→ باب تسميته محمدا وأحمد | السيرة الحلبية باب ذكر رضاعه وما اتصل به علي بن برهان الدين الحلبي |
باب وفاة أمه وحضانة أم أيمن له وكفالة جده عبد المطلب إياه ← |
يقال إنه ارتضع من ثمانية من النساء، وقيل من عشرة بزيادة: خولة بنت المنذر، وأم أيمن عزيزة قالت: أول من أرضع رسول الله ﷺ ثويبة: أي بعد إرضاع أمه له كما سيأتي، قال: وثويبة هي جارية عمه أبي لهب، وقد أعتقها حين بشرته بولادته: أي فإنها قالت له: أما شعرت أن آمنة ولدت ولدا. وفي لفظ غلاما لأخيك عبد الله، فقال لها: أنت حرة، فجوزي بتخفيف العذاب عنه يوم الاثنين، بأن يسقى ماء في جهنم في تلك الليلة: أي ليلة الاثنين، في مثل النقرة التي بين السبابة والإبهام اهـ: أي أن سبب تخفيف العذاب عنه يوم الاثنين ما يسقاه تلك الليلة في تلك النقرة.
ويذكر أن بعض أهل أبي لهب: أي وهو أخوه العباس «رضي الله ع» رآه في النوم في حالة سيئة، فعن العباس «رضي الله ع» قال: مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شرّ حال: فقلت له: ماذا لقيت. فقال له أبو لهب: لم أذق بعدكم رخاء. وفي لفظ: فقال له بشر خيبة، بفتح الخاء المعجمة، وقيل بكسر الخاء: وهي سوء الحال، غير أني سقيت في هذه وأشار إلى النقرة المذكور بعتاقتي ثويبة، ذكره الحافظ الدمياطي.
والذي في المواهب: وقد رؤي أبو لهب بعد موته في النوم: فقيل له: ما حالك؟ فقال في النار، إلا أنه يخفف عني كل ليلة اثنين، وأمصّ من بين أصبعيّ هاتين ماء، وأشار برأس أصبعيه، وأن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشرتني بولادة النبي ﷺ وبإرضاعها له فليتأمل.
وقيل إنه إنما أعتقها لما هاجر إلى المدينة: أي فإن خديجة «رضي الله ع» كانت تكرمها وطلبت من أبي لهب أن تبتاعها منه لتعتقها فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة أعتقها أبو لهب.
أقول: قد يقال: لا منافاة لجواز أن يكون لما أعتقها لم يظهر عتقها وإباؤه بيعها لكونها كانت معتوقة ثم أظهر عتقها بعد الهجرة والله أعلم. وإرضاعها له كان أياما قلائل قبل أن تقدم حليمة، وكان بلبن ابن لها يقال له مسروح، وهو بضم الميم وسين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة، كذا في النور. وفي السيرة الشامية بفتح الميم، وكانت قد أرضعت قبله أبا سفيان ابن عمه الحارث.
وفي كلام بعضهم كان تربا له، وكان يشبهه، وكان يألفه إلفا شديدا قبل النبوة فلما بعث عاداه وهجره وهجا أصحابه «رضي الله ع»، فإنه كان شاعرا مجيدا وسيأتي إسلامه «رضي الله ع» عند توجهه لفتح مكة وأرضعت ثويبة «رضي الله ع» قبلهما عمه حمزة بن عبد المطلب، وكان أسنّ منه بسنتين، وقيل بأربع سنين.
أقول: هذا يخالف ما تقدم من أن عبد المطلب تزوج من بني زهرة هالة وأتى منها بحمزة، وأن عبد الله تزوج من بني زهرة آمنة وذلك في مجلس واحد، وأن آمنة حملت برسول عند دخول عبد الله بها، وأنه دخل بها حين أملك عليها فكيف يكون حمزة أسنّ منه بسنتين، إلا أن يقال ليس فيما تقدم تصريح بأن عبد المطلب وعبد الله دخلا على زوجتيهما في وقت واحد.
وعبارة السهيلي: هالة بنت وهيب عبد بن مناف بن زهرة عم آمنة بنت وهب أم النبي ﷺ تزوجها عبد المطلب، وتزوج ابنه عبد الله آمنة في ساعة واحدة، فولدت هالة لعبد المطلب حمزة، وولدت آمنة لعبد الله رسول الله، ثم أرضعتهما ثويبة، هذا كلامه، وليس فيه كقول (أسد الغابة) المتقدم أن عبد المطلب تزوج هو وعبد الله في مجلس واحد تصريح بأنهما دخلا بزوجتيهما في وقت واحد، لإمكان حمل التزوج على الخطبة المصرح بها فيما تقدم عن ابن المحدث: أن عبد المطلب خطب هالة في مجلس خطبة عبد الله لآمنة، والله أعلم.
ثم رأيت في الاستيعاب قال: كان أي حمزة أسنّ من رسول الله ﷺ بأربع سنين، وهذا لا يصح عندي لأن الحديث الثابت أن حمزة أرضعته ثويبة مع رسول الله، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين، هذا لفظه، وفيه ما علمت، وفيه أيضا على تسليم أنها أرضعتهما في زمانين، لكن بلبن ابنها مسروح كما سيأتي.
ويبعد بقاء لبن ابنها مسروح أربع سنين ثم أرضعت به رسول الله، وسيأتي الجواب عنه.
وأرضعت ثويبة «رضي الله ع» بعده أبا سلمة بن عبد الأسد أي ابن عمته الذي كان زوجا لأم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين «رضي الله ع». فقد أرضعت ثويبة حمزة ثم أبا سفيان ابن عمه الحارث ثم رسول الله، ثم أبا سلمة، وهو مخالف بظاهره لقول المحب الطبري. وأرضعته ثويبة جارية أبي لهب وأرضعت معه حمزة بن عبد المطلب وأبا سلمة عبد الله بن عبد الأسد بلبن ابنها مسروح، هذا كلامه، وفيه ما علمت.
وقد يجاب بأنه ممكن بأن تكون لم تحمل على ولدها مسروح في المدة المذكورة فاستمر لبنها.
وأيضا هي أرضعت بين حمزة ورسول الله ﷺ ابن عمه أبا سفيان الحارث كما علمت.
وذكر بعضهم أن أبا سلمة أول من يدعى للحساب اليسير، وقد روي عن النبي ﷺ حديثا واحدا، فعن أم سلمة «رضي الله ع» قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله، فقال: فقد سمعت من رسول الله ﷺ قولا سررت به قال: «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف عليّ خيرا منها إلا فعل به» قال الترمذي حسن غريب. ويدل لكون أبي سلمة أخاه من الرضاعة ما جاء عن أم حبيبة قالت: «دخل عليّ رسول الله، فقلت له: هل لك في أختي بنت أبي سفيان» أي وهي عزة بعين مهملة ثم زاي: أي وفي رواية «هل لك في أختي حمنة بنت أبي سفيان» والذي في مسلم «انكح أختي عزة » أي وفي البخاري «أنكح أختي بنت أبي سفيان، قال: أو تحبين ذلك؟ قالت نعم، لست لك بمخلية » بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام وبالتحتية: أي لست لك بتاركة عدم أخذها، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي ﷺ: فإن ذلك لا يحل لي، قالت: فوالله إني أنبئت» أي وفي لفظ «إنا لنتحدث أنك تخطب درة » أي وفي لفظ «تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة » أي بضم الدال المهملة، وأما ضبطه بفتح الذال المعجمة قال بعضهم: هو تصحيف لا شك فيه، تعني بدرة بنتها من أبي سلمة «قال: ابنة أبي سلمة؟ قلت نعم، فقال: والله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة: أرضعتني وإياه ثويبة » أي وفي رواية «لولا أني لم أنكح أم سلمة يعني أم حبيبة التي هي أمها لم تحل لي، إن أباها أخي من الرضاعة » أي وأختك على فرض أن لا تكون بنت أخي من الرضاعة لا يحل لي أن أجمعها معك «فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن» قيل وفي هذا: أي وفي قوله «لو لم تكن ربيبتي في حجري» وفي قوله: تعالى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} حجة لداود الظاهري أن الربيبة لا تحرم إلا إذا كانت في حجر زوج أمها، فإن لم تكن في حجره فهي حلال له: أي وقيل لها ربيبة لأنها مأخوذة من الرب وهو الإصلاح، لأن زوج أمها يقوم بإصلاح أحوالها. قال: ولك أن تقول: كان الظاهر الاقتصار على الأخوات، لأن أم حبيبة هي التي عرضت أختها ولم تعرض بنتها التي هي درة.
وقد يجاب بأنه جعل خطاب أم حبيبة خطابا لجميع زوجاته، لأن هذا الحكم لا يختص بواحدة دون أخرى اهـ.
أقول: فيه أن هذا واضح لو كان في زوجاته من عرض عليه بنته، إلا أن يقال المراد فلا تعرضن لا ينبغي لكن أن تعرضن، وذلك لا يستلزم وقوع العرض بالفعل.
ثم رأيت الإمام النووي رحمه الله ذكر أن هذا من أم حبيبة: أي من عرض أختها محمول على أنها لم تكن تعلم تحريم الجمع بين الأختين عليه. قال: وكذا لم تعلم من عرض بنت أم سلمة تحريم الربيبة، هذا كلامه، وهو يقتضي أن بعض الناس عرض عليه بنت أم سلمة. وإذا كان من عرضها عليه إحدى نسائه اتجه قوله: «فلا تعرضن عليّ بناتكن» تأمل.
وبهذا الحديث استدل من قال: إنه لا يجوز له أن يجمع بين المرأة وأختها، وهو الراجح من وجهين.
ومقابله يقول: خص بجواز ذلك له، ولا يجمع بين المرأة وبنتها، خلافا لوجه حكاه الرافعي، وهذا الحديث وهو قوله: « لو لم أنكح أم سلمة لم تحل لي» يردّ هذا الوجه.
وعبارة الخصائص الصغرى: وله الجمع بين المرأة وأختها وعمتها وخالتها في أحد الوجهين، وبين المرأة وابنتها في وجه حكاه الرافعي وتبعه في الروضة. وجزموا بأنه غلط، والله أعلم.
ومما يدل أيضا على أن عمه حمزة أخوه من الرضاعة ما جاء عن علي «رضي الله ع» قال: «قلت: يا رسول الله ما لك لا تتوَّق في قريش» أي بمثناتين فوق مفتوحتين ثم واو مشددة ثم قاف: أي لا تتشوق إليهم، مأخوذ من التوق الذي هو الشوق. وفي رواية بالتاء والنون: أي لا تختار ولا تتزوج منهم. قال: أو عندك؟ قلت نعم ابنة حمزة: أي عمه، وهي أمامة وهي أحسن فتاة في قريش، قال: «تلك ابنة أخي من الرضاعة » أي وهذا، من عليّ «رضي الله ع» محمول على أنه لم يكن يعلم بتحريم بنت الأخ من الرضاعة عليه، أو أنه لم يكن يعلم أن عمه حمزة أخ له من الرضاعة.
