→ باب بدء الأذان ومشروعيته أي والإقامة ومشروعيتها | السيرة الحلبية باب ذكر مغازيه علي بن برهان الدين الحلبي |
غزوة بواط ← |
ذكر أن مغازيه: أي وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعا وعشرين، أي وهي: غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة سفوان، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة السويق، ثم غزوة قريرة الكدر، ثم غزوة غظفان وهي غزوة ذى أمر، ثم غزوة نجران بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوت ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني تغلبة، ثم غزوة بدر الآخرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق ويقال لها المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد ويقال لها قرد بضمتين. وهي في اللغة: الصوف الرديء، ثم غزوة حنين، ثم غزوة وادي القرى، ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين والطائف، ثم غزوة تبوك.
والتي وقع فيها القتال من تلك الغزوات: أي وقع القتال فيها من أصحابه وهو المراد بقول بعضهم كالأصل التي قاتل فيها رسول الله ﷺ تسع، وهي: غزوة بدر الكبرى وأحد والمريسيع؛ أعني بني المصطلق والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف، أي وبعضهم أسقط فتح مكة. قال النووي رحمه الله: ولعل مذهبه أنها فتحت صلحا كما قال إمامنا الشافعي وموافقوه، أي فيصح بيع دورها وإجارتها، واستدل لذلك بأنها لو كانت فتحت عنوة لقسمها بين الغانمين، وسيأتي الجمع بأن أسفلها فتح عنوة، أي لوقوع القتال فيه من خالد بن الوليد مع المشركين؛ وأعلاها فتح صلحا لعدم وجود القتال فيه.
وفي الهدي: من تأمل الأحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور إنها فتحت عنوة: أي لوقوع القتال بها.
ومما يدل على ذ لك أنه لم يصالح أهلها عليها، وإلا لم يحتج إلى قوله «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن إلى الخ» وإنما لم يقسمها لأنها دار المناسك، فكل مسلم له فيها حق.
أقول: هذا واضح في غير دورها، وسيأتي الجواب عن ذلك، وبما قررناه يعلم أن قول المواهب قاتل في تسع بنفسه، فيه نظر ظاهر، لأنه لم يقاتل بنفسه في شيء من تلك الغزوات إلا في أحد كما سيأتي، وكأنه اغتر في ذلك بقول بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول الله، وقد علمت المراد منه والله أعلم.
ولا يخفى أنه مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال، صابرا على شدة أذية العرب بمكة، واليهود بالمدينة له ولأصحابه لأمر الله تعالى له بذلك: أي بالإنذار والصبر على الأذى والكف بقوله (وأعرض عنهم) وبقوله (واصبر) ووعده بالفتح، أي فكان يأتيه أصحابه بمكة ما بين مضروب ومشجوج فيقول لهم «اصبروا، فإني لم أومر بالقتال» لأنهم كانوا بمكة شرذمة قليلة. ثم لما استقر أمره: أي بعد الهجرة وكثرت أتباعه، وشأنهم أن يقدموا محبته على محبة آبائهم وأبنائهم وأزواجهم، وأصرّ المشركون على الكفر والتكذيب أذن الله تعالى لنبيه أي ولأصحابه في القتال، أي وذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة، لكن لمن قاتلهم وابتدأهم به بقوله {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} قال بعضهم: ولم يوجبه بقوله تعالى {أذن للذين يقاتلون} أي للمؤمنين أن يقاتلوا {بأنهم ظلموا} أي بسبب أنهم ظلموا {وإن الله على نصرهم لقدير}، أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم.
وذكر في سبب نزول قوله تعالى {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} الآية «أن جماعة منهم عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا بمكة، فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فأذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم، فإني لم أومر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم وشق عليه ذلك، فأنزل الله تعالى الآية».
لا يقال: يدل لما تقدم من أنه قاتل بنفسه في تلك الغزوات ما جاء عن بعض الصحابة «كنا إذا لقينا كتيبة أو جئنا أول من يضرب النبي » لأني أقول لا يبعد أن يكون المراد بالضرب السير في الأرض: أي أول من يسير إلى تلقاء العدو. ويؤيده ما جاء عن عليّ «رضي الله ع» «لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله، وكان أشد الناس بأسا، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه ».
