→ كتاب الطهارة (مسألة 250 - 253) | ابن حزم - المحلى كتاب الحيض والاستحاضة (مسألة 254 - 256) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة (مسألة 257 - 262) ← |
كتاب الطهارة
كتاب الحيض والاستحاضة
254 - مسألة : الحيض هو الدم الأسود الخاثر الكريه الرائحة خاصة ، فمتى ظهر من فرج المرأة لم يحل لها أن تصلي ولا أن تصوم ولا أن تطوف بالبيت ولا أن يطأها زوجها ولا سيدها في الفرج ، إلا حتى ترى الطهر ، فإذا رأت أحمر أو كغسالة اللحم أو صفرة أو كدرة أو بياضا أو جفوفا فقد طهرت وفرض عليها أن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء ، فإن لم تجد الماء فلتتيمم ثم تصلي وتصوم وتطوف بالبيت ويأتيها زوجها أو سيدها ، وكل ما ذكرنا فهو قبل الحيض وبعده طهر ليس شيء منه حيضا أصلا . أما امتناع الصلاة والصوم والطواف والوطء في الفرج في حال الحيض فإجماع متيقن مقطوع به ، لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام فيه ، وقد خالف في ذلك قوم من الأزارقة حقهم ألا يعدوا في أهل الإسلام . وأما ما هو الحيض ؟ فإن يونس بن عبد الله بن مغيث حدثنا قال ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا هشام بن عروة حدثني أبي عن عائشة { أن فاطمة ابنة أبي حبيش أتت رسول الله ﷺ فقالت : إني أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : ليس ذلك بالحيض ، إنما ذلك عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } وهكذا رويناه من طريق حماد بن زيد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وابن جريج ومعمر وزهير بن معاوية وأبي معاوية وعبد الله بن نمير ووكيع بن الجراح وجرير وعبد العزيز بن محمد الدراوردي وأبي يوسف كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . ورويناه من طريق مالك والليث وحماد بن سلمة وعمرو بن الحارث وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن رسول الله ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا ذهبت فاغسلي عنك الدم ثم صلي } وفي بعضها { فتوضئي } . وحدثنا يونس بن عبد الله ثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ، حدثني محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : { استحيضت أم حبيبة بنت جحش فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال عليه السلام : إنها ليست بالحيضة ولكنه عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } . حدثنا أبو سعيد الجعفري ثنا أبو بكر الأذفوني المقر ثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل حدثنا الحسن بن غليب حدثنا يحيى بن عبد الله ثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن المنذر بن المغيرة { عن عروة بن الزبير أن فاطمة بنت أبي حبيش أخبرته أنها أتت إلى رسول الله ﷺ فشكت إليه الدم ، فقال إنما ذلك عرق ، فانظري إذا أتاك قرؤك فلا تصلي ، فإذا مر القرء فتطهري ثم صلي من القرء إلى القرء } . فأمر عليه السلام باجتناب الصلاة لإقبال الحيضة وبالغسل لإدبارها ، وخاطب بذلك نساء قريش والعرب العارفات بما يقع عليه اسم الحيضة ، فوجب أن يطلب بيان ذلك وما هي الحيضة في الشريعة واللغة ، فوجدنا ما حدثناه حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا محمد بن أبي عدي ثنا محمد بن عمرو هو ابن علقمة بن وقاص - عن الزهري عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش " كانت استحيضت فقال لها رسول الله ﷺ : { إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق } . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري حدثنا البخاري حدثنا قتيبة ثنا يزيد بن زريع عن خالد الحذاء عن عكرمة عن عائشة قالت { اعتكفت مع رسول الله ﷺ امرأة من أزواجه ، فكانت ترى الصفرة والدم والطست تحتها وهي تصلي } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن سلمة المرادي ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن ، كلاهما عن عائشة زوج النبي ﷺ { أن أم حبيبة بنت حبيش كانت تحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين ، فاستفتت رسول الله ﷺ في ذلك ، فقال رسول الله ﷺ : إن هذه ليست بالحيضة ، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي . قالت عائشة فكانت تغتسل في مركن في حجرة أختها زينب بنت جحش حتى تعلو حمرة الدم الماء } . فصح بما ذكرنا أن الحيض إنما هو الدم الأسود وحده وإن الحمرة والصفرة والكدرة عرق وليس حيضا ، ولا يمنع شيء من ذلك الصلاة . فإن قيل : إنما هذا للتي يتصل بها الدم أبدا ، قلنا فإن اتصل بها الدم بعض دهرها وانقطع بعضه فما قولكم ؟ ألها هذا الحكم أم لا ؟ فكلهم مجمع على أن هذا الحكم لها . فقلنا لهم : حدوا لنا المدة التي إذا اتصل بها الدم والصفرة والكدرة كان لها هذا الحكم الذي أمر به رسول الله ﷺ والمدة التي إذا اتصل بها هذا كله لم يكن لها ذلك الحكم ، فكان الذي وقفوا عليه من ذلك أن قالت طائفة : تلك المدة هي أيامها المعتادة لها . وقالت طائفة أخرى : بل تلك المدة هي أكثر من أيامها المعتادة لها ، فإذا كان ذلك راعوا في أيام عادتها تكون الدم وإلا فلا ، فقلت لهم : هاتان دعويان قد سمعناهما ، والدعوة مردودة ساقطة إلا ببرهان ، فهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين . فقال بعضهم : قد صح عن النبي ﷺ أنه قال : { اقعدي أيام أقرائك ودعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها } . قلنا نعم هذا صحيح ، وإنما أمر عليه السلام بهذا التي لا تميز دمها والذي هو كله أسود متصل . برهان ذلك قوله للتي تميز دمها { إن دم الحيض أسود يعرف ، فإذا جاء الآخر فصلي ، وإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي واغسلي عنك الدم وصلي } على ما نبين في باب المستحاضة إن شاء الله . قال أبو محمد : وهذا لا مخلص لهم منه ، فإن تعلقوا بمن روي عنه مثل قولهم ، مثل ما رويناه من طريق علقمة بن أبي علقمة عن أمه : كنت أرى النساء يرسلن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيها الصفرة يسألنها عن الصلاة ، فسمعت عائشة تقول : لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء . قال أبو محمد : ما نعلم لهم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم متعلقا إلا هذه الرواية وحدها ، وقد خولفت أم علقمة في ذلك عن عائشة ، وخالف هذه الرواية عن أم علقمة غير أم المؤمنين من الصحابة . فأما الرواية عن عائشة رضي الله عنها فإن أحمد بن عمر بن أنس قال : ثنا عبد بن أحمد الهروي أبو ذر ثنا أحمد بن عبدان الحافظ بنيسابور ثنا محمد بن سهل بن عبد الله المقرئ البصري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري - هو جامع الصحيح - قال : قال لنا علي بن إبراهيم حدثنا محمد بن أبي الشمال العطاردي البصري ، حدثتني أم طلحة قالت : سألت عائشة أم المؤمنين فقالت : دم الحيض بحراني أسود . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع عن أبي بكر الهذلي عن معاذة العدوية عن عائشة قالت : ما كنا نعد الصفرة والكدرة حيضا . وروينا من طريق أحمد بن حنبل ثنا إسماعيل ابن علية ثنا خالد الحذاء عن أنس بن سيرين قال : استحيضت امرأة من آل أنس فأمروني فسألت ابن عباس فقال : أما ما رأت الدم البحراني فلا تصلي ، فإذا رأت الطهر ولو ساعة من نهار فلتغتسل وتصلي . فلم يلتفت ابن عباس إلى اتصال الدم ، بل رأى وأفتى أن ما عدا الدم البحراني فهو طهر ، تصلي مع وجوده ولو لم تر إلا ساعة من النهار ، وأنه لا يمنع الصلاة إلا الدم البحراني ، وهذا إسناد في غاية الجلالة . ومن طريق البخاري : حدثنا قتيبة ثنا إسماعيل هو ابن علية - عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت : كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا " وأم عطية من المبايعات من نساء الأنصار قديمة الصحبة مع رسول الله ﷺ وقد ذكرنا عن نساء النبي ﷺ وفاطمة بنت أبي حبيش وأم حبيبة بنت جحش هذا نفسه ، وكل هذا هو الثابت بالأسانيد العالية الصحيحة . وروينا عن علي بن أبي طالب : إذا رأت بعد الظهر مثل غسالة اللحم أو مثل قطرة الدم من الرعاف ، فإنما تلك ركضة من ركضات الشيطان فلتنضح بالماء ولتتوضأ ولتصل ، فإن كان عبيطا لا خفاء به فلتدع الصلاة . وعن ثوبان في المرأة ترى البرية قال : تتوضأ وتصلي . قيل : أشيء تقوله أم سمعته ؟ قال ففاضت عيناه وقال : بل سمعته . قال أبو محمد : فهذا أقوى من رواية أم علقمة وأولى ، وقد روى ما يوافق رواية أم علقمة عن عمرة من رأيها . وعن ربيعة ويحيى بن سعيد مثل ذلك ، وقد خالف هؤلاء من التابعين من هو أجل منهم ، كسعيد بن المسيب ، روينا من طريق قتادة عنه في المرأة ترى الصفرة والكدرة أنها تغتسل وتصلي ، وروينا عن سفيان الثوري عن القعقاع : سألنا إبراهيم النخعي عن المرأة ترى الصفرة ؟ قال : تتوضأ وتصلي ، وعن مكحول مثل ذلك . فإن ذكروا حديث ابن عباس { عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال إن كان الدم عبيطا فدينار ، وإن كان فيه صفرة فنصف دينار } قلنا : هذا حديث لو صح لكانوا قد خالفوا ما فيه ، ومن الباطل أن يكون بعض الخبر حجة وبعضه ليس حجة ، فكيف وهو باطل لا يصح لأنه راويه عبد الكريم بن أبي المخارق وليس بثقة ، جرحه أيوب السختياني وأحمد بن حنبل وغيرهما . فإن قالوا : إن حديث ابن أبي عدي اضطرب فيه ، فمرة حدث به من حفظه فقال : عن الزهري عن عروة عن عائشة ، ومرة حدث به من كتابه فقال : عن الزهري عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش ، ولم يذكر هذا الكلام أحد غير محمد بن أبي عدي . قلنا : هذا كله قوة للخبر ، وليس هذا اضطرابا ؛ لأن عروة رواه عن فاطمة وعائشة معا وأدركهما معا ، فعائشة خالته أخت أمه ، وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد ابنة عمه ، وهو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد ، ومحمد بن أبي عدي الثقة الحافظ المأمون ، ولا يعترض بهذا إلا المعتزلة الذين لا يقولون بخبر الواحد ، تعللا على إبطال السنن فسقط كل ما تعلقوا به . والحمد لله رب العالمين . وقولنا هذا هو قول جمهور أصحابنا . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الرحمن بن مهدي : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وليست في غير أيام الحيض حيضا ، وقال الليث بن سعد : الدم والصفرة والكدرة في غير أيام الحيض ليس شيء من ذلك حيضا ، وكل ذلك في أيام الحيض حيض . وقال مالك وعبيد الله بن الحسن : الصفرة والكدرة حيض ، سواء كان في أيام الحيض أو في غير أيام الحيض ، وقال أبو يوسف ومحمد : الصفرة والدم فكل ذلك في أيام الحيض حيض وأما الكدرة فهي في أيام الحيض قبل الحيض ليست حيضا ، وأما بعد الحيض فهي حيض ، وكل ذلك ليس في غير أيام الحيض حيضا ، على عظيم اضطرابهم في الدم في