الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الرابعة والثلاثون

ابن حزم - المحلى كتاب الحيض والاستحاضة (مسألة 267 - 269)
المؤلف: ابن حزم


كتاب الطهارة

كتاب الحيض والاستحاضة

267 - مسألة : ولا حد لأقل الطهر ولا لأكثره ، فقد يتصل الطهر باقي عمر المرأة فلا تحيض بلا خلاف من أحد مع المشاهدة لذلك ، وقد ترى الطهر ساعة وأكثر بالمشاهدة . وقال أبو حنيفة : لا يكون طهر أقل من خمسة عشر يوما . وقال بعض المتأخرين : لا يكون طهر أقل من تسعة عشر يوما . وقال مالك : الأيام الثلاثة والأربعة والخمسة بين الحيضتين ليس طهرا وكل ذلك حيض واحد ، وقال الشافعي في أحد أقواله كقول أبي حنيفة ، والثاني أنه لا حد لأقل الطهر ، وهو قول أصحابنا ، وهو قول ابن عباس كما أوردنا قبل ، ولا مخالف له في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم . فأما من قال لا يكون طهر أقل من خمسة عشر يوما فما نعلم لهم حجة يشتغل بها أصلا ، وأما من قال : لا يكون طهر أقل من تسعة عشر يوما فإنهم احتجوا فقالوا : إن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء للتي تحيض وجعل للتي لا تحيض ثلاثة أشهر ، قالوا : فصح أن بإزاء كل حيض وطهر شهرا ، فلا يكون حيض وطهر في أقل من شهر . قال أبو محمد : وهذا لا حجة فيه ، لأنه قول لم يقله الله تعالى فناسبه إلى الله تعالى كاذب ، نعني أن الله تعالى لم يقل قط إني جعلت بإزاء كل حيضة وطهر شهرا ، بل لا يختلف اثنان من المسلمين في أن هذا باطل ، لأننا وهم لا نختلف في امرأة تحيض في كل شهرين مرة أو في كل ثلاثة أشهر مرة ، فإنها تتربص حتى تتم لها ثلاثة قروء ، ولا بد ، فظهر كذب من قال : إن الله تعالى جعل بدل كل حيضة وطهر شهرا ، بل قد وجدنا العدة تنقضي في ساعة بوضع الحمل ، فبطل كل هذر أتوا به وكل ظن كاذب شرعوا به الدين . وأما قول مالك فظاهر الخطأ أيضا ، لأنه لم يجعل خمسة أيام بين الحيضتين طهرا وهو يأمرها فيه بالصلاة وبالصوم ويبيح وطأها لزوجها ، فكيف لا يكون طهرا ما هذه صفته ؟ وكيف لا يعد اليوم وأقل منه حيضا وهو يأمرها فيه بالفطر في رمضان وبترك الصلاة ؟ وهذه أقوال يغني ذكرها عن تكلف فسادها ، ولا يعرف لشيء منها قائل من الصحابة رضي الله عنهم . فإن قالوا : فإنكم ترون العدة تنقضي في يوم أو في يومين على قولكم ؟ قلنا نعم ، فكان ماذا ؟ وأين منع الله تعالى ونبيه ﷺ من هذا ؟ وأنتم أصحاب قياس بزعمكم وقد أريناكم العدة تنقضي في أقل من ساعة فما أنكرتم من ذلك ؟ فإن قالوا : إن هذا لا يؤمن معه أن تكون حاملا ، قلنا لهم : ليست العدة للبراءة من الحمل ، لبراهين : أول ذلك : أنه منكم دعوى كاذبة لم يأت بها نص ولا إجماع ، والثاني : أن العدة عندنا وعندكم تلزم العجوز ابنة المائة عام ، ونحن على يقين من أنها لا حمل بها ، والثالث : أن العدة تلزم الصغيرة التي لا تحمل ، والرابع : أنها تلزم من العقيم ، والخامس : أنها تلزم من الخصي ما بقي له ما يولجه ، والسادس : أنها تلزم العاقر ، والسابع : أنها تلزم من وطئ مرة ثم غاب إلى الهند وأقام هنالك عشرين سنة ثم طلقها ، وكل هؤلاء نحن على يقين من أنها لا حمل بها ، والثامن : أنه لو كانت من أجل الحمل لكانت حيضة واحدة تبرئ من ذلك ، والتاسع : أنها تلزم المطلقة إثر نفاسها ولا حمل بها ، والعاشر : أن المكيين بالضد منهم ، قالوا : لا تصدق المرأة في أن عدتها انقضت في أقل من ثلاثة أشهر ، وتصدق في ثلاثة أشهر ، وقال أبو حنيفة : لا تصدق المرأة في أن عدتها انقضت في أقل من ستين يوما ، وتصدق في الستين ، وقال محمد بن الحسن : تصدق في أربعة وخمسين يوما لا في أقل ، وقال مالك : تصدق في أربعين يوما لا في أقل . وقال أبو يوسف : تصدق في تسعة وثلاثين يوما لا أقل ، وقال الشافعي : تصدق في ثلاثة وثلاثين يوما لا أقل . قال علي : وكل هذه المدد التي بنوها على أصولهم لا يؤمن مع انقضاء وجود الحمل ، فهم أول من أبطل علتهم ، وكذب دليلهم ، ولا يجوز ألبتة أن يؤمن الحمل إلا بعد انقضاء أزيد من أربعة أشهر ، فكيف وهم المحتاطون بزعمهم للحمل وهم يصدقون قولها ، ولو أنها أفسق البرية وأكذبهم في هذه المدد ، أما نحن فلا نصدقها إلا ببينة من أربع قوابل عدول عالمات ، فظهر من المحتاط للحمل ، لا سيما مع قول أكثرهم : أن الحامل تحيض ، فهذا يبطل قول من قال منهم : إن العدة وضعت لبراءة الرحم من الحمل ، وقد روينا عن هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي : أن علي بن أبي طالب أتي برجل طلق امرأته فحاضت ثلاث حيض في شهر أو خمس وثلاثين ليلة ، فقال علي لشريح اقض فيها ؟ قال إن جاءت بالبينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث الذي هو الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة ، قال علي بن أبي طالب " قالون " معناها أصبت . قال علي بن أحمد : وهذا نص قولنا ، وروى عنه محمد بن سيرين أنه سئل : أيكون طهرا خمسة أيام ؟ قال : النساء أعلم بذلك . قال علي : لا يصح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف قول علي بن أبي طالب وابن عباس وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق . والنفاس والحيض سواء في كل شيء وبالله تعالى التوفيق .


268 - مسألة : ولا حد لأقل النفاس ، وأما أكثره فسبعة أيام لا مزيد . قال أبو محمد : ولم يختلف أحد في أن دم النفاس إن كان دفعة ثم انقطع الدم ولم يعاودها فإنها تصوم وتصلي ويأتيها زوجها ، وقال أبو يوسف : إن عاودها دم في الأربعين يوما فهو دم نفاس ، وقال محمد بن الحسن . إن عاودها بعد الخمسة عشر يوما فليس دم نفاس . قال أبو محمد : وهذه حدود لم يأذن الله تعالى بها ولا رسوله ﷺ فهو باطل . وأما أكثر النفاس فإن مالكا قال مرة : ستون يوما ، ثم رجع عن ذلك ، وهو قول الشافعي ، وقال مالك : النساء أعلم ، وقال أبو حنيفة : أكثر النفاس أربعون يوما . فأما من حد ستين يوما فما نعلم لهم حجة ، وأما من قال أربعون يوما فإنهم ذكروا روايات عن أم سلمة من طريق مسة الأزدية وهي مجهولة ، ورواية عن عمر من طريق جابر الجعفي ، وهو كذاب ، ورواية عن عائذ بن عمرو أن امرأته رأت الطهر بعد عشرين يوما ، فاغتسلت ودخلت معه في لحافه ، فضربها برجله وقال : لا تغضي من ديني حتى تمضي الأربعون ، وهم لا يقولون بهذا ، ولا أسوأ حالا ممن يحتج بما لا يراه حجة ، وهو أيضا عن الجلد بن أيوب وليس بالقوي . وعن الحسن عن عثمان بن أبي العاص مثله ، وعن جابر عن خيثمة عن أنس بن مالك ، وعن وكيع عن أبي عوانة عن جعفر بن إياس عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس : تنتظر النفساء نحوا من أربعين يوما . قال أبو محمد : لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وقد ذكرنا ونذكر ما خالفوا فيه الصاحب ، والصحابة لا يعرف لهم منهم مخالفون ، وأقرب ذلك ما ذكرناه في المسألة المتصلة بهذه من أقل الطهر ، فإنهم خالفوا فيه ابن عباس ، ولا مخالف له من الصحابة أصلا ولقد يلزم المالكيين والشافعيين المشنعين بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف ، أن يقولوا بما روي ههنا عمن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : فلما لم يأت في أكثر مدة النفاس نص قرآن ولا سنة وكان الله تعالى قد فرض عليها الصلاة والصيام بيقين وأباح وطأها لزوجها ، لم يجز لها أن تمتنع من ذلك إلا حيث تمتنع بدم الحيض لأنه دم حيض . وقد حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن جابر عن الضحاك بن مزاحم قال : تنتظر إذا ولدت سبع ليال أو أربع عشرة ليلة ثم تغتسل وتصلي . قاله جابر . وقال الشعبي : تنتظر أقصى ما تنتظر امرأة وبه إلى عبد الرزاق عن معمر وابن جريج . قال معمر عن قتادة . وقال ابن جريج عن عطاء ثم اتفق قتادة وعطاء : تنتظر البكر إذا ولدت كامرأة من نسائها ، قال عبد الرزاق : وبهذا يقول سفيان الثوري . قال علي : وقال الأوزاعي عن أهل دمشق : تنتظر النفساء من الغلام ثلاثين ليلة ومن الجارية أربعين ليلة . قال علي : إن كان خلاف الطائفة من الصحابة رضي الله عنهم - لا يعرف لهم مخالف - خلافا للإجماع ، فقد حصل في هذه المسألة في خلاف الإجماع الشعبي وعطاء وقتادة ومالك وسفيان الثوري والشافعي ، إلا أنهم حدوا حدودا لا يدل على شيء منها قرآن ولا سنة ولا إجماع ، وأما نحن فلا نقول إلا بما أجمع عليه ، من أنه دم يمنع مما يمنع منه الحيض ، فهو حيض . وقد حدثنا حمام ثنا يحيى بن مالك بن عائذ ثنا أبو الحسن عبيد الله بن أبي غسان ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ثنا أبو سعيد الأشج ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن سلام بن سليمان المدائني عن حميد عن أنس عن رسول الله ﷺ { أكثر النفاس أربعون يوما } . قال أبو محمد : سلام بن سليمان ضعيف منكر الحديث . وقال أبو حنيفة : أقل أمد النفاس خمسة وعشرون يوما . وقال أبو يوسف أقل أمد النفاس أحد عشر يوما . وقال أبو محمد : هذان حدان لم يأذن الله تعالى بهما ، والعجب ممن يحد مثل هذا برأيه ولا ينكره على نفسه ، ثم ينكر على من وقف عندما أوجبه الله تعالى في القرآن ورسوله ﷺ وأجمع عليه المسلمون إجماعا متيقنا والحمد لله رب العالمين . قال أبو محمد : ثم رجعنا إلى ما ذكرنا قبل من أن دم النفاس هو حيض صحيح ، وأمده أمد الحيض وحكمه في كل شيء حكم الحيض ، لقول النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها { أنفست } بمعنى حضت فهما شيء واحد ، ولقوله عليه السلام في الدم الأسود ما قال من اجتناب الصلاة إذا جاء ، وهم يقولون بالقياس ، وقد حكموا لهما بحكم واحد في تحريم الوطء والصلاة والصوم وغير ذلك ، فيلزمهم أن يجعلوا أمدهما واحدا . وبالله تعالى التوفيق .


269 - مسألة : فإن رأت الجارية الدم أول ما تراه أسود فهو دم حيض كما قدمنا تدع الصلاة والصوم ولا يطؤها بعلها أو سيدها ، فإن تلون أو انقطع إلى سبعة عشر يوما فأقل فهو طهر صحيح تغتسل وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها وإن تمادى أسود تمادت على أنها حائض إلى سبع عشرة ليلة ، فإن تمادى بعد ذلك أسود فإنها تغتسل ثم تصلي وتصوم ويأتيها زوجها ، وهي طاهر أبدا لا ترجع إلى حكم الحائضة إلا أن ينقطع أو يتلون كما ذكرنا ، فيكون حكمها إذا كان أسود حكم الحيض وإذا تلون أو انقطع أو زاد على السبع عشرة حكم الطهر . فأما التي قد حاضت وطهرت فتمادى بها الدم فكذلك أيضا في كل شيء ، إلا في تمادي الدم الأسود متصلا فإنها إذا جاءت الأيام التي كانت تحيضها أو الوقت الذي كانت تحيضه إما مرارا في الشهر أو مرة في الشهر أو مرة في أشهر أو في عام ، فإذا جاء ذلك الأمد أمسكت عما تمسك به الحائض ، فإذا انقضى ذلك الوقت اغتسلت وصارت في حكم الطاهر في كل شيء ، وهكذا أبدا ما لم يتلون الدم أو ينقطع ، فإن كانت مختلفة الأيام بنت على آخر أيامها قبل أن يتمادى بها الدم ، فإن لم تعرف وقت حيضها لزمها فرضا أن تغتسل لكل صلاة وتتوضأ لكل صلاة ، أو تغتسل وتتوضأ وتصلي الظهر في آخر وقتها ، ثم تتوضأ وتصلي العصر في أول وقتها ، ثم تغتسل وتتوضأ وتصلي المغرب في آخر وقتها ، ثم تتوضأ وتصلي العتمة في أول وقتها ، ثم تغتسل وتتوضأ لصلاة الفجر ، وإن شاءت أن تغتسل في أول وقت الظهر للظهر والعصر فذلك لها ، وفي أول وقت المغرب للمغرب والعتمة ، فذلك لها ، وتصلي كل صلاة لوقتها ولا بد ، وتتوضأ لكل صلاة فرض ونافلة في يومها وليلتها ، فإن عجزت عن ذلك وكان عليها فيه حرج تيممت كما ذكرنا . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - الذي قد ذكرنا بإسناده في أول مسألة من الحيض من كتابنا هذا - { إن دم الحيض أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة وإن كان الآخر فتوضئي وصلي } وقوله ﷺ { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي } وفي بعضها { فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي } وفي بعضها { فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتوضئي وصلي } وهكذا رويناه من طريق حماد بن زيد وحماد بن سلمة كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن رسول الله ﷺ ففي هذه الأخبار إيجاب مراعاة تلون الدم . وما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن أبي رجاء ثنا أبو أسامة سمعت هشام بن عروة بن الزبير قال أخبرني أبي عن عائشة { أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي ﷺ قالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : لا ، إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي } . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن حمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رمح وقتيبة ، كلاهما عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن جعفر بن ربيعة عن عراك بن مالك عن عروة عن عائشة قالت : { إن أم حبيبة سألت رسول الله ﷺ عن الدم ، قالت عائشة : رأيت مركنها ملآن دما ، فقال لها رسول الله ﷺ امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي } . قال أبو محمد : ففي هذين الخبرين إيجاب مراعاة القدر . الذي كانت تحيضه قبل أن يمتد بها الدم . وأما المبتدأة التي لا يتلون دمها عن السواد ولا مقدار عندها لحيض متقدم ، فنحن على يقين من وجوب الصلاة والصيام عليها ، ونحن على يقين من أن الدم الأسود منه حيض ومنه ما ليس بحيض ، فإن ذلك كذلك فلا يجوز لأحد أن يجعل برأيه بعض ذلك الدم حيضا وبعضه غير حيض ، لأنه يكون شارعا في الدين ما لم يأذن به الله ، أو قائلا على الله تعالى ما لا علم لديه ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل لها ترك يقين ما افترض الله عليها من الصوم والصلاة لظن في بعض دمها أنه حيض ، ولعله ليس حيضا ، والظن أكذب الحديث . وهذا الذي قلناه هو قول مالك وداود ، وقال الأوزاعي : تجعل لنفسها مقدار حيض أمها وخالتها وعمتها وتكون فيما زاد في حكم المستحاضة ، فإن لم تعرف جعلت حيضها سبعة أيام من كل شهر ، وتكون في باقي الشهر مستحاضة تصوم ، وقال سفيان الثوري وعطاء : تجعل لنفسها قدر حيض نسائها . وقال الشافعي : تقعد يوما وليلة من كل شهر تكون فيه حائضا ، وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم ، وإلى هذا مال أحمد بن حنبل ، وقال أبو حنيفة : تقعد عشرة أيام من كل شهر حائضا وباقي الشهر مستحاضة تصلي وتصوم . قال علي : يقال لجميعهم : من أين قطعتم بأنها تحيض كل شهر ولا بد ؟ وفي الممكن أن تكون ضهياء لا تحيض فتركتم بالظن فرض ما أوجبه الله تعالى عليها من الصلاة والصيام ، ثم ليس لأحد منهم أن يقول : اقتصر بها على أقل ما يكون من الحيض لئلا تترك الصلاة إلا بيقين : إلا كان للآخر أن يقول . بل اقتصر بها على أكثر الحيض لئلا تصلي وتصوم ويطأها زوجها وهي حائض ، وكل هذين القولين يفسد صاحبه ، وهما جميعا فاسدان لأنهما قول بالظن ، والحكم بالظن في دين الله عز وجل لا يجوز ، ونحن على يقين لا شك فيه أن هذه المبتدأة لم تحض قط ، وأن الصوم والصلاة فرضان عليها ، وأن زوجها مأمور ومندوب إلى وطئها ، ثم لا ندري ولا نقطع إن شيئا من هذا الدم الظاهر عليها دم حيض ، فلا يحل ترك اليقين والفرائض اللازمة بظن كاذب . وبالله تعالى التوفيق . وأما وضوءها لكل صلاة فقد ذكرنا برهان ذلك في كتابنا هذا في الوضوء وما يوجبه . وأما غسلها لكل صلاتين أو لكل صلاة فلما حدثناه حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا علان ثنا محمد بن بشار ثنا وهب بن جرير بن حازم ثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - { عن أم حبيبة بنت جحش أنها كانت تهراق الدم وأنها سألت رسول الله ﷺ فأمرها أن تغتسل لكل صلاة } . وبه إلى ابن أيمن : ثنا أحمد بن محمد البرتي القاضي ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث بن سعيد التنوري عن الحسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : أخبرتني زينب بنت أبي سلمة المخزومي { أن امرأة كانت تهراق الدم ، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وأن رسول الله ﷺ أمرها أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي } . قال علي : زينب هذه ربيبة رسول الله ﷺ نشأت في حجره عليه السلام ، ولها صحبة به عليه السلام . وبه إلى ابن أيمن : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثني محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة بن الزبير عن أم حبيبة بنت جحش { أنها استحيضت فأمرها رسول الله ﷺ بالغسل عند كل صلاة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا هناد بن السري عن عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة { أن أم حبيبة بنت جحش استحضت في عهد رسول الله ﷺ فأمرها بالغسل لكل صلاة } . حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا وهب بن بقية ثنا خالد بن إسماعيل عن سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة بن الزبير { عن أسماء بنت عميس قالت : يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت ، فقال لها رسول الله ﷺ : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا ، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر غسلا وتتوضأ فيما بين ذلك } . فهذه آثار في غاية الصحة رواها عن رسول الله ﷺ أربع صواحب : عائشة أم المؤمنين وزينب بنت أم سلمة وأسماء بنت عميس وأم حبيبة بنت جحش . ورواها عن كل واحدة من عائشة وأم حبيبة عروة وأبو سلمة ورواه أبو سلمة عن زينب بنت أم سلمة . ورواه عروة عن أسماء ، وهذا نقل تواتر يوجب العلم . وقال بهذا جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، كما روينا من طريق الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة : أن أم حبيبة استحيضت فكانت تغتسل لكل صلاة ، فهذه أم حبيبة ترى ذلك وعائشة تذكر ذلك لا تنكره . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير : أنه كان عند ابن عباس فأتاه كتاب امرأة . قال سعيد : فدفعه ابن عباس إلي ، فقرأته فإذا فيه : إني امرأة مستحاضة أصابني بلاء وضر ، وإني أدع الصلاة الزمان الطويل ، وإن ابن أبي طالب سئل عن ذلك فأفتاني أن أغتسل عند كل صلاة ، فقال ابن عباس : اللهم لا أجد لها إلا ما قال علي ، غير أنها تجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد والمغرب والعشاء بغسل واحد وتغتسل للفجر غسلا واحدا ، فقيل لابن عباس : إن الكوفة أرض باردة وأنها يشق عليها ، قال : لو شاء الله لابتلاها بأشد من ذلك . ورويناه أيضا من طريق سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس . ومن طريق ابن جريج أن عمرو بن دينار أخبره أنه سمع سعيد بن جبير يذكر هذا عن ابن عباس ، ومن طريق شعبة وحماد بن سلمة كلاهما عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس . حدثنا يونس بن عبد الله حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد ثنا أبي حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج بن المنهال عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير قال أخبرني سعيد بن جبير قال : أرسلت امرأة مستحاضة إلى ابن الزبير : إني أفتيت أن أغتسل لكل صلاة ، فقال ابن الزبير : ما أجد لها إلا ذلك ، ثم أرسلت إلى ابن عباس وابن عمر فقالا جميعا : ما نجد إلا ذلك . ومن طريق أبي مجلز عن ابن عمر في المستحاضة قال : تغتسل لكل صلاة ، وقد رواه أيضا عكرمة ومجاهد عن ابن عباس ، قال مجاهد عنه : تؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل لهما غسلا واحدا ، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر غسلا . وروينا عن ابن جريج عن عطاء : تنتظر المستحاضة أيام أقرائها ثم تغتسل غسلا واحدا للظهر والعصر ، تؤخر الظهر قليلا وتعجل العصر قليلا ، وكذلك المغرب والعشاء وتغتسل للصبح غسلا . وروينا من طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي مثل قول عطاء سواء سواء . وروينا من طريق معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال : المستحاضة تغتسل لكل صلاة وتصلي . فهؤلاء من الصحابة أم حبيبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، إلا رواية عن عائشة ، أنها تغتسل كل يوم عند صلاة الظهر . ورويناه هكذا من طريق معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة هكذا مبينا ، كل يوم عند صلاة الظهر . ومن التابعين عطاء وسعيد بن المسيب والنخعي وغيرهم ، كل ذلك بأسانيد في غاية الصحة ، فأين المشنعون بمخالفة الصاحب إذا وافق أهواءهم وتقليدهم من الحنفيين والمالكيين والشافعيين عن هذا ومنعهم السنة الثابتة عن رسول الله ﷺ ؟ قال علي : فجاءت السنة في التي تميز دمها أن الأسود حيض ، وأن ما عداه طهر ، فوضح أمر هذه ، وجاءت السنة في التي لا تميز دمها - وهو كله أسود لأن ما عداه طهر لا حيض ولها وقت محدود مميز كانت تحيض فيه : أن تراعي أمد حيضها فتكون فيه حائضا ، ويكون ما عداه طهرا ، فوجب الوقوف عند ذلك ، وكان حكم التي كانت أيامها مختلفة منتقلة أن تبني على آخر حيض حاضته قبل اتصال دمها ، لأنه هو الذي استقر عليه حكمها وبطل ما قبله باليقين والمشاهدة ، فخرجت هاتان بحكمهما ، ولم يبق إلا التي لا تميز دمها ولا لها أيام معهودة ، ولم يبق إلا المأمورة بالغسل لكل صلاة أو لكل صلاتين ، فوجب ضرورة أن تكون هي ، إذ ليست إلا ثلاث صفات وثلاثة أحكام فللصفتين حكمان منصوصان عليهما ، فوجب أن يكون الحكم الثالث للصفة الثالثة ضرورة ولا بد . قال علي : وأما مالك