أي بعد البعثة: أي الرسالة، وهي المرادة عند الإطلاق بناء على أنها مقارنة للنبوة.
لا يخفى أنه لما بعث أخفى أمره وجعل يدعو إلى الله سرا، واتبعه ناس عامتهم ضعفاء من الرجال والنساء، وإلى هذا الإشارة بقوله: «إن هذا الدين بدا غريبا وسيعود كما بدا، فطوبى للغرباء» ولا يخفى أن أهل الأثر وعلماء السير على أن أول الناس إيمانا به على الإطلاق خديجة «رضي الله ع».
أقول: نقل الثعلبي المفسر اتفاق العلماء عليه. وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين. وقال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله تعالى أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
وفيه أن بناته الأربع كنّ موجودات عند البعثة ويبعد تأخر إيمانهن، إلا أن يقال خديجة تقدم لها إشراك بخلافهن، أخذا مما يأتي.
وعن ابن إسحاق أن خديجة كانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت ما جاء به عن الله تعالى، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من قومه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها وأخبرها به.
ثم عليّ بن أبي طالب «رضي الله ع». ففي المرفوع عن سلمان أن النبي ﷺ قال: «أول هذه الأمة ورودا على الحوض أوّلها إسلاما عليّ بن أبي طالب «رضي الله ع»» وجاء «أنه لما زوجه فاطمة قال لها زوجتك سيدا في الدنيا والآخرة، وإنه لأول أصحابي إسلاما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلما» وكان لم يبلغ الحلم كما سيأتي حكاية الإجماع عليه، كان سنه ثمان سنين، وكان عند النبي ﷺ قبل أن يوحى إليه يطعمه ويقوم بأمره، لأن قريشا كان أصابهم قحط شديد وكان أبو طالب كثير العيال، فقال رسول الله ﷺ لعمه العباس: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال والناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، تأخذ واحدا وأنا واحدا فجاءا إليه وقالا: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا قيل وطالبا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله ﷺ عليا «رضي الله ع» فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه وتركا له عقيلا وطالبا، فلم يزل عليّ مع رسول الله».
وفي خصائص العشرة للزمخشري «أن النبي ﷺ تولى تسميته بعليّ وتغذيته أياما من ريقه المبارك بمصه لسانه» فعن فاطمة بنت أسد أم عليّ «رضي الله ع» أنها قالت: «لما ولدته سماه عليا وبصق في فيه، ثم إنه ألقمه لسانه، فما زال يمصه حتى نام، قالت: فلما كان من الغد طلبنا له مرضعة فلم يقبل ثدي أحد، فدعونا له محمدا فألقمه لسانه فنام، فكان كذلك ما شاء الله «عَزَّ وجَلّ»» هذا كلامه فليتأمل.
وعنها «رضي الله ع» أنها في الجاهلية أرادت أن تسجد لهبل وهي حامل بعليّ فتقوّس في بطنها فمنعها من ذلك. وكان عليّ «رضي الله ع» أصغر إخوته، فكان بينه وبين أخيه جعفر عشر سنين، وبين جعفر وأخيه عقيل كذلك، وبين عقيل وأخيه طالب ذلك أيضا، فكل أكبر من الذي بعده بعشر سنين، فأكبرهم طالب ثم عقيل ثم جعفر ثم عليّ: أي وكلهم أسلموا إلا طالبا فإنه اختطفته الجن فذهب ولم يعلم إسلامه.
وقد جاء أنه قال لعقيل لما أسلم «يا أبا يزيد إني أحبك حبين حبا لقرابتك مني، وحبا لما كنت أعلم لحب عمي إياك».
وكان عقيل أسرع الناس جوابا وأبلغهم في ذلك قال له معاوية يوما: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال: إذا دخلتها يا معاوية فهو على يسارك مفترشا عمتك حمالة الحطب، والراكب خير من المركوب.
ولما وفد على معاوية وقد غضب من أخيه عليّ لما طلب منه عطاءه وقال له اصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين فأعطيك، فقال له: لأذهبنّ إلى رجل هو أوصل إليّ منك، فذهب إلى معاوية فأعطاه معاوية مائة ألف درهم، ثم قال له معاوية: اصعد المنبر فاذكر ما أولاك عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليّا على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه. وفي رواية أن معاوية قال لجماعة يوما بحضرة عقيل: هذا أبو يزيد يعني عقيلا، لولا علمه بأني خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه، فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي، وأسأل الله تعالى خاتمه الخير. توفي عقيل في خلافة معاوية.
قال: وسبب إسلام علي كرم الله تعالى وجهه «أنه دخل على النبي ﷺ ومعه خديجة وهما يصليان سرا، فقال: ما هذا؟ فقال رسول الله ﷺ: دين الله الذي اصطفاه لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وإلى الكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدّث أبا طالب، وكره رسول الله ﷺ أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا، فمكث ليلته. ثم إن الله تبارك وتعالى هداه للإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله ﷺ فأسلم» اهـ.
أقول: وذلك في اليوم الثاني من صلاته هو وخديجة، وهو يوم الثلاثاء كما في سيرة الدمياطي: أي لأنه تقدم أن صلاته مع خديجة كانت آخر يوم الاثنين، وهذا إنما يأتي على القول بأن النبوة والرسالة تقارنتا لا على أن الرسالة تأخرت عن النبوة، وأن بينهما فترة الوحي على ما تقدم.
وفي أسد الغابة «أن أبا طالب رأى النبي ﷺ وعليا يصليان وعليّ على يمينه، فقال لجعفر «رضي الله ع»: صل جناح ابن عمك، فصلى عن يساره، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. قال بعضهم: وإنما صح إسلام علي: أي مع أنهم أجمعوا على أنه لم يكن بلغ الحلم: أي ومن ثم نقل عنه أنه قال:
سبقتكمو إلى الإسلام طرّا ** صغيرا ما بلغت أوان حلمي
أي كان عمره ثمان سنين على ما سبق، لأن الصبيان كانوا إذ ذاك مكلفين، لأن القلم إنما رفع عن الصبي عام خيبر.
وعن البيهقي أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق. وفي لفظ في عام الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز.
هذا، وقد ذكر أنه لم يحفظ عن علي «رضي الله ع» أنه قال شعرا. وقيل لم يقل إلا بيتين: أي ولعل أحدهما ما تقدم، ثم رأيت عن القاموس أن البيتين هما قوله:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ** فلا وربك ما برّوا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن مهجتي لهمو ** بذات ودقين لا تبقي ولا تذر
وذات ودقين: هي الداهية.
وقد ذكر أن الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل ابن خمس عشرة سنة، وقيل ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل ابن ست عشرة سنة.
ومما يدل للأول ما جاء عن بعضهم: كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد.
ومن العجب أن الزمخشري في خصائص العشرة اقتصر على أن سنّ الزبير حين أسلم ست عشرة سنة، وذكر بعد ذلك بأسطر أنه أول من سلّ سيفا في سبيل الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة مقتصرا على ذلك.
ومما يدل للأول أيضا ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أن عليا لم يكن بلغ الحلم يرد القول بأن عمره كان إذ ذاك عشر سنين: أي بناء على أن سن إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا.
ويوافقه ما حكاه بعضهم أن الراشد بالله وهو الحادي والثلاثون من خلفاء بني العباس لما كان عمره تسع سنين وطىء جارية حبشية فحملت منه، فولدت ولدا حسنا. ويرد القول بأن سنه إذ ذاك كان ثلاث عشرة أو خمس عشرة أو ست عشرة سنة.
