→ وهذه ترجمة عمر بن عبد العزيز الإمام المشهور رحمه الله | البداية والنهاية – الجزء التاسع فصل وقد كان منتظرا فيما يؤثر من الأخبار ابن كثير |
فصل حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة ← |
قال أبو داود الطيالسي، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، ثنا عبد الله ابن دينار، قال: قال ابن عمر: يا عجبا !! يزعم الناس أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر، قال: وكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر، فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأمه ابنة عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وقال البيهقي: أنبأ الحاكم، أنبأ أبو حامد بن علي المقري، ثنا أبو عيسى الترمذي، ثنا أحمد بن إبراهيم، ثنا عفان، ثنا عثمان بن عبد الحميد بن لاحق، عن جويرية بنت أسماء، عن نافع، قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: إن من ولدي رجلا بوجهه شجان يلي فيملأ الأرض عدلا. قال نافع من قبله: ولا أحسبه إلا عمر بن عبد العزيز.
ورواه مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن نافع، وقال: كان ابن عمر يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلا؟
قال وهيب بن الورد: بينما أنا نائم رأيت كأن رجلا دخل من باب بني شيبة وهو يقول: يا أيها الناس !ولي عليكم كتاب الله. فقلت: من؟ فأشار إلى ظفره، فإذا مكتوب عليه ع م ر، قال: فجاءت بيعة عمر بن عبد العزيز.
وقال بقية، عن عيسى بن أبي رزين، حدثني الخزاعي، عن عمر بن عبد العزيز، أنه رأى رسول الله ﷺ في روضة خضراء فقال له: «إنك ستلي أمر أمتي فزع عن الدم فزع عن الدم، فإن اسمك في الناس عمر بن عبد العزيز، واسمك عند الله جابر».
وقال أبو بكر بن المقري: ثنا أبو عروبة الحسين بن محمد بن مودود الحراني، ثنا أيوب بن محمد الوزان، ثنا ضمرة بن ربيعة، ثنا السري بن يحيى، عن رياح بن عبيدة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة وشيخ متوكئ على يده، فقلت في نفسي: إن هذا شيخ جاف، فلما صلى ودخل لحقته فقلت: أصلح الله الأمير من هذا الشيخ الذي أتكأته يدك؟ فقال: يا رياح رأيته قلت: نعم ! قال: ما أحسبك يا رياح إلا رجلا صالحا ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي أمر هذه الأمة وأني سأعدل فيها.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو عمير، ثنا ضمرة، عن علي بن خولة، عن أبي عنبس، قال: كنت جالسا مع خالد بن يزد بن معاوية فجاء شاب عليه مقطعات فأخذ بيد خالد، فقال: هل علينا من عين؟ فقال أبو عنبس: فقلت: عليكما من الله عين بصيرة، وأذن سميعة، قال: فترقرت عينا الفتى. فأرسل يده من يد خالد وولى، فقلت: من هذا؟ قال: هذا عمر بن عبد العزيز ابن أخي أمير المؤمنين، ولئن طالت بك حياة لترينه إمام هدى. قلت: قد كان عند خالد بن يزيد بن معاوية شيء جيد من أخبار الأوائل وأقوالهم، وكان ينظر في النجوم والطب.
وقد ذكرنا في ترجمة سليمان بن عبد الملك أنه لما حضرته الوفاة أراد أن يعهد إلى بعض أولاده، فصرفه وزيره الصالح رجاء بن حيوة عن ذلك، وما زال به حتى عهد إلى عمر بن عبد العزيز من بعده وصوب ذلك رجاء فكتب سليمان العهد في صحيفة وختمها ولم يشعر بذلك عمر ولا أحد من بني مروان سوى سليمان ورجاء، ثم أمر صاحب الشرطة بإحضار الأمراء ورؤوس الناس من بني مروان وغيرهم، فبايعوا سليمان على ما في الصحيفة المختومة، ثم انصرفوا، ثم لما مات الخليفة استدعاهم رجاء بن حيوة فبايعوا ثانية قبل أن يعلموا موت الخليفة، ثم فتحها فقرأها عليهم، فإذا فيها البيعة لعمر بن عبد العزيز، فأخذوه فأجلسوه على المنبر وبايعوه فانعقدت له البيعة.