فإنه غلب حكم تلون الدم ولم يراع الأيام ، وأما أبو حنيفة فغلب الأيام ولم يراع حكم تلون الدم ، وكلا العملين خطأ ، لأنه ترك لسنة لا يحل تركها ، وأما الشافعي وابن حنبل وأبو عبيد وداود فأخذوا بالحكمين معا ، إلا أن أحمد بن حنبل وأبا عبيد غلبا الأيام ولم يجعلا لتلون الدم حكما إلا في التي لا تعرف أيامها ، وجعلا للتي تعرف أيامها حكم الأيام وإن تلون دمها ، وأما الشافعي وداود فغلبا حكم تلون الدم ، سواء عرفت أيامها أو لم تعرفها ، ولم يجعلا حكم مراعاة وقت الحيض إلا للتي لا يتلون دمها . قال علي : فبقي النظر في أي العملين هو الحق ؟ ففعلنا ، فوجدنا النص قد ثبت وصح بأنه لا حيض إلا الدم الأسود ، وما عداه ليس حيضا ، لقوله عليه السلام { إن دم الحيض أسود يعرف } فصح أن المتلونة الدم طاهرة تامة الطهارة لا مدخل لها في حكم الاستحاضة ، وأنه لا فرق بين الدم الأحمر وبين القصة البيضاء ، ووجب أن الدم إذا تلون قبل انقضاء أيامها المعهودة أنه طهر صحيح ، فبقي الإشكال في الدم الأسود المتصل فقط ، فجاء النص بمراعاة الوقت لمن تعرف وقتها ، وبالغسل المردد لكل صلاة أو لصلاتين في التي نسيت وقتها . وبالله تعالى التوفيق . وما نعلم لمن ترك شيئا من هذه الأخبار سببا يتعلق به ، لا من قياس ولا من قول صاحب ولا من قرآن ولا سنة . وقال مالك في بعض أقواله : إن التي يتصل بها الدم تستظهر بثلاثة أيام إن كانت حيضتها اثني عشر يوما فأقل ، أو بيومين إن كانت ثلاثة عشر يوما ، أو بيوم إن كانت حيضتها أربعة عشر يوما ، ولا تستظهر بشيء إن كانت حيضتها خمسة عشر وهذا قول لا يعضده قرآن ولا سنة ، لا صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا رأي له وجه ولا احتياط ، بل فيه إيجاب ترك الصلاة المفروضة والصوم اللازم بلا معنى . واحتج له بعض مقلديه بحديث سوء رويناه من طريق إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر عن أبيهما قال { جاءت أسماء بنت مرشد الحارثية إلى رسول الله ﷺ وأنا جالس عنده ، فقالت يا رسول الله حدثت لي حيضة أنكرها ، أمكث بعد الطهر ثلاثا أو أربعا ، ثم تراجعني فتحرم علي الصلاة ، فقال : إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثا ثم تطهري اليوم الرابع فصلي إلا أن تري دفعة من دم قاتمة } . قال أبو محمد : فكان هذا الاحتجاج أقبح من القول المحتج له به ، لأن هذا الخبر باطل إذ هو مما انفرد به حرام بن عثمان ، ومالك نفسه يقول : هو غير ثقة . فالعجب لهؤلاء القوم وللحنفيين ، وقد جرح أبو حنيفة جابرا الجعفي وقال ما رأيت أكذب من جابر ، ومالك جرح حرام بن عثمان وصالحا مولى التوأمة ، ثم لا مؤنة على المالكيين والحنفيين إذا جاء هؤلاء خبر من رواية حرام وصالح يمكن أن يوهموا به أنه حجة لتقليدهم إلا احتجوا به وأكذبوا تجريح مالك لهم ولا مؤنة على الحنفيين إذا جاءهم خبر يمكن أن يوهموا به أنه حجة لتقليدهم من رواية جابر إلا احتجوا به ، ويكذبوا تجريح أبي حنيفة له ، ونحن - ولله الحمد - أحسن مجاملة لشيوخهم منهم ، فلا نرد تجريح مالك فيمن لم تشتهر إمامته . قال أبو محمد ، ثم لو صح هذا الخبر لما كان لهم به متعلق لأنه ليس فيه شيء من قول مالك ، ولا من تلك التقاسيم ، بل هو مخالف لقوله ، وموجب للصلاة إلا أن ترى دما ، فظهر فساد احتجاجهم به . وقال بعضهم : قسناه على حديث المصراة ، وعلى أجل الله تعالى لثمود ، فكان هذا إلى الهزل والاستخفاف بالدين أقرب منه إلى العلم . ونعوذ بالله من الخذلان . قال علي : وروينا عن إبراهيم النخعي أن المستحاضة تصوم وتصلي ولا يطؤها زوجها . قال علي ، وهذا خطأ لأنها إما حائض وإما طاهر غير حائض ، ولا سبيل إلى قسم ثالث في غير النفساء ، فإن كانت حائضا فلا تحل لها الصلاة ولا الصوم ، وإن كانت غير نفساء ولا حائض فوطء زوجها لها حلال ما لم يكن أحدهما صائما أو محرما أو معتكفا أو كان مظاهرا منها ، فبطل هذا القول ، وبالله تعالى التوفيق .