أقول: قال بعض متأخري أصحابنا: وإنما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه، لأن عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به. وعلى هذا مع ما تقدم يشكل ما في الإمتاع: وأما علي بن أبي طالب فلم يكن مشركا بالله أبدا، لأنه كان مع رسول الله ﷺ في كفالته كأحد أولاده، يتبعه في جميع أموره، فلم يحتج أن يدعى للإسلام فيقال أسلم، هذا كلامه فليتأمل، فإن عليا كان تابعا لأبيه في دينه ولم يكن تابعا له كأولاده.
وقوله فلم يحتج أن يدعى للإسلام يرده ما تقدم من قوله له: أدعوك إلى الله وحده إلى آخره.
ثم رأيت في الحديث ما يدل لما في (الإمتاع) وهو «ثلاثة ما كفروا بالله قط: مؤمن آل يس، وعلي بن أبي طالب، ة وآسية امرأة فرعون».
والذي في العرائس: روي عن النبي ﷺ أنه قال: «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب يس?، وعلي بن أبي طالب «رضي الله ع» وهو أفضلهم» إلا أن يراد بعدم كفرهم أنهم لم يسجدوا لصنم. وفيه أنه قد يخالف ذلك قوله له: «وأدعوك إلى الكفر باللات والعزى» وأنه قيل أيضا إن أبا بكر لم يسجد لصنم قط.
وقد عد ابن الجوزي من رفض عبادة الأصنام الجاهلية: أي لم يأت بها: أبا بكر الصديق، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وورقة بن نوفل، ورباب بن البراء، وأسعد بن كريب الحميري، وقس بن ساعدة الإيادي، وأبا قيس بن صرمة. ولا يخفى أن عدم السجود للأصنام لا ينافي الحكم بالكفر على من لم يسجد لها، لكن في كلام السبكي: الصواب أن يقال الصديق لم يثبت عنه حال كفر بالله تعالى، فلعل حاله قبل البعث كحال زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، فلذلك خص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة، هذا كلامه، وهو واضح إذا لم يكن أحد من جميع من ذكر أسلم.
وفي كلام الحافظ ابن كثير: الظاهر أن أهل بيته آمنوا قبل كل أحد: خديجة وزيد وزوجة زيد أم أيمن وعلي «رضي الله ع»، فليتأمل قوله آمنوا قبل كل أحد، وكذا يتأمل قول ابن إسحاق: أما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن.
وعن ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم «أن رسول الله ﷺ كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي مستخفيا من قومه فيصليان فيها، فإذا أمسيا رجعا كذلك، ثم إن أبا طالب عثر: أي اطلع عليهما يوما وهما يصليان: أي بنخلة، المحل المعروف، فقال لرسول الله ﷺ: يا ابن أخي ما هذا الذي أراك تدين به؟ فقال: هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله به رسولا إلى العباد، وأنت أحق من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابني إلى الله تعالى وأعانني عليه، فقال أبو طالب: إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه». وفي رواية «أنه قال له: ما بالذي تقول من بأس، ولكن والله لا تعلوني استي أبدا» وهذا كما لا يخفى ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك وصلّ على يساره لما رأى النبي ﷺ يصلي وعليا على يمينه، لكن يروى أن عليا «رضي الله ع» ضحك يوما وهو على المنبر فسئل عن ذلك؟ فقال: تذكرت أبا طالب حين فرضت الصلاة ورآني أصلي مع رسول الله ﷺ بنخلة، فقال: ما هذا الفعل الذي أرى؟ فلما أخبرناه قال: هذا حسن ولكن لا أفعله أبدا، إني لا أحب أن تعلوني استي، فلما تذكرت الآن قوله ضحكت. وقوله حين فرضت الصلاة يعني الركعتين بالغداة والركعتين بالعشي، وهذا يؤيد القول بأن ذلك كان واجبا.
وذكر أن أبا طالب قال لعلي: أي بني، ما هذا الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله ورسوله، وصدقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته، فقال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.
أي ويذكر عنه أنه كان يقول: إني لأعلم أن ما يقوله ابن أخي لحق، ولولا أني أخاف أن تعيرني نساء قريش لاتبعته.
وعن عفيف الكندي «رضي الله ع» قال: كنت امرأ تاجرا قدمت للحج، وأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة، وكان العباس لي صديقا، وكان يختلف إلى اليمن يشتري العطر ويبيعه أيام الموسم، فبينما أنا عند العباس بمنى: أي وفي لفظ بمكة في المسجد إذا رجل مجتمع: أي بلغ أشده خرج من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ فأسبغ الوضوء: أي أكمله ثم قام يصلي: أي إلى الكعبة كما في بعض الروايات، ثم خرج غلام مراهق: أي قارب البلوغ فتوضأ ثم قام إلى جنبه يصلي، ثم جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الرجل وركع الغلام وركعت المرأة، ثم خر الرجل ساجدا وخر الغلام وخرت المرأة، فقلت: ويحك يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: هذا دين محمد بن عبد الله أخي، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه امرأته خديجة، قال عفيف بعد أن أسلم: يا ليتني كنت رابعا» أي ولعل زيد بن حارثة لم يكن موجودا عندهم في ذلك الوقت، فلا ينافي أنه كان يصلي معهم أو أن ذلك كان قبل إسلامه، لأنه سيأتي قريبا أن إسلامه كان قبل إسلام علي، وكذا أبو بكر لم يكن موجودا عندهم، بناء على أن إسلامه كان قبل إسلام علي، ويؤيده ما قيل: أول من صلى مع النبي ﷺ أبو بكر، لكن في الاستيعاب لابن عبد البر أن العباس قال لعفيف الكندي لما قال له ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام.
وفيه أن عليا قال: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين، أي ولعل المراد أنه عبده بغير الصلاة.
وقوله في هذا الحديث: فنظر إلى الشمس، فلما رآها مالت توضأ وصلى قد يخالف ما تقدم من أن فرض الصلاة كان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى قبل غروب الشمس فقط.
أقول: قد يقال لا مخالفة، لأنه يجوز أن تكون صلاته في الوقت ليست مما فرض عليه، والجماعة في ذلك جائزة، وقد فعلها في النقل المطلق، وهذا يدل على أن الجماعة كانت مشروعة بمكة حتى في صدر الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس.
وفي كلام بعض فقهائنا أنها لم تشرع إلا في المدينة دون مكة لقهر الصحابة «رضي الله ع»، إلا أن يقال المراد بمشروعيتها طلبها، فكانت في المدينة مطلوبة استحبابا أو وجوبا، كفاية أو عينا على الخلاف عندنا في ذلك، وفي مكة كانت مباحة، لكن في كلام بعض آخر من فقهائنا أن الجماعة لم تفعل بمكة لقهر الصحابة. وفيه أن القهر إنما ينافي إظهار الجماعة لا فعلها، إلا أن يقال تركت حسما للباب. وفيه أنه يبعد تركها وهم مستخفون في دار الأرقم فليتأمل، والله أعلم.
ثم بعد إسلام علي «رضي الله ع» أسلم من الصحابة «رضي الله ع» زيد بن حارثة بن شرحبيل.
وقال ابن هشام: شرحبيل مولى رسول الله ﷺ وهبته له خديجة، أي لما تزوجها، أي وكان اشتراه لها ابن أخيها حكيم بن حزام ممن سباه من الجاهلية، أي فإن عمته خديجة أمرته أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا، فلما قدم سوق عكاظ وجد زيدا يباع، أي وعمره ثمان سنين، فإنه أسر من عند أخواله طي، وعليه اقتصر السهيلي.
