الرئيسيةبحث

جوامع تمبكتو ( Mosques of Timbuktu )



جوامع تُمٌبُكْتُو مجموعة جوامع قامت في مدينة تمبكتو فيما يعرف الآن بدولة مالي. كانت مراكز تعليمية إسلامية كبرى ومراكز تربوية مهمة. وأشهر هذه الجوامع جامع تمبكتو الكبير الذي يعتبر من أقدم وأكبر مساجد مدينة تمبكتو التاريخية بغربي إفريقيا. ولا يُعرف على وجه التحديد تاريخ التشييد الأول له، بيد أن المعروف أنه كان هناك مسجد أقيم على موقعه في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي). والراجح أن بناءه قد تم لأول مرة في مطلع القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) على وجه التقريب، أي في الفترة التي نشأت فيها مدينة تمبكتو، لأن المسلمين جروا على عادة إنشاء المساجد الجامعة، متى ما استقر بهم المقام في أي مكان، ولو وسط المجتمعات الوثنية.

وكان بناؤه الأول على صورة متواضعة تتناسب مع حجم سكان المدينة في تلك الفترة.

جدد بناءه السلطان المالي الحاج منسا موسى (707 - 732هـ، 1307 - 1332م)، وبنى صومعته، وذلك بعد عودته من الحج سنة 724هـ، 1324م)، وهو الوقت الذي ضم فيه مدينة تمبكتو إلى مملكته. ومن المرجح أن الذي قام ببناء هذا الجامع هو المهندس والشاعر الأندلسي أبو إسحاق إبراهيم الساحيلي المعروف باسم الطويجن، الذي قدم مع السلطان موسى من الشرق عند عودته من الحج.

ظل هذا المسجد موضع عناية كثير من السلاطين والحكام الذين تعاقبوا على حكم مدينة تمبكتو. فقد مر بعدة إصلاحات من حسن إلى أحسن، شأنه في ذلك شأن كل المساجد العريقة في العالم الإسلامي ابتداءً من الحرم المكي والحرم المدني ومساجد العراق والشام ومصر والأندلس والمغرب. وكانت كل هذه المساجد تخضع منذ إنشائها إلى يومنا هذا لإصلاحات وترميمات وتَوْسِعات تقتضيها الظروف وزيادة السكان والثروات المتوافرة وتطور العمران. وحرص المسلمون على اتباع السنة الغراء في جعل مساجدهم أجمل البقاع وعلى أحدث فنون المعمار. فلا عجب إذا رأينا الجامع الكبير يمر بإصلاحات كبيرة. ومن هذه الإصلاحات أن الفقيه القاضي العاقب بن القاضي محمود بن عمر بن محمد أقيت (913 -991هـ، 1507 - 1583م) قام بهدم هذا المسجد وضمَّ إليه المساحة التي كانت تشغلها القبور المجاورة له وزاد فيه زيادة كبيرة عما قبل. وكان ذلك سنة 976هـ،1570م، في عصر السلطان آسكيا داود (965 -990هـ، 1557 - 1582م) عاهل دولة صنغي الإسلامية، وبعد رجوع الشيخ العاقب من الحج. ولم يكن الشيخ وحده الذي قام بالإنفاق على بناء هذا المسجد، بل اشترك معه علماء آخرون مثل الحاج الأمين، ولكن بعد إلحاح، ولم يتعد إنفاقه ثلاثة أيام. ويُعدّ هذا مساهمة رمزية بالمقارنة بما أنفقه الشيخ العاقب في البناء الذي كان يكلِّف يوميًا سبعة وستين مثقالاً (ستة غرامات) إلا ثلثًا من الذهب. واستمر في ذلك قرابة ثلث عام.

وتمثلت مساهمة السلطان آسكيا داود في دفع جزء من نفقة البناء مع أربعة آلاف قطعة من الخشب، وأمر عددًا من مواليه بالإسهام في أعمال البناء ونسج حصره وفرشه.

وأدخلت بعض الإصلاحات عليه أيضًا في الأعوام 1089هـ ، 1678م و1121هـ، 1709م و1149هـ ، 1736م. وعلى ذلك يمكن القول بأن المسجد القائم اليوم لا يشمل أية أجزاء يمكن نسبتها إلى ماقبل عام 1571م، وهو التاريخ الذي أعاد فيه القاضي العاقب بناء الجامع.