وقد اختلف العلماء في مثل هذا الصنيع في الرجل يوصي الوصية في كتاب ويشهد على ما فيه من غير أن يقرأ على الشهود. ثم يشهدون على ما فيه فينفذ، فسوغ ذلك جماعات من أهل العلم، قال القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري: أجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم به جمهور أهل الحجاز، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله. وهو مذهب مالك ومحمد بن مسلمة المخزومي ومكحول، ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم، والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز، ومن وافقهم من فقهاء الشام.
وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد فيمن وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم.
وروى عن قتادة وعن سوار ابن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبري فيمن سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد كثير من أصحاب الحديث، منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه. قلت: وقد اعتنى به البخاري في صحيحه.
قال المعافى: وأبي ذلك جماعة من فقهاء العراق، منهم إبراهيم وحماد والحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، قال: وهو قول شيخنا أبي جعفر، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول، قال الجريري: وإلى القول الأول نذهب.
وتقدم أن عمر بن عبد العزيز لما رجع من جنازة سليمان أتى بمراكب الخلافة ليركبها فامتنع من ذلك وأنشأ يقول:
فلولا التقى ثم النهى خشية الردى * لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى * له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. قدموا إليَّ بغلتي، ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفية فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمنة، فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.
قالوا: ولما رجع من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرت الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتم مهموم، فقال له مولاه: مالك هكذا مغتما مهموما وليس هذا بوقت هذا؟ فقال: ويحك ومالي لا أغتم وليس أحد من أهل المشارق والمغارب من هذه الأمة إلا وهو يطالبني بحقه أن أؤديه إليه، كتب إليَّ في ذلك أو لم يكتب، طلبه مني أو لم يطلب.
قالوا: ثم إنه خير امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله.
وقال له رجل: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين، فأنشأ يقول:
قد جاء شغل شاغل * وعدلت عن طريق السلامة
ذهب الفراغ فلا فرا * غ لنا إلى يوم القيامة
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن سلام، عن سلام بن سليم، قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وكان أول خطبة خطبها حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما لا نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا أحدا، ولا يعرض فيما لا يعنيه.
فانقشع عنه الشعراء والخطباء وثبت معه الفقهاء والزهاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله.
وقال سفيان بن عيينة: لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاء بن حيوة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترون ما ابتليت به وما قد نزل بي، فما عندكم؟
فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخ أبا، والشاب أخا، والصغير ولدا، وبر أباك، وصل أخاك، وتعطف على ولدك.
وقال رجاء: ارض للناس ما ترضى لنفسك، وما كرهت أن يؤتى إليك فلا تأته إليهم، واعلم أنك أول خليفة تموت.
وقال سالم: اجعل الأمر واحدا وصم فيه عن شهوات الدنيا، واجعل آخر فطرك فيه الموت. فكأن قد.
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال غيره: خطب عمر بن عبد العزيز يوما الناس فقال - وقد خنقته العبرة -: أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدا ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمعرق له في الموت.
وقال في بعض خطبه: كم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن. فأحسنوا رحمكم الله من الدنيا الرحلة بأحسن ما يحضر بكم من النقلة، بينما ابن آدم في الدنيا ينافس قرير العين فيها يانع، إذ دعاه الله بقدره، ورماه بسهم حتفه، فسلبه أثارة دنياه، وصبر إلى قوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلا وتحزن طويلا.