فإن أمه لما خرجت به لتزيره أهلها فأصابته خيل فباعوه فاشتراه، أي وقيل اشتراه من سوق حباشة بأربعمائة درهم، ويقال بستمائة درهم، فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته أي ولعل هذا مراد من قال فباعه من عمته خديجة أي اشتراه لها، فلما تزوّجها وهو عندها أعجب به فاستوهبه منها فوهبته له، فأعتقه رسول الله ﷺ وتبناه قبل الوحي ( ).
أي وقيل اشتراه لها فإنها جاء إلى خديجة، فقال: «رأيت غلاما بالبطحاء قد أوقفوه ليبيعوه، ولو كان لي ثمنه لاشتريته، قالت وكم ثمنه؟ قال سبعمائة درهم، قالت: خذ سبعمائة درهم فاذهب فاشتره، فاشتراه رسول الله ﷺ فجاء به إليها، وقال: إنه لو كان لي لأعتقته، قالت: هو لك فأعتقه» وقيل بل اشتراه رسول الله ﷺ من الشام لخديجة حيث توجه مع ميسرة فوهبته له فليتأمل ذلك.
وزعم أبو عبيدة أن زيد بن حارثة لم يكن اسمه زيدا، ولكن النبي ﷺ سماه بذلك باسم جدّه قصيّ حين تبناه.
ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب إلى الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه فقام إليه وقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة، قال: من أنفسهم؟ قال لا، قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: مملوك، قال: عربيّ أنت أم أعجمي؟ قال: بل عربيّ، قال: ممن أهلك؟ قال من كلب، قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود، قال: ويحك ابن من أنت؟ قال ابن حارثة بن شرحبيل، قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال: طيّ، قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى، فالتزمه وقال ابن حارثة ودعا أباه، فقال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبا فلا أصنع إلا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه.
وفي رواية أنا ناسا من قومه حجوا فرأوا زيدا فعرفوه وعرفهم فانطلقوا وأعلموا أباه ووصفوا له مكانه، فجاء أبوه وعمه.
وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون اجتماعه بعمه وأبيه كان بعد إخبار أولئك الناس، فلما جاء أهلك في طلبه ليفدوه خيره النبي ﷺ بين المكث عنده والرجوع إلى أهله، فاختار المكث عند رسول الله.
فقد ذكر أنهم لما جاؤوا للنبي، قالوا: يابن عبد المطلب يا بن سيد قومه ( ): أي وفي لفظ، لما قدم أبوه وعمه في فدائه سألا عن النبي، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا بن عبد المطلب يا بن هاشم يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون الأسير العاني، وتطعمون الجائع جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا وأحسن في فدائه فإنا سندفع لك، فقال: وما ذاك؟ قال: زيد بن حارثة، فقال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال ادعوه فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم من غير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على الذي اختارني فداء، فقالوا، زدت على النصف. وفي لفظ زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه فقال: تعرف هؤلاء؟ قال: نعم أبي وعمي، ولعل سكوته عن أخيه لاستصغاره بالنسبة لأبيه وعمه، على أن أكثر الروايات الاقتصار على مجيء أبيه وعمه.
وفي كلام السهيلي «أن زيدا لما جاء قال له من هذان؟ فقال: هذا أبي حارثة بن شرحبيل، وهذا كعب بن شرحبيل عمي. فعند ذلك قال له: أنا من علمت، وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت مني مكان الأب والعم، فقالا، ويحك يا زيد تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال نعم، ما أنا بالذي أختار عليه أحدا، فلما رأى رسول الله ﷺ منه ما رأى أخرجه إلى الحجر: أي الذي هو محل جلوس قريش، فقال إن زيدا ابني أرثه ويرثني فطابت أنفسهما وانصرفا».
وفي كلام ابن عبد البر أنه حين تبناه رسول الله ﷺ كان سنه ثمان سنين، وأنه حين تبناه طاف به على حلق قريش يقول: هذا ابني وارثا وموروثا، ويشهدهم على ذلك، وكان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول، دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف: أي من حالفه، فنسخ ذلك، وهذا الذي ذكره ابن عبد البر من أنه حين تبناه كان عمره ثمان سنين يدل على أن ذلك كان عقب ملكه له قبل الوحي، وأن ذلك كان قبل مجيء أبيه وعمه، وحينئذ يكون عتقه وتبنيه بعد مجيء أبيه وعمه إظهارا لما تقدم فليتأمل.
وفي أسد الغابة أن حارثة أسلم. وفي كلام بعضهم: لم يثبت إسلام حارثة إلا المنذري.
ولما تبنى رسول الله ﷺ زيدا كان يقال له زيد بن محمد، ولم يذكر في القرآن من الصحابة أحد باسمه إلا هو كما سيأتي. قال ابن الجوزي: إلا ما يروى في بعض التفاسير أن السجلّ الذي في قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ للكتب} اسم رجل كان يكتب للنبي ( ).
أي وقد أبدى السهيلي حكمة لذكر زيد باسمه في القرآن، وهي أنه لما نزل قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} وصار يقال له زيد بن حارثة ولا يقال له زيد بن محمد، ونزع منه هذا التشريف شرفه الله تعالى بذكر اسمه في القرآن دون غيره من الصحابة، فصار اسمه يتلى في المحاريب.
ولا يخفى أنه يأتي في زيد ما تقدم في علي، ولم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم ولزيد أخ اسمه جبلة أسنّ منه.
سئل جبلة: من أكبر أنت أم زيد؟ فقال زيد: أكبر مني وأنا ولدت قبله: أي لأن زيدا أفضل منه لسبقه للإسلام.
ثم أسلم من الصحابة أبو بكر الصديق «رضي الله ع». قال بعضهم في سبب إسلامه، إنه كان صديقا لرسول الله ﷺ يكثر غشيانه في منزله ومحادثته، وكان سمع قول ورقة له لما ذهب معه إليه كما تقدم، فكان متوقعا لذلك، فهو مع حكيم بن حزام في بعض الأيام إذ جاءت مولاة لحكيم وقالت له: إن عمتك خديجة تزعم في هذا اليوم أن زوجها نبيّ مرسل مثل موسى، فانسل أبو بكر حتى أتى رسول الله ﷺ فسأله عن خبره، فقص عليه قصته المتضمنة لمجيء الوحي له بالرسالة، فقال صدقت، بأبي أنت وأمي وأهل الصدق أنت، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فيقال إنه سماه يومئذ الصديق، وهذا السياق ربما يدل على أن إسلام أبي بكر تأخر إلى نزول {يا أيها المدثر} بعد فترة الوحي، بناء على ما تقدم، وكونه سماه يومئذ الصديق لا ينافي ما سيأتي أنه سمي بذلك صبيحة الإسراء لما صدقه وقد كذبته قريش، لجواز أنه لم يشتهر بذلك إلا حينئذ.
وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به} أن الذي جاء بالصدق رسول الله ﷺ والذي صدق به أبو بكر. قال: ولما سمعت خديجة مقالة أبي بكر، خرجت وعليها خمار أحمر فقالت: الحمد لله الذي هداك يا بن أبي قحافة، واسمه عبد الله: أي سماه بذلك رسول وكان اسمه قبل ذلك عبد الكعبة، فأبو بكر «رضي الله ع» أول من غير رسول الله ﷺ اسمه، ولقبه عتيق لحسن وجهه، أو لأنه عتق من الذمّ والعيب () أي أو نظر إليه فقال هذا عتيق من النار، فهو أول لقب وجد في الإسلام.
