→ غزوة بن لحيان | السيرة الحلبية غزوة ذي قرد علي بن برهان الدين الحلبي |
غزوة الحديبية ← |
بفتح القاف والراء، وقيل بضمهما، أي وقيل بضم الأول وفتح الثاني: اسم ماء. والقرد في الأصل: الصوف الرديء، ويقال لها غزوة الغابة، والغابة: الشجر الملتف.
لما قدم رسول الله ﷺ المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح رسول الله ﷺ بالغابة، أي وكانت اللقاح عشرين لقحة وهي ذات اللبن القريبة من الولادة: أي لها ثلاثة أشهر، ثم هي لبون، وفيها رجل من بني غفار هو ولد أبي ذر الغفاري وزوجة لأبي ذر، فقوله وامرأة له، أي لأبي ذرّ «رضي الله ع» لا لولده كما يعلم مما يأتي، وكان راعيها يؤوب: أي يرجع بلبنها كل ليلة عند المغرب إلى المدينة، أي فإن المسافة بينها وبين المدينة يوم أو نحو يوم، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة مع اللقاح.
وعند ابن سعد: كان فيها أبو ذرّ وولده أي وزوجة أبي ذر، فقتلوا ولده، أي واحتملوا المرأة. قال: «جاء أن أبا ذرّ الغفاري «رضي الله ع» استأذن رسول الله ﷺ أن يكون في اللقاح، فقال له: لا تأمن عيينة بن حصن وذويه أن يغيروا عليك، فألح عليه، فقال له رسول الله ﷺ: لكأني بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك وجئت تتوكأ على عصاك، فكان أبو ذرّ «رضي الله ع» يقول: عجبا لي ورسول الله ﷺ يقول: لكأني بك وأنا ألح عليه، فكان والله ما قال رسول الله، فإني والله لفي منزلنا ولقاح رسول الله ﷺ قد روّحت وحلبت عتمتها ونمنا، فلما كان الليل أحدق بنا عيينة بن حصن في أربعين فارسا فصاحوا بنا وهم قيام على رؤوسنا، فأشرف لهم ابني فقتلوه وكان معه ثلاثة نفر فنجوا، وتنحيت عنهم، وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد بها. ولما قدمت المدينة على رسول الله ﷺ وأخبرته تبسم» ا هـ أي وروي بدل عيينة بن حصن قال بعضهم: ولا منافاة، لأن كلا من عيينة بن حصن وعبد الرحمن بن عيينة كانا في القوم، وكان أوّل من علم بهم سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» فإنه غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ومعه غلام لطلحة بن عبيدالله معه فرس له: أي لطلحة يقوده، فلقى غلاما لعبد الرحمن بن عوف، فأخبره أن عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله ﷺ في أربعين فارسا من غطفان. قال سلمة: فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس، فأخبر رسول الله ﷺ أن قد أغير على سرحه.
أي وهذا السياق يدل على أن رباحا غلامه كان مع سلمة أسقط الراوي ذكره ولم يقل ومعه رباح غلامه.
ويحتمل أن رباحا هذا هو غلام عبد الرحمن الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون رباح غلامه وغلام عبد الرحمن، لجواز أن يكون كان لعبد الرحمن ثم وهبه للنبي، فهو غلام عبد الرحمن بحسب ما كان.
ثم رأيت ما يؤدي الأوّل وهو ما في بعض الروايات عن سلمة قال: خرجت أنا ورباح عبد النبي ﷺ قبل أن يؤذن بالأولى يعني لصلاة الصبح نحو الغابة وأنا راكب على فرس أبي طلحة الأنصاري، فلقيني عبد لعبد الرحمن بن عوف قال: أخذت لقاح رسول الله، قلت: من أخذها؟ قال: غطفان وفزارة، وقد طوي في هذه الرواية ذكر غلام طلحة.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر أنه لم يقف على اسم غلام عبد الرحمن بن عوف هذا: أي الذي أخبر سلمة بأمر اللقاح.
