→ ثم دخلت سنة خمس ومائة | البداية والنهاية – الجزء التاسع هو يزيد بن عبد الملك بن مروان ابن كثير |
خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان ← |
أبو خالد القرشي الأموي، أمير المؤمنين، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، قيل: إنها دفنت بقبر عاتكة فنسبت المحلة إليها، والله أعلم.
بويع له بالخلافة بعد عمر بن عبد العزيز في رجب من سنة إحدى ومائة بعهد من أخيه سليمان، أن يكون الخليفة بعد عمر بن عبد العزيز لخمس بقين من رجب.
قال محمد بن يحيى الذهلي: حدثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن برقان، حدثني الزهري، قال: كان لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، في عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلما ولي الخلافة معاوية ورث المسلم من الكافر، ولم يورث الكافر من المسلم، وأخذ بذلك الخلفاء من بعده، فلما قام عمر بن عبد العزيز راجع السُنَّة الأولى، وتبعه في ذلك يزيد بن عبد الملك، فلما قام هشام أخذ بسنة الخلفاء - يعني أنه ورث المسلم من الكافر -
وقال الوليد بن مسلم: عن ابن جابر، قال: بينما نحن عند مكحول إذ أقبل يزيد بن عبد الملك فهممنا أن نوسع له، فقال مكحول: دعوه يجلس حيث انتهى به المجلس يتعلم التواضع.
وقد كان يزيد هذا يكثر من مجالسة العلماء قبل أن يلي الخلافة، فلما ولي عزم على أن يتأسى بعمر بن عبد العزيز، فما تركه قرناء السوء، وحسنوا له الظلم.
قال حرملة: عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال: لما ولي يزيد بن عبد الملك قال: سيروا بسيرة عمر، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخا فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب.
وقد اتهمه بعضهم في الدين وليس بصحيح، إنما ذاك ولده الوليد بن يزيد، كما سيأتي، أما هذا فما كان به بأس.
وقد كتب إليه عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإني لا أراني إلا ملما بي، وما أرى الأمر إلا سيفضي إليك، فالله الله في أمة محمد، فإنك عما قليل ميت فتدع الدنيا إلى من لا يعذرك، والسلام.
وكتب يزيد بن عبد الملك إلى أخيه هشام: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد بلغه أنك استبطأت حياته وتمنيت وفاته ورمت الخلافة، وكتب في آخره:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم * متى مت ما الباغي علي بمخلد
منيته تجري لوقت وحتفه * يصادفه يوما على غير موعد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تهيأ لأخرى مثلها وكأن قد
فكتب إليه هشام: جعل الله يومي قبل يومك، وولدي قبل ولدك، فلا خير في العيش بعدك.
ولقد كان يزيد هذا يحب حظية من حظاياه يقال لها: حبابة - بتشديد الباء الأولى، والصحيح تخفيفها - واسمها عالية، وكانت جميلةً جدا، وكان قد اشتراها في زمن أخيه بأربعة آلاف دينار، من عثمان بن سهل بن حنيف، فقال له أخوه سليمان: لقد هممت أحجر على يديك، فباعها، فلما أفضت إليه الخلافة قالت له امرأته سعدة يوما: يا أمير المؤمنين، هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: نعم، حبابة، فبعثت امرأته فاشترتها له، ولبستها وصنعتها وأجلستها من وراء الستارة، وقالت له أيضا: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من أمر الدنيا شيء؟ قال: أو ما أخبرتك؟ فقالت: هذه حبابة - وأبرزتها له وأخلته بها وتركته وإياها - فحظيت الجارية عنده، وكذلك زوجته أيضا، فقال يوما: أشتهي أن أخلو بحبابة في قصر مدة من الدهر، لا يكون عندنا أحد، ففعل ذلك.
وجمع إليه في قصره ذلك حبابة، وليس عنده في أحد، وقد فرش له بأنواع الفرش والبسط الهائلة، والنعمة الكثيرة السابغة فبينما هو معها في ذلك القصر على أسر حال، وأنعم بال، وبين يديهما عنب يأكلان منه، إذ رماها بحبة عنب وهي تضحك فشرقت بها فماتت، فمكث أياما يقبلها ويرشفها وهي ميتة، حتى أنتنت وجيفت، فأمر بدفنها، فلما دفنها أقام أياما عندها على قبرها هائما، ثم رجع إلى المنزل ثم عاد إلى قبرها فوقف عليه وهو يقول:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا * فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
وكل خليل زارني فهو قاتل * من أجلك هذا هامة اليوم أو غد
ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه وكان مرضه بالسل. وذلك السواد سواد الأردن يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان من هذه السنة - أعني سنة خمس ومائة -
وكانت خلافته أربع سنين وشهرا على المشهور، وقيل: أقل من ذلك، وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة، وقيل: خمسا، وقيل: ستا، وقيل: ثمانيا، وقيل: تسعا وثلاثين، وقيل: أنه بلغ الأربعين، فالله أعلم.
وكان طويلا جسيما، أبيض مدور الوجه، أفقم الفم لم يشب.
وقيل: أنه مات بالجولان، وقيل: بحوران، وصلى عليه ابنه الوليد بن يزيد، وعمره خمس عشرة سنة، وقيل: بل صلى عليه أخوه هشام بن عبد الملك، وهو الخليفة بعده، وحمل على أعناق الرجال حتى دفن بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، وكان قد عهد بالأمر من بعده لأخيه هشام، ومن بعده لولده الوليد بن يزيد، فبايع الناس من بعده هشاما.