وقيل سمته بذلك أمه لأنه كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة ثم قالت اللهم هذا عتيقك من الموت فهبه لي فعاش. قيل ويدل له ما ذكر بعضهم أن أمه كانت إذا هزته تقول: عتيق وما عتيق، ذو المنظر الأنيق.
وفي كلام ابن حجر الهيتمي: وصح أن الملقب له به النبي ﷺ لما دخل عليه في بيت عائشة، وأنه غلب عليه من يومئذ. قال: وبه يندفع أن الملقب له أبوه وزعم أنه أمه هذا كلامه، وليتأمل قوله في بيت عائشة مع ما تقدم وما في كلام السهيلي.
قيل وسمي عتيقا، لأن رسول الله ﷺ قال له حين أسلم أنت عتيق من النار.
وكان أبو بكر «رضي الله ع» صدرا معظما في قريش على سعة من المال وكرم الأخلاق من رؤساء قريش ومحط مشورتهم، وكان من أعف الناس. كان رئيسا مكرما سخيا يبذل المال، محببا في قومه، حسن المجالسة، وكان من أعلم الناس بتعبير الرؤيا، ومن ثم قال ابن سيرين وهو المقدم في هذا العلم اتفاقا كان أبو بكر أعبر هذه الأمة بعد النبي، وكان أعلم الناس بأنساب العرب.
فقد جاء عن جبير بن مطعم البالغ النهاية في ذلك أنه قال: إنما أخذت النسب من أبي بكر لا سيما أنساب قريش، فإنه كان أعلم قريش بأنسابها وبما كان فيها من خير وشر، وكان لا يعدّ مساويهم، فمن ثم كان محببا فيهم، بخلاف عقيل بن أبي طالب «رضي الله ع»، فإنه كان بعد أبي بكر، أعلم قريش بأنسابها وبآبائها وما فيها من خير وشر لكن كان مبغضا إليهم لأنه كان يعد مساويهم، وكان عقيل يجلس إليه في المسجد النبوي لأخذ علم الأنساب وأيام العرب ووقائعهم.
وفي كلام بعضهم: كان أبو بكر عند أهل مكة من خيارهم، يستعينون به فيما يأتيهم وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد.
قال الزمخشري: ولعله كني بأبي بكر، لابتكاره الخصال الحميدة، وكان نقش خاتمه «نعم القادر الله» وكان نقش خاتم عمر «رضي الله ع» «كفى بالموت واعظا يا عمر» وكان نقش خاتم عثمان «آمنت بالله مخلصا» وكان نقش خاتم عليّ «الملك لله» وكان نقش خاتم أبي عبيدة بن الجراح «الحمد لله».
وكان رسول الله ﷺ يقول: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة ـ أي وقفة وتأخر وتردد ـ إلا ما كان من أبي بكر».
وفي رواية «ما كلمت أحدا في الإسلام إلا أبي عليّ وراجعني في الكلام، إلا ابن أبي قحافة فإني لم أكلمه في شيء إلا قبله واستقام عليه» ( ) أي ومن ثم كان أسدّ الصحابة رأيا، وأكملهم عقلا، لخبر تمام «أتاني جبريل فقال لي إن الله أمرك أن تستشير أبا بكر» ونزل فيه وفي عمر {وشاورهم في الأمر} كان أبو بكر «رضي الله ع» بمكان الوزير من رسول الله، فكان يشاوره في أموره كلها.
وقد جاء «إن الله تعالى أيدني بأربعة وزراء: اثنين من أهل السماء جبريل ومكائيل، واثنين من أهل الأرض أبي بكر وعمر» وفي حديث رواته ثقات «إن الله يكره أن يخطأ أبو بكر» وفي رواية «إن الله يكره في السماء أن يخطأ أبو بكر الصديق في الأرض».
وجاء الحسن بن علي وهو صغير إلى أبي بكر وهو يخطب على المنبر، فقال له: انزل عن مجلس أبي، فقال: مجلس أبيك والله لا مجلس أبي، فأجلسه في حجره وبكى، فقال علي: والله ما هذا عن رأيي، فقال: والله ما اتهمتك.
ووقع نظير ذلك لسيدنا عمر «رضي الله ع» مع سيدنا الحسين، فإنه قال له وهو يخطب: انزل عن منبر أبي، فقال له: منبر أبيك لا منبر أبي، من أمرك بهذا؟ فقام عليّ فقال له: ما أمره بهذا أحد، ثم قال للحسين: لأوجعنك يا غدر، فقال: لا توجع ابن أخي، صدق منبر أبيه.
قال: وسبب مبادرته إلى التصديق ما علمه من دلائل نبوته، وبراهين صدق دعوته قبل دعوته، ولرؤيا رآها قبل ذلك. رأى القمر نزل إلى مكة فدخل في كل بيت منه شعبة ثم كان جميعه في حجره، فقصها على بعض أهل الكتاب، فعبرها له بأنه يتبع النبي المنتظر الذي قد ظل زمانه، وأنه يكون أسعد الناس به، ولعل هذا الذي من أهل الكتاب هو بحيرا. فقد رأيت أن أبا بكر «رضي الله ع» رأى رؤيا فقصها على بحيرا، فقال له: إن صدقت رؤياك فإنه سيبعث نبي من قومك تكون أنت وزيره في حياته، وخليفته بعد مماته.
أي وأخرج أبو نعيم عن بعض الصحابة أن أبا بكر «رضي الله ع» آمن بالنبي ﷺ قبل النبوة: أي علم أنه النبي المنتظر، لما مر عن بحيرا الراهب، ولما سمعه من شيخ عالم من الأزد قد قرأ الكتب نزل به في اليمن، فقال له أحسبك حرميا، فقال أبو بكر نعم، فقال له أحسبك قرشيا، قال نعم، فقال له أحسبك تيميا، قال نعم قال له: بقيت لي فيك واحدة، قال وما هي؟ قال له: تكشف لي عن بطنك، فقال له لا أفعل أو تخبرني لم ذلك؟ فقال: أجد في العلم النجيح الصادق أن نبيا يبعث في الحرم يعاون على أمره فتى وكهل. فأما الفتى فخواض غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل فأبيض نحيف على بطنه شامة وعلى فخذه اليسرى علامة: أي مع كونه حرميا قريشيا تيميا، بدليل قوله أحسبك حرميا أحسبك قرشيا أحسبك تيميا، وما عليك أن تريني ما سألتك، فقد تكاملت فيك الصفة: أي كونه حرميا قرشيا تيميا أبيض نحيفا إلا ما خفي عليّ، فقال أبو بكر فكشفت له عن بطني فرأى شامة بيضاء أو سوداء فوق سرتي، أي ورأى العلامة على الفخذ الأيسر، فقال أنت هو ورب الكعبة، قال أبو بكر: فلما قضيت أربي من اليمن أتيته لأودعه، فقال: أحافظ عني أبياتا من الشعر قلتها في ذلك النبي؟ قلت نعم، فذكر له أبياتا، قال أبو بكر: فقدمت مكة وقد بعث النبي ﷺ فجاءني صناديد قريش كعقبة بن أبي معيط وشيبة بن ربيعة وأبي جهل وأبي البختري، فقالوا يا أبا بكر يتيم أبي طالب يزعم أنه نبي، ولولا انتظارك ما انتظرنا به، فإذا قد جئت فأنت الغاية والكفاية: أي لأن أبا بكر كما تقدم كان صديقا له، قال أبو بكر: فصرفتهم على أحسن شيء ثم جئته فقرعت عليه الباب فخرج إليّ وقال لي: يا أبا بكر إني رسول الله إليك وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت: وما دليلك على ذلك؟ قال: الشيخ الذي أفادك الأبيات، فقلت: ومن أخبرك بهذا يا حبيبي؟ قال: الملك العظيم الذي يأتي الأنبياء قبلي، قلت مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال أبو بكر «رضي الله ع»: فانصرفت وما بين لابتيها أشد سرورا من رسول الله ﷺ بإسلامي. وفي لفظ أشد سرورا مني بإسلامي، ولا مانع من صدور الأمرين منه «رضي الله ع».