قال: ويحتمل أن يكون هو رباح غلام رسول الله ﷺ وكان ملك أحدهما وكان يخدم الآخر، فنسب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا، هذا كلامه، ولا يخفى بعده للتصريح بأن رباحا غير غلام عبد الرحمن، وأن رباحا كان مع سلمة، وأن غلام عبد الرحمن هو الذي أخبر سلمة خبر اللقاح. ولا منافاة بين كون الفرس لطلحة، ولا بين كونها لأبي طلحة، ولا بين كون عبد طلحة كان قائدا لها وبين كون سلمة راكبا لها لأنه يجوز أن يكون ركبها أثناء الطريق فليتأمل.
وفي تسمية غلامه رباحا مع نهيه أن الشخص يسمي رقيقه بأحد أربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع. وزاد في رواية خامسا وهو نجيح فهلا غير اسمه إنه كانت وقعت التسمية من غيره ويقال لم يغير ذلك الاسم إشارة إلى أن النهي للتنزيه.
ثم إن سلمة رجع إلى المدينة وعلائنية الوداع فنظر إلى بعض خيولهم، فصرخ بأعلى صوته واصباحاه: أي قال ذلك ثلاث مرات. أي وقيل نادى: الفزع الفزع ثلاثا، ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك. وفي لفظ: وقمت على تلّ بناحية سلع، أي وفي لفظ: على أكمة، وفي لفظ آخر: فصعدت في سلع ولا مخالفة كما لا يخفى، فجعلت وجهي من قبل المدينة. ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه أسمع ما بين لابتيها، أي لسعة صوته، أو أن ذلك وقع خرقا للعادة، ويا صباحاه: كلمة تقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه، لأنهم يسمون يوم الغارة يوم الصباح.
ثم خرج يشتدّ في أثر القوم كالسبع، وقد كان يسبق الفرس جريا حتى لحق بهم، فجعل يردهم بالنبل ويقول: إذا رمى خذها وأنا ابن الأكوع، واليوم يوم الرضع: أي يوم هلاك اللئام، فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، وهكذا يفعل قال: كنت ألحق الرجل منهم فأرميه بسهم في رجله فيعقره؛ فإذا رجع إليّ فارس منهم أتيت شجرة فجلست في أصلها. ثم أرميه فأعقره فيولي عني، فإذا دخلت الخيل في بعض مضايق الجبل علوت الجبل ورميتهم بالحجارة، قال: ولم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها، ولا يلقون شيئا من ذلك إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله ﷺ: أي وما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه.
ولما بلغ رسول الله ﷺ صياح ابن الأكوع صرخ بالمدينة: الفزع، يا خيل الله اركبي. قيل وكان أول ما نودي بها وفيه كما في الأصل أنه نودي بها في بني قريظة كما تقدم.
وأوّل من انتهى إلى رسول الله ﷺ من الفرسان المقداد بن عمرو ويقال له ابن الأسود، وتقدم أنه قيل له ذلك، لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث وتبناه فنسب إليه. ثم عباد بن بشر وسعيد بن زيد، ثم تلاحقت به الفرسان، وأمر عليهم سعيد ابن زيد. وقيل المقداد وجزم به الدمياطي رحمه الله، أي ويدل له قول حسان «رضي الله ع» في وصف هذه الغزوة: * غداة فوارس المقداد *.
لكن في السيرة الشامية أن سعيد بن زيد «رضي الله ع» غضب على حسان وحلف لا يكلّمه أبدا وقال انطلق إلى خيلي فجعلها للمقداد، وإن حسان «رضي الله ع» اعتذر إلى سعد بأن الروي وافق في اسم المقداد وذكر أبياتا يرضى بها سعيد بن زيد فلم يقبل منه سعيد ذلك، وهذا يدل للأول.
وعقد لذلك الأمير لواء في رمحه. ثم قال له: اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس، فخرج الفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا بهم وكان شعارهم يومئذٍ «أمت أمت» وأول فارس لحق بهم محرز بن نضلة، ويقال له الأخرم الأسدي، ووقف لهم بين أيديهم، وقال لهم: يا معشر بني اللكيعة: أي اللئيمة قفوا حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار، فحمل عليه شخص من المشركين فقتله.
وعن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» أنه قال: ثم إن القوم جلسوا يتغدون وجلست على رأس قرن جبل، فقال لهم رجل أتاهم: من هذا؟ قالوا لقينا من هذا البرح حتى انتزع كل شيء في أيدينا. قال: فليقم إليّ منكم أربعة فتوجهوا إليّ فهددتهم، أي فقد جاء عنه «رضي الله ع» أنه قال لهم: هل تعرفونني؟ قالوا لا ومن أنت؟ قلت أنا سلمة بن الأكوع، والذي كرّم وجه محمد لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته، ولا يطلبني فيدركني، قال بعضهم إنا نظن ذلك فرجعوا.
قال: فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله ﷺ يؤمهم الأخرم الأسدي. فلما رأيت الأخرم الأسدي وأوّل الفرسان، نزلت من الجبل وأخذت بعنان فرسه، وقلت له: احذر القوم لا يقتطفوك حتى يلحق رسول الله، فقال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الأخرم وتعلم أن الجنة حق وأن النار حق، فلا تحل بيني وبين الشهادة، فخليت عنه، فالتقى هو وعبد الرحمن بن عيينة فعقر فرس عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه، فلحق عبد الرحمن أبو قتادة «رضي الله ع»، فعقر عبد الرحمن فرس أبي قتادة فقتله أبو قتادة وتحول أبو قتادة «رضي الله ع» إلى الفرس.
أقول: ولعل عبد الرحمن هذا هو حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة ابن عيينة، فإني لم أقف على ذكر عبد الرحمن هذا فيمن قتل من المشركين في هذه الغزوة، وإن أبا قتادة «رضي الله ع» قتل حبيبا وغشاه ببرده كما سيأتي، إلا أن يقال جاز أن يكون له اسمان عبد الرحمن وحبيب، ثم رأيت الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك. وقيل قاتل محرز مسعدة الفزاري، وبه جزم الحافظ الدمياطي، وذكر أن قاتل حبيب المقداد بن عمرو، فقال: وقتل أبو قتادة مسعدة، فأعطاه رسول الله ﷺ فرسه وسلاحه. وقتل المقدادُ بن عمرو حبيب بن عيينة بن حصن والله أعلم، ولم يقتل من المسلمين إلا محرز بن نضلة الذي هو الأخرم الأسدي، وكان رأى قبل ذلك بيوم أن سماء الدنيا فرجت وما بعدها حتى انتهى إلى السماء السابعة، ثم انتهى إلى سدرة المنتهى، فقيل له: هذا منزلك، فعرضها على أبي بكر «رضي الله ع» وكان من أعلم الناس بالتعبير كما تقدم، فقال له: أبشر بالشهادة، وأقبل رسول الله ﷺ في المسلمين. وقد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم «رضي الله ع». أي واستعمل على حرس المدينة سعد بن عبادة «رضي الله ع» في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، فإذا حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة مسجى: أي مغطى ببرد أبي قتادة، فاسترجع المسلمون، أي قالوا {إنا لله وإنا إليه راجعون} وقالوا: قتل أبو قتادة، فقال رسول الله ﷺ: ليس بأبي قتادة، ولكنه قتيل لأبي قتادة وضع عليه برده ليعرف أنه صاحبه أي القاتل له.
قال وفي رواية أنه قال «والذي أكرمني بما أكرمني به إن أبا قتادة على آثار القوم يرتجز، فخرج عمر بن الخطاب «رضي الله ع» حتى كشف البرد عن وجهه المسجى فإذا وجه حبيب، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، يا رسول الله غير أبي قتادة».
وفي لفظ «فخرج أبو بكر وعمر «رضي الله ع» حتى كشفا البرد» الحديث. وقيل الذي قتله أبو قتادة وغشاه ببرده هو مسعدة قاتل محرز «رضي الله ع» لا حبيب على ما تقدم.