وفي رواية «كنا إذا حمي البأس والتقى القوم بالقوم اتقينا رسول الله، أي كان وقاية لنا من العدوّ.
وقد نقل إجماع المسلمين على أنه لم يروِ أحد قط أنه انهزم بنفسه في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته في جميع المواطن.
لا يقال: سيأتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزوٍّ لأحد أنه قاتل بنفسه قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر «رضي الله ع» وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء، فقاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين وأيضا سيأتي في خيبر ما قد يدل على أنه قاتل بنفسه.
لأنا نقول: سيأتي ما في ذلك مما يدل على أنه لم يباشر القتال إلا في أحد كما سيأتي، ولم تقاتل معه الملائكة إلا في بدر وإلا في حنين. قيل وأحد، وسيأتي ما في ذلك، ولم يرم بالحصباء في وجوه العدوّ في شيء من الغزوات إلا في هذه الثلاثة على خلاف في الثلاثة، أي ولم يجرح أي لم يصبه جراحة في غزوة من الغزوات إلا في أحد، ولم ينصب المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، وسيأتي الجمع بينهما، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب.
ثم لا يخفى أن الآية المذكورة: أي التي هي {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قال بعضهم: هي أول آية نزلت في شأن القتال، ولما نزلت أخبر بقوله «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» أي وفي لفظ «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى، قيل: وما حقها؟ قال زنا بعد إحصان وكفر بعد إسلام، أو قتل نفس».
أقول: وظاهر هذا الساق يقتضي أن الآية فيها الأمر له بالقتال المذكور. وقد يتوقف في ذلك، ولعله أمر بذلك بغير الآية المذكورة، لأن الآية إنما هي ظاهرة في الإباحة والمباح ليس مأمورا به، وحينئذ يكون قوله في الآية الأخرى وهي {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} للإباحة، لأن صيغة أفعل تأتي لها وإن كان الأصل فيها الوجوب.
وعلى أن قوله «أمرت» وأن أمره كان بغير هذه الآية يحمل على أن المراد الندب، لأن الأمر مشترك بين الوجوب والندب، فلا ينافي ما تقدم من أنه لم يكن وجب عليه القتال حينئذ والله أعلم.
ثم لما رمتهم العرب قاطبة عن قوس، وتعرضوا لقتالهم من كل جانب كانوا لا يبيتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلا فيه ويقولون ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله «عَزَّ وجَلّ»؛ أنزل الله «عَزَّ وجَلّ» {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} ثم أذن في القتال، أي أبيح الابتداء به حتى لمن لم يقاتل أي لكن في غير الأشهر الحرم أي التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، أي بقوله {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} الآية ثم أمر به وجوبا أي بعد فتح مكة في السنة الثانية مطلقا، أي من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله {وقاتلوا المشركين كافة} أي جميعا في أي زمن.
فعلم أن القتال كان قبل الهجرة وبعدها إلى صفر من السنة الثانية محرّما، أي لأنه كان في ذلك مأمورا بالتبليغ، وكان إنذارا بلا قتال، لأنه نهى عنه في نيف وسبعين آية ثم صار مأذونا له فيه أي أبيح قتال من قاتل ثم أبيح قتال من لم يبدأ به في غير الأشهر الحرم، ثم أمر به مطلقا: أي لمن قاتل ومن لم يقاتل في كل زمن؛ أي في الأشهر الحرم وغيرها.
وظاهر كلام الإمام الإسنوي أن القتال في الحالة الثانية كان مأمورا به لا مباحا كالحالة الأولى. وعبارته: لما بعث أمر بالتبليغ والإنذار بلا قتال، فقال {واعرض عنهم} وقال {واصبر} ثم أذن له بعد الهجرة في القتال إن ابتدؤوا فقال {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} ثم أمر بذلك ابتداء ولكن في غير الأشهر الحرم فقال {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} ثم أمر به مطلقا فقال {وقاتلوا المشركين كافة} هذا كلامه.
ولا يخفى أن الإسنوي ممن يرى أن «أمر» للوجوب، وهو يقتضي أن يكون الأمر به في الحالة الثانية للوجوب. والراجح ما علمت أن «أمر» مشترك بين الوجوب والندب، وأنه في الحالة الثانية مباح لا مأمور به.
