→ القاسم بن أبي بزة | البداية والنهاية – الجزء التاسع الزهري ابن كثير |
بلال بن سعد ← |
محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة، أبو بكر القرشي الزهري، أحد الأعلام من أئمة الإسلام، تابعي جليل، سمع غير واحد من التابعين وغيرهم.
روى الحافظ ابن عساكر، عن الزهري، قال: أصاب أهل المدينة جهد شديد فارتحلت إلى دمشق، وكان عندي عيال كثيرة.
فجئت جامعها فجلست في أعظم حلقة، فإذا رجل قد خرج من عند أمير المؤمنين عبد الملك، فقال: إنه قد نزل بأمير المؤمنين مسألة - وكان قد سمع من سعيد بن المسيب فيها شيئا، وقد شذَّ عنه في أمهات الأولاد يرويه عن عمر بن الخطاب -.
فقلت: إني أحفظ عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، فأخذني فأدخلني على عبد الملك: فسألني ممن أنت؟
فانتسبت له، وذكرت له حاجتي وعيالي، فسألني هل تحفظ القرآن؟
قلت: نعم، والفرائض والسنن.
فسألني عن ذلك كله فأجبته، فقضى ديني وأمر لي بجائزة، وقال لي: أطلب العلم فإني أرى لك عينا حافظةً وقلبا ذكيا.
قال: فرجعت إلى المدينة أطلب العلم وأتتبعه، فبلغني أن امرأة بقباء رأت رؤيا عجيبة، فأتيتها فسألتها عن ذلك.
فقالت: إن بعلي غاب وترك لنا خادما وداجنا ونخيلات، نشرب من لبنها، ونأكل من ثمرها، فبينما أنا بين النائمة واليقظى رأيت كأن ابني الكبير - وكان مشتدا - قد أقبل فأخذ الشفرة فذبح ولد الداجن، وقال: إن هذا يضيق علينا اللبن، ثم نصب القدر وقطعها ووضعها فيه، ثم أخذ الشفرة فذبح بها أخاه، وأخوه صغير كما قد جاء.
ثم استيقظت مذعورة، فدخل ولدي الكبير فقال: أين اللبن؟
فقلت: يا بني، شربه ولد الداجن.
فقال: إنه قد ضيق علينا اللبن، ثم أخذ الشفرة فذبحه وقطعه في القدر.
فبقيت مشفقة خائفة مما رأيت، فأخذت ولدي الصغير فغيبته في بعض بيوت الجيران، ثم أقبلت إلى المنزل وأنا مشفقة جدا مما رأيت.
فأخذتني عيني فنمت فرأيت في المنام قائلا يقول: مالك مغتمة؟
فقلت: إني رأيت مناما فأنا أحذر منه.
فقال: يا رؤيا يا رؤيا، فأقبلت امرأة حسناء جميلة، فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة؟ قالت: ما أدرت إلا خيرا.
ثم قال: يا أحلام يا أحلام، فأقبلت امرأة دونها في الحسن والجمال، فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة؟ فقالت: ما أردت إلا خيرا.
ثم قال: يا أضغاث يا أضغاث، فأقبلت امرأة سوداء شنيعة، فقال: ما أردت إلى هذه المرأة الصالحة؟ فقالت: إنها امرأة صالحة فأحببت أن أغمها ساعة.
ثم استيقظت فجاء ابني فوضع الطعام وقال: أين أخي؟ فقلت: درج إلى بيوت الجيران، فذهب وراءه فكأنما هدي إليه، فأقبل به يقبله، ثم جاء فوضعه وجلسنا جميعا فأكلنا من ذلك الطعام.
ولد الزهري في سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية، وكان قصيرا قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين.
قالوا: وقد قرأ القرآن في نحو من ثمان وثمانين يوما، وجالس سعيد بن المسيب ثمان سنين، تمس ركبته ركبته، وكان يخدم عبيد الله بن عبد الله يستسقي له الماء المالح، ويدور على مشايخ الحديث، ومعه ألواح يكتب عنهم فيها الحديث، ويكتب عنهم كل ما سمع منهم، حتى صار من أعلم الناس وأعملهم في زمانه، وقد احتاج أهل عصره إليه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدا من المسلمين.