ويحتاج للجمع بين هذا وبين ما تقدم من أنه كان مع حكيم بن حزام يوما إلى آخره على تقدير صحة الروايتين، وما جاء من شعر حسان «رضي الله ع» من أن أبا بكر أول الناس إسلاما حيث يقول فيه:
وأول الناس منهم صدق الرسلا وأنه سمع ذلك منه ولم ينكره، بل قال: صدقت يا حسان كما سيأتي عند الكلام على الهجرة.
وقول بعض الحفاظ إن أبا بكر «رضي الله ع» أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أو الناس إسلاما بعد خديجة، ثم مولاه زيد بن حارثة، لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أسلم أبو بكر.
أي وعبارة ابن الصلاح والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار. أي غير الموالي أبو بكر، ومن الصبيان عليّ ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، وهذا ما قبله يدل على أن إسلام زيد بن حارثة كان بعد البلوغ، وإلا فلا حاجة لزيادة «ليس من الموالي» تأمل.
أو أن مراد من قال إن أبا بكر سبق عليا في الإسلام: أي في إظهار الإسلام، لأنه حين أسلم أظهر إسلامه بخلاف عليّ، فقد جاء عن علي «رضي الله ع» أنه قال: إن أبا بكر «رضي الله ع» سبقني إلى أربع وعدّ منها إظهار الإسلام وقال أنا أخفيته، ولعله لا ينافي ذلك ما جاء بسند حسن أن أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب، لأن ذلك كان عند اختفائه هو وأصحابه في دار الأرقم كما سيأتي، فالأولية في إظهار الإسلام إضافية.
قال ابن كثير: وورد عن علي «رضي الله ع» أنه قال: أنا أول من أسلم، ولا يصح إسناد ذلك إليه. قال وقد روي في هذا المعنى أحاديث أوردها ابن عساكر كثيرة منكرة كلها لا يصح شيء منها هذا كلامه. وعلى تقدير صحتها مراده أول من أسلم من الصبيان؟ فالأولية إضافية.
ومما يؤثر عن علي «رضي الله ع»: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم. البشاشة فخ المودة، والصبر قبر العيوب، والغالب بالظلم مغلوب، العجب ممن يدعو ويستبطىء الإجابة وقد سد طرقها بالمعاصي.
وأول من أسلم من النساء بعد خديجة «رضي الله ع» أم الفضل زوج العباس، وأسما بنت أبي بكر، وأم جميل فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب.
وينبغي أن تكون أم أيمن سابقة في الإسلام على أم الفضل على ما تقدم. وقول السراج البلقيني موافقة للزين العراقي: إن أول رجل أسلم ورقة بن نوفل، لقوله النبي ﷺ أنا أشهد أنك الذي بشر بك عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل قد علمت ما فيه، وأنه كان من أهل الفترة كما صرح به الحافظ الذهبي، وهو يردّ القول المتقدم بأن وفاة ورقة تأخرت عن البعثة، فورقة ونحوه كبحيرا ونسطورا من أهل الفترة لا من أهل الإسلام. ويؤيده ما تقدم أنه بإجماع المسلمين لم يتقدم خديجة في الإسلام لا رجل ولا امرأة، لكن هؤلاء من القسم الذي تمسك بدين قبل نسخه وآمن وصدق بأنه الرسول المنتظر، وذلك نافع له في الآخرة. ومن ثم قال لما توفي ورقة: «لقد رأيت القس ـ يعني ورقة ـ في الجنة وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني» إلى آخر ما تقدم.
وعلى تسليم أنه لا يشترط في المسلم: أن يؤمن ويصدق برسالته بعد وجودها، بل يكفي ولو قبل ذلك، فليس ورقة بصحابي لأن الصحابي من اجتمع بالنبي ﷺ بعد الرسالة مؤمنا بما جاء به عن الله تعالى: أي محكوما بإيمانه.
ومن ثم رد الحافظ الذهبي على ابن منده أي ومن وافقه كالزين العراقي في عده له من الصحابة: أي كما عد منهم بحيرا ونسطورا بقوله: الأظهر أن من مات بعد النبوة وقبل الرسالة فهو من أهل الفترة هذا كلام الحافظ الذهبي. والمراد بالرسالة نزول {يا أيها المدثر} لا إظهارها، ونزول قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} بناء على تأخر الرسالة عن النبوة.
وحين أسلم أبو بكر «رضي الله ع» دعا إلى الله تعالى ورسوله من وثق به من قومه. فأسلم بدعائه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.
أي ولما أسلم عثمان «رضي الله ع» أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية والد مروان فأوثقه كتافا وقال: ترغب عن ملة آبائك إلى دين محمد؟ والله لا أحلك أبدا حتى تدع ما أنت عليه، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في الحق تركه، وقيل عذبه بالدخان ليرجع فما رجع.
وفي كلام ابن الجوزي أن المعذب بالدخان ليرجع عن الإسلام الزبير بن العوام هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. وجاء «لكل نبي رفيق في الجنة، ورفيقي فيها عثمان بن عفان».
وأسلم بدعاء أبي بكر أيضا الزبير بن العوام(1) «رضي الله ع» وكان عمره ثمان سنين على ما تقدم. وعبد الرحمن بن عوف(1) «رضي الله ع»: أي وكان اسمه في الجاهلية عبد عمر، وقيل عبد الكعبة، وقيل عبد الحارث، فسماه رسول الله ﷺ عبد الرحمن قال: وكان أمية بن خلف لي صديقا، فقال لي يوما: أرغبت عن اسم سماك به أبواك؟ فقلت نعم، فقال لي: إني لا أعرف الرحمن ولكن أسميك بعبد الإله، فكان يناديني بذلك.
قال: وسبب إسلام عبد الرحمن بن عوف ما حدث به قال: سافرت إلى اليمن غير مرة وكنت إذا قدمت نزلت على عسكلان بن عواكف الحميري، فكان يسألني هل ظهر فيكم رجل له نبأ له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول لا حتى كانت السنة التي بعث رسول الله ﷺ قدمت اليمن فنزلت عليه إلى آخر القصة.
وعن علي «رضي الله ع» قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لعبد الرحمن بن عوف: «أنت أمين في أهل الأرض أمي في أهل السماء» وجاء «أنه وصفه بالصادق الصالح البار».
وأسلم بدعاية أبي بكر «رضي الله ع» أيضا سعد(1) بن أبي وقاص: أي فإن أبا بكر لما دعاه إلى الإسلام لم يبعد، وأتى النبي ﷺ فسأله عن أمره فأخبر به ( ) فأسلم وكان عمره تسع عشرة سنة، وهو «رضي الله ع» من بني زهرة، ومن ثم قال وقد أقبل عليه: «سعد خالي فليرني امرؤ خاله».
