→ زهير بن قيس البلوي | البداية والنهاية – الجزء التاسع ثم دخلت سنة سبع وسبعين ابن كثير |
مقتل شبيب عند ابن الكلبي ← |
فيها أخرج الحجاج مقاتلة أهل الكوفة وكانوا أربعين ألفا، وانضاف عليهم عشرة آلاف، فصاروا خمسين ألفا، وأمر عليهم عتاب بن ورقاء وأمره أن يقصد لشبيب أين كان، وأن يصمم على قتاله - وكان قد اجتمع على شبيب ألف رجل - وأن لا يفعلوا كما كانوا يفعلون قبلها من الفرار والهزيمة. ولما بلغ شبيبا ما بعث به الحجاج إليه من العساكر والجنود، لم يعبأ بهم شيئا، بل قام في أصحابه خطيبا فوعظهم وذكرهم وحثهم على الصبر عند اللقاء ومناجزة الأعداء، ثم سار شبيب بأصحابه نحو عتاب بن ورقاء، فالتقيا في آخر النهار عند غروب الشمس، فأمر شبيب مؤذنه سلام بنى يسار الشيباني فأذن المغرب ثم صلى شبيب بأصحابه المغرب صلاة تامة الركوع والسجود، وصف عتاب، أصحابه - وكان قد خندق حوله وحول جيشه من أول النهار - فلما صلى شبيب بأصحابه المغرب انتظر حتى طلع القمر وأضاء ثم تأمل الميمنة والميسرة ثم حمل على أصحاب رايات عتاب وهو يقول: أنا شبيب أبو المدله لا حكم إلا لله فهزمهم وقتل أميرهم قبيصة بن والق وجماعة من الأمراء معه، ثم كر على الميمنة وعلى الميسرة ففرق شمل كل واحدة منهما، ثم قصد القلب فما زال حتى قتل الأمير عتاب بن ورقاء وزهرة بن جونة، وولى عامة الجيش مدبرين وداسوا الأمير عتاب، وزهرة فوطئته الخيل. وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي. ثم قال شبيب لأصحابه: لا تتبعوا منهزما، وانهزم جيش الحجاج عن بكرة أبيهم راجعين إلى الكوفة، وكان شبيب لما احتوى على المعسكر أخذ ممن بقي منهم البيعة له بالإمارة وقال لهم: إلى أي ساعة تهربون؟ ثم احتوى على ما في المعسكر من الأموال والحواصل، واستدعى بأخيه مصاد من المدائن، ثم قصد نحو الكوفة، وقد وفد إلى الحجاج سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ستة آلاف فارس ومعهما خلق من أهل الشام، فاستغنى الحجاج بهم عن نصرة أهل الكوفة، وقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، فلا يقاتلن معنا إلا من كان عاملا لنا، ومن لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء، وعزم الحجاج على قتال شبيب بنفسه وسار شبيب حتى بلغ الصراة، وخرج إليه الحجاج بمن معه من الشاميين وغيرهم، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج إلى شبيب وهو في ستمائة فخطب الحجاج أهل الشام وقال: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين لا يغلبن باطل هؤلاء الأراجس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، واستقبلوا بأطراف الأسنة، ففعلوا ذلك، وأقبل شبيب وقد عبى أصحابه ثلاث فرق، واحدة معه، وأخرى مع سويد بن سليم، وأخرى مع المجلل بن وائل. وأمر شبيب سويدا أن يحمل فحمل على جيش الحجاج فصبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة فانهزم عنهم، فنادى الحجاج: يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا، ثم أمر الحجاج فقدم كرسيه الذي هو جالس عليه إلى الأمام، ثم أمر شبيب المجلل أن يحمل فحمل فثبتوا له وقدم الحجاج كرسيه إلى أمام، ثم إن شبيبا حمل عليهم في كثيبته فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنة وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل في خيلك على أهل هذه السرية لعلك تزيل أهلها عنها فأت الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه.
فحمل فلم يفد ذلك شيئا وذلك أن الحجاج كان قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة فارس ردا له من ورائه لئلا يؤتوا من خلفهم، وكان الحجاج بصيرا بالحرب أيضا، فعند ذلك حرض شبيب أصحابه على الحملة وأمرهم بها ففهم ذلك الحجاج، فقال: يا أهل السمع والطاعة اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء والأرض ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويطعنون وهم مستظهرون على شبيب وأصحابه حتى ردوهم عن مواقفهم إلى ما ورائها، فنادى شبيب في أصحابه يا أولياء الله الأرض الأرض، ثم نزل ونزلوا ونادى الحجاج: يا أهل الشام يا أهل السمع والطاعة هذا أول النصر، والذي نفسي بيده وصعد مسجدا هنالك وجعل ينظر إلى الفريقين، ومع شبيب نحو عشرين رجلا معهم النبل، واقتتل الناس قتالا شديدا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد منهم لصاحبه، والحجاج ينظر إلى الفريقين من مكانه، ثم إن خالد بن عتاب، استأذن الحجاج في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج من خلفهم فأذن له، فانطلق في جماعة معه نحو من أربعة آلاف، فدخل عسكر الخوارج من روائهم فقتل مصادا أخا شبيب، وغزالة امرأة شبيب قتلها رجل يقال له فروة بن دقاق الكلبي، وخرق في جيش شبيب، ففرح بذلك الحجاج وأصحابه وكبروا، وانصرف شبيب وأصحابه كل منهم عل فرس، فأمر الحجاج أن ينطلقوا في طلبهم، فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس، ثم انطلق واتبعه الطلب فجعل ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه، ودنا منه الطلب فجعل بعض أصحابه ينهاه عن النعاس في هذه الساعة فجعل لا يكترث بهم. ويعود فيخفق رأسه فلما طال ذلك بعث الحجاج إلى أصحابه يقول: دعوه في حرق النار فتركوه ورجعوا.
ثم دخل الحجاج الكوفة فخطب الناس فقال في خطبته: إن شبيبا لم يهزم قبلها ثم قصد شبيب الكوفة فخرجت إليه سرية من جيش الحجاج فالتقوا يوم الأربعاء فلا زالوا يتقاتلون إلى يوم الجمعة وكان على سرية الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي في ألف معه، فحمل شبيب على الحارث ابن معاوية فكسره ومن معه، وقتل منهم طائفة، ودخل الناس الكوفة هاربين، وحصن الناس السكك فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج في طائفة من الجيش فقاتل حتى قتل، ثم هرب أصحابه ودخلوا الكوفة ثم خرج إليه أمير آخر فانكسر أيضا، ثم سار شبيب بأصحابه نحو السواد فمروا بعامل الحجاج على تلك البلاد فقتلوه، ثم خطب أصحابه وقال: اشتغلتم بالدنيا عن الآخرة، ثم رمى بالمال في الفرات، ثم سار بهم حتى افتتح بلادا كثيرة ولا يبرز له أحد إلا قتله، ثم خرج إليه بعض الأمراء الذين على بعض المدن فقال له: يا شبيب ابرز إلى وأبرز إليك، - وكان صديقه - فقال له شبيب: إني لا أحب قتلك، فقال له: لكني أحب قتلك فلا تغرنك نفسك وما تقدم من الوقائع، ثم حمل عليه فضربه شبيب على رأسه فهمس رأسه حتى اختلط دماغه بلحمه وعظمه، ثم كفنه ودفنه، ثم إن الحجاج أنفق أموالا كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه، وإنما سلط الله عليه موتا قدرا من غير صنعهم ولا صنعه. في هذه السنة.