وقال أبو إسحاق: كان الزهري يرجع من عند عروة فيقول لجارية عنده فيها لكنة: ثنا عروة، ثنا فلان، ويسرد عليها ما سمعه منه، فتقول له الجارية: والله ما أدري ما تقول، فيقول لها: اسكتي لكاع، فإني لا أريدك إنما أريد نفسي.
ثم وفد على عبد الملك بدمشق كما تقدم فأكرمه وقضى دينه وفرض له في بيت المال، ثم كان بعد من أصحابه وجلسائه، ثم كان كذلك عند أولاده من بعده، الوليد وسليمان، وكذا عند عمر بن عبد العزيز، وعند يزيد بن عبد الملك، واستقضاه يزيد مع سليمان بن حبيب، ثم كان حظيا عند هشام، وحج معه وجعله معلم أولاده إلى أن توفي في هذه السنة، قبل هشام بسنة.
وقال ابن وهب: سمعت الليث، يقول: قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته.
قال: وكان يكره أكل التفاح، وسؤر الفأرة، ويقول: إنه ينسي.
وكان يشرب العسل ويقول: إنه يذكي.
وفيه يقول فايد بن أقرم:
زر ذا وأثن على الكريم محمد * واذكر فواضله على الأصحاب
وإذا يقال من الجواد بماله * قيل: الجواد محمد بن شهاب
أهل المدائن يعرفون مكانه * وربيع ناديه على الأعراب
يشري وفاء جفانه ويمدها * بكسور إنتاج وفتق لباب
وقال ابن مهدي: سمعت مالكا، يقول: حدث الزهري يوما بحديث، فلما قام أخذت بلجام دابته فاستفهمته فقال: أتستفهمني؟ ما استفهمت عالما قط، ولا رددت على عالم قط، ثم جعل ابن مهدي يقول: فتلك الطوال وتلك المغازي.
وروى يعقوب بن سفيان، عن هشام بن خالد السلامي، عن الوليد بن مسلم، عن سعيد - يعني: ابن عبد العزيز -، أن هشام بن عبد الملك، سأل الزهري أن يكتب لبنيه شيئا من حديثه، فأملى على كاتبه أربعمائة حديث ثم خرج على أهل الحديث فحدثهم بها، ثم إن هشاما قال للزهري: إن ذلك الكتاب ضاع، فقال: لا عليك، فأملى عليهم تلك الأحاديث، فأخرج هشام الكتاب الأول فإذا هو لم يغادر حرفا واحدا، وإنما أراد هشام امتحان حفظه.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت أحدا أحسن سوقا للحديث إذا حدث من الزهري.
وقال سفيان بن عيينة: عن عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أنص للحديث من الزهري، ولا أهون من الدينار والدرهم عنده، وما الدراهم والدنانير عند الزهري إلا بمنزلة البعر.
قال عمرو بن دينار: ولقد جالست جابرا، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فما رأيت أحدا أسيق للحديث من الزهري.
وقال الإمام أحمد: أحسن الناس حديثا وأجودهم إسنادا الزهري.
وقال النسائي: أحسن الأسانيد الزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده علي، عن رسول الله ﷺ.
وقال سعيد، عن الزهري: مكثت خمسا وأربعين سنة اختلفت من الحجاز إلى الشام، ومن الشام إلى الحجاز، فما كنت أسمع حديثا استطرفه.
وقال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب، ولو سمعته يحدث في الترغيب والترهيب لقلت: ما يحسن غير هذا، وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن الأعراب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كان حديثه بدعا جامعا.
وكان يقول: اللهم إني أسألك من كل خير أحاط به علمك، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.
قال الليث: وكان الزهري أسخى من رأيت، يعطي كل من جاء وسأله، حتى إذا لم يبق عنده شيء استسلف.