وفي كلام السهيلي أنه عم آمنة بنت وهب أم النبي، وكرهت أمه إسلامه وكان بارا بها، فقالت له: ألست تزعم أن الله يأمرك بصلة الرحمن وبر الولدين؟ قال: فقلت نعم، فقالت: والله لا أكلت طعاما ولا شربت شرابا حتى تكفر بما جاء به محمد: أي وتمس إسافا ونائلة، فكانوا يفتحون فاها ثم يلقون فيه الطعام والشراب، فأنزل الله تعالى {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} الآية، وفي رواية أنها مكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد خمدت ثم مكثت يوما وليلة لا تأكل ولا تشرب. قال سعد: فلما رأيت ذلك قلت لها: تعلمين والله يا أمه لو كان لك مائة نفس تخرج نفسا نفسا ما تركت دين هذا النبي، فكلي إن شئت أو لا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت.
وفي الأنساب للبلاذري عن سعد قال: أخبرت أمي أني كنت أصلي العصر: أي الركعتين اللتين كانوا يصلونهما بالعشي فجئت فوجدتها على بابها تصيح: ألا أعوان يعينوني عليه من عشيرتي فأحبسه في بيت وأطبق عليه بابه حتى يموت أو يدع هذا الدين المحدث؟ فرجعت من حيث جئت، وقلت: لا أعود إليك ولا أقرب منزلك فهجرتها حينا، ثم أرسلت إليّ أن عد إلى منزلك ولا تتضيفن فيلزمنا عار فرجعت إلى منزلي، فمرة تلقاني بالبشر ومرة تلقاني بالشر وتعيرني بأخي عامر وتقول: هو البر لا يفارق دينه، ولا يكون تابعا، فلما أسلم عامر لقي منها ما لم يلق أحد من الصياح والأذى حتى هاجر إلى الحبشة، ولقد جئت والناس مجتمعون على أمي وعلى أخي عامر فقلت: ما شأن الناس؟ فقالوا: هذه أمك قد أخذت أخاك عامرا، وهي تعطي الله عهدا لا يظلها نخل ولا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا حتى يدع صبأته، فقلت لها: والله يا أمه لا تستظلين ولا تأكلين ولا تشربين حتى تتبوئي مقعدك من النار.
وجاء «أنه أمر سعد بن أبي وقاص أن يأتي الحارث بن كلدة طبيب العرب ليستوصفه في مرض نزل بسعد وكان ذلك في حجه الوداع، فجاء رسول الله ﷺ يعود عبد الرحمن بن عوف لمرض نزل به فوجد عنده الحارث، فقال النبي ﷺ لعبد الرحمن: إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضرّ بك قوم وينتفع بك آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة عالج سعدا مما به وكان سعد بالمجلس، فقال: والله إني لأرجو شفاءه فيما ينفعه من رجله، هل معك من هذه الثمرة العجوة شيء؟ قال نعم، فخلط ذلك الثمر بحلبة ثم أوسعها سمنا ثم أحساه إياها فكأنما نشط من عقال» وهذا استدل به على إسلام الحارث بن كلدة، لأن حجة الوداع لم يحج فيها مشرك، فهو معدود من الصحابة. وأنكر بعضهم إسلامه وجعله دليلا على جواز استشارة أهل الكفر في الطب إذا كانوا من أهله.
وممن أسلم بدعاية أبي بكر الصديق «رضي الله ع» أيضا طلحة بن عبدالله التيمي فجاء به إلى رسول الله ﷺ حين استجاب له فأسلم.
أي ولما تظاهر أبو بكر وطلحة بالإسلام أخذهما نوفل بن العدوية، وكان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، ولذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين ولشدة ابن العدوية وقوة شكيمته كان يقول: «اللهم اكفنا شر ابن العدوية ».
أقول: سببب إسلام طلحة بن عبيد الله «رضي الله ع» ما تقدم أنه قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل ثم من أهل الحرم أحد؟ فقلت: نعم أنا، قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، مخرجه من الحرم، ومهاجره إلى أرض ذات نخل وسباخ، فإياك أن تسبق إليه، قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين يدعو إلى الله، وقد تبعه ابن أبي قحافة، فخرجت حتى دخلت على أبي بكر «رضي الله ع» فأخبرته بما قال الراهب، فخرج أبو بكر حتى دخل على رسول الله ﷺ فأخبره بذلك، فسر بذلك وأسلم طلحة.
وطلحة هذا هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقد شاركه رجل آخر في اسمه واسم أبيه ونسبه، وهو طلحة بن عبيد الله التيمي، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه} الآية، لأنه قال لئن مات محمد رسول الله لأتزوجن عائشة. وفي لفظ يتزوّج محمد بنات عمنا ويحجبهنّ عنا، لئن مات لأتزوجن عائشة من بعده، فنزلت الآية.
قال الحافظ السيوطي: وقد كنت في وقفة شديدة من صحة هذا الخبر، لأن طلحة أحد العشرة أجلّ مقاما من أن يصدر عنه ذلك، حتى رأيت أنه رجل آخر شاركه في اسمه واسم أبيه ونسبه هذا كلامه.
والحاصل أن أبا بكر أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة، وهم: عثمان وطلحة بن عبيد الله، ويقال له طلحة الفياض، وطلحة الجود، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وزاد بعضهم سادسا، وهو أبو عبيدة بن الجراح وكان كل من أبي بكر وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بزازا، وكان الزبير جزارا، وكان سعد بن أبي وقاص يصنع النبل، والله أعلم، ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء.
وذكر في الأصل جماعة من السابقين للإسلام منهم عبد الله بن مسعود وأن سبب إسلامه ما حدث به، قال: «كنت في غنم لآل عقبة بن أبي معيط، فجاء رسول الله ﷺ ومعه أبو بكر بن أبي قحافة، فقال النبي ﷺ: هل عندك لبن؟ فقلت نعم ولكني مؤتمن، قال: هل عندك من شاة لم ينز عليها الفحل؟ قلت نعم فأتيته بشاة شصوص لا ضرع لها فمسح النبي ﷺ مكان الضرع فإذا ضرع حافل مملوء لبنا» كذا في الأصل. وفي الصحاح كما في النهاية الشصوص التي ذهب لبنها، وحينئذ يكون قول الأصل لا ضرع لها، أي لا لبن لها، ويدل لذلك قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين «فمسح ضرعها» وقول ابن مسعود فمسح مكان الضرع، أي محل اللبن «فأتيت النبي ﷺ بصخرة منقورة فاحتلب النبي ﷺ فسقى أبا بكر وسقاني، ثم شرب، ثم قال للضرع: اقلص فرجع كما كان» أي لا وجود له على ظاهر ما في الأصل، أو لا لبن فيه على ما في النهاية كالصحاح، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله:
ورب عناق ما نزا الفحل فوقها ** مسحت عليها باليمين فدرّت
قال ابن مسعود: فلما رأيت هذا من رسول الله، قلت: يا رسول الله علمني، فمسح رأسي وقال: «بارك الله فيك فإنك غلام معلم».
أقول: فإن قيل قول ابن مسعود ولكني مؤتمن، وعدوله عن ذات اللبن إلى غيرها يخالف ما سيأتي في حديث المعراج والهجرة أن العادة كانت جارية بإباحة مثل ذلك اللبن لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك وإذا كان ذلك أمرا متعارفا مشهورا يبعد خفاؤه.
