرجة الثانية، وكذا قوله: فلما ولي عمر قام على الدرجة السفلى جلس على الدرجة السفلى، أي فقد خطب على الأرض وكذا عثمان.
وذكر فقهاؤنا أن منبره كان ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح وتسمى بالمقعد والمجلس، فكان يقف على الثالثة: أي بالنسبة للسفلى، وإذا جلس يجلس على المستراح ويجعل رجليه محل وقوفه إذا قام للخطبة، وكذا الخلفاء الثلاثة كل يجعل رجليه محل وقوفه.
ويذكر أن المتوكل قال يوما لجلسائه وفيهم عبادة: أتدرون ما الذي نقم على عثمان؟ نقم عليه أشياء، منها أنه قام أبو بكر «رضي الله ع» دون مقام رسول الله ﷺ بمرقاة، ثم قام عمر «رضي الله ع» دونه بمرقاة، فصعد عثمان «رضي الله ع» ذروة المنبر، فقال له عبادة: ما أحد أعظم منه عليك يا أمير المؤمنين من عثمان، قال: وكيف ذاك. قال: لأنه صعد ذروة المنبر وإنه لو كان كلما قام خليفة نزل عمن تقدمه كنت أنت تخطبنا في بئر عميق، فضحك المتوكل ومن حوله، وكون عثمان صعد ذروة المنبر إنما هو آخر الأمر كما علمت.
وفي كلام بعضهم: أول من اتخذ المنبر خمس عشرة درجة معاوية «رضي الله ع»، وأنه أول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وعثمان أول من كسا المنبر قبطية.
وعن الواقدي أن امرأة سرقت كسوة عثمان للمنبر فأتى بها إليه، فقال لها عثمان: هل سرقت؟ قولي لا، فاعترفت، فقطعها، ثم كساه معاوية كما تقدم، ثم كساه عبدالله بن الزبير، فسرقتها امرأة فقطعها كما قطع عثمان، ثم كساه الخلفاء من بعده.