→ ثم دخلت سنة خمس وعشرين ومائة | البداية والنهاية – الجزء التاسع ذكر وفاته وترجمته رحمه الله ابن كثير |
الجزء العاشر ← |
هو هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي، أمير المؤمنين.
وأمه أم هشام بنت هشام بن إسماعيل المخزومي، وكانت داره بدمشق عند باب الخواصين، وبعضها اليوم مدرسة نور الدين الشهيد التي يقال لها: النورية الكبيرة، وتعرف بدار القبابين - يعني: الذين يبيعون القباب وهي الخيام - فكانت تلك المحلة داره، والله أعلم.
وقد بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك بعهد منه إليه، وذلك يوم الجمعة لأربع بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وكان له من العمر يومئذ أربع وثلاثون سنة.
وكان جميلا أبيض أحول يخضب بالسواد، وهو الرابع من ولد عبد الملك الذين ولوا الخلافة، وقد كان عبد الملك رأى في المنام كأنه بال في المحراب أربع مرات، فدسَّ إلى سعيد بن المسيب من سأله عنها ففسرها له بأنه يلي الخلافة من ولده أربعة، فوقع ذلك، فكان هشام آخرهم، وكان في خلافته حازم الرأي جمَّاعا للأموال يبخل، وكان ذكيا مدبرا له بصر بالأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة.
شتم مرة رجلا من الأشراف فقال: أتشتمني وأنت خليفة الله في الأرض؟
فاستحيا وقال: اقتص مني بدلها أو قال: بمثلها.
قال: إذا أكون سفيها مثلك.
قال: فخذ عوضا.
قال: لا أفعل.
قال: فاتركها لله.
قال: هي لله ثم لك.
فقال هشام عند ذلك: والله لا أعود إلى مثلها.
وقال الأصمعي: أسمع رجل هشاما كلاما فقال له: أتقول لي مثل هذا وأنا خليفتك؟
وغضب مرة على رجل فقال له: اسكت وإلا ضربتك سوطا.
وكان علي بن الحسين قد اقترض من مروان بن الحكم مالا أربعة آلاف دينار، فلم يتعرض له أحد من بني مروان، حتى استخلف هشام فقال: ما فعل حقنا قبلك؟
قال: موفور مشكور.
فقال: هو لك.
قلت: هذا الكلام فيه نظر، وذلك أن علي بن الحسين مات سنة الفقهاء، وهي سنة أربع وتسعين، قبل أن يلي هشام الخلافة بإحدى عشرة سنة، فإنه إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة، فقول المؤلف: إن أحدا من خلفاء بني مروان لم يتعرض لمطالبة علي بن الحسين حتى ولي هشام فطالبه بالمال المذكور، فيه نظر، ولا يصح لتقدم موت علي على خلافة هشام، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان هشام من أكره الناس لسفك الدماء، ولقد دخل عليه من مقتل زيد بن علي وابنه يحيى أمر شديد وقال: وددت أني افتديهما بجميع ما أملك.
وقال المدائني، عن رجل من حيي، عن بشر مولى هشام، قال: أتى هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه وقرنه، فبكى الشيخ، قال بشر: فضربه، قال: أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لاحتقارك البربط حتى سميته طنبورا.
وأغلظ لهشام رجل يوما في الكلام فقال: ليس لك أن تقول هذا لإمامك.
وتفقد أحد ولده يوم الجمعة فبعث إليه: مالك لم تشهد الجمعة؟
فقال: إن بغلتي عجزت عني، فبعث إليه: أما كان يمكنك المشي، ومنعه أن يركب سنة، وأن يشهد الجمعة ماشيا.
وذكر المدائني: أن رجلا أهدى إلى هشام طيرين، فأوردهما السفير إلى هشام، وهو جالس على سرير في وسط داره، فقال له: أرسلهما في الدار، فأرسلهما، ثم قال: جائزتي يا أمير المؤمنين، فقال: ويحك ! وما جائزتك على هدية طيرين؟ خذ أحدهما، فجعل الرجل يسعى خلف أحدهما، فقال: ويحك ! ما بالك؟ فقال: أختار أجودهما، قال: وتختار أيضا الجيد وتترك الرديء؟ ثم أمر له بأربعين أو خمسين درهما.
وذكر المدائني، عن محرم، كاتب يوسف بن عمر، قال: بعثني يوسف إلى هشام بياقوتة حمراء ولؤلؤة كانتا لرابعة، جارية خالد بن عبد الله القسري، مشترى الياقوتة ثلاثة وسبعون ألف دينار، قال: فدخلت عليه وهو على سرير فوقه فرش لم أر رأس هشام من علو تلك الفرش، فأريتها له، فقال: كم زنتها؟
فقلت: إن مثل هذه لا مثل لها، فسكت.
قالوا: ورأى قوما يفرطون الزيتون، فقالوا: القطوه لقطا ولا تنفضوه نفضا، فتفقأ عيونه وتكسر غصونه.
وكان يقول: ثلاثة لا يضعن الشريف: تعاهد الصنيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل.
وقال أبو بكر الخرائطي: يقال إن هشاما لم يقل من الشعر سوى هذا البيت:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى * إلى كل ما فيه عليك مقال
وقد روي له الشعر غير هذا.
وقال المدائني: عن ابن يسار الأعرجي، حدثني ابن أبي بجيلة، عن عقال بن شبة، قال: دخلت على هشام وعليه قباء فتك أخضر، فوجهني إلى خراسان، ثم جعل يوصيني وأنا انظر إلى القباء، ففطن فقال: مالك؟
قلت: عليك قباء فتك أخضر، وكنت رأيت عليك مثله قبل أن تلي الخلافة، فجعلت أتأمل هذا هو ذاك أم غيره.
قال: والله الذي لا إله غيره هو ذاك، مالي قباء غيره، وما ترون من جمعي لهذا المال وصونه إلا لكم.
قال عقال: وكان هشام محشوا بخلا.
وقال عبد الله بن علي عم السفاح: جمعت دواوين بني أمية فلم أر أصلح للعامة والسلطان من ديوان هشام.
وقال المدائني: عن هشام بن عبد الحميد: لم يكن أحد من بني مروان أشد نظرا في أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عنهم من هشام، وهو الذي قتل غيلان القدري، ولما أحضر بين يديه قال له: ويحك ! قل ما عندك، إن كان حقا اتبعناه، وإن كان باطلا رجعت عنه.
فناظره ميمون بن مهران فقال لميمون أشياء فقال له: أيعصي الله كارها؟
فسكت غيلان فقيَّده حينئذ هشام وقتله.
وقال الأصمعي: عن أبي الزناد، عن منذر بن أبي، وقال: أصبنا في خزائن هشام اثني عشر ألف قميص كلها قد أثر بها.
وشكى هشام إلى أبيه ثلاثا: إحداها: أنه يهاب الصعود إلى المنبر، والثانية: قلة تناول الطعام، والثالثة: أن عنده في القصر مائة جارية من حسان النساء لا يكاد يصل إلى واحدة منهن.
فكتب إليه أبوه: أما صعودك إلى المنبر: فإذا علوت فوقه فارم ببصرك إلى مؤخر الناس فإنه أهون عليك، وأما قلة الطعام: فمر الطباخ فليكثر الألوان فعلك أن تتناول من كل لون لقمة، وعليك بكل بيضاء بضَّة، ذات جمال وحسن.
وقال أبو عبد الله الشافعي: لما بنى هشام بن عبد الملك الرصافة قال: أحب أن أخلو بها يوما لا يأتيني فيه خبر غم، فما انتصف النهار حتى أتته ريشة دم من بعض الثغور، فقال: ولا يوما واحدا؟!
وقال سفيان بن عيينة: كان هشام لا يكتب إليه بكتاب فيه ذكر الموت.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، ثنا حسين بن زيد، عن شهاب بن عبد ربه، عن عمر بن علي، قال: مشيت مع محمد بن علي - يعني: ابن الحسين بن علي بن أبي طالب - إلى داره عند الحمام فقلت له: إنه قد طال ملك هشام وسلطانه، وقد قرب من العشرين سنة، وقد زعم الناس أن سليمان سأل ربه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فزعم الناس أنها العشرون.