وقال إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن مهاجر، قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ! إنه لا كتاب بعد القرآن، ولا نبي بعد محمد عليه السلام، وإني لست بقاض ولكني منفذ، وإني لست بمبتدع ولكني متبع، إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم إلا أن الإمام الظالم هو العاصي، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل. وفي رواية أنه قال فيها: وإني لست بخير من أحد منكم، ولكنني لأثقلكم حملا، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا هل أسمعت؟
وقال أحمد بن مروان، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني، ثنا محمد بن عبيد، ثنا إسحاق بن سليمان، عن شعيب بن صفوان، حدثني ابن لسعيد بن العاص، قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثا، ولم تتركوا سدىً، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانيا بباق، ونافدا بما لا نفاد له، وقليلا بكثير، وخوفا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيكون من بعدكم للباقين، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا، ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله. وفي رواية: وأيم الله إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله، ووضع كمه على وجهه فبكى حتى بل لحيته، فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن عبد العزيز، أنه رأى رسول الله ﷺ في النوم وهو يقول: «أدن يا عمر، فدنوت حتى خشيت أن أصيبه، فقال: إذا وليت فاعمل نحوا من عمل هذين، فإذا كهلان قد اكتنفاه، فقلت: ومن هذان؟ قال: هذا أبو بكر وهذا عمر».
وروينا أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر: اكتب لي سيرة عمر حتى أعمل بها، فقال له سالم: إنك لا تستطيع ذلك، قال: ولم؟ قال: إنك إن عملت بها كنت أفضل من عمر، لأنه كان يجد على الخير أعوانا وأنت لا تجد من يعينك على الخير.
وقد روى أنه كان نقش خاتمه لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وفي رواية آمنت بالله، وفي رواية الوفاء عزيز.
وقد جمع يوما رؤوس الناس فخطبهم فقال: إن فدك كانت بيد رسول الله ﷺ يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر وعمر كذلك، قال الأصمعي: وما أدري ما قال في عثمان، قال: ثم إن مروان أقطعها فحصل لي منها نصيب، ووهبني الوليد وسليمان نصيبهما، ولم يكن من مالي شيء أرده أغلى منها، وقد رددتها في بيت المال على ما كانت عليه في زمان رسول الله ﷺ. قال: فيئس الناس عند ذلك من المظالم، ثم أمر بأموال جماعة من بني أمية فردها إلى بيت المال وسماها أموال المظالم، فاستشفعوا إليه بالناس وتوسلوا إليه بعمته فاطمة بنت مروان فلم ينجع فيه شيء، وقال لهم: لتدعني وإلا ذهبت إلى مكة فنزلت عن هذا الأمر لأحق الناس به، وقال: والله لو أقمت فيكم خمسين عاما ما أقمت فيكم إلا ما أريد من العدل، وإني لأريد الأمر فما أنفذه إلا مع طمع من الدنيا حتى تسكن قلوبهم.
وقال الإمام أحمد، عن عبد الرزاق، عن أبيه، عن وهب بن منبه، أنه قال: إن كان في هذه الأمة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز، ونحو هذا قال قتادة وسعيد بن المسيب وغير واحد. وقال طاووس: هو مهدي وليس به، إنه لم يستكمل العدل كله، إذا كان المهدي ثبت على المسيء من إساءته، وزيد المحسن في إحسانه، سمح بالمال شديد على العمال رحيم بالمساكين.
وقال مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: الخلفاء أبو بكر والعمران، فقيل له: أبو بكر وعمر قد عرفناهما، فمن عمر الآخر؟ قال يوشك إن عشت أن تعرفه، يريد عمر بن عبد العزيز، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: هو أشج بني مروان.
وقال عباد السماك وكان يجالس سفيان الثوري: سمعت الثوري يقول: الخلفاء خمسة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز. وهكذا روي عن أبي بكر بن عياش والشافعي وغير واحد.
وأجمع العلماء قاطبة على أنه من أئمة العدل وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين. وذكره غير واحد في الأئمة الاثني عشر، الذين جاء فيهم الحديث الصحيح: «لا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يكون فيهم اثني عشر خليفة كلهم من قريش».
وقد اجتهد رحمه الله في مدة ولايته - مع قصرها - حتى رد المظالم وصرف إلى كل ذي حق حقه، وكان مناديه في كل يوم ينادي أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغني كلا من هؤلاء.
وقد اختلف العلماء أيهم أفضل هو أو معاوية بن أبي سفيان؟ ففضل بعضهم عمر لسيرته ومعدلته وزهده وعبادته، وفضل آخرون معاوية لسابقته وصحبته، حتى قال بعضهم: ليوم شهده معاوية من رسول الله ﷺ خير من عمر بن عبد العزيز وأيامه وأهل بيته.
وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها.
وقالت زوجته فاطمة: دخلت يوما عليه وهو جالس في مصلاه واضعا خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك؟ فقال: ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير، والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد ﷺ، فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت.
وقال ميمون بن مهران: ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة ثم قال لي: إذا جاءك كتاب مني على غير الحق فاضرب به الأرض.
وكتب إلى بعض عماله: إذا دعتك قدرتك على الناس إلى مظلمة، فاذكر قدرة الله عليك ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي إن للإسلام سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش أبينها لكم لتعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص. وذكره البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به.
وذكر الصولي: أن عمر كتب إلى بعض عماله: عليك بتقوى الله فإنها هي التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثاب إلا عليها، وإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل.
وقال: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه، ومن أكثر ذكر الموت اجتزأ من الدنيا باليسير.
وقال: من لم يعد كلامه من عمله كثرت خطاياه، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلحه.
وكلمه رجل يوما حتى أغضبه فهم به عمر ثم أمسك نفسه، ثم قال للرجل: أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدا؟ قم عافاك الله لا حاجة لن في مقاولتك.
وكان يقول: إن أحب الأمور إلى الله القصد في الجد، والعفو في المقدرة، والرفق في الولاية، وما رفق بعبد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة.
وخرج ابن له وهو صغير يلعب مع الغلمان فشجه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاؤوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا مريئة تقول: إنه ابني وإنه يتيم، فقال لها عمر: هوني عليك، ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان؟ قالت: لا ! قال: فاكتبوه في الذرية. فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟ فعل الله به وفعل، المرة الأخرى يشج ابنك ثانية. فقال: ويحك، إنه يتيم وقد أفزعتموه.
وقال مالك بن دينار: يقولون مالك زاهد، أي زهد عندي؟ إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز، أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها جملة.
قالوا: ولم يكن له سوى قميص واحد فكان إذا غسلوه جلس في المنزل حتى ييبس، وقد وقف مرة على راهب فقال له: ويحك عظني، فقال له: عليك بقول الشاعر:
تجرد من الدنيا فإنك إنما * خرجت إلى الدنيا وأنت مجرد
قال: وكان يعجبه ويكرره وعمل به حق العمل. قالوا: ودخل على امرأته يوما فسألها أن تقرضه درهما أو فلوسا يشتري له بها عنبا، فلم يجد عندها شيئا، فقالت له: أنت أمير المؤمنين وليس في خزانتك ما تشتري به عنبا؟ فقال: هذا أيسر من معالجة الأغلال والأنكال غدا في نار جهنم.
قالوا: وكان سراج بيته على ثلاث قصبات في رأسهن طين، قالوا: وبعث يوما غلامه ليشوي له لحمة فجاءه بها سريعا مشوية، فقال: أين شويتها؟ قال: في المطبخ، فقال: في مطبخ المسلمين؟ قال: نعم. فقال: كلها فإني لم أرزقها، هي رزقك.
وسخنوا له الماء في المطبخ العام فرد بدل ذلك بدرهم حطبا.
وقالت زوجته: ما جامع ولا احتلم وهو خليفة.
قالوا: وبلغ عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلام الأسود، أنه يحدث عن ثوبان، بحديث الحوض فبعث إليه فأحضره على البريد وقال له، كالمتوجع له: يا أبا سلام ما أردنا المشقة عليك، ولكن أردت أن تشافهني بالحديث مشافهة، فقال: سمعت ثوبان، يقول: قال رسول الله ﷺ: «حوضي ما بين عدن إلى عمان البلقاء ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وأكوابه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين، الشعث رؤوسا، الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم السدد». فقال عمر: لكني نكحت المتنعمات، فاطمة بنت عبد الملك، فلا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ألقى ثوبي حتى يتسخ.