وفيه أنه جاء رواية «أليس قد علمت أنه أخي من الرضاعة، وأن الله قد حرم من الرضاعة ما حرم من النسب» إلا أن يراد بقوله: «قد علمت» أي أعلم. قال: ولعله لم يقل أرضعتني وإياه ثويبة كما قال ذلك في أبي سلمة، لأن ثويبة أرضعت حمزة، ثم رسول الله، ثم أبا سلمة لأن حمزة رضيعه أيضا من امرأة من بني سعد غير حليمة، كان حمزة «رضي الله ع» مسترضعا عندها في بني سعد، أرضعته يوما وهي عند حليمة: أي فهو رضيعه من جهة ثويبة، ومن جهة تلك المرأة السعدية، ولم أقف على اسم تلك المرأة اهـ: أي ولو اقتصر على ثويبة لأوهم أنه لم يرتضع معه على غيرها. وذكر في الأصل أن بعضهم ذكر من مراضعه خولة بنت المنذر.
أقول: وتقدم ذلك، ونسب هذا البعض في ذلك للوهم، وأن خولة بنت المنذر التي هي أم بردة إنما كانت مرضعة لولده إبراهيم.
وقد يجاب عنه بأنه يجوز أن تكون خولة بنت المنذر اثنتان: واحدة أرضعته، وواحدة أرضعت ولده إبراهيم، وأن خولة التي أرضعته هي السعدية التي كانت ترضع حمزة التي قال فيها الشمس الشامي: لم أقف على اسم تلك المرأة، والله أعلم، ولم يذكر إسلام ثويبة إلا ابن منده.
قال الحافظ ابن حجر: وفي طبقات ابن سعد ما تدل على أنها لم تسلم، ولكن لا يدفع نقل ابن منده به. وفي الخصائص الصغرى: لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت ولم أقف على إسلام ابنها مسروح.
أقول: ومما يدل على عدم إسلامه ما جاء بسند ضعيف «إذا كان يوم القيامة أشفع لأخ لي في الجاهلية » قال الحافظ السيوطي: يعني أخاه من الرضاعة لأنه لم يدرك الإسلام.
لا يقال: من أين أنه مسروح جاز أن يكون ابن حليمة، وهو عبد الله الذي كان يرضع معه، بناء على أنه لم تدرك الإسلام، لأنه لم يعرف له إسلام.
لأنا نقول: سيأتي عن شرح الهمزية لابن حجر أن عبد الله ولد حليمة أسلم، والله أعلم.
أي وقد يدل على عدم إسلام ثويبة وابنها المذكور الذي هو مسروح ما جاء «أنه كان يبعث لها بصلة وكسوة وهي بمكة، حتى جاءه خبر وفاتها مرجعه من خيبر سنة سبع، فقال: ما فعل ابنها مسروح، فقيل مات قبلها» أي ولو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة.
أقول: وهذا بظاهره يدل على أن مسروحا أدرك الإسلام. وقد ينافي علم وفاتهما مرجعه من خيبر ما ذكر السهيلي أنه "عليه الصلاة والسلام كان يصلها من المدينة، فلما افتتح مكة سأل عنها وعن ابنها مسروح، فأخبر أنهما ماتا.
وقد يقال: لا منافاة، لأنه يجوز أن يكون سؤاله الثاني للتثبت لوصوله محل إقامتهما.
والقول بأنهما لو كانا أسلما لهاجرا إلى المدينة. يقال عليه: يجوز أن تكون الهجرة تعذرت عليهما لعارض عرض لهما، والله أعلم. قال: وجاء أن أمه أرضعته تسعة أيام.
أقول: وعن عيون المعارف للقضاعي سبعة أيام. وفي الإمتاع أنها أرضعته سبعة أشهر، ثم أرضعته ثويبة أياما قلائل، هذا كلامه، وقوله ثم أرضعته ثويبة يخالف ما تقدم، من أن أول من أرضعه ثويبة، إلا أن يقال المراد أول من أرضعه غير أمه ثويبة فلا مخالفة.
وبهذا يرد نقل ابن المحدث عن الأصل أن أول لبن نزل جوفه لبن ثويبة، فإنه فهم ذلك من قول الأصل: أول من أرضعه ثويبة، لما علمت أن الأولية إضافية لا حقيقة، إلا أن يدعى ذلك في نقل ابن المحدّث أيضا: أي أول لبن نزل جوفه بعد لبن أمه والله أعلم.
قال: وأرضعه ثلاث نسوة: أي أبكار من بني سليم، أخرجن ثديهن فوضعنها في فمه فدرت في فيه فرضع منهن، وأرضعته أم فروة اهـ. أي وهؤلاء النسوة الأبكار كل واحدة منهن تسمى عاتكة، وهن اللاتي عناهن بقوله: «أنا ابن العواتك من سليم» على ما تقدم.
وما تقدم من أن أم أيمن أرضعته ذكره في الخصائص الصغرى، ردّ بأنها حاضنته لا مرضعته.
وعلى تقدير صحته ينظر بلبن أي ولد لها كان، فإنه لا يعرف لها ولد إلا أيمن وأسامة، إلا أن يقال جاز أن لبنها در له من غير وجود ولد كما تقدم في النسوة الأبكار.
وأرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب، وتكنى أم كبشة: أي باسم بنت لها اسمها كبشة، ويكنى بها أيضا والدها الذي هو زوج حليمة: أي وكانت من هوازن أي من بني سعد بن بكر بن هوازن، وسيأتي الكلام على إسلامها.
وعنها أنها كانت تحدّث أنها خرجت من بلدها معها ابن لها ترضعه اسمه عبد الله، ومعها زوجها. قال: وهو الحارث بن عبد العزى، ويكنى أبا ذؤيب: أي كما يكنى أبا كبشة أدرك الإسلام وأسلم.
فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عمرو بن السائب أنه بلغه «أن رسول الله ﷺ كان جالسا يوما فأقبل أبوه من الرضاعة، فقام رسول الله ﷺ وأجلسه بين يديه».
وعن ابن إسحاق: بلغني أن الحارث إنما أسلم بعد وفاة النبي، وهو يؤيد قول بعضهم: لم يذكر الحارث كثير ممن ألف في الصحابة اهـ.
أقول: يدل للأول ظاهر ما روي «أن الحارث هذا قدم على رسول الله ﷺ بمكة بعد نزول القرآن عليه » فقالت له قريش: أو تسمع يا حارث ما يقول ابنك؟ فقال: وما يقول؟ قالوا: يزعم أن الله يبعث من في القبور، وأن لله دارين يعذب فيهما من عصاه، ويكرم فيهما من أطاعه: أي يعذب في إحداهما من عصاه وهي النار، ويكرم في الأخرى من أطاعه وهي الجنة، فقد شتت أمرنا، وفرق جماعتنا، فأتاه فقال: أي بني، ما لك ولقومك، يشكونك ويزعمون أنك تقول كذا: أي أن الناس يبعثون، بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار «فقال له رسول الله، نعم أنا أقول ذلك» وفي لفظ «أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم يا أبت فلآخذنّ بيدك حتى أعرّفك حديثك اليوم» فأسلم الحارث بعد ذلك وحسن إسلامه: أي وقد كان يقول حين أسلم: لو أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني حتى يدخلني الجنة، وإنما قلنا ظاهر، لأنه قد يقال قوله بعد ذلك يصدق بما بعد وفاته، فلا دلالة في ذلك على أنه أسلم في حياته.
وفي شرح الهمزية لابن حجر: ومن سعادتها يعني حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها، وهم: عبد الله، والشيما، وأنيسة، هذا كلامه.
وفي الإصابة أن رسول الله ﷺ كان جالسا ـ أي على ثوب ـ فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام رسول الله ﷺ فجلس بين يديه» ورجاله ثقات، ولعل المراد بجلوسه بين يديه جلوسه مقابله، وحينئذ ففاعل جلس النبي، وضمير يديه راجع لأخيه: أي قام عن محل جلوسه على الثوب، وأجلس أخاه على الثوب مكانه وجلس قبالة أخيه، فعل ذلك ليكون أخوه هو وأبواه جميعا على الثوب، والله أعلم.
قالت: وخرجت في نسوة من بني سعد: أي ابن بكر بن هوازن عشرة يطلبن الرضعاء في سنة شهباء: أي ذات جدب وقحط لم تبق شيئا، على أتان قمراء بفتح القاف والمد: أي شديد البياض، ومعنى شارف أي ناقة مسنة، ما تبض بالضاد المعجمة، وربما روي بالمهملة: أي ما ترشح بقطرة لبن، قالت: وما كنا ننام ليلتنا أجمع من صبينا الذي معنا من بكائه من الجوع، ما في ثديي. وفي رواية ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه بمعجمتين، وقيل بمعجمة ثم مهملة، وقيل بإسكان العين المهملة وكسر الذال المعجمة وضم الباء الموحدة: أي ما يكفيه بحيث يرفع رأسه وينقطع عن الرضاعة. قالت حليمة: ولكنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك، فلقد أدمت بالدال المهملة وتشديد الميم بالركب: أي حبسته بتأخرها عنه لشدة عنائها وتعبها لضعفها وهزالها، حتى شق ذلك عليهم، حتى قدمنا مكة نلتمس: أي نطلب الرضعاء جمع رضيع، وأدمّ مأخوذ من الماء الدائم، يقال أدم بالركب: إذا أبطأ حتى حبسهم، ويروى بالمعجمة: أي جاء بما يذم عليه وهو هنا الإبطاء.
أقول: لأنه كان من شيم العرب وأخلاقهم إذا ولد لهم ولد يلتمسون له مرضعة في غير قبيلتهم، ليكون أنجب للولد، وأفصح له. وقيل لأنهم كانوا يرون أنه عار على المرأة أن ترضع ولدها انتهى: أي تستقل برضاعه.
ويدل للأول ما جاء أنه كان يقول لأصحابه «أنا أعربكم» أي أفصحكم عربية «أنا قرشي، واسترضعت في بني سعد» وجاء «أن أبا بكر «رضي الله ع» لما قال له: ما رأيت أفصح منك يا رسول الله، فقال له: ما يمنعني وأنا من قريش، وأرضعت في بني سعد؟ » فهذا كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات.