ففي رواية أن أبا قتادة «رضي الله ع» اشترى فرسا فلقيه مسعدة الفزاري فتفاوض معه، فقال له أبو قتادة: أما إني أسأل الله أن ألقاك وأنا عليها، قال: آمين، فلما أخذت اللقاح ركب تلك الفرس وسار، فلقي النبي، فقال له النبي ﷺ: امض يا أبا قتادة صحبك الله، قال: فسرت حتى هجمت على القوم، فرميت بسهم في جبهتي، فنزعت قدحه وأنا أظن أني نزعت الحديدة، فطلع عليّ فارس وقال: لقد ألقانيك الله يا أبا قتادة، وكشف عن وجهه فإذا هو مسعدة الفزاري. فقال: أيما أحب إليك: مجالدة، أو مطاعنة، أو مصارعة؟ فقلت: ذاك إليك، فقال: صراع فنزل وعلق بسيفه في شجرة ونزلت وعلقت سيفي في شجرة وتواثبنا فرزقني الله الظفر عليه، فإذا أنا على صدره وإذا شيء مس رأسي، فإذا سيف مسعدة قد وصلت إليه في المعالجة، فضربت بيدي إلى سيفه وجردت السيف، فلما رأى أن السيف وقع بيدي قال: يا أبا قتادة استحيني، قلت: لا والله، قال: فمن للصبية؟ قلت: النار، ثم قتلته وأدرجته في بردي، ثم أخذت ثيابه فلبستها، ثم استويت على فرسه، فإن فرسي نفرت حيث تعالجنا، وذهبت للقوم فعرقبوها، ثم ذهبت خلق القوم فحملت على ابن أخيه فدققت صلبه، فانكشف من معه عن اللقاح، فحبست اللقاح برمحي وجئت أحرسها، فقال رسول الله ﷺ: أفلح وجهك يا أبا قتادة، أي فقلت: ووجهك يا رسول الله، قال رسول الله «أبو قتادة سيد الفرسان، بارك الله فيك يا أبا قتادة وفي ولدك وولد ولدك» وفي لفظ «وفي ولد ولدك» ا هـ «أي وقال له ما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهم أصابني، فقال ادن مني فنزع السهم نزعا رفيقا، ثم بزق فيه ووضع راحته عليه، فوالذي أكرمه بالنبوة ما ضرب عليّ ساعة قط
ولا قرح عليّ، وفي رواية «ولا قاح» وفي لفظ «قال لي: قتلت مسعدة؟ قلت نعم، ثم قال يدعو لأبي قتادة: اللهم بارك في شعره وبشره» فمات أبو قتادة «رضي الله ع» وهو ابن سبعين سنة وكأنه ابن خمس عشرة سنة «أي وأعطاه فرس مسعدة وسلاحه أي كما تقدم، وقال بارك الله لك فيه» وهذا السياق يدل على أن أبا قتادة «رضي الله ع» انفرد عن الصحابة وتقدمهم، وتخلف مسعدة عن قومه مدة مصارعة أبي قتادة له وقتله، ولا مانع من ذلك، وقيل استنقذوا نصف اللقاح، أي عشرة وفيها جمل أبي جهل الذي غنمه يوم بدر، وأفلت القوم بالعشرة الأخرى. أي ولا ينافيه ما تقدم من قول أبي قتادة: فانكشفوا عن اللقاح وجئت أحرسها، لأن المراد جملة من اللقاح، لكنه مخالف لما تقدم عن سلمة «رضي الله ع» من قوله: ما زلت أرشقهم؟ يعني القوم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه فليتأمل، وسار رسول الله ﷺ حتى نزل بالجبل من ذي قرد بناحية خيبر وتلاحق به الناس، أي وقال له سلمة بن الأكوع يا رسول الله إن القوم عطاش فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما بقي في أيديهم من السرح وأخذت بأعناق القوم.
أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم من قوله حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله ﷺ إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه، لجواز أن يكون صدر عنه ما تقدم لظنه أن ذلك هو جميع اللقاح التي أخذت، ثم تحقق أن الذي استنقذه هو وأبو قتادة جملة منها، وما في البخاري من قوله «واستنقذوا اللقاح كلها» يجوز أن يكون قائل ذلك ظن أن الذي استنقذ من أيدي القوم هو جميع ما أخذوه من اللقاح، كما أن سلمة «رضي الله ع» اعتقد أن جميع اللقاح التي أخذت هي التي جعلها خلف ظهره كما تقدم فكل من سلمة وأبي قتادة خلف نصف اللقاح التي هي العشرة التي خلصت من أيدي القوم.
وفي رواية عن سلمة قال «قلت يا رسول الله ابعث معي فوارس لندرك القوم، فقال لي رسول الله بعد أن ضحك: ملكت فأسجح» أي فارفق، والمعنى قدرت فاعف، وإنما كانوا عطاشا لأن سلمة «رضي الله ع» ذكر أنه تبعهم إلى قبيل غروب الشمس، إلى أن عدلوا إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، فنحاهم: أي طردهم عنه ومنعهم الشرب منه، وتركوا فرسين وجاء بهما سلمة «رضي الله ع» يسوقهما إلى رسول الله، ولعل هذا كان من سلمة «رضي الله ع» بعد أن رجعت الصحابة عنهم واستمر يتبعهم، وقال له شخص: يا رسول الله القوم الآن يغبقون بأرض غطفان، أي يشربون اللبن بالعشي الذي هو الغبوق، فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا، ولما نزل بالمحل المذكور لم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله ﷺ ومكث يوما وليلة، أي وعن سلمة «رضي الله ع»: وأتاني عمي عامر بن الأكوع بسطيحة فيها ماء وسطيحة فيها لبن فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله ﷺ الماء الذي أجليتهم عنه، فإذا هو قد أخذ كلّ شيء استنقذته منهم، ونحر لهم بلال «رضي الله ع» ناقته.
ولا مخالفة، لأنه يجوز أن يكون ذهب إلى الماء بعد أن كان مكثه بالجبل المذكور، وصلى بالناس صلاة الخوف، أي لخوف أن العدو يجيء إليهم، ولعل هذه هي صلاة بطن نخل، وهي على ما رواه الشيخان «أنه جعل القوم فرقتين، وصلاها مرتين كل مرة بفرقة والأخرى تحرس» أي تكون في وجه العدو، أي في المحل الذي يظن مجيئهم منه، وذلك كان لغير جهة القبلة، وإلا فالعدو لم يكن يمر أي منهم وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن.
أقول: لكن رأيت في الإمتاع «وصلى رسول الله ﷺ يومئذٍ صلاة الخوف، فقام إلى القبلة، وصفّ طائفة خلفه وطائفة مواجهة العدو، وصلى بالطائفة التي خلفه ركعة وسجد سجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون، فصلى بهم ركعة وسجد سجدتين وسلم، فكان لرسول الله ﷺ ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة» ولا يخفى أن هذه الكيفية هي صلاة عسفان، والله أعلم.
ولما أصبح قال «خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة «رضي الله ع»».