قلنا: قد يقال لا مخالفة لأن ابن السبيل المسافر، وجاز أن يكون النبي ﷺ وأبو بكر «رضي الله ع» لم يكونا مسافرين، لجواز أن تكون تلك الغنم التي كان فيها ابن مسعود ببعض نواحي مكة القريبة منها، التي لا يعدّ قاصدها مسافرا، ولعله لا ينافي ذلك ما سيأتي أن من خصائصه أبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج إليهما، وأنه يجب على مالكهما بذل ذلك له.
وكان عبد الله بن مسعود يعرف بأمه وهي أم عبد، وكان قصيرا جدا طوله نحو ذراع خفيف اللحم، ولما ضحكت الصحابة «رضي الله ع» من دقة رجليه قال رسول الله: «لرجل عبد الله في الميزان أثقل من أحد» وقال في حقه: «رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد، وسخطت لها ما سخط لها ابن أم عبد».
وقوله: «لرجل عبد الله في الميزان» يدل للقول بأن الموزون الإنسان نفسه لا عمله، وكان يكرمه ويدنيه ولا يحجبه، فلذلك كان كثير الولوج عليه، وكان يمشي أمامه ومعه، ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام، ويلبسه نعليه إذا قام، فإذا جلس أدخلهما في ذراعيه، ولذلك كان مشهورا بين الصحابة «رضي الله ع» بأنه صاحب سر رسول الله، وبشره رسول الله ﷺ بالجنة، ولم أقف على أنه أسلم حين أجفلت الشاة، لكن قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين: أسلم قديما بمكة لما مرّ به وهو يرعى غنما إلى آخره، يدل على أنه أسلم حينئذ. ومما يؤثر عنه: الدنيا كلها هموم، فما كان فيها من سرور فهو ربح، والله أعلم.
وذكر في الأصل أن من السابقين أبا ذر الغفاري، واسمه جندب بن جنادة بضم الجيم فيهما قال: وسبب إسلامه ما حدث به قال: صليت قبل أن ألقي النبي ﷺ ثلاث سنين لله أتوجه حيث يوجهني ربي، فبلغنا أن رجلا خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي أنيس انطلق إلى هذا الرجل فكلمه وأتني بخبره، فلما جاء أنيس قلت له: ما عندك فقال: والله رأيت رجلا يأمر بخير وينهي عن الشر، وفي رواية: رأيتك على دينه يزعم أن الله أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق، قلت فما يقول الناس فيه؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، والله إنه لصادق وإنهم ليكذبون، فقلت اكفني حتى أذهب فأنظر، قال نعم وكن على حذر من أهل مكة، فحملت جرابا وعصا ثم أقبلت حتى أتيت مكة، فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، فمكثت في المسجد ثلاثين ليلة ويوما، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على بطني سحنة جوع. والسحنة: بالتحريك، قيل حرارة يجدها الإنسان من الجوع، ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد وإذا رسول الله ﷺ وصاحبه جاءا فطافا بالبيت، ثم صلى رسول الله، فلما قضى صلاته أتيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجهه ثم قال من الرجل؟ قلت من غفار بكسر المعجمة قال: متى كنت؟ قال: كنت من ثلاثين ليلة ويوما ههنا، قال: فمن كان يطعمك قلت ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على بطني سحنة جوع قال: «مبارك، إنها طعام طعم وشفاء سقم» أي وجاء «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته لتشفى شفاك الله، وإن شربته لتشبع أشبعك الله، وإن شربته لتقطع ظمأك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل» وجاء «التضلع من ماء زمزم براءة من النفاق» وجاء «آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من ماء زمزم».
وذكر أن أبا ذر أول من قال لرسول الله ﷺ السلام عليك التي هي تحية الإسلام، فهو أول من حيا رسول الله ﷺ بتحية الإسلام، وبايع رسول الله ﷺ أن لا يأخذه في الله لومة لائم، وعلى أن يقول الحق ولو كان مرا، ومن ثم قال رسول: «ما أظلت الخضراء» أي السماء «ولا أقلت الغبراء» أي الأرض «أصدق من أبي ذر» وقال في حقه: «أبو ذر يمشي في الأرض على زهد عيسى ابن مريم» وفي الحديث «أبو ذر أزهد أمتي وأصدقها» وقد هاجر أبو ذر إلى الشام بعد وفاة أبي بكر، واستمر بها إلى أن ولي عثمان، فاستقدمه من الشام لشكوى معاوية منه وأسكنه الربذة، فكان بها حتى مات، فإن أبا ذر صار يغلظ القول لمعاوية ويكلمه بالكلام الخشن.
وعن ابن عباس «رضي الله ع» «أن لقيا أبي ذر لرسول الله ﷺ كان بدلالة عليّ «رضي الله ع»، وأنه قال له: ما أقدمك هذه البلدة، فقال له أبو ذر: إن كتمت عليّ أخبرتك» وفي رواية «إن أعطيتني عهدا وميثاقا أن ترشدني أخبرتك، ففعل قال أبو ذر: فأخبرته فأرشدني وأوصلني إلى رسول الله ﷺ وأسلمت».
وفي الإمتاع «أن عليا استضاف أبا ذر ثلاثة أيام لا يسأله عن شيء وهو لا يخبره، ثم في الثالث قال له: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة؟ قال له: إن كتمت علي أخبرتك قال: فإني أفعل، قال له: بلغنا أنه خرج هنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه فقال له: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي أي خروجي إليه فاتبعني، أدخل حيث أدخل فإن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي «وفي لفظ» كأني أريق الماء فامضِ أنت، قال أبو ذر: فمضى ومضيت حتى دخل ودخلت معه على النبي ﷺ فقلت له: أعرض علي الإسلام فعرضه علي فأسلمت مكاني» الحديث.
وما تقدم من قوله له: «من كان يطعمك» وجواب أبي ذر له بقوله: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم يبعد أن يكون عليّ «رضي الله ع» أضاف أبا ذر ولم يأكل عنده، وكذا يبعده ما جاء أن أبا بكر قال: يا رسول الله ائذن لي في إطعامه الليلة، قال أبو ذر: فانطلق رسول الله ﷺ وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته، إلا أن يحمل الطعام على خصوص الزبيب.
ويمكن التوفيق بين الروايتين: أي رواية دخوله على النبي ﷺ مع علي فأسلم، ورواية اجتماعه به في الطواف فأسلم، بأن يكون أبو ذر دخل عليه أولا مع عليّ ثم لقيه في الطواف، ويكون المراد حينئذ بإسلامه الثاني الثبات عليه بتكرير الشهادتين، وعذره في عدم اجتماعه به في المسجد مدة ثلاثين يوما عدم خلو المطاف، كما يرشد لذلك قوله: ففي ليلة لم يطف بالبيت أحد إلى آخره، وإلا فيبعد أن يكون لم يدخل المسجد للطواف مدة ثلاثين يوما.