ومن ثم نقل عن عبد الملك بن مروان أنه كان يقول: أضر بناحب الوليد، يعني ولده، لأنه لمحبته له أبقاه مع أمه في المصر ولم يسترضعه في البادية مع الأعراب، فصار لحانا لا عربية له. وأخوه سليمان استرضع في البادية مع الأعراب فصار عربيا غير لحان.
قالت حليمة: فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله ﷺ فتأباه إذا قيل لها يتيم، وذلك أنا إنما نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم ما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة معي إلا أخذت رضيعا غيري، فلما أجمعنا الإنطلاق: أي عزمنا عليه، قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعا، والله لأذهبن إلى ذلك الرضيع فلآخذنه، قال: لا عليك: أي لا بأس عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، فذهبت إليه فأخذته.
أقول: وهذا السياق قد يخالف قول بعضهم: إن عبد المطلب خرج يلتمس له المراضع فجاءت له حليمة ابنة أبي ذؤيب، إلا أن يقال: جاز أن يكون التماسه للمراضع غير حليمة كان عند قدومهن، وأبين أن يقبلن، ثم طلب من حليمة ذلك بعد أن لم يجد رضيعا. ويدل لذلك قول صاحب (شفاء الصدور) إن حليمة قالت: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بني سعد قال: ما اسمك؟ قلت حليمة، فتبسم عبد المطلب وقال: بخ بخ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد، يا حليمة إن عندي غلاما يتيما، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلن وقلن: ما عند اليتيم من الخير، إنما نلتمس الكرامة من الآباء، فهل لك أن ترضعيه، فعسى أن تسعدي به؟ فقلت: ألا تذرني حتى أشاور صاحبي، فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته، فكأن الله قذف في قلبه فرحا وسرورا، فقال لي: يا حليمة خذيه، فرجعت إلى عبد المطلب فوجدته قاعدا ينتظرني، فقلت: هلمّ الصبي، فاستهل وجهه فرحا، فأخذني وأدخلني بيت آمنة، فقالت لي أهلا وسهلا، وأدخلتني في البيت الذي فيه محمد، فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض من اللبن، وتحته حريرة خضراء، راقد على قفاه يغط، يفوح منه رائحة المسك، فأشفقت: أي خفت أن أوقظه من نومه لحسنه وجماله، فوضعت يدي على صدره فتبسم ضاحكا وفتح عينيه إليّ، فخرج من عينيه نور حتى دخل خلال السماء وأنا أنظر، فقبلته بين عينيه وأخذته، وما حملني على أخذه: أي أكد أخذه إلا أني لم أجد غيره، وإلا فما ذكرته من أوصافه مقتض لأخذه: أي وهذه الرواية ربما تدل على أنها لم تره قبل ذلك، وأن إباءها كان قبل رؤيتها له، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل ثدياي بما شاء الله من لبن فشرب حتى روي: أي من الثدي الأيمن، وعرضت عليه الأيسر فأباه. قالت حليمة: وكانت تلك حالته بعد: أي بعد ذلك: لا يقبل إلا ثديا واحدا وهو الأيمن.
وفي السبعيات للهمداني: أن أحد ثديي حليمة كان لا يدر اللبن منه، فلما وضعته في فم رسول الله ﷺ در اللبن منه. قالت: وشرب معه أخوه حتى روي ثم نام، وما كنا ننام معه قبل ذلك: أي فعدم نومه من الجوع، فقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا هي حافل: أي ممتلئة الضرع من اللبن، فجلب منها ما شرب وشربت حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة، قلت: والله إني لأرجو ذلك، ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته معي عليها فوالله لقطعت بالركب: أي صيرته خلفها ما يقدر عليها: أي على مرافقتها ومصاحبتها شيء من حمرهن، حتى أن صواحبي يقلن لي: يا بنت أبي ذؤيب، ويحك، اربعي: أي اعطفي علينا بالرفق وعدم الشدة في السير، أليس هذا أتانك التي كنت خرجت عليها تخفضك طورا وترفعك أخرى؟ فأقول لهن: بلى والله إنها لهي، فيقلن: والله إن لها لشأنا: أي وقالت حليمة فكنت أسمع أتاني تنطق وتقول: والله إن لي لشأنا ثم شأنا، شأني بعثني الله بعد موتي، ورد لي سمني بعد هزالي، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة، وهل تدرين من على ظهري؟ على ظهري خير النبيين، وسيد المرسلين، وخير الأولين والآخرين، وحبيب رب العالمين، ذكره في النطق المفهوم.
وذكرت أنها لما أرادت فراق مكة رأت تلك الأتان سجدت: أي خفضت رأسها نحو الكعبة ثلاث سجدات ورفعت رأسها إلى السماء ثم مشت. قالت: ثم قدمنا منازل بني سعد ولا أعلم أرضا من أراضي الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا: أي غزيرات اللبن، فنحلب ونشرب. ولفظ: فنحلب، ما شئنا والله ما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضر: أي المقيم في المنازل من قومنا يقول لرعاتهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب يعنونني، فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمي شباعا لبنا، فلم نزل نعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبا لا يشبه الغلمان، فلم يقطع سنتيه حتى كان غلاما جفرا: أي غليظا شديدا.
وعن حليمة «رضي الله ع» أنه لما بلغ شهرين كان يجيء إلى كل جانب: أي وهذا يضعف ما تقدم عن الامتناع من أن أمه أرضعته سبعة أشهر. قالت حليمة: فلما بلغ ثمانية أشهر كان يتكلم بحيث يسمع كلامه، ولما بلغ تسعة أشهر كان يتكلم الكلام الفصيح، ولما بلغ عشرة أشهر كان يرمي السهام مع الصبيان.
وعنها «رضي الله ع» أنها قالت، إنه لفي حجري ذات يوم إذ مرت به غنيماتي، فأقبلت واحدة منهن حتى سجدت له وقبلت رأسه ثم ذهبت إلى صواحبها.
أقول: وقد سجدت له الغنم، وكذا الجمل بعد بعثته والهجرة، فعن أنس بن مالك «رضي الله ع» «أن رسول الله ﷺ دخل حائطا: أي بستانا للأنصار ومعه أبو بكر وعمر ورجال من الأنصار وفي الحائط غنم، فسجدت له، فقال أبو بكر «رضي الله ع»: يا رسول الله كنا أحق بالسجود لك من هذه الغنم؟ فقال: إنه لا ينبغي في أمتي أن يسجد أحد لأحد، ولو كان ينبغي لأحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» زاد في رواية «ولو أن رجلا أمر زوجته أن تنقل من جبل إلى جبل لكان نولها: أي حقها أن تفعل» «وحرب جمل بكسر الراء: أي اشتد غضبه، فصار لا يقدر أحد يدخل عليه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال لأصحابه: افتحوا عنه، فقالوا: إنا نخشى عليك يا رسول الله، فقالوا: افتحوا عنه ففتحوا عنه فلما رآه الجمل خرّ ساجدا: أي فأخذ بناصيته ثم دفعه لصاحبه وقال استعمله وأحسن علفه، فقال القوم: يا رسول الله كنا أحق أن نسجد لك من هذه البهيمة، فقال كلا» الحديث. وفي هذا دلالة على عظيم حق الزوج على زوجته.
وجاء مما يدل على ذلك أيضا ما روي «أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك واتبعناك، ونحن معاشر النساء، مقصورات مخدرات، قواعد بيوت، ومواضع شهوات الرجال، وحاملات أولادهم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات، وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا لهم أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله ﷺ بوجهه إلى أصحابه وقال: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: انصرفي يا أسماء، واعلمي بأنك من النساء، إنّ حسن تبعل إحداكن لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت للرجال» أي من حضور الجماعات وشهود الجنائز والجهاد، فانصرفت أسماء وهي تهلل وتكبر استبشارا بما قال لها رسول الله. والتبعل: ملاعبة المرأة لزوجها، والله أعلم.
قالت حليمة: وكان ينزل عليه كل يوم نور كنور الشمس ثم ينجلي عنه، وإلى قصة رضاعه يشير صاحب الهمزية بقوله:
وبدت في رضاعه معجزات ** ليس فيها عن العيون خفاء
إذ أتته ليتمه مرضعات ** قلن ما في اليتيم عنا غناء
فأتته من آل سعد فتاة ** قد أبتها لفقرها الرضعاء
أرضعته لبانها فسقتها ** وبنيها ألبانهن الشاء
أصبحت شوّلا عجافا وأمست ** ما بها شائل ولا عجفاء
أخصب العيش عندها بعد محل ** إذ غدا للنبي منها غذاء
يا لها منة لقد ضوعف الأجر ** عليها من جنسها والجزاء
وإذا سخر الإله أناسا ** لسعيد فإنهم سعداء
أي وظهرت في رضاعه؟ وفي زمن رضاعه أمور خارقة للعادة لوضوحها لا تخفى على العيون.
فمن ذلك أن المراضع أبين أن يأخذنه لأجل يتمه، فبعد أن تركته أتت فتاة من آل سعد قد أبتها أهل الرضعاء لفقرها فسقته لبنها فسقتها وبنيها الشاء ألبانها، وكانت تلك الشياه لا لبن بها بل هزيلات، فصارت ذات ألبان وسمن.
ومن ذلك أن العيش كثر عندها بعد شدة المحل لأجل حصول غذاء النبي ﷺ: يا لها أي لتلك الخصلة الصادرة من حليمة وهي سقيها له لبنها نعمة منها عليه، لقد كرر الثواب والجزاء على تلك النعمة من جنس تلك النعمة، لأن الجزاء من جنس العمل فلما سقت اللبن سُقِيته، ولا بدع فإن الله تعالى إذا سخر أناسا لمحبة سعيد والقيام بخدمته فإنهم بسبب ذلك سعداء.
أقول: لم أقف على رواية فيها أن حليمة أبتها أهل الرضعاء لفقرها وكأن الناظم أخذ ذلك من قولها: فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعا غيري، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره ولا دلالة في ذلك.