وكان يطعم الناس الثريد، ويسقيهم العسل، وكان يستمر على شراب العسل كما يستمر أهل الشراب على شرابهم، ويقول: اسقونا وحدثونا، فإذا نعس أحدهم يقول له: ما أنت من سمار قريش.
وكانت له قبة معصفرة، وعليه ملحفة معصفرة، وتحته بساط معصفر.
وقال الليث: قال يحيى بن سعيد: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب.
وقال عبد الرزاق: أنبأ معمر، قال: قال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه، وكذا قال مكحول.
وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري، فقيل له: ولا الحسن؟ فقال: ما رأيت أعلم من الزهري.
وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: الزهري، قيل: ثم من؟ قال: الزهري، قيل: ثم من؟ قال: الزهري.
وقال مالك: كان الزهري إذا دخل المدينة لم يحدث بها أحدا حتى يخرج.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة: محدثوا أهل الحجاز ثلاثة: الزهري، ويحيى بن سعيد، وابن جريج.
وقال علي بن المديني: الذين أفتوا أربعة: الزهري، والحكم، وحماد، وقتادة، والزهري أفقههم عندي.
وقال الزهري: ثلاثة إذا كن في القاضي فليس بقاض: إذا كره الملاوم، وأحب المحامد، وكره العزل.
وقال أحمد بن صالح: كان يقال: فصحاء زمانهم: الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وموسى بن طلحة، وعبيد الله، رحمهم الله.
وقال مالك: عن الزهري، أنه قال: إن هذا العلم الذي أدب الله به رسول الله ﷺ، وأدب رسول الله به أمته أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علما فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين الله عز وجل.
وقال محمد بن الحسين: عن يونس، عن الزهري، قال: الاعتصام بالسنة نجاة.
وقال الوليد: عن الأوزاعي، عن الزهري، قال: أمرِّوا أحاديث رسول الله ﷺ كما جاءت.
وقال محمد بن إسحاق: عن الزهري: إن من غوائل العلم أن يترك العالم حتى يذهب علمه.
وفي رواية: أن يترك العالم العمل بالعلم حتى يذهب، فإن من غوائله قلة انتفاع العالم بعلمه، ومن غوائله النسيان والكذب، وهو أشد الغوائل.
وقال أبو زرعة: عن نعيم بن حماد، عن محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، قال: القراءة على العالم والسماع عليه سواء إن شاء الله تعالى.
وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، قال: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه حظ ونصيب.
وقد قضى عنه هشام مرة ثمانين ألف درهم، وفي رواية: سبعة عشرة ألفا، وفي رواية: عشرين ألفا.
وقال الشافعي: عتب رجاء بن حيوة على الزهري في الإسراف وكان يستدين، فقال له: لا آمن أن يحبس هؤلاء القوم ما بأيديهم عنك فتكون قد حملت على أمانيك، قال: فوعده الزهري أن يقصر، فمر به بعد ذلك وقد وضع الطعام ونصب موائد العسل، فوقف به رجاء وقال: يا أبا بكر ما هذا بالذي فارقتنا عليه، فقال له الزهري: انزل فإن السخي لا تؤدبه التجارب.
وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى:
له سحائب جود في أنامله * أمطارها الفضة البيضاء والذهب
يقول في العسر: إن أيسرت ثانية * أقصرت عن بعض ما أعطي وما أهب
حتى إذا عاد أيام اليسار له * رأيت أمواله في الناس تنتهب
وقال الواقدي: ولد الزهري سنة ثمان وخمسين، وقدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلاث بشعب زبدا، فأقام بها فمرض هناك ومات وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق، وكانت وفاته لسبع عشرة من رمضان في هذه السنة، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
قالوا: وكان ثقة كثير الحديث والعلم والرواية، فقيها جامعا.
وقال الحسين بن المتوكل العسقلاني: رأيت قبر الزهري بشعب زبدا من فلسطين مسنما مجصصا.
وقد وقف الأوزاعي يوما على قبره فقال:
يا قبر كم فيك من علم ومن حلم * يا قبر كم فيك من علم ومن كرم * وكم جمعت روايات وأحكاما.