ويعد هذا الجمع قوله له: «من الرجل إلى آخره» ثم قال: لأبي ذر «يا أبا ذر اكتم هذا الأمر، وارجع إلى قومك فأخبرهم يأتوني، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخنّ بهذا بين ظهرانيهم، قال: وكنت في أول الإسلام خامسا» وفي رواية «رابعا» ولعل المراد من الإعراب فلا ينافي ما يأتي في وصف خالد بن سعيد «فلما اجتمعت قريش بالمسجد ناديت بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا قوموا إلى هذا الصابيء فضربت لأموت» وفي لفظ «فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي فأكب عليّ العباس، ثم قال لهم: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم عليهم، فخلوا عني، قال: فجئت زمزم فغسلت عني الدماء، فلما أصبحت الغداة رجعت لمثل ذلك، فصنع بي مثل ما صنع، وأدركني العباس، وكان منه كالأمس، فخرجت وأتيت أنيسا فقال ما صنعت؟ فقلت: قد أسلمت وصدقت، فقال: ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت فأتينا أمنا، فقالت: ما لي رغبة عن دينكما، فإني أسلمت وصدقت ثم أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول الله ﷺ المدينة أسلمنا، فلما جاء المدينة أسلم نصفهم الثاني» أي لأنه قال لأبي ذر: «إني وجهت إلى الأرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، وجاءت أسلم: القبيلة المعروفة فقالوا يا رسول الله نسلم على الذي أسلم عليه إخواننا، فقال رسول الله ﷺ: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».
أي وقد ذكر أن أبا ذر وقف يوما عند الكعبة: أي في حجة حجها أو عمرة اعتمرها فاكتنفه الناس فقال لهم: لو أن أحدكم أراد سفرا أليس يعد زادا؟ فقالوا بلى، فقال سفر القيامة أبعد مما تريدون، فخذوا ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوما شديدا حره ليوم الشنور، وصلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور.
وممن أسلم خالد بن سعيد بن العاص «رضي الله ع». قيل كان حين أسلم رابعا وقيل ثالثا وقيل خامسا. وهو أول من أسلم من إخوته. ويمكن أن يكون ذلك محمل قول ابنته أم خالد: أول من أسلم أبي: أي من إخوته.
وسبب إسلامه أنه رأى في النوم النار ورأى من فظاعتها وأهوالها أمرا مهولا، ورأى أنه على شفيرها، وأن أباه يريد أن يلقيه فيها، ورأى رسول الله ﷺ آخذا بحجزته يمنعه من الوقوع فيها، فقام من نومه فزعا وقال: أحلف بالله أن هذه الرؤيا حق وعلم أن نجاته من النار تكون على يد رسول الله، فأتى أبا بكر فذكر له ذلك، فقال له: أريد بك خير، هذا رسول الله ﷺ فاتبعه، فأتاه فقال يا محمد إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده، لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، فأسلم خالد.
وفي الوفاء عن أم خالد بنت خالد بن سعيد أنها قالت: كان خالد بن سعيد ذات ليلة نائما، قبيل مبعث رسول الله، فقال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفه، فبينما هو كذلك إذ خرج نور أي من زمزم، ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أصاب مكة كلها، ثم تحول إلى يثرب فأصابها حتى أني لأنظر إلى البسر في النخل، فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جزل الرأي، فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب ألا ترى أنه خرج من حفر أبيهم ثم إنه ذكر ذلك لرسول الله ﷺ أي بعد مبعثه، فقال: يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله، وقص عليه ما بعثه الله به فأسلم خالد، وعلم أبوه بذلك، أبوه وهو سعيد أبو أجيحة وكان من عظماء قريش، كان إذا اعتمّ لم يعتم قرشي إعظاما له، ومن ثم قال فيه القائل:
أبا أجيحة من يغتم عمته ** يضرب وإن كان ذا مال وذا عدد
وعند إسلام ولده خالد أرسل في طلبه فانتهره وضربه: أي بمقرعة كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم قال: اتبعت محمدا وأنت ترى خلافه لقومه، وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم، فقال: والله تبعته على ما جاء به، فغضب أبوه وقال: اذهب يا لكع حيث شئت، وقال: والله لأمنعنك القوت، قال إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، فأخرجه وقال لبنيه ولم يكونوا أسلموا: لا يكلمه أحد منكم إلا صنعت به، فانصرف خالد إلى رسول الله، فكان يلزمه ويعيش معه، ويغيب عن أبيه في نواحي مكة، حتى خرج أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فكان خالد أول من هاجر إليها.
وذكر عن والده سعيد أنه مرض فقال إن رفعني الله من مرضي هذا لا يعبد إله ابن أبي كبشة بمكة أبدا، فقال خالد عند ذلك: اللهم لا ترفعه، فتوفي في مرضه ذلك. وخالد هذا أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم، وأسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص «رضي الله ع».
قيل وسبب إسلامه أنه رأى نورا خرج من زمزم أضاءت له منه نخل المدينة حتى رأى البسر فيها، فقص رؤياه، فقيل له هذه بئر بني عبد المطلب، وهذا النور منهم يكون فكان سببا لإسلامه، وتقدم قريبا أن هذه الرؤيا وقعت لخالد، فكانت سبب إسلامه، وأنه قصها على أخيه عمرو المذكور، فهو من خلط بعض الرواة، إلا أن يقال لا مانع من تعدد هذه الرؤية لخالد ولأخيه عمرو، وأنها كانت سببا لإسلامهما، وأسلم من بني سعيد أيضا أبان والحكم الذي سماه رسول الله ﷺ عبد الله.
أي ومن السابقين للإسلام صهيب، كان أبوه عاملا لكسرى، أغارت الروم عليهم فسبت صهيبا وهو غلام صغير، فنشأ في الروم حتى كبر، ثم ابتاعه جماعة من العرب وجاؤوا به إلى سوق عكاظ، فابتاعه منهم بعض أهل مكة، أي وهو عبد الله بن جدعان فلما بعث رسول الله ﷺ مرّ صهيب على دار رسول الله ﷺ فرأى عمار بن ياسر، فقال له عمار بن ياسر: أين تريد يا صهيب؟ قال: أريد أن أدخل إلى محمد فأسمع كلامه وما يدعو إليه، قال عمار: وأنا أريد ذلك، فدخلا على رسول الله، فأمرهما بالجلوس فجلسا، وعرض عليهما السلام، وتلا عليهما ما حفظ من القرآن، فتشهدا ثم مكثا عنده يومهما ذلك حتى أمسيا خرجا مستخفيين، فدخل عمار على أمه وأبيه فسألاه أين كان؟ فأخبرهما بإسلامه وعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما ما حفظ من القرآن في يومه ذلك، فأعجبهما فأسلما على يده فكان رسول الله ﷺ يسميه الطيب المطيب.
وأسلم أيضا حصين والد عمران بن حصين «رضي الله ع» بعد إسلام والده عمران.
وسبب إسلامه أن قريشا جاءت إليه وكانت تعظمه وتجله، فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبها، فجاؤوا معه حتى جلسوا قريبا من باب النبي ﷺ ودخل حصين، فلما رآه النبي ﷺ قال: «أوسعوا للشيخ، وعمران ولده في الصحابة، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا وتذكرها؟ فقال: يا حصين كم تعبد من إله؟ قال سبعة في الأرض وواحد في السماء، فقال: فإذا أصابك الضرّ لمن تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فإذا هلك المال من تدعو؟ قال الذي في السماء، قال: فيستجيب لك وحده وتشرك معه، أرضيته في الشرك؟ يا حصين أسلم تسلم فأسلم، فقام إليه ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فبكى وقال: بكيت من صنع عمران، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم وفي حقه فدخلني من ذلك الرقة، فلما أراد حصين الخروج قال رسول الله ﷺ لأصحابه: شيعوه إلى منزله، فلما خرج من سدة الباب: أي عتبته رأته قريش، قالوا: قد صبا وتفرقوا عنه».