أوائل القرن الرابع الهجري
اشتهر كثير من الأطباء العرب وذاع صيتهم في صدر الإسلام، منهم الحارث بن كلدة (ت نحو 13هـ، 634م) وهو من الطائف، وابنه النضر الذي قتله الرسول ﷺ سنة 2هـ، 624م، ورفيدة، وكعيبة، وأم عطية الأنصارية أيام الرسول ﷺ، وابن أبي رمثة التميمي، والحكم الدمشقي، وابن أثال طبيب معاوية بن أبي سفيان، وبتاذون طبيب الحجاج بن يوسف. وقيل إن الحجاج طلب منه نصيحة طبية فقال له: "لا تتزوج من النساء إلا شابة ولا تأكل من اللحم إلا فتيًا، ولا تأكله حتى ينعم طبخه، ولا تشربن دواء إلا من علة، ولا تأكل عليه شيئًا، ولا تحبس الغائط والبول، وإذا أكلت في النهار فنم، وإذا أكلت في الليل فتمشَّ ولو مائة خطوة". كما اشتهرت في أواخر عهد بني أمية زينب طبيبة بني أوْد ؛ وكانت عارفة بالأعمال الطبية، خبيرة بالعلاج ومداواة آلام العين والجراحات.
واشتهر من الأطباء غير المسلمين في أوائل عهد الدولة العباسية، جبرائيل بن بختيشوع وابن ربن الطبري ويوحنا بن ماسويه وإسحاق بن حنين، ومنكة وشاناق وكانا من الهند. ولم يختلف طب هؤلاء، من الناحية العملية، كثيرًا عما كان عليه في نهاية العصر الأموي. ولكن في أواخر عصر الترجمة ؛ أي بعد منتصف القرن الرابع الهجري، ظهرت بشائر عهد التأليف. وكان كتاب علي بن سهل الطبري فردوس الحكمة طليعة عهد جديد زاهر في الطب العربي، وصل منتهاه في عصر الشيخ الرئيس ابن سينا. في هذا العهد نبغ أطباء انتقلوا بمهنة الطب نقلة نوعية، واشتهر من الأطباء المسلمين أبوبكر الرازي، وقد تتلمذ على الطبري وكان قد تولى رئاسة بيمارستان الريِّ ثم البيمارستان المقتدري في بغداد. وقد ألف في الطب نحو 56 كتابًا، ومن أعظم مؤلفاته كتاب الحاوي في الطب والمنصوري في التشريح ؛ محنة الطبيب ومنافع الأغذية ؛ رسالة في الجدري والحصبة، وهو أول من فرق بينهما وأشار إلى انتقالهما بالعدوى. وأول من استخدم فتيلة الجرح المسماة بالقصاب، وأمعاء الحيوانات لخياطة الجروح وأول من استخدم الرصاص الأبيض في المراهم وأدخل الزئبق في المسهِّل. ومن نصائحه المشهورة للأطباء، والمرضى: "مهما قدرت أن تعالج بالأغذية، فلا تعالج بالأدوية، ومهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب" وكذلك "إذا كان الطبيب عالمًا والمريض مطيعًا فما أقل لبث العلة". "ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويُرَجِّيه بها وإن كان غير واثق بذلك ؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس". ومن المعلوم أن الرازي توفي قبل أن يحرر الحاوي ؛ فبقيت مسوداته عند أخته إلى أن أظهرها ابن العميد (ت 360هـ، 970م). وقد ترجم الحاوي إلى اللاتينية الطبيب اليهودي فرج بن سالم بطلب من كارل إنجو ملك نابولي وصقلية من 665هـ، 1266م إلى684هـ، 1285م. وأصبح من الكتب المعتمدة في دراسة الطب في أوروبا إبان القرون الوسطى. ★ تَصَفح: الرازي، أبو بكر محمد.
ومن أطباء تلك الحقبة (القرن الرابع الهجري) المشهورين إخوان الصفا. فقد جمعوا في رسائلهم كثيرًا من علوم عصرهم الطبية، وقد نصحوا بالاعتدال في الباءة (النكاح)، والطعام والشراب وتحدثوا عن أثر المناخ في الصحة. وقد برعوا في المعالجة بالتحليل النفسي ؛ فنصحوا بأن يعطى المريض مجالاً لسرد أحواله وأسباب علته كما يشعر هو بها.
ومن الأطباء المشهورين أيضًا علي بن عباس المجوسي (ت 383هـ، 994م). وقد ألف الكتاب الملكي، أو كامل الصناعة الطبية وهو أكثر إيجازًا وتنسيقًا من كتاب الحاوي، وانتقد المجوسي فيه جهابذة الأطباء اليونانيين والعرب، وتحدث فيه عن الشرايين الشعرية وبعض الملاحظات السريرية وحركة الرحم. وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية مرتين عام 898هـ، 1492م بفينيسيا وعام 930هـ، 1523م بمدينة ليدن، والكتاب يحتوي على 20 مقالة تناولت الأولى والثانية منها فصولاً في علم التشريح ؛ كانت المرجع الرئيسي لعلم التشريح في جامعة سالرنو بإيطاليا.
ومن أطباء تلك الفترة أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (ت 427، 1035م)، وأشهر مؤلفاته كتابه المعروف بالزهراوي والتصريف لمن عجز عن التأليف. والزهراوي أول من نبغ في الجراحة بين العرب. وكتابه التصريف كان ذا أثر عظيم في النهضة الطبية في أوروبا مدى خمسة قرون، واحتل المكانة التي كانت لكتاب بولس الإيجنطي في الجراحة. ومن المسائل التي تناولها الكتاب إلى جانب الجراحة ؛ وصف الكسور والخلع والشلل الناشئ من كسر السلسلة الفقرية، والأمراض الباطنية وتعليم القوابل، وإخراج الجنين الميت وجراحة العين، وأمراض النساء وصور الكثير من أدوات الجراحة وأكثرها من ابتكاره. وترجم الكتاب إلى العبرية واللاتينية عام 901هـ، 1495م واستراسبورج عام 939هـ، 1532م، وبال عام 948هـ، 1541م. ★ تَصَفح: الزهراوي، أبو القاسم.
كتاب القانون ترجم إلى اللاتينية 16 مرة خلال الثلاثين سنة الأخيرة من القرن 15م، و20 مرة خلال القرن 16م. |
أما ابن النفيس (ت 687هـ، 1288م) فهو أعظم الأطباء في الحقبة التي تلت عصر ابن سينا. وقام بدراسة آراء جالينوس وابن سينا دراسة واعية وأظهر آراء مخالفة لآرائهما في كتابه المسمى شرح قانون ابن سينا. فقد انتقد أقوالهما في وصف العروق الموصلة بين الرئة والقلب ووظائفها، ووظائف الرئتين، واعتمد التشريح المقارن أسلوبًا له في هذا العمل البحثي. ولم يتبقَّ من كتب ابن النفيس سوى الموجز في الطب وكتاب شرح قانون ابن سينا. وعند شرحه للقسم المتعلق بالتشريح في كتاب شرح قانون ابن سينا أولى عناية كبيرة بتشريح القلب، واتصال العروق به وبتشريح الحنجرة، لأنه كان يرى صلة بين التنفس والنبض وانتقال الدم من الرئة إلى القلب والعكس. ويعود له شرف اكتشاف الدورة الدموية الصغرى التي تصف مرور الدم من الشريان الرئوي إلى القلب. كما كان لابن النفيس اهتمام بطب العيون والعلاج بالغذاء والدواء والعلاج بالجراحة. ★ تَصَفح: ابن النفيس . ولمزيد من المعلومات عن أشهر الأطباء ومؤلفاتهم ★ تَصَفح: جدول أشهر الأطباء وأهم مؤلفاتهم في هذه المقالة.
أشهر الأطباء وأهم مؤلفاته | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الصيدلة علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وما يتعلق بها، ويتصل اتصالاً وثيقًا بعلمي النبات والحيوان ؛ إذ إن معظم الأدوية ذات أصل نباتي أو حيواني، كما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بعلم الكيمياء ؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية.
كانت الصيدلة في بادئ الأمر غير مستقلة عن الطب في كل أنحاء العالم المعروف آنذاك. وكان الدواء ينتقل من يدي الطبيب إلى فم المريض مباشرة، وللطبيب أعوان يساعدونه على جمع الأعشاب، ثم يتولى بنفسه صنع الدواء وتركيبه وقبض ثمنه من المريض، وكان في ذلك حط لقدر الطبيب. وهنا انقسمت مهنة الطب إلى قسمين : تشخيصي وعلاجي ؛ أي نظري وعملي، ومن ثم انفصلت صناعة الطب عن صناعة العقاقير واستقل كل منهما بذاته. وكان الرازي أول من قال باستقلال الصيدلة عن الطب، كما رأى أن جهل الطبيب بمعرفة العقاقير لا يحول دون ممارسته الطب. ويبدو ذلك جلياً في معرض حديثه عن امتحان الطبيب: "أما امتحانه بمعرفة العقاقير فأرى أنها محنة اختبار ضعيفة، وذلك أن هذه الصناعة هي بالصيدناني أولى منها بالطبيب المعالج، إلا أن تقصير معرفته بالكثير الاستعمال منها يدل على قلة علمه ومزاولته ودربته... ويمكن أن يكون طبيبًا فاضلاً مقصرًا عن كثير من خلال العقاقير".
بعد أن انفصلت الصيدلة عن الطب، ارتفع مستوى العقاقير، وأنشئت حوانيت (عطارات) لبيعها وتصريفها، وأنشئت مدارس لتعليم صناعة تركيب الأدوية، ثم توسعت هذه العطارات وتحسنت، مما تمخض عن فتح أول صيدلية في التاريخ في بغداد عام 621هـ، 1224م. وألّف العرب في هذا العلم ما أطلقوا عليه اسم الأقرباذين ؛ أي الدستور المتبع في تحضير الأدوية. ولعل من أهم مآثر المسلمين في تلك الحقبة ـ في مجال الصيدلة ـ أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية. ونقلوا المهنة من تجارة حرة يعمل فيها من يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة. وكان ذلك في عهد المأمون، وقد دعاه إلى ذلك أن بعضًا من مزاولي مهنة الصيدلة كانوا غير أمينين ومدلّسين، ومنهم من ادّعى أن لديه كل الأدوية، ويعطون للمرضى أدوية كيفما اتفق ؛ نظرًا لجهل المريض بأنواع الدواء. لذا أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر المعتصم من بعده (221هـ، 835م) أن يمنح الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تجيز له العمل، وبذا دخلت الصيدلة تحت النظام الشامل للحسبة، ومن العرب انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوروبا في عهد فريدريك الثاني (607 ـ 648هـ، 1210 ـ 1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الأسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن. وعقب الفصل بين مهنتي الطب والصيدلة، ارتقت كلتا المهنتين ؛ إذ تفرغ الطبيب إلى التشخيص والبحث، وتفرغ الصيدلاني إلى تجويد عمله عن طريق البحث، ووُضع للصيادلة دستور يسيرون عليه ويلتزمونه، وينص هذا الدستور فيما ينص ـ على التمييز بين علم الطب وعلم الصيدلة، فحظر على الصيدلي التدخل في أمور الطب، كما حظر على الطبيب امتلاك صيدلية أو أن يفيد من بيع العقاقير، وبذا لا تحق ممارسة مهنة الصيدلة إلا لحامل ترخيص رسمي، ولا يحق ذلك أيضًا إلا لمن أدرجت أسماؤهم في جدول الصيادلة. وكان يناط بمفتش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير. يسَّر هذا الدستور للصيدلة أن ترتقي بوضوح علمًا قائمًا بذاته، مما جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل ؛ فزرعت النباتات الطبية بشكل منتظم وفق شروط خاصة في مزارع خاصة رعاها الحكام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبدالرحمن الأول في قرطبة. ووفق تنظيم مهنة الصيدلة، أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم كابن البيطار في القاهرة. كما فرض الدستور الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمّاها أهل الشام الدستور وأهل المغرب النسخة وأهل العراق الوصفة.
تأصيل الصيدلة العربية. برع الأطباء في بادئ الأمر في تحضير الدواء حسب نسب ومقادير محددة. ولما اقتصر أمر إعداد الدواء وتركيبه على الصيادلة، حذقوا هذا الفن وارتقوا به كثيرًا. فاستخدموا موازين دقيقة لخلط هذه النسب. ولم يكن هذا الأمر سهلاً في بادئ الأمر خاصة في تحضير الأدوية ذات المصدر الأجنبي ؛ إذ إن كل بلد كانت له أوزانه ومكاييله. وكانت أهم مصادر علم الصيدلة عند العرب ـ قبل أن تستقر عندهم علمًا أصيلاً ـ كُتب الهند وفارس ؛ فقد عُرف عن الهنود، حتى وقتنا الحاضر، إلمامهم العميق بالأعشاب، وبراعتهم في استخراج خواصها ومعرفة آثارها في الأبدان. ولما كان المبدأ العام في كل الأمور الدنيوية هو الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها ؛ فقد تلقّف العرب كل ما وصل إلى أيديهم من علم الحشائش والعقاقير. كذلك أخذوا عن اليونان ما استطاعوا، إلا أن ذلك كان في وقت مبكر نسبيًا ؛ أي مع بدايات أخذ الدولة الإسلامية بأسباب العلم والحضارة. واعتنوا من بين كل الكتب اليونانية بكتاب المادة الطبية في الحشائش والأدوية المفردة الذي وضعه ديسقوريدس العين زربي (80م) وكتابه هو "المادة الطبية Materia Medica"، وترجموه عدة مرات أشهرها اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبداللهلله الصقلّي في قرطبة. وفي وقت لاحق قام الصيادلة المسلمون ـ بفضل خبرتهم وممارستهم ـ بالزيادة على هذا الكتاب واستدراك ما فات ديسقوريدس، ومن ثم بدأ التأليف والتصنيف بغزارة في الصيدلة وعلم النبات، ومن ذلك معجم النبات لأبي حنيفة الدينوري (282هـ، 895م)، والفلاحة النبطية لابن وحشية (318هـ، 930م) والفلاحة الأندلسية لابن العوام الأشبيلي، فقد استفاد المصنفون في علم الأدوية كثيرًا من هذه الكتب وأمثالها. وكان لابد ـ تبعًا لهذا التطور الذي شهدته صناعة الدواء ـ أن تطرأ تعديلات تؤصِّل هذه الصناعة، وتمكّن من الاستفادة من العقاقير المحلية باستبدالها بما كان يستورد، وتبسط أعمال الصيدلة، وتضع معيارًا للجودة النوعية تكتشف من خلاله الأدوية المغشوشة، والعمل على توحيد الأوزان والمكاييل لتتماشى مع نظام المقاييس الموجود والاستغناء عن المقاييس المستوردة غير الموحدة.
الاستبدال والتبسيط. لما نقل العرب أسماء الأدوية المفردة (النباتية) من كتب اليونان والهند وفارس، لم يستطيعوا التعرف على كثير منها، وحتى تلك التي تعرفوا عليها لم يقفوا على خصائصها، لذا لم يكن هناك بد من الاستعاضة عنها ببديل محلي. فلجأوا منذ وقت مبكر إلى التأليف فيما سموه أبدال الأدوية، ووضعوا مصنفات خاصة بتلك التي لم يشر إليها ديسقوريدس وجالينوس وغيرهما، واستفادوا في هذا الشأن من العقاقير الهندية والفارسية. إلا أن الحاجة للبديل المحلي كانت ضرورة اقتصادية وانتمائية، عبّر عنها البيروني في عتابه للصيادلة بقوله : "لو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا لصرف جهده على التعرف على ما في جبالنا وبوادينا، ولكانت تصير حشائشها كلها أدوية…". واستجابة لمثل هذه الحميّة جرت بعض محاولات للاستفادة من الأعشاب المحلية ؛ كان من بينها في بادئ الأمر تصنيف ما يشبه المعاجم على هيئة جداول تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية واليونانية والسريانية والفارسية والبربرية بشرح أسماء الأدوية المفردة. ومن المحاولات التطبيقية في هذا المجال ما قام به رشيد الدين الصوري الذي كان يخرج إلى المواضع التي بها النباتات يرافقه رسام، فيشاهد النبات ويسجله ثم يريه للرسام في المرة الأولى وهو في طور الإنبات أو لا يزال غضًا، ثم يريه إياه في المرة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار. وغني عن القول أن الصيادلة المسلمين بعد أن ترقوا في هذه الصناعة قاموا بالاستغناء عن كثير من العقاقير التي تستخلص من أجزاء حيوانية لاسيما المحرّمة منها أو المكروهة.
كانت الوصفات التي حصل عليها أكثر المصنفين المسلمين من البلدان المفتوحة معقدة، إما أصلاً، أو كان واصفوها يتعمدون التفنن في تعقيدها سواء فيما يتعلق بعدد العقاقير التي تتركب منها، أو شروط جنيها أو إعدادها أو الزمن اللازم انقضاؤه قبل استخدام التركيبة الجديدة. من أجل هذا توصل الصيادلة المسلمون إلى وضع صيغ معدلة للأدوية المعقدة الشهيرة، وبذا اختفت مع مرور الزمن الأعداد الكبيرة من الأدوية معقدة التركيب، وازداد عدد الأدوية البسيطة خاصة الأشربة والأدوية الغذائية والمسهلات وأدوية تخفيض الوزن والزينة وما إليها.
معايير الجودة. لما رأى الناس الأرباح الوفيرة التي تدرها الصيدلة (العطارة) على العاملين فيها، دخلها غير المتخصصين. إلا أنه بعد أن نظمت المهنة وصار للصيادلة دستور، استُبِعد المتسللون بقرار من الخليفة العباسي المقتدر. وزاد الأمر إحكامًا بتولي سنان بن ثابت الطبيب أمر الحسبة حيث تحوّل هذا النظام إلى امتحان ومحاسبة ومراقبة دورية للأوزان والمكاييل وتفتيش الصيدليات مرة كل أسبوع. ومن بين الطرق التي طبقوها لمعرفة الأدوية المفردة وفاعليتها، الإحراق بالنار أو السحق، وفحص الرائحة واللون والطعم. وقام بعض الأطباء باختبار مدى فاعلية العقاقير على الحيوانات قبل إعطائها الإنسان ؛ ومن ذلك تجربة الزئبق على القرد التي قام بها الرازي. كما كان ابن سينا يذكر مع كل عقار خصائصه وأوصافه، ونجد ذلك جليًا في كتاب منهاج الدكان لكوهين العطار الذي جمع عمل ابن سينا في هذا الصدد في فصل سماه امتحان الأدوية المفردة والمركبة وذكر ما يستعمل منها وما لا يستعمل. وقد أورد كوهين العطار في هذا الفصل الطرق المستعملة في ضبط معايير جودة العقاقير، بالإضافة إلى فصل عن المدة الزمنية التي لا تعود صالحة للاستعمال بعدها. والأوصاف المميزة للأدوية وأنواعها وما تغش به وكيفية كشف هذا الغش عن طريق الأوصاف الحسية والفيزيائية للدواء.
الأوزان والمكاييل. كانت إحدى العقبات التي واجهت الصيدلاني المسلم ـ عقب حركة النقل والترجمة ـ قضية اختلاف المقاييس التي تضبط في ضوئها أوزان المركبات الدوائية ؛ فقد كان لليونان أوزانهم وكذلك الفرس والهنود، فكان من الصعب عند تحضير الوصفات الأجنبية معرفة الأوزان والمكاييل المستخدمة فيها، وإن عُرف بعضها فقلّما يُضبط. لذا كان من الضروري توحيد العمل بمقاييس معلومة لديهم. واستطاع الصيادلة بعد تجارب ومران أن يتجاوزوا هذه العقبة بعدة أمور منها، تجاهل بعض الأوزان والمكاييل الدخيلة، وإدخال أوزان ومكاييل محلية بدلاً عنها، وتبسيط النسب الموجودة بين المكاييل والموازين المحلية. ودرجوا على استخدام البذور وبعض الحبوب التي تمثل الواحدة منها وزنًا معلومًا مثل ؛ حبة الحمص و الخروبة و نواة التمر، وجعلوا حبة القمح الوحدة الصغرى للأوزان. وكانت أوزانهم كالتالي :
| ||||||||||||||
المكاييل الصيدلانية | ||||||||||||||
|
بعض الألفاظ العربية في الطب والصيدلة | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كانت معظم العقاقير التي توصف للمرضى ـ خلال الحقبة الأولى من فترة ازدهار الطب العربي ـ ذات منشأ غير عربي، والقليل منها كان ما توارثته الأجيال من البيئة المحلية أو ما يمكن أن نسميه الطب البلدي. ولكن بازدهار صناعة الصيدلة عقب انفصالها عن الطب، وجد الصيادلة المسلمون مجالاً خصبًا للإبداع الذي انتهوا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية ذات أوزان معلومة مبسطة وقطعوا شوطًا كبيرًا عندما استفادوا من علم الكيمياء في إيجاد أدوية جديدة ذات أثر في شفاء بعض الأمراض ؛ كاستخراج الكحول، ومركبات الزئبق، وملح النشادر واختراع الأشربة والمستحلبات والخلاصات الفطرية. بالإضافة إلى ذلك قادهم البحث الجاد إلى تصنيف الأدوية استنادًا إلى منشئها وقوتها، كما قادتهم تجاربهم إلى أدوية نباتية جديدة لم تكن معروفة من قبل كالكافور والحنظل والحناء.
قادت غزارة التصنيف في كتب الصيدلة، والبحث الدؤوب الذي كشف عن عقاقير جديدة، بالإضافة إلى ما هو موجود أصلاً، إلى أهمية تقسيم هذه العقاقير وفق معايير ارتآها المؤلفون أو الصيادلة، ونجد الأمثلة على ذلك واضحة في الحاوي للرازي و الصيدنة في الطب للبيروني وكامل الصناعة لعلي بن عباس المجوسي و القانون لابن سينا.
تصنيف الرازي. وضع الرازي أسسًا صحيحة لعدة علوم صيدلانية وبيّن أوصافها وطرق تحضيرها وكشف غشها وقواها وبدائلها والمدة الزمنية التي يمكن أن تحفظ خلالها. وصنف العقاقير إلى أربعة أقسام : 1ـ مواد ترابية (معادن) 2ـ مواد نباتية 3 ـ مواد حيوانية 4ـ عقاقير مولدة (مشتقات). وذكر تحت الصِّنف الأول سبعة أنواع: أ ـ أرواح (المواد المتطايرة والمتسامية) ؛ وهي الزرنيخ، والزئبق، والنشادر، والكبريت. ب ـ أحجار ؛ وهي: المرقشيتا (البيريت) ؛ وتستخدم في صناعة حمض الكبريتيك وصيغته الجزيئية FeS2. والتوتياء (أكسيد الخارصين)، وصيغته الجزيئية ZnO. واللازورد (كربونات النحاس القاعدية)، وصيغته الجزيئية Cu3 ((OH)2 CO3)2. والدهـنـتج (الملاخيت)، وصيغته الجزيئية Cu2(OH)2 CO3. والفـيـروزج (فوسفات الألومنيوم القاعدية المتحدة بالنحاس) وصيغته الجزيئية Cu Al6(PO4) 4(OH)8 5H2O. والــشاذنج (أكسيد الحديديك المتبلر) وصيغته الجزيئية Fe2 ؛ واستخدمه لوقــف الرّعاف. والشـك (بيـاض O3 الـزرنيخ) وصيغته الجزيئيةAs2O3. والكحل (كبريتيد الرصاص الأسود) وصيغـته الجـزيئية PbS. والطـلق أي المــايكا (سـليكــات الألومنيوم المتحدة مع فلز آخر). والجبس وصيغته الجزيئية Caso42h2o. والزجاج الأسود وهو الزجاج المعروف. ج زاجات ؛ ومنها الزاج الأحمر والأصفر والأخضر والشب. د ـ بوارق ؛ وتشمل بورات الصوديوم (البوراكس)، وبيكربونات الصوديوم، والنطرون، وصمغ الأكاسيا. هـ ـ أملاح ؛ ومنها ملح الطعام، والملح المر (كبريتات المغنسيوم ؛ الملح الإنجليزي)، والقلي (مزيج من أكسيد الصوديوم وهيدروكسيد الصوديوم وكربونات الصوديوم، والملح الصخري (كبريتات الصوديوم المتبلرة)، والجير المطفأ (هيدروكسيد الكالسيوم). و ـ أجساد ؛ وهي: الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص، والخارصين والأسرب (القصدير). ز ـ إعناجاصات ؛ وذكر الرازي منها جوهر البول (اليوريا).
وفي الصنف الثاني ؛ أي المواد النباتية يذكر قوى الحبوب كالحنطة والشــعير والثمار، ورتب فيه الأدوية حسب حروف المعجم مبتدئًا بالأقحوان ومنتهيًا بالياسمين. وفي الصنف الثالث، أي المـواد الحيوانية يذكر البيض والمخ ؛ واللبن والشعر والقحف والدم والمرارة والقرون والصدف.
أما الصنف الرابع وهو العقاقير المولدة (المشتقات) فقد ذكر منها 1ـ المرتك ؛ وهي مادة سوداء تشبه الجرافيت (أول أكسيد الرصاص)، وصيغته الجزيئية PbO، و2ـ الإسرنج (أكسيد الرصاص الأحمر)، وصيغته الجزيئية (Pb3 O4)، و 3ـ الزنجار ؛ وهو خلات النحاس القاعدية بها بعض كربونات النحاس، و 4ـ الزنجفر (كبريتيد الزئبق)، وصيغته الجزيئية (Hg S)، و 5ـ زعفران الحديد ؛ وهي مادة صفراء تتكون من أكسيد الحديدوز يكون الحديد فيها ثنائي التكافؤ.
تصنيف البيروني. اقتبس البيروني فكرة التأليف في علم الأدوية وتسميتها من الرازي، ويبدو ذلك في كتابه المشهور الصيدنة في الطب، ولكن لم تكن له خبرة الرازي وتجربته ولا شهرته في هذا المجال. ومن الأوجه التي أفاد فيها من الرازي إشارته إلى كتابيه الحاوي و سر الأسرار وذكره أغلب المواد التي ذكرت فيهما. وصنف هذه المواد تصنيفًا مشابهًا لما فعله الرازي بفارق واحد هو أنه رتبها ترتيبًا معجميًا (ألفبائيًا) بينما كان الرازي قد رتبها ترتيبًا أبجديًا (أبجد، هوز …إلخ). يصنف البيروني العقاقير إلى ثلاثة أنواع 1ـ أدوية 2ـ أغذية 3ـ سموم ؛ ومنها ما هو مفرد ومنها ما هو مركب. وهو أول من أشار إلى عمليتي التبديل والحذف في العقاقير، وجعلهما شرطًا لنجاح الصيدلاني الماهر. فقال: "الصيدلاني أعظم حاجة لأمرين أحدهما الحذف والآخر التبديل. والحذف هو نقصان عقار واحد يدخل في تركيب دواء يتألف من عقاقير كثيرة ؛ فإن لم يتوافر أو توافر لكن حالت أسباب دون استخدامه فعلى الصيدلاني الاستغناء عنه وإتمام التركيبة دون ذلك العقار" ؛ وعلى هذا النسق استغنى الصيادلة عن عدد كبير من العقاقير الحيوانية الكريهة نظرًا لتحريم الدين الإسلامي لها. أما التبديل فيحدث عندما تكون مكونات المركب كلها أو بعضها غير موجودة، ولكن لها بدائل أقل تأثيرًا من المكونات الأصلية، فعلى الصيدلاني في هذه الحالة أن يقْدم على صنع الدواء مما توافر لديه، على الرغم من تدني نوعية البدائل، مراعيًا في ذلك الحفاظ على مشاكلة الدواء الأصلي.
تصنيف المجوسي. عمل علي بن عباس المجوسي (ت383هـ، 993م) في كتابه كامل الصناعة على تصنيف الأدوية وفقًا لمنشئها وقواها. فصنَّفَ الأدوية المفردة بالاستناد إلى منشئها ؛ فقسَّم العقاقير ذات المنشأ النباتي إلى: حشائش، وحبوب، وبذور، وأوراق، وأصول، وعصارات، وأصماغ، وأزهار، وأثمار، وأدهان. أما العقاقير ذات المنشأ المعدني فقسمها إلى: زاج، وطين، وأملاح، وأجساد وحجارة. كما قسم العقاقير ذات المنشأ الحيواني إلى: ألبان، ودماء، وبيض، وأنفحات، ومرارات، وأبوال، وأزبال، وشحوم، ولحوم. أما من حيث قواها فقد قسمها إلى ثلاثة أقسام 1- القُوى الأُول ؛ وسماها الطبائع أو الأمزجة ؛ وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وتقسم كل واحدة من هذه الأمزجة إلى درجات أربع من حيث قوة تأثيرها ؛ فيصنف العقار تحت قوة الدرجة الأولى إذا لم يؤثر في البدن تأثيرًا ملموسًا، ويكون من الدرجة الثانية إذا أثر لكنه لم يضر، وإذا أضرّ ولم يبلغ فهو في الدرجة الثالثة، ويكون من قوى الدرجة الرابعة إذا بلغ، وفي هذه الحالة يسمى الدواء سامًا. 2- القوى الثواني ؛ وقد صنف تحتها أنواعًا كثيرة من بينها: القوى الملينة، والفتّاحة للسدد، والمنضجة، والمصلبة، والمخلخلة، والملطفة، والمفتحة لأفواه العروق والمضيقة لها، والجاذبة، والمسكنة للوجع. 3- القوى الثوالث ؛ وصنف تحتها: المفتتة للحصى، والمدرَّة للبول، والمدرَّة للطمث، والمولِّدة للمني، والمولِّدة للّبن، والمعينة على نفث ما في الصدر. وللمجوسيّ تصنيف فرعي للعقاقير من حيث طعمها ويقسمها إلى حلو، ومر، وحامض، ودسم، وحريف، ومالح، وعفص (عسر) وقابض، وتفه (لاطعم له). أما الأدوية المركبة فقد صنفها إلى أنواع عدة أهمها: الترياقات، والمعاجين، والجوارشنات (هاضمات) والمطبوخات، والنقوعات، واللعوقات، والأقراص، والأدهان، والمراهم، والأشربة، والمربيات، والأكحال، والذرورات، والغراغر، والمقيئات…إلخ.
تصنيف ابن سينا. لم يختلف ابن سينا في تصنيفه للأدوية كثيرًا عمن سبقه فقد قسمها إلى معدنية، ونباتية، وحيوانية. فأفضل الأدوية المعدنية عنده ما كان من الأماكن المعروفة بها كالقلقند القبرصي والزاج الكرماني ؛ وأفضل الأدوية النباتية النوع البري لأنها أقوى تأثيرًا من البستانية، والجبلية تفوق البرية، وأفضل الأدوية الحيوانية ما يؤخذ من الحيوانات الشابة في فصل الربيع. وذكر في هذا التصنيف نحو 600 عقار معظمها ذو أصل نباتي. كما أن له تصنيفًا آخر وهو ما يمكن أن يطلق عليه الآن التصنيف الفارماكولوجي (تصنيف علم العقاقير)، فصنف الأدوية حسب الأعضاء التي تعمل فيها، ووضعها في لائحة تتضمن : 1- الترياقات والمعاجين 2- الأرايج. (العطريات) 3- الجوارشنات 4- السفوفات والوجورات (مايعطى بالفم) 5- اللعوقات 6- الأشربة 7- المربيات 8- الأقراص 9ـ السلافات (خلاصات) والحبوب 10- الأدهان 11- المراهم والضمادات. وفي دراسته للسموم صنفها إلى نوعين ؛ سموم فاعلة بكيفية فيها، وسموم فاعلة بصورتها. كما صنفها إلى سموم معدنية ونباتية وحيوانية.
تحضير العقاقير. استخدم الصيادلة المسلمون في عمليات تحضير العقاقير وتركيبها طرقًا مبتكرة ؛ ظل بعضها معمولاً به حتى الوقت الحاضر من حيث المبدأ. فنجد أن الرازي استخدم 1- التقطير ؛ لفصل السوائل 2- الملغمة ؛ لمزج الزئبق بالمعادن الأخرى 3- التنقية ؛ لإزالة الشوائب 4- التسامي ؛ لتحويل المواد الصلبة إلى بخار ثم إلى حالة الصلابة ثانية دون المرور بحالة السيولة، 5- التصعيد ؛ لتكثيف المواد المتصاعدة، 6- التشوية ؛ لتحضير بعض المعادن من خاماتها، 7- التشميع ؛ لصهر بعض المواد بإضافة مواد أخرى إليها، 8- التكليس ؛ لإزالة ماء التبلُّر وتحويل المواد المتبلرة إلى مساحيق غير متبلرة، 9- التبلر ؛ لفصل بلورات المواد المذابة، 10- الترشيح ؛ لفصل الشوائب والحصول على محلول نقي. وسوف تأتي على هذه العمليات بشيء من التفصيل عند حديثنا عن العمليات الكيميائية التي استخدمها العرب في تحضير المواد.
أما علي بن عباس المجوسي فقد أبان القوانين التي ينبغي حذقها للوصول إلى الأوزان الصحيحة للأدوية المفردة الداخلة في تركيب الأدوية المركبة، ووضح أن مقادير هذه الأدوية تكون كالتالي : يُؤخذ منه مقدار كبير إذا كان متعدد المنافع. وتؤخذ منه كميات أقل إذا كان في استعماله بعض الضرر، وكذلك إذا دخلت في الدواء المركب عدة عقاقير لها نفس التأثير. وعلى الصيدلاني قبل سكب الدواء المفرد اتباع الخطوات التالية 1- يحسن اختبار الدواء المفرد 2- يسحقه وينخله 3- يعالج الصموغ 4- ينتخب العسل ويفحصه 5ـ يقوم بحرق ما لابد من حرقه فيما يختص ببعض المركبات المعدنية والحيوانية 6- يأخذ مقادير العسل بمقادير متناسبة مع الأدوية المدقوقة لصنع المعاجين الدوائية، ويضيف الصموغ المحلولة ويخفقها حتى تستوي ثم تحفظ التركيبة في إناء من الفضة أو الخزف الصيني دون أن يحكم غلقه، حتى يتمكن الدواء من التنفس 7- لعمل الأقراص يمزج الدواء المسحوق مع الماء أو الشراب في الهون (المدق) ويدق دقًا جيدًا حتى ينعم ويستوي ومن ثم تقرَّص الكتلة التي عجنت ثم تجفف في الظل.
ذكر ابن سينا في تحضير الأدوية المفردة أربع طرق: 1- الطبخ ؛ ويكون على درجات: الطبخ العنيف كأصل الكبر والزرواند والزرنباد. والطبخ المعتدل كالأدوية المدرة للبول. والطبخ الهادئ مثل الأفتيمون الذي إذا زيدت درجة طبخه تحللت قوته. 2ـ السحق ؛ وهناك من الأدوية ما يفسد السحق الشديد قوتها كالسقمونيا، وأكثر الصموغ لها هذه الخاصية، وتحليلها بالرطوبة أوفق. ومن هذه الأدوية ما ينقلب تأثيرها الدوائي أو يتغير عند الإفراط في السحق، كالدواء الكموني الذي ينقلب تأثيره من مسهل إلى مدر للبول. 3ـ الحرق ؛ وتحضر بعض الأدوية بحرق الدواء لتحقيق واحد من خمسة أهداف: لكسر حدته ؛ مثل الزاج أو لإكسابه حدة ؛ مثل النورة، أو لتخفيفه ؛ مثل قرون الأيل، أو لتهيئته للسحق ؛ مثل الإبريسم، أو لإبطال رداءة في جوهره ؛ مثل العقرب. 4ـ الغسل ؛ والهدف منه إما إزالة الخاصة المحرقة فيه ؛ كالنورة، أو تصغير أجزائه وصقلها كالتوتياء، أو استبعاد قوة غير مرغوب فيها كالحجر الأرمني. وقد مزج ابن سينا وصيادلة آخرون الأدوية بالعسل تارة وبالسكر والعصير تارة أخرى ليصبح طعمها مستساغًا، وكثيرًا ما جعلوها على هيئة أقراص وغلّفوها لإخفاء رائحتها. وكان ابن سينا أول من استعمل طريقة تغليف الحبوب بالذهب والفضة. كما أن الزهراوي كان أول من حضر الأقراص بالكبس في قوالب خاصة.
عقاقير استخدمها العرب. اعتمد المسلمون في بادئ الأمر على الأدوية المستجلبة من البلدان التي سبقتهم في هذا المجال، إلا أنه بعد أن صارت لهم خبرة في الطب والصيدلة شرعوا في اكتشاف أو استنباط أنواع كثيرة من العقاقير، تدلنا على ذلك أسماؤها التي وضعها العرب ولا يزال بعضها مستخدمًا في لغات أخرى بصورة أو بأخرى. فمن الأدوية النباتية التي اكتشفوها : السنامكة، والصندل، والكرنب مع السكر، والكافور، والرواند، والمسك، والتمر الهندي، والقرنفل، والحنظل، وحب العروس، والعنبر، وجوز الطيب، والمر، والجوز المقيئ، والقرفة، وخانق الذئب (الألونيت)، والبلسم، والمنّ، والعسل، والصمغ العربي.
كما ركّبوا مستحضرات طبية كثيرة ؛ ساعدهم في ذلك نبوغهم في الكيمياء، ومن هذه المستحضرات ؛ المعاجين المختلفة، والمراهم، والمساحيق، واللزوق، والدهانات، والكحل والسعوط، والحقن الملينة، والأشربة، والماء المقطر، كما اخترعوا الكحول والمستحلبات وأدوية القيء، واللعوقات، والسفوفات، والذرورات والخلاصات العطرية. واستخدم الرازي الزئبق في تركيب المراهم لأول مرة وجرب مفعوله على القردة. كما أن الأطباء المسلمين أول من وصف بذور شجرة البن دواء للقلب، ووصفوا حبوب البن القهوة المطحونة علاجًا لالتهاب اللوزتين والدوسنتاريا (الزحار) والجروح الملتهبة، ووصفوا الكافور لإنعاش القلب. كما خففوا من قوة بعض العقاقير بإضافة عصير الليمون والبرتقال بالإضافة إلى القرفة أو القرنفل. كما توصَّلوا إلى عمل الترياقات التي يتم تركيبها من عشرات أو أحيانًا من مئات العقاقير، وحسنوا تركيب الأفيون والزئبق واستخدموا الحشيش والأفيون وغيرهما في التخدير. ★ تَصَفح: قائمة أهم العقاقير التي استخدمها الصيادلة العرب.
أهم العقاقير التي استخدمها الصيادلة العرب | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
إسهام الطبري. كان أبو الحسن علي بن سهل الطبري أستاذًا للرازي الذي أثنى على إسهاماته. وكان حقل الطب على عهد الطبري يجمع بين الطب والصيدلة ؛ لذا نجد أن كتابه فردوس الحكمة صورة صادقة لمزج الطب بالصيدلة. وهذا الكتاب أقدم مُؤَلّف باللغة العربية جامع لفنون الطب والصيدلة. وقد مهّد الطريق لمن جاء بعده واقتفى أثره من أمثال الرازي والمجوسي وابن سينا. واحتوى على سبعة أبواب، تضمّن الباب الواحد 30 مقالة مفصلة إلى 360 فصلاً. أفرد الباب السادس للصيدلة، وبه ست مقالات عن المادة الطبية والسموم ؛ تحدث فيها عن الأدوية المفردة والمركبة، والصموغ والأشياء المتجلية من الأرض، والأصداف والمعادن والدخان والرماد والزجاج، وقوى الأرض والطين المختوم، وتحضير الأدوية وحفظها، والسموم والترياقات والأقراص والجوارشنات والربوب والأشربة والأدهان، والمراهم.
إسهام الرازي. عرف الرازي طبيبًا وكيميائيًا أكثر من نسبته إلى أي علم آخر، لكنه نبغ في الصيدلة أيضًا، ساعده في ذلك نبوغه في الطب والكيمياء. وهو أول من نادى باستقلال الصيدلة عن الطب، وكان يقول لأطباء عصره : إن علم الصيدلة هو العلم الوحيد الذي سيكون العامل المشترك بين الطب والكيمياء، ومن هذا المنطلق كان أول من أدخل المركبات الكيميائية في الصيدلة. ومع أن انفصال الصيدلة عن الطب حدث بعده بفترة كبيرة، إلا أن الفضل يعود له أولاً في الإشارة إلى ذلك. وكتابه الحاوي أضخم موسوعة في علم الأمراض والمداواة كتبت بالعربية حتى عصرنا الحاضر. وقد خصص الأجزاء الأخيرة من هذا الكتاب للصيدلة ؛ وفيها تناول قوى الأدوية المفردة، وأحصى فيها نحو 900 عقار. وكان عنوان الجزء قبل الأخير في هذه الموسوعة صيدلة الطب وقدَّم له بقوله: "المعرفة بالأدوية وتمييزها، جيدها ورديها، خالصها ومغشوشها، وإن كان ليس بلازم للطبيب ضرورة ـ كما يحسبه جهال الناس ـ فهو أحرى وأزين به. ولذلك رأيت أن أجمع هذا الفن، وإن لم يكن جزءًا من الطب ضروريًا في كتاب يخصه". وتناول الرازي في باب صيدلة الطب الأدوية المفردة والمركبة وطرق تحضيرها وكشف غشها كما تناول الأوزان والمكاييل. وفي آخر أجزاء الكتاب تحدث عن قوانين استعمال الأطعمة والأشربة، وأدوية الزينة. وصنّف الرازي إلى جانب الحاوي كتبًا كثيرة بلغت نحو 200 كتاب، إلا أنه في المنصوري و الجامع تدارك ما فاته ذكره في الطب والصيدلة. ووضع الأسس الصحيحة لعلم العقاقير وبين صفاتها وطرق تحضيرها، وكذلك علم الكيمياء الصيدلية، وهو أول من أدخل الزئبق في المراهم، وابتكر طريقة لتحضير الكحول من المواد النشوية والسكرية المتخمرة، واستخدمه في تطهير الجروح. وهناك قول بأن الفضل في اكتشاف دواء مضاد للجراثيم (مضاد حيوي) يعود للرازي، فقد أضاف عفن الخبز والعشب الفطري في أدويته التي تعالج الجروح المتعفنة. وحضر بعض الأحماض مثل حمض الكبريتيك وسمّاه الزاج الأخضر أو زيت الزاج. كما كان أول من استخدم الفحم الحيواني في قصر الألوان ؛ ولا يزال هذا الفحم مستخدمًا لإزالة الألوان والروائح من المواد العضوية. وهو أول من فرّق بين كربونات الصوديوم وكربونات البوتاسيوم على الرغم من التشابه الكبير في خصائصهما. وكان أول من قاس الوزن النوعي لعدد من السوائل مستخدمًا ميزانًا أطلق عليه الميزان الطبيعي.
إسهام المجوسي. اشتهر علي بن عباس المجوسي بكتابه كامل الصناعة الطبية، الذي ظل المرجع الوحيد في الطب والصيدلة فترة طويلة إلى أن ظهر كتاب القانون لابن سينا فانصرف إليه الناس وتركوا كامل الصناعة جزئيًا. وتذكر بعض التراجم أن كامل الصناعة في العمل أبلغ، والقانون في العلم أثبت. وهناك من المُحْدَثين ـ ممن قارن بين الكتابين ـ من رجّح الكامل على القانون. وأخذ هذا الكتاب طريقه إلى أوروبا عندما ترجمه قسطنطين الإفريقي (ت 471هـ، 1078م) عميد مدرسة الطب في جامعة سالرنو ونسبه إلى نفسه. ولم يكتشف هذا السطو إلا بعد أن قام أسطفان الأنطاكي بترجمته ثانية عام 625هـ، 1227م ومن ثم أثبت عليه اسم المؤلِّف. ويحتوي الكتاب على قسمين ؛ نظري وعملي يتضمنان 20 مقالة. وما يختص بالصيدلة ورد في القسم العملي في المقالتين الثانية والعاشرة، وعنواناهما الأدوية المفردة وامتحانها ومنافعها والأدوية المركبة على التوالي. ويُورد تحت الأدوية المفردة خمسة وخمسين بابًا أهمها: امتحان الدواء (اختباره)، وأنواعه مثل الأدوية الملينة والمذيبة، والمسكنة، والمفتتة للحصى، والمدرّة للبول، وأنواع العقاقير التي تؤخذ من النباتات كالأوراق، والبذور، والثمار، والصموغ، وما يؤخذ من المعادن، وما يؤخذ من الحيوان والأدوية المسهلة والمقيئة…إلخ.
ويورد تحت الأدوية المركبة ثلاثين بابًا أهمها الترياقات والمعجونات والمطبوخات، والمنقوعات، والسفوفات، والأضمدة، واللعوقات، والأكحال، والأدهان، والربوب، والأقراص، والجوارشنات، والذرورات، وأدوية الرعاف والسمنة والكلف والبهق والبرص والجرب ونحوها. وكان مثل الرازي ينصح المريض أولاً بالعلاج بالأغذية متى أمكن ذلك وإلا فبالأدوية المفردة. وكان يلجأ للأدوية المركبة إذا تعذَّر العلاج بالأغذية والأدوية المفردة.
إسهام ابن سينا. تأتي أهمية ابن سينا في حقلي الطب والصيدلة من أنه العالم الذي حدّد النظريات والتطبيقات في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية التي تقابل العصور المظلمة في أوروبا. وإذا كان علي بن سهل الطبري طليعة عهد النهضة العلمية الإسلامية، فإن قمة هذه النهضة كانت في عهد الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد تناول علم الصيدلة في موسوعة القانون ـ التي تتكون من خمسة كتب ـ في الكتابين الثاني والخامس. يحتوي الكتاب الثاني على الأدوية المفردة وذكر فيه عددًا كبيرًا من النباتات الطبية العربية المنشأ وكذلك الهندية والفارسية والصينية واليونانية. أما الكتاب الخامس فقد تناول فيه الأدوية المركَّبة وطرق تحضيرها سواءً كانت ذات مصدر حيواني أو معدني أو نباتي. وحضّر ما يربو على 800 دواء مُركَّب استخدمها المسلمون ثم أهل أوروبا من بعدهم زمنًا طويلاً.
والكتاب الثاني ينقسم إلى قسمين ؛ يتناول القسم الأول أبحاثًا في ماهية الدواء واختياره وصفاته ومفعوله وطرق حفظه. وشرح في هذا الكتاب تأثير بعض الأعمال الصيدلانية في عمل الأدوية المفردة التي قد تفسد مفعولها أو تقلله إذا لم تُراع مواصفات كل دواء. وذكر من ذلك الطبخ العنيف والمعتدل والخفيف، والسحق الشديد والمفرط، و الإحراق الذي يكسر الحدّة، أو الذي يكسب الحدّة، أو الذي يلطِّف الحدة، أو الذي يزيل القوة غير المرغوبة. وأضاف إلى هذا الجزء جداول أطلق عليها اسم الألواح بيّن فيها أثر كل دواء على كل عضو، وجعلها اثني عشر لوحًا ؛ وهو تصنيف يمكن أن نطلق عليه في لغة صيادلة العصر التصنيف الفارماكولوجي (تصنيف علم العقاقير). أما القسم الثاني من الكتاب الثاني فيحتوي على الأدوية المفردة ذاتها، وقام بترتيبها ترتيبًا ألفبائيًا وتعّرض بالتفصيل لنحو 600 عقار وذكر أمام كل عقار المعلومات الست التالية: 1- ما هيته 2- اختياره 3- طبعه 4- فعله 5- بديله 6- سمّيته، وقد يضيف إلى بعضها مصدره الجغرافي.
والكتاب الخامس يتناول فيه الأدوية المركبة، ويقسمها تبعًا لخواصها إلى: حارة وباردة، ورطبة ويابسة ؛ وذلك لأن نظريته في العلاج مُستمدة من أن تركيب جميع الكائنات يقوم على أربعة إسطقسات (عناصر) وأربع كيفيات متضادة. وأن بلوغ الصحة يتأتى من تعادل الأخلاط الأربعة في جسم الإنسان ؛ وهي الدم والبلغم والمرة السوداء والصفراء وأطلق عليها اسم المزاج. وعلى الرغم من أن نظرية القوى والأمزجة والأخلاط التي عوّل عليها ابن سينا ومن سبقه من أطباء في شرح آلية تأثير الأدوية، تعد غير مقبولة علميًا في الوقت الراهن،إلا أنه ذكر وصفًا لعشرين فعلاً دوائياً أكثر مما ذكره المجوسي في كامل الصناعة، ولكل منها أهميته في علم الطب الحديث. كما يورد في مقالتي الكتاب الخامس عددًا من المركبات الراتبة في الأقرباذينات، وعددًا من الأدوية المركبة المجربة بالإضافة إلى أصول علم تركيب الأدوية، ولا يفوته ذكر الأوزان والمكاييل المستخدمة في العالم الإسلامي آنذاك بالإضافة إلى ما عند الروم.
إسهام الزهراوي. اشتهر أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي بأنه أبو الجراحة في عصر ازدهار العلم الإسلامي ـ العصور المظلمة في أوروبا. وكان خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة. وأشهر مؤلفاته التصريف لمن عجز عن التأليف. ويعد هذا المؤلف دائرة معارف طبية أفادت منه أوروبا على مدى خمسة قرون، واحتل المكانة التي كان يحتلها كتاب بولس الإيجنطي في الجراحة. وقد خص الزهراوي الصيدلة في هذا الكتاب بنصيب كبير، إذ أفرد لها سبعة وعشرين بابًا من بين الثلاثين مقالة التي ضمها الكتاب. تناول الزهراوي في هذه الأبواب الأشكال الصيدلانية، ودراسات عن أدوية تخص معالجة أمراض معينة ؛ مثل أدوية القلب وأدوية السمنة والباءة وأمراض النساء. وأفضل ما كتبه في الكتاب عن الصيدلة المقالتين 28 و29. وقد ترجمت الأولى إلى اللاتينية وطبعت في البندقية عام 876هـ، 1471م. وكانت أشهر مقالة صيدلانية، تناول فيها كيفية تحضير العقاقير المعدنية والنباتية والحيوانية وتنقيتها، وذكر أسماء العقاقير بأربع لغات إلى جانب العربية هي: اليونانية والفارسية والسريانية والبربرية. وهو عمل يمكن أن يطلق عليه الآن معجم مصطلحات الصيدلة المتعدد اللغات. كما أورد أسماء الأدوات والأجهزة الكيميائية والصيدلانية، وأبدال الأدوية المفردة وذكر مصادرها ـ إن وجدت ـ وأعمار الأدوية المركبة والمفردة ؛ أي تاريخ صلاحية الدواء. وكما فعل من سبقه أتى في النهاية على ذكر الأوزان والمكاييل ورتبها ترتيبًا ألفبائيًا. وكان الزهراوي أول من استخدم الفحم في ترويق شراب العسل البسيط وأول من استخدم قوالب الكبس لصنع الأقراص الدوائية. ★ تَصَفح: الزهراوي، أبو القاسم.
إسهام الغافقي. نال أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي (ت 560هـ، 1165م) شهرة عظيمة بعد أن صنف كتابه الأدوية المفردة. وقد جمع فيه نحوًا من 1000 دواء من الأدوية المفردة ووصفها وصفًا دقيقًا وشرح طرق تحضير بعضها واستخدامها، وأورد من بينها النباتات الأسبانية والإفريقية ووضع مقابلاتها العربية واللاتينية والبربرية. كما استقصى في هذا الكتاب كل ما ذكره ديسقوريدس وجالينوس. وكان يرى أن على الطبيب أن يكون ملمًا تمامًا بالدواء الذي يصفه لمرضاه، لكنه لا ينبغي أن يتدخل في صنع هذا الدواء، بل يترك ذلك للصيدلاني الذي ينبغي أن يكون مطّلعًا على استعمال الأدوية وطرق تحضيرها. وإلى جانب الأدوية المفردة له مصنف آخر اسمه كتاب الأعشاب يحتوي على 380 صورة ملونة لنباتات وعقاقير رسمت رسمًا دقيقًا.
إسهام ابن البيطار. يُعّد أبو محمد عبدالله بن أحمد بن البيطار (ت 646هـ، 1248م) أكثر علماء النبات المسلمين إنتاجًا وأدقهم في فحص النباتات في مختلف البيئات والبلدان ؛ فقد تجوّل في كثير من أقطار العالم المعروف آنذاك رغبة في جمع الحشائش والنباتات، وعني بدراسة كل نبات في زمانه وبيئته. وقد ألّف كتبًا كثيرة أهمها الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، وكان أوسع وأهم كتاب في الصيدلة وعلم النبات طوال الحقبة الممتدة من ديسقوريدس إلى القرن السادس عشر الميلادي. وقد ذكر في هذا الكتاب نحوًا من 1500 صنف من الأدوية الحيوانية والنباتية والمعدنية، من بينها 300 صنف جديد اكتشفها بنفسه. ولعلّ أهم ما يميز هذا الكتاب منهجه العلمي. وكان يرى أن المتقدمين وقعوا في أخطاء "لاعتماد أكثرهم على الصحف والنقل" أما هو فكما يقول عن نفسه: "واعتمادي على التجربة والمشاهدة". عندما وصل إلى مصر عينه صلاح الدين الأيوبي رئيسًا للعشابين (علماء النبات وتحضير الأدوية). ولما وصل إلى دمشق عينه الملك الكامل بن العادل رئيسًا للعشابين أيضًا. ورتّب ابن البيطار مفردات كتابه ترتيبًا ألفبائيًا، وضع لكل مفردة مقابلها باللغات السائدة آنذاك. وتُرجم هذا الكتاب إلى اللاتينية والتركية والألمانية والفرنسية. ★ تَصَفح: ابن البيطار .
يقع هذا المؤلّف الموسوعي في أربعة أجزاء يذكر فيها ماهيات الأدوية، وقوامها ومنافعها ومضارها، وإصلاح ضررها والمقدار المستعمل منها ومن عصارتها أو طبخها، وبدائلها إذا انعدمت. وذكر أسماء النباتات والحيوانات والمعادن التي يتخذ منها العقار، ويصف أجزاءه وصفًا دقيقًا، ومواطن نموه، وطريقة تحضير الدواء منه، ثم طريقة الاستعمال. وعلى الرغم من أنه ضمّن كتابه بعض معتقدات العامة إلا أن مفرداته بصورة عامة يغلب عليها الطابع العلمي من حيث الجمع والترتيب والتبويب وسلامة العرض وأمانة النقل.
إسهام داود العطار. ختم أبو المنى داود المعروف بكوهين العطار (ت نحو 658هـ، 1259م) قمة حقبة المجد الصيدلاني في الدولة الإسلامية خلال الفترة التي تبدأ بالقرن الثامن الميلادي وتنتهي بنهاية القرن الثالث عشر منه، واهتم بدراسة العقاقير فألف كتابه المشهور منهاج الدكّان ودستور الأعيان في تركيب الأدوية النافعة للأبدان. وقد جمع هذا الكتاب كما يقول في مقدمته: "…مختارًا من عدة أقرباذينات… كالإرشاد الملكي، والمناهج وأقرباذين ابن التلميذ والدستور… ومما نقلته عن ثقات العشابين ومما امتحنته وجربته بيدي".
ذكر داود العطار نحوًا من 24 شكلاً صيدلانياً عرف في عصره، وطرق تحضيرها، بالإضافة إلى دراسة وافية مفصلة لأعمار الأدوية. وتناول الأدوية النباتية المفردة وقوتها. ووصف طرق فحص الأدوية المغشوشة من الأصيلة وهو ما كان يسمى آنذاك بامتحان الأدوية ومن أهم الأدوية التي ورد ذكرها في دستور الدكان: الأشربة وطبخها، والمربيات، والمعاجين والجوارشنات، والسفوفات، والأقراص، واللعوقات، والحبوب، والمراهم، والأدهان، والأدوية المسهلة والقابضة، والأكحال.
تميز داود العطار عن غيره بالنزاهة التي عرفت لابن البيطار والرازي وغيرهما من علماء العرب والمسلمين ؛ فقد اعترف أنه جمع معظم مادته من خبرته وتجربته الشخصية بالإضافة إلى أخذه من عدة مصادر أخرى كالإرشاد لابن جميع، و كامل الصناعة للمجوسي و المنهاج لابن جزلة البغدادي و أقرباذين ابن التلميذ و الدستور البيمارستاني للشيخ السديد.
أشهر الصيادلة وأهم مؤلفاتهم الصيدلانية | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
وهم أول من اعتمد طريقة التشخيص السريري على المرضى، وكذلك العزل (الحجر) الصحي، كما ابتكروا طرقًا أخرى في التشخيص تعرفوا بها على أعراض كثير من الأمراض، وتوصلوا إلى سبل لمعالجتها. من ذلك ؛ العقم وأسبابه، والتخنث وحالاته وعالجوا بعض حالاته جراحيًا. ومن هذه الأمراض داء الجمرة والفيلارية والأورام الخبيثة التي عالجوا بعضها جراحياً وهي في أطوارها الأولى، والجذام وقد عزلوا المصابين به في مستشفيات خاصة، والسُّل الذي اكتشفوا أعراضه في لون أظافر المرضى. والشلل وأنواعه وعالجوه بأدوية مخالفة للأدوية التي استخدمها من قبلهم، وكذلك البواسير وقد درسوا أسبابه. وأجروا عمليات جراحية مستعصية في العين مثل قدح الماء الأزرق، كما شقّوا القصبة الهوائية والمريء والمستقيم للتوصل إلى التغذية الاصطناعية. وربطوا الشرايين أثناء العمليات الجراحية وفي حالات النزف.كما كانوا أول من استخدم فتيلة الجرح وأمعاء الحيوانات في العمليات الجراحية، وأول من استخدم الرصاص الأبيض في المراهم والزئبق في تركيب المسهلات. وكانوا أول من فرّق بين الجراحة وغيرها من الحقول الطبية وجعلوها قائمة على أساس دراسة تشريح الأجسام. وفصلوا بين الصيدلة والطب وأسسوا علم الصيدلة وفق أساليب علمية منظمة كما كانوا أول من أدخل استعمال السكر في تركيب الأدوية لتحل الأشربة الحلوة المستساغة للمرضى محل الأشربة المرّة. وصنفوا النباتات الطبية ووصفوها واستخدموها في المجالات الطبية وصناعة العقاقير. وقد برعوا في التمييز بين الأمراض ذات الأعراض المتشابهة كالحصبة والجدري، ومرض النقرس والرثية، والالتهاب الرئوي والالتهاب البلوري، وحصى الكلية وحصى المثانة، والمغص المعوي والمغص الكلوي، والسدر والدوار، والشلل النصفي واللقوة (شلل الوجه). وميّزوا بين ما هو ناتج عن سبب موضعي وما ينتج عن سبب مركزي في الدماغ، وألّفوا في هذا المجال بعض التصانيف منها كتاب ابن الجزار الفرق بين العلل التي تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها. واكتشفوا مرض الإنكلستوما و الدودة التي تسببه. واكتشفوا الطفيليات المسببة للجرب.
والعلماء المسلمون أول من استفاد من الكيمياء في حقل الصيدلة. ولما اعتمد علمهم التجربة والمشاهدة والقياس ؛ فقد أجروا التجارب على الحيوانات كالقرود قبل تجربتها على بني البشر. وبيّنوا علاقة بعض الأمراض بالخمر، كما وصفوا داء الفيل وانتشاره في الجسم. ولاحظوا أن لكل مرحلة من العمر معدّلاً معينًا في النبض، وبيّنوا أثر العوامل النفسية في اضطرابه. واستخدموا الأنابيب القصديرية المجوّفة لتغذية المصابين بعسر البلع. والأطباء المسلمون أول من استخدم الإسفنجة المبنجة (المخدِّرة) التي كانت توضع في عصير من الحشيش والأفيون والزؤان وست الحسن (الهيوسيامين). كما برعوا في تشريح العيون وجراحتها وعرفوا ما يطلق عليه اليوم التشريح المقارن. وعرفوا كيفية خياطة الجروح بشكل داخلي لا يترك أثرًا ظاهرًا من الخارج والتدريز في جراحات البطن، وكيفية الخياطة بإبرتين وخيط واحد مثبت بهما. وهناك إسهامات أخرى للعلماء المسلمين في حقلي الطب والصيدلة يضيق المجال عن ذكرها.
تواريخ مهمة في الكيمياء |
كان العرب يطلقون على هذا العلم أسماء كثيرة بعضها يشير إلى طبيعة العلم، والآخر يشير إلى منهج البحث لديهم، ومن ذلك علم الصنعة، وعلم التدبير، و علم الحجر، وعلم الميزان. وهناك رأي يقول : إن الكيمياء كانت نقلة تلت الصنعة، وحدث ذلك لأن الكيمياء العربية تأثرت في طورها المبكر بالخيمياء اليونانية والسريانية التي لم تكن ذات قيمة. ★ تَصَفح: الخيمياء. حيث اعتمد الإغريق والسريان آنذاك على الفرضيات والتحليلات الفكرية، إذ إن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والخوارق في التفسير، وترتبط بالسحر وهو ما سمّاه العرب علم الصنعة الذي كان يسعى منذ قديم الزمن إلى بلوغ هدفين بعيدين: أولاً تحويل المعادن الخسيسة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة من خلال التوصل إلى حجر الفلاسفة. وثانيًا: تحضير إكسير الحياة ليكون بمثابة علاج يقضي على متاعب الإنسان وما يصيبه من آفات وأمراض، ويطيل حياته وحياة الكائنات الحية الأخرى. ولذلك نستطيع القول إن الكيمياء بدأت مع علوم السحر والوهميات المبهمة لارتباط ذلك بالتنجيم ؛ فعلى سبيل المثال كانت الشمس تمثل الذهب، والفضة تمثل القمر، والزئبق عطارد، والحديد المريخ، والقصدير هرميز، والنحاس الزهرة. وكان هذا هو الاعتقاد السائد في أوروبا إبان القرون الوسطى، حيث كان علماؤها يدَّعون أن علم الكيمياء جزء لا يتجزأ من علم السحر.
وصلت الصنعة إلى العرب بوساطة الإسكندرانيين عندما استقدم خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ، 704م) بعض الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس، وشمعون، وإصطفان الإسكندري، وطلب إليهم نقل علوم الصنعة إلى العربية. وتعلم خالد بن يزيد هذه الصنعة بهدف تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وبذا يكون أول من نقل الكيمياء واشتغل بها. وهكذا نجد أن هذه الصنعة وصلت إلى العرب. وقد تخلل ما كُتب فيها كثير من الأضاليل والطلاسم والأوهام، وكان هدفها تحقيق غايات وهمية لا تمت إلى الكيمياء الحقيقية بصلة ؛ إذ إن الأخيرة ترتكز على قواعد وقوانين علمية.
بعد أن نقل العرب والمسلمون ما لدى الآخرين من علم الخيمياء، وبعد أن تعمقوا في الصنعة وتوصلوا رويدًا رويدًا إلى اكتشافات جديدة، نجد أنه بحلول أواخر القرن الثالث للهجرة وأوائل الرابع قام عالَمٌ كيميائي عربي يختلف في رؤيته للتفصيلات والجزئيات عما سبقه نصًا وروحاً. فبإدخال التجربة العلمية والمشاهدات الدقيقة أضفى العلماء المسلمون على هذا العلم أصالة البحث العلمي التجريبي ؛ لذا يوجد شبه إجماع لدى كثير من الباحثين على أن العرب هم مؤسسو علم الكيمياء التجريبي. وهم الذين أظهروا دراساته من السّريّة والغموض والطلاسم، التي عرفها بها الآخرون، واختطوا لها منهجًا استقرائيًا سليمًا يقوم على الملاحظة الحسيّة والتجربة العلمّية التي أطلقوا عليها في كتاباتهم اسم الدّربة والتجربة.
وعن طريق التجارب وصلوا إلى مركبات وأحماض لم تكن معروفة من قبل واستفادوا منها في حقلي الطب والصيدلة على وجه الخصوص. كما استطاعوا أن يوظِّفوا هذه المعارف في الصناعات المختلفة أو ما يمكن أن نطلق عليه في العصر الحديث الكيمياء الصناعية. وتوصل العلماء المسلمون إلى كثير من العمليات الأساسية في الكيمياء ووصفوها وصفًا دقيقًا وبينوا الهدف من إجرائها.
وكان منهجهم العلمي وتعبيرهم عن التغيرات التي تطرأ على المادة واضحين ؛ ومثال ذلك نهج الكندي (ت 260هـ، 873م) في تحضير الفولاذ بمزج الحديد المطاوع بالحديد الصلب وصهرهما للحصول على حديد يحتوي على نسبة لا تقل عن 0,5% من الكربون ولا تزيد على 1,5%، وهي طريقة لا تختلف كثيرًا عما كان يُحضَّر من الفولاذ حتى مطلع القرن العشرين.
كما عمد الكيميائيون العرب إلى تصنيف الأجسام الكيميائية مراعين تشابه الخواص فيها، فصنفوها إلى معدنية ونباتية وحيوانية ومولَّدة (مشتقة). ولم يقف تصنيفهم عند هذا الحد، بل تعداه إلى تقسيمات فرعية أخرى أصغر لهذه الأجسام. فعلى سبيل المثال، قسموا الأجسام المعدنية إلى ست فئات أخرى هي 1ـ الأرواح ؛ كالزئبق، 2ـ الأجساد (العناصر الفلزية) ؛ كالذهب، 3ـ الأحجار ؛ كالتوتياء، 4 ـ الزاج ؛ كالزاج الأحمر والشب، 5ـ البورق ؛ كالنطرون، 6 ـ الملح ؛ كالملح المر (كبريتات المغنسيوم). واستخدموا في التجارب أدوات لم تعرف عند غيرهم وكانت النواة لبعض الأدوات البسيطة الحالية ومنها: القرعة، والإبريق، والقارورة، والمدق (الهون)، والملعقة، والمقراض، والمرجل، والمبرد، والحوض، والمكسر، وأجهزة التقطير، وكرة السحق، والأنبوب، والقرن، والصفارة، والكلاب، والمثقب، والكور، والقالب، والمثقال، والموقد ، والفرن، والماشق (الماسك)، والقمع، والمنجل، والراووق، وآلة التكليس، والميزان، والقطارة، والصَّدَفة، والمنفخ، والبوطقة، والبرنية (إناء فخاري)، والقدح، والإنبيق، وقد وصف الرازي وحده في سر الأسرار أكثر من 20 جهازًا استخدمها في تجاربه منها الزجاجي والمعدني والفخاري.
المنهج العلمي الجديد. انتقلت الكيمياء إلى العرب من خلال مدرسة الإسكندرية التي كانت تقول بإمكان تحويل العناصر. وانتقل إليهم مع هذه الكيمياء فيض من الفلسفة الهيلينية والآراء النظرية ؛ نظرية أرسطو في تكوين الفلزات، وهي فرع عن نظريته الأساسية في العناصر الأربعة الماء والهواء والتراب والنار. إلا أن العلماء المسلمين ـ بعد أن توطدت أقدامهم في العلم ـ انتقدوا ما ذهب إليه أرسطو من إمكان إيجاد عنصرين آخرين دخاني ينتج عن تحويل التراب إلى النار ومائي ينتج عن تحويل الماء إلى الهواء وباتحادهما تحدث الفلزات في باطن الأرض.
وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي للعلماء المسلمين كان في بادئ الأمر ذات الهدف الذي شغل الكيميائيين الذين سبقوهم ؛ أي تحوُّل ماهية معدن إلى معدن آخر، إلا أن هذا السبب نفسه هو الذي قادهم إلى إخضاع هذا العلم ليكون علمًا قائمًا على التجربة والملاحظة ؛ إذ إنهم لم يجدوا إلى معرفة ماهيات المعادن من سبيل، إنما كان الممكن وزنها وقياسها فحسب. وتناسب المواد إلى بعضها لا يكون إلا بنسبة عددية، وليس من سبيل للوصول إلى ذلك إلا عن طريق التجربة. كما صرَّح بذلك جابر بن حيان: "إن كمال الصنعة العمل والتجربة، فمن لم يعمل ولم يجرب لم يظفر بشيء أبدًا" و "الدربة تخرج ذلك. فمن كان دربًا كان عالمًا حقًا… وحسبك بالدربة (التجربة) في جميع الصنائع".
وكان إخضاع الكيمياء للعلم أهم محاولة قامت في القرون المزدهرة للمسلمين لدراسة الطبيعة دراسة علمية تطبيقية فاحصة. وقد أخضع كل من أتوا بعد عصر ابن حيان من الكيميائيين العرب أبحاثهم للتجربة. وباختصار نجد أن الكيمياء لم تصبح علمًا حقيقيًا إلا بعد أن آل أمرها للمسلمين، وقد خرجوا بها من إطار النظرية التي نقلوها عن اليونان إلى التجربة والملاحظة والاستنتاج ؛ وكان نتاج ذلك ذخيرة قيمة لم يحجبوها عن العالم، بل قدَّموها لمن خلفهم في العلم فبنوا على أساسها صرح الكيمياء الحديثة وكان العرب دعامة ذلك الصّرح وركيزته.
لم يمنع تقدم العرب في هذا المجال أن يقعوا في بعض الأخطاء التي صححها من أتى بعدهم، فهذه سنة العلم تمامًا كما صحح العرب من قبل نظريات من نقلوا عنهم من الإغريق. من ذلك نظرية جابر بن حيان في تكوين العناصر، حيث قال بأن جميع المواد المشتعلة تحتوي على عنصر الاشتعال الذي هو صورة من صور الكبريت. إلا أن شتال (ت 1144هـ، 1731م) نقض ما قاله جابر بما سُمّي بنظرية الفلوجستون. وعلى الرغم من أن لافوزيه قد دحض بدوره نظرية الفلوجستون عام 1188هـ، 1774م وأبان خطأها، إلا أنها كانت مفتاحًا للتعدين والحصول على بعض الفلزات من أكاسيدها. ويُعزى اعتقاد جابر إلى أسباب عدة منها: 1ـ إن أغلب العناصر التي عرفت حتى ذلك الوقت كان يتم الحصول عليها من كبريتاتها عن طريق التشوية (التحميص) كما ذكر جابر ذلك بنفسه، وينبعث غاز ثاني أكسيد الكبريت وغيره أثناء التعدين. 2ـ إن السبب الرئيسي الذي يتبادر إلى الذهن هو الاعتقاد بأن الكبريت موجود في كل العناصر. وقد قام بدراسة صور الكبريت كلها 3 ـ إن وضعه الزئبق كأحد عنصرين رئيسيين في تكوين المعادن، يعود إلى أنه يتحد مع كل العناصر تقريبًا من خلال تكوين الآصرة المعدنية التي لم تعرف إلا في القرن العشرين.
بعض الألفاظ العربية المتداولة في حقل الكيمياء. | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
العمليات الكيميائية. استخدم العلماء المسلمون عمليات كيميائية متعددة سواء في تحضير الأدوية المركّبة أو في بعض الصناعات، واختبروا من خلال هذه العمليات خصائص العناصر التي تدخل في هذه العمليات، كما حضروا أنواعًا مختلفة من المواد أو طوّروها لتناسب أغراضهم سواء لفصل السوائل عن بعضها، أو لتحضير بعض المعادن من خاماتها، أو لإزاحة الشوائب، أو تحويل المواد من حالة إلى أخرى. كما استعملوا الميزان استعمالاً فنيًا في ضبط مقادير الشوائب في المعادن، وهو أمر لم يعرفه العالم إلا بعد سبعة قرون من استخدام المسلمين له.
أهم العمليات التي مارسها الكيميائيون العرب لتحضير المواد وتنقيتها هي: 1- التشوية ؛ واستخدمت هذه الطريقة ـ ولا زالت تستخدم حتى اليوم ـ في تحضير بعض المعادن من خاماتها، واستخدموا فيها الهواء الساخن ؛ حيث توضع المادة في صلاية بعد غمسها في الماء ثم تنقل إلى قارورة تعلَّق داخل قارورة أخرى أكبر منها، ثم تسخّن الأخيرة مدة طويلة إلى أن تزول الرطوبة، ثم تُسد فوهة القارورة الداخلية التي تحتوي على المادة. و 2- التقطير ؛ ويتم بغليان السائل في وعاء خاص ليتحول بوساطة الحرارة إلى بخار، ثم يكثف البخار ليتحول إلى سائل بوساطة الإنبيق ويتجمع السائل المتكاثف في دورق خاص، وتستخدم هذه الطريقة لتخليص السائل من المواد العالقة والمنحلة به، ولفصل السوائل المتطايرة من غير المتطايرة. و3- التنقية ؛ ويتم في هذه العملية إزالة الشوائب عن المادة المطلوبة، ولتحقيق هذا الهدف تستخدم عمليات مساندة أخرى كالتقطير، والغسيل، والتذويب في مذيبات مختلفة، والتبلّر الجزئي. و4- التسامي ؛ وهو تحويل المواد الصلبة إلى بخار ثم إلى الصلابة مرة أخرى دون المرور بمرحلة السيولة كاليود والكافور. و5ـ التصعيد ؛ وهو تسخين المادة السائلة ـ خاصة الزيوت العطرية وغيرها ـ بسوائل أو مواد صلبة درجة غليانها عالية. وعند تسخين هذه المادة في حمام مائي بحيث لا تزيد درجة حرارته عن 100°م تتصاعد الأجزاء المتطايرة، وتبقى الأجزاء الثابتة. وأول من استخدم هذه الطريقة الكندي وسماها في كتابه تصعيد العطور، وكان يقوم بهذه العملية مستخدمًا التصعيد البخاري. و6- التكليس، ويشبه عملية التشوية، إلا أنه في التكليس يتم تسخين المادة تسخينًا مباشرًا إلى أن تتحول إلى مسحوق، واستخدم التكليس كثيرًا في إزالة ماء التبلر، وتحويل المادة المتبلرة إلى مسحوق غير متبلر. و7- التشميع ؛ وهو تغليف المادة بالشمع لعزلها وحمايتها من عوامل معينة كالتلوث أو لتسهيل بعض العمليات. ويتم التشميع بإضافة مواد تساعد على انصهار المواد الأخرى ؛ فبإضافة البورق أو النطرون (كربونات الصوديوم) إلى الرمل تسهل عملية صهر الرمل لصنع الزجاج. و8- الملغمة ؛ وهي اتحاد الزئبق بالمعادن الأخرى. وعلى الرغم من أن العرب لم يكونوا أول من استخدم هذه العملية، إلا أنهم أول من استخدمها في التمهيد لعمليتي التكليس والتصعيد و9- التخمير ؛ وهو تفاعل المواد النشوية مع الطفيليات الفطرية. وقد هدتهم التجربة إلى ابتكار طريقة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. ومن المعلوم أنهم أول من استخدم عفن الخبز والعشب الفطري في تركيب أدويتهم لعلاج الجروح المتعفنة. و10- التبلر ؛ وفيه تتخذ بعض الأجسام أشكالاً هندسية ثابتة تتنوع بتنوع هذه الأجسام، ويتم ذلك بإذابة المادة في أحد المذيبات في درجة حرارة عالية حتى يتشبع المحلول، وعندما يبرد المحلول تنفصل بلورات المادة المذابة عن المحلول على هيئة بلورات نقية، وتظل الشوائب مذابة في المحلول المتبقي، ثم يرشح المحلول للحصول على المادة المتبلرة. و11- التبخير ؛ وهو تحويل الأجسام الصلبة والسوائل إلى بخار بتأثير الحرارة. و12- الترشيح ؛ ويستخدم للحصول على المواد المتبلرة أو النقية، واستخدموا فيه أقماعًا تشبه الأقماع المستخدمة حاليًا، واستعاضوا عن ورق الترشيح بأقمشة مصنوعة من الشعر أو الكتان تتناسب دقة نسجها وخيوطها مع المحلول المراد ترشيحه.
نظريات وآراء. على الرغم من أن العلماء العرب والمسلمين كانوا تلاميذ للحضارة اليونانية في مجال الكيمياء، إلا أنهم سرعان مانبغوا في هذا العلم وصارت لهم نظريات وآراء جديدة تختلف كل الاختلاف عن نظريات أساتذتهم، حتى عُدت الكيمياء علمًا عربيًا بحتًا. ومن خلال تطويرهم هذا العلم خرجوا بكثير من الآراء وحضّروا الكثير من المستحضرات من ذلك: 1- اعتبار التجربة في الكيمياء أساسًا للتثبت من صحة التفاعلات الكيميائية، وإقرار التجربة المخبرية لأول مرة في منهج البحث العلمي، و2- وصف التجارب العلمية بدقة، وتفصيل التفاعلات الكيميائية الناتجة خلال هذه التجارب، و3- قياس الوزن النوعي للسوائل بوساطة موازين خاصة كالتي استخدمها الرازي وأطلق عليها اسم الميزان الطبيعي ؛ وقد سموا ذلك علم الميزان وهو ما يطلق عليه حاليًا اسم قانون الأوزان المتكافئة، و4- نظرية تكوين المعادن، و5- نظرية تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وفضة ـ على ما فيها من أخطاء، و6- نظرية الاتحاد الكيميائي، و7- قانون بقاء المادة، و8- تحديدهم أن قوة المغنطيس تضعف بمرور الزمن ؛ وكان جابر بن حيان أول من توصل إلى ذلك عندما لاحظ أن حجرًا مغنطيسيًا يحمل كتلة من الحديد وزنها 100 درهم، وبعد مدة لم يستطع أن يحمل سوى 80 درهمًا فقط. و9- ملاحظة تباين درجة غليان السوائل، و10- تطبيق نتائج المستحضرات الكيميائية في حقل الطب والصيدلة والاستعانة به في علاج المرضى ومزاولة ما يسمى اليوم بالكيمياء الصيدلية، و 11ـ تحضير بعض المواد من خلال مواد أخرى ؛ كالحصول على الكحول بتقطير المواد السكرية وتحضير حمض الكبريتيك بتقطير الزاج الأزرق، وقد نقل الغرب ذلك عن الرازي وسموه كبريت الفلاسفة، 12 ـ فصل المعادن بوساطة بعض الأحماض ؛ مثل فصلهم الذهب عن الفضة بوساطة حمض النتريك، 13ـ نظرية انطفاء النار عند انعدام الهواء، وهو ما يعرف حديثًا ؛ بانعدام الأكسجين، و 14ـ ملاحظة إكساب اللون الأزرق لمركبات النحاس عند تعريضها إلى اللهب.
الكيمياء الصناعية. اشتهر العلماء المسلمون بالكيمياء التطبيقية، بينما كان الإغريق يركِّزون على الجانب النظري. ولعل اهتمام العلماء المسلمين بالكيمياء التطبيقية يعود إلى اعتقادهم بأهميتها في صنع الأدوية المركبة، وساعدهم على ذلك استعمالهم الفائق الدقة للموازين والمكاييل والآلات ؛ مما مكنهم من تطبيق النتائج التي كانوا يخرجون بها في الصناعات القائمة آنذاك ؛ وهو ما يمكن أن نطلق عليه الآن الكيمياء الصناعية. ومن بين الصناعات التي برعوا فيها، وورّثوها للأمم الأخرى، صناعة المعادن وتركيبها وتنقيتها وصقلها. وتوصلوا إلى تحضير بعض المواد التي مكنتهم من صنع المتفجرات، والمفرقعات، كذلك تطورت لديهم صناعة الأسلحة التقليدية كالسيوف والخناجر. كما توصلوا، عن طريق استغلالهم للقوى الناجمة عن انفجار البارود (نترات البوتاسيوم) إلى صنع ذخيرة المدافع لاستغلالها في الأغراض الحربية. ومع أن الصينيين هم الذين اكتشفوا ملح البارود، وأن اليونانيين كانوا يستخدمون النار الإغريقية. ★ تَصَفح: النار الإغريقية. إلا أن تلك النار لم تكن صالحة إلا لإشعال الحرائق، حيث لم تكن ذات قابلية للانفجار. ويعود الفضل للعرب والمسلمين في اختراع بارود المدافع. وكان مسلمو الأندلس أول من صنع المدافع، ونقلها إلى بقية أوروبا أولئك الجنود الذين كانوا يحاربون في صفوف الجيش الأسباني في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي.
مزج العلماء العرب والمسلمون الذهب بالفضة، واستخدموا القصدير لمنع التأكسد والصدأ في الأواني النحاسية. واستخدموا خبرتهم الكيميائية في صناعة العطور، ومواد التجميل وصباغة الأقمشة والشموع، واستخراج الزيوت النباتية، وتركيب الأدوية، وصناعة الفولاذ والأسمدة والصابون والزجاج والأواني الزجاجية والمرايا والمصابيح الملونة والبلَّور. ومنهم انتقلت صناعتها لتزيين قصور أوروبا وكنائسها بروائع البلور (الكريستال) المزخرف حتى بالكتابات العربية والآيات القرآنية. كما صنعوا مواد كيميائية مضادة للحريق. فقد استخدموا في معركة الزنج سنة 269هـ، 882م مادة إذا طلي بها الخشب لم يحترق. والمسلمون أول من أدخل صناعة الورق في أوروبا، وأنشأوا له مصانع كبيرة في كل من الأندلس وصقلية. وكان مبدأ معرفتهم بصناعة الورق عام 94هـ، 712م عندما فتحوا سمرقند، وتعلموا منها ضرب القنَّب لصنع عجينة تتحول إلى ورق للكتابة حل محل وسائل الكتابة المعروفة آنذاك مثل ألواح الطين، والبردي، والرق، وسعف النخيل. واستعاضوا عن القنب بالقطن. وأنشئ أول مصنع للورق في بغداد عام 178هـ، 794م في عهد هارون الرشيد. وازدهرت صناعة الورق في شرق العالم العربي وتطورت لتسد حاجة العالم الإسلامي المتزايدة منه ؛ لتلبية الإقبال الكبير على الترجمة والتأليف. وأقام المسلمون معامل متطورة لدباغة الجلود وصنع الأصباغ المختلفة مثل النيلة (النيل الأزرق)، والكرم، والزعفران وغيرها، وكانت هذه ـ بالإضافة إلى الخزف والجلود والغراء والسجاد والعطور ـ من أهم السلع التي يصدرها العالم الإسلامي للأمم الأخرى.
من المواد الكيميائية التي اكتشفها العرب، ولها دور كبير في الصناعة، الحمض الأزوني الذي كانوا يسمونه الماء المحلل. ويستهلك اليوم بكميات كبيرة في الصناعات المختلفة مثل الماء الملكي والنتروبنزين، والنتروكليسرين، وقطن البارود. والخلاصة أن رواد الكيمياء العرب قد وضعوا هذا العلم في خدمة الصناعة وأخرجوه من حيز الخرافات والطلاسم التي عرف بهما إلى حيز الوضوح والتجريب.
إسهام جابر بن حَيّان. يعد جابر بن حيان (ت 200هـ،815م) مؤسس علم الكيمياء التجريبي، فهو أول من استخلص معلوماته الكيميائية من خلال التجارب، والاستقراء، والاستنتاج العلمي. وكان غزير الإنتاج والاكتشافات، حتى أن الكيمياء اقترنت باسمه فقالوا : كيمياء جابر، والكيمياء لجابر، وقالوا : علم جابر أو صنعة جابر. وكانت أعماله القائمة على التجربة المعملية أهم محاولة جادة قامت آنذاك لدراسة الطبيعة دراسة علمية دقيقة. فهو أول من بشَّر بالمنهج التجريبي المخبري، ومن نصائحه لطلابه في هذا الصدد: "أول واجب أن تعمل وتجري تجارب ؛ لأن من لا يعمل ويجري التجارب لا يصل إلى أدنى مراتب الإتقان. فعليك يا بني بالتجربة لتصل إلى المعرفة". وتكاد الإجراءات التي كان يتبعها في أبحاثه تطابق ما يقوم به المشتغلون بالمنهج العلمي اليوم ؛ وتتلخص إجراءاته في خطوات ثلاث: 1ـ أن يأتي الكيميائي بفرض يفرضه من خلال مشاهداته، وذلك حتى يفسر الظاهرة التي يريد تفسيرها و 2ـ أن يستنبط مما افترضه نتائج تترتب عليه نظريًا، و 3ـ أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليتثبت ما إذا كانت ستصدق على مشاهداته الجديدة أم لا ؛ فإن صدقت تحولت الفرضية إلى قانون علمي يُعوَّل عليه في التنبؤ بما يمكن أن يحدث في الطبيعة إذا توافرت ظروف بعينها.
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبل فطوَّره، وأدخل عمليات جديدة. من الوسائل التي استخدمها: التّبخّر، والتكليس، والتقطير، والتبلر، والتصعيد، والترشيح، والصهر، والتكثيف، والإذابة. ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة ؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية ؛ فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك التقطير من الشب. وحضّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك ؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضر حمض الكلوريدريك المسمّى بروح الملح. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة. كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل ؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية. ومن استنتاجاته أن اللهب يكسب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، والإثمد (الأنتيمون)، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة، ويعزى إلى جابر أنه أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان المتناهية الدقة في تجاربه المخبرية ؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن1/100 من الرطل. وينسب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها. ومثّل على ذلك بكل من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة.
تدل العمليات الكيميائية التي أوردها جابر في مؤلفاته على براعته في الكيمياء وإبداعه في تصميم الأفران والبوتقات، ولا شك أنه لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل تجاربه المخبرية. وقد كان يجري معظم هذه التجارب في مختبر خاص اكتشف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي ؛ وهو أشبه بالقبو في مكان منعزل بعيدًا عن أعين الفضوليين، وبه من الأثاث: منضدة وقوارير، وأفران، وموقد، وهاون، وبعض الأدوات مثل الماشق (الماسك)، والمقرض، والملعقة، والمبرد، والقمع، والراووق (المصفاة)، وأحواض، وإسفنجة، وآلة تكليس، وقطّارة، ومعدات للتقطير، وميزان وإنبيق وغيرها.
ولجابر بن حيان مؤلفات ورسائل كثيرة في الكيمياء. وأشهر هذه المؤلفات كتاب السموم ودفع مضارها، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية، ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم ؛ وكتاب التدابير ؛ وتعني التدابير في ذلك الوقت العمل القائم على التجربة، وكتاب الموازين وكتاب الحديد ؛ وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى. كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق، ومن كتبه كذلك نهاية الإتقان، و رسالة في الأفران. وتُشكل مجموعة الكتب التي تحمل اسم جابر بن حيان موسوعة تحتوي على خلاصة ما توصل إليه علم الكيمياء حتى عصره. وقد تَرْجم معظم كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ، 1144م) وجيرار الكريموني (ت 583هـ، 1187م) وغيرهما. ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم.
إسهام الكندي. كان يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 260هـ، 873م) أول من وقف معارضًا بشدة مقولة الكيميائيين بإمكان تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة. وألف في ذلك رسالة في بطلان دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة وخدعهم، وكذلك رسالة أخرى في التنبيه على خدع الكيميائيين. وقد ألف في الكيمياء، إلى جانب الرسالتين السابقتين، مؤلفات أخرى منها: رسالة في العطر وأنواعه ؛ تلويح الزجاج ؛ رسالة فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تتثلّم ولا تكل ؛ رسالة في صنع أطعمة من غير عناصرها ؛ رسالة فيما يصبغ فيعطي لونًا ؛ قلع الآثار عن الثياب ؛ وتشتمل على بعض المواد الكيميائية المستخدمة حاليًا في تنظيف الثياب وإزالة البقع منها. أما كتابه كيمياء العطر والتصعيدات فيورد فيه الكثير من أنواع العطور التي يشتقها من عطر واحد ؛ فبعد أن يستخلص العطر من مصدره الطبيعي، يأخذ مقدارًا ضئيلاً ويعالجه بمواد أخرى ليحصل على مقدار أكبر من العطر نفسه. بدأ كتابه بطُرُق صنع المسك ومجموعة أخرى من العطور المشهورة في وقته، تحدّث في طرق الحصول على هذه العطور عن عمليات كيميائية عديدة كالتقطير والترشيح والتصعيد.
حضّر الكندي أنواعًا من الحديد الفولاذ بأسلوب المزج والصهر ؛ وهي طريقة لا زالت تستخدم حتى وقتنا الحاضر بنجاح. يتلخص هذا الأسلوب في مزج كميتين معلومتين من الحديد النرماهن (المطاوع) والحديد الشبرقان (الحديد الصلب). ويصهران معًا ثم يسخنان إلى درجة حرارة معلومة وخلال مدة زمنية مناسبة بحيث يكون الحديد الناتج محتويًا على نسبة من الكربون لا تقل عن 0,5% ولا تزيد كثيرًا على 1,5%. واستخدم الكندي أشهر السموم المعدنية المعروفة في وقتنا الراهن ؛ وهي التي تتكون من أيون السيانيد الموجود في ورق نبات الدفلي، وكذلك الزرنيخ الأصفر. فقد ذكر الكندي وصفة لتلوين حديد السيوف والسكاكين يدخل في تركيبها بعض المواد العضوية والأعشاب، من بينها نبات الدفلي الذي ثبت أن السم فيه عالي التركيز لاحتوائه على مقدار كبير نسبياً من سيانيد الصوديوم أو البوتاسيوم، ويكسب الحديد لونًا أحمر يضرب إلى الزرقة.
قام كل من أرنالدوس وجيرار الكريموني بترجمة كتب الكندي في مجال الكيمياء والصيدلة إلى اللغة اللاتينية، وقال عنه الأخير إنه كان "خصب القريحة، وإنه فريد عصره في معرفة العلوم بأسرها".
إسهام الرازي. كانت لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي (ت 311هـ، 923م) إسهامات كبيرة في الكيمياء، ويعود له الفضل في تحويل الكيمياء القديمة (كيمياء جابر) إلى علم الكيمياء الحديث، وكانت مصنفاته أول المصنفات الكيميائية في تاريخ هذا العلم. وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي ؛ إلا أنه كان يخلط ذلك بأوهام الرمزية والتنجيم. أما الرازي فقد تجرّد عن الغموض والإيهام وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي. ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا وأكثر تجربة وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه. ونستطيع أن نقول : إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات.
عكف الرازي ـ إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة والكيمياء ـ على التأليف ؛ وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة. وأشهر مصنفاته في حقل الكيمياء سر الأسرار نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً. بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه ؛ فكان يبتدئ على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه ؛ وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير. ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة ؛ إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية. ويبين سر الأسرار ميل الرازي الكبير واهتمامه العميق بالكيمياء العملية، وترجيح الجانب التطبيقي على التأمل النظري، ولا يورد فيه سوى النتائج المستفادة من التجربة. وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة : معدنية، ونباتية، وحيوانية ومشتقة.
كان الرازي من أوائل من طبقوا معارفهم الكيميائية في مجال الطب والعلاج، وكان ينسب الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض ؛ فهو أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم. ★ تَصَفح: إسهام رازي في الصيدلة في هذه المقالة.
أشهر الكيميائيين، وأهم مؤلفاتهم | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الفيزياء |
أخذ العرب مبادئ علم الفيزياء من اليونان ؛ فقد ترجموا كتاب الفيزيكس لأرسطو، وكتاب الحيل الروحانية و رفع الأثقال لأيرن، وكتاب الآلات المصوتة على بعد 60 ميلاً لمورطس. كما اهتموا بمؤلفات أرخميدس وهيرون، وطوَّروا نظرياتهما وأفكارهما في علم الميكانيكا. وبينما كان اليونانيون يعتمدون كليًا على الأفكار الفلسفية المجردة والاستنباط العقلي، نجد أن العلماء العرب والمسلمين اعتمدوا على التجربة والاستقراء، وتبنوا الطريقة العلمية في البحث والاستقصاء، وطوروا ما ورثوه عن اليونانيين معتمدين على التجربة العلمية التطبيقية. وقد أكسبت هذه الطريقة أعمالهم العلمية الوضوح، ثم الانطلاق والإبداع الذي عرفت به منجزاتهم في مجال الطبيعة والكيمياء والطب والصيدلة وخلافها.
ألّّف العلماء المسلمون فصولاً متخصصة وأحيانًا متناثرة في علم السوائل وكيفية حساب الوزن النوعي لها ؛ إذ ابتدعوا طرقًا عديدة لاستخراجه. وتوصلوا إلى معرفة كثافة بعض العناصر، وكان حسابهم دقيقًا مطابقًا ـ أحيانًا ـ لما هو عليه الآن أو مختلفاً عنه بفارق يسير. وكانت بحوثهم في الجاذبية مبتكرة، وتوصل بعضهم مثل البوزجاني إلى أن هناك شيئًا من الخلل في حركة القمر يعود إلى الجاذبية وخواص الجذب، وقد كانت هذه الدراسات، على بساطتها، ممهدة لمن أتى بعدهم ليكتشف قانون الجاذبية ويضع أبحاثها في إطار أكثر علمية. كما بحثوا في الضغط الجوي ؛ ويبدو ذلك فيما قام به الخازن في ميزان الحكمة. كما أن للمسلمين بحوثًا شيقة في الروافع. وقد تقدموا في هذا الشأن كثيرًا، وكانت لديهم آلات كثيرة للرفع كلها مبنية على قواعد ميكانيكية تيسر عملية جر الأثقال كما استخدموا موازين دقيقة جداً، وكان الخطأ في الوزن لا يعدو أربعة أجزاء من ألف جزء من الجرام. وكتبوا في الأنابيب الشّعريَّة ومبادئها، وتعليل ارتفاع الموائع وانخفاضها مما قادهم إلى البحث في التوتر السطحي وأسبابه، وهم الذين اخترعوا كثيرًا من الأدوات الدقيقة لحساب الزمن والاتجاه والكثافة والثقل النوعي.
أما فيما يخص البصريات فيمكن الجزم بأنه لولا إسهام المسلمين فيه، والنتائج التي ترتبت على ذلك، لما تقدم كثير من العلوم الحديثة مثل الفلك والطبيعة والضوء. على رأس من يذكرهم تاريخ العلم في هذا الصدد الحسن بن الهيثم، الذي كانت أبحاثه وأعماله في هذا المجال المرجع المعتمد لدى أهل أوروبا حتي وقت متأخر، وإليه يُعزى أول بحث عن أقسام العين وكيفية الإبصار واكتشاف ظاهرة الانعكاس الضوئي، والانكسار الضوئي أو الانعطاف.
كما بحث المسلمون في كيفية حدوث قوس قزح وسرعة الضوء والصوت. وعرفوا أيضًا المغنطيس واستفادوا منه في إبحارهم، ومن المحتمل أن بعض العلماء قد أجرى التجارب البدائية في المغنطيسية. وبالجملة كانت المعلومات عن الميكانيكا، والبصريات والضوء والصوت وخلافها من مباحث علم الطبيعة، مبعثرة لا رابط بينها. وكانت تُبحث قبلهم من منظور يستند إلى المنهج العقلي والبحث الفلسفي، وكان المغلوط فيها أكثر من الصواب ؛ حتى الفكرة الأولية التي تقول إن للضوء وجودًا في ذاته، لم تكن من الأمور المسلم بها، ولم يصبح علم الضوء علمًا له أهمية إلا بعد أن بحث فيه المسلمون. واستنتج العلماء المسلمون نظريات جديدة وبحوثًا مبتكرة لبعض المسائل الفيزيائية التي طرحها اليونان من جانب نظري بحت، فتوصلوا من خلال بحثهم، إلى بعض القوانين المائية، وكانت لهم آراء في الجاذبية الأرضية، والمرايا المحرقة وخواص المرايا المقعّرة، والثقل النوعي، وانكسار الضوء وانعكاسه وعلم الروافع.
في بادئ الأمر كان لابد أن يتأثر علم المناظر برؤى المنقول عنهم. وفي موضوع الإبصار كان لدى المسلمين ثلاثة مذاهب هي: المذهب الرياضي، والمذهب الطبيعي، ومذهب الحكماء الفلسفي ؛ فالرياضيون يقولون إن الإبصار يحدث بشعاع يخرج من العينين على هيئة مخروط، رأسه عند مركز البصر وقاعدته سطح المبصر. أما الطبيعيون، من أمثال ابن سينا، فيخطّئون الرياضيين ويقولون إن الإبصار إنما يكون بالانطباع ؛ وذلك بصورة ترد من المُبْصَر (الجسم) إلى البصر ومنها يدرك البصر صورة الجسم. أما المذهب الفلسفي فيقول إن الإبصار ليس بالانطباع ولا بخروج الشعاع من العينين على هيئة مخروط، بل إن الهواء المشف الذي بين الرائي والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر، ويصير بذلك آلة للإبصار. بعد أن أدلى ابن الهيثم بدلوه في هذا الموضوع تبدلت الصورة واتخذ الأمر منعطفًا جديدًا، على الرغم من أنه قبل بعض المقولات السابقة، وعلى الرغم من مخالفة بعض آرائه لمسلمات العلم الحديث.
ابن الهيثم وآراؤه في الضوء والبصريات. رفض ابن الهيثم (ت 429هـ، 1038م) التسليم بكثير من آراء السابقين له في الضوء والبصريات مثل أقليدس وبطليموس. وعلى الرغم من أن أقليدس قد سبقه في تناول أحد شطري قانون الانعكاس، كما سبقه بطليموس إلى دراسة الانعطاف، إلا أن ابن الهيثم عُني بعلم المناظر عناية بزّ بها من قبله، ومهّد الطريق لمن بعده ؛ فلم تتحقق القياسات الموضوعية لزوايا السقوط والانكسار إلا عام 988هـ، 1580م على يد تيخو براهي وكاسيني عام 1072هـ، 1661م وحققا ذلك على النمط الذي خططه ابن الهيثم. ويعد ابن الهيثم من أعظم علماء عصره قاطبة في جميع فروع المعرفة وبخاصة الفيزياء، ويعد العالم الذي أسس علم البصريات وأقام دعامته. وقد نال شهرة كبيرة بكتابه المناظر الذي يحتوي على اكتشافات جديدة في الفيزياء ودراسات عميقة في انكسار الضوء وانعكاسه. وكان السابقون له في علم البصريات يؤمنون أن الإبصار يتم بخروج شعاع من البصر إلى المبصر. لا يعني هذا أن ابن الهيثم رفض كل ما جاء به من سبقه، فهو يقبل منهم تعريف الضوء الذي يقول إنه "حرارة نارية تنبعث من الأجسام المضيئة بذاتها كالشمس والنار". والضوء في رأيه نوعان عرضي يصدر من الأجسام المضيئة بغيرها ؛ أي التي تعكس الضوء كالقمر والمرآة، والأجسام الأخرى التي في مقدورها أن تعكس الضوء. والثاني ذاتي يصدر عن الأجسام المضيئة من نفسها ؛ كالشمس والنار والجسم المتوهج. وتناول كيفية امتداد الأضواء وانعكاسها وانعطافها، كما استقرأ الأحكام المتعلقة بذلك، وكان يدلل على صدق آرائه بالبرهان الهندسي.
يرى ابن الهيثم أن الضوء شيء ماديّ ؛ لذا فهو يرتد (ينعكس) إذا وقع على الأجسام الصَّقيلة "فالضوء إذا لقي جسمًا صقيلاً فهو ينعكس عنه من أجل أنه متحرك، ومن أجل أن الجسم الصقيل يمانعه، ويكون رجوعه في غاية القوة، لأن حركته في غاية القوة، ولأن الجسم الصقيل يمانعه ممانعة فعالة". وكان يقوم بالتجريب لإثبات فرضياته، فقد قام من أجل إثبات قانون الانعكاس بشطريه بأخذ كرات من الحديد وأسقطها من ارتفاعات مختلفة ليقف على مقدار ارتدادها، ويثبت أن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس. هذه التجارب التي أطلق عليها ابن الهيثم اسم الاعتبار تكشف عن رؤية من قبيل نظرية الجسيمات في الضوء التي جاء بها نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي. فالضوء يتركب من دقائق متناهية الصغر، وعندما تنتشر إما أن تنعكس عن الأجسام الصقيلة أو تنكسر في الأجسام المشفة. وعندما تحدّث ابن الهيثم عن انعطاف الضوء وهو ما نسميه حاليًا انكسار الضوء، رأى أن ذلك لا يتم آنياً ؛ أي أن انتقاله في الوسط المشف لا يكون دفعة واحدة وفي غير زمان، بل إنه يستغرق زمنًا معينًا محدودًا بسرعة معينة، وأن سرعته في المشف الألطف أعظم من سرعته في المشف الأغلظ، و "إذا كان الثقب مستترًا، ثم رفع الساتر فوصول الضوء من الثقب المقابل، ليس يكون إلا في زمان، وإن كان خفيًا على العين". وهذا ما نعلمه اليوم. عارض ديكارت (ت. 1062هـ،1650م) هذه النظرية بعد 500 عام من وفاة ابن الهيثم حيث قال "إن مادة الهواء ممتدة من الثقب حتى السطح المقابل له حيث يرى الضوء منعكسًا مثل عصا الأعمى إذا لمس شيء مقدمتها أحس به الأعمى في الطرف الذي في يده فورًا دون زمان". وأخذ كثير من العلماء برأي ديكارت حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما أثبتت التجارب أن للضوء سرعة مقدارها 300,000كم في الثانية.كما وجد ابن الهيثم أن هناك خصائص حيلية (ميكانيكية) في انعكاس الضوء وانكساره ؛ فقد لاحظ أن بين امتداد الضوء وانطلاق الجسم المادي في الهواء شبهًا، إلا أن في الجسم المنطلق قوة تحركه إلى أسفل. ومن خصائص الضوء، أنه يستمر في امتداده على السّمت (الاتجاه المستقيم) الذي بدأ به حتى يعترضه ممانع (مقاوم)، فيتبدل حينئذ سيره من حيث الاتجاه والمقدار (الزيادة والنقص في سرعته). كما توصل ابن الهيثم إلى النسبة التي يكون بها التبدل في اتجاه الضوء وسرعته.
ومن إنجازاته في علم الضوء توصله من خلال النظرية التي أطلق عليها اسم تكوين الظل عن طريق أجسام نورانية إلى الحصول على صورة لجسم ما، عند ولوج الضوء الوارد منه خلال ثقب ضيق إلى مكان مظلم ليقع على حاجز أبيض، على ألا يكون الثقب صغيرًا جدًا فيضعف ضوء الصورة فتختفي عن الحس، ولا يكون واسعًا فيقل شبهها بالجسم الأصل، ولا يصبح واضحًا. وقام بأول تجربة بجهاز به ثقب يشبه آلة التصوير. وعندما بلغ هذه النتيجة لم يكد يصدق عينيه عندما شاهد العالم وقد أصبح أسفله أعلاه، فقد كان وضع الصورة وضعًا عكسيًا.
وكثير من الأبحاث الخاصة بالبصريات منذ روجر بيكون وفيتليو وليوناردو دافينشي، اعتمد على الأساس البحثي الذي خلّفه ابن الهيثم ؛ ففي ألمانيا عندما بحث كبلر في القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي في القوانين التي اعتمد عليها جاليليو في صنع منظاره، أدرك أن خلف عمله هذا كانت تقف أبحاث ابن الهيثم. وهناك مسألة مشهورة معقدة، نشأت في علم البصريات، حلها ابن الهيثم بمعادلة من الدرجة الرابعة تعرف اليوم باسم مسألة الحسن.
ومن أعماله التطبيقية في البصريات أنه حسب الانعكاس الذي يحدث في قطاع المرآة الكروية أو المخروطية ؛ أي الإشعاعات المتوازية التي تلتقي في نقطة الاحتراق، وفحص أثر الحرق وتكبير المرئيات ليس بوساطة المرآة المقعَّرة فحسب، بل بوساطة الزجاج الحارق والعدسة وبذلك كان من ثمرة جهده صنع أول نظارة للقراءة.
ومن آثار ابن الهيثم في العصر الحديث ما يطلق عليه الآن البؤرة. فقد درس خواص المرايا المقعَّرة، وكيفية تجميع أشعة الشمس في نقطة واحدة تحدث فيها حرارة شديدة. وهذا هو المبدأ عينه الذي يقوم عليه الفرن الشمسي المستعمل في وقتنا الحاضر. ومن آثاره أيضًا ما يسمى حاليًا الزيغ الكروي الطولي وهو مبحث يفيد كثيرًا في صناعة الآلات البصرية. فقد بيّن بالبراهين الهندسية أن أشعة الشمس المنعكسة من سطح مرآة مقعرة لا تنعكس جميعها إلى نقطة واحدة، وإنما تنعكس على خط مستقيم.
وصف ابن الهيثم أجزاء العين المهمة وطبقاتها لبيان عملها في نقل صور المرئيات إلى الدماغ. كما وصف انطباع صورة الجسم المرئي في العين حتى بعد غياب الشبح عن البصر، وأن أثر الضوء واللون يستمران فترة قد تطول أو تقصر بعد لفت العين عن الشبح المرئي ؛ فإذا أدام الإنسان النظر إلي جسم، أو إذا نظر إلى جسم شديد الإشراق، ثم لفت عنه النظر أو أغمض عينيه ؛ فإنه يظل يرى صورة ذلك الجسم متمثلة له لبضع ثوان. وتحدَّث عن وضوح الرؤية، وإدراك الظلمة والظلال، وشروط صحة الإبصار وأخطاء البصر التي تنتج عن غياب واحدة أو أكثر من شروط صحة الإبصار. كما تحدث عن الوهم الذي يدرك به البصر الكواكب عظيمة عند الأفق، وصغيرة في كبد السماء، وعزا ذلك إلى خطأ البصر (خداع البصر).
شرح ابن الهيثم بعض الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار. من ذلك الانكسار الفلكي ؛ فالضوء الذي يأتي من الأجرام السماوية يعاني انكسارًا باختراقه الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض. ويفسر هذا كيف أن النجم يظهر في الأفق قبل أن يبلغه بالفعل، وأننا نرى الشمس عند الشروق أو الغروب في وقت لم تصل فيه إلى مستوى الأفق بعد، بل تحته.كما لا يظهر قرصا الشمس و القمر مستديرين تمامًا قرب مستوى الأفق بسبب هذا الانكسار بل يبدوان بيضيين. ومن الظواهر الجوية التي بحث فيها ؛ الهالة التي تبدو محيطة بالشمس أو القمر، وعزا وجودها للانكسار، حينما يكون الجو مشبعًا بالبلورات الصغيرة من الثلج أو الجليد، فإن الضوء الذي يمر خلالها ينكسر وينحرف بزاوية معلومة، ومن ثم يصل الضوء إلى العين كأن مبعثه فقط حول الشمس أو القمر. وعلى الرغم من أنه لم يوفق في بعض القضايا التي طرحها ؛ مثل قوله في نماذج الألوان وأنها إذا تمازجت غلب الأقوى منها الأضعف، وقوله أيضًا إن الكواكب مضيئة بذاتها، وأن ضوءها ليس مكتسبًا من ضوء الشمس، إلا أننا نجد في أمثلته وحججه منطقًا يدفع إلى الإقناع، ويبرهن على سلامة منهجه ودقته في الاستنتاج حتى وإن لم يوفق في النتائج التي توصل إليها.
ذكر إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي) في رسائلهم موجزًا شاملاً في علم الأصوات وعلم الموسيقى، وضمنوا هذه الرسائل خلاصة للآراء التي سبقتهم منذ عهد فيثاغورث (ت 503ق.م). عرَّفوا الصوت بأنه "قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام، وذلك لأن الهواء لشدة لطافته، وسرعة حركة أجزائه، يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسمًا آخر، انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموَّج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزَّجَّاج (صانع الزجاج) فيها. وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضحمل".
وقد قسموا الأصوات إلى أنواع منها الجهير، والخفيف و الحاد والغليظ، وعزوا ذلك إلى طبيعة الأجسام التي تصدر عنها هذه الأصوات، وإلى قوة تموج الأصوات بسببها. وفي اهتزاز الأوتار الصوتية وقفوا علي العلاقة الكائنة بين طول الوتر وغلظه وقوة شدّه أو توتره، وهذه التقسيمات التي صنفوا إليها الأصوات، تتفق وتقسيم الأصوات في العلم الحديث من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة.
كما عللوا الصدى بأنه يحدث نتيجة لانعكاس الهواء المتموج من مصادمة جسم عال كحائط أو جبل أو نحوهما. وقد شرح الجلدكي هذه الظاهرة شرحًا كيفياً وليس قياسياً ؛ فيقول في أسرار الميزان: "ليس المراد منه حركة انتقالية من ماء أو هواء واحد بعينه بل هو أمر يحدث بصدم بعد صدم وسكون بعد سكون… والصدى يحدث عن انعكاس الهواء المتموج من مصادمة جسم عالٍ كجبل أو حائط، ويجوز ألا يقع الشعور بالانعكاس لقرب المسافة فلا يحس بتفاوت زماني الصوت وعكسه…".
قسّم إخوان الصفا الأصوات الحيوانية إلى ثلاثة أقسام ؛ 1 ـ أصوات حيوانية تصدر عن ذوات الرئة ؛ وتختلف أنواعها ونغماتها باختلاف أطوال أعناقها، وسعة حلاقيمها، وتركيب حناجرها، وقوة دفع الهواء من أفواهها ومناخرها، 2 ـ أصوات حيوانية تصدر عن ذوات الأجنحة عديمة الرئة ؛ كالزنابير والجراد والصراصير، وتنتج الأصوات التي تصدرها بسبب تحرك الهواء بأجنحتها، كما هو الحال عند تحريـك أوتـار العيــدان، ويعـزى اختـلاف أصواتهـا إلى لـطافـة أجنحـتها وغلظـها وطولهـا وسرعـة حركتـهـا، 3- أصوات حيوانية تصدر عن حيوانات عديمة الرئة والأجنحة ؛ كالأسماك والسلاحف والسرطانات، وتسمى الحيوانات الخرساء، وتختلف الأصوات التي تصدر عنها باختلاف يبسها وصلابتها، وباختلاف أحجامها من حيث الكبر والصغر، والطول والقصر والسعة والضيق.
لعل أفضل عمل وصل من الفلاسفة العرب في الأصوات، رسالة لابن سينا بعنوان أسباب حدوث الحروف. وقد قسّمها إلى ستة فصول ؛ الأول في سبب حدوث الصوت، والثاني في سبب حدوث الحروف، والثالث في تشريح الحنجرة واللسان، والرابع في الأسباب الجزئية لحرف من حروف العرب، والخامس في الحروف الشبيهة بهذه الحروف وليست في لغة العرب، والسادس في أن هذه الحروف من أي الحركات غير المنطقية قد تُسمع. والصوت عند ابن سينا ينتج عن تموج الهواء دفعة وبقوة وسرعة، وسبب التموج عنده ما يسميه بالقرع والقلع ؛ أي ما نسميه الآن بالتضاغط والتخلخل.
السلم الموسيقي الذي وضعه الكندي هو سلم الموسيقى العربية المستعمل الآن. والصورة صفحة من كتاب الموسيقى للكندي. |
نقل العرب إبان حركة الترجمة عددًا من كتب اليونان في الموسيقى، وبذلك انتقل إليهم كثير من النظريات اليونانية في الموسيقى. وكدأبهم في العلوم الأخرى كانوا عمليين، فلم يقبلوا نظرية إلا بعد التثبت منها عملياً. ومن المسلم به في الغرب أن ابن سينا والفارابي وغيرهما، زادوا على الموسيقى اليونانية وأدخلوا عليها تحسينات جمّة. وكتاب الفارابي (ت 339هـ،950م) المسمى كتاب الموسيقى الكبير لا يقل في قيمته عن الكتب اليونانية في الموسيقى، وفي الأندلس زاد زرياب (ت 238هـ، 852م) أوتار العود وترًا خامسًا وسطًا (في المكان والقوة) سمّاه الأوسط، وجعله في وسط الأوتار الأربعة تحت المثْلث وفوق المثْنى. ويقال إن الفارابي هو الذي اخترع الآلة المعروفة بالقانون، وقد أُطلِق على الفارابي لقب المعلِّم الثاني لأنه أول من وضع أسس التعاليم الصوتية كما سُمي أرسطو من قبل المعلم الأول لأنه أول من وضع المنطق. ولم يكن الفارابي إلا مطوِّرًا لمدرسة الكندي الذي يرجَّح أن يكون أول من كتب في نظرية الموسيقى. ومن تصنيفاته في هذا المجال المصوتات الوترية ؛ ترتيب الأنغام ؛ المدخل إلى الموسيقى ؛ رسالة في الإيقاع ؛ كتاب الموسيقى. والسلم الموسيقي الذي وضعه الكندي هو سلم الموسيقى العربية المستعمل الآن، ويشتمل على 12 نغمة. ونجد في رسائل إخوان الصفا بحثًا في الموسيقى أدرجوه في القسم الرياضي من الرسالة الخامسة يتناولون فيه صناعة الموسيقى، وكيفية إدراك القوة السامعة للأصوات، وأصول الألحان وقوانينها وكيفية صناعة الآلات وإصلاحها، ونوادر الفلاسفة في الموسيقى وتأثير الأنغام.
جدول قياسات الخازن | ||||||||||||||||||||||||
|
الميزان القبان |
الميزان الحساس |
يتضح من الجدول التالي وبمقارنة القيم التي توصل إليها العالمان المسلمان ـ البيروني والخازن ـ بقيم الوزن النوعي التي حددت بالوسائل المعاصرة، أن قيمها قريبة جدًا من القيم الصحيحة:
|
بحث العلماء المسلمون أيضًا في الثقل النوعي، وعرَّفوا الثقل والخفة فقالوا إن الجسم إذا ما أخرج عن موضعه الطبيعي فاتجه نحو مركز الأرض ؛ أي إلى أسفل يُسمّى ثقيلاً، أما إن هو اتجه نحو محيط العالم ؛ أي إلى العلو سُمّى خفيفًا. واستنبطوا طرقًا لحساب الوزن النوعي واخترعوا له الآلات، وقاموا بحساب ثقل عدد من الأجسام حسابًا يقارب التقدير الذي وصل إليه المعاصرون وأحيانًا يطابقه، وهم أول من وصل إلى نسب حقيقية بين وزن الأجسام المختلفة وبين وزن الماء. وأول من بحث في الثقل النوعي سند بن علي في عهد المأمون (199ـ 218هـ، 814ـ 833م)، ومن الذين بحثوا هذا الأمر ابن سينا أيضًا. أما العالمان اللذان بزّا غيرهما في هذا المجال فهما البيروني والخازن. فقد قام البيروني بتحديد الثقل النوعي لبعض الفلزات والجواهر باستخدام جهاز مخروطي الشكل ذي مصب بالقرب من فوهته، بحيث يتجه هذا المصب إلى أسفل. وكان يزن الجسم المطلوب قياس وزنه النوعي وزنًا دقيقًا، ثم يدخله في جهازه المخروطي المملوء بالماء، وهنا يحل الجسم الذي أدخله في الجهاز محل حجم مساوٍ له من الماء الذي يفيض من المصب، بعد ذلك يقوم بوزن الماء المزاح، ومن ثم يحدد الوزن النوعي للجسم بحساب النسبة بين وزن الجسم ووزن الماء الذي أزاحه. ويعد الجهاز الذي اخترعه البيروني أقدم مقياس لتعيين كثافة المواد.
الميزان الحساس |
إلى جانب أبحاثه في الثقل النوعي للسوائل وغيرها، بحث البيروني في ميكانيكا الموائع ؛ فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل وتوازنها، وشرح كيفية تجمع مياه الآبار والمياه الجوفية بالرشح من الجوانب، كما تحدث عن كيفية فوران المياه وانبثاق النافورات وصعود مائها إلى أعلى.
أما الخازن فقد وصف ميزانًا غريب التركيب لوزن الأجسام في الهواء والماء، وقام باستخراج الوزن النوعي لكثير من المعادن والسوائل والأجسام الصلبة التي تذوب في الماء، ووضعها في جداول في غاية الدقة وصلت صحتها في بعض الأحيان إلى درجة التطابق مع الوزن الحديث. وقد أتقن قياس الثقل النوعي للسوائل حتى لم يتعد خطؤه فيه ستة من مائة من الجرام في كل ألفين ومائتي جرام. ★ تَصَفح بعض هذا القياس في الجدول المبيّن هنا.
يجب أن ننظر إلى النسبة التي توصل إليها الخازن على أنها دقيقة جدًا إذا ما أخذنا في الحسبان دقة الأجهزة العلمية الحديثة. كما أن الاختلاف الطفيف بين ما وصل إليه الخازن وما وصل إليه المعاصرون يمكن تعليله ؛ فمياه البحر تختلف في مقدار ملوحتها. فالبحار الداخلية ـ كالبحر الميت وبحر قزوين ـ تكون نسبة ملوحتها أكثر، وبالتالي أثقل من مياه البحار المفتوحة كالمحيطات. كما أن الثقل النوعي للحليب يختلف باختلاف الأبقار والمراعي، ولم يذكر الخازن مياه البحر التي وزنها ولا نوع وعدد البقر الذي أجرى عليه التجارب.
علم الحيل والساعات. برع المسلمون في صنع الساعات التي تعمل بالماء والرمل والزئبق والشمع أو الأثقال المختلفة، كما اخترعوا الساعات الشمسية وأعطوها شكلاً دائريًا يتوسطه محور دائري آخر. واستطاعوا عن طريقها تحديد موقع الشمس والزمن ووضع التقاويم السنوية. وكانت الساعة الشمسية النقالة أو ساعة الرحلة كما كانوا يسمونها، أكثر اختراعاتهم أصالة في هذا المجال. كما اخترعوا نوعًا من الساعات الشمسية المنبِّهة التي كانت تعلن عن الوقت بصوت رنَّان وسُمِّيت الرخامة. كما صنعوا نوعًا من الساعات المائية كانت تقذف على رأس كل ساعة منها كرة معدنية في قدح، وتدور حول محور تظهر فيه النجوم أو رسوم أخرى، وما تلبث أن تبرق كلما جاوزت الساعة الثانية عشرة منتصف الليل وعندها يمر فوقها هلال مضيء.
ويوضح الجدول التالي نتائج قياسات البيروني للثقل النوعي لتسعة أنواع من المعادن منسوبة أولاً إلى الذهب وثانيًا إلى الماء، ومقارنتها بالقيم المعاصرة.
|
أهدى هارون الرشيد عام 192هـ، 807م إلى الملك شارلمان ساعة نحاسية أدهشته، وكانت تُسقط بعد مضي كل اثنتي عشرة ساعة كرة صغيرة تحدث لدى اصطدامها برقاص معدني إيقاعًا جميلاً، وكان بها 12 حصانًا تقفز من 12 بوابة كلما دارت الساعة دورة كاملة. وأشهر الساعات إلى جانب هذه الساعة كانت ساعة الجامع الأموي، وكانت هذه الساعة تُسقط عند كل ساعة من ساعات النهار صنجتين من فمي بازين على طاستين مثقوبتين. أما بالليل فتجهز بمصباح يدور به الماء خلف زجاجة داخل الجدار، وكلما انقضت ساعة من ساعات الليل عم الزجاجة ضوء المصباح، ولاحت للأبصار دائرة متوهجة حمراء. ومن الساعات الشهيرة أيضًا ساعة مرصد سُرَّ مَنْ رأى، وكانت بها دُمى تظهر في أوقات ومواعيد ثابتة لتؤدي بعض الحركات. وقد اخترع أبو سعيد عبدالرحمن بن يونس المصري (ت 399هـ، 1009م) رقّاص الساعة (البندول) ثم تبعه كمال الدين الموصلي (ت 639هـ، 1242م) وأضاف أشياء كثيرة تتعلق بتذبذب الرقاص.
متفرقات ِحيَلِية أخرى. للعرب اختراعات أخرى صمموا بعضها بغرض التسلية، وبعضها الآخر للأغراض العملية، وكانت كلها، تعمل وفق نظام تلقائي أو شبه تلقائي. وكانت صناعة اللعب والدُّمى المتحركة منتشرة بكثرة لديهم، وقد أفرد لها ابن الرزاز الجزري مؤلفًا سماه الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل. وكذلك ألّف أبوعامر أحمد الأندلسي كتابًا باسم الباهر في عجائب الحيل. وقد وصفا فيهما أنواعًا كثيرة من الدُمى التي كانت تصنع من الشمع وخامات أخرى وكانت تتحرك بنفسها، وضمَّنا كتابيهما عددًا كبيرًا من الرسوم الإيضاحية التي تبيِّن تركيب هذه الدُمى والآلات وطبيعتها.
من أشهر من كتب وعمل في علم الحيل أبناء موسى ابن شاكر الثلاثة، وهم محمد والحسن وأحمد، وكان ذلك في أواسط القرن الثالث الهجري. وقد برعوا في الرياضيات والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والحيل. بلغ أحمد في صناعة الحيل ما لم يبلغه أخواه، فقد كانت لديه مخيلة مبدعة قدّمت كثيرًا من المخترعات العملية للتدبير المنزلي، والألعاب الميكانيكية المدهشة للأطفال والأثقال وغيرها. من الآلات التي صنعها، دِنان تنزل منها كمية معلومة من السوائل، تعقب كل كمية منها فترة استراحة قصيرة، وآلات تمتلئ بالسوائل ثم تفرغها تلقائيًا، وقناديل ترتفع فيها الفتائل تلقائيًا ويصب فيها الزيت ذاتيًا أيضًا، ولا تنطفئ بفعل الهواء. كما اخترع آلة تحدث صوتًا بصورة ذاتية عند ارتفاع المياه إلى حد معين في الحقول عند سقيها، كما ابتكر عددًا من النافورات التي كانت تظهر صورًا متعددة بالمياه الصاعدة منها. ومن أعماله أيضًا خزانات للحمامات، والمعالف التي لا تستطيع الأكل أو الشرب منها سوى حيوانات صغيرة الحجم، ونافورات تندفع مياهها الفوارة على أشكال مختلفة. ومن إنجازاته بالمشاركة مع أخيه محمد في مرصد سُرَّ مَنْ رأى، آلة دائرية الشكل تحوي صور النجوم ورموز الحيوانات في وسطها وتدار بالقوة المائية، وكلما غاب نجم عن القبة السماوية ظهرت صورته في الخط الأفقي من الآلة. ومن الواضح أن هذا العمل يتطلب دراية واسعة بعلم الفلك إلى جانب علم الحيل. وكان من الطبيعي أن يستفيد علم الفلك من الآلات التي يخترعها أو يطورها العلماء المشتغلون بعلم الحيل. فقد طوّر العلماء المسلمون على سبيل المثال ؛ البوصلة التي اخترعها الصينيون. وكان الصينيون يستخدمونها في أمور غير ذات صلة بالعلم كالسحر والخرافات، فأخذها المسلمون وجعلوا لها بيتًا استفادوا منه في الملاحة وأطلقوا عليه بيت الإبرة. كما كانت لديهم آلات للتطويع وتقطيع الحلقات، فقد استعمل نصير الدين الطوسي (ت 672هـ، 1273م) في مرصده في مراغة المحلّقة ذات الحلقات الخمس والدوائر من النحاس. كما اكتشفوا طريقة خاصة صنعوا بها الحلقة ذات القطر البالغ خمسة أمتار، وزادوا بذلك ثلاث حلقات على المحلقات الفلكية الموجودة ؛ مما مكنهم من إجراء قياسات فلكية أخرى، ثم أضافوا مسطرة قياس الزوايا المعروفة باسم الأداد، وهي مسطرة تدور حول نقطة في طرفها وينتقل طرفها الآخر على دائرة ذات أقسام متساوية. وتوصل عباس بن فرناس (ت 260هـ، 873م) إلى صنع الزجاج من الرمال والحجارة، واخترع عددًا من الآلات الفلكية الدقيقة مثل الأداة المسماة ذات الحلق ؛ وهي آلة تتكون من عدة حلقات متداخلة تعلق في وسطها كرة تمثل حركة الكواكب السيارة. كما اخترع آلة لقياس الزمن أطلق عليها اسم الميقاتة، إلا أن أشهر محاولاته في علم الحيل هي تلك المحاولة التي لقي فيها حتفه ؛ فقد احتال لتطيير جسمه فمد لنفسه جناحين، ثم صعد إلى مكان عال أمام جمع غفير من أهالي قرطبة، واندفع في الهواء طائرًا دون أن يجعل لنفسه ذنبًا يحميه في هبوطه ويعطي لمقدم جسمه ومؤخرته نوعًا من التوازن، وحلّق مسافة ليست بالقصيرة ثم سقط على مؤخرته ومات. ولعله أول إنسان حاول الطيران في العالم.
العلماء العرب ألَّفوا في الميكانيكا (علم الحيل) وزودوا كتبهم بالرسوم الإيضاحية. وهذا نموذج من كتاب الجامع لابن الرزاز الجزري. |
لعل أول من اهتم بعلم الجاذبية من المسلمين هو ابن الحائك (334هـ، 946م)، وهو يقرر في أحد مصنفاته بأن ¸… النار إلى فوق والهواء متموج يمنة ويسرة على وجه الأرض، والماء يتحرك ويسير سفلاً، والأرض واقفة راكدة لذا كانت أكثر من الثلاثة قبولاً، وكان تأثير الأجرام العلوية والعناصر السماوية فيها أكثر، وكانت على ما فاتها من الأجسام أغلب وأشد جذبًا من الهواء والماء من كل جهاتها. فهي بمنزلة حجر المغنطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كل جانب·.
هناك علماء آخرون أشاروا إلى ظاهرة الجاذبية ؛ فثابت ابن قرّة ـ مثلاً ـ اكتشف أن الأجسام ذات الوزن النوعي الأثقل من وزن الهواء النوعي تنجذب من فوق إلى تحت ؛ فالمدرة (الطين اليابس) تعود إلى أسفل لأن بينها وبين كلية الأرض مشابهة من حيث البرودة والكثافة والشيء ينجذب إلى ما هو أعظم منه. وشرح ذلك محمد بن عمر الرازي في أواخر القرن السادس الهجري بأننا "إذا رمينا المدرة إلى فوق، فإنها ترجع إلى أسفل، ومن ذلك نعلم أن فيها قوة تقتضي الهبوط إلى أسفل ؛ لذا إذا رميناها إلى فوق أعادتها تلك القوة إلى أسفل". كما نجد أن ابن سينا قد ربط بين قوة اندفاع الجسم والسبب الذي أثار حركته.
تناول البيروني قوى الجاذبية في كتابه القانون المسعودي، فعنده "أن السماء تجذب الأرض من كل الأنحاء على السواء، إلا أن جذبها لكتلة الأرض أشد من جذبها للأجزاء الأخرى خاصة إذا لم تكن هذه الأجزاء متصلة بالأرض أو كانت بعيدة عنها، فحينئذ لا تتمكن السماء من جذبها إليها لأنها تكون خاضعة لمجال جذب الأرض لها" ؛ وبذلك يشير إلى نوعين من الجاذبية هما: جاذبية السماء للأرض، وجاذبية الأرض لما فوقها وحولها ؛ فالشيء ينجذب إلى النطاق الذي يقع في مجاله وإن كان هو ونطاقه منجذبيْن بدورهما إلى جرم السماء. والبشر بحكم وجودهم على سطح الأرض فهم منجذبون إليها، وهي بدورها منجذبة إلى السماء، ويبلغ ذلك الجذب أقصاه في باطن الأرض من حيث تنطلق الجاذبية الأرضية و¸الناس على الأرض منتصبو القامات على استقامة أقطار الكرة، وعليها أيضًا تزول الأثقال إلى السفل…·، ويعترض على القائلين بعدم دوران الأرض لأنها إذا دارت طارت من فوق سطحها الحجارة والأشجار، ويقول في هذا الصدد ¸إن هذا لا يقع لأنه لابد لنا من أن ندخل في الحساب أن الأرض تجذب كل ما عليها نحو مركزها·.
أدلى الخازن بدلوه في ظاهرة الجاذبية وخواص الجذب، تمامًا كما فعل في بحثه عن ظاهرة الضغط الجوي التي تحدث فيها قبل إيفانجليستا توريشلي بخمسة قرون. فقد أكد في كتابه ميزان الحكمة على العلاقة بين سرعة الجسم والمسافة التي يقطعها والزمن الذي يستغرقه. وقال إن الثقل هو القوة التي بها يتحرك الجسم الثقيل إلى مركز الأرض، وأن الجسم الثقيل هو الذي يتحرك بقوة ذاتية أبدًا إلى مركز الأرض فقط. وأنه إذا تحرك جسم ثقيل في أجسام رطبة فإن حركته فيها تكون وفق رطوباتها ؛ فتكون حركته في الجسم الأرطب أسرع. وإذا تحرك في الجسم الرطب جسمان متساويان في الحجم متشابهان في الشكل مختلفان في الكثافة، فإن حركة الجسم الأكثر كثافة فيه تكون أسرع. كما أن الأجسام الثقال قد تتساوى أثقالها، وإن كانت مختلفة في القوة والشكل ؛ فالأجسام المتساوية الثقل هي التي إذا تحركت في جسم واحد من الأجسام الرطبة من نقطة واحدة، كانت حركتها متساوية ؛ أي أنها تقطع في أزمنة متساوية مسافات متساوية. والأجسام المختلفة الثقل هي التي إذا تحركت على هذه الصفة كانت حركاتها مختلفة.
قام الشريف الإدريسي (ت560هـ، 1165م) بالتصنيف والعمل في مختلف فروع المعرفة، وقد تناول ظاهرة الجاذبية في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. ففي معرض حديثه عن كروية الأرض يقول ¸إن الأرض مدورة كتدوير الكرة، والماء لاصق بها وراكد عليها ركودًا طبيعيّاً لا يفارقها، والأرض والماء مستقران في جوف الفلك كالمح (الصفار) في جوف البيضة. ووضعهما وضع متوسط، والنسيم محيط بهما من جميع جهاتهما، وهو جاذب لهما إلى جهة الفلك، أو دافع لهما. والله أعلم بحقيقة ذلك، والأرض مستقرة في جوف الفلك وذلك لشدة سرعة حركة الفلك، وجميع المخلوقات على ظهرها، والنسيم جاذب لما في أبدانهم من الخفة، والأرض جاذبة لما في أبدانهم من الثقل، بمنزلة حجر المغنطيس الذي يجذب الحديد إليه·.
هناك علماء آخرون غير ابن الحائك والبيروني والخازن تناولوا ظاهرة الجاذبية. من هؤلاء ابن خرداذبة ومحمد بن عمر الرازي، والبوزجاني، وهبة الله بن ملكا البغدادي المعروف باسم أوحد الزمان، الذي يقول في كتابه المعتبر في الحكمة أن الجسم يسقط حرًا تحت تأثير قوة جذب الأرض متخذًا في ذلك أقصر الطرق في سعيه للوصول إلى موضعه الطبيعي، وهو الخط المستقيم، ¸فلو تحركت الأجسام في الخلاء لتساوت حركة الثقيل والخفيف والكبير والصغير والمخروط المتحرك على رأسه الحاد، والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة في السرعة والبطء، لأنها تختلف في الملاء بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخزون كالماء والهواء وغيره·.
كانت هذه الأبحاث المتناثرة للعلماء المسلمين، اللبنة الأولى لعلم الجاذبية التي بنى عليها كل من كوبر نيكوس (878-950هـ، 1473- 1543م) ويوهان كبلر (979-1040هـ، 1571 -1630م) نظرياتهما واستقيا من العلماء العرب والمسلمين علومهما كما اعترفا هما بذلك. كما استفاد من هذه اللبنات أيضًا كل من جاليليو (972 ـ 1052هـ، 1564 ـ 1642م) وإسحق نيوتن (1052 ـ 1140هـ، 1642 ـ 1727م) لوضع القوانين القائمة على أسس رياضية لتحديد قوة الجاذبية.
أما المغنطيس فقد كان الإغريق أول من اكتشف فيه خاصية الجذب، وكان ذلك قبل ما يزيد على 2000 سنة. فقد كانوا يجلبون نوعًا من الحجر من منطقة تسمى مغنسيا له قدرة على الجذب، وكان أهلها يسمون المغنطيِّين ؛ ومن ثم أطلقت كلمة مغنطيس على هذا الحجر. وعرف العرب والمسلمون المغنطيس والمغنطيسية. وقد استفادوا من خاصتين أساسيتين هما الجذب وإشارته إلى الاتجاه واستخدموا ذلك في أسفارهم البحرية. ويقول البيروني إن حجر المغنطيس كالكهرمان له خاصية الجذب، لكنه أكثر منه فائدة لأنه يستطيع أن ينتزع شفرة من الجرح، أو طرف المشرط من أحد العروق، أو خاتمًا معدنيًا ابتلعه الإنسان واستقر في بطنه. ويقال إن العرب استخدموا في هياكل سفنهم التي تعبر الخليج العربي ألياف النخل التي يتم إدخالها في ثقوب بالألواح الخشبية، بينما استخدموا المسامير الحديدية للسفن التي كانت تبحر في البحر الأبيض المتوسط. ويعود السبب في ذلك إلى وجود صخور مغنطيسية خفية يمكن أن تُعرِّض السفن التي يستخدم فيها الحديد إلى الخطر.
استخدم المسلمون الإبرة المغنطيسية (البوصلة)، وقد اختلف العلماء في نسبة اختراع بيت الإبرة كما سمّاها العرب. فمن العلماء من ينسب ذلك إلى الصينيين، إلا أن المؤرخ الصيني تشو يو يؤكد أن الصينيين قد عرفوا البوصلة عن طريق ملاحين أجانب قد يكونون من الهنود أو من المسلمين الذين كانوا يبحرون بين سومطرة وكانتون. ويقول آخرون إن البحارة المسلمين، على الأرجح، كانوا أول من استخدم خاصية الاتجاه في المغنطيس في صنع بيت الإبرة في رحلاتهم البحرية وذلك حوالي القرن الرابع الهجري. كما استخدموها في ضبط اتجاه القبلة وإقامة المحاريب في المساجد. أما ادعاء البعض بأن اختراع البوصلة تم على يد الإيطالي فلافيوجويا، فليس هناك من دليل يعضده ؛ إذ إن أقدم الإشارات إلى البوصلة واستخدامها في المصادر الأوروبية ترد في كتاب فنسان دي بوفيه المنظار الطبيعي وكان مصدره الوحيد في هذا الكتاب هو جيرار الكريموني الذي ترجم ذخيرة كبيرة من المصنفات العربية مما يؤكد أن المصدر كان عربياً. وتدل بعض المخطوطات والمؤلفات القديمة أن بعض العلماء العرب أجروا بعض التجارب الأولية في المغنطيسية.
جدول يبين قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تشريح العين من أهم بحوث ابن الهيثم التي وردت في كتاب المناظر. |
ألّف ابن الهيثم كتاب المناظر الذي يعد أهم كتاب ظهر في عصور الازدهار الإسلامية ـ العصور المظلمة في أوروبا ـ وكان أكثر المصنفات استيفاء لبحوث الضوء. فقد كانت المعلومات في هذا المجال قبله مفككة لا رابط بينها. ولما جاء أنشأ هذا العلم على أسس صحيحة، ساهمت في تطوره، وانعكست نتائج هذا التطور في العلوم الأخرى ذات العلاقة به كالفلك والطبيعة. لذا كان من أعظم مآثره أنه أبطل علم المناظر القديم وأنشأ علم الضوء بالمعنى المعروف حديثًا. ومن أهم البحوث والآراء التي وردت في المناظر: 1ـ طبيعة الضوء، 2ـ الانعكاس، 3ـ الانعطاف والانكسار، 4ـ تشريح العين، 5ـ الإبصار وكيفية حدوث الرؤية، و6ـ أغلاط البصر وأوهامه. أما آراؤه في الضوء والبصريات فيمكن الاطلاع عليها تحت البصريات في هذه المقالة.
أثره في الغرب. كان أثر ابن الهيثم كبيرًا سواءً في الشرق حيث عاش ومات أو في الغرب حيث انتشر ذكره وذاع صيته. ولم يكن هناك من معاصريه من كان يدانيه في ميدان البصريات وفي عبقريته العلمية، ولا في حياته الشخصية التي كانت انعكاسًا لإخلاصه للعلم وحب البحث. ومن الغريب أن تأثيره في الشرق لم يكن بنفس القدر الذي كان في الغرب، وقد ظلت شهرته في الشرق جانبًا من التاريخ المروي ؛ لقلة من تأثر بنظرياته العلمية من العرب والمسلمين. ولم يذع صيته إلا بعد أن قام كمال الدين الفارسي (ت720هـ،1320م) بشرح كتاب المناظر وعلق عليه وسمّاه كتاب تنقيح المناظر لذوي الألباب والبصائر.
أما في الغرب، فقد أقبل المترجمون والمنتحلون على كتب ابن الهيثم التي بقيت منهلاً عامًا ينهل منه أكثر علماء القرون الوسطى مثل روجر بيكون وكبلر ودافينشي وويتلو وهوبكنز. ونقلت كتبه في الرياضيات والفلك والفيزياء إلى اللغات العبرية والأسبانية والإيطالية، أما اللغة اللاتينية فيبدو أن جيرار الكريموني (ت 583هـ، 1187م) قد نقل إليها كل كتاب المناظر لابن الهيثم، كما نقله ويتلو إلى اللاتينية عام 1270م. ومن أوائل من تأثروا بابن الهيثم في علم الضوء روبرت جروستست (ت 650هـ، 1253م) الذي يعد من رواد الحركة العلمية في الغرب. وكذلك ويتلو الذي ضمن أبحاثه عن الضوء كثيرًا من آراء ابن الهيثم ؛ من ذلك الخزانة السوداء ذات الثقب و تعليل قوس قزح. كما نجد أن كتاب علم المناظر لجون بيكام (ت 691هـ، 1292م) ليس سوى اقتباس ناقص من كتاب المناظر لابن الهيثم. أما أعظم علماء الغرب الذين نهلوا من العلم العربي ثم حملوا نتاجه إلى أوروبا فهو روجر بيكون الذي درس العربية وشجع على تعلمها للأخذ من العلوم الفلسفية العربية. ونجد أن أبحاث ابن الهيثم في علم المناظر قد ألهمت الكثيرين من علماء أوروبا. وأن بعضًا من البحوث التي تنسب إلى المشهورين منهم قد وردت في مؤلفاته خاصة المناظر ؛ فإن مستوى هذا الكتاب من منظور علمي، يفوق مستوى كثير من الكتب العلمية التي صنفها الغربيون في العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة في أوروبا.
إسهام البيروني. كان البيروني ثالث ثلاثة ـ بعد ابن سينا وابن الهيثم ـ ازدهت بهم الحضارة العربية الإسلامية في الفترة من منتصف القرن الرابع الهجري إلى منتصف القرن الخامس الهجري. ويذهب بعض مؤرخي العلوم مثل الألماني إدوارد سخاو (ت 1348هـ،1930م) إلى ¸أن البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ·. وقد كان البيروني يرى في وحدة الاتجاه العلمي في العالمين الإسلامي والغربي اتحاد الشرق والغرب. وكأنه كان يدعو إلى إدراك وحدة الأصول الإنسانية والعلمية ؛ فنجده يطري اليونانيين، ويطري العرب ولغتهم ـ على الرغم من أصله العجمي ـ ويشيد بالهنود، ويعدد مزايا كل شعب من هذه الشعوب، ودعا إلى أخذ العلم من أي مصدر أو لغة أو شعب. وقد كان يجيد الفارسية، واليونانية، والسريانية، والسنسكريتية إلى جانب العربية. وسعة اطلاعه على تراث هذه اللغات جعلته متمكنًا، على سبيل المثال، من انتقاد المنهج الذي اتبعه الهنود لأنه حسب رأيه مليء بالأوهام وغير علمي. كما مكّنه ذلك من بيان وجود التوافق بين الفلسفة الفيثاغورية والأفلاطونية والحكمة الهندية والكثير من مبادئ الصوفية.
يكاد يكون البيروني قد ألّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره ؛ فقد كتب في الرياضيات والفلك والتنجيم والحكمة والأديان والتاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والأحياء والصيدلة. أما في مجال الطبيعيات فقد اهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموانع والهيدروستاتيكا، ولجأ في بحوثه إلى التجربة وجعلها محورًا لاستنتاجاته. كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين. ومن جملة اهتماماته بالخواص الفيزيائية للمواد التي وردت في كتب متفرقة كالقانون المسعودي، و الجماهر في الجواهر وصفه للماس بأنه جوهر مُشِفّ وأنه صلد يكسر جميع الأحجار ولا ينكسر بها. وهذه صفة فيزيائية مميزة للماس حيث يستخدم حتى الآن لقطع الزجاج ويستخدم مسحوقه لصقل المعادن وتنعيمها. أما خشب الأبنوس عنده فإنه يضيء كاللؤلؤ، تفوح منه رائحة طيبة ولا يطفو على الماء لأن ثقله النوعي أكثر من واحد. كما يشير إلى أن كل الأحجار الكريمة ¸تطفو في الزئبق ما خلا الذهب فإنه يرسب فيه بفضل الثقل·. ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا بعضها من الأحجار الكريمة مستخدمًا الجهاز المخروطي الذي سبق توضيحه. وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر منسوبة إلى الذهب مرة، وإلى الماء مرة أخرى كما سبق أن ذكرنا. وله جداول حدد فيها قيم الثقل النوعي لبعض الأحجار الكريمة منسوبة إلى الياقوت على أساس الوزن النوعي للياقوت = 100 ثم إلى الماء.
وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني، مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثها في كتب مختلفة ولكن أشهر آرائه في ذلك ضمنها كتابه القانون المسعودي. ★ تَصَفح: الجاذبية والمغنطيس في هذه المقالة.
من المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء. فقد لاحظ أن المعادن تتمدَّد عند تسخينها، وتنكمش إذا تعرضت للبرودة. وأولى ملاحظاته في هذا الشأن كانت في تأثير تباين درجة الحرارة في دقة أجهزة الرصد، حيث تطرأ عليها تغيرات في الطول والقصر في قيظ النهار وصقيع آخر الليل. وتعرض في كتابه الآثار الباقية عن القرون الخالية لميكانيكا الموائع ؛ فشرح الظواهر التي تقوم على ضغط السوائل واتزانها وتوازنها، وأوضح صعود مياه النافورات والعيون إلى أعلى مستندًا إلى خاصية سلوك السوائل في الأواني المستطرقة. كما شرح تجمع مياه الآبار بالرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها، وتكون سطوح ما يجتمع منها موازية لتلك المياه، وبيَّن كيف تفور العيون وكيف يمكن أن تصعد مياهها إلى القلاع ورؤوس المنارات. وتحدث عن ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار وعزاهما إلى التغير الدوري لوجه القمر. أما فيما يختص بسريان الضوء فقد فطن إلى أن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت، واتفق مع ابن الهيثم وابن سينا في قولهما بأن الرؤية تحدث بخروج الشعاع الضوئي من الجسم المرئي إلى العين وليس العكس. كما يقرر أن القمر جسم معتم لا يضيء بذاته وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس عليه. وكان البيروني يشرح كل ذلك بوضوح تام، ودقة متناهية في تعبيرات سهلة لا تعقيد فيها ولا التواء.
إسهام الخازن. يعد الخازن أبرز الذين وضعوا مؤلفًا في الموازين وعلم الميكانيكا والهيدروستاتيكا، ويعد كتابه ميزان الحكمة موسوعة تشمل هذين العلمين بما في ذلك الأثقال والأوزان النوعية لكثير من المعادن. واخترع الخازن آلة لمعرفة الوزن النوعي للسوائل ووصل في تجاربه إلى درجة عظيمة من الدقة، واستخدم ميزان الهواء للحصول على الثقل النوعي للسوائل بكل نجاح وتوصل في ذلك أيضًا إلى نتائج باهرة إذا ما قورنت بالتقديرات الحديثة.
كتب الخازن أبحاثًا أصيلة في المرايا وأنواعها وحرارتها، والصور الظاهرة فيها، وفي انحراف الأشياء وتجسيمها ظاهريًا، وأجرى تجارب لإيجاد العلاقة بين وزن الهواء وكثافته. وأوضح أن المادة يختلف وزنها في الهواء الكثيف عنه في الهواء الخفيف لاختلاف الضغط، كما بيَّن أن قاعدة أرخميدس لا تسري فقط على السوائل، بل تسري أيضًا على الغازات. وفي كتابه ميزان الحكمة، الذي عثر عليه في منتصف القرن التاسع عشر، استيفاء لبحوث مبتكرة في الفيزياء عامة والهيدروستاتيكا والميكانيكا خاصة. وقد سبق الخازن في هذا الكتاب، غيره في الإشارة إلى مادة الهواء ووزنه، وقال إن للهواء وزنًا وقوة رافعة كالسوائل تمامًا ؛ فالهواء كالماء يحدث ضغطًا من أسفل إلى أعلى على أي جسم مغمور فيه. وعلى ذلك فإن وزن أي جسم مغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقص من الوزن يتوقف على كثافة الهواء. ولاشك في أن هذه الدراسات هي التي مهّدت لدراسات توريشلي وباسكال وبويل وغيرهم ومهّدت بذلك لاختراع البارومتر. وتناول في الكتاب نفسه ظاهرة الجاذبية. وقال: إن الأجسام تتجه في سقوطها إلى الأرض، وأن ذلك ناتج عن قوة تجذب هذه الأجسام في اتجاه مركز الأرض، كما تكلم عن الأنابيب الشعرية. وفي الميزان الجامع يبحث في المقدمات الهندسية والطبيعية لبناء الميزان، ومراكز الأثقال كما وصفها ابن الهيثم وأبو سهل الكوهي، ومقدار غوص السفن. كما يبحث في أسباب اختلاف الوزن، ومعرفة النسب بين الفلزات والجواهر في الحجم، وموازين الماء وفحصها، واستخدام الصنجات الخاصة بالموازين، ووزن الدراهم والدنانير دون صنجات، وميزان الساعات وميزان تسوية الأرض. وقد ترجمت كتابات الخازن إلى اللاتينية ثم الإيطالية في وقت مبكر واستعانت بها أوروبا في العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.
إسهامات ابن ملكا. اشتهر أبو البركات هبة الله بن ملكا البغدادي المعروف بأوحد الزمان (ت560هـ،1165م) بأعماله الطبيّة إلى جانب مساهمته في مجال علم الحركة (الديناميكا). ومن المعروف أن الفضل في جمع قوانين الحركة الثلاثة وصياغتها صياغة علمية يرجع إلى إسحق نيوتن، إلا أن القانون الثالث الذي ينص على ¸أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه· قد تناوله ابن ملكا في كتابه المعتبر في الحكمة ؛ إذ يصّرح بأن ¸الحلقة المتجاذبة بين المصارعيْن لكل واحد من المتجاذبيْن في جذبها قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه تكون قد خلت من قوة الجذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب·. ولقد أشار ابن سينا إلى القانون الأول للحركة، عندما ذكر أن للجسم من طبعه ما يحافظ به على استمراره في حالة السكون أو في حالة الحركة. وأن تغيير الوضع لايحدث إلا بتدخل جسم خارجي فيحس هذا الجسم الخارجي بمقاومة لتدخله تحاول إبقاء الحالة التي كان عليها الجسم عند هذا التدخل.
وهناك علماء آخرون ظهروا في الحقبة قيد البحث يضيق المجال هنا عن ذكر إسهاماتهم. للاطلاع على أسماء هؤلاء العلماء، ★ تَصَفح جدول أشهر الفيزيائيين العرب وأهم مؤلفاتهم في هذه المقالة.
أشهر الفيزيائيين العرب وأهم مؤلفاتهم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الأحياء |
علماء اللغة الذين اهتموا بالنبات في كتاباتهم | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
أخذ العرب معلوماتهم الأولى عن النبات من مصادر مختلفة، هندية ويونانية وفارسية ونبطية ؛ فقد ترجموا كتب ديسقوريدس وجالينوس في علم النبات. ولم يكن عملهم في هذه الكتب الترجمة وحسب، بل كانوا يضيفون إلى ذلك الشروح والتعليقات. واقتبسوا منها ومن غيرها ما رأوه مفيدًا لتطوير زراعة أراضيهم داخل الجزيرة وأراضي البلدان التي فتحوها. وبذا نوعوا ثمراتها بإدخال أصناف جديدة، وزادوا في غلاتها، واستغلوا معرفتهم الجديدة بإدخال عقاقير ذات أصل نباتي لم تكن معروفة عند من نقلوا منهم من اليونانيين مثل: التمر الهندي والكافور والزعفران، والراوند والسّنامكة والإهليلج وخيار الشنبر. ونقلوا ثمار بعض النباتات الطبية من الهند كالأترج المدور الذي زرعوه في عمان، وجاءوا بالبرتقال من أوروبا من بلاد البرتغال.
لاشك أن العرب، قد تأثروا بالبلاد التي فتحوها كمصر والشام والعراق وفارس وشمال إفريقيا والأندلس. وفي الوقت نفسه نجد أن تلاقيًا وتبادلاً قد حدثا بين ثقافات هذه الشعوب، وصار الاتصال بينها ميسورًا بعد أن أصبحت تحت لواء أمة واحدة يجمعها دين الإسلام. لذا فما كان موجودًا في مصر من هذه الأمصار نقل إلى غيره ليسد الحاجة الاقتصادية هناك. ولما فتح المسلمون هذه البلدان عمدوا إلى إصلاح وسائل الري وتنظيمها ببناء السدود وحفر القنوات وإقامة الجسور والقناطر. واستغلوا الأراضي الزراعية باستنبات النبات المناسب في التربة الصالحة له، بعد أن وقفوا على خصائص أنواع التربة. كما اعتنوا بتسميد التربة، وجلبوا إلى جزيرة العرب وإلى البلدان التي صارت تحت أيديهم أنواعًا كثيرة من الأشجار والنبات والغلال كالأرز وقصب السكر والزيتون والمشمش التي أدخلوها إلى أوروبا،كما نقلوا إلى أوروبا نباتات وأعشاباً طبية وعطرية كثيرة. وكان من دأب المسلمين إذا فتحوا أي بلد بدأوا بشيئين لا يحيدون عنهما: بناء المسجد وإقامة المشاريع الزراعية ؛ لذا فقد كان همّ الولاة الأول ـ بعد العبادة ـ الاستقرار الاقتصادي القائم على الزراعة. ومن ثَمَّ سرعان ما قامت الحدائق والجنان التي تبدو فيها مظاهر الترف بعد وقت قصير من الاستقرار. حدث ذلك في المشرق والمغرب على حد سواء، فانتشرت الحدائق التي أخذت بالألباب في كل من بغداد ودمشق ومكة والمدينة المنورة والقاهرة وقرطبة وصقلية وأشبيليا. وفي أسبانيا اليوم بقايا من هذه الحدائق مثل: حديقة المركيز دوفيانا، وحديقة القصر الملكي في أشبيليا، وجنة العريف في غرناطة، وبستان مسكن الملك الغربي في رندة. وقد أقاموا بعضًا من هذه الحدائق لتكون بمثابة حقول للتجارب الزراعية كما حدث في بغداد والقاهرة وقرطبة وغيرها، وتوصلوا من خلال هذه التجارب إلى إدراك الاختلاف التكاثري بين بعض النباتات. وتفنن العرب في هذه التجارب إلى أن استولدوا وردًا أسود، وأكسبوا بعض النباتات صفات بعض العقاقير في مفعولها الدوائي. وغرس العرب أشجارًا ثنائية المسكن فقد كانت لديهم أفكار واضحة حول إكثار النسل، وعنوا بالتسلسل النباتي. ومن العرب عرف الغرب الأفاوية كجوز الطيب، والقرنفل.
النبات وعلم اللغة. بدأ اهتمام العرب والمسلمين في علم النبات مرتبطًا بعلم اللغة العربية. فقد كانت النباتات بأسمائها ومسمياتها تشغل حيزًا كبيرًا من معجم مفردات العربية المنطوقة، وقد بدأ جمع مسمّيات هذه النباتات جنبًا إلى جنب مع جمع شتات اللغة وتدوين ألفاظها وذلك منذ صدر الإسلام. دونوا في البدء أسماء النباتات وأقسامها وكذلك الحيوانات على أنها أبواب من اللغة لا على أنها علم قائم بنفسه. فقد اعتبروا أن الزروع والثمار والأشجار والكروم والنخيل ينبغي أن تدخل معجم مفردات اللغة مرتبة وفق ترتيبها المعجمي. لذا دونوها مع اللغة وحفظت في دواوينهم على أنها جزء لا يتجزأ من اللغة وليست علمًا مستقلاً.
بدأ تدوين ألفاظ اللغة العربية نحو عام 155هـ، 772م. وقيل إن أول المصنفين كان عبدالملك بن جريج البصري. وتذخر المعاجم العربية مثل كتاب العين للخليل ابن أحمد ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز أبادي وتاج العروس للزبيديّ بحصيلة وافرة من أسماء النباتات والأشجار والزروع. ثم بدأت الكتابات عن النبات تأخذ صفة التخصص وتفرد لها فصول في كتب متعددة. فنجد أن النّضر بن شميل (ت 204هـ،820م) يفرد الجزء الخامس من كتابه كتاب الصفات في اللغة للزروع والكروم والأعناب وأسماء البقول والأشجار. ثم ارتقى التصنيف خطوة أكثر تخصصًا بالتأليف الكامل عن الزراعة، وكان ذلك على يد أبي عبيدة البصري (ت 208هـ، 823م) في مؤلفه كتاب الزرع، ثم تلاه الأصمعي (ت 214هـ، 829م) وأبو زيد الأنصاري (ت 215هـ،830م) في كتاب النبات والشجر لكل منهما.
قد يتبادر إلى الذهن أن تدوين أسماء النبات في المعاجم كان عملاً نظرياً في مجمله، لكن هناك من العلماء من كان يدون ذلك ميدانياً. ففي لسان العرب يقول ابن منظور في مادة عفار: ¸قال أبو حنيفة أخبرني بعض أعراب السراة أن العفار شبيه بشجرة الغبيراء الصغيرة، إذا رأيتها من بعيد لم تشك أنها شجرة غبيراء ونورها أيضًا كنورها...·، ويذكر أن النّضر بن شميل قضى 40 سنة في البادية ليجمع أشتات النبات ويشاهد النبات في بيئته ويضبط مصطلحه. وكانت مصادر كل هؤلاء اللغويين حتى تلك الحقبة، مصادر عربية بحتة لم تتطرق إليها مفردات دخيلة إلا في وقت لاحق على يد العشابين اللاحقين كابن البيطار والزهراوي وغيرهما ممن اعتمد إلى جانب المصادر العربية أخرى فارسية ولاتينية ورومانية.
ومن اللغويين الذين تناولوا النبات في أعمالهم الخليل ابن أحمد (ت 180هـ، 796م) في كتاب العين وهشام ابن إبراهيم الكرماني (ت نحو 216هـ، 831م) في كتابه كتاب النبات، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 223هـ، 837م) في الغريب المصنف. أما أبو حنيفة الدينوري (ت 282هـ، 895م) فيعدّ أول من ألّف في الفلورا (الحياة النباتية) العربية ويتضح ذلك في مصنفه كتاب النبات والشجر الذي جمع فيه ما يزيد على 1120 اسمًا من أسماء النباتات الموجودة في الجزيرة العربية. ومن اللغويين الذين أولوا النبات عنايتهم ابن السكيت (ت 243هـ، 857م)، والجوهري صاحب الصحاح (ت 393هـ، 1002م)، وابن سيده (ت 458هـ، 1066م)، صاحب المخصص، وابن منظور (ت 711هـ، 1311م) صاحب لسان العرب.
تصنيف النباتات. صنّف العرب نباتات بيئتهم تصنيفات شتى. منها ما يقوم على أساس لغوي كما ظهر لدى الخليل والأصمعي وخلافهما، ومنها ما كان تقسيمًا تفصيلياً عامًا مثل تصنيف ابن سينا، ومنها ما يعتمد على النوع كتصنيف إخوان الصفا وخلان الوفا. كما عرفوا التصنيف وفقًا لعوامل التربة أو ما يعرف حديثًا بالمجتمعات التُّربِيَّة ؛ أي تلك التي يتأثر تكوينها الخضري بعوامل التربة، ومن هذه التصنيفات ما يكاد يقرب من تقسيم النباتات إلى نظام الفصائل المتبع حالياً.
تناول ابن سينا النبات فتكلم عنه كلامًا عامًا. وتوصل إلى أن "من النبات ما هو مطلق (قائم على ساقه)، ومنه ماهو حشيش مطلق (منبسط على الأرض)، ومنه ما هو بقل مطلق (لا ساق له) مثل الخس. ومن النبات ماهو شجر حشيش ؛ وهو الذي ليس له ساق منتصبة وساق منبسطة مستندة إلى الأرض، أو الذي يتكون ويتفرع من أسفل مع انتصاب كالقصب، وأما الحشائش العظيمة وبعض الحشائش العشبية فمنها الذي له توريق من أسفله وله مع ذلك ساق كالملوكية (الملوخية). أما النبات البقلي فكثير منه ما لا ساق له تنتصب، وليس مستندًا بما هو ورق كالخس والحماض والسلق. وذلك بحسب أغراض الطبيعة ؛ فإن من النبات ما الغرض الطبيعي في عوده وساقه، ومنه ما هو في أصله، ومنه ما هو في غصنه، ومنه ما هو في قشره، ومنه ما هو في ثمره وورقه".
أما النباتات المتسلقة، فإن ما يحفزها على هذا التسلق تعجيل نضجها. وفي هذا الصدد عقد ابن سينا مقارنة بين العنب والبطيخ. وتحدث عن توالد النبات من الثمرة والبذرة والشوك والصموغ وأشباهها. فقال: "إن من ثمر الشجر ما هو مكشوف مثل العنب والتين وغيرهما، ومنه ما هو في غلاف قشري كالباقلا، ومنه ما هو في غلاف غشائي كالحنطة، ومنه ما هو في قشر صلب كالبلوط، ومنه ما هو ذو عدة قشور كالجوز واللوز، ومنه ما هو سريع النضج جدًا، وما هو بطيء، ومنه ما يثمر في السنة مرارًا، ومنه ما لنضجه وقت معلوم، ومنه ما ليس لنضجه وقت".
وتناول أعضاء النبات المتشابهة كاللحاء والخشب واللباب، والأعضاء المركبة مثل الساق والغُصن والأصل (الجذر). وقال: ¸وللنبات أشياء شبيهة بالأعضاء الأصلية وليست بها كالورد والزهر وكالثمرة ؛ فإنها ليست أعضاء أصلية ولكنها كمالية كالشعر للإنسان... والثمرة لا يحتاج إليها في جميع أجزائها لتكون للنبات أعضاء أصلية أو يكون لها توليد، وأما البذر فإنه يحتاج إليه في جميع أجزائه·.
يصنف إخوان الصفا، في رسالتهم الثانية، النباتات إلى ثلاث مجموعات: أشجار، وزروع وأجزاء (كلأ، وعشب، وحشائش). ولإخوان الصفا آراء جديرة بالاهتمام في أنواع النبات تكاد في مجملها تقرب من الآراء الحديثة، ملخصها أن النباتات هي كل جسم يخرج من الأرض، ويتغذى وينمو. "ومنها ما هي أشجار تغرس قضبانها أو عروقها، ومنها ما هي زروع تبذر حبوبها أو بذورها أو قضبانها، ومنها ماهي أجزاء تتكون إذا اختلطت وامتزجت كالكلأ والحشائش. فالشجر نبت يقوم على ساقه منتصبًا في الهواء، ويحول عليه الحول فلا يجف، بخلاف النجم وهو كل نبت لا يقوم أصله على ساقه مرتفعًا في الهواء، بل يمتد على وجه الأرض، أو يتعلق بالشجر ويرتقي معه في الهواء كالكرم والقرع والقثاء والبطيخ وما شاكلها. ومن الشجر ما هو تام كامل، ومنها ما هو ناقص، ومن التام ما هو أتم وأكمل من بعض، ومن النبات والأشجار ما ورقه وثمره متناسب في الكبر واللون والشكل واللمس كالأترج والليمون والنارنج والكمثرى والتفاح، ومنها ما هو غير متناسب كالرمان والتين والعنب والجوز. وعلى هذا حكم حبوب النباتات وبذورها.
ومن النبات ما ينبت في البراري والقفار، ومنه ما ينبت على رؤوس الجبال، وشطوط الأنهار، وسواحل البحار، والآجام والفيافي، ومنه ما يزرعه الناس ويغرسونه. وأكثر النبات ينبت على وجه الأرض إلا القليل منه فإنه ينبت تحت الماء كقصب السكر والأرز، ومنه ما ينبت على وجه الماء كالطحلب، أو ما ينسج على الشجر كاللبلاب، أو ينبت على وجه الصخور كخضراء الدمن.
ومن النباتات ما لا ينبت إلا في البلدان الدفيئة، ومنه ما لا ينبت إلا في البلدان الباردة. وبعضها لا ينبت إلا في الأرض الطيبة ومنه ما لا ينبت إلا بين الحصى والحجارة والأرض اليابسة والصخور، ومنها ما لا ينبت إلا في الأراضي السبخة.
وينبت أكثر العشب والكلأ والحشائش في الربيع، أما الذي ينبت منها في الفصول الثلاثة الأخرى فقليل. ومن أوراق الشجر والنبات ما هو مستطيل الشكل، ومنها ما هو مخروط الرأس مدور الأسفل، ومنه مستدير الشكل أو زيتوني الشكل، ومنه طيب الرائحة ونتن الرائحة، ومر الطعم وحلو الطعم. وأكثر ألوان ورق النبات أخضر، لكن منها ما هو مشبع اللون ومنها ما هو أغبر، ومنها الصافي اللون، ومنها أنواع ألوان ظاهرها خلاف باطنها، وهكذا ثمارها وحبوبها وبذورها وأزهارها.
من الثمار ما له قشرة رقيقة، أو غليظة ليفيّة، أو غضروفية صلبة، أو خزفية يابسة، ومنها ما في جوف قشرته شحمة ثخينة، أو جامدة رطبة سيالة عذبة، أو حلوة، أو مّرة أو مالحة، أو حامضة، أو دهنية دسمة، ومنها ما في جوف شحمه نواة مستديرة الشكل مستطيلة، أو مخروطة أو مصمتة أو مجوفة، ومنها ما في جوفه حب صغار، أو كبار صلب أو رخو عليها رطوبة لزجة، أو مجوفة داخلها لب، أو تكون فارغة. ومن الثمار ما لا ينضج كالبلوط والعفص وثمر السرو والإهليلج".
وجعلوا للنباتات رُتبًا ؛ فمنها ما هو في أدنى الرتبة مما يلي رتبة المعادن، وهي خضراء الدِّمن، ومنها ماهو في أشرف الرتبة مما يلي رتبة الحيوان وهي شجرة النخيل. وعللوا ذلك بأن أول المرتبة النباتية وأقلها شأنًا مما يلي التراب، خضراء الدمن، فهي ليست سوى غبار يتجمع ويتلبد على الأرض والصخور والأحجار، ثم تصيبه الأمطار وأنداء الليل فيصبح كأنه نبت زرع وحشائش. فإذا لفحته حرارة شمس منتصف النهار جف، ثم يصبح من الغد مثل ذلك من أول الليل. ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في الربيع في الأماكن المتجاورة لتقارب ما بينهما، لأن هذا معدن نباتي وذلك نبات معدني.
أما النخل فهو آخر المرتبة النباتية مما يلي المرتبة الحيوانية. وسموه نباتًا حيوانيًا لأن بعض أحواله مباين لأحوال النبات وإن كان جسمه نباتًا، غير أنه حيواني بالنفس إذ إن أفعاله أفعال النفس الحيوانية وشكل جسمه شكل النبات. وفي النبات نوع آخر فعله أيضًا فعل النفس الحيوانية، لكن جسمه جسم النبات هو الكثوث. وذلك أن هذا النوع من النبات ليس له أصل في الأرض كسائر النباتات، وليس له أوراق مثلها، بل إنه يلتف على الأشجار والزروع والشوك فيمتص من رطوبتها ويتغذى بها ؛ كما يتغذى الدود بورق الأشجار وقضبان النبات وإن كان جسمه يشبه النبات فإن فعل نفسه فعل الحيوان.
عرف العرب أيضًا تصنيفًا بيئيًا للنباتات نجده عند الأصمعي فمنها: 1ـ النباتات الحجازية ؛ كالغرقد والسدر والعوسج. 2ـ النباتات النجدية ؛ كالثغام، والحماض، والقتاد والبطم (الحبة الخضراء). 3- النباتات الرملية ؛ كالغضى والأرطى والأمطى والعلقى والمصاص. 4ـ النباتات السبخية ؛ كالقرمل، والعكرش والقلام والخريزي. 5ـ نباتات جبال السراة ؛ كالشث، والعرعر، والطباق، والياسمين البري.
ميّز العرب أيضًا النباتات التي تنمو في الكثبان الرملية وغيرها، أو ما نطلق عليه اليوم المجتمع أو العشيرة النباتية. فالشَّعَر هي مجتمع الكثبان المرتفعة المستطيلة، والضفار هي التي تنبت الثَّمام والثُّداء، ومجتمع الدَّوِّ ليس به أشجار، وهو أرض مستوية ليس فيها رمال أو جبال، ولا ينبت الدَّو سوى النصي والصّخبر وأشباههما. وكما يقول الأصفهاني في بلادالعرب ¸لا ترى به شجرة مرتفعة رأسًا ولا عرفجة ولا غيرها، إنما تراه مبيضاً كله·. والذروة النباتية للدَّوِّ هي النجيليات المعمرة. ويطلق على هذا المجتمع اليوم مجتمع الصّخبر والصليان. وللتربة الملحية وضعوا مصطلح العِرْ. أما مجتمع السدر والأراك وما بينهما من العشب فقد أطلقوا عليه الخبر، وسموا المكان الذي يتجمع فيه الثمام والضعة العقِدَة، وأطلقوا مصطلح السِّلَيِّل على الأودية التي ينبت فيها السلم والسحبل والجلواخ.
كما تحدث العرب في تصنيفهم للنبات عن التكوينات الطبيعية في البيئة كالدهناء والنفود والبادية والحماد وقسموها إلى مجتمعات. ثم قسموا هذه المجتمعات إلى تقسيمات أصغر زيادة في التخصيص لتعبر عن مزايا التضاريس أو التربة وربط هذه المزايا بالنباتات السائدة، ومن أمثلة ذلك الجدول المبين في الصفحة التالية.
ومن تصنيفات العرب لأنواع النبات تصنيف يقارب تقسيم الفصائل المعروف اليوم. فالفصيلة المركبة أطلقوا عليها مجموعة المرار، والفصيلة الرمرامية مجموعة الحموض، وفصيلة الحمحميات مجموعة الكحليات، والفصيلة الصليبية مجموعة الحرف، وفصيلة الغرنوقيات هي مجموعة الدهامين.
تضم مجموعة المرار أنواعًا صحراوية وجفافية مهمة تنتمي للفصيلة المركبة، وهي ذات مذاق مر يظهر في لبن الحيوانات التي تتغذى بها. من هذه المجموعة: الشيح، والقويصيمة، والمرار، واليمرور، والجثجاث، والقيصوم.
وتضم مجموعة النباتات الحمضية أنواعًا شتى من الفصيلة الرمرامية التي تنمو في المناطق الجافة والصحراوية، وطعمها حمضي أو مالح. منها: الإخريط والأشنان (الحرض)، والتليث والحاذ والخذراف والخريزي (خريص)، والدعاع والرغل والرمث والرويثة والروثا والشعران والضمران والطحماء والعثنان والعجرم والعنظوان والغضى والعجواء والغذام والفولان (الفليفلة)، والنيتون.
تضم مجموعة الكحليات أنواعًا تنتمي للفصيلة الحمحمية، وأطلقوا عليها كحليات لاحتواء جذورها على مواد صبغية حمراء قانية تشبه مرود المكحلة، ومن نباتاتها: الكحل، والزريقاء، والكحالة، والكحلاء، والكحيلاء، والغبشاء.
وتضم مجموعة الحرف النباتات التي يطلق عليها الفصيلة الصليبية، وطعمها حرف(لاذع) كالفجل، ومنها: الشقاري، والصفاري والغريراء، والنجمة، والحسار، واليهق، والحريشة والأسليح الذي يسبب الإسهال للإبل والأغنام، والخفجيات.
وتضم مجموعة الدهامين النباتات المنتمية إلى الفصيلة الغرنوقية. وسميت دهامين لأن أوراقها داكنة دهماء اللون، ومنها: الدهماء، والقرنوة، والدمغة.
كما صنف العرب نباتاتهم في ضوء ماءاتها (أماكن المياه) التي تسود حولها، ويعكس هذا التصنيف صفات التربة وطبيعة المياه المتوافرة بالقرب منها. من أمثلة ذلك: الغرقدة ؛ وهي الماءة التي ينبت حولها شجر الغرقد، والطريفة ؛ التي تنمو حولها شجيرات الطرفاء، والثيلة ؛ وهي الماءة التي تنبت الثيل، والصنجرة ؛ التي ينمو فيها الصنجر، والخذيقة ؛ وهي الماءة الملحة التي تنبت حولها أنواع الحموض، والخريزة ؛ وهي ملحة أيضًا وينمو فيها الخريزي، والحضافة ؛ وهي الماءة التي ينجح فيها النخل.
كما توصل العرب أيضًا إلى نظام للتسمية يشبه ما يعرف الآن بالتسمية الثنائية التي بدأها العالم السويدي كارولوس لينيوس عام 1167هـ، 1753م ؛ فقد أطلقوا على كل نبات كلمتين إحداهما تشير إلى صفة من صفات النبات مثل حمض الروثا، والمرار القيصوم، وحمض الخذراف وهكذا. وكان ذلك باعثًا لعلماء النبات في أوروبا على استعارة الاسم العربي بعد تطويعه لقواعد اللغة اللاتينية ليصير مصطلحًا علميًا لهذا النبات أو ذاك مثل نبات الصلة الشوكي واسمه العلمي Zilla spinosa، ونبات الرتم Retama والحاج Alhagi والقات Catha.كما استعاروا الألفاظ العربية لتدل على اسم النوع في بعض أشجار الأكاسيا Acacia مثل العرفط الذي صار A.orafata، ونباتات أخرى مثل الحرمل Peganum harmala والحرجل Solenostelma argel.
نقل العرب مع هذه المصطلحات فنهم في الزراعة. وعندما أقام عبدالرحمن الأول حديقته النباتية بالقرب من قرطبة جلب إليها من سوريا ومن بلدان أخرى في آسيا أعز البذور، وغرس أول نخلة في أوروبا، ونقل إليها أول ناعورة (ساقية) لرفع الماء. كما نقل العرب إلى أوروبا أنواعًا مختلفة من النباتات خاصة إلى صقلية والأندلس فأدخلوا فيها لأول مرة زراعة الزعفران والعنب والأرز والمشمش والبطيخ، والورد والياسمين. ومن مصر جُلِب الفول والبصل ومن الصين جُلب التوت والفجل، ومن الهند الخيار والتوابل، وظلت حدائق الرصافة والزهراء والزاهرة وطليطلة وأشبيليا باقية مدة من الزمن تشهد بعلو همة العرب وبراعتهم في المجال الزراعي، ونبوغهم في تنظيم وسائل الري والصرف وتوزيع المياه.
التكوينات الأرضية المختلفة والنباتات التي تنمو عليها | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
ترجم تحت اسم الحشائش أو هيولي علاج الطب وقام بترجمته إصطفن بن باسيل بأمر من المتوكل، وترك كثيرًا من المصطلحات اللاتينية التي لم يجد أو يعرف لها مقابلاً بالعربية. ولم يستكمل هذا الكتاب إلا في عام 337هـ، 948م عندما أهدى قسطنطين السابع إمبراطور الروم في القسطنطينية الخليفة عبدالرحمن الناصر الأندلسي نسخة أخرى من الكتاب باليونانية مزينة بالرسوم وبعث بالراهب نقولا الذي ترجمه ترجمة دقيقة بمساعدة أطباء محليين يجمعون بين العربية واللاتينية. وبذا استكمل النقص الذي تركه ابن باسيل. وفي مطلع القرن 11م أضاف الطبيب الأندلسي ابن جلجل موضوعات أغفلها ديسقوريدس وألحق هذه الإضافة بكتاب ابن باسيل ليكونا بمثابة مؤلف كامل واحد.
يحتوي الكتاب في صورته العربية، بعد تنقيح ابن جلجل وتعليقه على الكتاب ثم إضافته هو، على خمس مقالات: تتناول المقالة الأولى الأدوية والأعشاب ذات الرائحة العطرية،والأفاويه والأدهان والصموغ والأشجار الكبار، وتتناول الثانية الحيوانات والحبوب والبقول والأدوية الحريفة. وتشتمل المقالة الثالثة على ذكر أصول النبات، والنبات الشوكي، والبذور، والصموغ، والحشائش المزهرة. أما المقالتان الرابعة والخامسة فتتناولان الأدوية التي تتخذ من الحشائش الباردة والحشائش الحارة المقيئة والحشائش النافعة من السموم، والأدوية المعدنية وأنواع الأتربة، والكرم وأنواع الأشربة.
بعد أن رسخت أقدام العلماء العرب والمسلمين في هذا العلم طوّروه. وانتقلت إلى أوروبا، من بلاد المشرق، أعشاب ونباتات طبية وعطرية لا حصر لها. كما استعارت اللغات الأوروبية جملة من المفردات العربية في حقل النبات كالزعفران والكافور. وذكر ليكليرك منها نحو 80 كلمة، منها: الصندل والمسك، والمر، والتمر الهندي والرواند واليانسون. ولما ارتقى علم النبات لدى المسلمين، ظهر من بينهم من اشتهر بدقته في البحث والوصف كرشيد الدين الصوري. وأضافوا مواد نباتية كثيرة كان يجهلها الإغريق جهلاً تامًا، وزودوا الصيدلية بأعشاب لم تكن معروفة من قبل. ونجد في نهاية المطاف أن عالمًا كابن البيطار يورد ما لا يقل عن 1,400 عقار بين نباتي وحيواني ومعدني من بينها 300 عقار جديد لم يسبقه إليها أحد. وقد بيَّن فوائدها الطبية وكيفية استخدامها غذاءً ودواءً. وكان ابن البيطار رائد عصره في معرفة النبات وتحقيقه واختباره والمواضع التي ينبت فيها. وكان يجمعها ويبحث فيها، ويحقق في خواصها ومفعولها. ونظرًا لتمكنه من علمه في الأدوية التي تتخذ من الأعشاب عيَّنه الملك الكامل رئيسًا للعشابين. ★ تَصَفح: الصيدلة، إسهام: البيطار في هذه المقالة.
من العلماء الذين تناولوا العقاقير المتخذة من النبات ابن سينا. وقد انتهج في ذكر النباتات نهجًا خاصاً. فكان يذكر الماهية، وفيها يصف النبات وصفًا دقيقًا مقارنًا هذا النبات بنظائره، ويورد صفاته الأساسية من أصل أو جذر أو زهر أو ثمر أو ورق، ويذكر من نقل عنهم ممن تقدمه من العلماء من أمثال ديسقوريديس أو جالينوس. ثم يذكر بعد ذلك الاختبار فالطبع فالخواص. وقد استقصى ابن سينا عددًا كبيرًا من النباتات الطبية المألوفة على عهده، وأورد مجموعات متباينة من هذه النباتات الشجرية والعشبية والزهرية والفطرية والطحلبية.كما ذكر الأجناس المختلفة من النبات والأنواع المختلفة من الجنس الواحد، وأورد المتشابه والمختلف ومواطن كل منها ونوع التربة التي ينمو فيها. ووصف ألوان الأزهار والثمار يابسها وغضها، والأوراق العريضة والضيقة كاملة الحافة أو مشرفتها، وفرق بين الطبي البستاني منها والطبي البري.
كما أشار إلى اختلاف رائحة النباتات الطبية ومذاقها، وبذا يكون قد ألمح إلى التشخيص الكيميائي النباتي عن طريق اختبار العصارة. واعتمد في وصف النبات الذي تستخلص منه العقاقير على مصدرين: الأول الطبيعة ؛ حيث كان يصف النبات غضاً طرياً، ويذكر طوله وسمكه وورقه وزهره وثمره. والثاني مبيعات العطارين من أخشاب أو قشور أو ثمار أو أزهار. وكتب عن الثمار والأشواك، والنبات الساحلي، والسبخي، والرملي، والمائي، والجبلي، وعن تطعيم النبات بمختلف وسائله والنباتات الدائمة الخضرة وغيرها.
أشهر النباتات الطبية والأشجار التي عرفها العرب | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تناول العرب في تراثهم المروي شعرًا الإبلَ والخيلَ وبقية حيوانات بيئتهم، وأطالوا الحديث فيها، فعند حديثهم عن الإبل تكلَّموا عن ضِرابها وحملها ونتاجها وحلبها وألبانها وألوانها ونحرها ونسبها وأصواتها ورعيها وشربها وأنواع سيرها. كما أن لهم في الخيل نعتًا مفصلاً وأدبيات لم يبزهم فيها أحد. ★ تَصَفح: الحصان العربي.
كان العرب قبل الإسلام منعزلين بعيدين عن العالم المتحضِّر آنذاك. واكتسبوا بطول مراقبتهم لحيواناتهم التي تعيش معهم، وتلك التي يصطادونها أو تفتك بهم وبحيواناتهم، معرفة طبائعها، وانطبعت في أذهانهم خواصها وصفاتها. وراحوا ينعتونها بما يتفق وهذه الطباع مدحًا أو ذمّاً، وأطلقوا أسماءها على أبنائهم وعشائرهم، إذا كان فيها معنى القوة والوفاء،.واقتبسوا من أسماء هذه الحيوانات أمثالهم السائرة وتشبيهاتهم المعبِّرة. وقد ندرك هذا الأمر مما نجده من أن معظم الأسماء العربية الصحيحة للقبائل والأفراد في الجاهلية مشتقة من أسماء الحيوان. وقد عزا الدّميريّ معظم الأمثال العربية إلى الحيوان لأن الحيوان خير وسيلة للتعبير والوصف ؛ لا يعي ما يصيبه من معاني الإهانة إذا قرنت باسمه في القدح (الذم)، ولا يفقه ما بها من جمال في المدح.
ألّف اليونان في علم الحيوان قبل العرب، وكان من بين الكتب التي انتقلت إلى العربية منهم كتاب الحيوان لديموقريطس وكتاب آخر أشهر منه وهو كتاب الحيوان لأرسطو الذي قام بترجمته يحيى بن البطريق (ت نحو 200هـ، 815م)، وكتاب جوامع كتاب أرسطو طاليس في معرفة طبائع الحيوان الذي ترجمه إسحاق بن حنين (ت 298هـ، 910م).
ولكتاب أرسطو طاليس هذا أثر واضح في كتاب الحيوان للجاحظ الذي صرّح باعتماده عليه وأشار إليه مرات كثيرة باسم صاحب المنطق.
آراء جديدة. على الرغم من أن إسهام العرب في حقل الحيوان لم يكن واضحًا مثل إسهامهم في بقية العلوم، إلا أن لهم آراء سبقوا بها أفكار بعض المُحْدَثين ؛ فعلى سبيل المثال تنسب نظرية التكافل أو المشاركة الحيوانية للفيلسوف الألماني جوته (ت 1162هـ، 1749م)، وقد أخذ ذلك من عبارته الشهيرة في فاوست ¸إن روحيْن يسكنان صدري·. إلا أننا نجد إشارات واضحة لدى كل من الجاحظ والقزويني والدّميري لهذه النظرية التي مفادها أن بعض الحيوانات التي تعيش في بيئة مكانية واحدة، قد يربط بينها نوع من المصلحة المشتركة ؛ لذا تنشأ بينها مودة. كأن يحط طائر البقر فوق البقرة ليلتقط منها الهوام، أو كأن ينظف طائر التمساح أسنان التمساح مما علق بها من بقايا اللحوم. فالجاحظ يقول: إن بين العقارب والخنافس مودة، والغراب مصادق للثعلب، والثعلب صديق للحية وهناك عداوة بين العقاب والحية. أما الدّميري فيؤكد على أن بين الضّبّ والعقرب مودة، وأنها تعيش في جحره لتحميه من الأعداء، فمن حاول التحرّش به ودخل جحره، سيجد العقرب مستعدة للسْعه. أما القزويني الذي سبق الدّميري فيقول: ¸إن الببر الهندي الضخم، الذي يفوق الأسد في القوة، صديق للعقرب التي تبني لها بيتًا في شعر الببر، وأيضًا هناك صداقة قوية بين الذئب والضبع، وكذلك بين النّمر والأفعى·.
ومن المشاهدات والتجارب التي عرفها العرب مثل غيرهم، شيء من علم الوراثة، ومن هذا القبيل يأتي قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ¸اغتربوا لا تضووا· ؛ أي تناكحوا من غير الأقارب حتى لا يَضْوَى (يضعف) نسلكم. وقال الأصمعي في النساء: "الغرائب أنجب، وبنات العم أصبر، وما ضرب رؤوس الأبطال كابن الأعجمية". ولطالما استخدم العرب التهجين في إبلهم، واختاروا أفضل الفحول لأفراسهم. ومن قول الجاحظ في هذا المعنى: ¸إذا ضربت الفوالج (الجمال ذات السنامين) في العراب (الإبل العربية) جاءت هذه الجوامير (الإبل الممتازة) والبُخت (الإبل الخراسانية) الكريمة التي تجمع عامة خصال العراب، وخصال البخت. ومتى ضربت فحول العراب في إناث البخت، جاءت الإبل البهوتية أقبح منظرًا من أبويها·. وفي هذا المعنى من التهجين يقول الدّميري: ¸المتولد من الفرس والحمار، إن كان الذكر حمارًا فشديد الشَّبه بالفرس، وإن كان الذكر فرسًا فشديد الشّبه بالحمار، ومن العجب أن كل عضو فيه (الهجين) يكون بين الفرس والحمار. وكذلك أخلاقه ؛ فليس له ذكاء الفرس، ولا بلادة الحمار. وكذلك صوته ومشيه بين الفرس والحمار·.
ومن المسائل التي سبق إليها العرب أثر البيئة في الحيوانات. يورد الجاحظ عددًا غير قليل من الإشارات العلمية التي توضح فهمه لهذا الأمر. وهو أول من أشار إلى أثر الهجرة والمحيط في التغيرات التي تطرأ على حياة الحيوان. فبعضها يغيّر لونه أو سلوكه. فيقول: ¸إن القملة تكون في الرأس الأسود الشعر سوداء، والرأس الأبيض الشعر بيضاء. وفي رأس الخاضب بالحمرة حمراء، وهذا شيء يعتري القمل. كما تعتري الخضرة دود البقل، وجراده وذبابه وكل شيء يعيش فيه·. ولا يغيب أثر البيئة عند القزويني الذي يرى أن البيئة تؤثر في التوالد والتفريخ. فيقول في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات: ¸فالفيلة لا تتولد إلا في جزائر البحار الجنوبية، وعمرها في أرض الهند أطول من عمرها بغير أرض الهند، وأنيابها لا تعظم مثل ما تعظم بأرضها، والزرافة لا تتولد إلا بأرض الحبشة (إفريقيا الشرقية)، والجاموس لا يتولد إلا بالبلاد الحارة قرب المياه، ولا يعيش بالبلاد الباردة، والسنجاب والسمور وغزال المسك لا يتولد إلا في البلاد الشرقية الشمالية، والصقر والبازيّ والعقاب لا يتفرخ إلا على رؤوس الجبال الشامخة، والنعامة والقطا لا يفرخان إلا في الفلوات، والبطوط وطيور الماء لا تفرخ إلا في البساتين، والحجل لا يفرخ إلا في الجبال. هذا هو الغالب، فإن وقع شيء على خلاف ذلك فهو نادر·.
ولإخوان الصفا رأي في الحيوان لم يُسبقوا إليه ؛ وإن كان رأياً فلسفياً أكثر منه علمياً. ففي ثنايا حديثهم عن الخلائق يوردون الرأي التالي: ¸صورة النبات منكوسة الانتصاب إلى أسفل لأن رؤوسها نحو مركز الأرض، ومؤخرها نحو محيط الأفلاك. والإنسان بالعكس من ذلك، لأن رأسه مما يلي الفلك ورجليه مما يلي مركز الأرض. في أي وضع وقف على بسيطها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً من الجوانب كلها، ومن هذا الجانب، ومن ذلك الجانب. والحيوانات متوسطة بين ذلك لا منكوسة كالنبات ولا منتصبة كالإنسان، بل رؤوسها إلى الآفاق، ومؤخرها إلى ما يقابله من الأفق الآخر كيفما دارت وتصرفت في جميع أحوالها·. ويدللون على قدرة الخالق بالمقارنة بين الفيل أضخم الحيوانات والبَقَّة أهون الحشرات. ¸إن أكثر الناس يتعجبون من خلقة الفيل أكثر من خلقة البقة، وهي أعجب خلقة وأظرف صورة ؛ لأن الفيل ـ مع كبر جثته ـ له أربع أرجل وخرطوم ونابان خارجيان، والبقة ـ مع صغر جثتها ـ لها ست أرجل وخرطوم وأربعة أجنحة وذنب وفم وحلقوم وجوف ومصارين وأمعاء، وأعضاء أخرى لا يدركها البصر، وهي مع صغر جثتها مسلطة على الفيل بالأذية، ولا يقدر عليها، ولا يمتنع بالتحرز منها·.
الحيوان وعلم اللغة. بدأ اهتمام العرب والمسلمين بالحيوان وبالنبات من منطلق لغوي كما ذكر من قبل. فقد اهتموا منذ صدر الإسلام برواية أسماء الحيوان والنبات وأقسامهما على أنها فصول من علوم اللغة العربية. فوردت المعلومات الأولى في معاجم اللغة، ثم في ثنايا موضوعات شتى في مصنفات متباينة كالأشعار، وكتب اللغة، والكتب الفلسفية، وكتب الطب والعقاقير. وتكاد المصنفات التي وصفها اللغويون على هيئة معاجم، تخلو من التأثيرات الخارجية للثقافات الدخيلة، إذ كان ما تحويه من علم الحيوان معرفة عربية خالصة. فقد كانت تورد معاني الأسماء التي تشير إلى أنواع الحيوانات المألوفة عند العرب وحشيِّها وأليفها، ولم يكن ما تورده وقفًا على ذكر الاسم ومرادفه، بل تعدى ذلك إلى التعريف بالحيوان من حيث شكله الخارجي وطباعه وأماكن وجوده وأجناسه. وكانت هذه الدراسات المعجمية تمثل مذهب العرب في الحيوان آنذاك قبل أن تشوبه شائبة خارجية.
نستقي من المعاجم وكتب اللغة التي تناولت الحيوان، أن معرفة العرب في هذا الحقل كانت تشتمل على حصيلة كبيرة من أنواع الحيوانات ؛ منها الأليف الذي قاسمهم عيشهم كالإبل والخيل والأغنام والكلاب، ومنها ما هو متوحش كان يمثل جزءًا من طعامهم كالحمر الوحشية والظباء والوعول وخلافها، ومنها ما هو متوحش ضَارٍ كالأسود والنمور والضباع والذئاب. كما تحفل هذه المصادر أيضًا بأسماء حيوانات لم تكن معروفة في محيطهم أو أخرى خرافية كالغول والعنقاء والرخّ. وتعددت لديهم أسماء الحيوان الواحد تبعًا لمراحل تطوره من لدن حمله إلى مولده ونشأته ووسط عمره وإذا تقدمت به السن ؛ فكان له اسم في كل مرحلة من هذه المراحل، وأوضح مثال على ذلك لديهم أسماء الخيل والإبل والجراد.
من أشهر الذين ألّفوا عن الحيوان وغلب على تناولهم الطابع اللغوي النضر بن شميل (ت 204هـ، 820م). ومن آثاره كتاب الصفات في اللغة الذي يتكون من خمسة أجزاء، خصص الجزء الثالث منه للإبل.كما تناول الغنم والطير وخلق الفرس من بين ما تناول في الجزأين الرابع والخامس. وكذلك أبو زياد بن عبدالله الكلابي (ت نحو سنة 200هـ، 815م) وله كتاب الإبل. وهشام الكلبي (ت 204هـ، 819م) ومن تصانيفه أنساب الخيل، وأبو عبيدة التَّيمي (ت 207هـ، 823م) ومن مؤلفاته في الحيوان: كتاب الفرس ؛ كتاب الإبل ؛ كتاب الحيات ؛ كتاب أسماء الخيل ؛ كتاب البازي. والأصمعي (ت 214هـ، 829م) ومن مصنفاته: خلق الفرس ؛ الخيل ؛ الإبل ؛ الشاء ؛ كتاب الوحوش. وابن السكيت (ت 243هـ، 857م)، ومن تصانيفه: كتاب الوحوش ؛ كتاب الحشرات ؛ كتاب الإبل. والدينوري (ت 282هـ، 895م) وله كتاب الخيل.
التصنيف الحيواني. لم يكن تقسيم العرب للحيوان موحدًا، فقد بدأ عامّاً مطلقًا إذ قسموا الحيوانات إلى أليفة ومتوحشة وضارية. ثم لما انتقلوا من الوصف اللغوي إلى التناول شبه العلمي، قسَّموها إلى نوع يمشي وآخر يطير وثالث يسبح ورابع ينساح (يزحف). ومنهم من قسمها إلى تام وناقص. فالقزويني، مثلاً، يجعل الحيوان في المرتبة الثالثة من الكائنات بعد أن جعل الأولى والثانية للمعادن والنباتات على التوالي. وقسّم الحيوان بدوره إلى أنواع متعددة جعل الإنسان في قمتها فهو ¸أشرف الحيوانات وخلاصة المخلوقات·. وصنّف الحيوان إلى سبعة أقسام: الإنسان، والجن، والدواب ؛ وذكر منها: الفرس، والبغل، والحمار، وحمار الوحش وغيرها وبيّن خواص كل منها، ثم النَّعَم ؛ وهي حيوانات ¸كثيرة الفائدة شديدة الانقياد، ليس لها شراسة الدواب ولا نفرة السباع ؛ كالإبل والبقر والجاموس والزراف وغيرها. ثم السباع كابن آوى وابن عرس والأرنب والخنزير والذئب والضبع والفهد والفيل والكركند والكلب والنمر. ثم الطير ؛ ومنها أبو براقش والأوز والباقش والببغاء والبلبل والحبارى والحدأة والحمام والخفاش. ثم الهوام والحشرات، وهذا النوع لا يمكن ضبط أصنافه لكثرته: كالأرضة والبرغوث، والأفعى، والجراد، والحرباء، والحلزون، والخنفساء·.
أما الجاحظ فقد ذهب في ذلك شوطًا بعيدًا حيث قسم الحيوانات إلى فصائل ؛ ففي باب الحيوانات ذات الأظلاف يذكر الظباء والمعز والبقر الوحشي والبقر الأهلي والجواميس والوعول والتياتل. ومن خلال حديثه عن هذه الفصيلة ترد ملاحظات علمية كأن يقول: إن البقر الوحشي أشبه بالبقر الأهلي، وإن الوعول والتياتل حيوانات جبلية. ويقسم الجاحظ الحيوان عامة إلى أربعة أقسام: ¸شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يسبح، وشيء ينساح. إلا أن كل طائر يمشي، ولا يسمى الذي يمشي ولا يطير منها طائرًا، كما أنه ليس كل ما طار من الطير ؛ فقد يطير الجعلان، والذباب والزنابير والنمل والأرضة لكنها لا تسمى طيرًا. كما أن ليس كل عائم سمكًا على الرغم من مناسبته للسمك في كثير من الصفات. إذ إن في الماء كلب الماء وخنزير الماء والسلحفاة والضفدع والتمساح والدلفين·.
أما الحيوان عند إخوان الصفا فصنفان: تام الخلقة، وناقص الخلقة. تام الخلقة هو الذي ينزو ويحبل ويلد ويرضع، أما ناقص الخلقة فهو ¸كل حيوان يتكون من العفونات، ومنها ما هو كالحشرات والهوام وما هو بين ذلك ؛ كالتي تنفذ وتبيض وتحضن وتربي·. وأشار إخوان الصفا إلى التطور في خلق الحيوان: ¸ثم إن الحيوانات الناقصة الخلقة متقدمة الوجود على التامة الخلقة بالزمان في بدء الخلق، وذلك أنها تتكون في زمان قصير، والتي هي تامة الخلقة تتكون في زمن طويل·. وقسموا الحيوانات وفق بيئاتها: ¸فمنها سكان الهواء، وهي أنواعٌ، الطيور أكثرها والحشرات جميعًا. ومنها سكان الماء ؛ وهي حيوانات تسبح في الماء كالسمك والسرطان والضفادع والصدف ونحو ذلك. ومنها سكان البر ؛ وهي البهائم والأنعام والسباع. ومنها سكان التراب وهي الهوام·.
أسماء النباتات التي أغفلها ديسقوريدس كما أوردها الإدريسي بالعربية واللاتينية | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
إسهام الدينوري. صنّف أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوريّ (ت 282هـ، 895م) كتاب النبات وهو كتاب لم يُصنّف مثله في اللغة العربية حتى عصره، ويُعدُّ بهذا شيخ النباتيين العرب. استقصى في هذا الكتاب كل ما نطقت به العرب من أسماء النبات، وربما عاين أنواعًا منها في مواطنها ثم وصفها وصفًا دقيقًا، أو ربما اكتفى بسؤال الأعراب عنها، أو بما جاء عنها في كتب اللغة المتقدمة. وعُنِي بإيراد ما قالته العرب من شعر أونثر في وصف النباتات وأجزائها من أصل وجذع وزهر أو ثمر أو ورق، ويستشهد بأقوال العرب من صفات النبات واستعمالاته ومواطن نموه. وقد نقل علماء اللغة هذا الكتاب ـ كلّه أو جلّه ـ في مصنفاتهم مع اختلاف طفيف في النقل. فعل ذلك ابن دريد في الجمهرة، والأزهري في التهذيب، والجوهري في الصحاح وابن سيده في المخصص، وابن منظور في لسان العرب، والفيروزأبادي في القاموس المحيط. ولاشك أن الدينوري في هذا المصنّف نباتي عربي محض، حتى في مصادره ؛ فلا نجد لديه ما لدى المتأخرين من الاعتماد على المصادر الأجنبية، إنما كان اعتماده على المصادر العربية الأصيلة، ثم إنه لم يُعِرْ الجانب الطبي كثيرًا من العناية ؛ فهو نباتي ليس إلا، وليس نباتياً طبيباً كابن البيطار وداود وابن سينا وغيرهم. وعلى الرغم من أن القصد الأساسي للكتاب لغوي، إلا أنه صار عمدة للأطباء والعشابين كذلك ؛ فلا يُجاز عشاب إلا بعد أن يستوعب هذا الكتاب ويجتاز امتحانًا فيه. ولم يقتصر النقل عنه على كتب اللغة فحسب، بل نقلت عنه كتب المفردات الطبية كمفردات الأدوية لابن البيطار. وصف الدينوري مئات النباتات وصنّف أسماءها مرتبة ترتيبًا معجمياً وتحدّث عن الأراك والإسحل والأثاب، والأرطى، والآس، والأقحوان وغيرها. وقد بدأ كتابه بوصف شامل لأنواع التربة في بلاد العرب وتركيبها ومناخها وتوزيع مائها، والشروط الضرورية لنمو النباتات فيها. وقد بلغ عدد ما أورده من أسماء النباتات 1,120 اسمًا. لذا يعد الدينوري أول من ألّف في علم الفلورا النباتية للجزيرة العربية. ★ تَصَفح: الفلورا.
إسهام الإدريسي. كتب الشريف الإدريسي (ت 560هـ،1165م) في النبات كتابًا سمّاه الجامع لصفات أشتات النبات. وقد وضعه هذا في مصاف علماء النبات بالإضافة إلى مكانته في الجغرافيا والصيدلة وبقية العلوم ؛ لذا عرف بين زملائه بالعشّاب. أورد الإدريسي أسماء النباتات على هيئة معجم متعدد اللغات ؛ فقد كان يذكر اسم النبات بالعربية والسريانية واليونانية والفارسية والهندية واللاتينية والبربرية مع تعريف وشرح لها. وذكر منافع كل منها وما يستخرج منه من صموغ وزيوت، وما يستفاد من أصوله وقشوره في التداوي. ويعترف الإدريسي ـ شأن كل من سبقه أو أتى بعده من العلماء المسلمين ـ أنه استفاد من مؤلفات علماء سبقوه كالكندي وابن جلجل وديسقوريدس وابن وحشية وغيرهم. وينقسم هذا الكتاب إلى جزأين ؛ يبتدئ الأول من حرف الألف إلى حرف الزاي، والثاني من الحاء إلى النهاية وجمع في كلا الجزءين 610 من النباتات. وعلى الرغم من استفادته من كتاب ديسقوريدس، إلا أنه يسجل ما أغفله من أدوية عديدة، ويحاول أن يجد مبررًا لهذه الغفلة بقوله ¸إما أنه لم يبلغ علمها، أو لم يسمع عنها، أو كان ذلك ضناً من يونان أو تعمدًا، أو لأن أكثرها ليست في بلده·. وأورد ما أغفله ديسقوريدس بالعربية وبأسمائه اللاتينية.
إسهام الصوري. كان رشيد الدين أبو المنصور بن علي الصوري (ت 639هـ، 1241م) أبرز علماء عصره في معرفة الأدوية المفردة وماهيتها واختلاف أسمائها وتحقيق خواصها وتأثيراتها. وله مصنّفات عديدة منها: كتاب الأدوية المفردة ؛ كتاب النبات. وشرع في إعداد كتاب للنبات مصوّر بالألوان في عهد الملك المعظم عيسى بن أبي بكر (ت 625هـ، 1228م) وسمّاه باسمه، واستقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وأدوية أخرى لم يقف عليها المتقدمون. وأكثر ما اشتهر به التدقيق والبحث والمعاينة الميدانية. فقد كان يستصحب مصورًا ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها، ويتوجه إلى المواضع التي بها النبات، مثل جبل لبنان وغيره، فيشاهد النبات ويحققه ثم يريه للمصور، فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأعضائه وأصوله ويقوم المصور برسم ما شاهده مجتهدًا في محاكاتها. بل إنه ذهب شوطًا أبعد من ذلك بأن يطلع المصور على النبات خلال مراحل تطوره ؛ مرة إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم وقت كماله وظهور بذوره فيصوره، ثم وقت نضجه ويبسه فيصوره. لكي يتمكن القارئ من تتبع مراحل تطوره بالاستعانة بالصور الملونة.
إسهام الجاحظ. ألّف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ، 869م) موسوعته الضافية بعنوان الحيوان. وهي مصنف يحتوي على معظم المعارف والمسائل الفلسفية والدينية والسياسية والجغرافية والطب والقرآن والحديث والفكاهة. أما بحثه في الحيوان، فقد درس فيه سلوكه وأعضاءه وتطوراته وطعامه وشرابه وسلاحه وطباعه وأمراضه وعمره وموطنه وأثر البيئة فيه وعلاقته بغيره من الحيوان.
قسّم الجاحظ كتاب الحيوان إلى سبعة فصول. يتناول الجزءان الأول والثاني المناظرة بين الديك والكلب مدعمًا رأي كل منهما بالآيات القرآنية أو الأحاديث النّبَوية أو الحكايات والحكم. ويتناول في الفصلين الثالث والرابع الحمام وأنواعه وطبائعه، والذباب والغربان والجعلان والخنافس والخفاش والنمل والقرود والخنازير والثيران. وفي الخامس والسادس يواصل البحث عن الثيران، ثم ينتقل إلى أجناس البهائم والطير الأليف، ويعقد مقارنة بين الإنسان والحيوان، ثم يتكلم عن الضب والهدهد والتمساح والأرنب. وفي الفصل السابع يتحدث عن الزرافة والفيل وذوات الأظلاف.
تناول الجاحظ في ثنايا كتاب الحيوان سلوك الحيوان والطير والحشرات. وفي سياق ذكره لطبائع الحيوانات يذكر ملاحظاته عن حاسة الشم الشديدة لدى بعض الحيوانات، والتعرق وتأثير المحيط على الحيوان. ويعطي أحيانًا بعض الملاحظات الفسيولوجية للمظاهر الخارجية للحيوانات كذوات الشعر وذوات الوبر وذوات الصوف وذوات الريش. وفي الكتاب معلومات غنية تتصل بتزاوج الحيوانات وتناسلها وعلاقاتها بأولادها. كما اشتمل على ملاحظات علمية صحيحة كقوله: إن الخفافيش تلد ولا تبيض، وترضع، أما التمساح والسلحفاة والضفدع فإنها تبيض وتحضن بيضها. ومن ملاحظاته أن جميع الحشرات وجميع العقارب والذبابات والأجناس التي تعض وتلسع تكمن في الشتاء دون أكل أو شرب ما عدا النمل والنحل فإنها تدخر ما يكفيها أثناء فترة سباتها.
لم يكن الجاحظ يدلي برأي في مسألة إلا بعد التمحيص الشديد. وقد قاده ذلك إلى إجراء العديد من التجارب ليثبت صحة ما ذهب إليه. من هذه التجارب تأثير الخمر في الحيوانات، والتولد الذاتي. ومما ذكر أنه إذا وُضع ¸عقرب مع فأرة في إناء زجاجي، فليس عند الفأرة حيلة أبلغ من قرص إبرة العقرب ؛ فإما أن تموت من ساعتها، وإما أن تتعجل السلامة منها، ثم تقتلها كيف شاءت وتأكلها كيف أحبت·. والتجربة توضح طبائع الحيوانات، وصراعها، وأيها أقتل للآخر. ومن استقراء تجارب الجاحظ نجد أنه أشار إلى أثر العادة في الحيوان وبخاصة الكلب فيقول إن له صديقًا ¸حبس كلبًا له في بيت وأغلق دونه الباب في الوقت الذي كان طباخه يرجع فيه من السوق ومعه اللحم. ثم أحدَّ سكينًا بسكين فنبح الكلب، وقلق، ورام فتح الباب لتوهمه أن الطباخ قد رجع بالوظيفة (حصته من الطعام) وهو يحد السكين ليقطع اللحم. فلما كان العشي صنعنا به مثل ذلك لنتعرف حاله في معرفة الوقت فلم يتحرك·. وهذه التجربة تذكرنا بتجربة بافلوف التي أطلق عليها في علم النفس نظرية التعلم الشرطي. وفي ضوء هذه التجارب والملاحظات عده البعض أول علماء الحيوان التجريبيين.
إسهام ابن مسكويه. تناول أحمد بن يعقوب بن مسكويه الخازن ( ت 421هـ،1030م) علم الأحياء عمومًا في كتابه الفوز الأصغر، وقسّم فيه الكائنات الحية إلى مراتب من حيث قبول حركة النفس ؛ أي حركة القوة. وتناول فيه أهم خصائص النبات من حيث إنها مثبَّتة في التربة بالجذور على عكس الحيوانات ؛ إذ إن الحيوانات قادرة على الانتقال من مكان إلى آخر لأنها مزودة بأعضاء تساعد على الحركة. وقسّم الحيوانات إلى أقسام وضع كل قسم منها في وضعه الملائم من الشجرة الحيوانية. وذكر تأثير البيئة على جميع الأحياء من حيث التطور الإدراكي والعقلي. وتحدث عن الحيوانات الدنيئة، والحيوانات ناقصة الحواس، وتلك التي استكملت حواسها الخمس. فالحيوانات الدنيئة عنده تلك التي لم تستوف الصفات الحيوانية الكاملة، والتي تشابه النباتات في صفاتها، كالسوطيات التي تشبه الحيوانات في أنها قادرة على الانتقال والحركة، وتشارك النبات في قدرتها على التركيب الضوئي. وكالأصداف والحلزون، ¸وليس لهما من صفات الحيوانية إلا حس واحد، وهو الحس العام الذي يقال له: حس اللمس·. أما الحيوانات ناقصة الحواس الخمس فيمثل لها بالخُلد، وهو حيوان قارض، فقد البصر بتأثير البيئة، تُولد صغاره بعيونها، غير أن عيونها سرعان ما تضمر ويغطيها الشعر في جحورها المظلمة تحت الأرض. ومن أمثلة الحيوانات ناقصة الحواس النمل، ومنه أنواع لا عيون لها، إلا أن باقي حواسها فمستكمل قوي كحاسة الشم. ومن النواقص أيضًا الحيوانات التي ليس لها جفون كالحيات وكثير من ذوات الفقار كالأسماك الكبيرة التي ليس لعيونها جفون.
أما الحيوانات المستكملة الحواس الخمس فهي عنده على مراتب متفاوتة. منها البليدة الجافية الحواس، ومنها الذكية اللطيفة الحواس التي تستجيب للتأديب، وتقبل الأمر والنهي كالفرس من البهائم والبازي من الطير. أما القردة وما شاكلها فقد وضعها في قمة مرتبة الثدييات لكنها أحط من مرتبة الإنسان خاصة فيما يتعلق بالمواهب من قبول التأديب والتمييز والاهتداء إلى المعارف.
إسهام الدّميريّ. ألّف كمال الدين أبو البقاء محمد بن موسى الدميري (ت 808هـ، 1405م) كتاب حياة الحيوان الكبرى. ويذكر أنه قد جمعه من 560 كتابًا و199 ديوانًا من دواوين الشعر العربي. وترجم جياكار معظم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية عام 1906م. وجاء ترتيب هذا الكتاب على حروف المعجم، ويبدأ كل مادة بتعريف اسم الحيوان، وشرح الاسم شرحًا لغويًا، ويورد الأسماء التي يكنى بها الحيوان مقتبسًا ذلك من مؤلفات فقهاء اللغة كابن سيده والقزويني والجاحظ والجوهري. ثم يتلو ذلك وصف الحيوان، وذكر طباعه وأنواعه، ويورد أحيانًا قصصًا اشتهرت عن حيوان بعينه مثل: البراق، والعنقاء، وهدهد سليمان، وحوت موسى، وفرس فرعون. وخلط هذا الكتاب العلم بالأدب والحقائق بالخرافات، وأورد أشياء خاطئة. وهذا مثال مما كتبه عن الدجاج. ¸كنية الدجاجة أم وليد وأم حفص وأم جعفر وأم عقبة، وإذا هرمت الدجاجة لم يخلق منها فرخ. والدجاج مشترك الطبيعة ؛ يأكل اللحم والذباب، وذلك من طباع الجوارح. ويأكل الخبز ويلتقط الحب، وذلك من طباع الطير. ويُعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف فهي مخرج الذكور. والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن، وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه. ومن الدجاج ما يبيض مرتيْن في اليوم. والدجاجة تبيض في جميع السنة إلا في شهرين، ويتم خلق البيض في عشرة أيام، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست. وأغذى البيض وألطفه ذوات الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع من البيض لا يتولد منه حيوان·. ويكثر من ذكر الشواهد الأدبية والأحكام الشرعية مبينًا الحلال والحرام، ويورد النوادر اللطيفة عن كل حيوان، ويعلل رؤية هذا الحيوان أو ذاك في المنام.
أشهر علماء الأحياء وأهم مؤلفاتهم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الجيولوجيا |
وكان تناولهم لهذا العلم في بادئ الأمر نظرياً ولغوياً بحتًا، وما لبث أن قام على التجربة لاستخراج الحقائق العلمية. ولعل أول أثر مسجل لعلوم الأرض لدى العرب هو ما تحتويه المعاجم وكتب اللغة التي تزخر بمفردات هذا العلم كالصِّحاح للجوهري، والقاموس للفيروزأبادي، والمخصَّص لابن سيده، وكتب الرحلات والبلدان والكتب التي درست الجواهر ؛ ومنها صفة جزيرة العرب للهمداني (ت 334هـ، 945م). ثم نجد حدود هذا العلم واضحة المعالم لدى العلماء الذين تناولوه أمثال: الكندي، والرازي، والفارابي، والمسعودي، وإخوان الصّفا، والمقدسي،والبيروني، وابن سينا، والإدريسي، وياقوت الحموي، والقزويني. لقد قدم هؤلاء العلماء نظريات عديدة عن الزلازل، وأسباب حدوثها، وعن المعادن والصخور، وأفاضوا في تعريف الصخور الرسوبية والتحجر فيها، والتحولات البعدية لها. وكتبوا عن النيازك، ووقفوا على طبيعتها وأصلها، وقسموها إلى نوعيْن: حجري وحديدي، ووصفوا هيئاتها ومن أهمها النيازك الجاورسية (الحُبَيْبيَّة). وتحدثوا عن ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض، وقالوا بكروية الأرض، وبدورانها حول محورها. كما قاس العلماء المسلمون في عهد المأمون محيط الأرض وقطرها، وكان قياسهم قريبًا لما قرره العلم الحديث. وأضاف هؤلاء العلماء إضافات قيمة إلى نظرية نشوء الزلازل لأرسطو طاليس.كما كان لهم الفضل بالخروج بنظرية تكون الجبال الانكسارية والالتوائية وغيرها، وكذلك تأثير عوامل التعرية في الجبال والأنهار.
قدّم العلماء المسلمون دراسات قيمة عن الجيولوجيا الطبيعية والتاريخية. وقد برهنت هذه الدراسات على أن أكمل صورة من صور الماء في الطبيعة هي تلك التي وصفها العلماء المسلمون في مصنفاتهم، ونجد آراءهم في تكون الأنهار علمية محضة، ونجد ذلك بجلاء، في رسائل إخوان الصفا، وعند ابن سينا في النجاة، وفي عجائب المخلوقات للقزويني، كما أن علم البلورات عرف بدايته على يد البيروني في الجماهر في معرفة الجواهر، ونما على يد القزويني في العجائب ولم يسبقهما أحد إلى ملاحظاتهما الدقيقة الواردة في كتابيهما هذين. وتناول العلماء المسلمون مايمكن أن نطلق عليه علم زيت الأرض وهو فرع من فروع الجيولوجيا التطبيقية ؛ فقد ميزوا بين نوعين من النفط واستعملوهما، وتحدثوا عن التنقيب، وقدموا نماذج للتنقيب غير المباشر. واهتم عدد غير قليل من العلماء المسلمين الأوائل بدراسة شكل الأرض، وتوزيع اليابسة والماء، ووصف تضاريس سطح الأرض، والعوامل الخارجية التي تتسبب في تشكيلها مثل الأنهار والبحار والرياح، والعواصف البحرية. ولم يغب عن بالهم دراسة العوامل المؤثرة في قشرة الأرض من داخلها ؛ كالبراكين والزلازل والخسوف الأرضية. كما تناولوا تبادل الأماكن بين اليابسة والماء، والمدة الزمنية التي يستغرقها هذا التبادل، كذلك تطور الأنهار من الشباب إلى الهرم ثم الموت.
ارتبطت الجيولوجيا عند المسلمين بعلوم أخرى كثيرة ساعدت في نموها، وكان هذا دأب العلماء آنذاك ؛ فلم يكن هناك التخصص الدقيق، بل كانت هناك المعرفة الموسوعية الشاملة. فقد كانت الجيولوجيا على صلة وثيقة بالمتيورولوجيا (علم الأرصاد الجوية) والجغرافيا والملاحة وعلم البحار. فعلى سبيل المثال، نجد أن ابن سينا يتناول المعادن والمتيورولوجيا في رسالة المعادن والآثار العلوية في كتاب الشفاء. والنويري (ت 732هـ، 1332م) يتناول الجيولوجيا مع المتيورولوجيا في كتابه نهاية الأرب. بينما نجد أن للجغرافيا وتقويم البلدان علاقة حميمة بالجيولوجيا الطبيعية ؛ فالمحيطات ومياه الأنهار والبحيرات والجُزُر كلها مما يتناول في الجغرافيا والجيولوجيا ولكن باختلاف. وخير دليل على ذلك مروج الذهب للمسعودي الذي يعالج قضايا جيولوجية جنبًا إلى جنب مع قضايا جغرافية.
رأي ابن سينا. أدلى ابن سينا برأيه في الزلازل في الجزء الخاص بالمعادن والآثار العلوية في موسوعته الشفاء. وفي رأيه أنها تحدث لأسباب داخلية نتيجة لاضطراب جزء من باطن الأرض فيحرك ما علاه وهكذا دواليك، ويتحدث عما يصاحب الزلازل من نتائج لاحقة. ويقسم هذه الزلازل إلى أنواع منها المستقيم والمائل والعرضي. فالزلزلة عنده ¸حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرك، ثم يحرك ما فوقه. والجسم الذي يمكن أن يتحرك تحت الأرض، ويحرك الأرض إما جسم بُخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح (الغازات)، وإما جسم مائي سيّال (سائل) وإما جسم ناري، وإما جسم أرضي. والجسم الناري لا يحدث تحت الأرض ؛ وهو نار صرفة، بل يكون لا محالة في حكم الدخان القوي، وفي حكم الريح المشتعلة. والجسم الأرضي لا تعرض له الحركة أيضًا إلا لسبب مثل السبب الذي عرض لهذا الجسم الأرضي، فيكون السبب الأول الفاعل للزلزلة ذلك. فأما الجسم الريحي، ناريًا كان أو غير ناري، فإنه يجب أن يكون هو المنبعث تحت الأرض، الموجب لتمويج الأرض في أكثر الأمر... فإذا كان سبب الزلزلة قويًا جدًا خسف الأرض باندفاعه وخروجه. وربما خلف نارًا محرقة، وربما حدثت أصوات هائلة، ودوي يدل على شدة الريح. فإن وجدت هذه الريح المصوتة منفذًا واسعًا بعد المنفذ الذي تصوت فيه حدث عن اندفاعها صوت ولم تزلزل... إن أكثر أسباب الزلزلة هي الرياح المحتقنة، وإن البلاد التي تكثر فيها الزلزلة إذا حفرت فيها آبار وقنوات كثيرة حتى كثرت مخالص الريح والأبخرة قلّت بها الزلازل، وأكثر ما تكون الزلازل إنما تكون عند فقدان الرياح ؛ لأن مواد الرياح يعرض لها الاحتباس... وأكثر ما تكون الزلزلة في بلاد متخلخلة غور الأرض متكاتفة وجهها، أو مغمورة الوجه بالماء. ومن أهم منافع الزلازل تفتيح مسام الأرض للعيون... ومنها ما يكون على الاستقامة إلى فوق، ومنها ما يكون مع ميل إلى جهة،لم تكن جهات الزلزلة متفقة ؛ بل كان من الزلازل رجفية (رأسية)، ما يتخيل معها أن الأرض تقذف إلى فوق، ومنها ما تكون اختلاجية (أفقية) عرضية رعشية، ومنها ما تكون مائلة إلى القطرين كليهما ويسمى القطقط، وما كان منه مع ذهابه في العرض يذهب في الارتفاع أيضًا يسمى سلميًا·.
معظم ما ورد من آراء لابن سينا في هذا النص يتماشى والعلم الحديث، وقليل منه لم يوافق ما جاءت به النظريات الحديثة. فالعلم الحديث يؤكد على أن خسف الأرض الملازم أحيانًا للهزات الأرضية ويسمى الهبوط يكون بسبب خروج الحمم البركانية، أو لوجود تخلخلات تحت قشرة الأرض في المناطق التي تكثر فيها الترسبات الكلسية، وعقب الهزة الأرضية يهبط مستوى سطح الأرض، أو يحدث انجراف أرضي أثناء حدوث الزلازل. وتكون الأصوات الهائلة التي أشار إليها نتيجة لحركة الصخور والانجرافات الأرضية، وتحرك الغازات والأبخرة في باطن الأرض. لكن العلم الحديث لا يوافق رأي ابن سينا فيما يختص بانخفاض عدد الزلازل في المناطق التي تحفر فيها الآبار وتشق فيها القنوات ؛ فغالبًا ما يكون مركز انطلاق هذه الزلازل بعيدًا جدًا. فهي تحدث في باطن الأرض في أعماق تتراوح بين 40 و350 ميلاً. فأما ماذكره من تفتح عيون الماء عقب وقوع الزلازل فأمر يثبته العلم والتجربة.
رأي إخوان الصفا. يعزو إخوان الصفا الزلازل إلى الغازات التي تحدث من جراء ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض. فتخرج من المنافذ إذا كانت الأرض في تلك البقعة متخلخلة، وإذا انصدعت الأرض تخرج هذه الغازات وينخسف مكانها، ويسمع لها دوي وزلزلة. ومن هذا القبيل يجري رأيهم في أن ¸الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال إذا لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه، بقيت تلك المياه هناك محبوسة زمانًا، وإذا حمي باطن الأرض وجوف تلك الجبال سخنت تلك المياه ولطفت وتحللت وصارت بخارًا، وارتفعت وطلبت مكانًا أوسع. فإذا كانت الأرض كثيرة التخلخل تحللت وخرجت تلك الأبخرة من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاتف حصينًا، منعها من الخروج وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج. وربما انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويُسمع لها دوي وهدّة وزلزلة. وإن لم تجد لها مخرجًا بقيت هناك محتبسة، وتدوم تلك الزلزلة إلى أن يبرد جو تلك المغارات والأهوية ويغلظ·.
رأي القزويني. يرى القزويني في كتابه عجائب المخلوقات أن الزلازل تحدث من جراء خروج المواد المنصهرة من جوف الأرض ؛ وهذا نوع من الزلازل يحدث غالبًا قبل الانفجارات البركانية. والقزويني في ذلك متأثر بمن سبقوه كإخوان الصفا. فعنده ¸أن الأدخنة والأبخرة الكثيرة إذا اجتمعت تحت الأرض ولا يقاومها برودة حتى تصير ماء، وتكون مادتها كثيرة لا تقبل التحليل بأدنى حرارة، ويكون وجه الأرض صلبًا، ولا يكون فيها منافذ ومسام ؛ فالبخارات إذا قصدت الصعود ولا تجد المسام والمنافذ تهتز منها بقاع الأرض وتضطرب إلى أن تخرج تلك المواد ؛ فإذا أخرجت يسكن. وهذه حركات بقاع الأرض بالزلازل ؛ فربما يشق ظاهر الأرض، وتخرج من الشق تلك المواد المحتبسة دفعة واحدة·. بل إن القزويني يعزو ارتفاع بعض الجبال إلى حدوث الزلازل التي تعمل على انخفاض بعض المناطق وارتفاع بعضها. فيقول: ¸إن سبب ارتفاع الجبال يمكن أن يكون زلزلة فيها خسف فينخفض بعض الأرض ويرتفع بعضها، ثم المرتفع يصير حجرًا، وجاز أن يكون بسبب الرياح التي تنقل التراب فتحدث التلال والوهاد·.
المعادن. تحدث العلماء المسلمون عن المعادن والأحجار، وعرفوا خواصها الطبيعية والكيميائية، وصنفوها ووصفوها وصفًا علمياً دقيقًا، كما عرفوا أماكن وجود كل منها. واهتموا بالتمييز بين جيّدها ورديئها. ولعل عطارد بن محمد الحاسب (ت 206هـ، 821م) كان أول من ألّف كتابًا في الأحجار باللغة العربية. وهذا الكتاب هو كتاب منافع الأحجار، وفيه ذكر أنواع الجواهر والأحجار الكريمة ودرس خواص كل منها. وقد ذكر الرازي هذا المؤلَّف في كتابه الحاوي. وهناك من العلماء من يعزو كتاب الأحجار لأرسطو إلى أصل سوري أو فارسي، وكتبت النسخة بالعربية منه في أخريات القرن الثاني الهجري، وعلى الرغم من قلة المادة العلمية فيه، إلا أنها تعكس آراء المسلمين عن المعادن في ذلك الوقت.
لعلَّ أقدم نص احتوى على أسماء الجواهر التي تعدن من الأرض، هو ما جاء في أمالي الإمام جعفر بن محمد المسماة التوحيد، نذكر منها الجص (أكسيد الكالسيوم)، والكلس (كربونات الكالسيوم) والمرتك (أكسيد الرصاص)، والذهب، والفضة، والياقوت، والزمرد، والقار، والكبريت، والنفط. ثم جاء جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق ليضيف بعض الجواهر والمعادن مثل الأسرب (نوع من الرصاص)، والمرقيشيا والياقوت الأحمر. وأضاف إخوان الصفا 31 جوهرًا جديدًا منها: الطاليقوني، والإسرنج، والزاجات، والشبوب، وبواسق الخبز والعقيق والجزع. ثم أضاف البيروني الزفت واليشم والخارصين. وبالجملة نجد أنهم عرفوا من المعادن حتى عصر البيروني نحوًا من 88 جوهرًا مختلفًا مما يستخرج من الأرض.
كان الكندي أيضًا من رواد علوم الأرض، واهتم بالمعادن والأحجار. وعلى الرغم من أن له آثارًا مكتوبة إلا أنه لايوجد منها شيء الآن. وما وصل منها نقل من خلال كتب البيروني في الجماهر في الجواهر، والتيفاشي في أزهار الأفكار في جواهر الأحجار، وابن الأكفاني في تحف الذخائر في أحوال الجواهر. فقد نقل هؤلاء وغيرهم عن الكندي كثيرًا، وأشاروا إلى آرائه في المعادن والجواهر في مصنفاتهم المذكورة. ومن أمثلة ما نقله البيروني قوله: ¸ولم يقع إليّ من فن المستعدنات غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه ؛ قد أفرغ فيها عذرته وظهر ذروته، كاختراع البدائع في كل ما وصلت إليه يده من سائر الفنون فهو إمام المجتهدين وأسوة الباقين·.
أما ابن سينا فقد ذكر في الشفاء أن الأحجار يعود تكونها إلى أسباب ثلاثة ؛ فهي إما أن تتكون من الطين بالجفاف أو من الماء بالبخار أو الترسيب، وقسَّم المواد المعدنية إلى أحجار، وكباريت، وأملاح، وذائبات. ويعد بعض مؤرخي العلوم ابن سينا على أنه مؤسس علم الجيولوجيا عند العرب. وقد تناول ابن سينا الفلزات وطريقة تكوينها، وذكر كماً كبيرًا من المعادن، وميزات كل منها واحتفاظها بخصائصها الطبيعية وأن لكل منها تركيبًا خاصاً لا يمكن أن يتغير بطرق التحويل المعروفة، وإنما المستطاع هو تغيير ظاهري في شكل الفلز وصورته. وكان الجزء الخاص بالمعادن والآثار العلوية في كتاب الشفاء مُنْطَلقًا لعلوم الأرض حتى في أوروبا. فقد ترجم ألفرد سيريشل المادة الخاصة بالمعادن في هذا الجزء عام 1200م ونسبه إلى أرسطو، إلا أن هولميارد وماندرفيل اكتشفا خطأه عام 1927م بعد أن قدّما البراهين على ذلك. واعترف ليوناردو دافينشي أنه استقى معلوماته عن الأحجار والأحافير من الكتب المشهورة لابن سينا.
تحدث العلماء العرب والمسلمون عن الأشكال الطبيعية للمعادن، كما توجد في الطبيعة، كما تحدثوا عما يطرأ على خصائصها من تغير فيزيائي لعوامل خارجية. فقد ذكروا أن بعض المعادن تتخذ أشكالاً هندسية طبيعية خاصة بها، ولا دخل للإنسان في تشكيلها، ولربما كان ذلك إرهاصًا لما نسميه اليوم بعلم البلورات. فقد وصف البيروني بعضها متناولاً تناسق أسطحها وهندسية أشكالها. ويقول معبرًا عن ذلك بأن أشكال الماس ذاتية، مخروطية مضلّعة، ومنها ما يتكون من مثلثات مركبة كالأشكال المعروفة بالنارية، متلاصقة القواعد، ومنها ما يكون على هيئة الشكل الهرمي المزدوج. ويبدو أن دراسة البلورات قد اتسعت رويدًا رويدًا بمرور الزمن بحيث نجد أن القزويني بعد مضي نحو من 240 سنة يصف بلورات الألماس المثلثة وصفًا فيه الكثير من الدقة ؛ فيصفه بأن جميع أقطاعه مثلثة، وأن حجر السون أملس مخمس إذا كسر قطعًا تكون جميع أقطاعه مخمسة. وابن الأكفاني (ت 749هـ، 1348م) يصف الزمرد بأن أكثر ما يظهر منه خرز مستطيل ذو خمسة أسطح تسمى الأقصاب. ووصفوا الأحجار بظلال الألوان فقسموا الياقوت إلى أبيض، وأصفر، وأحمر، وأكهب (أزرق). ويتفرع الأكهب إلى طاووسي، وإسمانجوني، ونيلي، وأحور، وكحلي، ونفطي. أما الأحمر فرماني، وبهرماني، وأرجواني، ولحمي، وجلناري، ووردي. كما عرفوا البريق واللمعان وانعكاس الضوء في خصائص بعض الأحجار، وحددوا الصلابة ؛ فالياقوت عند البيروني يغلب بصلابته ما دونه من الأحجار، لكن الألماس (الماس) يغلبه.كما عرف العرب التشقق، وسَمُّوا الشقوق الرفيعة في الأحجار الشعيرات، وعرفوا الثقل النوعي وأجروا الاختبارات الكيميائية على المعادن والجواهر، وعالجوا بعضًا منها بالأحماض كما ورد سابقًا عند الحديث عن الكيمياء.
اهتم العرب والمسلمون باستغلال المعادن والأحجار الكريمة بنفس القدر الذي أولوه لدراستها. وتكلم المؤلفون عن المناجم والمحاجر التي يستخرج منها الذهب والزمرد وغيرهما. كما عرفوا بعض أماكن توافر النفط واستغلوه في أعمالهم. وقد كانت لصياغة الحُلي والأحجار الكريمة في عهد العباسيين منزلة كبيرة، فكان الذهب والفضة والزمرد وأنواع الياقوت واللازورد والآزوريت واللؤلؤ يجلب من خراسان وإيران والبحرين ونيسابور وصنعاء ولبنان والهند وسيلان والسودان. ومن الأسماء التي اشتهرت بالخبرة في التعدين في أواخر الدولة الأموية والدولة العباسية: عون العبادي، وأيوب البصري، وبشر بن شاذان، وصباح جدّ يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو عبدالله بن الجصاص، وابن البهلول وغيرهم كثيرون.
عرف العرب نوعين من النفط، النفط الأسود، والنفط الأبيض ؛ فالنفط كما يقول القزويني ¸يطفو على الماء في منابع المياه، منه أسود ومنه أبيض، وقد يصّاعد الأسود بالقَرْع والأنبيق فيصير أبيض وينفع من الأوجاع. وقد وجد ابن جبير في العراق في رحلته الأولى بقعة من الأرض سوداء كأنها سحابة مليئة بالعيون الكبيرة والصغيرة التي تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، وتصنع لها أحواض ليجتمع فيها فتراه يشبه الصلصال أسود أملس صقيلاً، واستخدمه أهل بغداد في طلاء جدران الحمامات.
الصخور. كانت للعلماء المسلمين نظريات عديدة عن أصل الصخور، وكيفية تكونها، وخصوا بالذكر الصخور الرسوبية، وتعاقب الطبقات بعضها فوق بعض وتحدثوا عن النيازك واقترحوا لها تسميات فئوية.
تتكون الصخور في رأي ابن سينا من الطين أو الماء أو النار ؛ لأن ¸كثيرًا من الأحجار يتكون من الجوهر الغالب فيه الأرضية، وكثير منها يتكون من الجوهر الذي تغلب عليه المائية ؛ فكثير من الطين يجف ويستحيل أولا شيئًا بين الحجر والطين، وهو حجر رخو، ثم يستحيل حجرًا، وأولى الطينيات ما كان لزجًا، فإن لم يكن لزجًا فإنه يتفتت في أكثر الأمر قبل أن يتحجر... ويجوز أن ينكشف البر عن البحر، وكل بعد طبقة. وقد يرى بعض الجبال كأنه منضود (متراص) سافًا فسافًا (صفًا صفًا) ؛ فيشبه أن يكون ذلك قد كانت طينتها في وقت ما كذلك سافًا فسافًا، بأن كان سافًا ارتكم أولاً، ثم حدث بعده في مدة أخرى ساف آخر فارتكم. وكان قد سال على كل ساف جسم من خلاف جوهره، فصار حائلاً بينه وبين الساف الآخر. فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انشق وانتثر عما بين السافين. وأن حائلاً من أرض البحر قد تكون طينته رسوبية، وقد تكون طينته قديمة ليست رسوبية، ويشبه أن يكون ما يعرض له انفصال الأرهاص (الصخور) من الجبال رسوبيّاً·.
يتضح من آراء ابن سينا أن لها نظائر في علم الجيولوجيا الحديث. فقوله إن نوعًا من الصخور يتكون من جراء الطين الذي يستحيل في مرحلة من المراحل إلى صخر أمر يثبته العلم الحديث ؛ فبعض الصخور الرسوبية تتكون من الطين الذي يتصلب فينتج عنه ما يطلق عليه الطفال. أما نظريته في أن الترسيب قد يستغرق مدّة زمنية طويلة، يحدث بعدها ساف آخر يتراكم على الأول وهكذا دواليك، تجعلنا نقول مطمئنين إنه كان أول من أشار إلى قانون تعاقب الطبقات. ولم يفت ابن سينا أن يتحدث عن رواسب الأودية التي تحدث من جرّاء السيول. وتكوُّن الصخور من الماء ومن النار إذا طفئت. وقد أثبت العلم الحديث أن هناك صخورًا رسوبية تتكون نتيجة لتفاعلات كيميائية تتم داخل المياه، أو نتيجة للتبخر العالي الذي يؤدي إلى تكوّن رواسب التبخر. أما تكوّنها من النار فيكون فيما يُسمى الصخور النارية التي تتكون من آثار الحمم البركانية التي إذا خمدت وبردت أصبحت نوعًا من الصخور البركانية. ويقسم ابن سينا النيازك إلى نوعين: حجري و حديدي، وهو نفس التقسيم المتبع في الوقت الراهن.
آراء آخرين. وردت إشارات كثيرة في وصف أنواع من الصخور في كتابات جابر بن حيان والبيروني والتيفاشي وغيرهم. وبعض الأحجار التي تكلموا عنها ما هي إلا الصخور في لغة علم الجيولوجيا الحديث ؛ فجابر بن حيّان يقسم الصخور إلى ثلاثة أقسام: ¸قسم أوّل كالخلق الأول من الحجارة... وقسم ثان منفصل من الحجر الأول... وقسم ثالث هو الحجر المكوّن لنا بقصد...· ولعل هذا أول تلميح للتقسيم الحالي لما يُسمى الصخور النارية والصخور الرسوبية والصخور المتحركة.
وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يكن ذا باع في هذا العلم، إلا أنه أشار إلى تكون الصخور الرسوبية في كتاب التربيع والتدوير ؛ فيقول: ¸ومنذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء، وأين تراب هذه الأودية؟ وأين طين ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها؟ في أي بحر كُبست؟ وأي هبطة أشحنت؟ وكم نشأ لذلك من أرض...؟·.
أما البيروني فيقول في الجماهر: ¸وأظن أن حبات الرمل جواهر (معادن) شتى إذا تؤملت رؤي فيها الأسود والأحمر والأبيض والمشف البلوري· ؛ وبالطبع فرمال البحار وما شاكلها تتكون من الكوارتز (المرو) في معظمها وتختلط بها نسب متفاوتة من المعادن الأخرى ذات الألوان المختلفة. وتحدث البيروني في كتابه تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن عن التغيرات الجيولوجية التي ينتج عنها انتقال العمران من موضع إلى آخر، ومنها انحسار البحار عن مواضع وظهور اليابسة مكانها، وطغيانها على مواضع مأهولة فتتحول إلى بحار، ويدلل على رأيه بوجود آثار البحار في المناطق اليابسة وذلك عند حفر الآبار والحياض ؛ فإن حجارتها تشتمل على أصداف وقواقع على حالها أو بالية تشَكّل باطن الحجر بشكلها.
البحار. لا يكاد يخلو كتاب من الكتب التي تناولت ذكر البلدان أو الأقاليم من ذكر البحار والأنهار ؛ فالمسعودي في أخبار الزمان يتحدث بإسهاب عن تكون البحار وعللها، وآراء من سبقه فيها. كما أورد في مروج الذهب جملة من المناقشات الجيولوجية ضمَّنها الحديث عن البحار، والأنهار،والمد والجزْر، كما أورد فصلاً كاملاً عن البحار سّماه ذكر الأخبار عن انتقال البحار. وقد سموا البحار بأسماء أقرب البلدان لها. من ذلك أن أبا جعفر الخوارزمي يقسم البحار في كتابه صورة الأرض وفق البلاد التي تجاورها أو تطل عليها ؛ ومن أمثلة ذلك البحر المغربي، والبحر المصري، وبحر الشام، وبحر الهند، وبحر الصين. أما ابن رستة فيقسمها في الأعلاق النفيسة أيضًا إلى بحر الهند وفارس والصين (المحيط الهندي)، وبحر الروم وإفريقيا الشمالية (البحر الأبيض المتوسط)، وبحر طبرستان وجرجان (قزوين). ويذكر المقدسي أبعاد هذه البحار وأهم ما فيها من جزر، ومواضع الخطر فيها، كما يتناول ظاهرة المد والجزر ويحاول تفسيرها.
عرف العرب مدى اتساع المسطحات المائية وعظم حجمها إذا قورنت باليابسة، كما عرفوا أن التشكيلات التضاريسية المتنوعة تمنع الماء من أن يغمر وجه الأرض ؛ فيقول ياقوت الحموي في هذا الصدد: ¸لولا هذا التضريس لأحاط بها (الأرض) الماء من جميع الجوانب وغمرها حتى لم يكن يظهر منها شيء. أما نسبة توزيع اليابسة إلى الماء فقد جاءت واضحة عند أبي الفداء في تقويم البلدان بأن النسبة التي تغطيها المياه من سطح الكرة الأرضية تبلغ 75% منها ¸فالقدر المكشوف من الأرض هو بالتقريب ربعها، أما ثلاثة أرباع الأرض الباقية فمغمور بالبحار·.
تناول العلماء المسلمون خصائص مياه البحار، وعزوا السبب في ملوحة مياهها إلى كثرة البخر، وإذابة الأملاح من الأرض وهذا من شأنه ارتفاع درجة كثافة الماء. وعزوا الحكمة في كون ماء البحر ملحًا ؛ حتى لا ينتن فتتعفن الكائنات التي تسكنه. فابن الوردي يقول في خريدة العجائب وفريدة الغرائب: ¸والحكمة في كون ماء البحر ملحًا أجاجًا لا يذاق ولا يساغ لئلا ينتن (يتعفَّن) من تقادم الدهور والأزمان. واختلفوا في ملوحة البحر ؛ فزعم قوم أنه لما طال مكثه وألحّت الشمس عليه بالإحراق صار مُرّاً، واجتذب الهواء ما لطف من أجزائه فهو بقية ما صنعته الأرض من الرطوبة فغلظ لذلك·. ويذهب الدمشقي إلى رأي قريب من رأي أبي الفداء في كتابه نخبة الدهر في عجائب البر والبحر ¸… زعم قوم أن أصل الماء العذوبة واللطافة، وإنما لطول مكثه جذبت الأرض ما فيه من العذوبة لملوحتها، وجذبت الشمس ما فيه من اللطافة بحرارتها فاستحال إلى الغلظ والملوحة·.
للعرب فضل كبير في استحداث أو تطوير بعض الآلات التي تعد من ضرورات أدوات الملاحة، من ذلك الأسطرلاب. ★ تَصَفح:الأسطرلاب. وهو أداة لرصد النجوم للاهتداء بها في عرض البحار ليلاً، وكذلك بيت الإبرة (البوصلة)، بالإضافة إلى الجداول الفلكية التي يُهتدى بها في السير في البر والبحر، وقد وصفها إبراهيم الفزاري، وابن يونس المصري، والزرقاني، والبيروني وغيرهم.
المد والجزر. تناول العلماء العرب ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار، وأفضل مواسم الملاحة. وعللوا هذه الظاهرة وارتباطها بالقمر ؛ فالبيروني يقول إن خاصة الناس يعرفون هذه الظاهرة ¸في اليوم بطلوع القمر وغروبه، وفي الشهر بزيادة نوره ونقصانه·، وقد تناول القزويني ظاهرة المد والجزر وعزاها أيضًا إلى القمر فإن ¸القمر إذا صار في أفق من آفاق البحر أخذ ماؤه في المد قليلاً من القمر، ولايزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع إذا صار هناك انتهى المد منتهاه، فإذا انحطّ القمر من وسط سمائه جزر الماء، ولايزال كذلك راجعًا إلى أن يبلغ القمر مغربه فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه. فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع، ابتدأ المدّ مرة ثانية إلا أنه أضعف من الأولى فيكون في كل يوم وليلة بمقدار مسير القمر في ذلك البحر. مدّان وجزران·.
وأوضح المسعودي أيضًا دورة التبادل بين اليابسة والماء بأن المواضع الرطبة من الأرض لا تكون رطبة دائمًا إلى الأبد، ولا تكون اليابسة يابسة دائمًا، إذ يتغير هذا الوضع بانغمار اليابسة بالماء من الأنهار والبحار، أو العكس بأن تنحسر المياه أو تنقطع الأنهار عن اليابسة ؛ لذا فإنه ¸ليس موضع البر أبدًا برًا، ولا موضع البحر أبدًا بحرًا ؛ بل قد يكون براً حيث كان مرةً بحرًا، ويكون بحرًا حيث كان مرةً براً، وعلة ذلك الأنهار وبدؤها وجريها فإن لمواضع الأنهار شبابًا وهرمًا، وحياةً وموتًا ونشأة ونشورًا، كما يكون ذلك في الحيوان والنبات·.
أدلى إخوان الصفا بدلوهم في الجانب النظري في الجيومورفولوجيا ؛ فأشاروا إلى تأثير عوامل التعرية والنحت في التضاريس. كما أكدوا حدوث عملية التبادل بين اليابسة والماء على مر العصور الجيولوجية وتكوّن السهول الرسوبية البحرية والجبال الالتوائية. فالجبال تعمل فيها عوامل التعرية من شمس وقمر ورياح وصواعق فتتصدع وتتحول إلى حجارة وحصى وصخور ورمال. وتجرف المياه هذه الحجارة والحصى وخلافها إلى الأودية والبحار فتراكمها أمواج البحار صفاً صفاً، ويتلبّد بعضها فوق بعض ويتماسك شيئًا فشيئًا فتأخذ هيئة التلال والجبال تمامًا كما يحدث للرمال والحصى في البراري والقفار. وكلما تراكمت هذه التلال والجبال زاد حجمها مما يؤدي إلى أن تأخذ حيزًا أكبر في الماء، فيرتفع الماء ويغمر مساحات من ساحل البحر أكبر. فلا يزال ذلك دأبه على مر الدهور حتى تصير مواضع البراري بحارًا، ومواضع البحار يبسًا وقفارًا. ثم تبدأ دورة أخرى بأن تتفتت هذه الجبال والتلال فتصير حجارة وحصى ورمالاً تحطها السيول والأمطار وتحملها إلى الأودية والأنهار والبحار، فتتراكم مرة أخرى عبر السنين وتنخفض الجبال الشامخة وتقصر حتى تستوي مع وجه الأرض. أما الطين والرمال التي جرفت من الجبال في اليابسة فتنبسط في قاع البحار وتتماسك فتكوّن على مر الزمن تلالاً وروابي وجبالاً. وينحسر الماء عنها رويدًا رويدًا حتى تنكشف فتصير جزائر وبراري، ويصير ما يبقى من الماء بين هذه التلال والجبال بحيرات وآجامًا وغدرانا، وبطول الزمن تنبت الأعشاب والأشجار وتصير صالحة لسكنى الحيوان والبشر.
كانت آراء ابن سينا في الجيومورفولوجيا أقرب الآراء للنظريات الحديثة في هذا الحقل. فهو على سبيل المثال يعزو تكوّن بعض الجبال إلى سببين: ذاتي (مباشر) وعرضي (غير مباشر) ؛ فالذاتي يحدث عندما تدفع الزلازل القوية مساحات من الأرض وتحدث رابية من الروابي مباشرة. أما السبب العرضي فيحدث عندما تعمل الرياح النسافة أو المياه الحفّارة على تعرية أجزاء من الأرض دون أجزاء أخرى مجاورة لها ؛ فتنخفض، من جراء عوامل التعرية، تلك الأجزاء وتبقى المناطق المجاورة لها مرتفعة. ثم تعمل السيول على تعميق مجاريها إلى أن تغور غورًا شديدًا وتبقى المناطق المجاورة شاهقة. وهذا ما نلاحظه تمامًا في بعض الجبال وما بينها من مجاري السيول والمسالك. أو قد يتكوّن بعضها خلال الفيضانات خاصة إذا كانت أجزاء من الأرض ترابية منخفضة ويكون بعضها لينًا وبعضها حجرياً ؛ فتنحفر الأجزاء الترابية اللينة وتبقى الحجرية مرتفعة، ثم يظل هذا المجرى ينحفر على مر الزمن ويتسع ويبقى النتوء ليرتفع قليلاً بانخفاض ما حوله. وإذا تأمل الشخص في أكثر الجبال التي تتكون بهذه الطريقة سيرى "الانحفار الفاصل فيما بينها متولدًا من السيول، ولكن ذلك أمر إنما تم وكان في مدد كثيرة، فلم يبق لكل سيل أثره، بل يُرى الأقرب منها عهدًا. وأكثر الجبال إنما هي في طور الانرضاض والتفتت ؛ وذلك لأن عهد نشوئها وتكوّنها إنما كان مع انكشاف المياه عنها يسيرًا يسيرًا. والآن فإنها في سلطان التفتت ؛ إلا ما شاء الله من جبال إن كانت تتزايد بسبب مياه تتحجر فيها أو سيول تؤدي إليها طينًا كثيرًا فيتحجر فيها". ومن الواضح هنا أن ابن سينا قد سبق المحدثين بالإشارة إلى سببين من أسباب تكون الجبال وهي الحركات الأرضية الرافعة، وعوامل التعرية. كما لفت الأنظار إلى التراكمات الجيولوجية البطيئة التي تحدث بمضي الوقت وتعاقب السنين وآثارها الطويلة الأمد.
المتيورولوجيا. عرف العلماء العرب أمورًا مهمة من هذا العلم الذي أطلقوا عليه علم الآثار العلوية. يتناول هذا العلم الجو وظواهره ودرجات الحرارة والكثافة والرياح والسحب وهو ما يسمى بالأرصاد الجوية. وسبق اللغويون العلماء في ذكر الكثير من المصطلحات في هذا العلم. من قبيل ذلك أنهم قسموا درجات الحرارة المنخفضة إلى برد، وحر، وقر، وزمهرير، وصقعة (من الصقيع)، وصر، وأريز (البرد الشديد). وقسموا درجات الحرارة المرتفعة إلى حر، وحرور، وقيظ، وهاجرة، وفيْح. أما الرياح فقد قسموها وفق الاتجاهات التي تهب منها أو وفق صفاتها ؛ فهناك الشمأل والشّمال والشامية وهي التي تهب من الشمال، والجنوب أو التيمن وتهب من جهة الجنوب، والصَّبا التي تهب من الشرق، والدبور التي تهب من دبر (خلف) الكعبة. والرياح الشمالية الشرقية الصبابية، والجنوبية الشرقية الأزيْب، والجنوبية الغربية الداجن، والشمالية الغربية الجرْيباء. وما كان حاراً منها سموه رياح السموم، والباردة الصرصر، والرياح الممطرة المعصرة، وغير الممطرة العقيم.
كما أطلقوا على السحاب أسماء تدل على أجزائه ومراحل تكوينه ؛ من ذلك: الغمام والمزن، وهو الأبيض الممطر، والسحاب، والعارض، والديمة، والرباب. ومن أجزاء السحابة الهيدب وهو أسفلها، ويعلوه الكفاف، فالرحا وهو ما دار حول الوسط، والخنذيذ، وهو الطرف البعيد للسحابة، وأعلى السحاب سموه البواسق. وللماء الذي يهطل من السماء أو يتجمع بفعل تدني درجات الحرارة أسماء منها: القطر والندى والسَّدَى (ندى الليل) والضباب والطل والغيث والرذاذ والوابل والهاطل والهتون.
ابن سينا والمتيورولوجيا. تناول ابن سينا الكثير من الظواهر المتيورولوجية في موسوعته الشفاء في الجزء الخاص بالمعادن والآثار العلوية. فقد تكلم عن السحب والثلوج والطل والضباب والهالة وقوس قزح والنيازك والرياح وغير ذلك. فالسحاب ¸جوهر بخاري متكاثف طافٍ في الهواء… وهذا الجوهر البخاري كأنه متوسط بوجه ما بين الماء والهواء، فلا يخلو إما أن يكون ماء قد تحلل وتصعّد، أو يكون هواء قد تقبض واجتمع…· أما الطل فيتكون من ¸البخار اليومي المتباطئ الصعود القليل المادة إذا أصابه برد الليل وكثفه وعقد ماء ينزل نزولاً ثقيلاً في أجزاء صغار جدًا لا تحس بنزولها إلا عند اجتماع شيء يعتد به، فإن جمد كان صقيعًا·. أما الثلج الصقيع والبَرَد فيتكوّن لأن السحاب عندما يتكثف ¸يجتمع فيه حب القطر يجمد ولم تتخلق الحبات بحيث تحبس فينزل جامدًا، فيكون ذلك هو الثلج، ونظيره من البخار الفاعل للطل هو الصقيع، وأما إذا جمد بعدما صار ماء وصار حبًا كبارًا فهو البرد. والضباب من جوهر الغمام إلا أنه ليس له قوام السحاب، فما كان منه منحدرًا من العلو وخصوصًا عقيب الأمطار فإنه ينذر بالصحو، وما كان منه مبتدئًا من الأسفل متصعدًا إلى فوق ولا يتحلل فهو ينذر بالمطر·.
ذكر ابن سينا أيضًا الهالة التي تُرى حول القمر أو الشمس. وقال إنها تنشأ من جراء وجود بخار الماء في الجو (سحاب لطيف)، فإذا وقع عليه الشعاع تكونت الهالة. ★ تَصَفح: الهالة.
أما عن الرياح فيقول ابن سينا بوجود علاقة بينها وبين المطر، وأن العام الذي تكثر فيه الرياح يقل فيه المطر والعكس فيقول في ذلك ¸... وما يدل على أن مادة المطر الذي هو البخار الرطب، هو أنهما في أكثر الأمر يتمانعان، والسنة التي تكثر فيها الرياح تكون سنة جدب وقلة مطر، لكنه كثيرًا ما يتفق أن يعين المطر على حدوث الرياح تارة بأن يبل الأرض، فيعدها لأن يتصعّد منها دخان، فإن الرطوبة تعين على تحلل اليابس وتصعده، وتارة بما يبرد البخار الدخاني فيعطفه، كما أنه قد يسكنه بمنع حدوث البخار الدخاني وقهره. والريح أيضًا كثيرًا ما تعين على تولد المطر بأن تجمع السحاب، أو بأن تقبض برودة السحاب...·. أما البرق عنده ¸فيرى، والرعد يسمع. فإذا كان حدوثهما معًا رؤي البرق في الآن وتأخر سماع الرعد ؛ لأن مدى البصر أبعد من مدى السمع·. وهذا ما يؤيده علم الفيزياء حالياً من أن سرعة الضوء أكبر من سرعة الصوت.
إخوان الصفا والمتيورولوجيا. تناول إخوان الصفا جوانب متفرقة من المتيورولوجيا ؛ تحدثوا فيها عن الأمطار، والندى، والصقيع، والطل، والتكثف، وطبقات الجو العليا وأقسامها وجوانب أخرى يتقاسمها علم الجغرافيا مع المتيورولوجيا خاصة ما يتعلق منها بالمناخ. فالأمطار تحدث في رأيهم وفقًا لمراحل التصعيد والتكثف والتبريد تمامًا كما يقول العلم الحديث فإنه ¸إذا ارتفعت البخارات في الهواء ودافع الهواء إلى الجهات، ويكون تدافعه إلى جهة أكثر من جهة. ويكون من قدام له جبال شامخة مانعة، ومن فوق له برد الزمهرير له مانع. ومن أسفل مادة البخارين متصلة، فلا يزال البخاران يكثران ويغلظان في الهواء وتتداخل أجزاء البخارين بعضها في بعض حتى يسخن ويكون منها سحاب مؤلف متراكم. وكلما ارتفع السحاب بردت أجزاء البخارين، وانضمت أجزاء البخار الرطب بعضها إلى بعض، وصار ما كان دخانًا يابسًا ماء وأنداء، ثم تلتئم تلك الأجزاء المائية بعضها إلى بعض وتصير قَطْرًا بردًا، وتثقل فتهوي راجعة من العلو إلى السفل فتسمى حينئذ مطرًا. فإن كان صعود ذلك البخار الرطب بالليل والهواء شديد البرد، منع أن تصعد البخارات في الهواء، بل جمدها أول بأول وقربها من وجه الأرض فيصير من ذلك ندى وصقيع وطل. وإن ارتفعت تلك البخارات في الهواء قليلاً وعرض لها البرد صارت سحابًا رقيقًا. وإن كان البرد مفرطًا جمد القْطر الصغار في حلل الغيم، فكان من ذلك الجليد أو الثلج·.
قسم إخوان الصفا طبقات الهواء إلى ثلاث: الأثير ؛ وهو أعلى طبقة وهو في غاية الحرارة، والزمهرير طبقة باردة في غاية البرودة، والنسيم ؛ وهي الطبقة الهوائية التي تلي سطح الأرض، وهي مختلفة في اعتدال حرارتها. وعلى الرغم من تمييزهم لكل طبقة من تلك الطبقات، إلا أنهم قالوا إن هذه الطبقات قد يتداخل بعضها في بعض. وأكدوا على أن الهواء المحيط بالكرة الأرضية لا تأتيه الحرارة من الشمس مباشرة، بل يكتسبها من الأشعة التي تنعكس عليه من سطح الأرض والمياه.
الأحافير. تناول بعض العلماء العرب علم الأحافير في معرض تناولهم لعمر الأرض، وخلال استدلالهم من تحول البحر إلى مناطق يابسة. فالبيروني يستشهد في كتابه تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن على أن جزيرة العرب كانت مغمورة بالمياه فانحسرت عنها بتعاقب الحقب الجيولوجية، وأن من يحفر حياضًا أو آبارًا يجد بها أحجارًا إذا شقت خرج منها الصدف والودع. ¸فهذه بادية العرب كانت بحرًا فانكبس، حتى أنّ آثار ذلك ظاهرة عند حفر الآبار والحياض بها ؛ فإنها تبدي أطباقًا من تراب ورمال ورضراض، ثم فيها من الخزف والزجاج والعظام ما يمتنع أن يُحمل على دفن قاصد إياها هناك، بل تخرج أحجارًا إذا كسرت كانت مشتملة على أصداف وودع وما يسمى آذان السمك ؛ إما باقية فيها على حالها، وإما بالية قد تلاشت، وبقي مكانها خلاء فتشكَّل بشكلها·. وهنا يشير البيروني إلى المستحجرات وهي بقايا عضوية كاملة أو طوابعها التي تكون داخل الحجارة، ويستدل بذلك على أن بعض المناطق كانت تغطيها المياه ثم أصبحت ضمن اليابسة.
ومثل البيروني نجد أن المازيني في العقد السادس من القرن السادس الهجري يشير إلى العاج المتحجر الذي رآه بنفسه في حوض نهر الفولجا. وكان لابن سينا رأي شبيه برأي البيروني من حيث إن وجود المستحجرات الحيوانية المائية في منطقة يابسة دليل على أن تلك المنطقة كانت مغمورة بالمياه في حقبة زمنية قديمة. من ذلك ما جاء في الشفاء ¸... فيشبه أن تكون هذه المعمورة قد كانت في سالف الأيام غير معمورة، بل مغمورة في البحار فتحجرت عامًا بعد الانكشاف قليلاً قليلاً ففي مدد لا تفي التأريخات بحفظ أطرافها، إما تحت المياه لشدة الحرارة المحتقنة تحت البحر، والأولى أن يكون بعد الانكشاف، وأن تكون طينتها تعينها على التحجر ؛ إذ تكون طينتها لزجة. ولهذا ما يوجد في كثير من الأحجار، إذا كسرت أجزاء من الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها·. ويستطرد قائلاً ¸إن كان ما يحكى من تحجر حيوانات ونبات صحيحًا ؛ فالسبب فيه شدة قوة معدنية محجرة تحدث في بعض البقاع البحرية، أو تنفصل دفعة من الأرض في الزلازل والخسوف فتحجر ما تلقاه·.
كروية الأرض. هناك من الدلائل ما يشير إلى أن المسلمين قد عرفوا أن الأرض كروية منذ عهد المأمون (ت 218هـ،833م). فقد قام فريقان من علماء المسلمين بقياس محيط الأرض بأمر من المأمون، وتوصل الفريقان إلى أن طول المحيط 41248كم. و لعل أول من قال بكروية الأرض وكتب عنها صراحة هو الكندي. وقد أثبت ذلك بطريقة حسابية في رسالته العناصر والجرم الأقصى كرِّية الشكل. وكان ابن خرداذبه (ت 300هـ، 912م) ممن كتبوا في كروية الأرض في كتاب المسالك والممالك، واستعار لهيئة الأرض صورة المحة والبيضة، وكذلك الهمداني الذي قدم أدلّة كروية الأرض في كتاب صفة جزيرة العرب وكتاب الجوهرتين. ونجد إشارات أكثر وضوحًا لدى المسعودي في كتاب مروج الذهب وكتاب التنبيه والإشراف. ★ تَصَفح: الجغرافيا في هذه المقالة.
ومن العلماء المسلمين الذين قالوا بكروية الأرض المقدسي (ت 375هـ، 985م)، في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. وقد مثل لكروية الأرض في الفلك بصورة المحة في جوف البيضة أيضًا كما فعل ابن خرداذبه من قبل، وقسَّم دائرة الكرة الأرضية إلى 360 درجة. ولإخوان الصفا في كروية الأرض رأي واضح مباشر: ¸فالأرض جسم مدوَّر مثل الكرة، وهي واقفة في الهواء... ومركزها نقطة متوهمة في عمقها على نصف القطر، وبعدها من ظهر سطح الأرض ومن سطح البحر من جميع الجهات متساوٍ لأن الأرض بجميع البحار التي على ظهرها كرة واحدة·. ومن العلماء المسلمين الذين قالوا بكروية الأرض أيضًا ابن سينا، والبيروني، وياقوت الحموي، والقزويني وأخيرًا ابن خلدون.
إسهام الكندي. كان فيلسوف العرب الكندي أول من بحث في موضوعات متفرقة من علم الجيولوجيا، فله رسائل في علة الرعد والبرق والثلج والبرد والصواعق والمطر، ورسالة في سبب وجود اللون اللازوردي في الجو، وله إسهامات في علم المتيورولوجيا لا يختلف كثير منها عما توصل إليه المحدثون. ومن رسائله ذات الصلة بهذا العلم رسالة في البحار والمد والجزر، وعلى الرغم من ورود بعض الأخطاء فيها، فإنها كانت أولى المحاولات للاعتماد على الملاحظة الشخصية، والتجربة العلمية المنظمة. وللكندي رسالة حول كرية (كروية) سطح الماء (البحر) ؛ فسطح البحر عنده محدّب كسطح الأرض اليابسة، وهذا قول يتفق وحقائق العلم الحديث. كما أن للكندي آراء ثاقبة في علم المعادن قال عنها البيروني ¸ولم يقع لي في فن المستعدنات غير كتاب أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي في الجواهر والأشباه·. استفاد من أعمال الكندي في حقل الجيولوجيا إلى جانب البيروني علماء آخرون منهم ابن الأكفاني والتيفاشي وابن سينا والقزويني وغيرهم.
إسهام المسعودي. كان أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346هـ، 957م)، وينسب إلى عبدالله بن مسعود الصحابي، ملماً بكثير من العلوم والثقافات، لكنه عُرف جغرافياً أكثر ما عُرف. أطلق عليه علماء العرب اسم بلينوس الشرق. يعد كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر من أفضل المصنفات العربية الجغرافية التي تناول فيها الكثير من فروع علم الجيولوجيا في ثنايا المعلومات الجغرافية. فقد تناول فيه استدارة الأرض وإحاطتها بغلاف جوي، وطبيعة العواصف التي تهب على الخليج العربي والمناطق المحيطة به. ووصف الأرض والبحار ومبادئ الأنهار والجبال ومساحة الأرض، ووصف الزلازل التي حدثت سنة 334هـ، 945م. وتحدث عن كروية البحار، وأورد الشواهد على ذلك. ودرس ظاهرة المد والجزر وعلاقة القمر بذلك. وتحدث عن دورة الماء في الطبيعة وتراكم الأملاح في البحر ووصف البراكين الكبريتية في قمم بعض الجبال. كما أورد العلامات التي يستدل بها على وجود الماء في باطن الأرض.
إسهام البيروني. تناول البيروني في علم الجيولوجيا علم المساحة والتضاريس، وطبقات الأرض، والمعادن، والجيولوجيا التاريخية وغيرها. كما قام بقياس محيط الأرض، وكتب عن مساحة الأرض ونسبتها للقمر. وهو أول من قال بأن الشمس مركز الكون الأرضي فخالف بذلك كل الآراء التي كانت سائدة آنذاك والتي اتفقت على أن الأرض هي مركز الكون. وقد أجرى تجربته التي حسب منها محيط الأرض من قمة جبل مشرف على صحراء مستوية ؛ إذ قاس زاوية انخفاض ملتقى السماء والأرض عن مستوى الأفق المار بقمة الجبل، ثم قاس ارتفاع الجبل وتحصل على حساب نصف قطر الأرض باستخدام المعادلة المعروفة باسمه اليوم وهي:
س = (ف جتا ن) / (1- جتا ن)
وشرح البيروني كيفية عمل عيون الماء في الطبيعة وكذلك الآبار الإرتوازية في ضوء قاعدة الأواني المستطرقة. وبيّن أن تجمع مياه الآبار يكون بوساطة الرشح من الجوانب حيث يكون مصدرها من المياه القريبة منها. وللبيروني آراء حول تكوين القشرة الأرضية وما طرأ على اليابسة والماء من دورات تبادلية خلال عصور جيولوجية استغرقت دهورًا. ويدلل على ذلك بقوله في كتابه تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن: ¸ينتقل البر إلى البحر، والبحر إلى البر في أزمنة، إن كانت قبل كون الناس في العالم فغير معلومة، وإن كانت بعده فغير محفوظة ؛ لأن الأخبار تنقطع إذا طال عليها الأمد وخاصة الأشياء الكائنة جزءًا بعد جزء بحيث لا تفطن لها إلا الخواص·. وتناول في كتابه الجماهر في معرفة الجواهر وصف الجواهر والبلورات والأحجار والمعادن. وتحدث عن كيفية استخراج وتعدين بعض هذه الفلزات وغيرها كالذهب والفضة والنحاس.
أشهر الجيولوجيين وأهم مؤلفاتهم | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الجغرافيا |
استخدم المسلمون كلمة جغرافيا في بادئ الأمر وفق استخدام اليونان لها، وهذا ما عناه ياقوت الحموي عندما قال ¸إن من قَصَد العمران من القدماء والفلاسفة والحكماء، ومنهم بطليموس، سموا كتبهم في ذلك الجغرافيا... ومعناه صورة الأرض·. وكان إخوان الصفا أول من استخدم مصطلح جغرافيا في رسائلهم وفسرت على أنها صورة الأرض.
لم تقتصر كتابات المسلمين في الجغرافيا على مجالات محددة، بل امتدت لتشمل مجالات عديدة متنوعة. وبدأت هذه الكتابات معتمدة على المعرفة الجغرافية القديمة في الجزيرة العربية بالإضافة إلى ما كان لدى الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام. كما اعتمدت على الترجمة من مصادر مختلفة يونانية وفارسية وهندية. وصحح المسلمون كثيرًا من الأخطاء وأضافوا كثيرًا من الملاحظات على الكتب المترجمة. وكان من أهم المسائل التي تناولتها مصنفاتهم في هذا الحقل الجغرافيا الفلكية والإقليمية والبشرية والاقتصادية.
الجغرافيا الفلكية يندرج تحتها ما يعرف بكتب الأزياج مثل زيج الإيلخاني للطوسي. والصورة لصفحتين من الكتاب. |
وممن كتب في هذا الفرع من الجغرافيا الفيلسوف الكندي، وجاءت آراؤه هذه في كتابه رسم المعمور من الأرض. وله في الجغرافيا الفلكية وعلم الفلك ما يقرب من 25 مؤلفًا بين كتاب ورسالة.
يندرج تحت هذا الفرع ما يعرف أيضًا بكتب الأزياج مثل زيج الإيلخاني للطوسي ؛ الزيج الصابي للبتاني، والزيج الحاكمي الكبير لابن يونس الصدفي، والمجسطي لأبي الوفاء البوزجاني، ومفتاح علم الهيئة للبيروني. ومن الكتب المهمة في حقل الجغرافيا الفلكية كتاب سهراب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة، ويورد فيه كيفية رسم خارطة الكرة الأرضية، واستخراج الطول والعرض للمواقع الجغرافية. وهو متأثر بكتاب صورة الأرض للخوارزمي، فهو يتناول المدن فالبحار فالجزر فالجبال ثم المنابع والأنهار كلا منها على انفراد داخل الأقاليم السبعة في قوائم مماثلة لما فعله الخوارزمي.
محيط الأرض ومساحتها. اهتم العلماء المسلمون في حقل الجغرافيا الفلكية بقياس محيط الكرة الأرضية. ذلك أن المقاييس التي أخذوها عن الهنود والإغريق لم تكن مقنعة لهم ؛ خاصة بعد ما تقدمت عندهم وسائل القياس. وقام العلماء المسلمون على عهد المأمون بأمر منه بقياس طول درجة من خط نصف النهار في مكانين صحراويين أحدهما في تَدْمر والآخر في سنجار، وتوصلوا إلى أن طول الدرجة يبلغ 56 ميلاً ؛ أي أن المحيط حوالي 20,400 ميل.
وردت في كتابات الجغرافيين العرب محاولات لتقدير مساحة الأرض المعمورة والبحار التي بينها والذي كان يسمى الرُّبع المعمور. وممن تناول ذلك البيروني في القانون المسعودي ؛ فقد ذكر مساحة الأقاليم السبعة المعروفة آنذاك، ونقلها عنه أبو الفدا في تقويم البلدان بعد أن شرح الطرق التي توصل بها البيروني لهذه المساحات. كما فعل ذلك أيضًا ياقوت الحموي في معجم البلدان حيث أورد تقديرات لمساحة الأرض نقلاً عمن سبقه من الجغرافيين.
الخريطة المأمونية رسمها الجغرافيون العرب للخليفة المأمون وبينوا عليها الجزء المعمور من الأرض. |
واستطاع الجغرافيون العرب عن طريق تحديدهم خطوط الطول والعرض أن يرسموا خارطة للأرض في عهد المأمون عرفت باسم الخريطة المأمونية، وقد قسم العالم فيها إلى سبعة أقاليم وفق خطوط الطول ودوائر العرض. وفيها صور للأفلاك والنجوم والبر والبحر والمدن.
خريطة العالم لابن حوقل (ت بعد 367هـ، 977م). |
وبحلول منتصف القرن الرابع الهجري تنوعت كتابات الجغرافيين واهتموا بالمعالم الطبيعية والأحوال الاقتصادية والاجتماعية للشعوب التي يكتبون عنها. وأفضل المصنفات التي تمثل هذه الحقبة هي مصنفات الإصطخري وابن حوقل والمقدسي وهي على التوالي: الأقاليم ؛ صورة الأرض ؛ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.
صورة العالم للإصطخري (ت. نحو سنة 300هـ، 912م). |
ظل الجغرافيون الأوائل يقسّمون الأقاليم وفقًا لما توارثوه عن الفرس واليونان، إلى أن اتخذت الجغرافيا الإقليمية مفهومًا جديدًا لفكرة الإقليم بدءًا من القرن الرابع الهجري على يد من أطلق عليهم الجغرافيون الإقليميون ويمثلهم أبو زيد البلخي (ت 322هـ، 934م) والإصطخري، وابن حوقل، والمقدسي. ولم يتفق الجغرافيون المسلمون في تلك الحقبة على نمط واحد لتقسيم الأقاليم ؛ فقسمها الإصطخري أحيانًا وفقًا لطبيعة الإقليم وأخرى وفقًا للأقوام ولغاتهم وثالثة لنوع الحكم. وقسم الأقاليم الإسلامية المعروفة على عهده إلى عشرين إقليمًا هي: ديار العرب ؛ ويضم شبه الجزيرة العربية وبادية الشام. بحر فارس ؛ ويضم الخليج العربي والبحر الأحمر. ديار المغرب ؛ ويضم بلاد الأندلس وأقطار المغرب العربي والصحراء الكبرى. ديار مصر ؛ وتضم مصر وبلاد البجة (شرق السودان). أرض الشام. بحر الروم ؛ ويضم شرقي البحر الأبيض المتوسط وبحر مرمرة وجزره. أرض الجزيرة ؛ ويضم منطقة الجزيرة في العراق وبعضًا من البادية الشمالية. العراق ؛ ويمتد من تكريت إلى عبدان وما بين النهرين. خوزستان. بلاد فارس. بلاد كرمان ويضم القسم الجنوبي الشرقي من إيران وبلاد السند. أرمينيا والران وأذربيجان. إقليم الجبال ويضم بلاد كردستان. الديلم ؛ ويضم البلاد الواقعة على سهول بحر الخزر الجنوبية. بحر الخزر ؛ ويضم منطقة بحر الخزر. مفازة خراسان ؛ ويضم منطقة صحراء شرقي إيران. سجستان ويضم جزءًا من أفغانستان. خراسان ؛ ويضم شمال غرب أفغانستان وشمال شرق إيران. ما وراء النهر ؛ ويضم منطقة سهول نهري سيحون وجيحون.
هناك تشابه كبير واضح بين تقسيم ابن حوقل والإصطخري للأقاليم، إلا أن ابن حوقل كان كثيرًا ما يلتزم في بعض تقسيماته الإقليمية بالعامل السياسي والإداري أكثر من الجانب الطبيعي الذي انتهجه الإصطخري. وقسّم ابن حوقل العالم الإسلامي إلى 22 إقليمًا وهي نفس الأقاليم التي ذكرها الإصطخري مع زيادات طفيفة كأن يذكر مع الديلم طبرستان أو مع مفازة خراسان يضيف فارس. أما الإقليمان الجديدان لديه فهما الأندلس وصقلية.
أما المقدسي فقد قسّم الأقاليم في الممالك الإسلامية إلى قسمين: أقاليم العرب وأقاليم العجم. فجاءت سبعة منها تحت الأقاليم العربية وثمانية تحت الأقاليم العجمية. وقسّم الأقاليم إلى أقسام إدارية أطلق على الواحد منها اسم كُور وقسّم الكور إلى رساتيق، وميّز بين العواصم والقصبات والمدن الثانوية.
ثم أتت حقبة رجعت فيها التقسيمات الأولى للأقاليم إلى سبعة أقاليم فلكية وفق المنهج التلقليدي لليونان، وكان من أبرز من أخذ بهذا الأسلوب الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق وعلي بن موسى المغربي في كتاب الجغرافيا، والقزويني في آثار البلاد وأخبار العباد. إلا أن الجغرافي الإقليمي أبو الفدا (ت732هـ، 1331م) قد جمع بين المنهج اليوناني الذي يمثله بطليموس، والتقسيم العربي الذي يمثله ابن حوقل، وقام بتقسيم الأرض المأهولة آنذاك إلى 28 إقليمًا.
المعاجم والرحلات. كانت المعاجم الجغرافية سمة من سمات التأليف الجغرافي لدى المسلمين في ذلك العهد. وهي تسير على نمط المعاجم الأخرى التي ألّفت في تخصصات أخرى مثل معاجم علوم الحيوان والنبات واللغة وغيرها. ويعد تأليف المعاجم الجغرافية علمًا انفرد به المسلمون ولم يسبقهم إليه أحد. إذ إن أول المعاجم الجغرافية التي ظهرت في غير العربية كان في القرن 10هـ، 16م في أوروبا وهو معجم أوتيليوس. وكان أبو عبيد البكري أوّل من صنّف معجماً جغرافياً وفق الترتيب الألفبائي الأندلسي ؛ وأطلق على معجمه معجم ما استعجم. ويُعدّ هذا المعجم مرحلة انتقالية من اللغة إلى الجغرافيا تناول فيه تحديد الأماكن التي ورد ذكرها في الأحاديث والتواريخ والمنازل والأشعار. وكان مما جعل البكري يقدم على هذا العمل، شيوع اللحن والتصحيف في أسماء الأماكن بين الناس، فأراد تصحيح ما وقع فيه بعض اللغويين من أخطاء كالأصمعي وأبي عبيدة وخلافهما. واحتوى معجمه على 3,590 مادة بها نحو 5,200 موضوع تقع في 784 بابًا.
يُعدّ معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626هـ، 1229م) من أفضل النماذج للمعاجم الجغرافية. واعتمد في مصادره على مؤلفات من تقدمه من الجغرافيين واللغويين والفلاسفة والحكماء من المسلمين وغيرهم. ورتب ياقوت مداخل هذا المعجم ترتيبًا ألفبائياً مع ضبط الاسم وبيان اشتقاقه، وموقعه وتاريخه، والمسافة بينه وبين أقرب بلد له، وتاريخ فتح المسلمين له، وعادات أهل الموقع وتقاليدهم، وأسماء من له علاقة بالموضع من الصحابة والتابعين. وقسّم المعجم إلى 28 بابًا على عدد حروف العربية، وصدره بمقدمة تمهيدية ذكر فيها صورة الأرض وهيئتها وأقاليمها، وأورد في المقدمة ثبتًا بالمصطلحات التي يتكرر ذكرها في المعجم كالفرسخ والميل والكورة.
يُعدّ معجم الروض المِعْطار في خبر الأقطار لمحمد بن عبدالمنعم الصنهاجي الحميري من المصنفات القيمة.اعتمد في معظمه على المصادر المغربية والأندلسية ؛ فقد نقل كثيرًا من مادة هذا المعجم من الإدريسي والبكري وكذلك من اليعقوبي والمسعودي وغيرهم. واقتصر المعجم في مادته على المواضع المشهورة جدًا، أو تلك التي ارتبط اسمها بوقائع أو أخبار اشتهرت عنها. وعلى الرغم من أنه من المغرب العربي (ولد في سبتة)، إلا أنه رتّب مداخل معجمه وفق الترتيب الألفبائي المعمول به في المشرق العربي. وقد أفاض في هذا المعجم من ذكر الأماكن في بلاد المغرب والأندلس، وجاء اهتمامه ببلاد المشرق في الدرجة الثانية. واستكثر أيضًا من ذكر الأحداث والتاريخ والأخبار.
تعد كتب الرحلات من أفضل مصادر الجغرافيا الإقليمية في عصر ازدهارها، وممّا يسر هذه الرحلات حث الإسلام على السياحة في الأرض، والوحدة الدينية التي كانت تربط البقعة الإسلامية من الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا واستتباب الأمن فيها، ثم رحلات الحجيج من وإلى بيت الله في مكة المكرمة، ومسجد رسوله ﷺ في المدينة المنورة وكذلك الخروج في طلب العلم، والرحلات التجارية.
كان أول من صنف في أدب جغرافيا الرحلات أبوبكر محمد بن العربي (ت 543هـ، 1148م) وله في ذلك كتاب ترتيب الرحلات. ومن أشهر الرحالة المسلمين ابن جبير، وابن بطوطة، وابن حوقل، والمسعودي.
كانت أولى الرحلات التي وصلت إلينا هي رحلة ناصر خَسْرو (ت بعد سنة 455هـ، 1063م). وقد عاصر الدولتين الغزنوية والسلجوقية. وقد بدأ رحلته من مرو في خراسان مرورًا بلبنان وفلسطين ومصر ومكة، فالبصرة فبلخ. وكان الباعث لرحلته دينياً. فقد كان ينوي بها الحج وزيارة الأماكن التي عاش فيها الرسول ﷺ وأصحابه ؛ مثل البقعة التي بايع فيها المؤمنون الرسول ﷺ تحت الشجرة. واستغرقت رحلته سبع سنوات. وقد وصف كل المناطق التي زارها وسكانها وملابسهم ومشاربهم ومآكلهم. ★ تَصَفح: ناصر خسرو.
كان الباعث لرحلات ابن جبير أيضًا دينياً، فقد قام بثلاث رحلات كانت الأولى عام 578هـ، 1182م واستغرقت ما يزيد على السنتين، بدأها من غرناطة وزار فيها سبتة في المغرب ومصر والحجاز والعراق وبلاد الشام وصقلية، وأُطْلق على هذه الرحلة اسم رحلة ابن جبير أو رحلة الكناني لأنه كان ينتسب إلى كنانة. وكان دقيقًا في تسجيله الحوادث والتأريخ لها حتى إنه كان يذكر الشهر واليوم والساعة في أغلب الأحيان. أما الرحلتان الأخريان فلم يسجل ابن جبير أخبارهما في كتاب.
لعل أشهر الرحلات الجغرافية التي تكاد تطغى على ما سواها من الرحلات الأخرى، سواءً في الشرق أم الغرب، رحلات ابن بطوطة (ت 779هـ، 1377م) وكان الدافع لرحلاته دينياً كذلك وهو أداء فريضة الحج. وقد بدأ هذه الرحلات الثلاث من مدينة طنجة (عام 725هـ، 1325م)، استمرت أولاها نحو 25 عامًا زار ووصف فيها الساحل الشمالي لإفريقيا ومصر والشام والحجاز والعراق وعُمان والبحرين وخراسان وأفغانستان والهند والصين وسومطرة وجزيرة سرنديب (سريلانكا الآن) وعاد إلى فاس عام 750هـ، 1349م. أما الرحلة الثانية فقد توجه فيها صوب الشمال نحو بلاد الأندلس وأقام بغرناطة ثم عاد إلى المغرب. وفي الرحلة الثالثة خرج عام 753هـ، 1353م إلى وسط إفريقيا فزار الممالك الإسلامية فيها كمملكة مالي وغانا وعاد عام 754هـ، 1354م. وقد قام بتدوين مشاهدات ابن بطوطة محمد بن جزي الكلبي بإملاء من ابن بطوطة، وسمّى السّفر الذي كتبه تحفة الأنظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار.
الجغرافيا البشرية. تناولت المصنفات الجغرافية الجانب البشري واهتمت به. وأوضح الأمثلة على ذلك كتابات المسعودي الذي ينهج نهجًا جديدًا في تناوله للجغرافيا. فقد طاف معظم بلاد العالم المعروف آنذاك، ولم يكن طوافه ذلك للنزهة أو كسب العيش، بل لمشاهدة معالم البلاد ومعرفة أحوال أهلها من عادات وتقاليد وأخلاق ومعايش وزراعة وسياسة. كما وصف أثر البيئة الطبيعية وصوَّر أخلاق البشر. وتناولُ المسعودي للجغرافيا البشرية مشوب بمعلومات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية. وفي مروج الذهب يكاد يخصص الشطر الأكبر من القسم الأول من هذه الموسوعة الجغرافية لوصف عادات الأمم ومعتقداتها ومذاهبها وتاريخها ومصادر أرزاقها من صناعة وزراعة وتجارة. ويذكر أيضًا أثر المناخ في ألوان البشر وفي النشاط الجسماني والذكاء.
وفي أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم أفاض المقدسي في ذكر المسافات، وطرق المواصلات، واللغات واللهجات، والمكاييل والأوزان، والمناخ، والزراعة، وطوائف الناس وغذائهم وشرابهم، وأخلاقهم وعاداتهم، ومذاهبهم ومعاملاتهم التجارية. أما ابن خلدون فكان من أهم من كتبوا في الجغرافيا البشرية خاصة ما يُطلق عليه الآن الجغرافيا الاجتماعية. فقد تناول في المقدمة كثيرًا من المعلومات عن عادات الشعوب ومساكنهم وبيئاتهم وطعامهم وتقاليدهم وأزيائهم وتأثير البيئة في ألوانهم وأخلاقهم وسلوكهم، وكذلك أثر الإقليم والتربة والمناخ. وتكلّم عن خصائص العمران وذكر منها الاستقرار، والتوسع في المأكل والملبس والمسكن والترف، واستجادة الصنعة للتباهي بها، وكذلك قيام نظام للدولة وانتشار العلم.
أفاضت كتب الرحلات الجغرافية أيضًا في الجانب البشري. فابن بطوطة يهتم بطبائع الناس وعاداتهم في كل بلد يتوقف فيه. فعندما وصل الهند مثلاً تكلّم عن معظم عادات الهندوس وعن إحراق المرأة الهندوسية نفسها بعد وفاة زوجها ¸فترتدي أحسن ما لديها من الثياب وتمتطي صهوة جوادها وتضحك وتمرح حتى تصل إلى مكان الحفل، وهناك يدثرها أحد الكهنة بثوب خشن من القطن ثم يلقي عليه كمية كبيرة من الزيت، ثم يتقدم الكهنة نحوها فيشعلون النار في رأسها وكتفها ووسطها، وسرعان ما تلتهمها النيران المتوهجة التي كان يذكيها الحاضرون بمزيد من الوقود والحطب لتزداد اشتعالاً·. وفي الصين يتكلم عن ملبس القوم ومآكلهم ومشاربهم واستخدامهم للعملات الورقية في التداول بدلاً عن العملات الفضية أو الذهبية. ونجده يشيد بتمسك السودانيين (السودان الغربي) بدينهم وحرصهم على إقامة الشعائر الخمس. ويتضح من مجمل مشاهداته أنه اهتم بتسجيل المظاهر الاجتماعية ووصف العادات والتقاليد وطبائع الأقوام وأديانهم وغيرها فكتاباته في هذا الجانب أقرب إلى علم الجغرافيا الاجتماعية منها إلى التاريخ أو الجغرافيا الطبيعية.
جغرافيا المدن. تناولت مصنفات المسلمين أيضًا جغرافيا المدن. فقد اهتمت هذه المصنفات بذكر أسماء الأمصار والمدن والبلاد وضبط هذه الأسماء واشتقاقاتها إن كانت عربية. وأفضل المصنفات التي اهتمت بهذا الجانب هي المعاجم الجغرافية مثل معجم ما استعجم ؛ معجم البلدان ؛ تقويم البلدان. ووضع بعضهم مؤلفات اقتصرها على أسماء الأماكن المتشابهة في الاسم، مثل كتاب المشترك وَضْعًا والمفترق صقْعًا لياقوت الحموي. وتحدثوا عن أسس اختيار المواضع التي تقام عليها المدن من حيث توافر المياه وملاءمة الهواء وارتفاع المكان. ولابن خلدون آراء في سبب نشأة المدن، وأفضل البقاع لإقامة هذه المدن، كما يتحدث عن أسباب خرابها فيقول ¸سبب خراب المدن قلة مراعاتهم لحسن الاختيار في اختطاط المدن… و★ تَصَفح لما اختطوا الكوفة والبصرة والقيروان كيف لم يراعوا في اختطاطها إلا مراعي إبلهم وما يقرب من القفر ومسالك الظعن فكانت بعيدة عن الوضع الطبيعي للمدن، ولم تكن لها مادة تمد عمرانها من بعدهم. فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس·.
وتناول إخوان الصفا أيضًا جغرافية المدن، وسكانها وطبائعهم، وأعمالهم، وعاداتهم، ودوابهم. فيقولون في الرسالة الخامسة وهي رسالة في الجغرافيا ¸إن في كل إقليم من الأقاليم السبعة ألوفًا من المدن تزيد وتنقص. وفي كل مدينة أمم من الناس مختلفة ألسنتهم، وألوانهم، وطباعهم، وآدابهم، ومذاهبهم، وأعمالهم وصنائعهم. وعاداتهم ولا يشبه بعضهم بعضًا. وهكذا حكم حيوانها ومعادنها مختلفة الشكل والطعم واللون والرائحة. وسبب ذلك اختلاف أهوية البلاد وتربة البقاع وعذوبة المياه وملوحتها·.
تناول القزويني في كتابه المواعظ والاعتبار عددًا من المدن التي تستجلب منها بضائع معينة أو اشتهرت بصنعة خاصة أو انفردت بصفة غلبت عليها من ذلك: مَنْدل مدينة بأرض الهند يكثر بها العود حتى يقال للعود المندل، وسيرجان قصبة كرمان كثيرة العلم، وسمهر قرية بالحبشة بها صناعة الرِّماح السَّمهْرية.
ويقتصر كتاب الإفادة لعبداللطيف البغدادي (ت 629هـ، 1232م) على مدن مصر وسكانها ونباتها وحيوانها. ويصف ما بها من آثار، وينحي باللائمة على الذين شوَّهوها أو خربوها. ويتحدث عن الأبنية وأنواع الأطعمة والأشربة.
الجغرافيا الاقتصادية. زخرت المصنفات الجغرافية بالكثير من المعلومات الاقتصادية مثل طرق كسب العيش عند الأمم والزراعة، والتجارة، وأنواع المعاملات والمقايضات، والأوزان والمكاييل، وأنواع العملات المتداولة وطرق النقل والمواصلات.
تناول الجغرافيون العرب والمسلمون جوانب من الجغرافيا التجارية، وأنواع التجارة والبيع والشراء والطرق التي تسلكها قوافل التجارة براً أو بحراً. وأهم المدن التجارية في المشرق الإسلامي والمغرب وكذلك الأسواق كسوق عدن وسواكن على بحر القلزم (البحر الأحمر)، وصحار وعُمان ودبي في الخليج العربي، وحضرموت وعدن. وذكروا أن بعضًا من هذه الأسواق تخصصت في تجارة بعينها، كعدن وحضرموت اللتين اشتهرتا بالاتجار في الطّيب والنعال. وكان أقوام من الهند وبلاد فارس واليهود والنصارى يعملون إلى جانب العرب في التجارة من وإلى بلاد العرب. وذكر الجغرافيون العملات التي تعامل بها الناس في الدولة الإسلامية، فالنقود في الصين كانت عملات ورقية. واستخدم العرب في داخل الجزيرة العربية الدينار المضروب من الذهب والدرهم الفضي. واستخدم أهل بخارى الدرهم لكنهم لم يتعاملوا بالدينار. واستخدم أهل الجزيرة العربية من المكاييل الصاع والمد. واستخدم أهل الشام القفيز والويبة والمكوك والكيلجة ؛ والكيلجة نحو صاع ونصف الصاع، والمكوك ثلاث كيالج، والويبة مكوكان، والقفيز أربع ويبات. كما استخدم المسلمون الدانق والقيراط والمثقال والأوقية والرطل والقنطار والقسط ويساوي مُدَّيْن، والفرق يساوي ستة أقساط. ومن مقاييس المسافات ذكر الجغرافيون على سبيل المثال: الفرسخ والميل والمرحلة والذراع والشِّبْر والإصبع والغلوة وهي رمية السهم.
تناول الجغرافيون المسلمون أهم الصناعات والحرف المختلفة في أرجاء الدولة الإسلامية. وذكروا من ذلك صناعة الثياب وصباغتها والمواد التي تصنع منها سواء كانت من الصوف أو الوبر أو القطن أو الكتان أو الحرير، وكل منطقة كانت تشتهر بحرفة أو صناعة فقد كانت دمياط وتنيس في مصر أكبر مركزين لصناعة النسيج، وكانت مدينة كازرون في بلاد فارس مشهورة بصناعة نسيج الكتان، ومرو ونيسابور اشتهرتا بصناعة ثياب القطن، وعبدان بصناعة الحُصُر. وذكر ابن الوزان في كتابه وصف إفريقيا، أن بمدينة فاس 120 موضعًا خاصاً بصناعة النسيج يعمل فيها نحو 20,000 عامل.
المعلومات الجغرافية أول من ربطها بالخريطة أبوزيد البلخي ؛ فقد جعل المصورات أساسًا لإيضاح الجغرافيا، والصورة توضح ديار العرب كما رسمها البلخي. |
اعتمدت الخرائط العربية في المرحلة الأولى على الحسابات الفلكية متأثرة بالنظريات ا لرومانية والإغريقية ؛ فقد صنع جغرافيو العرب صورة للأقاليم (خريطة) عرفت باسم الخريطة المأمونية. ظهرت عليها المناطق والبلدان موقعة بأسمائها العربية للقسم المعمور من الأرض وفق خطوط الطول ودوائر العرض. وكانت هذه الخريطة ملونة كما يتحدث عنها المسعودي في التنبيه والإشراف: ¸رأيت هذه الأقاليم مصوّرة في غير كتاب بأنواع الأصباغ. وأحسن ما رأيت من ذلك في كتاب جغرافيا مارينوس، وتفسير جغرافيا قطع الأرض. وهي الصورة المأمونية التي عملت للمأمون، واجتمع على صنعتها عدة من حكماء أهل عصره، صوّر فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبرّه وبحره، عامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن وغير ذلك ؛ وهي أحسن مما تقدم من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس وغيرهما·.
الخريطة عرفت عند المسلمين باسم لوح الترسيم، والصورة والرسم وكذلك الجغرافيا. |
أعطى المستشرق الألماني كونراد مولر اهتمامًا خاصاً بجمع الخرائط الإقليمية العربية التي بلغ عددها 275 خريطة ونشرها في مجلد خاص تحت عنوان الخرائط العربية، وأطلق عليها أطلس الإسلام ذلك لأنها تحوي 21 خارطة وتعرض المعلومات فيها وفق نظام واحد يستهل بخارطة العالم المستديرة، تليها خريطة جزيرة العرب، وبحر فارس والشام، ومصر، وبحر الروم، ثم 14 خريطة أخرى تصوّر الأجزاء الوسطى والشرقية من العالم الإسلامي. ويعد أبوزيد البلخي أول من ربط المعلومات الجغرافية بالخريطة وجعل المصورات أساسًا للإيضاح الجغرافي. وقد تبع البلخيّ في ذلك كل من الإصطخري وابن حوقل. ومن ناحية عامة تكاد تشترك جميع خرائط الجغرافيين الإقليميين في صفاتها العامة من حيث الشكل الهندسي التخطيطي الذي لا يركز على الشكل الحقيقي للبلاد ؛ فغالبًا ما تصور البلاد على هيئة مربع أو مستطيل، وتكون الجبال والأنهار والبحار خطوطًا مستقيمة أو أقواسًا ودوائر. أما البحار الداخلية فتأتي على هيئة دوائر كاملة. وكانت كل خريطة مستقلة تمامًا عن الأخرى بحيث لا يمكن جمعها لتكوين خريطة واحدة مثل خرائط الإدريسي.
خريطة العالم للإدريسي كما كونها مولر من الخرائط الجزئية التي عملها الإدريسي (548هـ، 1153م). |
عني الجغرافيون العرب والمسلمون بأنواع مختلفة أخرى من الخرائط ؛ كخرائط المدن والمساجد والسواحل، وخرائط توضيح اتجاه القبلة. ومن ذلك خريطة العراق للمقدسي والإصطخري. وخريطة مدينة قزوين للقزويني. وخريطتا تحديد القبلة للصفاقسي وابن الوردي. كما اهتم الجغرافيون العرب بالخرائط البحرية. من أهم هذه الخرائط، تلك التي رسمتها أسرة الشرفي الصفاقسي التونسية بدءًا من عام 958هـ، 1551م رسموا فيها سواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية وسواحله الشمالية في إيطاليا وأسبانيا وجنوب فرنسا وسردينيا وكورسيكا، وسواحل البحر الأسود وبحر آزوف وسواحل الشام وبرقة ومصر.
إسهام المقدسي. كان شمس الدين أبو عبدالله المقدسي البشاري (ت 390هـ، 1000م) من كبار الجغرافيين ومشاهيرهم. ويعد المقدسي من طليعة العلماء الذين كتبوا في الجغرافيا الإقليمية، ويتضح ذلك بجلاء في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. واقتصر فيه على مملكة الإسلام، ولم يدون شيئًا عما سواها لأنه كما يقول لم يزرها، ولم ير فائدة في ذكرها وإن كان قد ذكر الأماكن التي يقطنها المسلمون منها. وقام في هذا المصنف بالتركيز على الجغرافيا الوصفية ؛ كالكلام عن الأقاليم السبعة وسطح الأرض والأقسام السياسية وذكر المسافات وطرق المواصلات. وقلّما تعرض للجغرافيا الطبيعية كالجبال والأنهار، ولكنه أسهب في الجغرافيا البشرية كالبحث في المناخ والزرع والشعوب واللغات وأنواع التجارة، والأخلاق والطباع والعادات، والضرائب. ورسم في كتابه البلدان خريطة مجسّمة وضّح فيها الأقاليم التي زارها وحدودها، وجعل فيها الطرق المعروفة التي تصل بين المدن باللون الأحمر والصحاري باللون الأصفر، والبحار باللون الأخضر، والأنهار باللون الأزرق والجبال باللون الأغبر.
تأثر المقدسي في تقسيماته الإقليمية بعمل مَنْ سبقه من الجغرافيين الإقليميين كالإصطخري وابن حوقل على الرغم من أنه حاول إدماج بعض الأقاليم في بعض، وميَّز بعض الأقاليم التي لم يميزها سابقوه. وقسّم الأقاليم الإسلامية إلى قسمين: أحدهما يتناول أقاليم العرب، والثاني أقاليم العجم ؛ وهو أمر لم يسبق إليه. وضمّن القسمين 15 إقليمًا كان نصيب أقاليم العرب منها سبعة هي: جزيرة العرب ؛ العراق ؛ آقور (أرض الجزيرة) ؛ الشام ؛ مصر ؛ المغرب ؛ بادية العرب. أما أقاليم العجم فثمانية هي: المشرق (خراسان، وسجستان، وما وراء النهر) ؛ الدّيلم ؛ الرحاب ؛ الجبال ؛ خوزستان ؛ فارس ؛ كرمان ؛ السند. ولم يكن أساس التقسيم لديه ثابتًا فهو مرة إداري ومرّة سياسي ومرّة لغوي، إلا أنه يدافع عن عدم الاطّراد في هذه التقسيمات بقوله ¸… أما خراسان فإن أبا زيد جعلها إقليمين، وهو إمام في هذا العلم بخاصة في إقليمه ؛ فلا عيب علينا أن جعلناها جانبين. فإن قال لم خالفته بعد ما نصَّبته إمامًا فصيرت خراسان إقليمًا واحدًا قيل له: لنا في هذا جوابان ؛ أحدهما أننا لم نحب أن نفرق مملكة آل سامان، والجواب الثاني أن أبا عبدالله الجيهاني أيضًا إمام في هذا العلم وهو لم يفرق خراسان·.
لم يقف تقسيم المقدسي عند حد الأقاليم، بل قسّم كل إقليم إلى كُوَر (قرى متجمعة)، ولكل كور قصبة، ولكل قصبة مدن. ثم تناول جوانب عديدة تغطي معظم ما تغطيه فروع الجغرافيا حاليًا ؛ فقد تناول المناخ من حيث الأمطار والرياح والحرارة، والمنافذ والبحار والبحيرات والأنهار، والجوانب الاقتصادية من زراعة وتجارة وصناعة ومهن، والأوزان والمكاييل والأطعمة والأشربة والعادات والتقاليد والمكوس والطرق والمسافات.
خرائط الإدريسي التزم فيها مقياس الرسم وتحديد الخطوط ودوائر العرض. |
خرائط الإدريسي رسمها على أساس أن الأرض كروية في وقت ساد فيه الاعتقاد الجازم أنها مسطحة، وأعد لروجر الثاني ملك صقلية كرة من الفضة الخالصة تمثل الجزء المعمور من الأرض. |
إسهام الحموي. صنّف أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي (ت 626هـ، 1229م) أوسع المعاجم الجغرافية وهو كتاب معجم البلدان. ويغطي كل الرقعة الإسلامية آنذاك. يبدأ المعجم بمقدمة يوضح فيها موضوع معجمه فيقول ¸فهذا كتاب في أسماء البلدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقرى، والمحال، والأوطان، والبحار، والأنهار، والغدران…·.
وياقوت ناقل أمين فقد أفاد من مؤلفات من سبقه في كثير من الأحيان، وأرجع الفضل لذويه، ومن هؤلاء ابن خرداذبه، والأصمعي والبلخي، والسيرافي والإصطخري، وابن حوقل، والبكري. ويبدأ كتابه بمقدمة تحتوي على خمسة أبواب مليئة بمعارف عامة تتصل بشتى العلوم الجغرافية، ثم تحدث عن صورة الأرض وأنها كرة في وسط الفلك. ثم تناول المصطلحات الجغرافية، والأقاليم وقياس المسافات، والألفاظ اللغوية والفقهية المتعلقة بالزكاة من حيث حكم الأرض التي يفتحها المسلمون، وحكم قسم الفيء والخراج فيما فتح منها بالصلح أو القتال. ثم يختم المقدمة بمعارف تاريخية عامة تتعلق بديار الإسلام وغيرها.
يلي ذلك متن المعجم، ويذكر فيه أسماء الأماكن مرتبة ترتيبًا ألفبائياً، ويحدد أطوال هذه الأماكن وعروضها ونشأتها ودورها التاريخي. ويحرص على رد كل اسم في هذا المعجم إلى أصل عربي، إلا فيما ندر، ويستشهد على هذا الاشتقاق بأشعار العرب. وتحظى الأماكن الكبيرة أو المشهورة لديه بعناية خاصة ؛ إذ يصف كلا منها وصفًا مفصلاً دقيقًا يذكر فيه أهم المعالم كالمساجد والقلاع، وإذا اشتهر المكان بحادثة تاريخية، توقف عندها وسردها ووصفها. ويورد أسماء أهم العلماء والأدباء الذين نشأوا في ذلك المكان أو عملوا فيه، ويصف أحيانًا الأحوال الاجتماعية للقاطنين بهذا المكان ويورد أثناء ذلك عددًا من القصص أو الأحداث الطريفة.
أشهر الجغرافيين العرب وأهم مؤلفاتهم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الفلك |
كان للعرب قبل الإسلام معرفة فلكية انحدرت إليهم من تراث أجدادهم، بالإضافة إلى ما أخذوه من الأقوام المجاورين لهم كالكلدانيين والفرس والسريان. فقد ألموا بمواقع النجوم وسيرها التقريبي بالملاحظة اليومية واستدلوا بذلك على فصول السنة، وأطلقوا على الشهور أسماء مأخوذة من صفات هذه الفصول. ★ تَصَفح: التقويم الهجري. كما عرفوا عددًا كبيرًا من الكواكب والنجوم بأسمائها العربية أو الفارسية أو الكلدانية مثل المريخ الذي عرّبوه من الاسم الكلداني البابلي مردوخ، ثم في فترة لاحقة استعاروا أسماء بعضها من الفارسية مثل كيوان ؛ برجيس ؛ بهرام ؛ أناهيد التي أطلقوها على زحل والمشتري والمريخ والزُّهرة على التوالي.
التنجيم تغلغل في نفوس الخاصة والعامة وظهر جليًا لدى الخلفاء. رسمت صور الأبراج على هذا الطبق للمعز الأيوبي. |
ولشغف المنصور بعلم أحكام النجوم ؛ أمر بنقل كتاب السدَّهانتا (السند هند) إلى اللغة العربية، وكان ذلك عام 154هـ،771م. كما أمر أيضًا بنقل كتاب المجسطي لبطليموس، وعمل في ذلك الخوارزمي والفزاري وأبناء موسى بن شاكر المنجم. ثم قام إبراهيم بن حبيب الفزاري بتصنيف كتاب في الفلك على غرار كتاب السند هند اتخذه العرب أصلاً في حركات الكواكب، واستخرج منه زيجًا حوّل فيه سني الهنود النجومية إلى سنين عربية قمرية. وأطلق المسلمون على هذا الكتاب اسم السند هند الكبير وقام الخوارزمي باختصاره. وظل المسلمون يعملون به إلى زمن المأمون.
لما توافرت المصنفات الفلكية، بدأ المسلمون يطوّرون ما وصل إليهم من هذا العلم، وانتقل العلم من المجال النظري إلى المجال العلمي التطبيقي القائم على الرصد والمشاهدة. وبرغم أن التنجيم لم يَزُلْ نهائياً من قلوب الخاصة والعامة، إلا أن علم الهيئة ازدهر بسرعة لحاجة المسلمين إليه لمعرفة أوقات الصلوات والأعياد والصيام واتجاه القبلة، ولعناية الخلفاء العباسيين الكبيرة به.
بالإضافة إلى كتابي السند هند والمجسطي نقل العلماء على عهد المنصور كتاب الأربع مقالات في صناعة أحكام النجوم لبطليموس، وقام بهذا النقل أبو يحيى البطريق. وجاء من بعده عمر بن الفرخان (ت 200هـ، 815م) صديق يحيى البرمكي فعلّق عليها، ونقلت في عهد المنصور كتب أخرى أرسل في طلبها من ملك الروم آنذاك. كما أمر يحيى البرمكي بنقل كتاب التصنيف العظيم في الحساب لبطليموس من السريانية إلى العربية.
لعل أوضح مثال على تغلغل التنجيم في نفوس الخاصة والعامة في بداية العصر العباسي ما حدث عندما فكر المنصور في بناء بغداد (145هـ، 762م) إذ وضع أساسها في الوقت الذي حدده له المنجمان ما شاء الله اليهودي ونوبخت الفارسي. وتمت هندستها بحضورهما وبحضور مشاهير المنجمين من أمثال الفزاري والطبري، ويؤكد ذلك البيروني في الآثار الباقية.
وللعرب مؤلفات في التنجيم سواء في المشرق أو المغرب. ومن أبرز هؤلاء في الشرق أبو معشر الفلكي البلخي (ت 272هـ، 886م). وكان يعمل في بدء حياته في علم الحساب والهندسة، إلا أنه رأى أن ليس لديه الصبر وقوة التحمل لصعوبتهما ؛ فترك ذلك واشتغل بأحكام النجوم. وله مؤلفات كثيرة في علم الهيئة والتنجيم أشهرها كتاب المُدخل الكبير ؛ الزيج الكبير ؛ الزيج الصغير. ومن الذين ألّفوا في التنجيم من أهل المغرب ابن أبي الرجال المغربي القيرواني (ت بعد سنة 432هـ، 1040م) من فاس بالمغرب. كان يعيش في تونس حيث كان في خدمة شرف الدولة المعز بن باديس في القيروان. ولابن أبي الرجال عدة مؤلفات أهمها كتاب البارع في أحكام النجوم والطوالع، وكان أكثر كتب التنجيم رواجًا في تلك الحقبة وترجم إلى اللاتينية وطبع مرارًا، وكذلك إلى الأسبانية والبرتغالية ثم ترجم ثلاث مرات إلى العبرية.
لما بالغ الناس في الاهتمام بأمر التنجيم قام بعض العلماء والمفكرين المسلمين والعرب بمحاربته ودعوا إلى بطلان الاعتقاد به وبيان سخف المشتغلين به. ولم يقتصر الأمر على الشرق الإسلامي، بل عم كل أرجاء العالم الإسلامي ومثّل هذه الحملة الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن حزم. فالكندي انتقد أقوال المنجمين في تنبؤاتهم القائمة على حركات الكواكب. ولربما يكون إيمانه بعدم تأثير الكواكب في بني البشر انعكاسًا لنظرياته في النفس الإنسانية وعلم الفلك. والمطلع على رسائله في العلة القريبة الفاعلة للكون والفساد يستشف أنه كان بعيدًا عن التنجيم، ولا يؤمن بأن للكواكب صفات معينة من النحس أو السعد أو العناية بأمم معينة.
خالف الفارابي معاصريه عندما قال ببطلان صناعة التنجيم. وقد استدل على ذلك بحجج وبراهين عقلية تشوبها السخرية، وكتب آراءه عن التنجيم في رسالة بعنوان النكت فيما يصح وفيما لا يصح من أحكام النجوم ؛ وبيّن في هذه الرسالة فساد أحكام علم النجوم الذي يعزو المنجمون كل كبيرة وصغيرة فيه إلى الكواكب وقراناتها. كما يوضح في رسالة أخرى الخطأ الكبير فيما يزعمه الزاعمون من أن بعض الكواكب يجلب السعادة وبعضها الآخر يجلب النحس. ويخلص الفارابي إلى أن ¸هناك معرفة برهانية يقينية إلى إكمال درجات اليقين نجدها في علم النجوم التعليمي (علم الفلك). أما دراسة خصائص الأفلاك وفعلها في الأرض فلا نظفر منها إلا بمعرفة ظنّية، ودعاوي المنجمين ونبوءاتهم لا تستحق إلا الشك والارتياب…·.
كان رأي ابن سينا فيما يقوله المنجمون هادئًا ومنطقيًا. وقد ضمّن رأيه في بطلان دعاوي التنجيم في رسالة عنوانها رسالة في إبطال أحكام النجوم ؛ بيّن في هذه الرسالة كذب المشتغلين به إذ ليس لديهم من دليل أو قياس فيما يقولون من سعود الكواكب ونحوسها ¸فليس على شيء مما وصفوه دليل، ولا يشهد على صحته قياس. وقد أخذوه من غير برهان ولا قياس·. وفنّد أقوالهم في أحكام النجوم وأثرها على الناس وبيّن فساد هذه الأحكام باللجوء إلى المنطق الذي استعان به ليدلل على صحة ما ذهب إليه.
أما ابن حزم الظاهري فقد حارب الآراء والأقوال التي تزعم تحكُّم النجوم والكواكب في حياة الناس بقوله في الفصل في الملل والأهواء والنحل ¸…زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل، وأنها ترى وتسمع، وهذه دعوى باطلة بلا برهان. وصحّة الحكم بأن النجوم لا تعقل أصلاً وأن حركتها أبدًا على رتبة واحدة لا تتبدل عنها. وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له… وليس للنجوم تأثير في أعمالنا، ولا لها عقل تدبرنا به إلا إذا كان المقصود أنها تدبّرنا طبيعيًا كتدبير الغذاء لنا، وكتدبير الماء والهواء، ونحو أثرها في المد والجزر… وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبات (التبخير)، والنجوم لا تدلل على الحوادث المقبلة…·.
منجزات فلكيّة. استفاد العلماء العرب والمسلمون من المؤلفات الفلكية التي ترجموها من الأمم السابقة لهم وصححوا أو نقحوا بعضها، وزادوا عليها. وقد أدّت انتقادات كبار العلماء، من أمثال ابن سينا والفارابي والكندي وابن حزم، إلى نبذ الاتجاه الخرافي الذي ساد وقتًا طويلاً، ومن ثَمّ انطلق العلماء إلى مرحلة التطوير فيما نقلوا ثم الإبداع الذي جاء من خلال التطبيق وعمليات الرّصد.
من أبرز إنجازات العرب والمسلمين في هذا العلم أنهم كانوا الأسبق في الحصول على طول درجة من خط نصف النهار بطريقة علمية ؛ فقد توصلوا إلى طريقة مبتكرة لحساب ذلك ؛ مكنتهم من الحصول على نتائج دقيقة يعدها العلماء الآن من أجل آثارهم في ميدان الفلكيات، وتمّ ذلك في عهد المأمون وبأمر منه. وقد ذكر ذلك ابن يونس في كتابه الزيج الكبير الحاكمي. وقام بهذا العمل فريقان اتجه أحدهما إلى منطقة بين واسط وتَدْمُر وقاسوا هنالك مقدار هذه الدرجة فكانت ¼56من الأميال (الميل العربي أطول من الميل الروماني)، أما الفريق الآخر فاتجه إلى صحراء سنجار وتوصلوا إلى أن مقدار هذه الدرجة 57 ميلاً ؛ لذا اتخذ المأمون متوسط القياسين فكان2/3 56 من الأميال تقريبًا. ويعد هذا القياس قريبًا جدًا من القياس الذي توصل إليه العلماء في العصر الحديث وهو 5693 ميلاً ؛ وهذا يعني أن محيط الأرض يبلغ 41,248كم ؛ أي نحو 20,400 ميل. أما الرقم الصحيح لمحيط الأرض كما حسب في العصر الحديث بالحواسيب والأقمار الصناعية فهو 40,070كم. أما البيروني فقد ابتكر طريقة لقياس درجة من خط نصف النهار ذكرها في كتابه الأصطرلاب فوجدها 56,050 ميلاً. ولاتزال هذه الطريقة مستخدمة وتعرف عند الغرب والشرق بقاعدة البيروني لحساب نصف قطر الأرض.
ومن إنجازاتهم أنهم كانوا أول من عرف أصول الرسم على سطح الكرة، وقالوا باستدارة الأرض ودورانها حول محورها، وقاموا بضبط حركة أوج الشمس وتداخل فلكها في أفلاك أخرى. كما حسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية. وعندما حسب البُتَّاني ميل فلك البروج على فلك معدل النهار وجده 23° و35 دقيقة، وكان أبرخس قد حسبه 23° و 51 دقيقة وهو متغير فقد كان في زمانه 23° و34 دقيقة. وقد أكد العلم الحديث أنه قد أصاب في هذا الحساب إلى حد دقيقة واحدة. كما حقق البتاني مواقع كثير من النجوم فوجد أن بعضها لم يعد في المكان الذي كانت عليه على عهد بطليموس. كما صحح البتاني نفسه طول السنة الشمسية ؛ فقد حددها بـ 365 يومًا و 5 ساعات و46 دقيقة و32 ثانية. وكان حساب بطليموس لها 365 يومًا و 5 ساعات و55 دقيقة و12 ثانية.
انتقد الفلكيون العرب من أمثال ابن الأفلح والأشبيلي كتاب بطليموس المجسطي في كتابيهما إصلاح المجسطي والهيئة على التوالي. كما اكتشف العلماء المسلمون أنواع الخلل في حركة القمر. فقد ثبت لدى المؤرخين أن الخلل الثالث كان من اكتشاف أبي الوفاء البوزجاني وليس تيخوبراهي. وأدّى هذا الاكتشاف إلى اتساع نطاق البحث في علمي الفلك والميكانيكا. بحث علماء الفلك المسلمون والعرب في حساب إهليلجية الشمس أيضًا، واستنتجوا أن بعد الشمس عن مركز الأرض إذا كانت عند أقصى بُعد لها يساوي 1,146 مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كانت عند أدنى بُعد لها يساوي 1,070 مرة مثل نصف قطر الأرض، وإذا كانت في متوسط بعدها يساوي 1,108 مرة مثل نصف قطر الأرض. وهذه التقديرات قريبة جدًا من النتائج التي خرج بها العلماء في العصر الحديث.
صور الكواكب الثابتة كتاب أوضح فيه عبدالرحمن الصوفي النجوم الثابتة لعام 299هـ، 911م، ورسم فيه أكثر من 1,000 نجم على هيئة الأناسي والحيوانات. وهذه إحدى صوره. |
من إنجازات العرب في هذا الحقل أيضًا رصدهم للاعتدالين الربيعي والخريفي ؛ وكذلك الانقلابين الصيفي والشتوي. ★ تَصَفح: الاعتدال. وكتبوا عن كلف الشمس قبل غيرهم، وأول من قام بذلك ابن رشد (ت 595هـ، 1198م)، كما توصل بالحساب الفلكي إلى وقت عبور عطارد على قرص الشمس، فرصده وشاهده بمثابة بقعة سوداء على قرصها في الوقت الذي تنبّأ به تمامًا. كما رصدوا الخسوف والكسوف وحددوا مواقيت حدوثهما. وممن قام بذلك ابن باجة الأندلسي (ت 533هـ، 1138م)، وكذلك القزويني الذي يقول في عجائب المخلوقات ¸إذا صار القمر في مقابلة الشمس، كان النصف المواجه للشمس هو النصف المواجه لنا (أيضًا) فنراه بدرًا… حتى إذا صار القمر في مقابلة الشمس تمامًا واستحال علينا أن نرى شيئًا من جانبه المضيء امّحق نوره ؛ فرأيناه نحن مظلمًا·. كما تحدث الفلكيون كثيرًا عن أثر القمر في ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار.
هناك إنجازان عظيمان في علم الفلك ينسبان لابن الهيثم، أولهما تحدث عنه في رسالة بعنوان رسالة ارتفاع القطب يستنتج فيها أن ارتفاع القطب يساوي عرض المكان. وهو إنجاز ذو أهمية بالغة في أعمال المساحة والأعمال المشابهة لها. وعمله يتلخص في رصد الزمن الذي يستغرقه الكوكب للوصول من ارتفاع شرقي قريب من خط نصف النهار إلى ارتفاع متساوٍ له في الغرب ومعرفة قيمة هذا الارتفاع الشرقي أو الغربي، وارتفاع الكوكب عند مروره بخط نصف النهار. ويوضح ابن الهيثم طريقة عمل ذلك مبينًا القانون الخاص بعلاقة الارتفاعات المذكورة والزمن الذي يستغرقه الكوكب في الحالة الأولى التي يمر فيها بسمت الرأس، أو يكون عند عبوره قريبًا منها. وفي الحالة الثانية: عندما يكون عبوره على نقطة من خط نصف النهار تختلف عن سمت الرأس. ويدلل ابن الهيثم على كيفية الحصول على هذه العلاقات بالبرهان الهندسي الدقيق. ويبيّن أن تأثير الانعطاف في أرصاد الكواكب عند قربها من سمت الرأس يكاد يكون معدومًا ؛ لذا فالأخطاء الناشئة من يقين الارتفاع بوساطة الأجهزة تخلو من هذا العامل كما تخلو أيضًا من عامل زاوية اختلاف القطر لأن بُعد الكواكب عن الأرض نسبة إلى نصف قطر الأرض كبير جدًا.
أما الإنجاز الثاني فلايزال العلم الحديث يأخذ به أيضًا وهو أن ظاهرة إدراك الكواكب عند الأفق أعظم منها في وسط السماء فيقول ¸إن كل كوكب إذا كان على سمت الرأس، فإن البصر يدرك مقداره أصغر… وكلما كان أبعد عن سمت الرأس كان ما يدركه البصر من مقداره أعظم من مقداره الذي يدركه وهو أقرب إلى سمت الرأس·.
المصطلحات والنجوم ذات المسميات العربية المستخدمة في علم الفلك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
ومن إنجازات العلماء العرب في الفلك صنع الكرات التي بيّنوا عليها السماء وكواكبها ونجومها. وكان أول من صنع كرة سماوية من هذا القبيل إبراهيم السهلي عام 473هـ،1080م وهو أحد علماء بلنسية في الأندلس. كما أن الزرقالي (ت 493هـ، 1099م) وضع ما اشتهر في تاريخ هذا العلم باللوائح الطليطلية التي ترجمت إلى اللاتينية ونشرت بعنوان اللوائح الألفونسية نسبة إلى الملك ألفونسو العاشر الذي أمر بترجمة جميع آثار الزرقالي إلى اللغة القشتالية، ومن بينها زيج الزرقالي الذي اعتمد عليه فيما بعد علماء الفلك في أوروبا. وإلى الزرقالي تُنْسب أدق درجة عرفت في عصره لحركة أوج الشمس بالنسبة إلى النجوم. وقد بلغ مقدارها عنده 12,04 دقيقة بينما مقدارها حالياً 12,08 دقيقة.
من أشهر أزياج المروزي ذلك الذي ألّفه على مذهب السند هند، وقد خالف في كثير منه الفزاري والخوارزمي. أما عمله الثاني في الأزياج فهو زيج الممتحن، وهو أشهر أعماله في علم الأزياج. أشار إليه البيروني وأثنى عليه في كتابه الآثار الباقية. وقد ألّفه بعد رحلته التي طلب إليه المأمون فيها قياس محيط الأرض، وضمنه حركات الكواكب على ما يوجبه الامتحان في زمانه. وثالث أزياج المروزي الزيج الصغير، كما أن له زيجين آخرين أقل شهرة هما الزيج الدمشقي، والزيج المأموني.
ولعل أشهر الأزياج قاطبة الزيج الصابي الذي وضعه البتاني (بطليموس العرب) (ت 317هـ، 929م)، وكان أنبغ علماء عصره في الفلك والرياضيات. ويعد البتاني من مشاهير علماء الفلك على نطاق العالم. وهو الذي بيّن حركة نقطة الذنب للأرض وأصلح قيمة الاعتدالين الصيفي والشتوي، وقيمة فلك البروج على فلك معدل النهار. وله مآثر جليلة في رصد الكسوف والخسوف اعتمد عليها الفلكيون في أوروبا في تحديد حركة القمر حول الأرض. وقد أصلح زيج بطليموس ولم يكن مضبوطًا. وقام بتأليف الزيج الصابي (299هـ، 911م)، ويحتوي على جداول تتعلق بحركات الأجرام التي هي من اكتشافاته الخاصة. وتعدّت آثار هذا الزيج العالم الإسلامي إلى التأثير في علم الفلك وعلم المثلثات الكُرِّي عامة في أوروبا في العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة. وقد ترجم هذا الزيج إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي وطبع في نورمبرج عام 944هـ، 1537م. كما ترجم من العربية إلى الأسبانية بأمر من ألفونسو العاشر ملك قشتالة. واعتمد البتاني في هذا الزيج على عمليات الأرصاد التي قام بها بنفسه في كل من الرقة وأنطاكية وعلى كتاب زيج الممتحن للمروزي.
يعد نصير الدين الطوسي (ت 672هـ، 1274م) من أشهر من ألّفوا في علم الأزياج، وقد كان يُلقَّب بالعلامة، وهو أحد الفلكيين والرياضيين العظام. وقد قام ببناء مرصد المراغة عام 657هـ، 1259م وأنشأ فيه مكتبة ضخمة حوت 400,000 مجلد من المخطوطات معظمها نهب في عهد صديقه هولاكو من بغداد والشام والجزيرة، وله مؤلفات كثيرة في الفلك منها كتاب ظاهرات الفلك ؛ التذكرة في علم الهيئة ؛ كتاب جرمي الشمس والقمر ؛ زيج الشاهي الذي اختصره ابن اللبودي وسمّاه الزاهي. كما وضع أيضًا زيج الإيلخاني بالفارسية الذي احتوى على أربع مقالات، الأولى: في التواريخ، والثانية: في سير الكواكب ومواضعها طولاً وعرضًا، والثالثة: في أوقات المطالع، والرابعة: في أعمال النجوم. وقام حسين بن أحمد النيسابوري بشرح هذا الزيج. ثم قام الكاشاني من بعده بإضافة ما استدركه على الطوسي وما استنبطه من أعمال المنجمين وسماه الزيج الخاقاني. وانتقد في كتابه التذكرة في علم الهيئة كتاب المجسطي لبطليموس، واقترح فيه نظامًا جديدًا للكون أكثر يسرًا من ذلك الذي وضعه بطليموس، وكان انتقاده للمجسطي خطوة تمهيدية للإصلاحات التي قام بها كوبرنيكوس فيما بعد.
يعد زيج الملكشاهي من أشهر الأزياج التي وضعت خلال نهاية القرن الخامس الهجري، وقد وضع هذا الزيج عمر الخيام، وهو من أنبغ من اشتغل بالفلك والرياضيات ولاسيما الجبر، إلا أن شهرته في الشعر والفلسفة طغت على نبوغه العلمي. وقد أنجز أفضل أعماله بعد أن اعتزل العمل في صناعة الخيام، وانقطع للتأليف في عهد السلطان ملكشاه. وقد طلب منه ملكشاه عام 467هـ، 1074م مساعدته في تعديل التقويم السنوي، فاستطاع أن يقوم بهذا التعديل الذي صار أدق من التقويم الجريجوري. ★ تَصَفح: التقويم الجريجوري ؛ التقويم السنوي.
أما أشهر الأزياج في أقصى الشرق الإسلامي فهو الزيج السلطاني الجديد، وقد وضعه أولغ بك حوالي منتصف القرن التاسع الهجري، بناء على عمله في مرصد سمرقند الذي رأسه الكاشي. ويتألف هذا الزيج من أربع مقالات: الأولى في حساب التوقيعات على اختلافها والتواريخ الزمنية ؛ وهي مقدمة وخمسة أبواب، أبان في المقدمة هدفه من وضع هذا الزيج وأثنى على العلماء الذين عاونوه في ذلك العمل. أما المقالة الثانية: في معرفة الأوقات والمطالع لكل وقت وتحتوي على 24 بابًا، والثالثة: في معرفة مسير الكواكب ومواضعها وتقع في ثلاثة عشر بابًا. أما المقالة الأخيرة فقد أوضح فيها مواقع النجوم الثابتة. وكان هذا الزيج دقيقًا للغاية، وقد شرحه كل من ميرم جلبي وعلي القوشجي، وقام باختصاره محمد بن أبي الفتح الصوفي المصري وطبع في لندن عام 1060هـ، 1650م وترجمت جداوله إلى الفرنسية عام 1264هـ، 1847م. وظل الناس يعملون بهذا الزيج قرونًا عديدة في الشرق والغرب.
وضع غياث الدين الكاشي زيجًا نحو عام 815هـ، 1412م. وهو الذي رصد الكسوفات الثلاثة التي حدثت في الفترة من 809 -811هـ، 1406- 1408م وله في ذلك مؤلفات بالعربية والفارسية، من ذلك زيج الخاقاني. وكان قصده من وضع هذا الزيج تصحيح زيج الإيلخاني للطوسي. ودقق في جداول النجوم التي وضعها الفلكيون في مرصد مراغة تحت إشراف الطوسي. وأضاف إلى هذا التدقيق البراهين الرياضية والفلكية التي سبق فيها معاصريه من الفلكيين، ثم أهدى هذا العمل أولغ بك. وقد صنّف الكثير من الكتب في علم الهيئة باللغتين العربية والفارسية من ذلك نزهة الحدائق وقد شرح فيه كيفية استخدام بعض آلات الرصد التي صنعها بنفسه لمرصد سمرقند، وتمكن بوساطتها من الحصول على تقويم الكواكب وبُعدها وحساب خسوف الشمس وكسوف القمر. كما ألّف أيضًا رسالة سلم السماء، وزيج التسهيلات.
جدول أسماء الأزياج | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
المراصد. تجمع المصادر على أن أول مرصد أقيم في العالم الإسلامي كان في عصر بني أمية وكان ذلك في دمشق. لكن الثابت أن المراصد لم تنتشر إلا في العصر العباسي، وكان مبدأ انتشارها بأمر من المأمون. وأول دار أنشئت للرصد كانت في مكان يسمى الشماسية في بغداد جعل منها المأمون مجمعًا علمياً ووفّر لها المال والعمال والآلات، واختار لها فريقًا من العلماء المتخصصين في الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية. وقد شكلت دراساتهم وأزياجهم التي عرفت بأزياج المأمون الأساس المتين الذي تطوّر عليه علم الفلك في شتى أرجاء العالم بعد ذلك. ومن بين أشهر من عمل في هذا المرصد سند بن علي، وخالد ابن عبدالله المروزي، وعلي بن عيسى، وعلي بن البحتري، وكانوا من بين الفريق الذي قاس محيط الأرض في عهد المأمون. كما أنشأ المأمون مرصدًا آخر أقيم على جبل قاسيون في دمشق. ثم أنشئت مراصد خاصة أخرى بعد ذلك منها: مرصد أبناء موسى بن شاكر في بغداد الذي أقاموه على طرف الجسر المتصل بباب الطاق، وفيه تمكّنوا من استخراج حساب العرض الأكبر من عروض القمر. كما أقام أبناء موسى بن شاكر أيضًا مرصدًا في سامراء كان بداخله آلة كروية الشكل تحمل صور النجوم في وسطها تُدار بالقوة المائية ؛ كان كلما غاب نجم في قبة السماء ظهرت صورته في الخط الأفقي للآلة الكروية.
بنى شرف الدولة البويهي أيضًا مرصدًا في بستان دار المملكة ويسمى المرصد الشرفي. ومن أشهر الفلكيين الذين قاموا بالرصد فيه الكوهي والصاغاني والبوزجاني والحراني والصوفي. ويقال إنه لما عهد إلى الكوهي عملية الرصد في هذه الدار أمده شرف الدولة بمختلف الآلات، وقد تمكن الكوهي بوساطة هذه الآلات من رصد الكواكب السبعة في مسيرها وتنقلها في بروجها. وكان يكتب محضرًا في أعمال الرصد التي تجرى في هذا المرصد بحضور علماء الدولة وحكمائها وقضاتها ويوقعون على هذا المحضر. وفيما يلي نص أول هذه المحاضر ¸بسم الله الرحمن الرحيم. اجتمع من ثبت خطه وشهادته في أسفل هذا الكتاب ؛ من القضاة، ووجوه أهل العلم، والكتّاب، والمنجمين، والمهندسين بموضع الرصد الشرفي الميمون ـ عظم الله بركته وسعادته ـ في البستان من دار مولانا الملك السيد الأجل المنصور، وولي النعم شاهنشاه شرف الدولة… بالجانب الشرقي من مدينة السلام، في يوم السبت لليلتين بقيتا من صفر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وهو اليوم السادس عشر من حزيران سنة ألف ومائتين وتسع وتسعين للإسكندر. فتقرر الأمر فيما شاهدوه من الأدلة التي أخبر عنها أبو سهل ويجن بن رستم الكوهي، على أن دلت على صحة مدخل الشمس رأس السرطان بعد مضي ساعة واحدة معتدلة سواء من الليلة الماضية التي صاحبها المذكور في صدر هذا الكتاب، واتفقوا جميعًا على التيقن لذلك والثقة به، بعد أن سلم جميع من حضر من المنجمين والمهندسين وغيرهم ممن له تعلق بهذه الصناعة وخبرة بها تسليمًا لا خلاف فيه بينهم: أن هذه الآلة جليلة الخطر، بديعة المعنى، محكمة الصنعة، واضحة الدلالة، زائدة في التدقيق على جميع الآلات التي عرضت وعهدت، وأنه قد وصل بها إلى أبعد الغايات في الأمر المرصود، والغرض المقصود. وأدّى الرصد بها أن يكون بعد سمت الرأس من مدار رأس السرطان سبع درج وخمسين دقيقة وثانية، وأن يكون عرض الموضع الذي تقدم ذكره ووقع الرصد فيه كذا وكذا… وذلك هو ارتفاع قطب معدل النهار عن أفق هذا الموضع وحسبنا الله ونعم الوكيل·.
ومن المراصد الشهيرة المرصد الحاكمي الذي أقامه الفاطميون على جبل المقطم بالقاهرة. وأشهر من عمل به ابن يونس الصدفي المصري، وقام فيه بأرصاد من سنة 380-397هـ، 990-1006م. ومن أشهر المراصد التي أقيمت في أواسط القرن السابع الهجري مرصد مراغة وهو أكبر المراصد قام ببنائه نصير الدين الطوسي الذي عهد إليه هولاكو مراقبة أوقاف جميع الممالك التي استولى عليها، ومن تلك الأموال قام ببناء هذا المرصد، وجلب إليه أفضل آلات الرصد. ومن الفلكيين الذين عملوا في هذا المرصد المؤيد العرضي من دمشق، والفخر المراغي من الموصل، والفخر الخلاطي من تفليس، ونجم الدين القزويني، ومحي الدين المغربي. واشتهرت أرصاد هذا المرصد بالدقة، واعتمد عليها علماء أوروبا في عصر النهضة وما بعده في بحوثهم الفلكية.
يعد مرصد سمرقند الذي أنشأه أولغ بك من أشهر المراصد خلال بداية القرن الثامن الهجري، وقد زوّد هذا المرصد بجميع الآلات والأدوات المعروفة في زمانه. وقد زُيِّنت إحدى جدرانه بنقوش تمثل الأجرام السماوية المتعددة جاءت غاية في الإتقان. وكان يؤمه الناس من شتى البقاع على أنه إحدى عجائب الدنيا آنذاك. واستطاع أولغ بك، الذي كان هو نفسه عالماً في شتى فروع المعرفة، أن يخترع آلات جديدة ثبتت فعاليتها وأعانت العاملين في المرصد. وبدئ في الأرصاد عام 727هـ، 1327م وعهد لغياث الدين بن جمشيد الكاشي وقاضي زاده رومي بإجراء الأرصاد لتصحيح بعض الأرصاد التي قام بها فلكيو اليونان ؛ حيث كان حساب التوقيعات للحوادث على ما قرره بطليموس لا يتفق والأرصاد التي قام بها أولغ نفسه. ومن أهم إنجازات هذا المرصد الزيج المعروف باسم السلطاني الجديد الذي ظل العمل به ساريًا قرونًا عديدة.
بالإضافة إلى ما تقدم كانت هناك مراصد أخرى خاصة مبثوثة في شتى أرجاء العالم الإسلامي منها ؛ مرصد ابن الشاطر في بلاد الشام، ومرصد الدينوري في أصبهان، ومرصد البتاني في الرقة أيضًا، ومرصد البيروني ومرصد بني الأعلم وغيرها في الأندلس ومصر وبلاد فارس.
آلات الرصد. لم يكن العلماء العرب والمسلمون ليبلغوا ما بلغوه من دقة لولا استخدامهم أفضل الآلات المتوافرة آنذاك. بعض هذه الآلات اقتبسوه من غيرهم وطوّروه، وبعض آخر كان من اختراعهم. ومن العلماء من صنّف كتبًا في الآلات التي اخترعها بنفسه مثل تقي الدين الراصد، أو كتب عن آلات الرصد من بين الآلات التي كتب عنها، وذلك كغياث الدين الكاشي في أحد مؤلفاته بالفارسية، أو الخازن في كتاب الآلات العجيبة. وأشهر الآلات الفلكية التي استخدموها في مراصدهم هي:
اللبنة. وهي من صنع تقي الدين الراصد، وهي جسم مربع مستوٍ، تستخدم لقياس الميل الكلّي وأبعاد الكواكب وعرض البلدان.
الحلقة الاعتدالية. صنعها تقي الدين الراصد ؛ وهي حلقة في وسطها محور تقاس بها أقواس على دائرة المعدّل، ويعلم بها التحويل الاعتدالي.
ذات الأوتار. صنعها تقي الدين الراصد ؛ وهي أربع أسطوانات مربعات تغني عن الحلقة الاعتدالية، إلا أنها تستخدم ليعلم بها تحويل الليل أيضًا.
ذات الحلق أول آلة رصد صنعت في الإسلام، وقد صنعها ابن خلف المروزي. |
ذات الشعبتين. وهي ثلاث مساطر منتظمة على كرسي يعلم بها الارتفاع.
ذات السمت والارتفاع. من اختراع المسلمين، وهي آلة لقياس زاويتي السمت والارتفاع.
ذات الجيب. آلة تتألف من مسطرتيْن منتظمتين انتظام ذات الشعبتين.
المشبّهة بالناطق. من اختراع تقي الدين الراصد، وهي آلة كثيرة الفوائد في معرفة بُعد ما بين الكوكبين، وتتألف من ثلاث مساطر: اثنتان منتظمتان انتظام ذات الشعبتين.
طبق المناطق. صنعها غياث الدين الكاشي لمرصد سمرقند، وتستخدم للحصول على تقاويم الكواكب وعرضها وبُعدها مع الخسوف والكسوف وخلافهما.
الأرميلاد. آلة لتحديد مواعيد الصلاة واتجاه القبلة.
المعضادة. آلة لقياس الزوايا. صندوق اليواقيت.
صنعها ابن الشاطر يمكن بوساطتها معرفة الاتجاهات عامة واتجاه القبلة خاصة، وكذلك الوقت والمطالع الفلكية.
الربع ذو الثقب. صنعها ابن يونس الصفدي المصري.
الربع المُجَيَّب. آلة تتألف من ربع دائرة يطلق عليها الربع المقطوع والربع المقنطر، وتصنع من الخشب الجيد أو البرونز أو الذهب والفضة، وتستخدم إلى جانب معرفة البروج في حساب المثلثات ومعرفة الأعماق وخلافها.
المزولة الشمسية. من أهم الآلات التي طورها المسلمون، ويقاس بها الوقت خلال ساعات النهار مبنياً على ظل الشمس. طوّر الفلكيون هذه الآلة التي لم تكن تضبط الوقت إلا عند السادسة مساءً وصباحًا فقط، أما بقية ساعات النهار فكانت خاطئة، وباستخدام معادلات حساب المثلثات الكروية توصلوا إلى المعادلة التالية:
زاوية خيال الشاخص = ظا (زاوية الساعة) × حا (عرض المكان).
وطوروا نوعيْن من هذه المزاول: المزاول الثابتة كالمزولة الأفقية، والمزولة الرأسية، والمزولة الاستوائية، والمزولة الكروية. والمزاول المتنقلة ؛ وهي على أنواع منها ما يحمل باليد، ومنها ما يحمل في الجيب، ومنها ما يعمل بحساب الظل، ومنها ما يعمل بحساب ميل الشمس. وقد ألّف أبوالحسن علي المراكشي كتابًا تناول فيه أنواع المزاول ومنافعها.
بالإضافة إلى الآلات السابق ذكرها استخدم علماء الفلك العرب والمسلمون آلات رصد أخرى مثل الربع المسطري ؛ ذات النقبتين ؛ البنكام الرصدي ؛ الربع التام وهو من اختراع ابن الشاطر والزرقالة، تنسب إلى الزرقالي الفلكي الأندلسي ؛ الشكازي ؛ الأفاقي ؛ ذات الكرسي ؛ عصا الطوسي، وهي الآلة التي اخترعها المظفّر بن المظفّر الطوسي (ت 610هـ، 1214م)، وتشبه مسطرة الحساب، ودائرة المعدل، واخترعها الفلكي المصري عز الدين الوفائي ؛ وذات السدس، وهي مقياس مدرج على هيئة قوس طوله سدس محيط الدائرة، وذات الثمن.
الكرات الأرضية والسماوية. مثل كرة الصوفي، وكرة الإدريسي التي صنعها لروجر ملك صقلية، وكرة علم الدين قيصر (ت 564هـ، 1168م) وصنعها من الخشب ورسم فيها جميع الكواكب المرصودة، وكرات رضوان الفلكي المصنوعة من النحاس الأصفر، ونقش عليها الكواكب المرصودة وصورها، ورسم عليها دوائر العرض والميول وأسماءها بالعربية وطلاها بالذهب.
أنواع الأسطرلاب |
يتألف الأسطرلاب المسطح، ويسمى أيضًا ذا الصفائح، وهو أول ما صنع من الأسطرلابات، من قرص دائري يتراوح قطره بين 10 و20سم، وله عروة اسمها الحبس متصلة بحلقة أو علاقة تصلح لتعليق الأسطرلاب بحيث يكون في وضع رأسي، وبه قطعة تسمى الأم وهي الصفيحة السفلى التي تحتوي على بقية الصفائح. وهذه الصفائح أقراص مستديرة تعلوها الشبكة أو العنكبوت ؛ وهي صفيحة موضوعة فوق أخواتها تتألف من شرائط معدنية مثقبة بشكل يبقى معه ظاهرًا فلك البروج ومواقع النجوم الرئيسية وأسماؤها. وهذه الشبكة تتألف من شرائط معدنية قطعت في شكل فني تنتهي بأطراف عديدة تشير إلى مواقع النجوم. ويسمى الطرف شظية، ثم هناك المسطرة وتسمى أيضًا العضادة، وتدور حول مركز الظهر ولها ذراعان ينتهي كل منهما بشظية يؤخذ منها ارتفاع الشمس. ورسمت إلى جانب الصفائح خطوط الساعات وخط الاستواء.
كان استخدام الأسطرلاب عند اليونانيين مقصورًا على استعمالات معينة مثل ارتفاع النجوم والبروج وغيرها. لكن العرب ذكروا له ما يزيد على 300 استعمال منها ما يتعلق بأوقات الصلاة، وتعيين اتجاه القبلة، ومنها ما يتعلق بشؤون المساحة، وقياس عمق الآبار، وارتفاع الجبال، وفي الملاحة، ومعرفة درجات الطول والعرض، وحساب الشهور والتواريخ. ومن أمثلة أسطرلابات تحديد القبلة ما أطلق عليه القبلة نامة، وغالبًا ما تكون هذه الآلة دائرية الشكل، غير أنها تكون أحيانًا مستطيلة يكتب على أحد وجهيها أسماء المدن الإسلامية مثل إيران والعراق والجزيرة وبقية بلاد العالم الإسلامي، وعلى الوجه الآخر الجهات الأربع، وفي وسطها إبرة تشير إلى اتجاه القبلة عندما تضبط في المكان المطلوب.
عكف العلماء بعد عصر المنصور على التصنيف واختراع الآلات وبناء المراصد. وكان من هؤلاء الخوارزمي، وما شاء الله الذي صنّف كتابًا في الأسطرلاب ودوائره النحاسية، ويحيى بن أبي منصور الذي ألّف زيجًا مع سند بن علي، وموسى بن شاكر وبنيه، والبتاني، والصوفي، وإخوان الصفا.
من القرن الثالث إلى الخامس الهجري. تغطي هذه الحقبة إنجازات بعض العلماء الذين أسهموا في تطور علم الفلك بدءًا من الخوارزمي إلى الزرقالي، وهي حقبة نبغ فيها علماء أسهموا بقسط كبير في تطور هذا العلم منهم المجريطي، والصوفي، والبوزجاني، وابن يونس المصري وغيرهم.
ظهر الخوارزمي (ت 232هـ، 846م) في عهد المأمون، وهو أول من ألّف في الفلك والحساب والجبر. وقد وضع الزيج المعروف باسم السند هند الصغير جمع فيه بين مذاهب الهند والفرس واليونان، وقد خالف بمؤلفه هذا كتاب السند هند الأصلي (سدهانتا) المنقول عن الهندية في التعاديل والميل، فجعل تعاديله على مذهب الفرس، وجعل ميل الشمس على مذهب بطليموس اليوناني، وذاعت شهرته بهذا الكتاب. وللخوارزمي في علم الفلك مؤلفات أخرى منها كتاب زيج الخوارزمي ؛ تقويم البلدان، الذي شرح فيه آراء بطليموس.
اختصر ثابت بن قُرّة (ت 288هـ،901م) المجسطي لبطليموس، وقام بعمل أرصاد دقيقة في بغداد جمعها في بعض مؤلفاته، واستخرج فيها حركة الشمس وطول السنة النجمية، وحسب ميل دائرة البروج. ومن مؤلفاته في الفلك مختصر في علم الهيئة ؛ مختصر في علم النجوم ؛ إبطاء الحركة في فلك البروج ؛ علة الكسوف ؛ حساب كسوف الشمس والقمر وغيرها.
والبتاني صاحب الزيج الصابي المشهور (ت 317هـ، 929م) وكان من الذين حققوا مواقع كثيرة من النجوم، وصحح بعض حركات القمر والكواكب السيارة، وخالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي، وقد أقام الدليل على تبعيته لحركة المبادرة الاعتدالية، واستنتج من ذلك أن معادلة الزمن تتغير تغيرًا بطيئًا على مر الأجيال. ومن مصنفاته كتاب معرفة مطالع النجوم ؛ تعديل الكواكب.
اكتشف أبو الوفاء البوزجاني (ت 388هـ، 998م) إحدى المعادلات لتقويم مواقع القمر سُميت معادلة السرعة. ومن أهم إسهاماته في علم الفلك اكتشافه للخلل في حركة القمر، وهو الاكتشاف الذي أدى فيما بعد إلى اتساع نطاق علمي الفلك والميكانيكا. وقد ظل المؤرخون مختلفين فيما إذا كان تيخو براهي (ت1010هـ، 1601م) الفلكي الدنماركي هو صاحب هذا الاكتشاف أم البوزجاني، إلى أن ثبت حديثًا بعد التحريات الدقيقة أن الخلل الثالث هو من اكتشاف البوزجاني. ومن أشهر مؤلفاته في الفلك كتاب معرفة الدائرة من الفلك ؛ الكامل ؛ الزيج الشامل ؛ كتاب المجسطي.
ومسلمة بن أحمد المجريطي (ت 398هـ، 1007م) من علماء الأندلس، يُنسب إليه إدخال علوم التعاليم والفلك والكيمياء والسحر إلى الأندلس. وقد عني بزيج الخوارزمي وحوّله من السنين الفارسية إلى العربية ثم اختصره وأصلحه، وله من المؤلفات في الفلك رسالة في الأسطرلاب ؛ اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني.
اقتفى ابن يونس الصّفدي المصري (ت 397هـ، 1007م) أثر البوزجاني. وهو مخترع رقّاص الساعة الدقاقة (البندول) والربع ذي الثقب. بنى الفاطميون له مرصدًا شرقي القاهرة أجرى فيه أرصاده من سنة 380هـ إلى 397هـ. ووضع في هذا المرصد زيجًا سماه الزيج الحاكمي الكبير نسبة إلى الحاكم بأمر الله (ت 411هـ، 1020م) وضم فيه جميع الخسوفات والكسوفات وأثبت من ذلك تزايد حركة القمر، وحسب ميل دائرة البروج. وقام كوسان بترجمة الزيج الحاكمي إلى الفرنسية (1804م). وابن يونس هو الذي أصلح زيج يحيى بن منصور وهو الزيج الذي عمل به في مصر زمنًا طويلاً قبل ظهور الزيج الحاكمي.
كان أبو اسحاق النقاش الزرقالي (493هـ، 1099م) من أشهر الفلكيين والرياضيين في نهاية القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي. وهو واضع ما سمي في الفلك باللوائح الطليطلية نسبة إلى مدينة طليطلة في الأندلس. وبنى هذه اللوائح على المعارف التي استقاها ممن سبقه من العلماء كبطليموس والخوارزمي وغيرهما. وقد سجل في هذه اللوائح نتائج أرصاداته الفلكية. وله كتاب الصحيفة الزيجية بين فيها استعمال الأسطرلاب على نحو جديد، واخترع على منوال الأسطرلاب آلة سميت بالصفيحة أو الزرقالة. وهو أول من جاء بدليل على أن حركة ميل أوج الشمس بالنسبة للنجوم الثوابت تبلغ 12,04 دقيقة بيد أن الرقم الحقيقي هو 12,8 دقيقة.
من القرن السادس إلى الحادي عشر الهجري. تغطي هذه الحقبة إنجازات بعض علماء الفلك الذين أسهموا في تطوير هذا العلم بدءًا من الخازن وعمر الخيام والطوسي وغيرهم وانتهاءً بأولغ بك والكاشي والروداني.
وضع أبوالفتح عبدالرحمن الخازن زيجًا فلكيًا سّماه الزيج المعتبر السنجاري نسبة إلى السلطان سنجر نحو سنة 509هـ، 1115م. وجمع فيه أرصادًا في غاية الدقة، وحسب مواقع النجوم لتلك السنة. وكانت له مؤلفات شهيرة في آلات الرصد. ومن أهم مؤلفاته ميزان الحكمة في الميكانيكا، وله اختراعات في الميكانيكا من أهمها جهاز لقياس وزن الأجسام في الهواء والماء.
برع عمر الخيام (ت 515هـ، 1121م) في الفلك إلى جانب نبوغه في الشعر وعلوم أخرى.دعاه السلطان ملكشاه إلى المرصد الذي شيّده في مدينة الرِّي لإصلاح التقويم الفارسي، ونجح الخيام في ذلك، وخصص ملكشاه له راتبًا سنوياً من خزينة نيسابور تمكّن به من اعتزال الناس والعكوف على البحث والدراسة. وللخيام تصانيف كثيرة في الرياضيات والفلسفة والشعر ومن أهمها في الفلك زيج ملكشاه.
كان الفيلسوف ابن باجة الأندلسي (ت 533هـ، 1139م) من الأعلام الذين ظهروا في الأندلس في أوائل القرن السادس الهجري، وكان ذا نبوغ في الفلك والرياضيات، إلى جانب الطب والفلسفة. وهو أول فيلسوف يفصل بين الدين والفلسفة في العصور الوسطى. وأعطى الفلسفة العربية في الأندلس دفعة ضد الميول الصوفية. وكان لذلك تأثير في فكر ابن رشد وبالتالي لدى الفرق النصرانية وفلاسفة الكنيسة. وقد نسبت إليه أقوال اتهمه فيها منافسوه بالزندقة وقتلوه بالسم. وكانت له ملاحظات قيمة على نظام بطليموس في الفلك، وانتقده وأبان مواضع الضعف فيه. وكان من جراء ذلك أن تأثّر به تلاميذه مثل جابر بن الأفلح الذي دفعه قول ابن باجة لإصلاح المجسطي، وكذا البطروجي مما جعله يقول بالحركة اللولبية. كما كان أثره واضحًا في الطريقة التي سار عليها ابن طفيل في حي بن يقظان.
يعد أبو اليسر بهاء الدين الخرقي (ت 533هـ، 1138م) من أشهر المشتغلين بعلم الفلك في القرن السادس الهجري، كما برع في الرياضيات والجغرافيا، وأشهر مصنفاته في الفلك منتهى الإدراك في تقسيم الأفلاك، وقد اعتمد في بعض أجزائه على نظريات ابن الهيثم الفلكية. واحتوى هذا الكتاب على ثلاثة أبواب: الأول في بيان تركيب الأفلاك وحركاتها، والثاني في هيئة الأرض وتقسيمها إلى ثلاثة أقسام: مسكونة، وغير مسكونة. والبحار الخمسة، والثالث في ذكر التواريخ وتقسيمها وأدوار القرانات وعودتها، وقد ترجمت بعض أجزاء هذا الكتاب إلى اللاتينية. ومن مصنفاته في الفلك أيضًا التبصرة وقسّمه قسمين: قسم في الأفلاك، وقسم في الأرض، ذكر في القسم الأول 22 بابًا وفي الثاني 14 بابًا.
أما البديع الإسطرلابي (ت 534هـ، 1139م) فقد برع في صنع الآلات الفلكية. من آثاره جداول فلكية أنجزها في قصر السلطان السلجوقي ببغداد، ووضعها في كتاب سمّاه الزيج المحمودي نسبة إلى السلطان محمود أبي القاسم بن محمد. وكان شاعرًا غلبت على شعره الصبغة العلمية فغالبًا ما كان يُضمِّن شعره معلومات في الفلك والهندسة.
أنجز نصير الدين الطوسي (ت 672هـ، 1274م) أكثر أعماله في الرياضيات والفلك وهو سجين في قلعة أَلَمَوت في عهد المستعصم. وله إسهامات جليلة وإضافات في علم الفلك. ويكفي أن زيج الإيلخاني كان من المصادر التي اعتُمد عليها في إحياء العلوم في أوروبا. ومن مصنفاته في الفلك كتاب ظاهرات الفلك ؛ جرمي الشمس والقمر ؛ زيج الشاهي ؛ زيج الإيلخاني ؛ زبدة الإدراك في هيئة الأفلاك ؛ التذكرة في علم الهيئة ؛ التسهيل في النجوم.
من أهم آثار قطب الدين الشيرازي (ت 710هـ، 1311م) في الفلك نهاية الإدراك في دراية الأفلاك، وهو في أربع مقالات: الأولى في المقدمة، الثانية في هيئة الأجرام، الثالثة في هيئة الأرض، الرابعة في مقادير الأجرام. ومن آثاره أيضًا التحفة الشاهية في الهيئة ؛ التبصرة في الهيئة ؛ شرح النصيرية في الهيئة.
ظلت رسائل ابن الشاطر (ت 777هـ، 1375م) المتخصصة في علم الفلك، وكذا الآلات التي قام بصنعها متداولة عدة قرون في الشرق والغرب. ومن أهم آثاره في الفلك زيج ابن الشاطر ؛ إيضاح المغيَّب في العمل بالربع المجيَّب ؛ رسالة في الأسطرلاب ؛ مختصر في العمل بالأسطرلاب ؛ النفع العام في العمل بالربع التام ؛ نزهة السامع في العمل بالربع الجامع ؛ كفاية القنوع في العمل بالربع المقطوع ؛ الزيج الجديد وقد وضعه بطلب من مراد الأول الخليفة العثماني، وقدم ابن الشاطر فيه نماذج فلكية ونظريات وقياسات لم يسبق إليها، إلا أنها ظهرت فيما بعد باسم كوبرنيكوس. واكتشف ديفيد كينج عام 1390هـ، 1970م أن كثيرًا من النظريات المنسوبة لكوبرنيكوس البولندي هي لابن الشاطر، وبعد ذلك بثلاثة أعوام (1393هـ، 1973م) عثر على مخطوطات عربية في بولندا اتضح منها أن كوبرنيكوس قد اطلع عليها.
بلغت الحضارة الإسلامية أوجها في بلاد التركستان في عهد أولغ بك (ت 853هـ، 1449م). وكان هذا الأمير فلكياً وأديباً ومؤرخاً وفقيهًا. بنى في عاصمته سمرقند مرصدًا عام 823هـ، 1420م جلب إليه أحدث الآلات في زمنه. وكانت آلة ذات الربع موجودة في هذا المرصد ويبلغ ارتفاعها ارتفاع قباب مسجد أياصوفيا في تركيا. وتمكن أولغ بك أثناء عمله مع فريق الرصد من ابتكار آلات جديدة. واستمرت ارصاداته من عام 727هـ، 1327م إلى عام 839هـ، 1435م وقد أخرج منها زيجًا شاملاً سمي زيج أولغ بك أو السلطاني حسب فيه مواقع النجوم بدقة بالغة، وكذلك الخسوف والكسوف، ووضع الجداول للنجوم الثابتة ولحركات الشمس والقمر والكواكب ولخطوط الطول والعرض لأهم المدن الإسلامية.
اخترع الروداني شمس الدين الفاسي (ت 1094هـ، 1683م) آلة كروية الشكل تبيّن التوقيت ؛ وعليها دوائر ورسوم مدهونة بالبياض المُمَوَّه بدهن الكتّان، وقد رُكّبت عليها كرة أخرى مقسومة نصفين وفيها تخاريم وتجاويف لدوائر البروج وغيرها، وهي مستديرة كالتي تحتها ومصبوغة بلون أخضر. وكانت سهلة الاستعمال صالحة لبيان الأوقات في كل البلدان. وقد ألّف لها رسالة بيّن فيها كيفية صنعها واستخدامها.
أشهر علماء الفلك وأهم مؤلفاتهم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تواريخ مهمة في الرياضيات |
لم تعرف الأرقام العربية بهذا الاسم في بادئ الأمر، بل كانت تسمى الأرقام الغبارية. والأصل في تسميتها بهذا الاسم أن الهنود كانوا يأخذون غبارًا لطيفًا ويبسطونه على لوح مستوٍ من الخشب أو خلافه ويرسمون عليه الأرقام التي يحتاجون إليها في معاملاتهم الحسابية والتجارية. والسلسلة الغبارية (العربية) مرتبة على أساس الزوايا ؛ كما في بعض الساعات الرقمية أو الحواسيب في هذه الأيام. فالرقم واحد به زاوية واحدة واثنان زاويتان وهكذا كما يلي:
كان الهنود يستعملون سونيا وتعني الفراغ أو الخواء لتدل على كلمة صفر، وكان العرب يستخدمون هذا اللفظ (صفر) للدلالة على معنى الخلوّ منذ أمد بعيد. ومن ذلك قولهم صفر اليدين ؛ أي خالي اليدين ومنها صَفَر الشهر المعروف. وقد كان الصِّفر العربي يرسم في الأصل حلقة صغيرة وسطها فراغ وبقيت على ذلك في المغرب الإسلامي والأندلس، بينما انطمست في المشرق فصارت نقطة للتفريق بين الصفر والرقم 5 (خمسة). ★ تَصَفح: الصفر. وقد ظهرت الأرقام والصفر المرسوم على هيئة نقطة في مؤلفات عربية تعود إلى سنة 274هـ، 787م وذلك قبل أن تظهر في الكتب الهندية.
تقوم الأرقام العربية على النظام العشري والنظام الكسري الذي أوجده العرب واستخدموه في حساباتهم ومعاملاتهم منذ وقت مبكر. فقد استعمله إبراهيم الأقليدسي في أوائل القرن الرابع الهجري. وباستخدام الأرقام والصفر سهل حل المسائل الحسابية وتدوين الكسور العشرية والعادية وبناء المعادلات الرياضية من مختلف الدرجات وحلها.
قسّم العرب الحساب العملي إلى غباري، وقصدوا به ذلك الحساب الذي يحتاج إلى أدوات لاستخراج نتائجه ؛ كالقلم والورق أو التخت (اللوح ـ السبورة). وهوائي وهو الذي تجرى عملياته في الذهن ولا يحتاج إلى أدوات. وأكثر الناس استخدامًا له التُّجار والمتعاملون معهم في الحساب الفوري. وبالإضافة للحساب الغباري والهوائي، قسّموا الحساب إلى بابيْن الأول يشمل الأرقام الصحيحة، والثاني يشمل الكسور. وذكروا تحت كل منهما فروعًا تختص بالعمليات التي يتناولها كل منهما ؛ من ذلك الجمع والتضعيف والضرب، والتنصيف والتفريق (الطرح) والقسمة والتجذير أو استخراج الجذور.
قسّم العرب الأعداد أيضًا إلى عاد (واحد) ومعدود (بقية الأعداد). وكان هذا من وحي فلسفة إخوان الصفا التي تقول: ¸الواحد أصل الأعداد ومنشؤها ؛ تأتي جميعها منه وهو مخالف لها. وتنشأ الأعداد من الواحد صعودًا: 1، 2، 3، 4…إلخ ؛ وهبوطًا1/2 1, 1/4, 1/8, 1/16 …إلخ. كما قسّم الرياضيون العرب الأعداد إلى أزواج (زوجية) وأفراد (فردية) وبيّنوا أنواعها بالتفصيل، وقسّموا العدد إلى أربعة أنواع: تام، وزائد، وناقص، ومتحاب ؛ فالتام هو الذي إذا جمعت عوامله فحاصل الجمع يساوي العدد نفسه ؛ فمثلاً عوامل 28 هي: 1، 2، 4، 7، 14 فإذا جُمعت صارت 28. والزائد هو الذي إذا جمعت عوامله كان حاصل الجمع أكبر من العدد نفسه ؛ فمثلاً عوامل العدد 12 هي: 1، 2، 3، 4، 6، فإذا جُمعت صارت 16 ؛ أي أكبر من العدد 12. والناقص هو الذي إذا جُمعت عوامله كان حاصل الجمع أقل من العدد فمثلاً عوامل العدد 10 هي: 1، 2، 5 فإذا جُمعت صارت 8 ؛ أي أقل من العدد 10. أما الأعداد المتحابة فهي أزواج من الأعداد يكون مجموع عوامل أحدها يساوي الثاني، ومجموع عوامل الثاني يساوي الأول ؛ فمثلاً العددان 220 و284 متحابان لأن عوامل 220 هي: 1، 2، 4، 5، 10، 11، 20، 22، 44، 55، 110 وحاصل جمعها 284، وعوامل 284 هي: 1، 2، 4، 71، 142 وحاصل جمعهما 220.
كان العرب أول من اكتشف علامة الكسر العشري، وكان أول ذكر لها في كتاب غياث الدين جمشيد الكاشي (ت نحو 828هـ، 1424م) بعنوان كتاب مفتاح الحساب، وكان ذلك قبل 175 سنة من ستيفن الذي ينسب له هذا الاكتشاف. وقد ذكر الكاشي النسبة بين محيط الدائرة وقطرها (9 أو ط) بالكسر العشري وذلك في كتابه الرسالة المحيطة، وقد أعطى قيمة 2ط لستة عشر رقمًا عشرياً كما يلي:
2ط =6,283185071795865.
أي أن ط = 3,1415925358979325
ولم يسبقه أحد في الوصول إلى هذه النسبة الدقيقة.
توصل الرياضيون العرب والمسلمون إلى طرق ميسّرة لإجراء شتى العمليات الحسابية ؛ ففي الجمع مثلاً كانت لديهم طرق مختلفة لجمع الأعداد، بعضها يمكن استخدامه الآن في المدارس الابتدائية، وتتلخص في زيادة خانة قبل المجموع تسمى خانة المحفوظات، وهذه صورة من صور ذلك:
لجمع 3663 ، 54288 ، 106
وفي القسمة والضرب استخدموا طرقًا عديدة يكاد بعضها يطابق ما نستخدمه اليوم. ويقول ليوناردو فيبوناتشي، أحد علماء الرياضيات الإيطاليين في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، أنه تعلّم طريقة القسمة لأول مرة من أساتذته علماء العرب والمسلمين في صقلية. وأن تطويرهم لطريقة القسمة تنم عن خبرة رياضية عظيمة لا يستهان بها. أما في الضرب فقد ابتكروا طرقًا عديدة بعضها فيه الطرافة أو ما يمكن أن نطلق عليه رياضيات التسلية عند العرب. من أطرف هذه الطرق وأمتعها طريقة الشبكة وقد وردت في كتاب خلاصة الحساب لبهاء الدين العاملي (ت 1031هـ، 1622م). فمثلاً لضرب 235 × 47 نتبع ما يلي:
نرسم مستطيلاً مقسمًا إلى 3 خانات أفقية وخانتيْن رأسيتيْن، نضع الرقم 235 أعلى المستطيل على الخانات الأفقية كما في الشكل، ونضع العدد 47 على يسار الخانتين الرأسيتيْن. ثم نضرب العدد 7 × 2 ونضع الحاصل 14 في الخانة الأولى تحت العدد 2، ونضرب 7 × 3 ونضع الحاصل 21 في الخانة الثانية، ثم نضرب 7 × 5 ونضع الحاصل 35 في الخانة الثالثة. كذلك نضرب الـ 4 في كل من 2، 3 و5 ونضع حاصل ضرب كل منها في خانات الصف الثاني، وبجمع الأعداد كما في الشكل نحصل على حاصل الضرب وهو 11,045.
بعد أن توسع العرب في بحوث النسبة استفادوا من الفرع الثالث فيها، وهو النسبة التأليفية، واستخرجوا منها الأنغام والألحان. من أمثال ذلك ما أورده إخوان الصفا ¸نغمة الزير رقيق خفيف، ونغمة اليمّ غليظ ثقيل ؛ والرقيق ضد الغليظ، والخفيف ضد الثقيل وهما متباينان متنافران لا يجتمعان ولا يأتلفان إلا بمركب ومؤلف يؤلفهما، ومتى لا يكون التأليف على النسبة لا يمتزجان ولا يتحدان، ولا يستلذهما السمع، فمتى ألِّفا على النسبة ائتلفا وصارا كنغمة واحدة لا يميز السمع بينهما، وتستلذهما الطبيعة، وتسر بهما النفس·. وعدّ العرب الموسيقى من بين العلوم الرياضية، وكانت الرياضيات عندهم فرعًا من فروع الفلسفة، ويبدو ذلك جلياً عند ابن خلدون إذ يقول في المقدمة ¸وعلم الموسيقى هو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض، وتقديرها بالعدد، وثمرته معرفة تلاحين الغناء·.
كان إخوان الصفا من أفضل من تناول موضوعات التناسب وكيفية استخراج المجهول بوساطتها، بل ربطوا بينها وبين الميكانيكا وسائر فروع علم الفيزياء والمثلثات والفلك فإن من فوائد النسبة لديهم ¸… ما يظهر في الأبعاد والأثقال من المنافع… ومن أمثال ذلك ما يظهر في ظل الأشخاص من التناسب بينها، وذلك أن كل شخص مستوي القَدّ، منتصب القوام، فإن له ظلا، وأن نسبة طول ظل ذلك الشخص إلى طول قامته في جميع الأوقات كنسبة جيب الارتفاع في ذلك إلى جيب تمام الارتفاع سواء. وهذا لا يعرفه إلا المهندسون أو من يحل الزيج ؛ وهكذا توجد هذه النسبة في جر الثقيل بالخفيف، وفي تحريك المحرك زمانًا طويلاً بلا ثقل ثقيل. وذلك ما يظهر أيضًا في الأجسام الطافية فوق الماء ما بين أثقالها ومقعر أجرامها في الماء من التناسب ؛ وذلك أن كل جسم يطفو فوق الماء، فإن مكانه المقعر يسع من الماء بمقدار وزنه سواء. فإن كان ذلك الجسم لا يسع مقعره بوزنه من الماء، فإن ذلك الجسم يرسب في الماء ولا يطفو وإن كان ذلك المقعر يسع بوزنه من الماء سواء ؛ فإن ذلك الجسم لا يرسب في الماء، ولا يبقى منه شيء ناتئ عن الماء، بل يبقى سطحه مستويًا مع سطح الماء سواء. وكل جسمين طافيين فوق الماء، فإن نسبة سعة مقعر أحدهما إلى الآخر كنسبة ثقل أحدهما إلى الآخر سواء. وهذه الأشياء التي ذكرناها يعرفها كل من كان يتعاطى صناعة الحركات أو كان عالماً بمراكز الأثقال والأفلاك والأجرام والأبعاد·.
كانت كتب الحساب التطبيقية زاخرة بالأمثلة والتمارين الرياضية، وكانت تتناول مسائل واقعية معمولاً بها آنذاك ؛ فمنها ما يتناول المعاملات التجارية ومنها ما يتناول الزكاة والصدقة وتقسيم الغنائم ورواتب الجند. كما تطرقوا إلى البريد واللحاق به وإلى طرق البيع والشراء وهذه ميزة في مؤلفاتهم كلها دون استثناء. وعرفوا المتواليات الحسابية والهندسية بأنواعها، فذكروا قوانين خاصة لجمعها. كما بنوا قواعد لاستخراج الجذور ولجمع المربعات المتوالية والمكعبات، وبرهنوا على صحتها، وتوصلوا إلى نتائج طريفة في ذلك.
استخرج رياضيو العرب والمسلمين المجاهيل العددية عن طريق التحليل بطريقتين أخرييْن قلما يعرفهما شخص في العصر الحديث سوى المتخصصين في الرياضيات. وهاتان الطريقتان هما حساب الخطأين، والتحليل والتعاكس. وكانت لهم مؤلفات في ذلك منها كتاب الخطأين لأبي كامل الحاسب المصري وكتاب حساب الخطأين ليعقوب بن محمد الرازي وغيرهما. وكانت هاتان الطريقتان شائعتين عند العرب، وأكثر استخدامًا من غيرهما. وإليك هذين المثالين: الأول يوضح طريقة الحساب والخطأ، والثاني يوضح طريقة الوصول إلى المجهول بطريقة التحليل والتعاكس.
أوجد العدد الذي إذا أضيف إليه ثلثاه وثلاثة كان الناتج 18.
الخطوة الأولى: افرض المجهول ما شئت وسمه المفروض الأول، ثم تصرف فيه بحسب السؤال، فإن كان مطابقًا فهو المطلوب، وإن لم يكن كذلك فإن الخطأ بالزيادة أو النقصان فهو الخطأ الأول.
الخطوة الثانية: افرض مجهولاً آخر وسمه المفروض الثاني، فإن أخطأ حصل الخطأ الثاني.
الخطوة الثالثة: اضرب المفروض الأول في الخطأ الثاني، وسمه المحفوظ الأول.
الخطوة الرابعة: اضرب المفروض الثاني في الخطأ الأول، وسمه المحفوظ الثاني.
الخطوة الخامسة: إذا كان الخطآن من زائدين أو ناقصين فاقسم الفرق بين المحفوظين على الفرق بين الخطأين، وإن اختلفا فمجموع المحفوظين على مجموع الخطأين لتحصل على المجهول.
لحل المسألة خذ المفروض الأول: 3 0 إذا تصرفنا فيه بحسب السؤال يكون:
3 + 3 × 2/3 + 3 = 3 + 2 + 3 = 8
… يكون الخطأ الأول 18 - 8 = 10 ناقص
خذ المفروض الثاني: 6 0 إذا تصرفنا فيه بحسب السؤال يكون:
6 + 6× 2/3 + 3 = 13
… يكون الخطأ الثاني 18 - 13 = 5 ناقص
إذن يكون المحفوظ الأول = 3 × 5 = 15
ويكون المحفوظ الثاني = 6 ×10 = 60
الفرق بين 60 و 15 = 45 والفرق بين الخطأين هو 10 - 5 = 5
… الجواب 45/5 = 9
اما استخراج المجاهيل بطريقة التحليل والتعاكس فتستـند على العمل بعكس ما أعطاه السـائل فإن ضعّف فنصِّـف، وإن زاد فانقــص، وإن ضرب فاقسـم أو جذّر فربّع أو عكس فاعكس مبتدئًا من آخر السؤال. وقد وردت هذه المسألة في كتاب بهاء الدين العاملي: ¸عدد ضرب في نفسه وزيد على الحاصل اثنان وضعــف وزيد على الحاصل ثلاثة دراهم وقسم المجتمع (المجموع) على خمسة وضرب الخارج في عشرة حصل خمسون·.
نبدأ بآخر السؤال فنقسم 50 - 10 ثم نضرب 5 في مثلها ؛ أي 5 × 5 = 25 وننقص من 25 العدد 3 فيكون الباقي 22 ومن نصف هذا العدد ننقص 2 ؛ أي 11 - 2 = 9 فالجواب يكون الجذر التربيعي لـ 9 أي 3.
اشتغل العرب بما يمكن أن نطلق عليه رياضيات التسلية ؛ فقد برعوا في تقديم المسائل الرياضية في صورة ألغاز، كما اشتغلوا بالمربعات السحرية. وأول من بحث في هذا النوع ثابت بن قرة. وظهر كثيرًا في مصنفات الرياضيين الآخرين، وكانوا يطلقون على المربعات السحرية الأشكال الترابية.
من هذه المربعات ما أثبته إخوان الصفا في رسائلهم ؛ وهي المربعات التي كيفما عدت كانت الجملة 15. وهي تتكون من مربع كبير يضم في داخله تسعة مربعات لتشمل الأرقام من 1 إلى 9 كالتالي:
عرف العرب قبل الإسلام نوعًا من الجبر الذي كان يرد في طرائفهم وأشعارهم من قبيل الألغاز، إلا أنهم لم يدونوا ذلك لاعتمادهم على الرواية الشفهية في ضبط كل أمورهم. وقد كثر ذكر المعادلات ذات المجهول الواحد في أشعارهم كقول زرقاء اليمامة:
|
وصاغ النابغة هذا اللغز في أبيات أخرى فجاءت كما يلي:
|
وأعظم رياضيي القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي هو محمد بن موسى الخوارزمي، وهو أول من سمّى علم الجبر جبرًا وأول من ألّف في هذا العلم بتشجيع من الخليفة المأمون ؛ فصنّف فيه كتابه المشهور الجبر والمقابلة. ويشهد على عظمة الخوارزمي أن علم الجبر لم يتقدم خلال القرون الثلاثة التي تلت وفاته تقدمًا يذكر.
لم يستخدم الرياضيون الرموز في بادئ الأمر، وإنما جاءت هذه الرموز في حقبة متأخرة نسبياً وعلى يد الرياضيين العرب أنفسهم. فقد بدأت رموز هذا العلم في شكل مصطلحات لغوية ثم تطورت ؛ ومن ذلك استخدام الخوارزمي ومن جاء بعده بقليل المصطلحات الآتية:
الجبر: نقل الحدود المنفية إلى الجانب الآخر من المعادلة.
المقابلة: توحيد الحدود المتماثلة.
الحد: الكمية المعبر عنها في المعادلة بعدد معلوم أو مجهول.
العدد الأصم: الذي لا ينجذر إلا بكسر.
الجذر: كل شيء مضروب في نفسه بدءًا من الواحد إلى أعلى وما دونه من كسور. وهو الحد المجهول في المعادلة ونعبر عنه حالياً بالرمز س، وأطلقوا عليه أيضًا مصطلح الشيء.
جزء الجذر (الشيء): معكوس الجذر ؛ أي 1/س .
المال: كل ما اجتمع من الجذر المضروب في نفسه (س²).
جزء المال: معكوس المال أي 1/س.
العدد المفرد: كل ملفوظ به من العدد بلا نسبة إلى جذور ولا إلى مال.
قسم الخوارزمي المعادلات إلى ستة أقسام كالتالي:
الأموال التي تعدل (تعادل) جذورًا ويقابلها بالرموز الحالية: م س² = ب س.
الأموال التي تعدل عددًا معلومًا ويقابلها بالرموز الحالية: م س² = ح.
الجذور التي تعدل عددًا معلومًا ويقابلها بالرموز الحالية: ب س = ح.
الأموال والجذور التي تعدل عددًا معلومًا ويقابلها بالرموز الحالية: م س² + ب س = ح .
الجذور والأعداد المعلومة التي تعدل أموالاً ويقابلها بالرموز الحالية: ب س + ح = مس² .
الأموال والأعداد التي تعدل جذورًا ويقابلها بالرموز الحالية: م س² + ح = ب س.
ثم تطورت هذه المصطلحات لتحل محلها رموز سهلت استخدام هذا العلم وقادته للتطور، ومن هذه الرموز ما استخدمه القلصادي (ت 891هـ، 1486م) فقد استخدم العلامات التالية:
جـ : لتدل على الجذر ؛ وهو الحرف الأول من كلمة جذر.
ش : لتدل على المجهول ؛ وهو الحرف الأول من كلمة شيء (س).
م : لتدل على مربع المجهول ؛ وهو الحرف الأول من كلمة مال (س²).
ك : لتدل على مكعب المجهول ؛ وهو من حروف كلمة مكعب (س§).
ل : لتدل على المساواة بين الكميتيْن (ل)، وهو من حروف كلمة يعدل.
… ثلاث نقاط للدلالة على النسبة.
المعادلات. يعد حل المعادلات التكعيبية بوساطة قطوع المخروط من أعظم الأعمال التي أسهم بها الرياضيون العرب في هذا العلم. وقد طبقوا نظرياتهم فيها على حلول بعض المسائل الصعبة التي يؤدي حلها إلى معادلات تكعيبية. ومن جملة المسائل التي وردت في تمريناتهم التطبيقية يتبين أنهم كانوا يعرفون حل المعادلات من الدرجة الثانية، كما عرفوا أن لهذه المعادلات جذريْن قاموا باستخراجهما إن كانا موجبين. وتحققوا من الحالة التي يكون فيها الحل مستحيلاً في نطاق الأعداد الحقيقية.
فالخوارزمي يقول في هذا الصدد في كتاب الجبر والمقابلة ¸… واعلم أنك إذا نصفت الأجذار وضربتها في مثلها فكان يبلغ ذلك أقل من الدراهم التي مع المال فالمسألة مستحيلة… وإن كان مثل الدراهم بعينها فجذر المال مثل نصف الأجذار سواء، لا زيادة ولا نقصان…·.
حل العرب معادلات من قوى أعلى ؛ فعلى سبيل المثال نجد أن محمد بن الحسن الكرخي حل معادلات على النمط التالي في كتابه الفخري:
س ¨ + 5س² = 126
و م س2ن + ب سن + حـ = صفر
و س ¨ + م س§ = د
و (100 - س²) (10 + س)² = 8100
والمعادلة الأخيرة حل للمسألة التالية:
أوجد طول الضلع الرابع المجهول في شبه المنحرف أ ب جـ د الذي فيه أ ب يوازي جـ د، أ د يساوي د جـ يساوي ب جـ يساوي10 والمساحة 90؟
ع = ¬ (100 - س²)
… مساحة أ ب جـ د =
(20 + 2س) ¬ (100 - س²)
أي أن 1/2 ¬ (100 - س²) (10 + س) = 90
وبتربيع الطرفين يكون الناتج:
(100 - س²) (10 + س)² = 8100
(10 + س) ص = 90، حيث ص = ¬( 100 - س²) ؛ أي س² + ص² = 100
أما معادلات الدرجة الثانية فقد وردت فيها مسائل كثيرة في كتبهم منها على سبيل المثال المعادلات التالية:
س² + ص = ط² و ص² + س = ن²
و س ص + س = ط² و س ص + ص = ن²
ولعل الرياضيين العرب هم أول من استعان بالهندسة لحل المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية، وهذا من طرق الهندسة التحليلية ؛ ولثابت بن قرة في ذلك ابتكارات لم يسبق إليها، فقد وضع كتابًا في الجبر بيَّن فيه علاقة الجبر بالهندسة وكيفية الجمع بينهما. كما وردت مسائل لدى الخوارزمي وغيره من الرياضيين العرب استخدموا فيها الهندسة لحل مسائل الجبر من ذلك ما ورد لدى الخوارزمي في حل المعادلات التالية هندسيًا:
س² + 10س = 39
س² + 21 = 10س
س² = 3 س + ع
فلحل المعادلة الأولى على سبيل المثال: نفترض أن المستقيم جـ ب = س ، ثم نقيم عليه المربع أ ب جـ د ونمد د جـ إلى م، و د أ إلى هـ بحيث يكون أ هـ مساويًا لـ جـ م =1/2 × 10 = 5 ثم نكمل الرسم كما هو موضح.
س² + 10س = 39
نجد: س² + 10س + 25 = 39 + 25 = 64
وهي مساحة المربع د هـ ع م
… ضلعه يساوي 8
… س = 8 - 5 = 3
عني الرياضيون العرب أيضًا بالجذور الصّماء، وبحثوا في نظرية ذات الحدين التي يمكن بوساطتها رفع المقدار الجبري ذي الحدين إلى قوة معلومة أُسها عدد صحيح موجب. أما في الجذور الصم ؛ فقد كان الخوارزمي أول من استعمل كلمة أصم للإشارة إلى العدد الذي لا جذر له. وأوجد العرب طرقًا لإيجاد قيم تقريبية للأعداد التي ليس لها جذور ؛ فبهاء الدين العاملي يقول في الخلاصة: ¸وإن كان أصم فأسقط منه أقرب المجذورات إليه، وانسب الباقي إلى مضعّف جذر المُسقط مع الواحد، فجذر المُسقط مع حاصل النسبة هو جذر الأصم بالتقريب·. فلو افترضنا أن العدد الأصم في هذ الحالة (م)، وكان أقرب عدد له جذر تربيعي هو (ب²) وكان الفرق يساوي (هـ) لذا فإن:
م - ب² = هـ
وعلى هذا يكون ¬ م = ب + ه/2ب+1
فعلى سبيل المثال ¬ 10= 3 + 1/2×3+1 = 3 + 1/7 = 1/7 3.
ولما كان العرب يميلون إلى الجانب التطبيقي في تناولهم للمعارف أكثر من الجانب النظري فقد خرجوا بالهندسة النظرية اليونانية إلى المجال العملي التطبيقي. من ثم نجد أنهم يقسمون الهندسة إلى قسمين: عقلية وحسية ؛ فالعقلية هي النظرية وألحقوها بالفلسفة، ولا يعمل بها إلا الحكماء الراسخون في الرياضيات البحتة. وهذا هو النوع الذي تفنن فيه علماء اليونان وعلى رأسهم أقليدس. أما العرب فكان إنجازهم فيها ضئيلاً نسبيًا. أما الهندسة الحسية فهي التطبيقية، التي استفاد منها العرب في العمران ؛ في المساجد والقصور والأروقة والقباب وتخطيط المدن.
متفرقات هندسية. وضع العلماء العرب والمسلمون مصنفات هندسية تطبيقية تنم عن استقلال في التفكير على الرغم من انطلاقهم من نظريات أقليدس وفيثاغورث وأبولونيوس. يظهر ذلك بجلاء عند ابن الهيثم في كتابه الجامع في أصول الحساب وفي مقالاته في استخراج سمت القبلة ؛ فيما تدعو إليه حاجة الأمور الشرعية من الأمور الهندسية ؛ في استخراج ما بين البلدين في البعد بجهة الأمور الهندسية، وكذلك رسالة محمد البغدادي التي كان موضوعها تقسيم أي مستقيم إلى أجزاء متناسبة، مع أعداد مفروضة برسم مستقيم، وهي اثنتان وعشرون قضية: سبع في المثلث، وتسع في المربع، وست في المخمس.
بيَّن العرب كيفية إيجاد نسبة محيط الدائرة إلى قطرها (ط) ورمزوا لذلك بالحرف ط، وكانت كالتالي بالتقريب لدى الخوارزمي:
¬10 ، 1/7 3 ، 62,832/20,000
ويوضح ذلك في الجبر والمقابلة بالألفاظ ¸.. وكل مدورة (دائرة) فإن ضربك القطر في ثلاثة وسبع، هو الدور (المحيط) الذي يحيط بها، وهو الاصطلاح بين الناس من غير اضطرار، ولأهل الهندسة فيه قولان آخران: أحدهما أن نضرب القطر في مثاله، ثم في عشر، ثم نأخذ جذر ما اجتمع (الناتج)، فما كان فهو الدور. والقول الثاني، لأهل النجوم منهم، وهو أن نضرب القطر في اثنين وستين ألفًا وثمانية واثنتين وثلاثين، ثم نقسم ذلك على عشرين ألفًا، فما خرج فهو الدور. وكل ذلك قريب بعضه من بعض…·. وقد بلغ الاهتمام بهذه النسبة أن وضع فيها الرياضيون العرب مؤلفات من ذلك الكتاب الذي وضعه غياث الدين الكاشي بعنوان في نسبة القطر إلى المحيط.
أظهر الرياضيون العرب تفوقًا في الهندسة المستوية ولاسيما فيما يتعلق بالمتوازيات. فكان نصير الدين الطوسي مثلاً أول من لفت الانتباه لنقص أقليدس في قضية المتوازيات، وقام بتقديم الأدلة المبنية على فروض في كتابه الرسالة الشافية عن الشك في الخطوط المتوازية. كما استفاد ابن الهيثم من الهندسة المستوية والمجسمة في بحوثه عن الضوء، وتعيين نقطة الانعكاس في أحوال المرايا الكرية والأسطوانية والمخروطية، المحدبة والمقعرة. فنجد أنه وضع أولاً بضع عمليات هندسية على جانب من الصعوبة ذكرها وبيّن كيفية إجرائها ووضع لها البراهين الهندسية المضبوطة. ثم كانت الخطوة الثانية أن اتخذ هذه العمليات الهندسية مقدمات إلى الحلول التي أرادها لتحديد نقاط الانعكاس، ثم أضاف خطوة أخرى بتقديمه البراهين الهندسية لتلك الحلول.
عرف الرياضيون العرب علم تسطيح الكرة ؛ وهو علم عرّفه حاجي خليفة في كشف الظنون بأنه ¸علم يتعرف فيه كيفية نقل الكرة إلى السطح مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة، وكيفية نقل تلك الدوائر على الدائرة إلى الخط… وجعله البعض من فروع علم الهيئة (الفلك)، وهو من فروع علم الهندسة…·. فقد نقل العرب الخرائط من سطح الكرة إلى السطح المستوي، ومن السطح المستوي إلى السطح الكروي، ومن مصنفاتهم في هذا الفرع من الهندسة كتاب تسطيح الكرة لبطليموس ؛ الكامل للفرغاني ؛ الاستيعاب للبيروني ؛ دستور الترجيح في قواعد التسطيح لتقي الدين.
وألّف العرب مصنفات كثيرة في المسائل الهندسية، وفي التحليل والتركيب الهندسي وفي موضوعات متصلة بذلك مثل تقسيم الزاوية، ورسم المضلعات المنتظمة وربطها بمعادلات جبرية. ويقال إن ثابت بن قرة قسّم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية بطريقة تخالف الطرق التي عرفها اليونان. كما بحث العلماء في مراكز الأثقال وتوسّعوا فيها واستعملوا البراهين الهندسية لحل بعض مسائلها. ومن هذا ما ذكره الكوهي في كتاب مراكز الأثقال ¸… أدرنا نصف دائرة أ ب جـ التي مركزها د، مع القطع المكافئ الذي سهمه خط ب د، ومع المثلث أ ب جـ حول الخط ب د القائم على الخط أ جـ حتى يحدث من إدارة نصف الدائرة نصف الكرة، ومن القطع المكافئ مجسم المكافئ، ومن المثلث مخروط، فيكون المخروط مجسمًا للمثلث كالمجسم المكافئ للقطع المكافئ، ونصف الكرة لنصف الدائرة. فمركز ثقل مجسم المثلث، أعني المخروط، يقع على نسبة الواحد إلى أربعة، والمجسم المكافئ على نسبة الاثنين إلى ستة، ونصف الكرة على نسبة الثلاثة إلى ثمانية. أما مركز ثقل المثلث فعلى نسبة الواحد إلى ثلاثة، والقطع المكافئ على نسبة الاثنين إلى خمسة، ونصف الدائرة على نسبة الثلاثة إلى سبعة…·.
كان من الطبيعي أن ينقل العرب معارفهم الهندسية ويطبقوها على فنهم المعماري من مساجد وقصور ومدن وغيرها، واهتموا بالزخارف الهندسية التي اتسمت بالتناسق والدقة. وهذا يتطلب معرفة دقيقة بأعقد قوانين علم الهندسة لضبط رسم الخطوط والدوائر وتقسيم الأشكال الهندسية. ولا أدل على ذلك من الشواهد القائمة حتى الآن في الأندلس كقصر الحمراء وجنة العريف في غرناطة.
كما برع العرب في تخطيط المدن، وشق الطرق، والقنوات للري. وكان تصميم المدن يتم أولاً بعمل الخرائط الهندسية على الجلود والأقمشة والورق، بل كانوا يعملون لها نماذج مجسَّمة صغيرة كما يعمل مهندسو المعمار اليوم. ومن أشهر المدن التي خططها المعماريون العرب والمسلمون على أسس هندسية بغداد والبصرة في العراق، والفسطاط والقاهرة في مصر، والزهراء في الأندلس، وأصفهان في إيران، وأجرا في الهند. وقد راعوا في هذه المدن وغيرها الموقع الجغرافي، وتوافر المياه، وشق أكبر شوارعها في وسطها، بحيث يخترقها منصفًا لها، ويقوم على جانبي هذا الشارع الأحياء السكنية التي أطلق عليها الخطط. وكان يقوم في مركز المدينة المسجد الكبير ودار الإمارة ودواوينها. ★ تَصَفح: العمارة الإسلامية.
من أبرز ما أضافه الرياضيون العرب والمسلمون إلى علم المثلثات ؛ استعمالهم الجيب بدلاً من وتر ضعف القوس في قياس الزوايا. وأدّى ذلك إلى تسهيل كثير من المسائل الرياضية. واستنبط الرياضيون العرب الظل في قياس الزاوية المفروضة بالضلع المقابل لها مقسومًا على الضلع المجاور. والظل هو المماس، غير أن كلمة مماس لاتستخدم اليوم في الهندسة بينما لازالت كلمة ظل تستخدم في المثلثات. وذكر الطوسي في كتاب شكل القطاع ¸إن السبق في استنباط هذا الشكل (الظلي) لأبي الوفاء البوزجاني بلا تنازع مع غيره… وإن في المثلث القائم الزاوية الذي يكون من القسي العظام، تكون نسبة جيب أحد ضلعي القائمة إلى جيب الزاوية القائمة، كنسبة ظل الضلع الأخرى من ضلعي القائمة إلى ظل الزاوية الموترة به·.
أثبت الرياضيون العرب أن نسبة جيوب الأضلاع بعضها إلى بعض تساوي نسبة جيوب الزوايا الموترة بتلك الأضلاع بعضها إلى بعض في أي مثلث كروي. وكان أول من قام بذلك أبو نصر علي بن عراق والبوزجاني في أواخر القرن العاشر الميلادي. كما أوجدوا طريقة مبتكرة لحساب الجداول الرياضية للجيب، وللمماس والقاطع وتمامه. وكان البوزجاني أول من حسب جيب الزاوية التي قدرها 30 دقيقة حسابًا اتفقت نتائجه فيها إلى ثمانية أرقام عشرية مع القيمة الصحيحة.
قام الرياضيون العرب بحل بعض مسائل المثلثات جبريًا، فالبتاني، على سبيل المثال، تمكن من حساب قيمة الزاوية م من المعادلة جا م/جتا م = س بطريقة جبرية كان سابقًا إليها وهي :
جا م = س/¬س² +1
واخترع العرب حساب الأقواس التي كان من فوائدها تسهيل قوانين التقويم، وتُريح من استخراج الجذور المربعة. وكشفوا بعض العلاقات الكائنة بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها، كما توصلوا إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحة المثلثات الكروية، والمثلثات الكروية المائلة الزاوية. ويُعتبر استعمال العرب المماسات والقواطع ونظائرها في قياس الزوايا والمثلثات نقلة هائلة في تطور العلوم، لأنه سهّل كثيرًا من المسائل الرياضية المعقدة.
من القرن الثالث إلى الخامس الهجري. تغطي هذه الفترة إسهام بعض علماء الرياضيات في الحقبة الواقعة بين الخوارزمي وأبي الريحان البيروني. وقد نبغ في تلك الحقبة إلى جانب الخوارزمي والبيروني علماء كثيرون منهم، على سبيل المثال، أبو كامل شجاع بن أسلم وثابت بن قرة وسنان بن الفتح الحراني الحاسب والبوزجاني والبتاني وابن الهيثم وآخرون.
كان الخوارزمي أول من ألّف في الرياضيات على عهد المأمون الذي عيّنه رئيسًا لبيت الحكمة. وكان أعظم مؤلَّف له في حقل الرياضيات كتاب الجبر والمقابلة، وهو الكتاب الذي أثر في كل الأدبيات التي تناولت العلوم الرياضية من بعده، سواءً في الشرق أو الغرب. لذا عُدّ الخوارزمي واحدًا من أكبر الرياضيين في جميع العصور. وقد وضع هذا الكتاب بتكليف من الخليفة المأمون ليفيد الناس منه في التجارة والمواريث، والوصايا، وقياس المساحات الخاصة بالأراضي. واستخدم في هذا الكتاب مصطلح جبر لأول مرة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية روبرت الشستري، وهو أول من ترجم القرآن إلى اللاتينية. وكانت ترجمة هذا الكتاب أساسًا لدراسات أشهر رياضيي الغرب مثل ليوناردو البيزي الذي اعترف بأنه مدين للعرب بذخيرته المعرفية في الرياضيات.
تناول الخوارزمي في الجبر والمقابلة موضوعات شتى في حل المعادلات الجبرية. تكلم أولاً عن العدد في حساب الجبر والمقابلة، وقسمه إلى جذر ومال وعدد مفرد، وأتى بأمثلة من المعادلات ذات الدرجة الثانية، وشرح حلولها بطريقة جبرية أو هندسية. وفي باب الضرب، بيَّن كيفية ضرب الأشياء ؛ أي الجذور بعضها ببعض، ثم باب الجمع والنقصان (الطرح)، ووضع فيه عدة قوانين لجمع المقادير الجبرية وطرحها وضربها وقسمتها، ثم باب المسائل الست ؛ وهي مسائل تطبيقية في الجبر أوردها بنصها ثم قام بحلها كنماذج للأبواب المتقدمة، ثم باب المسائل المختلفة ؛ وذكر فيها ضروبًا مختلفة من المسائل تؤدي إلى معادلات من الدرجة الثانية وشرح كيفية حلها. يلي ذلك أكثر الأبواب اعتمادًا على التطبيق العملي، وهو باب المعاملات ؛ ويتضمن المعاملات التي يقوم بها الناس فيما بينهم، ويحتاجون فيها إلى ضرب من عمليات الجبر والحساب كالبيع والشراء والإجارة، وأورد فيه مسائل تتناول البيع والإجارات وما يتعامل به الناس من الصرف والكيل والوزن. يأتي بعد ذلك باب المساحة وأوضح معنى الوحدة المستعملة في المساحات، وأعطى مساحات بعض السطوح المستقيمة الأضلاع والدوائر والقطاعات. أما الخاتمة فهي كتاب الوصايا، وتطرق فيه إلى مسائل عملية وأمثلة كثيرة تتعلق بالوصايا، وتقسيم التركات، وتوزيع المواريث، وحساب الدور الذي يشمل باب التزويج في المرض، وباب العتق في المرض، وباب في العقر في الدور، وباب السلم في المرض. ونعرض فيما يلي نصًا من حديثه في باب المساحة لجزالة لغته وسهولتها: ¸اعلم أن معنى واحد في واحد إنما هو مساحة، ومعناه ذراع في ذراع ؛ فكل سطح متساوي الأضلاع والزوايا، يكون من كل جانب واحدًا ؛ فإن السطح كله واحد. فإن كان من كل جانب اثنان (ذراعان) وهو متساوي الأضلاع والزوايا، فالسطح كله أربعة أمثال السطح الذي هو ذراع في ذراع… وكل سطح مربع يكون من كل جانب نصف ذراع فهو مثل ربع السطح الذي هو من كل جانب ذراع… وكل معينَّة (شكل معيَّن) متساوية الأضلاع، فإن ضربك أحد القطرين في نصف الآخر فهو تكسيرها (حاصل الضرب)، وكل مدورة (دائرة)، فإن ضربك القطر في ثلاثة وسُبع هو الدور (المحيط) الذي يحيط بها…·.
اشتهر أبو كامل شجاع بن أسلم (ت نحو 267هـ، 880م) بالحاسب المصري، وهو من المعاصرين للخوارزمي. ومن مؤلفاته في الرياضيات كتاب الجمع والتفريق، ويبحث فيه القواعد الأساسية للعمليات الحسابية لاسيما الجمع والطرح كما يبدو من عنوانه. وله أيضًا كتاب الخطأين ؛ ويبحث فيه أصول حل المسائل الرياضية بطريق الخطأين. وكتاب الجبر والمقابلة وفيه يحاول تكملة ما استدركه على الخوارزمي، كما أشاد فيه بفضل الخوارزمي في علم الجبر والمقابلة. ويقول فيه ¸إن كتاب محمد بن موسى (الخوارزمي) المعروف بكتاب الجبر والمقابلة أصحها أصلاً، وأصدقها قياسًا، وكان مما يجب علينا من التقدمة الإقرار له بالمعرفة وبالفضل ؛ إذ كان السابق إلى كتاب الجبر والمقابلة، والمبتدئ له، والمخترع لما فيه من الأصول التي فتح الله لنا بها ما كان مغلقًا، وقرّب ما كان متباعدًا، وسّهل بها ما كان معسرًا، ورأيت فيها مسائل ترك شرحها وإيضاحها، ففرعت منها مسائل كثيرة، يخرج أكثرها إلى غير الضروب الستة التي ذكرها في كتابه… وبّينت شرحه، وأوضحت ما ترك إيضاحه وشرحه·. وله من الكتب الرياضية أيضًا كتاب الوصايا بالجذور، والشامل الذي يبحث في الجبر، وهو من أحسن الكتب التي ألّفت في ذلك العصر، وإليه أشار سميث في تاريخ الرياضيات بأنه كان وحيد عصره في حل المعادلات الجبرية، وفي كيفية استعمالها لحل المسائل الهندسية.
مهَّد مهندس العرب ثابت بن قرة (ت 288هـ، 900م) لإيجاد التكامل والتفاضل ؛ وذلك بحساب حجم الجسم المتولد عن دوران القطع المكافئ حول محوره. كما يُعزى إليه العثور على قاعدة تستخدم في إيجاد الأعداد المتحابة ؛ وهي أزواج نادرة من الأعداد لم يبحث فيها أحد قبله. ★ تَصَفح: الحساب في الجزء السابق من هذه المقالة. كما أن ثابت كان أول من بحث في المربعات السحرية بعد الصينيين. واستطاع أن يبتدع طريقة في تقسيم الزاوية بأسلوب لم يسبق إليه. وله ابتكارات في الهندسة التحليلية ؛ وهي الهندسة التي تستفيد من التطبيقات الجبرية.
صنّف ثابت بن قرة كثيرًا من المؤلفات في الرياضيات منها، على سبيل المثال، كتاب في المسائل الهندسية ؛ كتاب في المربع وقطره ؛ كتاب في الأعداد المتحابة ؛ تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية ؛ المختصر في الهندسة ؛ كتاب في المثلث القائم الزاوية. كما ترجم العديد من الكتب من أشهرها كتاب المدخل إلى علم العدد لنيقوماخوس الجرشي (ت نحو 135م) نسبة إلى جرش (في الأردن اليوم). وهذا الكتاب الأول من نوعه الذي عالج فيه مؤلفه علم الحساب مستقلاً عن الهندسة. وكان من بين الفوائد التي ترتبت على ترجمة هذا الكتاب إدخال مصطلحات رياضية جديدة إلى اللغة العربية، كما أسهمت في توحيد الاصطلاحات والتعابير الرياضية التي احتاجها العلماء العرب والمسلمون إبان نهضتهم العلمية.
اشتهر البتاني (ت 317هـ، 929م) بوصفه فلكيًا أكثر منه رياضيًا. وهو من الذين أضافوا بحوثًا مبتكرة في الفلك والجبر والمثلثات ؛ لذا يعدّه الكثيرون من مؤرخي العلوم من عباقرة العالم الذين وضعوا نظريات مهمة. وهو الذي أدخل الجيب واستعمله بدلاً من كلمة الوتر ؛ إذ إنه ترك الحساب بالوتر، كما كان يفعل بطليموس ومن جاء بعده، وفضل حساب الهنود بالجيب (نصف الوتر). وهو الذي أدخل مصطلح جيب التمام وأول من عمل الجداول الرياضية لنظير المماس، وعرف قانون تناسب الجيوب، واستخدم معادلات المثلثات الكروية الأساسية والخطوط المماسة للأقواس، واستعان بها في حساب الأرباع الشمسية، وأطلق عليها اسم الظل الممدود ؛ أي خط المماس.
يعد أبو الوفاء البوزجاني (ت 388هـ، 998م) أحد الأئمة المعدودين في الرياضيات والفلك. وله فيهما مؤلفات قيمة، واعترف له كل من جاء بعده من رياضيي الشرق والغرب بأنه من أشهر الذين برعوا في الهندسة. وعندما ألّف في الجبر أضاف إضافات ذات شأن على بحوث الخوارزمي فاعتبرت أساسًا لعلاقة الهندسة بالجبر. وقد استعان بالهندسة في حل المعادلتيْن التاليتين:
س ¨ = حـ ، س ¨ + حـ س§ = ب
واستطاع أن يجد حلولاً لها تتعلق بالقطع المكافئ.
يعود الفضل للبوزجاني في وضع النسبة المثلثية (الظل)، وهو أول من استعملها في حلول المسائل الرياضية. كما أوجد طريقة جديدة لحساب جداول الجيب، وكانت جداوله دقيقة للغاية. ووضع بعض المعادلات التي تتعلق بجيب الزاويتيْن، وكشف بعض العلاقات بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها.
وللبوزجاني مؤلفات كثيرة قيمة في الرياضيات من أشهرها: منازل في الحساب ؛ وقد قسمه إلى سبعة أبواب احتوت على النسبة والضرب والقسمة والمساحة وحساب الخراج، والمقاسات والصروف ومعاملات التجار. ومن كتبه الأخرى: تفسير الجبر والمقابلة للخوارزمي ؛ المدخل إلى الأرثماطيقي ؛ كتاب استخراج الأوتار ؛ كتاب العمل بالجدول الستيني.
اشتهر ابن الهيثم بوصفه فيزيائياً، غير أن له في الرياضيات بحوثًا أصيلة تدل على أنه كان رياضياً بارعاً تجلت براعته في تطبيق الهندسة والمعادلات والأرقام في المسائل المرتبطة بالطبيعة والفلك، وفي البرهنة على قضاياها ببراهين غاية في البساطة أحيانًا، ومعقدة أحيانًا أخرى، وهي تتناول الهندسة بنوعيها المستوية والمجسمة.
طبق ابن الهيثم الهندسة على المنطق، ووضع في ذلك كتابًا. نقل ابن أبي أصيبعة في طبقات الأطباء قول ابن الهيثم ¸كتاب جمعت فيه الأصول الهندسية والعددية من كتاب أقليدس وأبولونيوس، ونوعت فيه الأصول وقسمتها، وبرهنت عليها ببراهين نظمتها من الأمور التعليمية والحسية والمنطقية، حتى انتظم ذلك مع انتقاص توالي أقليدس وأبولونيوس·.
اتبع ابن الهيثم منهجًا علمياً في بحوثه كلها، خصوصًا ما كان منها في الضوء. ★ تَصَفح إسهام ابن الهيثم في الجزء الخاص بالفيزياء من هذه المقالة. وكتبه المتعلقة بالرياضيات كثيرة منها: شرح أصول أقليدس في الهندسة والعدد ؛ تحليل المسائل الهندسية ؛ حساب المعاملات ؛ أصول المساحة وذكرها بالبراهين ؛ خواص المثلث من جهة العمود ؛ تربيع الدائرة ؛ كتاب في حساب الخطأين.
من القرن السادس إلى الحادي عشر الهجري. تغطي هذه الحقبة إسهام بعض العلماء الذين نبغوا في حقل العلوم الرياضية، بدءًا من عمر الخيام وانتهاءً ببهاء الدين العاملي. وتميزت هذه الحقبة بظهور علماء طوروا كثيرًا من أسس العلوم الرياضية التي تركها أسلافهم في الحقبة السابقة.
كان عمر الخيام من أنبغ الذين اشتغلوا في حقل الرياضيات ولاسيما الجبر، ودرس بدهيات هندسة أقليدس ونظرياتها العامة. والخيام من أوائل العلماء الذين حاولوا تصنيف المعادلات بحسب درجاتها وعدد الحدود التي فيها. واستخدم بعض المعادلات التي استعملها الخوارزمي من قبل في الجبر والمقابلة ؛ من ذلك:
س² + 10 س = 39
و س² + 20 = 10 س
و 3 س+ 4 = س²
واستطاع الخيام أن يحل المعادلات التكعيبية هندسياً، واعتبر أن المعادلات ذات الدرجات الأولى والثانية والثالثة إما أن تكون بسيطة مثل : س = ص ، م س = س§ أو مركبة مثل: س² + د س = ص ، س§ + دس² + جـ س = هـ، ووضع للمعادلات البسيطة ستة أشكال وللمركبة اثني عشر شكلاً.
ألف الخيام كثيرًا في الفلك والرياضيات وغيرهما بالفارسية، وأهم آثاره العربية في الرياضيات شرح ما يشكل من مصادرات أقليدس ؛ مقالة في الجبر والمقابلة.
كان أول من استخدم الرموز في الجبر القلصادي أبو الحسن علي القرشي (ت 891هـ، 1486م)، وقد نبغ في علم الحساب وألّف فيه مؤلفات ذات شأن. كما أبدع في نظرية الأعداد وفي بحوثه في علم الجبر. وأول مؤلف له اطلع عليه الأوروبيون كان كتاب كشف الأسرار عن علم الغبار.
أعطى القلصادي قيمة تقريبية للجذر التربيعي للكمية (س² + ص) كالتالي:
س² + ص =¬س² +ص = 4 س §+ 3 س ص / 4 س ² + ص وتُعتبر هذه المعادلة مهمة لأنها أبانت طريقة لحساب الجذور الصم بكسور متسلسلة. وقد استفاد من هذه العملية ليوناردو البيزي وغيره في استخراج القيم التقريبية للجذور الصم.
من مصنفاته في الرياضيات، كشف الجلباب عن علم الحساب ؛ قانون الحساب ؛ كتاب تبصرة في حساب الغبار ؛ كشف الأسرار عن علم الغبار وهو مختصر من كتاب كشف الجلباب عن علم الحساب. وهذا الكتاب يحتوي على مقدمة وأربعة أجزاء وخاتمة. وذكر في المقدمة صفة وضع حروف الغبار وما يتعلق بها. والجزء الأول يتناول عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة ومسائل تطبيقية، والثاني يتناول الكسور وإجراء العمليات الحسابية والجبرية عليها. والثالث يتناول الجذور. والرابع يتناول كيفية استخراج المجاهيل والجبر والمقابلة وعملياتهما. أما الخاتمة فتتناول الاستثناء في المعادلات والنسبة واستخراج العدد التام والناقص.
ظلت آثار بهاء الدين العاملي (ت 1031هـ، 1622م) في الرياضيات والفلك زمنًا طويلاً مرجعًا للكثير من العلماء والباحثين. ومن خلال عمله في إيجاد الجذور الحقيقية والتقريبية للمعادلات الجبرية، بالطريقة التي وضعها الخوارزمي، توصل إلى طريقة جديدة أسهل لحل هذه المعادلات، وأطلق على هذه الطريقة طريقة الكفتين أو الميزان. واستمر العمل بهذه الطريقة من بعده حتى ابتكر إسحق نيوتن طريقة أخرى لإيجاد الجذور الحقيقية التقريبية، هي التي تُطبق اليوم.
يعد كتاب خلاصة الحساب أشهر كتب العاملي ؛ إذ إنه انتشر انتشارًا كبيرًا في أوساط المعلمين والطلاب على حد سواء، وكان يستعمل إلى وقت قريب في بعض مدارس الشرق الإسلامي. ويتكون هذا الكتاب من عشرة أبواب تعليمية وفيه بعض الأساليب التي لم يُسبق إليها. وجاءت محتويات الأبواب العشرة كما يلي: تناول في البابين الأول والثاني الأعداد الصحيحة والجذور على التوالي. وتكلّم فيهما عن العمليات الحسابية المألوفة من جمع وطرح وقسمة وضرب، واستخراج جذور الكسور وتحويلها. وتناول في الأبواب من الثالث إلى الخامس كيفية استخراج المجهولات بالتناسب وبحساب الخطأين وبالتحليل والتعاكس. وخصص البابين السادس والسابع لحساب مساحة السطوح المستقيمة والأضلاع، والدوائر والمخروط، وقياس عرض الأنهار والمرتفعات وأعماق الآبار. وتناول في الباب الثامن استخراج المجهولات بطريق الجبر والمقابلة. أما البابان الأخيران فقد أورد فيهما بعض القواعد والمسائل التطبيقية من قبيل ¸شحذ ذهن الطالب وتمرينه على استخراج المطلب·.
أشهر علماء الرياضيات وأهم مؤلفاتهم | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|