واستفتي الحافظ ابن حجر عن بعض الوعاظ يذكر عند اجتماع الناس للمولد حادثات أي وقائع تتعلق به جاءت بها الأخبار هي مخلة بالتعظيم حتى يظهر من السامعين لها حزن، فيبقى في حيز من يرحم لا في حيز من يعظم. من ذلك أنهم يقولون إن المراضع حضرن ولم يأخذنه لعدم ماله ونحو ذلك، فما قولكم في ذلك؟
فأجاب بما نصه: ينبغي لمن يكون فطنا أن يحذف من الخبر: أي الحديث ما يوهم في المخبر عنه نقصا ولا يضره ذلك، بل يجب كما وقع لإمامنا الشافعي «رضي الله ع» حيث قال في بعض نصوصه «وقطع رسول الله ﷺ امرأة لها شرف فكلم فيه، فقال: لو سرقت فلانة لامرأة شريفة لقطعتها، يعني فاطمة بنت النبي » فلم يصرح باسمها تأدبا معها أن تذكر في هذا المعرض ـ وإن كان ذكرها ـ لأن ذلك منه حسن دلّ على أن الخلق عنده في الشرع سواء، فهذا من كمال أدب الإمام «رضي الله ع» وأرضاه، ونفعنا ببركاته: أي فإذا جاز حذف بعض الحديث الموهم نقصا في بعض أهل بيته، فما بالك بما يوهم النقص فيه، وهذا من الحافظ يدل على أن إباء المراضع له وارد حيث أقره ولم ينكره، والله أعلم.
قال: وعن ابن عباس «رضي الله ع» «كان أول كلام تكلم به حين فطمته حليمة «رضي الله ع»، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا» أي وقد تقدم أنه تكلم بهذا عند خروجه من بطن أمه. وفي رواية «أوّل كلام تكلم به في بعض الليالي: أي وهو عند حليمة: لا إله إلا الله قدوسا قدوسا نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم» وكان لا يمس شيئا إلا قال بسم الله.
وعن حليمة «رضي الله ع» «لما دخلت به إلى منزلي لم يبق منزل من منازل بني سعد إلا شممنا منه ريح المسك، وألقيت محبته: أي واعتقاد بركته في قلوب الناس، حتى إنّ أحدهم كان إذا نزل به أذى في جسده أخذ كفه فيضعها على موضع الأذى فيبرأ بإذن الله تعالى سريعا. وكذلك إذا اعتل لهم بعير أو شاة انتهى.
قالت حليمة: فقدمنا مكة على أمه: أي بعد أن بلغ سنتين ونحن أحرص شيء على مكثه فينا لما نرى من بركته، فكلمنا أمه وقلت لها: لو تركتي بنيّ عندي حتى يغلظ.
وفي كلام ابن الأثير: قلنا لها دعينا نرجع به هذه السنة الأخرى فإني أخشى عليه وباء مكة: أي مرضها ووخمها فلم نزل بها حتى ردّته معنا.
وقيل إن أمه آمنة قالت لحليمة: ارجعي بابني، فإني أخاف عليه وباء مكة، فوالله ليكونن له شأن أي ولا مخالفة بينهما لجواز أن حليمة لما قالت لها ما تقدم قالت لحليمة ارجعي بابني على الفور فإني أخاف عليه وباء مكة: أي كما تخافين عليه ذلك. قالت حليمة: فرجعنا به فوالله إنه بعد مقدمنا به بأشهر. عبارة ابن الأثير: بعد مقدمنا بشهرين أو ثلاثة مع أخيه يعني من الرضاعة، لفي بهم لنا، ولعل هذا لا ينافيه قول المحب الطبري: فلما شب وبلغ سنتين لأنه ألغي أي ذلك الكسر، فبينما هو وأخوه في بهم لنا خلف بيوتنا. والبهم: أولاد الضأن، إذ أتى أخوه يشتد. أي يعدو، فقال لي ولأبيه ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه، فشقا بطنه فهما يسوطانه: أي يدخلان يديهما في بطنه، قالت: فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه. وفي لفظ لونه أي متغير أي صار لونه كلون النقع الذي هو الغبار وهو صفة ألوان الموتى، وذلك لما ناله من الفزع أي من رؤية الملائكة، لا من مشقة نشأت عن ذلك الشق، لما يأتي في بعض الروايات: فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ومن ثم قال ابن الجوزي: فشقة وما شق عليه، وإطلاقه شامل لهذه المرة التي هي الأولى، وقد قال بعضهم: إنه لم ينتقع لونه إلا وهو صغير في بني سعد.
قالت: فالتزمته والتزمه أبوه فقلنا له: ما لك يا بني؟ فقال: جاءني رجلان عليها ثياب بيض أي وهما جبريل وميكائيل: أي وهما المراد بقوله في رواية: فأقبل إليّ طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فأضجعاني فشقا بطني فالتمسا فيه شيئا أي طلباه، فوجداه فأخذاه وطرحاه ولا أدري ما هو: أي وسيأتي أن هذا الذي قال فيه وما أدري ما هو أنه علقة سوداء استخرجاها من قلبه بعد شق بطنه، ففي هذه الرواية طي ذكر القلب وشقه، وسيأتي ذكر ذلك في بعض الروايات.
وفي رواية غريبة: نزل عليه كركيان، فشق أحدهما بمنقاره جوفه، ومجّ الآخر فيه بمنقاره ثلجا أو بردا. وقد يقال إن الطيرين تارة شبها بالنسرين وتارة شبها بالكركيين. وفي كون مجيء جبريل وميكائيل على صورة النسر لطيفة لأن النسر سيد الطيور. فقد جاء في الحديث «هبط عليّ جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيد، فسيد البشر آدم وأنت سيد ولد آدم وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر» وفي بحر العلوم «وسيد الملائكة إسرافيل، وسيد الشهداء هابيل، وسيد الجبال جبل موسى، وسيد الأنعام الثور، وسيد الوحوش الفيل، وسيد السباع الأسد» زاد بعضهم وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة ».
قالت حليمة: فرجعنا به إلى خبائنا: أي محل الإقامة وقال لي أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب، فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك. وفي رواية: قال الناس يا حليمة رديه على جده واخرجي من أمانتك. وفي رواية وقال: زوجي أرى أن ترديه على أمه لتعالجه، والله إن أصابه ما أصابه إلا حسد من آل فلان لما يرون من عظيم بركته. قالت: فحملناه فقدمنا به مكة على أمه. قال الواقدي وكان ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن خمس سنين أي وزاد في الاستيعاب ويومين من مولده، وكان غيره أي غير ابن عباس يقول: رجع إلى أمه وهو ابن أربع سنين. وذكر الأموي أنه رجع إلى أمه وهو ابن ست سنين انتهى.
أقول سياق ما قبله يدل على أن قدوم حليمة به على أمه كان عقب الواقعة المذكورة، وتقدم أن سنه حينئذ كان سنتين وأشهر، وسيأتي ما فيه والله أعلم.
وعن ابن عباس أن حليمة كانت تحدث أنه لما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم، فقال لي يوما: يا أماه ما لي لا أرى إخوتي بالنهار يعني إخوته من الرضاعة وهم أخوه عبد الله وأختاه أنيسة والشيماء بفتح المعجمة وسكون التحتية أولاد الحارث، قلت فدتك نفسي، إنهم يرعون غنما لنا فيروحون من ليل إلى ليل، قال ابعثيني معهم، فكان "عليه الصلاة والسلام يخرج مسرورا ويعود مسرورا: أي وهذا لا يخالف قولها السابق كان مع أخيه في بهم لنا خلف بيوتنا، ولا قوله الآتي «فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا» ولا قوله «فبينما أنا ذات يوم منتبذا من أهلي في بطن وادٍ مع أتراب لي من الفتيان» كما لا يخفى.
قالت حليمة: فلما كان يوما من ذلك خرجوا، فلما انتصف إليها أتاني أخوه، أي وفي رواية إذ أتي ابني ضمرة يعدو فزعا وجبينه يرشح باكيا ينادي يا أبت ويا أمه الحقا أخي محمدا فما تلحقانه إلا ميتا. قلت: وما قضيته، قال: بينا نحن قيام إذ أتاه رجل فاختطفه من وسطنا وعلا به ذروة الجبل ونحن ننظر إليه حتى شق صدره إلى عانته ولا أدري ما فعل به.
أقول: ولعل ضمرة هذا هو أخوه عبد الله المتقدم ذكره، لقب بذلك لخفة جسمه، ولا يخالف ذلك قوله الآتي إن أترابه الذين كانوا معه انطلقوا هربا مسرعين إلى الحي يؤذونهم ويستصرخونهم ولأنه يجوز أن يكون ضمرة سبقهم، والله أعلم.
قالت حليمة: فانطلقت أنا وأبوه نسعى سعيا فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل شاخصا ببصره إلى السماء يتبسم ويضحك فأكببت عليه وقبلته بين عينيه، وقلت له: فدتك نفسي، ما الذي دهاك؟ قال خيرا كذا بالنصب يا أماه، بينا أنا الساعة قائم إذ أتاني رهط ثلاثة بيد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الآخر طست من زمردة خضراء والزمردة بالضم والزاي المعجمة. الزبرجد، وهو معرب، فأخذوني وانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فأضجعوني على الجبل إضجاعا لطيفا، وفيه أن هذا يخالف قوله الآتي: «فأخذوني حتى أتوا شفير الوادي، فعمد أحدهم فأضجعني إلى الأرض ثم شق من صدري إلى عانتي» وسيأتي الجمع بينهما. وقوله: «ثم شق من صدري إلى عانتي» هو المراد ببطنه ففيما تقدم وما يأتي. قال: «وأنا أنظر إليه فلم أجد لذلك حسا ولا ألما» الحديث وفي هذه الرواية طيّ ذكر القلب وشقه أيضا.
أقول: ولا منافاة في تلك الرواية بين قولها فوجدناه قائما وبين قولها في هذه الرواية:
فإذا نحن به قاعدا على ذروة الجبل، لجواز أن تكون أرادت بقولها قائما كونه حيا وبكونه قاعدا كونه ماكثا، كما لا منافاة بين قولها في تلك الرواية منتقعا وجهه، وبين قولها في هذه الرواية يتبسم ويضحك، لأن ذلك لا ينافي الفزع: أو لجواز أن يكون تبسمه وضحكه تعجبا لما رأى من الحالة التي عليها أمه من التعب والشدة والله أعلم.
قال: وذكر ابن إسحاق أن حليمة لما قدمت به مكة لترده على أمه أي بعد شق صدره وقد بلغ أربع سنين أو خمسا أو ستا على ما تقدم أضلته في أعالي مكة فأتت جده عبد المطلب، فقالت: إني قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعالي مكة أضلني، فوالله ما أدري، أين هو؟ فقام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله أن يرده عليه. وفي مرآة الزمان أنه أنشد:
يا رب رد لي ولدي محمدا ** اردده ربي واصطنع عندي يدا
وسيأتي أن هذا البيت أنشده عبد المطلب حين بعث النبي ﷺ ليرد إبلا له ضلت.