غير أيام الحيض ، فإن أبا حنيفة قال : إذا رأت المرأة الدم قبل أيام حيضها ثلاثة أيام فأكثر وانقطع في أيام حيضها أو اتصل أقل من ثلاثة أيام منها فليس شيء من ذلك حيضا ولا تمتنع بذلك من الصلاة والصوم والوطء ، إلا أن يتكرر ذلك عليها مرتين ، ويتصل كذلك فهو حيض متصل . قال : فإن رأت الدم قبل أيام حيضها بيومين فأقل واتصل بها في أيامها ثلاثة أيام فأكثر فهو كله حيض ، ما لم تجاوز عشرة أيام ، قال : فإن رأت الدم قبل أيام حيضها ثلاثة أيام فصاعدا وفي أيام الحيض متصلا بذلك ثلاثة أيام فصاعدا ، فمرة قال : كل ذلك حيض ، ومرة قال : أما ما رأت قبل أيامها فليس حيضا ، وأما ما رأت في أيامها فهو حيض ، وهذه تخاليط ناهيك بها وقال أبو ثور وبعض أصحابنا الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض ليستا حيضا ، وفي أيام الحيض قبل الدم ليستا حيضا ، وأما بعد الدم متصلا به فهما حيض . قال علي : واحتج هؤلاء بأن قالوا : ما لم يتيقن الحيض فلا يجوز أن تترك الصلاة والصوم المتيقن وجوبهما ، ولا أن تمنع من الوطء المتيقن تحليله حتى إذا تيقن الحيض وحرمت الصلاة والصوم والوطء بيقين لم يسقط تحريم ذلك إلا بيقين آخر . قال علي وهذا عمل غير صحيح البيان ، بل هو مموه ، وذلك أن هاتين المقدمتين حق ، إلا أن اليقين الذي ذكروا هو النص ، وقد صح النص ، بأن ما عدا الدم الأسود ليس حيضا ، ولا يمنع من صلاة ولا من صوم ولا من وطء ، فصارت حجتهم حجة عليهم ، وأيضا فلو لم يكن ههنا هذا النص لما وجب ما قالوه ، لأن الصلاة والصوم فرضان قد تيقن وجوبهما ، والوطء حق قد تيقنت إباحته في الزوجة والأمة المباحة ، والحيض قد تيقن أنه محرم به كل ذلك ، فلا يجوز أن يقطع على شيء بأنه حيض محرم للصلاة وللصوم وللوطء إلا بنص وارد أو بإجماع متيقن ، وأما بدعوى مختلف فيها فلا ، فهذا هو الحق ، ولا نص ولا إجماع ولا لغة في أن ما عدا الدم الأسود حيض أصلا . وقد صح النص والإجماع واللغة على أن الدم الأسود حيض ، فلا يجوز أن يسمى حيضا إلا ما صح النص والإجماع بأنه حيض ، لا ما لا نص فيه ولا إجماع . واحتج بعض أهل المقالة الأولى بأن قال : لما كان السواد حيضا وكانت الحمرة جزءا من أجزاء السواد وجب أن تكون حيضا ، ولما كانت الصفرة جزءا من أجزاء الحمرة وجب أن تكون حيضا ، ولما كانت الكدرة جزءا من أجزاء الصفرة وجب أن تكون حيضا ، ولما كان كل ذلك في بعض الأحوال حيضا وجب أن يكون في كل الأحوال حيضا . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه يعارض بأن يقال له : لما كانت القصة البيضاء طهرا وليست حيضا بإجماع ، ثم كانت الكدرة بياضا غير ناصع ، وجب أن لا تكون حيضا ، ثم لما كانت الصفرة كدرة مشبعة وجب أن لا تكون حيضا ، ثم لما كانت الحمرة صفرة مشبعة وجب أن لا تكون حيضا ، ولما كان ذلك في بعض الأحوال - وهو ما كان بعد أكثر أيام الحيض - ليس حيضا وجب أن يكون في جميع الأحوال ليس حيضا ، فهذا أصح من قياسهم ؛ لأننا لم نساعدهم قط على أن الحمرة والصفرة والكدرة حيض في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات ، ولا جاء بذلك قط نص ولا إجماع ولا قياس غير معارض ولا قول صاحب لم يعارض وهم كلهم قد وافقونا على أن كل ذلك ليس حيضا إذا رئي فيما زاد في أيام الحيض ، فبطل قياسهم ، وكان ما جئناهم به - لو صح القياس لا يصح غيره . وكذلك لا يوافقون على أن الحمرة جزء من السواد ، ولا أن الصفرة جزء من الحمرة ، ولا أن الكدرة جزء من الصفرة ، بل هي دعوى عارضناهم بدعوى مثلها فسقط كل ما قالوه ، والحمد لله رب العالمين ، وثبت قولنا بشهادة النص والإجماع له .
255 - مسألة : فإذا رأت الطهر كما ذكرنا لم تحل لها الصلاة ولا الطواف بالكعبة حتى تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء ، أو تتيمم إن عدمت الماء أو كانت مريضة عليها في الغسل حرج ، وإن أصبحت صائمة ولم تغتسل فاغتسلت أو تيممت - إن كانت من أهل التيمم - بمقدار ما تدخل في صلاة الصبح صح صيامها ، وهذا كله إجماع متيقن ، ولقول رسول الله ﷺ { وإذا أدبرت الحيضة فتطهري } ولقول الله تعالى : { فإذا تطهرن فأتوهن } وقد أخبر عليه السلام أن الأرض طهور إذا لم نجد الماء ، فوجب التيمم للحائض عند عدم الماء وفي تأخيرها الغسل والتيمم عن هذا المقدار خلاف نذكره في كتاب الصيام إن شاء الله .
256 - مسألة : وأما وطء زوجها أو سيدها لها إذا رأت الطهر فلا يحل إلا بأن تغسل جميع رأسها وجسدها بالماء أو بأن تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، فإن لم تفعل فبأن تتوضأ وضوء الصلاة أو تتيمم إن كانت من أهل التيمم ، فإن لم تفعل فبأن تغسل فرجها بالماء ولا بد ، أي هذه الوجوه الأربعة فعلت حل له وطؤها . برهان ذلك قول الله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } فقوله : { حتى يطهرن } معناه حتى يحصل لهن الطهر الذي هو عدم الحيض وقوله تعالى : { فإذا تطهرن } هو صفة فعلهن وكل ما ذكرنا يسمى في الشريعة وفي اللغة تطهرا وطهورا وطهرا ، فأي ذلك فعلت فقد تطهرت : قال الله تعالى : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فجاء النص والإجماع بأنه غسل الفرج والدبر بالماء ، وقال عليه السلام : { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } فصح أن التيمم للجنابة وللحدث طهور . وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وقال عليه السلام { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } يعني الوضوء . ومن اقتصر بقوله تعالى : { فإذا تطهرن } على غسل الرأس والجسد كله دون الوضوء ودون التيمم ودون غسل الفرج بالماء ، فقد قفا ما لا علم له به ، وادعى أن الله تعالى أراد بعض ما يقع عليه كلامه بلا برهان من الله تعالى . ويقال لهم : هلا فعلتم هذا في الشفق ؟ إذ قلتم أي شيء توقع عليه اسم الشفق فبغروبه تدخل صلاة العتمة ، فمرة تحملون اللفظ على كل ما يقتضيه ، ومرة على بعض ما يقتضيه بالدعوى والهوس . فإن قال : إذا حاضت حرمت بإجماع فلا تحل إلا بإجماع آخر ، قلنا هذا باطل ، ودعوى كاذبة ، لم يوجبها لا نص ولا إجماع ، بل إذا حرم الشيء بإجماع ثم جاء نص يبيحه فهو مباح ، ما نبالي أجمع على إباحته أم اختلف فيها ، ولو كانت قضيتكم هذه صحيحة لبطل بها عليكم أكثر أقوالكم ، فيقال لكم : قد حرمتم الصلاة على المحدث والمجنب بإجماع ، فلا تحل لهما إلا بإجماع ولا تجيزوا للجنب أن يصلي بالتيمم ولو عدم الماء شهرا فلا إجماع في ذلك ، بل عمر بن الخطاب وابن مسعود وإبراهيم والأسود لا يجيزون له الصلاة بالتيمم ، وأبطلوا صلاة من توضأ ولم يستنشق ، لأنه لا إجماع في صحتها ، وأبطلوا صلاة من توضأ بفضل امرأة ومن لم يتوضأ مما مست النار ، وهذا كثير جدا ، وكذلك القول في الصيام والزكاة والحج وجميع الشرائع ، فصح أن قضيتهم هذه في غاية الفساد في ذاتها ، وفي غاية الإفساد لقولهم . قال علي : وممن قال بقولنا في هذه المسألة عطاء وطاوس ومجاهد ، وهو قول أصحابنا . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن كانت أيامها عشرة أيام فبانقطاع العشرة الأيام يحل له وطؤها ، اغتسلت أو لم تغتسل ، مضى لها وقت صلاة أو لم يمض ، توضأت أو لم تتوضأ ، تيممت أو لم تتيمم ، غسلت فرجها أو لم تغسله ، فإن كانت أيام حيضها أقل من عشرة أيام لم يحل له أن يطأها إلا بأن تغتسل أو يمضي لها وقت أدنى صلاة من طهرها ، فإن مضى لها وقت صلاة واحدة طهرت فيه أو قبله ولم تغتسل فيه فله وطؤها ، وإن لم تغتسل ولا تيممت ولا توضأت ولا غسلت فرجها ، فإن كانت كتابية حل له وطؤها إذا رأت الطهر على كل حال . وهذه أقوال نحمد الله على السلامة منها ، ولم يرو عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة شيء ، ولا نعلم أيضا عن أحد من التابعين إلا عن سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والزهري وربيعة المنع من وطئها حتى تغتسل ولا حجة في قولهم لو انفردوا ، فكيف وقد عارضهم من هو مثلهم . وبالله تعالى التوفيق . وكم من مسألة خالفوا فيها أكثر عددا من هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم فيها مخالف ، وقد ذكرنا منها كثيرا قبل ، ونذكر إن شاء الله عز وجل من ذلك الرواية عن عمر وعلي وابن عباس وأنس وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ونافع بن جبير : لا تجوز الصلاة في مقبرة ولا إلى قبر ، ولا يعرف لهم في ذلك مخالف من الصحابة ، فخالفوهم بآرائهم ، وعن أبي بكر وثابت بن قيس وأنس : الفخذ ليست عورة ولا يعرف لهم في ذلك مخالف من الصحابة ، فخالفوهم ، ومثل ذلك كثير جدا . ولو أن الله تعالى أراد بقوله : { تطهرن } بعض ما يقع عليه اللفظ دون بعض لما أغفل رسول الله ﷺ بيان ذلك ، فلما لم يخص عليه السلام ذلك وأحالنا على القرآن أيقنا قطعا بأن الله عز وجل لم يرد بعض ما يقتضيه اللفظ دون بعض ، فإن قالوا قولنا أحوط ، قلنا حاشا لله ، بل الأحوط أن لا يحرم عليه ما أحله الله عز وجل من الوطء بغير يقين . فإن قالوا : لا يحل له وطؤها إلا بما يحل لها الصلاة ، قلنا هذه دعوى باطل منتقضة ، أول ذلك أنها لا برهان على صحتها . والثاني أنه قد يحل له وطؤها حيث لا تحل لها الصلاة ، وهو كونها مجنبة ومحدثة . والثالث أن يقال لهم : هلا قلتم لا يحل له وطؤها إلا بما يحل لها به الصوم وهو يحل لها عندهم برؤية الطهر فقط فهذه دعوى بدعوى فإن قال بعضهم : وجدنا التحريم يدخل بأدق الأشياء ، ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأشياء ، كنكاح ما نكح الآباء ، يحرم بالعقد ، وتحليل المطلقة ثلاثا لا يحل لها إلا بالعقد والوطء . قلنا ليس كما قلتم ، بل قد خالفتم قضيتكم هذه على فسادها وبطلانها ، فتركتم أغلظ الأشياء مما قاله غيركم وهو الإجناب ، فإن الحسن البصري لا يرى المطلقة ثلاثا تحل إلا بالعقد والوطء والإنزال ولا بد ، وسعيد بن المسيب يرى أنها تحل بالعقد فقط وإن لم يكن وطء ولا دخول . ثم يقال لهم : قد وجدنا التحليل يدخل بأدق الأشياء وهو فرج الأجنبية الذي في وطئه دخول النار وإباحة الدم بالرجم والشهرة بالسياط ، فإنه يحل بثلاث كلمات أو كلمتين : أنكحني ابنتك . قال قد أنكحتها . أو تلفظ هي بالرضا والولي بالإذن . وبأن يقول سيد الأمة : هي لك هبة . ووجدنا التحريم لا يدخل إلا بأغلظ الأشياء وهو طلاق الثلاث أو انقضاء أمد العدة ، ووجدنا تحريم الربيبة لا يدخل إلا بالعقد والدخول وإلا فلا ، فظهر أن الذي قالوه تخليط وقول بالباطل في الدين ، والحق من هذا هو أن التحريم لا يدخل إلا بما يدخل به التحليل ، وهو القرآن أو السنة ولا مزيد ، وبالله تعالى التوفيق .