قالوا: وكان له سراج يكتب عليه حوائجه، وسراج لبيت المال يكتب عليه مصالح المسلمين، لا يكتب على ضوئه لنفسه حرفا.
وكان يقرأ في المصحف كل يوم أول النهار، ولا يطيل القراءة، وكان له ثلاثمائة شرطي، وثلاثمائة حرسي، وأهدى له رجل من أهل بيته تفاحا فاشتمه ثم رده مع الرسول، وقال له: قل له قد بلغت محلها، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين إن رسول الله ﷺ كان يقبل الهدية، وهذا رجل من أهل بيتك، فقال: إن الهدية كانت لرسول الله ﷺ هدية، فأما نحن فهي لنا رشوة.
قالوا: وكان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار، وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين، فقالوا له: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك؟ فقال: لا أمنعهم حقا لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم.
وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم فاعتذر بأن معهم سلفا كثيرا من قبل ذلك، وقال يوما لرجل من ولد علي: إني لأستحي من الله أن تقف ببابي ولا يؤذن لك، وقال لآخر منهم: إني لأستحي من الله وأرغب بك أن أدنسك بالدنيا لما أكرمكم الله به.
وقال أيضا: كنا نحن وبنو عمنا بنو هاشم مرة لنا ومرة علينا، نلجأ إليهم ويلجئون إلينا، حتى طلعت شمس الرسالة فأكسدت كل نافق، وأخرست كل منافق، وأسكتت كل ناطق.
وقال أحمد بن مروان، ثنا أبو بكر ابن أخي خطاب، ثنا خالد بن خداش، ثنا حماد بن زيد، عن موسى بن أيمن الراعي - وكان يرعى الغنم لمحمد بن عيينة - قال: كانت الأسد والغنم والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب فقلت: إنا لله، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال: فحسبناه فوجدناه قد هلك في تلك الليلة.
ورواه غيره عن حماد فقال: كان يرعى الشاة بكرمان فذكر نحوه، وله شاهد من وجه آخر، ومن دعائه: اللهم إن رجالا أطاعوك فيما أمرتهم وانتهوا عما نهيتهم، اللهم وإن توفيقك إياهم كان قبل طاعتهم إياك، فوفقني.
ومنه: اللهم إن عمر ليس بأهل أن تناله رحمتك، ولكن رحمتك أهل أن تنال عمر.
وقال له رجل: أبقاك الله ما كان البقاء خيرا لك، فقال: هذا شيء قد فرغ منه، ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة، وتوفاك مع الأبرار.
وقال له رجل: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ فقال: أصبحت بطيئا بطينا، متلوثا بالخطايا، أتمنى على الله عز وجل.
ودخل عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زين، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك يا أمير المؤمنين كما قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسنَ وجوهٍ * كان للدر حسنُ وجهكَ زينا
قال: فأعرض عنه عمر.
وقال رجاء بن حيوة: سمرت عند عمر بن عبد العزيز ذات ليلة فعشى السراج فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أنبه هذا الغلام يصلحه؟ فقال: لا ! دعه ينام، لا أحب أن أجمع عليه عملين. فقلت: أفلا أقوم أصلحه؟ فقال: لا ! ليس من المروءة استخدام الضيف، ثم قام بنفسه فأصلحه وصب فيه زيتا ثم جاء وقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، وقال: أكثروا ذكر النعم فإن ذكرها شكرها. وقال: إنه ليمنعني من كثرة ذكرها مخافة المباهاة.
وبلغه أن رجلا من أصحابه توفي، فجاء إلى أهله ليعزيهم فيه، فصرخوا في وجهه بالبكاء عليه، فقال: مه، إن صاحبكم لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت، وإن صاحبكم هذا لم يسد شيئا من حفركم، وإنما سد حفرة نفسه، ألا وإن لكل امرئ منكم حفرة لابد والله أن يسدها، إن الله عز وجل لما خلق الدنيا حكم عليها بالخراب، وعلى أهلها بالفناء، وما امتلأت دار خبرة إلا امتلأت عبرة، ولا اجتمعوا إلا تفرقوا، حتى يكون الله هو الذي يرث الأرض ومن عليها، فمن كان منكم باكيا فليبك على نفسه، فإن الذي صار إليه صاحبكم كل الناس يصيرون إليه غدا.
وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي: يا أبا أيوب ! هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلقوا بنا فوالله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله، ينتظر ثواب الله.
وقال غيره: خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لأصحابه: قفوا حتى آتي قبور الأحبة: فأتاهم فجعل يبكي ويدعو، إذ هتف به التراب فقال: يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الأحبة؟ قال: قلت: وما فعلت بهم؟ قال: مزقت الأكفان، وأكلت اللحوم، وشدخت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ونزعت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والعضدين من المنكبين، والمنكبين من الصلب، والقدمين من الساقين، والساقين من الفخذين، والفخذين من الورك، والورك من الصلب. فلما أراد أن يذهب قال له: يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى؟ قال: وما هي؟ قال: تقوى الله والعمل الصالح.
وقال مرة لرجل من جلسائه: لقد أرقت الليلة مفكرا، قال: وفيم يا أمير المؤمنين؟ قال: في القبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره، وما صار إليه، لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته، ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام، وتخترق فيه الديدان، ويجري فيه الصديد، مع تغير الريح، وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح، ونقاء الثوب، قال: ثم شهق شهقةً خرَّ مغشيا عليه.
وقال مقاتل بن حيان: صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات: 24] فجعل يكررها وما يستطيع أن يتجاوزها.
وقالت امرأته فاطمة: ما رأيت أحدا أكثر صلاة وصياما منه، ولا أحدا أشد فَرَقا من ربه منه، كان يصلي العشاء ثم يجلس يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه فلا يزال يبكي حتى تغلبه عيناه، قالت: ولقد كان يكون معي في الفراش فيذكر الشيء من أمر الآخرة فينتفض كما ينتفض العصفور في الماء، ويجلس يبكي، فأطرح عليه اللحاف رحمة له، وأنا أقول: يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها.
وقال علي بن زيد: ما رأيت رجلين كأن النار لم تخلق إلا لهما مثل الحسن وعمر بن عبد العزيز.
وقال بعضهم: رأيته يبكي حتى بكى دما، قالوا: وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف: 54] الآية، ويقرأ { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتا وَهُمْ نَائِمُونَ } [الأعراف: 97] ونحو هذه الآيات، وكان يجتمع كل ليلة إليه أصحابه من الفقهاء فلا يذكرون إلا الموت والآخرة، ثم يبكون حتى كأن بينهم جنازة.
وقال أبو بكر الصولي: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بقول الشاعر:
فما تزود مما كان يجمعهُ * سوى حنوط غداة البين في خرقِ
وغير نفحة أعواد تشبُّ له * وقلَّ ذلك من زاد لمنطلق
بأيما بلد كانت منيته * إن لا يسرّ طائعا في قصدها يُسقِ
ونظر عمر بن عبد العزيز وهو في جنازة إلى قوم قد تلثموا من الغبار والشمس وانحازوا إلى الظل فبكى وأنشد:
من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فسوف يسكن يوما راغما جدثا
في قعر مظلمة غبراء موحشة * يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا
تجهزي بجهاز تبلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
هذه الأبيات ذكرها الآجري في أدب النقوس بزيادة فيها فقال: أخبرنا أبو بكر، أنبأنا أبو حفص عمر بن سعد القراطيسي، حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا، حدثني محمد بن صالح القرشي، أخبرني عمر بن الخطاب الأزدي، حدثني ابن لعبد الصمد بن عبد الأعلى بن أبي عمرة قال: أراد عمر بن عبد العزيز أن يبعثه رسولا إلى إليون طاغية الروم يدعوه إلى الإسلام، فقال له عبد الأعلى: يا أمير المؤمنين ! ائذن لي في بعض بنيَّ يخرج معي - وكان عبد الأعلى له عشرة من الذكور - فقال له: انظر من يخرج معك من ولدك. فقال: عبد الله، فقال له عمر: إني رأيت ابنك عبد الله يمشي مشية كرهتها منه ومقتّه عليها، وبلغني أنه يقول الشعر. فقال عبد الأعلى: أما مشيته تلك فغريزة فيه، وأما الشعر فإنما هو نواحة ينوح بها على نفسه، فقال له: مر عبد الله يأتيني وخذ معك غيره، فراح عبد الأعلى بابنه عبد الله إليه، فاستنشده فأنشده ذلك الشعر المتقدم:
تجهزي بجهاز بتلغين به * يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
ولا تكدي لمن يبقى وتفتقري * إن الردى وارث الباقي وما ورثا
واخشي حوادث صرف الدهر في مهل * واستيقظي لا تكوني كالذي بحثا
عن مدية كان فيها قطع مدته * فوافتْ الحرث موفورا كما حرثا
لا تأمني فجع دهرٍ مترفٍ ختلٍ * قد استوى عنده من طاب أو خبثا
يا رب ذي أملٍ فيه على وجلٍ * أضحى به آمنا أمسى وقد حدثا
من كان حين تصيب الشمس جبهته * أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته * فكيف يسكن يوما راغما جدثا
قفراء موحشة غبراء مظلمةٍ * يطيل تحت الثرى من قعرها اللبثا
وقد ذكرها ابن أبي الدنيا فعمر أنشدها عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان عمر يتمثل بها كثيرا ويبكي.
وقال الفضل بن عباس الحلبي: كان عمر بن عبد العزيز لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرئ لم يكن له * من الله في دار القرار نصيب
وزاد غيره معه بيتا حسنا وهو قوله:
فإن تُعجبْ الدنيا أناسا فإنها * متاعٌ قليلٌ والزوال قريب
ومن شعره الذي أنشده ابن الجوزي:
أنا ميت وعز من لا يموت * قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملكٌ يزيله الموت ملكا * إنما الملكُ ملكَ من لا يموت
وقال عبد الله بن المبارك: كان عمر بن عبد العزيز يقول:
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى * كما اغتر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ * وليلك نوم والردى لك لازمٌ
وسعيك فيما سوف تكره غبهُ * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
وقال محمد بن كثير: قال عمر بن عبد العزيز يلوم نفسه:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم * وكيف يطبق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرّقت * محاجر عينيك الدموع السواجم
أصبحت في النوم الطويل وقد دنت * إليك أمور مفظعات عظائم
وتكدح فيما سوف تكره غبه * كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فلا أنت في النوامِ يوما بسالمٍ * ولا أنت في الأيقاظ يقظان حازم
وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن فاطمة بنت عبد الملك قالت: انتبه عمر ذات ليلة وهو يقول: لقد رأيت الليلة رؤيا عجيبة، فقلت: أخبرني بها، فقال: حتى نصبح، فلما صلى بالمسلمين دخل فسألته فقال: رأيت كأني دفعت إلى أرض خضراء واسعة كأنها بساط أخضر وإذا فيها قصر كأنه الفضة فخرج منه خارج فنادى: أين محمد بن عبد الله؟ أين رسول الله؟ إذ أقبل رسول الله ﷺ، حتى دخل ذلك القصر، ثم خرج آخر فنادى: أين أبو بكر الصديق؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى: أين عمر بن الخطاب؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى: أين عثمان بن عفان؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى: أين علي بن أبي طالب؟ فأقبل فدخل، ثم خرج آخر فنادى: أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت فدخلت فجلست إلى جانب أبي عمر بن الخطاب، وهو عن يسار رسول الله ﷺ، وأبو بكر عن يمينه، وبينه وبين رسول الله ﷺ رجل، فقلت: لأبي: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم، ثم سمعت هاتفا يهتف بيني وبينه نور لا أراه، وهو يقول: يا عمر بن عبد العزيز تمسك بما أنت عليه، واثبت على ما أنت عليه، ثم كأنه أذن لي في الخروج فخرجت، فالتفت فإذا عثمان بن عفان، وهو خارج من القصر، وهو يقول: الحمد لله الذي نصرني ربي، وإذا علي في إثره وهو يقول: الحمد لله الذي غفر لي ربي.