→ سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل | السيرة الحلبية سرية الخبط علي بن برهان الدين الحلبي |
سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب ← |
وهو ورق السمر
بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة رجل من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب «رضي الله ع» إلى حي من جهينة في ساحل البحر، وقيل ليرصدوا عيرا لقريش، أي وعليه فتكون هذه السرية قبل الهدنة الواقعة في الحديبية، لما تقدم أنه بعد الهدنة لم يكن يرصد عيرا لقريش إلى الفتح، وتعدد سرية الخبط بعيد، فلا يقال يجوز أن تكون سرية الخبط مرتين: مرة قبل الهدنة، ومرة بعدها، ومن ثم حكم على هذا القول بأنه وهم. فأقاموا بالساحل نصف شهر، فأصابهم جوع شديد حتى أكلوا الخبط: أي كانوا يبلونه بالماء ويأكلونه حتى تقرحت أشداقهم. فإن أبا عبيدة «رضي الله ع» كان يعطي الواحد منهم في اليوم والليلة تمرة واحدة يمصها ثم يصرها في ثوبه.
أي وعن الزبير «رضي الله ع» أنه قيل له: كيف كنتم تصنعون بالتمرة؟ قال: نمصها كما يمص الصبي ثدي أمه، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، لأنه زوّدهم جرابا من تمر، فجعل أبو عبيدة «رضي الله ع» يقوتهم إياه، حتى صار يعدّه لهم عدا، حتى كان يعطي الواحد تمرة كل يوم ثم بعد التمر أكلوا الخبط.
ولما رأى قيس بن سعد بن عبادة «رضي الله ع» ما بالمسلمين من جهد الجوع أي مشقته، أي وقال قائلهم: والله لو لقينا عدّو ما كان منا حركة إليه لما بالناس من الجهد، قال: من يشتري مني تمرا أوفيه له في المدينة بجزر يوفيها إليّ ههنا؟ فقال له رجل من أهل الساحل: أنا أفعل، لكن والله ما أعرفك، فمن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة، فقال الرجل: ما أعرفني بسعد، إن بيني وبين سعد خلة سيد أهل يثرب، فاشترى خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر. والوسق: بفتح الواو وكسرها ستون صاعا، وجمع الأوّل أوسق، والثاني أوساق، فقال له الرجل: أشهد لي، فقال أشهد من تحب، فأشهد نفرا من المهاجرين والأنصار من جملتهم عمر بن الخطاب «رضي الله ع».
وقيل إن عمر «رضي الله ع» امتنع من أن يشهد، وقال: هذا يدّان ولا مال له إنما المال لأبيه. فقال الرجل: والله ما كان سعد ليخني بابنه، أي لا يوفي عن ابنه ما التزمه، فكان بين قيس وعمر كلام حتى أغلظ له قيس الكلام، وأخذ قيس «رضي الله ع» الجزر فنحر لهم منها ثلاثة في ثلاثة أيام، وأراد أن ينحر لهم في اليوم الرابع، فنهاه أبو عبيدة وقال له: عزمت عليك أن لا تنحر، أتريد أن تخفر ذمتك، أي لا يوفى لك بما التزمت ولا مال لك. فقال له قيس «رضي الله ع»: أترى أبا ثابت، يعني والده سعدا يقضي ديون الناس ويطعم في المجاعة ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله؟
وفي البخاري أن قيسا «رضي الله ع» نحر لهم تسع جزائر كل يوم ثلاثا، ثم نهاه أبو عبيدة.
أي ومما يؤيد ما ذكر من أن الجزر كانت خمسة، وأنه نحر لهم ثلاثة أيام كل يوم جزروا ما جاء في بعض الروايات أنه بقي معه جزوران قدم بهما المدينة يتعاقبون عليهما فلينظر الجمع.
ثم إنّ البحر ألقى لهم دابة هائلة يقال لها العنبر بحيث إن أبا عبيدة «رضي الله ع» نصب لهم ضلعا من أضلاعها. وفي لفظ: من أضلاعه ومرّ تحته أطول رجل في القوم: أي وهو قيس بن سعد بن عبادة راكبا على أطول بعير لم يطأطىء رأسه.
وعن جابر «رضي الله ع»، أنه قال: دخلت أنا وفلان وفلان وعدّ خمسة نفر عينها ما رآنا أحد. أي وفي لفظ. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها، فأكلوا منها أياما: أي نحو شهر وكانوا ثلاثمائة.
فعن بعضهم: لما تقرّحت أشداقنا من الخبط انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة «رضي الله ع»: ميتة، ثم قال: اضطررتم فكلوا، فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال.
وفي رواية: فأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك، وصحبوا من لحمها إلى المدينة، أي وقيل لها العنبر لأنها تبتلع العنبر.
فعن إمامنا الشافعي «رضي الله ع». قال: سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله، وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من جوفها.
وقيل العنبر اسم لسمكة مخصوصة في البحر هائلة الخلقة طولا وعرضا، وقد أخبرني بعض السفار أن جملا مات على شاطىء البحر، فألقي في البحر، فابتلعته سمكة، فوقفت أخفاف يديه في حلقها، فجاءت سمكة فابتلعت تلك السمكة.
وفي زمن الحاكم بأمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع وعرضها مائة وستون ذراعا، وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم، وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة أشهر.
ولما بلغ سعد بن عبادة ما حصل للمسلمين من المجاعة قبل قدومهم قال: إن يكن قيس، يعني ولده كما أعهد فلينحر للقوم. فلما قدم قيس قال له سعد: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت، قال أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال: أصبت، قال: ثم ماذا؟ قال: نحرت، قال أصبت، ثم قال ماذا؟ قال: ثم نهيت، قال: ومن نهاك؟ قال أميري أبو عبيدة، قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، إنما المال لأبيك، فقلت له: أبي يقضي عن الأباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع هذا لي؟ فلان لموافقتي، فأبى عليه عمر بن الخطاب إلا التصميم على المنع، فقال سعد لولده قيس ذاك أربع حوائط، أي بساتين، أدناها ما يتحصل منه خمسون وسقا. ثم إن قيسا «رضي الله ع» وفى الرجل صاحب الجزر، وحمله: أي أعطاه ما يركبه، وكساه، فبلغ النبي ﷺ ما فعل قيس، قال: إنه في بيت جود. إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت.
أي ومن ثم قال بعضهم: لم يكن في الأوس والخزرج مطعمون يتوالدون في بيت واحد إلا قيس وأبوه سعد وأبوه عبادة وأبوه دليم، كان في كل يوم يقف شخص على أطم ينادي: من يريد الشحم واللحم فعليه بدار أبي دليم.
أي وكان أصحاب الصفّة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين والرجل بالجماعة، وأما سعد فينطلق بالثمانين.
وعن سعد بن عبادة: «زارنا النبي ﷺ في منزلنا فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم قال: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة».
قال: ويذكر أن سعدا جاء إلى النبي، فقال: من عذيري من ابن الخطاب يبخل عليّ ابني، اهـ.
ويذكر عن سعد بن عبادة أنه كان شديد الغيرة، لم يتزوج إلا بكرا، وما طلق امرأة وقدر أحد أن يتزوجها.
وعن جابر «رضي الله ع»: فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله ﷺ أمر العنبر، فقال: رزق أخرجه الله تعالى لكم، لعل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه فأكله أي ولم يكن أروح، بدليل أنه قال: لو نعلم أنا ندركه لم يروّح لأحببنا لو كان عندنا منه، قال ذلك ازديادا منه.