وقال الزبير بن بكار: توفي الزهري بأمواله بشعب ثنين، ليلة الثلاثاء لسبع عشر ليلة خلت من رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، عن ثنتين وسبعين سنة، ودفن على قارعة الطريق ليدعو له المارة.
وقيل: إنه توفي سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقال أبو معشر: سنة خمس وعشرين ومائة، والصحيح الأول، والله أعلم.
وروى الطبراني، عن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، قال: أخبرني صالح بن كيسان، قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا: نحن نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي ﷺ، ثم قال لي: هلم فلنكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت: إنه ليس بسنة فلا تكتب، قال: فكتب ما جاء عنهم ولم أكتب، فأنحج وضيعت.
وروى الإمام أحمد: عن معمر، قال: كنا نرى أنا قد أكثرنا عن الزهري حتى قتل الوليد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزانته يقول: من علم الزهري.
وروي عن الليث بن سعد، قال: وضع الطست بين يدي ابن شهاب فتذكر حديثا فلم تزل يده في الطست حتى طلع الفجر، وصححه.
وروى أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، قال: للعلم واد فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى تغلب، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن بن زبالة، عن مالك بن أنس، عن الزهري، قال: خدمت عبيد الله بن عتبة، حتى أن كان خادمه ليخرج فيقول: من بالباب؟ فتقول الجارية: غلامك الأعيمش، فتظن أني غلامه، وإن كنت لأخدمه حتى أستقي له وضوءه.
وروى عبد الرحمن بن أحمد، عن محمد بن عباد، عن الثوري، عن مالك بن أنس، أراه عن الزهري، قال: تبعت سعيد بن المسيب ثلاثة أيام في طلب حديث.
وروى الأوزاعي، عن الزهري، قال: كنا نأتي العالم فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه.
وقال سفيان: كان الزهري، يقول: حدثني فلان، وكان من أوعية العلم، ولا يقول: كان عالما.
وقال مالك: أول من دون العلم ابن شهاب.
وقال أبو المليح: كان هشام هو الذي أكره الزهري على كتابة الحديث، فكان الناس يكتبون بعد ذلك.
وقال رشيد بن سعد: قال الزهري: العلم خزائن وتفتحها المسائل.
وقال الزهري: كان يصطاد العلم بالمسألة كما يصطاد الوحش.
وكان ابن شهاب ينزل بالأعراب يعلمهم لئلا ينسى العلم، وقال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة.
وقال: إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به.
وقال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إلي من الفصاحة.
وقال: العلم ذكرٌ لا يحبه إلا الذكور من الرجال ويكرهه مؤنثوهم.
ومر الزهري على أبي حازم وهو يقول: قال رسول الله ﷺ، فقال: مالي أرى أحاديث ليس لها خطم ولا أزمة؟
وقال: ما عبد الله بشيء أفضل من العلم.
وقال ابن مسلم أبي عاصم: حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، عن القاسم بن هزان، أنه سمع الزهري، يقول: لا يوثق الناس علم عالم لا يعمل به، ولا يؤمن بقول عالم لا يرضى.
وقال ضمرة: عن يونس، عن الزهري، قال: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها؟ قال: حبسها عن أهلها.
وروى الشافعي، عن الزهري، قال: حضور المجلس بلا نسخة ذل.
وروى الأصمعي، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، قال: جلست إلى ثعلبة بن أبي معين، فقال: أراك تحب العلم؟ قلت: نعم ! قال: فعليك بذاك الشيخ - يعني: سعيد بن المسيب - قال: فلزمت سعيدا سبع سنين ثم تحولت عنه إلى عروة ففجرت ثبج بحره.
وقال الليث: قال ابن شهاب: ما صبر أحد على علم صبري، وما نشره أحد قط نشري، فأما عروة بن الزبير فبئر لا تكدره الدلاء، وأما ابن المسيب فانتصب للناس فذهب اسمه كل مذهب.
