→ فتح سمرقند | البداية والنهاية – الجزء التاسع أنس بن مالك ابن النضر بن ضمضم ابن كثير |
عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة ← |
بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة ويقال أبو ثمامة الأنصاري النجاري، خادم رسول الله (ﷺ) وصاحبه، وأمه أم حرام مليكة بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، زوجة أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري.
روى عن رسول الله (ﷺ) أحاديث جمة، وأخبر بعلوم مهمة، وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم.
وحدث عنه خلق من التابعين، قال أنس: قدم رسول الله (ﷺ) المدينة وأنا ابن عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، وقال محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة، قال: قيل لأنس أشهدت بدرا؟ فقال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك؟ قال الأنصاري: شهدها يخدم رسول الله (ﷺ). قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: لم يذكر ذلك أحد من أصحاب المغازي، قلت: الظاهر أنه إنما شهد ما بعد ذلك من المغازي، والله أعلم.
وقد ثبت أن أمه أتت به - وفي رواية عمه زوج أمه أبو طلحة إلى رسول الله (ﷺ) فقالت: يا رسول الله هذا أنس خادم لبيب يخدمك، فوهبته منه فقبله، وسألته أن يدعو له فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة». وثبت عنه أنه قال: كنَّاني رسول الله ﷺ بنخلة كنت أجتنيها.
وقد استعمله أبو بكر ثم عمر على عمالة البحرين وشكراه في ذلك، وقد انتقل بعد النبي (ﷺ) فسكن البصرة، وكان له بها أربع دور، وقد ناله أذى من جهة الحجاج، وذلك في فتنة ابن الأشعث، توهم الججاج منه أنه له مداخلة في الأمر، وأنه أفتى فيه، فختمه الحجاج في عنقه، هذا عنق الحجاج، وقد شكاه أنس كما قدمنا إلى عبد الملك، فكتب إلى الحجاج يعنفه، ففزع الحجاج من ذلك وصالح أنسا.
وقد وفد أنس على الوليد بن عبد الملك في أيام ولايته، قيل: في سنة ثنتين وتسعين، وهو يبني جامع دمشق، قال مكحول: رأيت أنسا يمشي في مسجد دمشق، فقمت إليه فسألته عن الوضوء من الجنازة، فقال: لا وضوء.
وقال الأوزاعي: حدثني إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، قال: قدم أنس على الوليد فقال له الوليد: ماذا سمعت من رسول الله (ﷺ) يذكر به الساعة؟ فقال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: «أنتم والساعة كهاتين».
ورواه عبد الرزاق بن عمر، عن إسماعيل قال: قدم أنس على الوليد في سنة ثنتين وتسعين، فذكره.
وقال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرف مما كان رسول الله (ﷺ) وأصحابه إلا هذه الصلاة، وقد صنعتم فيها ما صنعتم. وفي رواية: وهذه الصلاة قد ضيعت - يعني ما كان يفعله خلفاء بني أمية من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها الموسع - كانوا يواظبون على التأخير إلا عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته كما سيأتي.
وقال عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس. قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله (ﷺ) وأنا غلام، فقالت: يا رسول خويدمك أنيس فادع الله له. فقال: «اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة». قال: فقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة، وفي رواية قال أنس: فوالله إن مالي لكثير حتى نخلي وكرمي ليثمر في السنة مرتين، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة، وفي رواية: وإن ولدي لصلبي مائة وستة. ولهذا الحديث طرق كثيرة وألفاظ منتشرة جدا، وفي رواية قال أنس: وأخبرتني بنتي آمنة أنه دفن لصلبي إلى حين مقدم الحجاج عشرون ومائة، وقد تقصى ذلك بطرقه وأسانيده وأورد ألفاظه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أنس، وقد أوردنا طرفا من ذلك في كتاب دلائل النبوة في أواخر السيرة ولله الحمد.
وقال ثابت لأنس: هل مست يدك كف رسول الله (ﷺ)؟ قال: نعم ! قال: فأعطنيها أقبلها.
وقال محمد بن سعد، عن مسلم بن إبراهيم، عن المثنى بن سعيد الذراع، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: ما من ليلة إلا وأنا أرى فيها حبيبي رسول الله (ﷺ) ثم يبكي.
وقال محمد بن سعد، عن أبي نعيم، عن يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، قال: كان أنس صاحب نعل رسول الله (ﷺ) وإداوته.
وقال أبو داود: ثنا الحكم بن عطية، عن ثابت، عن أنس. قال: إني لأرجو أن ألقي رسول الله (ﷺ) فأقول: يا رسول الله خويدمك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، ثنا حرب بن ميمون، عن النضر بن أنس، عن أنس، قال: سألت رسول الله (ﷺ) أن يشفع لي يوم القيامة: «قال أنا فاعل، قلت: فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قلت: فإذا لم ألقك؟ قال فأنا عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فأنا عند الحوض لا أخطئ هذه الثلاثة المواطن يوم القيامة».
ورواه الترمذي وغيره من حديث حرب بن ميمون أبي الخطاب صاحب الأعمش الأنصاري به وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال شعبة، عن ثابت، قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله (ﷺ) من ابن أم سليم - يعني أنس بن مالك -
وقال ابن سيرين: كان أحسن الناس صلاة في الحضر والسفر.
وقال أنس: خذ مني فأنا أخذت من رسول الله (ﷺ) عن الله عز وجل، ولست تجد أوثق مني.
وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه، سمعت أنسا يقول: ما بقي أحدٌ صلى إلى القبلتين غيري.
وقال محمد بن سعد: حدثنا عفان، حدثني شيخ لنا يكنى أبا جناب، سمعت الحريري، يقول: أحرم أنس من ذات عرق فما سمعناه متكلما إلا بذكر الله عز وجل حتى أحل، فقال لي: يا ابن أخي هكذا الإحرام.
وقال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: دخل علينا أنس يوم الجمعة ونحن في بعض أبيات أزواج النبي (ﷺ) نتحدث فقال: مه، فلما أقيمت الصلاة قال: إني لأخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم: مه.
وقال ابن أبي الدنيا: ثنا بشار بن موسى الخفاف، ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، قال: كنت مع أنس فجاءت قهرمانة فقالت: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال: فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية فصلى ركعتين ثم دعا فرأيت السحاب يلتئم ثم أمطرت حتى خيِّل إلينا أنها ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال: انظر أين بلغت السماء، فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيرا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن معاذ، ثنا ابن عون، عن محمد، قال: كان أنس إذا حدث عن رسول الله (ﷺ) حديثا ففرغ منه قال: أو كما قال رسول الله (ﷺ).
وقال الأنصاري، عن ابن عوف، عن محمد، قال: بعث أمير من الأمراء إلى أنس شيئا من الفيء فقال: أخمس؟ قال: لا، فلم يقبله.
وقال النضر بن شداد، عن أبيه: مرض أنس، فقيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني.
وقال حنبل بن إسحاق: ثنا أبو عبد الله الرقاشي، ثنا جعفر بن سليمان، ثنا علي بن يزيد، قال: كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن الأشعث، فجاء أنس بن مالك، فقال الحجاج: هي يا خبيث جوال في الفتن، مرة مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث، أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما تجرد الضـب. قال: يقول أنس إياي يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج، فخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: لولا أني ذكرت ولدي - وفي رواية لولا أني ذكرت أولادي الصغار - وخفته عليهم ما باليت أي قتل أقتل، ولكلمته بكلام في مقامي هذا لا يتسخفني بعده أبدا.
وقد ذكر أبو بكر بن عياش: أن أنسا بعث إلى عبد الملك يشكو إليه الحجاج ويقول: والله لو أن اليهود والنصارى رأوا من خدم نبيهم لأكرموه، وأنا قد خدمت رسول الله (ﷺ) عشر سنين.
كتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا فيه كلام جد وفيه: إذا جاءك كتابي هذا فقم إلى أبي حمزة فترضّاه، وقبل يده ورجله، وإلا حل بك مني ما تستحقه.
فلما جاء كتاب عبد الملك إلى الحجاج بالغلظة والشدة، همَّ أن ينهض إليه فأشار عليه إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، الذي قدم بالكتاب أن لا يذهب إلى أنس، وأشار على أنس أن يبادر إلى الحجاج بالمصالحة - وكان إسماعيل صديق الحجاج - فجاء أنس فقام إليه الحجاج يتلقاه، وقال: إنما مثلي ومثلك إياك أعني واسمعي يا جارة. أردت أن لا يبقى لأحد علي منطق.
وقال ابن قتيبة: كتب عبد الملك إلى الحجاج - لما قال لأنس ما قال -: يا ابن المستقرمة بعجم الزبيب لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها إلى نار جهنم، قاتلك الله أخيفش العينين، أفيتل الرجلين، أسود العاجزين - ومعنى قوله المستقرمة عجم الزبيب - أي: تضيق فرجها عند الجماع به، ومعنى أركلك أي: أرفسك برجلي، وسيأتي بسط ذلك في ترجمة الحجاج في سنة خمس وتسعين.
وقال أحمد بن صالح العجلي: لم يبتل أحد من الصحابة إلا رجلين، معيقيب كان به الجذام، وأنس بن مالك كان به وضح.
وقال الحميدي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال: رأيت أنسا يأكل فرأيته يلقم لقما عظاما، رأيت به وضحا شديدا.
وقال أبو يعلى: ثنا عبد الله بن معاذ بن يزيد، عن أيوب، قال: ضعف أنس عن الصوم فصنع طعاما ودعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. وذكره البخاري تعليقا.
وقال شعبة، عن موسى السنبلاوي، قلت لأنس: أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله (ﷺ)؟ قال: قد بقي قوم من الأعراب، فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي.
وقيل له في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا؟ فقال: الطبيب أمرضني، وجعل يقول: لقِّنوني لا إله إلا الله وهو محتضر، فلم يزل يقولها حتى قبض.
وكانت عنده عصية من رسول الله (ﷺ) فأمر بها فدفنت معه.
قال عمر بن شبة وغير واحد: مات وله مائة وسبع سنين.
وقال الإمام أحمد في مسنده: ثنا معتمر بن سليمان، عن حميد: أن أنسا عمّر مائة سنة غير سنة.
قال الواقدي: وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وكذا قال علي بن المديني والفلاس وغير واحد.
وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته، فقيل: سنة تسعين، وقيل: إحدى وتسعين، وقيل: ثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وهذا هو المشهور وعليه الجمهور، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثني أبو نعيم، قال: توفي أنس بن مالك وجابر بن زيد في جمعة واحدة، سنة ثلاث وتسعين.
وقال قتادة: لما مات أنس قال مؤرق العجلي: ذهب اليوم نصف العلم، قيل له: وكيف ذاك يا أبا المعتمر؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفونا في الحديث عن رسول الله (ﷺ) قلنا: لهم تعالوا إلى من سمعه منه.