وعند خروجه وتلاحق بعض الفرسان به؛ قال لأبي عياش «لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك للحق بالناس، قال أبو عياش: فقلت: يا رسول الله إني أفرس الناس، قال أبو عياش: فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت لذلك، وقسم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها وكانوا خمسمائة، وقيل سبعمائة. وبعث سعد بن عبادة «رضي الله ع» بأحمال تمر وبعشر جزائر، فوافت رسول الله ﷺ بذي قرد، أي وقال: اللهم ارحم سعدا وآل سعد، نعم المرء سعد بن عبادة، فقالت الأنصار: هو سيدنا وابن سيدنا، من بيت يطعمون في المحل، ويحملون الكل، ويحملون عن العشيرة، فقال رسول الله ﷺ: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين» وأقبلت امرأة أبي ذر «رضي الله ع» على ناقة من إبل رسول الله، أي من جملة اللقاح وهي القصوى، أفلتت من القوم فطلبوها فأعجزتهم، وفي لفظ: وانفلتت المرأة من الوثاق ليلا فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى انتهت إلى العضباء، فلم ترغ فقعدت على عجزها ثم زجرتها وعلموا بها فطلبوها فأعجزتهم، ونذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحرنها، فلما أخبرت النبي ﷺ الخبر، قالت: يا رسول الله قد نذرت أن أنحرها إن نجاني الله عليها، أي وآكل من كبدها وسنامها، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: بئسما جزيتها أن حملك: أي لأجل أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين» وفي لفظ «لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم، إنما هي ناقة من إبلي، ارجعي إلى أهلك على بركة الله تعالى، ورجع رسول الله ﷺ إلى المدينة» أي وهذا السياق يدل على أن المرأة قدمت عليه بتلك الناقة قبل قدومه المدينة.
وفي السيرة الهشامية «أنها قدمت عليه المدينة فأخبرته الخبر، ثم قالت: يا رسول الله إني نذرت لله» الحديث، وهو يخاف ما يأتي من قوله: ورجع رسول الله ﷺ وهو على ناقته العضباء.
أي ولعل ما في الأوسط للطبراني بسند ضعيف عن النواس بن سمعان «رضي الله ع» «أن ناقة رسول الله ﷺ سرقت، فقال: لئن ردّها الله عليّ لأشكرن ربي، وقد وقعت في حيّ من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها فصبحت المدينة» إلى آخره لا ينافي ما هنا لجواز تعدد الواقعة.
«ورجع رسول الله، وهو على ناقته العضباء مردفا سلمة بن الأكوع «رضي الله ع»، وقد غاب عنها خمس ليال، وأعطى سلمة بن الأكوع سهم الراجل والفارس جميعا» أي مع كونه كان راجلا.
وهذا استدل به من يقول إن للإمام أن يفاضل في الغنيمة، وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وعند مالك وإمامنا الشافعي «رضي الله ع» لا يجوز، ولعله لعدم صحة ذلك عندهما، وتبعت في تقديم هذه الغزوة على غزوة الحديبية الأصل، وهو الموافق لقول بعضهم: أجمع أهل السير على أن غزوة الغابة قبل الحديبية، ولقول أبي العباس شيخ القرطبي صاحب التذكرة والتفسير: لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية، والشمس الشامي ذكرها بعد الحديبية تبعا لما في صحيح البخاري أنها بعد الحديبية وقبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. ففيه عن سلمة بن الأكوع «رضي الله ع» «فرجعنا: أي من غزوة ذي قرد إلى المدينة، فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر».
ويؤيده قول الحافظ شمس الدين بن إمام الجوزية: قد وهم جماعة من أصحاب المغازي والسير فذكروا غزوة الغابة قبل الحديبية؛ قال الحافظ ابن حجر: ما في البخاري أصح مما ذكره أهل السير.
قال: ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح، أي في الغابة وقعت مرتين، مرة قبل الحديبية، ومرة بعد الحديبية قبل الخروج إلى خيبر، أي ويلزم أن يكون في كل كان خروجه، وأن أوّل من علم بأخذ اللقاح سلمة بن الأكوع. ووقع له ولأصحابه ما تقدم، هذا حقيقة التكرار وإلا فهل الذي خرج فيها رسول الله ﷺ ووقع فيها لسلمة ولغيره من الصحابة ما وقع كانت أولا أو ثانيا؟ فليتأمل، ثم رأيت عن الحاكم رحمه الله تعالى أنه ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر أي ثلاث مرات؛ ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد، وفي الثانية خرج إليها رسول الله ﷺ سنة خمس، والثالثة هي المختلف فيها، أي ومعلوم أن هذه المختلف فيها خرج إليها فليتأمل، والله تعالى أعلم.