ويشتمل المسجد من الداخل على خمسة وعشرين صفًا من العمد، تمتد من شمالي المسجد إلى جنوبيه، وعلى ثمانية صفوف ممتدة من الشرق إلى الغرب. وشُيدت أهم أجزاء المسجد بالحجر كالعقود، وشُيد الجانب الغربي والمحراب وبعض أجزاء الكساء الخارجي والسقف من الخشب المتين. وللمسجد صحنان، أحدهما واسع والآخر صغير متصل بالمئذنة. ويعتبر هذا المسجد الجامع من المعالم الأثرية البارزة لمدينة تمبكتو الإسلامية التاريخية.

مسجد سَنكُري:

لم يبين لنا عبد الرحمن السعدي صاحب كتاب تاريخ السودان والقاضي محمود كعت صاحب كتاب الفتاش في أخبار البلدان والجيوش وأكابر الناس ـ وهما المصدران الأساسيان لتاريخ الإسلام وحضارته في غربي إفريقيا قبل الاستعمار الغربي ـ تاريخًا محددًا لبناء هذا المسجد، بل إن النصوص الواردة في هذا الخصوص مضطربة. يقول صاحب الفتاش: ¸وفي سنة تسع وثمانين وتسعمائة شرع في بناء مسجد سنكري·. والمتأمل في هذا النص وحده يفهم أن بناء هذا المسجد قد تم على يدي القاضي العاقب، ولكن هذا المفهوم لا يستقيم مع مفهوم بعض النصوص للسعدي جاء في أولها: "وأما مسجد سنكري فقد بنته امرأة واحدة ذات مال كثير. ولكن لم نجد لبنائها تاريخًا"، وثانيها يلقي ضوءًا على نص الفتاش المذكور آنفًا، ويشير صراحة إلى أن القاضي العاقب كان مجددًا لبناء مسجد سنكري، ولم يكن المشيد الأول. وهو قوله: "وفي يوم الخميس ثاني عشر من المحرم سنة ست وثمانين بعد تسعمائة شرع القاضي العاقب في تجديد بناء مسجد سنكري". ويزيد ثالثها الأمر وضوحًا ويفيد بقدم مسجد سنكري، وبأنه شُيّد بعد المسجد الجامع، وأن تكامل البناء عامة كان في أواسط القرن العاشر الهجري، في عهد السلطان داوود. يقول بعض المؤرخين: "ثم بنوا المسجد الجامع على حسب الإمكان، ثم مسجد سنكري كذلك. والبنيان ما ثبتت عمارته إلا في أواخر القرن التاسع في مدة آسكيا داوود".

ونرى في ضوء نصوص السعدي أن بناء هذا المسجد لأول مرة كان قبل عهد القاضي العاقب وعلى يد امرأة ثرية، ثم كان تجديده على يد القاضي العاقب في عهد السلطان داوود.

أما فيما يتعلق بالاسم سنكري، فمن الملاحظ، على ضوء معلومات السعدي، أنه أُطلق على حي من أحياء تمبكتو، كان به المسجد الذي عُرف بهذا الاسم مسجد سنكري.

مسجد سيدي يحيى التادلسي:

شيّده محمد نقي، من قبيلة آجر الصنهاجية، وحاكم تمبكتو التابع لسلطان الطوارق أو (التوارق) آنذاك، السلطان آكل، ولا نعرف تاريخًا محددًا لإنشائه، ولكن المحتمل أن يكون قد شُيد في حوالي منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي)، لأن حكم الطوارق لهذه المدينة كان في الفترة ما بين عامي (837 - 876هـ، 1433- 1471م). وظل حكام هذه المدينة بصفة خاصة وسلاطين الدول التي تعاقبت على حكمها يجددونه ويوسعونه بين فترة وأخرى بما يتناسب وكثافة السكان وإمكانات البلاد المادية والثقافية. ولقد وصف الرحالة الفرنسي كابيه هذا المسجد عندما مر بمدينة تمبكتو سنة 1244هـ، 1828م.

لم تكن تمبكتو تضم هذه المساجد الثلاثة المشهورة فقط، بل ضمت مساجد أخرى لم تصل إلى شهرة ومكانة هذه الثلاثة في التاريخ الحضاري الإسلامي لغربي إفريقيا، وقد أوصل المؤرخون عددها إلى أكثر من تسعة مساجد.

التعليم والمعلمون في مساجد تمبكتو

مساجد تمبكتو في التعليم الإسلامي:

كانت هذه المساجد الثلاثة بصفة خاصة معاهد تعليمية كبرى ومراكز ثقافية وتربوية مهمة، مثل الجامع الأزهر والجامع الأموي بدمشق وجامع عمرو بن العاص بمصر وجامع الزيتونة بتونس، وجامع قرطبة وجامع القرويين بفاس وغيرها من مساجد الإسلام الكبرى. فكانت المرحلة العليا من التعليم في هذه المساجد التمبكتية تشبه ما كان بالأزهر قديمًا وما هو كائن اليوم، إذ إن حلقات الدراسة ما زالت تُعقد في الجامع الأزهر وينتظم فيها طلاب معهد الدراسات الإسلامية الذين يُمنحون شهادة الإجازة العالية (الليسانس)، تمامًا كزملائهم الذين يتخرجون في كليات جامعة الأزهر الحديثة المختلفة.

يُسمي بعض المؤرخين هذا النوع من التعليم المسجدي بالجامعات العامة لأنه يجمع بين فكرة التخصص الدقيق وفكرة الثقافة العامة التربوية. وهو تعليم إسلامي أصيل، وضعت بذرته الدعوة الإسلامية ونما تحت ظلالها.

ولأهمية دور معاهد تمبكتو الإسلامية نلحظ أن بعض المؤرخين يطلق عليها اسم الجامعات تقديرًا لدورها الحضاري في هذه المنطقة. يقول في هذا ـ مثلاً ـ الدكتور الغربي في كتابه بداية الحكم المغربي في السودان الغربي، "وحظيت تمبكتو وجامعتها بسمعة مدوّية في العالم الإسلامي، مثل السمعة التي حظيت بها فاس والقاهرة وتونس، وقد رأينا الطلبة يتوافدون لطلب العلم بتمبكتو من مراكش والجهات البعيدة السودانية ـ يعني غربي إفريقيا ـ، وعندما زار الرحالة حسن الوزان (ليون الإفريقي)، هذه المدينة ووقف على أحوال التعليم المسجدي فيها، أطلق على مدرسي مساجدها لقب دكاترة. ★ تَصَفح: الحسن الوزان.

حققت هذه المساجد أهدافها التعليمية والتربوية والثقافية والدعوية تمامًا كما حققت المساجد الكبرى في البلاد الإسلامية في المشرق والمغرب، فقد تخرج فيها قضاة وعلماء فقهاء ومؤرخون وأدباء، أمثال علماء أسرة كعت والقاضي العاقب وعلماء أسرة أقيت والمؤرخ عبد الرحمن السعدي والمؤرخ الفقيه أحمد بابا التمبكتوي والمؤرخ الفقيه القاضي محمود كعت، مما لا حصر لهم.

الكتب الدراسية المقررة في مساجد تمبكتو:

من الملاحظ أن الكتب التي كانت متداولة للدراسة في هذه المساجد تكاد تكون بعينها الكتب المعروفة في البلاد الإسلامية الأخرى المعاصرة لها. ومن تلك الكتب التي ورد ذكرها في برامج التدريس هنا: الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض السبتي، في السيرة النبوية، والشمائل المحمدية ؛ مدونة القاضي سحنون ؛ مختصر ابن الحاجب الفرعي ؛ الرسالة ؛ مختصر الشيخ خليل ؛ تهذيب البراذعي ؛ جمع الجوامع ؛ القرطبية ؛ جامع المعيار، وكلها في الفقه المالكي ؛ مختصر ابن الحاجب الأصلي في أصول الفقه ؛ موطأ الإمام مالك في الحديث والفقه ؛ ألفية ابن مالك في النحو، وتلخيصها للسيوطي ؛ ألفية السيوطي ؛ صحيح البخاري ؛ صحيح مسلم ؛ سيرة ابن إسحاق (سيرة ابن هشام) ؛ تفسير الجلالين ؛ المدخل لابن الحاج، وهو في الكشف عن البدع والخرافات الدخيلة على الفكر الإسلامي ؛ الأجرومية في النحو ؛ مقامات الحريري في الأدب العربي ؛ رجز المغيلي في المنطق ؛ عقائد السنوسي في التوحيد، وهي ثلاثة: العقيدة الكبرى والوسطى والصغرى ؛ الخزرجية في العروض ؛ العشرينيات (أو العشريات أو الفزارية) في المدائح النبوية، وبعض مؤلفات السيوطي، مثل: البهجة المرضية في النحو، ؛ ألفية الأثر في الحديث ؛ شرح النقاية في الأصول والبيان والتصوف ؛ ألفية المعاني ؛ الكوكب الساطع في نجم جمع الجوامع، وهو في الأصول والبيان والتصوف ؛ شرح الكوكب الوقاد في الاعتقاد ؛ جمع الجوامع في العربية ؛ الجامع الصغير في الحديث... إلخ ؛ تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد المشهور بـ (التسهيل) لابن مالك النحوي في النحو ؛ تلخيص المفتاح المشهور بـ (التلخيص) للقزويني في المعاني والبيان ؛ قطر الندى وبل الصدى في النحو ؛ شعر ابن دريد ؛ أشعار شعراء المعلقات الستة ؛ أشعار المدائح النبوية.

المستوى العلمي لعلماء تمبكتو:

يدل ما ذكرناه من الكتب والمواد الدراسية في مساجد تمبكتو العلمية وغيرها من معاهد غربي إفريقيا، على أن علماء وطلاب معاهد هذه المدينة لا يقلون في مستواهم الثقافي عن علماء وطلاب معاهد العالم الإسلامي المعاصرين لهم. ومما يدل على علو مستوى علماء تمبكتو بصفة خاصة، أن يجيز عالم منهم عالمًا مشرقيًا. فالفقيه أحمد بن أحمد بن عمر أقيت، والد أحمد بابا التمبكتي، عندما زار مصر، التقى بعلماء جهابذة أمثال الناصر اللقاني (ت 958هـ، 1551م) والشريف الأرميوني (ت 958هـ، 1551م) وجمال الدين زكريا (ت 926هـ، 1519م) والتاجوري (ت نحو 960هـ، 1552م) والأجهوري (ت 957هـ، 1549م) وطبقتهم، ولقي في الحجاز جماعة من كبار العلماء أمثال: الميموني واللمطي والسخاوي والفاكهي، فأجاز بعضهم.

وهناك رواية مشهورة تدل أيضًا على رسوخ قدم تمبكتو في التعليم الإسلامي، إذ تقول الرواية إن الفقيه عبد الرحمن التميمي، الذي جاء من الحجاز بصحبة السلطان المالي منسا موسى حين آب من حجته المشهورة وسكن تمبكتو، وجد البلد حافلاً بالفقهاء الذين يفوقونه في العلم، فرحل إلى فاس لرفع مستواه العلمي، ثم رجع إلى تمبكتو مرة أخرى ليمارس التعليم. وتتلمذ قضاة مغاربة على الشيخ أحمد بابا التمبكتي عندما أُسر وحُدّدت إقامته بمدينة فاس. ولم توجه الفتوى ـ غالبًا ـ إلا إليه.

وكان العلماء يهتمون بإنشاء المكتبات الخاصة، وحكي أن كُتُب أحدهم قد زادت على الألفين، وأن عمر أقيت، قد خلف أكثر من سبعمائة مجلد، وبلغت مكتبة أحمد بابا التمبكتي نحو ستمائة وألف مجلد، وكان يقول بأن هذه المكتبة تعتبر أقل مكتبة لعالم في تمبكتو.

وعُرف التخصص الدقيق بمفهوم عصرنا الحديث إلى درجة كبيرة. والدليل على هذا وجود إشارات كثيرة إلى هذا الأمر من خلال تراجم حياة علماء هذه المدينة، وخاصة في كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التمبكتي وكتاب تاريخ السودان لعبد الرحمن السعدي.

علاقة علماء مساجد تمبكتو بالسلطة:

كانت طبقة العلماء في غربي إفريقيا بصفة عامة وتمبكتو بصفة خاصة تلي طبقة الملوك والأمراء من حيث النفوذ السياسي، لا سيما في عصر سلاطين مالي وصنغي، حيث كانوا يحظون باحترام الخاصة والعامة. ومن الأدلة على هذا زيارة آسكيا محمد سلطان صنغي للفقيه محمود أقيت في منزله واستقباله له بسفينة عند عودته من الحج. وكانت لهم شفاعة نافذة عند السلاطين حتى في الأمور التي تتعلق بمن أساء إلى السلطان أو دخل معه في حرب. وكان بعض السلاطين يصحب معه العلماء في المقابلات الرسمية لا سيما مقابلة الزوار من سلاطين المناطق المجاورة. ولم تكن علاقاتهم الوطيدة بالسلطة تجعلهم يتهاونون في خرق المبادئ والأخلاق الإسلامية. وكان تصديهم للسلطات المنحرفة يعرضهم أحيانًا إلى الخطر حتى الموت، ومثال ذلك أنه عندما شن سلطان مالي خلال الأعوام (869 - 898هـ، 1464 - 1492م) الحرب على الطوارق، عارضه العلماء، لأن الطوارق كانوا مسلمين، ولم يخرجوا عليه، فغضب من ذلك واستباح دماء العلماء وأفنى الكثير منهم.

وكانوا إذا دعت الضرورة يَعمدون إلى إغلاظ القول للسلاطين، إذا رأوا منهم انحرافًا عن مبدأ من مبادئ الإسلام، ومثال ذلك ما حدث بين أسكيا الحاج محمد ـ سلطان صنغي ـ والقاضي الفقيه الأستاذ محمود بن عمر أقيت، حين رد الأستاذ محمود رسل السلطان عن تمبكتو وحال بينهم وبين ما يريدون. وواجه الفقيه محمود بغيغ آسكيا إسحاق بقول: لو صدر عن أي فرد من غير العلماء لكان جزاؤه القتل، إذ وصفه بالظلم والغَصب، بل كان الجزاء على هذه الجرأة في قول الحق تعيينه قاضيًا على مدينة جني. وكان الفقيه محمود كعت ينصح لأسكيا داوود إذا خالف الآداب الإسلامية. وأسقط الأساكي (حكام دولة صنغي) عن العلماء وظائف للسلطنة وغراماتها، ومنعوا عنهم ظلم رجال الدولة. وكان للأسكيا وحده حق النظر في أية شكوى ضد عالم أو فقيه. وكانت للعلماء مواقف بطولية في الدفاع عن حقوق الرعية بالسيف والقلم، وماتوا في المعارك الحربية لهذا الهدف.

مكانة علماء تمبكتو الاجتماعية:

حظي علماء تمبكتو بمكانة اجتماعية رفيعة جعلتهم الزعماء الشعبيين المرموقين الذين لا يستغني أي حاكم عن مشورتهم في مصالح الناس وتقريبهم إليه ليضمن جانب الشعب. وهناك أمثلة كثيرة تدل على مكانتهم كقادة شعبيين، أبرزها موقفهم من الاحتلال المراكشي لدولة صنغي. فعندما قدم القائد المراكشي إلى تمبكتو هادن العلماء في البداية حتى بايعوا السلطان المراكشي، ولكن القائد عاد مرة أخرى إلى تمبكتو سنة 1002هـ، 1594م وادعى طلب تجديد البيعة للسلطان في مسجد سنكري. وعندما احتشدت الجموع، سُكِّرت الأبواب، ووقف الرّماة عليها وعلى سطح المسجد، وتم اعتقال صفوة العلماء الذين يُخشى بأسهم وأثرهم في مقاومة الاحتلال، وسيقوا إلى مراكش، وبخاصة أسرة أقيت العلمية المشهورة، حتى مات منهم من مات في الطريق لقسوة الرحلة.

ظروف العلماء المعيشية:

لم يكن هناك مبدأ ثابت حول تقدير أجور العلماء المدرسين. كان منهم من يقوم بالتدريس حِسْبةً، ومنهم من يتلقى جرايات وإعانات من ريع الأوقاف المحبوسة على المساجد التعليمية أو من أولياء أمور الطلاب.

وكان الحكام يمنحون المعلمين أْعطيات سخية، ومن ذلك أن أحد سلاطين دولة صنغي منح أحد الشيوخ المعلمين مزرعة أرز ليعيش من ريعها. واشتهر الأساكي: الحاج محمد وداوود وإسحاق بأُعطياتهم السخية، وشمل عطاء داوود الكتب العلمية. وكانت المناسبات الدينية والقومية فرصة كبرى لأن يحصل فيها العلماء على مكاسب مادية تعينهم على الحياة المعيشية.

وكان بعض العلماء يجمع بين التجارة والتعليم، ومثال ذلك العالم يحيى التادلي. وربما مُنح العلماء رواتب ثابتة في وقت ما، كما ذكر ليون الإفريقي (حسن الوزان).

برنامج الدراسة اليومي:

كانت الدروس تستمر في مساجد تمبكتو الرئيسية المذكورة النهار كله، لا تنقطع إلا في أوقات الصلوات والطعام. وكان بعض الأساتذة يدرسون بالليل على ضوء نيران الحطب. كان الفقيه محمد بغيغ ـ مثلاً ـ يُقرئ طلابه من صلاة الصبح إلى الضحى، ثم يقوم لبيته، ويصلي الظهر بالناس ثم يدرِّس إلى العصر، ثم يصلي العصر ويخرج إلى مكان آخر يدرِّس فيه إلى الاصفرار. ويدرِّس بعد المغرب في الجامع إلى العشاء، ثم يرجع إلى بيته.

ويبدو لنا أن نظام الدراسة هو الذي يجعل المعلم يكابد مثل هذه المشقة، فقد درج العلماء في ذلك الزمان على عدم إلزام الطلاب بالاشتراك في درس واحد من فن من الفنون، بل ترى العالم يدرس عشرة طلاب الألفية، فبعضهم يقرأ من أولها، وبعضهم من وسطها، وبعضهم الآخر من آخرها، ويلقي العالم لكل واحد منهم دراسة من موضعه الذي هو فيه. وهكذا في بقية الفنون.

أحوال التلاميذ العامة (الرعاية والإعاشة):

كان من بين الطلاب من يستطيع ذووه الإنفاق عليه ليتفرغ للتعليم، أما المعوزون فقد يتكفل بنفقتهم الحكام والأغنياء والعلماء. وكان من مناقب أسكيا الحاج محمد، حب العلماء والطلاب وكثرة الإنفاق عليهم. ولأسكيا داوود أياد بيضاء على فقراء التلاميذ، وكذلك ابنه يلمع الذي كان كأبيه وجده في سرعة الإنفاق على الطلاب.

وأوقفت إلى جانب هذا أوقاف معلومة على هذه المساجد التعليمية للإنفاق على الطلاب المنقطعين للعلم. ومن العلماء الذين اشتهروا بالإنفاق على فقراء الطلاب الفقيه أبو بكر المعروف بـ بابكر بير.

وكان لسراة المدن وتجارها دورهم البارز في مجال الإسهام في الإنفاق على الوافدين من الطلاب، فقد كانوا يرحبون بهم ويستضيفونهم في منازلهم. وكان بعض التلاميذ يشاركون في المناسبات الدينية أو الاجتماعية كالتأبين والمآتم والحفلات الدينية الأخرى، بقراءة القرآن، فتوزع عليهم الهدايا من أصحاب المناسبات أو القائمين على أمرها، كل على قدر طاقته المالية.

التبادل التعليمي بين معاهد تمبكتو ومعاهد البلدان الإسلامية الأخرى

مع المغرب وبلدان الصحراء الكبرى والأندلس:

كانت معاهد المغرب التعليمية أعرق من معاهد غربي إفريقيا، ولذا حرص طلاب العلم من غربي إفريقيا بالذات على طلب العلم فيها. وأسهم السلاطين في إرسال البعوث العلمية إلى هذه المعاهد، فتشير كتب التاريخ إلى أن السلـطان المالي منسا موسى أرسـل العالـم كاتــب موسـى ـ الإمام والمدرس بجامع تمبكتو ـ إلى فاس ليتلقى مزيدًا من العلوم الإسلامية. وعندما اشتهرت معاهد تمبكتو وفد عليها كثير من الطلاب من شتى بقاع غربي إفريقيا لتلقي العلم على مشايخها، منهم الفقيه مخلوف بن علي البلبالي. وعُرف العلماء الودانيون (نسبة إلى إقليم ودان) في معاهد تمبكتو، منهم سيدي أحمد الغزالي بن محمد بن محمد بن يعقوب الحاجي اليعقوبي الوداني، الذي تتلمذ على والد أحمد بابا التمبكتي. ووُجد علماء تمبكتويون ارتحلوا إلى ودان لنشر العلم، منهم سيدي إلياس، الذي أقام بودان وتزوج منها ومات ودفن بها.

وعندما زار ابن بطوطة دولة مالي في حوالي منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) التقى فيها بعدد من علماء شمالي إفريقيا المقيمين بمدنها ـ مثل تمبكتو ـ منهم محمد بن الفقيه الجزولي وصهره الفقيه المقرئ عبد الواحد.

وجذبت الحركة التعليمية في مساجد تمبكتو في العهد المالي بعض علماء الأندلس، أمثال علي بن أحمد بن محمد بن عبدالله الوادي آشي (ت 724هـ، 1323م) والد ابن الملقن التكروري (ت 804هـ ، 1401م)، صاحب كتاب طبقات الأولياء، ومارس عليٌّ التدريس، لا سيما تدريس اللغة العربية، ثم رحل إلى القاهرة، وأنجب فيها ابنه المعروف باسم ابن الملقن.

مع بلدان غربي إفريقيا المجاورة:

ذكرت المصادر أن أهم بعثة تعليمية جاءت من تمبكتو المالية إلى بلاد الهوسا والبرنو، هي البعثة الونغارية. وكان أفرادها من ركائز معاهد تمبكتو. وأخذ العلماء التمبكتويون منذ ذلك الحين يتوافدون على بلاد الهوسا والبرنو، أمثال الفقيه مخلوف البلبالي والتاذختي، ومنهم من أسس معهدًا تعليميًا في هذه المنطقة، مثل معهد الحنبليين في كاتسينا.

مع مصر والحجاز:

ساعد طريق الحج عبر مصر، والذي كان يمر به حجاج غربي إفريقيا، على التبادل الثقافي بين علماء معاهد تمبكتو وعلماء معاهد مصر. وعرف علماء غربي إفريقيا بصفة عامة وعلماء تمبكتو بصفة خاصة بالتكاررة أو التكارين أو الدكرور في البلاد المشرقية. فكان منهم من يقيم بمصر في طريق عودته من الحج ويمارس مهنة التعليم والتعلَّم، اشتهر منهم أبو محمد يوسف بن عبدالله التكروري الذي يُنسب إليه حي بولاق الدكرور، والشيخ راشد عبدالله التكروري (ت 796هـ، 1394م)، الذي كان من أعيان العلماء، وله جامع بمصر عُرف باسم جامع راشد عند بركة الحبش، والشيخ فاتح بن عثمان التكروري (ت 695هـ، 1293م)، الذي لازم أحد مساجد دمياط للتعليم والعبادة حتى عُرف باسمه (جامع فتح)، وغيرهم.

ومن مشاهير علماء تمبكتو الذين تبادلوا المدارسة مع فقهاء مصر: أحمد بن عمر أقيت ومحمود بن عمر أقيت والعاقب بن محمد محمود أقيت ووالد أحمد بابا ومحمد بفيع ومحمود كعت وصديق تعلي ومحمد التاذختي والعاقب الأنضمني، وغيرهم. وكان لطلاب العلم من غربي إفريقيا رواق بالأزهر، عُرف بـ رواق التكرور.

وأقام بعض طلاب العلم التمبكتويون بالحجاز، للدراسة والعبادة، لا سيما في المدينة المنورة. وأسهم سلاطين غربي إفريقيا في تغطية نفقات إقامتهم، ومثال ذلك أن الحاج أسكيا الحاج محمد، اشترى حدائق في المدينة ووقفها على أهل تكرور.

★ تَصَفح أيضًا: المسجد ؛ العمارة الإسلامية ؛ الآثار الإسلامية.

المصدر: الموسوعة العربية العالمية