فقال: ما أدري ما أحاديث الناس، ولكن أبي حدثني، عن أبيه، عن علي، عن النبي ﷺ، قال: «لن يعمِّر الله ملكا في أمة نبي مضى قبله ما بلغ ذلك النبي من العمر في أمته، فإن الله عمَّر نبيه ﷺ ثلاث عشر سنة بمكة وعشرا في بالمدينة».
وقال ابن أبي خيثمة: ليس حديث فيه توقيت غير هذا، قرأه يحيى بن معين على كتابي، فقال: من حدثك به؟ فقلت: إبراهيم، فتلهف أن لا يكون سمعه، وقد رواه ابن جرير في تاريخه، عن أحمد بن زهير، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي.
وروى مسلم بن إبراهيم، ثنا القاسم بن الفضل، حدثني عباد بن المعرا الفتكي، عن عاصم بن المنذر بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، أنه سمع عليا، يقول: هلاك ملك بني أمية على رجل أحول - يعني: هشاما -.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا، عن عمر بن أبي معاذ النميري، عن أبيه، عن عمرو بن كليع، عن سالم كاتب هشام بن عبد الملك، قال: خرج علينا يوما هشام وعليه كآبة وقد ظهر عليه الحزن، فاستدعى الأبرش بن الوليد فجاءه فقال: يا أمير المؤمنين مالي أراك هكذا؟
فقال: مالي لا أكون وقد زعم أهل العلم بالنجوم أني أموت إلى ثلاث وثلاثين من يومي هذا.
قال: فكتبنا ذلك، فلما كان آخر ليلة من ذلك جاءني رسوله في الليل يقول: أحضر معك دواء للذبحة.
وكان قد أصابته قبل ذلك فاستعمل منه فعوفي، فذهبت إليه ومعي ذلك الدواء فتناوله وهو في وجع شديد، واستمر فيه عامة الليل.
ثم قال: يا سالم اذهب إلى منزلك فقد وجدت خفة وذر الدواء عندي.
فذهبت فما هو إلا أن وصلت إلى منزلي حتى سمعت الصياح عليه فجئت فإذا هو قد مات.
وذكر غيره: أن هشاما نظر إلى أولاد وهم يبكون حوله فقال: جاد لكم هشام بالدنيا، وجدتم عليه بالبكاء، وترك لكم ما جمع، وتركتم له ما كسب، ما أسوأ منقلب هشام إن لم يغفر الله له.
ولما مات جاءت الخزنة فختموا على حواصله وأرادوا تسخين الماء فلم يقدروا له على فحم حتى استعاروا له.
وكان نقش خاتمه: الحكم للحكم الحكيم.
وكانت وفاته بالرصافة يوم الأربعاء لست بقين من ربيع الآخر، سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة، وقيل: إنه جاوز الستين، وصلى عليه الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الذي ولي الخلافة بعده.
وكانت خلافة هشام تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحد عشر يوما، وقيل: وثمانية أشهر وأيام، فالله أعلم.
وقال ابن أبي فديك: ثنا عبد الملك بن زيد، عن مصعب، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ، قال: «ترفع زينة الدنيا سنة خمس وعشرين ومائة».
قال ابن أبي فديك: زينتها نور الإسلام وبهجته.
وقال غيره: - يعني: الرجال -، والله أعلم.
قلت: لما مات هشام بن عبد الملك مات ملك بني أمية، وتولى وأدبر أمر الجهاد في سبيل الله، واضطرب أمرهم جدا، وإن كانت قد تأخرت أيامهم بعده نحوا من سبع سنين، ولكن في اختلاف وهيج، ومازالوا كذلك حتى خرجت عليهم بنو العباس فاستلبوهم نعمتهم وملكهم، وقتلوا منهم خلقا وسلبوهم الخلافة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ذلك، مبسوطا مقدرا في مواضع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(بحمد الله تعالى قد تم الجزء التاسع من البداية والنهاية ويليه الجزء العاشر.)