ثم استقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول محاربون له، وهؤلاء المحاربون إذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم على الكفاية في كل عام مرة أي يكفي ذلك في إسقاط الحرج كإحياء الكعبة، واستدل لذلك بقوله تعالى {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} أي فهلا نفر. وقيل كان فرض عين، لقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك. ويحتاج إلى الجواب عن ذلك.
وقيل كان فرض كفاية في حق الأنصار، وفرض عين في حق المهاجرين.
والقسم الثاني أهل عهد وهم المؤمنون من غير عقد الجزية: أي صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّهم، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم.
والقسم الثالث أهل ذمة: أي وهم من عقدت لهم الجزية.
وهناك قسم آخر، وهو من دخل في الإسلام تقية من القتل وهم المنافقون كما تقدم. وأمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، فكان معرضا عنهم إلا فيما يتعلق بشعائر الإسلام الظاهرة كالصلاة فلا يخالف ما رواه الشيخان «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم انطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» فقد ذكر أئمتنا أن ذلك ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون: أي أصلا بدليل السياق، أي لأن صدر الحديث «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر» أي جماعتهما «ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت الخ».
وفي الخصائص الصغرى: وكان الجهاد في عهده فرض عين في أحد الوجهين عندنا، وكان إذا غزا بنفسه يجب على كل أحد الخروج معه، لقوله تعالى {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} ومن ثم وقع لمن تخلف عنه في غزوة تبوك ما وقع.
وأما بعده فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه. وعند الإذن له في القتال خرج لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة: أي مكث بالمدينة باقي الشهر الذي قدم فيه وهو شهر ربيع الأوّل وباقي ذلك العام كله إلى صفر من السنة الثانية من الهجرة.
«فخرج غازيا حتى بلغ ودّان» بفتح الواو وتشديد الدال المهملة آخره نون: وهي قرية كبيرة، بينها وبين الأبواء ستة أميال أو ثمانية. والأبواء بالمد: قرية كبيرة بين مكة والمدينة كما تقدم؛ سميت بذلك لتبوؤِ السيول بها. وقيل لما كان فيها من الوباء فيكون على القلب، وإلا لقيل الأوباء. وحينئذ لا تخالف بين تسمية ابن الخفاف لها بغزوة ودّان وبين تسمية البخاري لها بغزوة الأبواء لتقارب المكانين، أي وفي الإمتاع: ودان جبل بين مكة والمدينة.
وأقول: قد يقال لا منافاة، لأنه يجوز أن تكون تلك القرية كانت عند الجبل المذكور فسميت باسمه، والله أعلم.
وكان خروجه بالمهاجرين ليس فيهم أنصاري يعترض عيرا لقريش ولبني ضمرة أي وخرج لبني ضمرة، فكان خروجه للشيئين كما يفهم من الأصل.
ويوافقه قول بعضهم: وخرج في سبعين رجلا من أصحابه يريد قريشا وبني ضمرة. والمفهوم من سيرة الشامي أن خروجه إنما كان لاعتراضه العير، وإنه اتفق له موادعة بني ضمرة، ويوافقه قول الحافظ الدمياطي: خرج يعترض عيرا لقريش، فلم يلق كيدا. وفي هذه الغزوة وادع بني ضمرة هذا كلامه، أي صالح سيدهم حينئذ، وهو مجدي بن عمر.
وعبارة بعضهم: فلما بلغ الأبواء لقي سيد بني ضمرة مجدي بن عمر الضمري، فصالحه ثم رجع إلى المدينة والمصالحة على أن لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه جمعا ولا يعينوا عليه عدوّا، قال: وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الكتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم» أي قصدهم «أإلا أن يحاربوا في دين الله، ما بلّ بحرصوفة» أي ما بقي فيه ما يبل الصوفة «وأن النبي ﷺ إذا دعاهم لنصره أجابوه عليهم، بذلك ذمة الله وذمة رسوله» أي أمانهما انتهى.
وكان لواؤه أبيض. وكان من عمه حمزة؛ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، وانصرف إلى المدينة راجعا، فهي أوّل غزواته، أي وكانت غيبته خمس عشرة ليلة، والله أعلم.