وقد يقال: لا مانع من تكرر ذلك منه فسمع هاتفا من السماء يقول: أيها الناس لا تضجوا إن لمحمد ربا لن يخذله ولا يضيعه، فقال عبد المطلب: من لنا به، فقال: إنه بوادي تهامة عند الشجرة اليمنى، فركب عبد المطلب نحوه، وتبعه ورقة بن نوفل، وسيأتي بعض ترجمة ورقة، فوجداه قائما تحت شجرة يجذب غصنا من أغصانها، فقال له جده: من أنت يا غلام؟ فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال وأنا عبد المطلب جدك فدتك نفسي، واحتمله وعانقه وهو يبكي، ثم رجع إلى مكة وهو قدامه على قربوس فرسه، ونحر الشياه والبقر، وأطعم أهل مكة.
أقول: وقول جده له من أنت يا غلام؟ لعله لكونه وجده على حالة لا توجد لمن يكون في سنه عادة كما تقدم عن حليمة من قولها: كان يشب شبابا لا يشبه الغلمان.
وفي السيرة الهاشمية أن الذي وجده هو ورقة بن نوفل ورجل آخر من قريش، فأتيا به عبد المطلب: أي ويقال إن عمرو بن نفيل رآه وهو لا يعرفه، فقال له: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبد المطلب.
وفي كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} روي عن النبي ﷺ أنه قال: «ضللت عن جدي عبد المطلب وأنا صبي وصار ينشد وهو متعلق بأستار الكعبة
يا رب رد ولدي محمداالبيت، فجاء أبو جهل بين يديه على ناقة وقال لجدي ألا تدري ما وقع من ابنك؟ فسأله فقال: أنخت الناقة وأركبته من خلفي، فأبت أن تقوم، فأركبته من أمامي فقامت» ويحتاج إلى جمع على تقدير صحة كل مما ذكر.
وقد يقال: لا مانع من تعدد ذلك، ويدل لذلك أن بعض المفسرين قال في تفسير قوله تعالى: {ووجدك ضالا فهدى} قيل ضل عن حليمة مرضعته. وقيل ضل عن جده عبد المطلب وهو صغير.
قالت حليمة: فقالت أمه: ما أقدمك به يا ظئر، أي يا مرضعة؟ ولقد كنت حريصة عليه وعلى مكثه عندك. قلت: قد بلغ والله، وقضيت الذي عليّ وتخوفت عليه الأحداث فأديته إليك كما تحبين، فقالت: ما هذا شأنك فاصدقيني خبرك؟ قالت: فلم تدعني حتى أخبرتها، قالت: أفتخوفت عليه الشيطان؟ قلت نعم، قالت: كلا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإن لابني شأنا، أفلا أخبرك خبره؟ قلت بلى، قالت: رأيت حين حملت به أنه خرج مني نور أضاء له قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به فوالله ما رأيت: أي ما علمت من حمل قط كان أخف علي ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته إنه لواضع يده بالأرض رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة.
قال: وعن حليمة أنه مر عليها جماعة من اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا، حملته كذا ووضعته كذا، ورأيت كذا كما وصفت لها أمه: أي فإنها ذكرت لها ذلك مرتين عند دفعه لها وعند أخذه منها انتهى.
أقول: ولا ينافي ذلك قول آمنة لحليمة: أولا أخبرك خبره، وقول حليمة لها بلى، لجواز أن تكون أمه لم تكن متذكرة أنها أخبرتها بذلك قبل ذلك، وأن حليمة كذلك، أو جوّزت حليمة أنها تخبرها بزيادة عما أخبرتها به أولا، بناء على اتحاد ما أخبرتها به أولا وثانيا، والله أعلم.
قالت: ولما أخبرت أولئك اليهود بذلك قال بعضهم لبعض اقتلوه، فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت لا، هذا أبوه وأنا أمه، فقالوا لو كان يتيما قتلناه.
أقول: وهذا يدل على أن ما ذكرته أمه لحليمة من أنها حين حملت به خرج منها نور إلى آخر ما تقدم، وأن يكون لا أب له مذكورا في بعض الكتب القديمة أنه من علامة نبوة النبي المنتظر، والله أعلم.
قال: وعنها أنها نزلت به سوق عكاظ: أي وكان سوقا للجاهلية بين الطائف ونخلة المحل المعروف، كانت العرب إذا حجت أقامت بهذا السوق شهر شوال، فكانوا يتفاخرون فيه، وللمفاخرة فيه سمي عكاظ، يقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه في المفاخرة.
وفي كلام بعضهم كان سوق عكاظ لثقيف وقيس غيلان، فرآه كاهن من الكهان فقال يا أهل سوق عكاظ اقتلوا هذا الغلام فإن له ملكا، فزاغت: أي مالت به وحادت عن الطريق، فأنجاه الله تعالى: أي وفي الوفاء: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله ﷺ إلى عرّاف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال اقتلوا هذا الصبي، فانسلت حليمة به، فجعل الناس يقولون: أي صبي، فيقول هذا الصبي، فلا يرون شيئا، فيقال له ما هو؟ فيقول: رأيت غلاما والآلهة ليقتلنّ أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم فطلب فلم يوجد.
وعنها «رضي الله ع» أنها لما رجعت به مرت بذي المجاز: وهو سوق للجاهلية على فرسخ من عرفة: أي وهذا السوق قبله سوق يقال له سوق مجنة، كانت العرب تنتقل إليه بعد انفضاضهم من سوق عكاظ فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى هذا السوق الذي هو سوق ذي المجاز فتقيم به إلى أيام الحج، وكان بهذا السوق عراف: أي منجم يؤتى إليه بالصبيان ينظر إليهم، فلما نظر إلى رسول الله ﷺ أي نظر إلى خاتم النبوة وإلى الحمرة في عينيه صاح: يا معشر العرب اقتلوا هذا الصبي، فليقتلن أهل دينكم، وليكسرن أصنامكم، وليظهرن أمره عليكم، إن هذا لينظر أمرا من السماء، وجعل يغري بالنبي، فلم يلبث أن وله فذهب عقله حتى مات اهـ.
أي وفي السيرة الهاشمية أن نفرا نصاري من الحبشة رأوه مع أمه السعدية حين رجعت به إلى أمه بعد فطامه، فنظروا إليه وقلبوه: أي رأوا خاتم النبوة بين كتفيه وحمرة في عينيه، وقالوا لها هل يشتكي عينيه؟ قالت، لا ولكن هذه الحمرة لا تفارقه، ثم قالوا لها: لنأخذن هذا الغلام، فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا الغلام كائن لنا وله شأن، نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت به منهم وأتت به إلى أمه.
وعنه «واسترضعت في بني سعد، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بيد أحدهما طست من ذهب مملوءة ثلجا فأخذاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها، أي وقيل هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله» وفي رواية «فاستخرجا منه علقتين سوداوين» أي ولا مخالفة، لجواز أن تكون تلك العلقة انفلقت نصفين. وفي رواية «فاستخرجا منه مغمز الشيطان» أي وهو المعبر عنه في الرواية قبلها بحظ الشيطان.
ولا ينافي ذلك قوله في الرواية السابقة «ولا أدري ما هو» لجواز أن يكون إخباره بهذا بعد أن علمه، والمراد بمغمز الشيطان محل غمزه: أي محل ما يلقيه من الأمور التي لا تنبغي، لأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه فلم يبق فيه مكان لأن يلقى الشيطان فيه شيئا فلم يكن للشيطان فيه حظ، وليست هي محل غمزه عند ولادته كما يوهمه كلام غير واحد.
وفيه أن هذا يقتضي أن يكون قبل إزالة ذلك كان للشيطان عليه سبيل. أجاب السبكي بأنه لا يلزم من وجود القابل لما يلقيه الشيطان حصول الإلقاء، أي بالفعل فليتأمل.
وسئل السبكي رحمه الله تعالى: فلم خلق الله ذلك القابل في الذات الشريفة وكان من الممكن أن لا يخلقه الله فيها؟ وأجاب بأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقت تكملة للخلق الإنساني، ثم نزعت تكرمة له: أي وليظهر للخلق بذلك التكرمة ليتحققوا كمال باطنه كما تحققوا كمال ظاهره: أي لأنه لو خلق خاليا عنها لم تظهر تلك الكرامة.
وفيه أنه يرد على ذلك ولادته من غير قلفة. وأجيب بالفرق بينهما بأن القلفة لما كانت تزال ولا بد من كل أحد مع ما يلزم على إزالتها من كشف العورة كان نقص الخلقة الإنسانية عنها عين الكمال، وقد تقدم كل ذلك.
وذكر السهيلي رحمه الله ما يفيد أن هذه العلقة هي محل مغمز الشيطان عند الولادة حيث قال: إن عيسى "عليه الصلاة والسلام لما لم يخلق من منيّ الرجال وإنما خلق من نفخة روح القدس أعيذ من مغمز الشيطان.
قال: ولا يدل هذا على فضل عيسى "عليه الصلاة والسلام على محمد، لأن محمدا قد نزع منه ذلك الغمز هذا كلامه، وقد علمت أنه إنما هو محل ما يلقيه الشيطان من الأمور التي لا تنبغي، وأن ذلك مخلوق في كل واحد من الأنبياء عيسى "عليه الصلاة والسلام وغيره، ولم تنزع إلا من نبينا محمد. قال: «ثم غسلا قلبي بذلك الثلج» أي الذي في ذلك الطست «حتى أنقياه أي وملآه حكمة وإيمانا» كما في بعض الروايات: أي وفي رواية «ثم قال أحدهما لصاحبه ائتني بالسكينة، فأتى بها فذراها في قلبي» وهذه السكينة يحتمل أن تكون هي الحكمة والإيمان. ويحتمل أن تكون غيرهما وهذه الرواية فيها أن الطست كان من ذهب، وكذا في الرواية الآتية. وفي الرواية قبل هذه «كانت من زمردة خضراء» ويحتاج إلى الجمع وسنذكره في هذه الرواية وكذا الرواية الآتية أن الثلج كان في الطست. وفي الرواية قبل هذه «كان في يد أحدهما إبريق فضة » ويحتاج إلى الجمع لأن الواقعة لم تتعدد، وهو عند حليمة، وفي غسله بالثلج إشعار بثلج اليقين وبرده على الفؤاد، ذكره السهيلي رحمه الله.
وذكر في حكمة كون الطست من ذهب كلاما طويلا قال: «وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن» وفي الروايات السابقة طيّ ذكر الخاتم.
وتتمة الجواب الذي أجاب به أخا بني عامر التي وعدنا بذكرها هنا هو قوله: «وكنت مسترضعا في بني سعد، فبينا أنا ذات يوم منتبذا أي منفردا «من أهلي في بطن واد مع أتراب لي» أي المقاربين بالموحدة أو النون «لي في السن من الصبيان، إذ أتى رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هرابا حتى أتوا على شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا، ما أربكم؟ أي ما حاجتكم إلى هذا الغلام؟ فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مرتضع فينا، يتيم ليس له أب، فما يرد عليكم أن يفيدكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بد قاتلوه أي إن كان لا بدّ لكم من قتل واحد فاختاروا منا من شئتم فليأتكم مكانه، فاقتلوه ودعوا هذا الغلام فإنه يتيم، فلما رأى الصبيان أن القوم لا يجيبون جوابا انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحيّ يؤذنونهم» أي يعلمونهم «ويستصرخونهم على القوم، فعمد أحدهم إليّ فأضجعني على الأرض إضجاعا لطيفا، ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مسا» أي أدنى مشقة «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها» أي بالغ في غسلها «ثم أعادها مكانها» أي وقد طوى ذكر استخراج الأحشاء وغسلها في الروايات السابقة. ولا يخفى أن من جملة الأحشاء ظاهر القلب «ثم قال الثاني منهم لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي، فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه ثم أخرج منه مضغة سوداء» تقدم التعبير عنها بالعلقة السوداء «ثم رمى بها، ثم قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئا، وإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه فختم به قلبي» أي بعد التئام شقه «فامتلأ نورا وذلك نور النبوة والحكمة » وقد تقدم «وملآه حكمة وإيمانا» وإن السكينة ذرت فيه ثم أعاده مكانه فوجدت برد الخاتم في قلبي دهرا، وفي رواية «فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي».
أقول: نقل شيخ بعض مشايخنا الشيخ نجم الدين الغيطي عن مغازي بن عائذ في حديثه لأخي بني عامر «وأقبل أي الملك وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه» فليتأمل، وقوله «فصدعه» يدل بظاهره على أن صدعه كان بيد الملك، فلم يشقه بآلة، وحينئذ يكون المراد بالشق الصدع بلا آلة. وقد طوى في هذه الرواية ذكر ملء قلبه حكمة وإيمانا، وأنه ذرّ فيه السكينة. وذكر في هذه الرواية أن الختم كان لقلبه، وفي الرواية قبلها «أنه كان بين كتفيه» وفي رواية ابن عائذ «وبين ثدييه» ويحتاج إلى الجمع. والظاهر أن متعاطي الختم جبريل، ويدل عليه قول صاحب الهمزية رحمه الله في هذه القصة * ختمته يمنى الأمين. وسيأتي التصريح بذلك لكن في غير هذه القصة والله أعلم. قال: «ثم قال الثالث لصاحبه تنحّ عنه فنحاه عني فأمرّ يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله تعالى، وختم عليه» وفي رواية «قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه».
أقول: وقد يقال معنى خطه ألحمه، فخاطه «أي لحمه» أي مرّ بيده عليه فالتحم أي فلا يخالف ما سبق، ولا ينافيه ما في الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره، لجواز أن يكون المراد يرون أثرا كأثر المخيط في صدره وهو أثر مرور يد جبريل "عليه الصلاة والسلام، وهذا طوى ذكره في الروايات السابقة، وقوله ختم عليه يقتضي أن الختم كان في صدره وهو الموافق لما تقدم عن ابن عائذ أنه بين ثدييه لكنه زاد بين كتفيه، وتقدم أن الختم كان بقلبه.
وقد يقال في الجمع، لا مانع من تعدد الختم في المحال المذكورة أي في قلبه وصدره وبين كتفيه، فختم القلب لحفظ ما فيه، وختم الصدر وبين الكتفين مبالغة في حفظ ذلك لأن الصدر وعاؤه القريب، وجسده وعاؤه البعيد، وخص بين الكتفين لأنه أقرب إلى القلب من بقية الجسد، ولعله أولى من جواب القاضي عياض رحمه الله بأن الذي بين كتفيه هو أثر ذلك الختم الذي كان في صدره، إذ هو خلاف الظاهر من قوله: «وجعل الخاتم بين كتفيّ» وفيه السكوت عن ختم قلبه، ولا يحسن أن يراد بالصدر القلب من باب تسمية الحالّ باسم محله، لأنه يصير ساكتا عن ختم الصدر.
وأولى من جواب الحافظ ابن حجر رحمه الله أيضا بأنه يجوز أن يكون الختم لقلبه ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر، لأن القلب في ذلك الجانب لما علمت، وفيهما أن الذي عند الأيسر خاتم النبوة: أي الذي هو علامة على النبوة الذي ولد به على ما هو الصحيح.
وفي الخصائص الصغرى: وخص بجعل خاتم النبوة بظهره بإزاء قلبه حيث يدخل الشيطان لغيره وسائر الأنبياء كلهم كان الخاتم في يمينهم.
أي فقد أخرج الحاكم في المستدرك عن وهب بن منبه قال: «لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامات النبوة في يده اليمنى إلا نبينا فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» هذا كلامه، ولم أقف على بيان تلك الشامات التي كانت للأنبياء ما هي.
وكتب الشهاب القسطلاني على هامش الخصائص قوله: «وجعل خاتم النبوة بظهره الخ» مشكل إذ مفهومه أن موضع الدخول لقلوب الأنبياء غير نبينا لم يختم، ولا يخفى ما فيه من المحظور، فما أشنعها من عبارة وأخطأها من إشارة، هذا كلامه.
ولك أن تقول: المراد بغيره في قوله حيث يدخل الشيطان لغيره من غير الأنبياء، لما علم وتقرر في النفوس من عصمة الأنبياء من الشيطان واختص نبينا من بين سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالختم في المحل المذكور مبالغة في حفظه من الشيطان وقطع أطماعه فليتأمل.
لا يقال: كل من جواب القاضي والحافظ ابن حجر يجوز أن يكون مبنيا على أن خاتم النبوة هو أثر هذا الختم، وهو موافق لما تمسك به القائل بأن خاتم النبوة لم يولد به، وإنما حدث بعد الولادة.
لأَنا نقول: على تسليم أنه حدث بعد الولادة فقد وجد عقبها، فعن أبي نعيم في الدلائل أنه لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب على كتفه كالبيضة المكنونة، وبذلك يعلم أن خاتم النبوة ليس أثرا لهذا الخاتم.
وكلام السهيلي يقتضي أنه هو حيث قال: إن هذا الحديث الذي في شق صدره في الرضاعة فيه فائدة من تبيين العلم، وذلك أن خاتم النبوة لم يدر أنه خلق به أو وضع فيه بعد ما ولد، أو حين نبىء، فبين في هذا الحديث متى وضع وكيف وضع ومن وضعه زادنا الله تعالى علما، وأوزعنا شكر ما علم هذا كلامه.
ثم رأيت عن الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث قال: ومقتضى الأحاديث التي فيها شق الصدر ووضع الخاتم أنه لم يكن موجودا حين ولادته، وإنما كان أول وضعه لما شق صدره عند حليمة، خلافا لمن قال ولد به أو حين وضع هذا كلامه.
ولا يخفى أن ما قلناه من أن هذا الخاتم غير خاتم النبوة أولى، لأن به يجتمع القولان، وتندفع المخالفة. والجمع أولى من التضعيف، لما صح من أنه ولد به، وعلى أنه هو يلزم أن يكون خاتم النبوة تعدد محله، فوجد بين كتفيه وفي صدره وفي قلبه.
لا يقال: قد أشير إلى الجواب عن ذلك بأن الموجود بين كتفيه إنما هو أثر ما في صدره وقلبه.
لأنا نقول يبطله ما تقدم عن الدلائل لأبي نعيم، وما تقدم عن بعض الروايات «فأقبل الملك وفي يده خاتم فوضعه بين كتفيه وثدييه» وأيضا يلزم عليه أن يكون خاتم النبوّة تكرر الإتيان به ثانيا في قصة المبعث، وثالثا في قصة الإسراء. ففي قصة المبعث «فأكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري» وفي قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة » وكل منهما يبطل كون ما في ظهره أو بين كتفيه أثرا لذلك الختم الذي وجد في صدره أو قلبه.
إلا أن يقال ما في قصة المبعث وقصة الإسراء غير خاتم النبوّة وإن خاتم النبوة إنما هو الأثر الحاصل من ختم صدره وقلبه وفي قصة الرضاعة، وإنه تكرر الختم على ذلك الأثر في المبعث وفي قصة الإسراء، وفيه أنه لا معنى لتكرر الختم في محل واحد.
ولا يقال: الغرض منه المبالغة في الحفظ، لأن ذلك إنما يكون عند تعدد محل الختم لا عند إعادته ثانيا وثالثا في محل واحد. وأيضا هو خلاف ظاهر كلامهم من أنه في المحالّ الثلاثة خاتم النبوة، ويؤيده أن المتبادر من القول في قصة الإسراء «ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوّة » أنه جعل خاتم النبوة بين كتفيه، وإلا فما معنى كون الخاتم بمعنى الطابع: أي خاتم النبوّة.
فإن قلت: على دعوى الغيرية يحتاج إلى الجواب عن قوله بخاتم النبوّة. قلت: قد يقال هذا ليس برواية عن الشارع، وإنما وقعت تلك العبارة عن بعضهم. ويجوز أن يكون الباء في كلامهم بمعنى مع: أي مع خاتم النبوّة فتأمل، والله أعلم.
قال: «ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال الأول للذي شق صدري زنه بعشرين من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بمائة من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني فرجحتهم، ثم قال دعه فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم كلهم، ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني ثم قالوا يا حبيب الله لم ترع، إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك».
أقول في بعض الروايات «زنه بعشرة ثم قال زنه بمائة » ففي هذه الرواية طي ذكر وزنه بعشرين، وفي تلك الرواية طي ذكر وزنه بعشرة والله أعلم.