وقال مكي بن عبدان: حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عبد الله الأوسي، حدثنا مالك بن أنس: أن ابن شهاب سأله بعض بني أمية عن سعيد بن المسيب فذكر علمه بخير وأخبره بحاله، فبلغ ذلك سعيدا فلما قدم ابن شهاب المدينة جاء فسلم على سعيد فلم يرد عليه ولم يكلمه، فلما انصرف سعيد مشى الزهري معه، فقال: مالي سلمت عليك فلم تكلمني؟ ماذا بلغك عني وما قلت إلا خيرا؟ قال له: ذكرتني لبني مروان.
قال أبو حاتم: حدثنا مكي بن عبدان، حدثنا محمد بن يحيى، حدثني عطاف بن خالد المخزومي، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة، عن ابن شهاب، قال: أصاب أهل المدينة حاجة زمان فتنة عبد الملك بن مروان، فعمت أهل البلد، وقد خيل إلي أنه قد أصابنا أهل البيت من ذلك ما لم يصب أحدا من أهل البلد، وذلك لخبرتي بأهلي، فتذكرت: هل من أحد أمتُّ إليه برحم أو مودة أرجو إن خرجت إليه أن أصيب عنده شيئا؟ فما علمت من أحد أخرج إليه.
ثم قلت: إن الرزق بيد الله عز وجل.
ثم خرجت حتى قدمت دمشق فوضعت رحلي ثم أتيت المسجد فنظرت إلى أعظم حلقة رأيتها وأكبرها فجلست فيها، فبينا نحن على ذلك إذ خرج رجل من عند أمير المؤمنين عبد الملك، كأجسم الرجال وأجملهم وأحسنهم هيئة، فجاء إلى المجلس الذي أنا فيه فتحثحثوا له - أي: أوسعوا - فجلس فقال: لقد جاء أمير المؤمنين اليوم كتاب ما جاءه مثله منذ استخلفه الله.
قالوا: ما هو؟
قال: كتب إليه عامله على المدينة هشام بن إسماعيل يذكر أن ابنا لمصعب بن الزبير من أم ولد مات، فأرادت أمه أن تأخذ ميراثا منه، فمنعها عروة بن الزبير، وزعم أنه لا ميراث لها، فتوهم أمير المؤمنين حديثا في ذلك سمعه من سعيد بن المسيب يذكر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في أمهات الأولاد، ولا يحفظه الآن، وقد شذ عنه ذلك الحديث.
قال ابن شهاب: فقلت: أنا أحدثه به، فقام إلي قبيصة حتى أخذ بيدي ثم خرج حتى دخل الدار على عبد الملك.
فقال: السلام عليك.
فقال له عبد الملك مجيبا: وعليك السلام.
فقال قبيصة: أندخل؟
فقال عبد الملك: ادخل.
فدخل قبيصة على عبد الملك وهو آخذا بيدي وقال: هذا يا أمير المؤمنين يحدثك بالحديث الذي سمعته من ابن المسيب في أمهات الأولاد.
فقال عبد الملك: إيه.
قال الزهري: فقلت: سمعت سعيد بن المسيب يذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمهات الأولاد أن يقوَّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل ثم يعتقن، فكتب عمر بذلك صدرا من خلافته.
ثم توفى رجل من قريش كان له ابن من أم ولد، وقد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمرَّ ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا ابن أخي في أمك؟ قال: فعلت يا أمير المؤمنين خيرا، خيروني بين أن يسترقُّوا أمي.
فقال عمر: أولست إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ ما أرى رأيا وما أمرت بأمر إلا قلتم فيه، ثم قام فجلس على المنبر فاجتمع الناس إليه حتى إذا رضي من جماعتهم قال: أيها الناس ! إني قد كنت أمرت في أمهات الأولاد بأمر قد علمتموه، ثم حدث رأي غير ذلك، فأيما امرئ كان عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات فهي حرة لا سبيل له عليها.
فقال لي عبد الملك: من أنت؟
قلت: أنا محمد بن مسلم بن عبيد بن شهاب.
فقال: أما والله إن كان أبوك لأبا نعَّارا في الفتنة مؤذيا لنا فيها.
