→ ثم دخلت سنة خمس وتسعين | البداية والنهاية – الجزء التاسع وهذه ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي وذكر وفاته ابن كثير |
فصل خطبة الحجاج لأهل العراق ← |
هو الحجاج بن يوسف بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوزان، أبو محمد الثقفي.
سمع ابن عباس، وروى عن أنس، وسمرة بن جندب، وعبد الملك بن مروان، وأبي بردة بن أبي موسى.
وروى عنه أنس بن مالك، وثابت البناني، وحميد الطويل، ومالك بن دينار، وجواد بن مجالد، وقتيبة بن مسلم، وسعيد بن أبي عروبة. قاله ابن عساكر، قال: وكانت له بدمشق دور منها: دار الرواية بقرب قصر ابن أبي الحديد.
وولاه عبد الملك الحجاز فقتل ابن الزبير، ثم عزله عنها وولاه العراق.
وقدم دمشق وافدا على عبد الملك، ثم روى من طريق المغيرة بن مسلم، سمعت أبي يقول: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، وبيت الغربة، حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: «ما نظر رسول الله ﷺ إلى قبر أو ذكره إلا بكى». وهذا الحديث له شاهد في سنن أبي داود وغيره.
وساق من طريق أحمد بن عبد الجبار: ثنا يسار، عن جعفر، عن مالك بن دينار، قال: دخلت يوما على الحجاج فقال لي: يا أبا يحيى، ألا أحدثك بحديث حسن عن رسول الله ﷺ ! فقلت: بلى ! فقال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى. قال: قال رسول الله ﷺ: «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها في دبر صلاة مفروضة». وهذا الحديث له شاهد عن فضالة بن عبيد، وغيره في السنن والمسانيد، والله أعلم.
قال الشافعي: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة دخل على امرأته وهي تتخلل - أي: تخلل أسنانها لتخرج ما بينها من أذى - وكان ذلك في أول النهار، فقال: والله لئن كنت باكرت الغذاء إنك لرعينةٌ دنيَّةٌ، وإن كان الذي تخللين منه شيء بقي في فيك من البارحة إنك لقذرةٌ، فطلقها فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرة من السواك، فبقيت شظية في فمي منه فحاولتها لأخرجها. فقال المغيرة ليوسف أبي الحجاج: تزوجها فإنها لخليقة بأن تأتي برجل يسود، فتزوجها يوسف أبو الحجاج. قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير.
قال ابن خلكان: واسم أمه الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي، وكان زوجها الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب، وذكر عنه هذه الحكاية في السواك.
وذكر صاحب العقد أن الحجاج كان هو وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف، ثم قدم دمشق فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك، فشكا عبد الملك إلى روح أن الجيش لا ينزلون لنزوله ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجل توليه ذلك، فولى عبد الملك الحجاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون فضربهم وطوف بهم وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك، فقال للحجاج: لم صنعت هذا؟ فقال: لم أفعله إنما فعله أنت، فإن يدي يدك، وسوطي سوطك، وما ضرك إذا أعطيت روحا فسطاطين بدل فسطاطه، وبدل الغلام غلامين، ولا تكسرني في الذي وليتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجاج عنده.
قال: وبنى واسط في سنة أربع وثمانين، وفرغ منها في سنة ست وثمانين، وقيل: قبل ذلك.
قال: وفي أيامه نقّطت المصاحف.
وذكر في حكايته ما يدل أنه كان أولا يسمى: كليبا، ثم سمى: الحجاج.
وذكر أنه ولد ولا مخرج له حتى فتق له مخرج، وأنه لم يرتضع أياما حتى سقوه دم جدي ثم دم سالح، ولطّخ وجهه بدمه فارتضع، وكانت فيه شهامة وحب لسفك الدماء، لأنه أول ما ارتضع ذلك الدم الذي لطّخ به وجهه، ويقال: إن أمه هي المتمنية لنصر بن حجاج بن علاط، وقيل: إنها أم أبيه، والله أعلم.
وكانت فيه شهامة عظيمة، وفي سيفه رهق، وكان كثير قتل النفوس التي حرمها الله بأدنى شبهة، وكان يغضب غضب الملوك، وكان فيما يزعم يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشبه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضا، ولا سواء ولا قريب.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة سليم بن عنز التجيبي قاضي مصر، وكان من كبار التابعين، وكان ممن شهد خطبة عمر بن الخطاب بالجابية، وكان من الزهادة والعبادة على جانب عظيم، وكان يختم القرآن في كل ليلة ثلاث ختمات في الصلاة وغيرها.
والمقصود أن الحجاج كان مع أبيه بمصر في جامعها فاجتاز بهما سليم بن عنز هذا فنهض إليه أبو الحجاج فسلم عليه، وقال له: إني ذاهب إلى أمير المؤمنين، فهل من حاجة لك عنده؟ قال: نعم ! تسأله أن يعزلني عن القضاء. فقال: سبحان الله !! والله لا أعلم قاضيا اليوم خيرا منك. ثم رجع إلى ابنه الحجاج فقال له ابنه: يا أبت أتقوم إلى رجل من تجيب وأنت ثقفي؟ فقال له: يا بني، والله إني لأحسب أن الناس يرحمون بهذا وأمثاله. فقال: والله ما على أمير المؤمنين أضر من هذا وأمثاله، فقال: ولم يا بني؟ قال: لأن هذا وأمثاله يجتمع الناس إليهم، فيحدثونهم عن سيرة أبي بكر وعمر، فيحقر الناس سيرة أمير المؤمنين، ولا يرونها شيئا عند سيرتهما، فيخلعونه ويخرجون عليه ويبغضونه، ولا يرون طاعته، والله لو خلص لي من الأمر شيء لأضربن عنق هذا وأمثاله. فقال له أبوه: يا بني والله إني لأظن أن الله عزَّ و جلَّ خلقك شقيا. وهذا يدل على أن أباه كان ذا وجاهة عند الخليفة، وأنه كان ذا فراسة صحيحة، فإنه تفرس في ابنه ما آل إليه أمره بعد ذلك.
قالوا: وكان مولد الحجاج في سنة تسع وثلاثين، وقيل: في سنة أربعين، وقيل: في سنة إحدى وأربعين، ثم نشأ شابا لبيبا فصيحا بليغا حافظا للقرآن.
قال بعض السلف: كان الحجاج يقرأ القرآن كل ليلة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح منه ومن الحسن البصري، وكان الحسن أفصح منه.
وقال الدارقطني: ذكر سليمان بن أبي منيح، عن صالح بن سليمان، قال: قال عقبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.
وتقدم أن عبد الملك لما قتل مصعب بن الزبير سنة ثلاث وسبعين بعث الحجاج إلى أخيه عبد الله بمكة فحاصره بها، وأقام للناس الحج عامئذ، ولم يتمكن ومن معه من الطواف بالبيت، ولا تمكن ابن الزبير ومن عنده من الوقوف، ولم يزل محاصره حتى ظفر به في جمادى سنة ثلاث وسبعين، ثم استنابه عبد الملك على مكة والمدينة والطائف واليمن، ثم نقله إلى العراق بعد موت أخيه بشر، فدخل الكوفة كما ذكرنا، وقال لهم وفعل بهم ما تقدم إيراده مفصلا، فأقام بين ظهرانيهم عشرين سنة كاملة.
وفتح فيها فتوحات كثيرة، هائلة منتشرة، حتى وصلت خيوله إلى بلاد الهند والسند، ففتح فيها جملة مدن وأقاليم، ووصلت خيوله أيضا إلى قريب من بلاد الصين، وجرت له فصول قد ذكرناها. ونحن نورد هنا أشياء أخر مما وقع له من الأمور والجراءة والإقدام، والتهاون في الأمور العظام، مما يمدح على مثله ومما يذم بقوله وفعله، مما ساقه الحافظ ابن عساكر وغيره:
فروى أبو بكر بن أبي خيثمة، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن كثير، ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني، ما معناه: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة بجنب سعيد بن المسيب - وذلك قبل أن يلي شيئا - فجعل يرفع قبل الإمام ويقع قبله في السجود، فلما سلَّم أخذ سعيد بطرف ردائه - وكان له ذكر يقوله بعد الصلاة - فما زال الحجاج ينازعه رداءه حتى قضى سعيد ذكره، ثم أقبل عليه سعيد فقال له: يا سارق يا خائن، تصلي هذه الصلاة، لقد هممت أن أضرب بهذا النعل وجهك. فلم يرد عليه ثم مضى الحجاج إلى الحج، ثم رجع فعاد إلى الشام، ثم جاء نائبا على الحجاز.
فلما قتل ابن الزبير كرَّ راجعا إلى المدينة نائبا عليها، فلما دخل المسجد إذا مجلس سعيد بن المسيب، فقصده الحجاج فخشي الناس على سعيد منه، فجاء حتى جلس بين يديه فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ فضرب سعيد صدره بيده وقال: نعم ! قال: فجزاك الله من معلم ومؤدب خيرا ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك. ثم قام ومضى.
وروى الرياشي، عن الأصمعي وأبي زيد، عن معاذ بن العلاء، - أخي أبي عمرو بن العلاء - قال: لما قتل الحجاج ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد ثم صعد المنبر فقال بعد حمد الله والثناء عليه: يا أهل مكة ! بلغني إكباركم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من خيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فنزع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانع العصاة لمنعت آدم حرمة الله، إن الله خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، واسجد له ملائكته، وأباح له كرامته، وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم أكرم على الله من ابن الزبير والجنة أعظم حرمة من الكعبة، اذكروا الله يذكركم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، ثنا عون، عن أبي الصديق الناجي: أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر بعد ما قتل ابنها عبد الله فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل. فقالت: كذبت، كان برا بوالديه، صواما قواما، والله لقد أخبرنا رسول الله ﷺ: «أنه يخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما شرٌ من الأول، وهو مبير».
ورواه أبو يعلى، عن وهب بن بقية، عن خالد، عن عون، عن أبي الصديق. قال: بلغني أن الحجاج دخل على أسماء فذكر مثله.
وقال أبو يعلى: ثنا زهير، ثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن قيس بن الأحنف، عن أسماء بنت أبي بكر. قالت: سمعت رسول الله ﷺ نهى عن المثلة. وسمعته يقول: «يخرج من ثقيف رجلان كذاب ومبير». قالت: فقلت للحجاج: أما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو يا حجاج.
وقال عبيد بن حميد: أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ العوام بن حوشب، حدثني من سمع أسماء بنت أبي بكر الصديق، تقول للحجاج حين دخل عليها يعزيها في ابنها: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «يخرج من ثقيف رجلان مبير وكذاب». فأما الكذاب فابن أبي عبيد - تعني المختار - وأما المبير فأنت.
وتقدم في صحيح مسلم من وجه آخر أوردناه عند مقتل ابنها عبد الله، وقد رواه غير أسماء عن النبي ﷺ فقال أبو يعلى: ثنا أحمد بن عمر الوكيعي، ثنا وكيع، حدثتنا أم عراب، عن امرأة يقال لها: عقيلة، عن سلامة بنت الحر، قالت: قال رسول الله ﷺ: «في ثقيف كذاب ومبير». تفرد به أبو يعلى.
وقد روى الإمام أحمد: عن وكيع، عن أم عراب، - واسمها طلحة - عن عقيلة، عن سلامة، حديثا آخر في الصلاة، وأخرجه أبو داود وابن ماجه.
وروى من حديث ابن عمر، فقال أبو يعلى: ثنا أمية بن بسطام، ثنا يزيد بن ربيع، ثنا إسرائيل، ثنا عبد الله بن عصمة، قال: سمعت ابن عمر: «أنبأنا رسول الله ﷺ أن في ثقيف مبيرا وكذابا» وأخرجه الترمذي من حديث شريك، عن عبد الله بن عاصم، ويقال عصمة. وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك.
وقال الشافعي: ثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع: أن ابن عمر اعتزل ليالي قتال ابن الزبير والحجاج بمنى، فكان لا يصلي مع الحجاج.
وقال الثوري: عن محمد بن المنكدر، عن جابر: أنه دخل على الحجاج فلم يسلم عليه، ولم يكن يصلي وراءه.
وقال إسحاق بن راهويه: أنبأ جرير، عن القعقاع بن الصلت، قال: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير غيَّر كتاب الله، فقال ابن عمر: ما سلَّطه الله على ذلك، ولا أنت معه، ولو شئت أقول: كذبت لفعلت.
وروي عن شهر بن حوشب وغيره: أن الحجاج أطال الخطبة فجعل ابن عمر يقول: الصلاة الصلاة مرارا، ثم قام فأقام الصلاة فقام الناس، فصلى الحجاج بالناس، فلما انصرف قال لابن عمر: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنما نجيء للصلاة فصلِّ الصلاة لوقتها، ثم تفتق ما شئت بعد من تفتقه.
وقال الأصمعي: سمعت عمي يقول: بلغني أن الحجاج لما فرغ من ابن الزبير وقدم المدينة لقي شيخا خارجا من المدينة، فسأله عن حال أهل المدينة، فقال: بشرِّ حال، قتل ابن حواري رسول الله ﷺ، فقال الحجاج: ومن قتله؟ فقال: الفاجر اللعين الحجاج عليه لعائن الله وتهلكته، من قليل المراقبة لله، فغضب الحجاج غضبا شديدا، ثم قال: أيها الشيخ ! أتعرف الحجاج إذا رأيته؟ قال: نعم ! فلا عرفه الله خيرا ولا وقاه ضرا، فكشف الحجاج عن لثامه وقال: ستعلم أيها الشيخ الآن إذا سال دمك الساعة. فلما تحقق الشيخ الجد قال: والله إن هذا لهو العجب يا حجاج، لو كنت تعرفني ما قلت هذه المقالة، أنا العباس بن أبي داود، أصرع كل يوم خمس مرات، فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، ثنا حماد بن سلمة، عن ابن أبي رافع، عن عبد الله بن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك: أتمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأس من ذلك. قال: أشد الناس والله، قال: كيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير، قال: وكأنه كان نائما فأيقظه، فكتب إلى الحجاج يعزم عليه بطلاقها فطلقها.
وقال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج مرة فمر بين مكة والمدينة، فأتي بغذائه، فقال لحاجبه:
انظر من يأكل معي، فذهب فإذا أعرابي نائم فضربه برجله، وقال: أجب الأمير، فقام فلما دخل على الحجاج قال له: اغسل يديك ثم تغدَّ معي، فقال: إنه دعاني من هو خير منك، قال: ومن؟ قال: الله دعاني إلى الصوم فأجبته، قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حرا منه، قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء لغد. قال: ليس ذلك لي، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه؟ قال: إن طعامنا طعام طيب، قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، إنما طيبته العافية.