قال: قال رسول الله: «وبينا نحن كذلك إذا بالحي قد أقبلوا بحذافيرهم ـ أي بأجمعهم ـ وإذا بظئري ـ أي مرضعتي ـ أمام الحي تهتف ـ أي تصيح بأعلى صوتها ـ وتقول: واضعيفاه، فأكبوا عليّ ـ يعني الملائكة الذين هم أولئك الرهط الثلاثة ـ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عينيّ، وقالوا حبذا أنت من ضعيف، ثم قالت ظئري يا وحيداه، فأكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد، إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئري يا يتيماه استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فأكبوا عليّ وضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني وقالوا حبذا أنت من يتيم ما أكرمك على الله لو تعلم ما أريد بك من الخير لقرّت عينك، فوصلوا يعني الحي إلى شفير الوادي: فلما أبصرتني أمي وهي ظئري قالت: لا أراك إلا حيا بعد، فجاءت حتى أكبت عليّ ثم ضمتني إلى صدرها فوالذي نفسي بيده إني لفي حجرها قد ضمتني إليها ويدي في أيديهم يعني الملائكة، وجعل القوم لا يعرفونهم ـ أي لا يبصرونهم ـ فأقبل بعض القوم يقول إن هذا الغلام قد أصابه لمم: أي طرف من الجنون أو طائف من الجن أي وهي اللمة فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه، فقلت يا هذا ما بي مما تذكر، إن آرابي أي أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس بي قلبة أي علة يقلب بها إلى من ينظر فيها، فقال أبي وهو زوج ظئري: ألا ترون كلامه صحيحا إني لأرجو أن لا يكون بابني بأس، واتفقوا على أن يذهبوا بي إليه: أي إلى الكاهن، فلما انصرفوا بي إليه فقصوا عليه قصتي، فقال اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني فقصصت عليه أمري من أوّله إلى آخره فوثب قائما إلي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب يا للعرب من شرّ قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه فأدرك مدرك الرجال ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم وليخالفن أمركم وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله» وفي رواية «ليسفهن أحلامكم أي عقولكم وليكذبن أوثانكم وليدعونكم إلى رب لم تعرفونه ودين تنكرونه فعمدت ظئري وانتزعتني من حجره وقالت لأنت أعته وأجن ولو علمت أن هذا قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فأنا غير قاتلي هذا الغلام ثم احتملوني إلى أهلهم وأصبحت مفزعا مما فعلوا، يعني الملائكة بي» أي من حملي من بين أترابي وإلقائي إلى الأرض، لا من خصوص الشق لما تقدم «وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي أي» أثر التئام الشق الناشىء عن إمرار يد الملك كأنه الشراك اهـ.
أقول: الشراك أحد سيور النعل الذي هو المداس الذي يكون على وجههنا، ولعل حكمة بقائه ليدل على وجود الشق.
واعلم أنه حيث كانت قصة شق صدره الشريف في زمن الرضاع عند حليمة واحدة يكون هذه الروايات المراد منها واحد، وأن بعضها وقع فيها الاختصار عما وقعت به الإطالة في بعضها، وأن إخباره بأن الملائكة كانوا ثلاثة لا ينافي إخباره بأنهم كانوا اثنين، ونسبة الأخذ والإضجاع والشق للبطن أو الصدر إلى الثلاثة أو إلى الاثنين، لا ينافي أن متعاطي ذلك واحد منهم كما أخبر به أخوه، وجاء التصريح به في بعض الروايات، وأن التعبير في بعضها بشق البطن هو المراد بشق الصدر إلى منتهى العانة في بعضها، وأنه ليس المراد بشق البطن أو شق الصدر شق القلب، لما تقدم في الرواية «واستخرج أحشاء بطني ثم غسلها ثم أعادها مكانها، ثم قال لصاحبه تنح عنه، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي فصدعه الحديث» وأنه يجوز أن يكون الطست كان متعددا واحدا من زمردة خضراء وواحدا من ذهب، وأن الأول كان فارغا معدا لأن يلقى فيه ماء يغسل به باطنه أي مع أحشائه ومنها أي من جملة الأحشاء ظاهر قلبه من الإبريق الفضة وأن الثاني كان مملوءا ثلجا معدا لأن يغسل به قلبه: أي داخل قلبه.
وحينئذ يكون في بعض الروايات اقتصر على القلب، وفي بعضها جمع بينه وبين الأحشاء في ذلك ويحتاج إلى الجمع بين كون الشق في ذروة الجبل وكونه في شفير الوادي، وكون المخرج علقة وكونه مضغة.
وقد يقال جاز أن تكون ذروة الجبل قريبة من شفير الوادي، وأنه عبر عن الذي أخرجه وألقاه تارة بالعلقة وتارة بالمضغة، ولعل تلك المضغة كانت قريبة من العلقة ولا يخفى أن هذه العلقة يحتمل أنها غير حبة القلب التي أخذت منها المحبة وهي علقة سوداء في صميمه المسماة بسويداء القلب.
ويحتمل أنها هي والله أعلم، وقد أشار إلى هذه القصة صاحب الهمزية بقوله:
وأتت جده وقد فصلته ** وبها من فصاله البرحاء
إذ أحاطت به ملائكة الله ** فظنت بأنهم قرناء
ورأى وجدها به ومن الوجـ ** ـد لهيب تصلى به الأحشاء
فارقته كرها وكان لديها ** ثاويا لا يمل منه الثواء
شق عن قلبه وأخرج منه ** مضغة عند غسله سوداء
ختمته يمنى الأمين وقد أو ** دع ما لم يذع له أنباء
صان أسراره الختام فلا الفـ ** ـض ملمّ به ولا الإفضاء
أي وأتت حليمة به جده والحال أنها فطمته والحال أنه لحق بها من أجل فطامه، ورده التألم الزائد، وردها له لأجل أنه أحدقت به ملائكة الله فظنتهم شياطين، ورأى شدة محبتها له وتعلقها به، وقد حصل لها من الوجد الذي بها لهب تحترق الأحشاء به، وهي ما تحويه الضلوع، وفارقته بعد رد هاله كارهة لفراقه والحال أنه كان مقيما عندها لا تملّ ذلك منه، وقد شق عن قلبه وأخرج من ذلك القلب عند غسله مضغة سوداء ختمت على ذلك القلب يمين الأمين جبريل بخاتم، والحال أن ذلك القلب الشريف قد أودع من الأسرار الإلهية ما لم تنشره أخبار، لأن تلك الأسرار لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، حفظ ذلك الختام أسراره التي أودعت فيه، فلا الكسر واقع بذلك الختم ولا الإشاعة واقعة لتلك الأسرار.
أقول: قد علمت أن صدره الشريف شق مرّتين غير هذه المرة: مرّة عند مجيء الوحي، ومرّة عند المعراج: وزاد بعضهم أنه شق عند بلوغه عشر سنين كما في مسلم.
ولما بلغ عمره عشرين سنة: أي ولعلها هي المعنية بقول صاحب المواهب وروي خامسة ولم تثبت وستأتي تلك الخامسة عن الدرّ المنثور، وسيأتي ما فيها والله أعلم.
قال: وفي المرة التي كان ابن عشر سنين: أي وأشهر قال: «جاءني رجلان، فقال أحدهما لصاحبه أضجعه فأضجعني لحلاوة القفا، ثم شقا بطني فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب، والآخر يغسل جوفي، ثم شق قلبي فقال أخرج الغل والحسد منه، فأخرج منه العلقة ».
والمتبادر أن أل في العلقة للعهد، وهي العلقة السوداء، التي تقدم أنها حظ الشيطان وأنها مغمزة فهي محل الغلّ والحسد.
وفيه أنه تقدم أيضا أن تلك العلقة أخرجت وألقيت قبل هذه المرة وتكرر نبذها مستحيل إلا أن تحمل العلقة على جزء بقي من أجزائها بناء على جواز أنها تجزأت أكثر من جزئين، المعبر عنهما فيما تقدم عن بعض الروايات علقتين سوداوين، إلا أن يقال المراد بقوله فأخرج منه العلقة أي أخرج ما هو كالعلقة: أي شيئا يشبه العلقة كما سيأتي التصريح بذلك في بعض الروايات «فأدخل شيئا كهيئة الفضة، ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه أي على شق القلب ليلتحم به ثم نقر إبهامي ثم قال اغد واسلم».
أقول: لم يذكر في هذه المرة الختم. وظاهر هذه الرواية أن الصدر التحم بمجرد ذر الذرور. وتقدم في قصة الرضاع أن ذلك كان من إمرار يد الملك واستمر أثر التئام الشق يشاهد كالشراك.
وفي الدر المنثور عن زوائد مسند الإمام أحمد عن أبي بن كعب، عن أبي هريرة قال: «يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوّة؟ فاستوى رسول الله ﷺ جالسا وقال: لقد سألت يا أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر، إذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل أهو هو، فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأخذهما مسا فقال أحدهما لصاحبه أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر» أي من غير إتعاب «فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغلّ والحسد فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج» أي ليدخله شبه الفضة «ثم نقر إبهام رجلي اليمنى وقال اغد واسلم فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير» ولم يذكر في هذه المرة الغسل فضلا عما يغسل به، ولم يذكر الختم، ولكن قول الرجل للآخر أهو هو يدل على أن الرجلين ليسا جبريل وميكائيل لأنهما يعرفانه، وقد فعلا به ذلك في قصة الرضاع. وقد يدعي أن هذه الرواية هي عين الرواية قبلها، وذكر عشرين سنة غلط من الراوي، وإنما هي عشر سنين.
ثم رأيت ما يصرح بذلك وهو كان سنه عشر حجج، وقد تحمل هذه المرة أي كونه ابن عشرين سنة، على أن ذلك كان في المنام وإن كان خلاف ظاهر السياق.
وقال في المرة التي هي عند ابتداء الوحي: «جاءني جبريل وميكائيل فأخذني جبريل وألقاني لحلاوة القفا، ثم شق عن قلبي فاستخرجه، ثم استخرج منه ما شاء الله أن يستخرج» ولم يبين ذلك ما هو «ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه: أي بذلك الذرور: أي بإمرار يده أو بهما جميعا ثم أكفأني كما يكفى الإناء ثم ختم في ظهري».
يحتمل أن يكون المراد في غير المحل الذي ختمه في قصة الرضاع وهو بين كتفيه. ويحتمل أن المراد بظهره المحل الذي ختمه في قصة الرضاع.
وفيه أنه لا معنى لوضع الختم على الختم كما تقدم ويمكن أن تكون الحكمة في الجمع بين جبريل وميكائيل أن ميكائيل ملك الرزق الذي به حياة الأجساد والأشباح، وجبريل ملك الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، والمرة التي هي عند المعراج سيأتي الكلام عليها. وفيها أن الختم وقع بين كتفيه وفيه ما علمت.
وقد علمت أن شق الصدر والبطن غير شق القلب، وأن شق القلب وإخراج العلقة السوداء التي هي حظ الشيطان ومغمزه مما اختص به عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وما في بعض الآثار أن التابوت أي تابوت بني إسرائيل كان فيه الطست الذي غسلت فيه قلوب الأنبياء المراد ظاهر قلوبهم، لأن القلب من جملة الأحشاء التي غسلت بغسل الصدر أو البطن كما تقدم على أن ابن دحية ذكر أنه أثر باطل.
وقد يطلق الصدر على القلب من باب تسمية الحال باسم محل. ومنه ما وقع في قصة المعراج «ثم أتى بطست ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغ في صدره» ومنه قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: إن شق صدره الشريف من خصائصه على الأصح من القولين: أي شق قلبه. وسيأتي الكلام على ذلك في الكلام على المعراج بما هو أبسط مما هنا.
وعن حليمة «رضي الله ع»: أنها كانت بعد رجوعها به من مكة لا تدعه أن يذهب مكانا بعيدا: أي عنها، فغفلت عنه يوما في الظهيرة فخرجت تطلبه فوجدته مع أخته أي من الرضاعة وهي الشيماء، وكانت تحضنه مع أمها أي ولذلك تدعى أمّ النبي أيضا ( ) أي وكانت ترقصه بقولها:
هذا أخ لي لم تلده أمي ** وليس من نسل أبي وعمي
أنمه اللهم فيما تنمي فقالت في هذا الحر: أي لا ينبغي أن يكون في هذا الحر، فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظلّ عليه، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع، فجعلت تقول: أحقا يا بنية؟ قالت: إي والله، فجعلت تقول: أعوذ بالله من شرّ ما يحذر على ابني: أي وفي كلام بعضهم: ورأت يعني حليمة الغمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت.
وقد يقال الرؤية في حق حليمة علمية، وفي حق أخته بصرية فلا مخالفة، أو أنها أبصرتها بعد الإخبار بها كما يدل على ذلك القول بأنه أفزعها ذلك من أمره أي وفي كونها فزعت من ذلك بعد إخبار أخته لها بذلك شيء، فقدمت به على أمه.
أقول: عن الواقدي أن حليمة لما قدمت به إلى مكة لترده لأمه رأت غمامة تظله في الطريق، إن سار سارت، وإن وقف وقفت. وسياق هذه الرواية يقتضي أنها ردته إلى أمه عقب مجيئها به من مكة، وأن ذلك كان قبل شقّ صدره عندها.
وحينئذ تكون هذه قدمة ثانية لحليمة إلى مكة كانت قبل شق صدره، ففي القدمة الأولى كان سنه سنتين، وفي هذه القدمة كان سنه سنتين وأشهرا وتكون هذه المرة الثانية محمل قول حليمة: فوالله إنه بعد مقدمنا بأشهر. وقول ابن الأثير بشهرين أو ثلاثة.
وأما في القدمة الثالثة وهي التي بعد شق صدره وتركها له عند أمه كان سنه أربع سنين، وفيها كانت وفاتها على ما يأتي، وقيل خمس سنين قاله ابن عباس، وقيل ست سنين، ويكون بعض الرواة اشتبه عليه الأمر، وظن أن هذه القدمة الثانية التي قبل شق صدره هي الثالثة التي بعد شق صدره فلزم الإشكال، فتأمل ذلك تأملا حميدا، ولا تكن ممن يفهم تقليدا، والله أعلم.
ووفدت عليه حليمة بعد تزوجه خديجة تشكو إليه ضيق العيش، فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسا من غنم وبكرات، جمع بكرة: وهي الثنية من الإبل: أي وفي رواية أربعين شاة وبعيرا اهـ.
ووفدت عليه يوم حنين فبسط لها رداءه فجلست عليه، أي فقد قال بعضهم: لم تره بعد أن ردته إلا مرتين: إحداهما بعد تزوّجه خديجة: أي وعليه تكون هذه المرة هي التي قدمت فيها مع زوجها وولدها وأجلسهم على ردائه أي ثوبه الذي كان جالسا عليه كما تقدم، والمرة الثانية يوم حنين.
وفي كلام القاضي عياض: ثم جاءت أبا بكر ففعل ذلك: أي بسط لها رداءه، ثم جاءت عمر ففعل كذلك ().
وفي كلام ابن كثير أن حديث مجيء أمه إليه في حنين غريب وإن كان محفوظا، فقد عمرت دهرا طويلا لأن من وقت أرضعت رسول الله ﷺ إلى وقت الجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين أزيد من ستين سنة. وأقل ما كان عمرها حين أرضعته "عليه الصلاة والسلام ثلاثين سنة وكونها وفدت على أبي بكر وعمر «رضي الله ع» تزيد المدة على المائة.
وعن أبي الطفيل قال: «رأيت رسول الله ﷺ يقسم لحما بالجعرانة: أي بعد رجوعه من حنين، كما تقدم، والطائف وأنا غلام شاب فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله ﷺ بسط لها رداءه، فقيل: من هذه؟ قيل: أمه التي أرضعته » وفي رواية «استأذنت امرأة على النبي ﷺ قد كانت ترضعه، فلما دخلت عليه قال: أمي أمي وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه» اهـ. وتقدم عن شرح الهمزية لابن حجر أن من سعادة حليمة توفيقها للإسلام هي وزوجها وبنوها.
وفي الأصل ومن الناس من ينكر إسلامها، وأشار بذلك إلى شيخه الحافظ الدمياطي فإنه من جملة المنكرين حيث قال: أي في سيرته: حليمة لا يعرف لها صحبة ولا إسلام، وقد وهم غير واحد فذكروها في الصحابة وليس بشيء، وكان الأنسب أن يقول ذكروا إسلامها وليس بشيء ويوافقه قول الحافظ ابن كثير الظاهر أن حليمة لم تدرك البعثة. ورده بعضهم فقال: إسلامها لا شك فيه عند جماهير العلماء، ولا يعول على قول بعض المتأخرين إنه لم يثبت. فقد روى ابن حبان حديثا صحيحا دل على إسلامها، وأنكر الحافظ الدمياطي وفودها عليها في حنين وقال: الوافدة عليه في ذلك إنما هي أخته من الرضاعة وهي الشيماء.
أقول: وعلى صحة ما قاله الحافظ الدمياطي لا ينافيه قوله: «أمي أمي» لأنه كان يقال لأخته الشيماء أم النبي، لأنها كانت تحضنه مع أمها كما تقدم، ولا قول بعض الصحابة أمه التي أرضعته، لأنه يجوز أنه لما قيل أمه حملها على المرضعة له لتيقن موت أمه من النسب. وعلى كون الوافدة عليه في حنين أخته اقتصر في الهدى والله أعلم.
أقول: قال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد عدة آثار في مجيء أمه من الرضاعة إليه في حنين، وفي تعدد هذه الطرق ما يقتضي أن لها أصلا أصيلا، وفي اتفاق الطرق على أنها أمه رد على من زعم أن التي قدمت عليه أخته اهـ.
أقول: لا رد في ذلك، لأنه علم أن أخته المذكورة كان يقال لها أم النبي، ووصف بعض الصحابة لها بأنها أمه من الرضاعة تقدم أنه يجوز أن يكون بحسب ما فهم.
ومما يعين أنها أخته ما سيأتي أنها لما أخذت في حنين من جملة سبي هوازن قالت للمسلمين: أنا أخت صاحبكم، فلما قدموا على رسول الله ﷺ قالت له: يا رسول الله أنا أختك، قال: وما علامة ذلك، قالت عضة عضيتنيها في ظهري وأنا متوركتك فعرف رسول الله ﷺ العلامة، فقام لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت عيناه إلى آخر ما يأتي.
وكلام المواهب يقتضي أنهما قضيتان: واحدة كانت فيها أخته، والأخرى كانت فيها أمه من الرضاعة حيث قال: «وقد روي أن خيلا له أغارت على هوازن، فأخذوها يعني أخته من الرضاعة التي هي الشيماء، فقالت أنا أخت صاحبكم إلى أن قال فبسط لها رداءه وأجلسها عليه فأسلمت» ثم قال: وجاءته يعني أمه من الرضاعة التي هي حليمة يوم حنين فقام إليها وبسط رداءه لها وجلست عليه.
وهذا كما ترى يوهم أن الخيل التي أغارت على هوازن التي كانت فيها أخته لم تكن في حنين، وأن أمه لم تكن يوم حنين في سبي هوازن مع أن القصة واحدة، وأن سبي هوازن كان يوم حنين. فيلزم أن يكون جاء إليه يوم حنين كل من أمه وأخته من الرضاعة الأولى في غير السبي والثانية في السبي. وأنه فرش لكل رداءه، وهو تابع في ذلك لابن عبد البر حيث قال في الاستيعاب: حليمة السعدية أم النبي ﷺ من الرضاعة جاءت إليه يوم حنين، فقام لها وبسط لها رداءه فجلست عليه وروت عنه: وروى عنها عبد الله بن جعفر، ثم قال حذافة أخت النبي ﷺ من الرضاعة يقال لها الشيماء، أغارت خيل رسول الله ﷺ على هوازن، فأخذوها فيما أخذوا من السبي الحديث، وكون عبد الله بن جعفر روى عن حليمة.
قال الحافظ ابن حجر: لا يتهيأ له السماع منها إلا بعد الهجرة بسبع سنين فأكثر، لأنه قدم من الحبشة مع أبيه الذي هو جعفر بن أبي طالب في خيبر سنة سبع، وتبعد حياتها وبقاؤها إلى ذلك الزمن.
وفيه أن حنينا بعد خيبر، وأبعد من ذلك وقوفها على أبي بكر وعمر، وقد تقدم ما يشعر باستبعاد ذلك عن ابن كثير.
والذي يتجه أن الوافدة عليه في حنين أخته لا أمه كما يقول الحافظ الدمياطي، والله أعلم. قال: قال أبو الفرج بن الجوزي: ثم قدمت، أي حليمة، عليه بعد النبوة فأسلمت وبايعت أي فلا يقال: سلمنا أن حليمة هي القادمة عليه: أي بعد النبوة، فما الدليل على إسلامها اهـ.
أقول: كان من حقه أن يقول بدل هذه العبارة التي ذكرها وإنما قال يعني ابن الجوزي فأسلمت بعد قوله قدمت عليه بعد النبوة لأنه لا يلزم من قدومها عليه بعد النبوة إسلامها. وفي كون قول ابن الجوزي فأسلمت دليلا على إسلامها نظر، بل هي دعوى تحتاج إلى دليل، إلا أن يقال: قول ابن الجوزي فأسلمت دليل لنا على إسلامها: والله أعلم.
وذكر الذهبي أن التي وفدت عليه في الجعرانة يجوز أن تكون ثويبة، ونظر فيه بأن ثويبة توفت سنة سبع: أي من الهجرة أي مرجعه من خيبر على ما تقدم.
أقول ذكر في النور أن الحافظ مغلطاي له مؤلف في إسلام حليمة سماه: التحفة الجسيمة في إسلام حليمة.
وذكر بعضهم أنه لم ترضعه مرضعة إلا وأسلمت، لكن هذا البعض قال: ومرضعاته أربع: أمه وحليمة السعدية وثويبة وأم أيمن أيضا.
وهو يؤيد ما تقدم عن ابن منده من إسلام ثويبة: وأما إسلام أمنة فسنذكره، وكون أم أيمن أرضعته تقدم ما فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.