قال الزهري: فقلت: يا أمير المؤمنين، قل كما قال العبد الصالح: { قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } [يوسف: 92] .
فقال: أجل ! لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم.
قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، افرض لي فإني منقطع من الديوان.
فقال: إن بلدك ما فرضنا فيه
لأحد منذ كان هذا الأمر، ثم نظر إلى قبيصة وأنا وهو قائمان بين يديه، فكأنه أومأ إليه أن افرض له، فقال: قد فرض إليك أمير المؤمنين.
فقلت: إني والله ما خرجت من عند أهلي إلا وهم في شدة وحاجة ما يعلمها إلا الله، وقد عمت الحاجة أهل البلد.
قال: قد وصلك أمير المؤمنين.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين وخادم يخدمنا، فإن أهلي ليس لهم خادم إلا أختي، فإنها الآن تعجن وتخبز وتطحن.
قال: قد أخدمك أمير المؤمنين.
وروى الأوزاعي، عن الزهري أنه روى رسول الله ﷺ، قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».
فقلت للزهري: ما هذا؟ فقال: من الله العلم، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم، أمرُّوا أحاديث رسول الله ﷺ كما جاءت.
وعن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، قال: كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها:
إن تقوى ربنا خير نَفَلْ * وبإذن الله ريثي والعجل
أحمد الله فلا ندَّ له * بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى * ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الزهري: دخلت على عبيد الله بن عبد الله بن عتبة منزله فإذا هو مغناظ ينفخ، فقلت: مالي أراك هكذا؟
فقال: دخلت على أميركم آنفا - يعني: عمر بن عبد العزيز - ومعه عبد الله بن عمرو بن عثمان فسلمت عليهما فلم يردا عليَّ السلام، فقلت:
لا تعجبا أن تؤتيا فتكلما * فما حشى الأقوام شرا من الكبر
ومسَّا تراب الأرض منه خلقتما * وفيها المعاد والمصير إلى الحشر
فقلت: يرحمك الله !! مثلك في فقهك وفضلك وسنك تقول الشعر؟!
فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
وجاء شيخ إلى الزهري فقال: حدثني، فقال: إنك لا تعرف اللغة، فقال الشيخ: لعلي أعرفها، فقال: فما تقول في قول الشاعر:
صريع ندامى يرفع الشرب رأسه * وقد مات منه كل عضو ومفصل؟
ما المفصل؟ قال: اللسان، قال: عد عليَّ أحدثك.
وكان الزهري يتمثل كثيرا بهذا:
ذهب الشباب فلا يعود جمانا * وكأن ما قد كان لم يك كانا
فطويت كفي يا جمان على العصا * وكفى جمان بطيِّها حدثانا
وكان نقش خاتم الزهري: محمد يسأل الله العافية.
وقيل لابن أخي الزهري: هل كان عمك يتطيب؟ قال: كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري.
وقال: استكثروا من شيء لا تمسه النار، قيل: وما هو؟ قال: المعروف.
وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له: أتعطي على كلام الشيطان؟ فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقال سفيان: سئل الزهري عن الزاهد، فقال: من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره.
وقال سفيان: قالوا للزهري: لو أنك الآن في آخر عمرك أقمت بالمدينة، فقعدت إلى مسجد رسول الله ﷺ، ودرجت وجلسنا إلى عمود من أعمدته فذكرت الناس وعلمتهم؟
فقال: لو أني فعلت ذلك لوطىء عقبي ولا ينبغي لي أن أفعل ذلك حتى أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة.
وكان الزهري يحدث: أنه هلك في جبال بيت المقدس بضعة وعشرون نبيا، ماتوا من الجوع والعمل.
كانوا لا يأكلون إلا ما عرفوا، و لا يلبسون إلا ما عرفوا.
وكان يقول: العبادة هي: الورع والزهد، والعلم هو: الحسنة، والصبر هو: احتمال المكاره، والدعوة إلى الله على العمل الصالح.
وممن توفي في خلافة هشام بن عبد الملك كما أورده ابن عساكر: