→ كتاب الطهارة (مسألة 131 - 135) | ابن حزم - المحلى كتاب الطهارة (مسألة 136) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة يتبع (مسألة 136) ← |
كتاب الطهارة
136 - مسألة : وكل شيء مائع - من ماء أو زيت أو سمن أو لبن أو ماء ورد أو عسل أو مرق أو طيب أو غير ذلك ، أي شيء كان ، إذا وقعت فيه نجاسة أو شيء حرام يجب اجتنابه أو ميتة ، فإن غير ذلك لون ما وقع فيه أو طعمه أو ريحه فقد فسد كله وحرم أكله ، ولم يجز استعماله ولا بيعه ، فإن لم يغير شيئا من لون ما وقع فيه ولا من طعمه ولا من ريحه ، فذلك المائع حلال أكله وشربه واستعماله - إن كان قبل ذلك كذلك - والوضوء حلال بذلك الماء ، والتطهر به في الغسل أيضا كذلك ، وبيع ما كان جائزا بيعه قبل ذلك حلال ، ولا معنى لتبين أمره ، وهو بمنزلة ما وقع فيه مخاط أو بصاق إلا أن البائل في الماء الراكد الذي لا يجري حرام عليه الوضوء بذلك الماء والاغتسال به لفرض أو لغيره ، وحكمه التيمم إن لم يجد غيره . وذلك الماء طاهر حلال شربه له ولغيره ، إن لم يغير البول شيئا من أوصافه . وحلال الوضوء به والغسل به لغيره . فلو أحدث في الماء أو بال خارجا منه ثم جرى البول فيه فهو طاهر ، يجوز الوضوء منه والغسل له ولغيره ، إلا أن يغير ذلك البول أو الحدث شيئا من أوصاف الماء ، فلا يجزئ حينئذ استعماله أصلا له ولا لغيره . وحاشا ما ولغ فيه الكلب فإنه يهرق ولا بد كما قدمنا في بابه ، وحاشا السمن يقع فيه الفأر ميتا أو يموت فيه أو يخرج منه حيا ذكرا كان الفأر أو أنثى صغيرا أو كبيرا - فإنه إن كان ذائبا حين موت الفأر فيه ، أو حين وقوعه فيه ميتا أو خرج منه حيا أهرق كله - ولو أنه ألف ألف قنطار أو أقل أو أكثر - ولم يحل الانتفاع به جمد بعد ذلك أو لم يجمد وإن كان حين موت الفأر فيه أو وقوعه فيه ميتا جامدا واتصل جموده ، فإن الفأر يؤخذ منه وما حوله ويرمى ، والباقي حلال أكله وبيعه والادهان به قل أو كثر ، وحاشا الماء فلا يحل بيعه لنهي النبي ﷺ عن ذلك على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى . برهان ذلك : ما ذكرنا قبل من أن كل ما أحل الله تعالى وحكم فيه بأنه طاهر فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بتحريمه أو نجاسته . وكل ما حرم الله تعالى أو نجسه فهو كذلك أبدا ما لم يأت نص آخر بإباحته أو تطهيره ، وما عدا هذا فهو تعد لحدود الله تعالى ، وقال تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } وقال تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } وقال تعالى : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون } وصح بهذا يقينا أن الطاهر لا ينجس بملاقاة النجس ، وأن النجس لا يطهر بملاقاة الطاهر . وأن الحلال لا يحرم بملاقاة الحرام والحرام لا يحل بملاقاة الحلال بل الحلال حلال كما كان والحرام حرام كما كان ، والطاهر طاهر كما كان والنجس نجس كما كان ، إلا أن يرد نص بإحالة حكم من ذلك فسمعا وطاعة . وإلا فلا . ولو تنجس الماء بما يلاقيه من النجاسات ما طهر شيء أبدا ، لأنه كان إذا صب على النجاسة لغسلها ينجس على قولهم ولا بد ، وإذا تنجس وجب تطهيره ، وهكذا أبدا ، ولو كان كذلك لتنجس البحر والأنهار الجارية كلها ؛ لأنه إذا تنجس الماء الذي خالطته النجاسة وجب أن يتنجس الماء الذي يماسه أيضا ، ثم يجب أن يتنجس ما مسه أيضا كذلك أبدا ، وهذا لا مخلص منه . فإن قالوا في شيء من ذلك : لا يتنجس . تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق وتناقضوا ، وفي إجماعهم معنا على بطلان ذلك وعلى تطهير المخرج والدم في الفم والثوب والجسم إقرار بأنه لا نجاسة إلا ما ظهرت فيه عين النجاسة ، ولا يحرم إلا ما ظهر فيه عين المنصوص على تحريمه فقط ، وسائر قولهم فاسد . فإن فرقوا بين الماء الوارد وبين الذي ترده النجاسة . زادوا في التخليط بلا دليل . وأما إذا تغير لون الحلال الطاهر - بما مازجه من نجس أو حرام - أو تغير طعمه بذلك ، أو تغير - ريحه بذلك ، فإننا حينئذ لا نقدر على استعمال الحلال إلا باستعمال الحرام ، واستعمال الحرام في الأكل والشرب وفي الصلاة حرام كما قلنا ، ولذلك وجب الامتناع منه ، لا لأن الحلال الطاهر حرم ولا تنجست عينه ، ولو قدرنا على تخليص الحلال الطاهر من الحرام والنجس ، لكان حلالا بحسبه .
وكذلك إذا كانت النجاسة أو الحرام على جرم طاهر فأزلناها ، فإن النجس لم يطهر والحرام لم يحل ، لكنه زايل الحلال الطاهر ، فقدرنا على أن نستعمله حينئذ حلالا طاهرا كما كان . وكذلك إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام ، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه ، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر ، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام ، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر . وكذلك إذا استحالت صفات عين الحلال الطاهر ، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه ، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حرام أو نجس ، فليس هو ذلك الحلال الطاهر ، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر كالعصير يصير خمرا ، أو الخمر يصير خلا ، أو لحم الخنزير تأكله دجاجة يستحيل فيها لحم دجاج حلالا وكالماء يصير بولا ، والطعام يصير عذرة ، والعذرة والبول تدهن بهما الأرض فيعودان ثمرة حلالا ، ومثل هذا كثير ، وكنقطة ماء تقع في خمر أو نقطة خمر تقع في ماء ، فلا يظهر لشيء من ذلك أثر ، وهكذا كل شيء ، والأحكام للأسماء والأسماء تابعة للصفات التي هي حد ما هي فيه المفرق بين أنواعه . وأما إباحة بيعه والاستصباح به ، فإنما بيع الجرم الحلال لا ما مازجه من الحرام ، وبيع الحلال حلال كما كان قبل . ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل . وممن أجاز بيع المائعات تقع فيها النجاسة والانتفاع بها : علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري والقاسم وسالم وعطاء والليث وأبو حنيفة وسفيان وإسحاق وغيرهم . فإن قيل : فإن في الناس من يحرم ذلك ولا يستجيز أن يأخذه ولو أعطيه بلا ثمن ، فكتمانه ذلك غش ، والغش حرام ، والدين النصيحة . قلنا نعم ، كما أن أكثر الناس لا يستسهل أن يأخذ مائعا وقعت فيه مخطة مجذوم ، أو أدخل فيه يده ، ولو أعطيه بلا ثمن ، وهذا عند الجامدين من خصومنا لا معنى له ، وليس شيء من هذا غشا ، إنما الغش ما كان في الدين ، والنصيحة كذلك ، لا في الظنون الكاذبة المخالفة لأمر الله تعالى . على أن في القائلين من يقول بأن البصاق نجس ممن هو أفضل من الأرض مملوءة من مثل من قلده هؤلاء المتأخرون ، كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عامر العقدي ثنا سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن ربعي بن حراش عن سلمان هو الفارسي صاحب رسول الله ﷺ - قال : " إذا بصقت على جلدك وأنت متوضئ فإن البصاق ليس بطاهر فلا تصل حتى تغسله " . قال ابن المثنى : وحدثنا مخلد بن يزيد الحراني عن التيمي عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال : البصاق بمنزلة العذرة ، ولكن لا حجة في أحد من الناس مع رسول الله ﷺ . فأما حكم البائل فلما حدثنا أحمد بن القاسم حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا حامد بن يحيى البلخي ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب هو السختياني - عن محمد هو ابن سيرين - عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه } . حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه } . فلو أراد عليه السلام أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا ولا تعنيتا لنا بأن يكلفنا علم ما لم يبده لنا من الغيب ، فأما أمر الكلب فقد مضى الكلام فيه .
وأما السمن فإن حمام بن أحمد قال : ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال { سئل رسول الله ﷺ عن الفأرة تقع في السمن قال : إذا كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه } قال عبد الرزاق : وقد كان معمر يذكره أيضا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن ميمونة قال : وكذلك حدثناه ابن عيينة . قال علي : الفأرة والحية والدجاجة والحمامة والعرس أسماء كل واحد منها يقع على الذكر في لغة العرب وقوعه على الأنثى ، وفي قوله ﷺ : { ألقوها وما حولها } . برهان بأنها لا تكون إلا ميتة ، إذ لا يمكن ذلك من الحية . فإن قيل : فإن عبد الواحد بن زياد روى عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة هذا الخبر فقال : { وإن كان ذائبا أو مائعا فاستصبحوا به أو قال : انتفعوا به } قلنا وبالله تعالى التوفيق : عبد الواحد قد شك في لفظة الحديث فصح أنه لم يضبطه ولا شك في أن عبد الرزاق أحفظ لحديث معمر . وأيضا فلم يختلف عن معمر عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة . ومن لم يختلف عليه أحق بالضبط ممن اختلف عليه . وأما الذي نعتمد عليه في هذا فهو أن كلا الروايتين حق ، فأما رواية عبد الواحد فموافقة لما كنا نكون عليه لو لم يرد شيء من هذه الرواية ؛ لأن الأصل إباحة الانتفاع بالسمن وغيره ، لقول الله تعالى : { خلق لكم ما في الأرض جميعا } . وأما رواية عبد الرزاق فشرع وارد وحكم زائد ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين لا شك فيه ، ونحن على يقين من أن الله تعالى لو أعاد حكم المنسوخ وأبطل حكم الناسخ لبين ذلك بيانا يرفع به الإشكال ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فبطل حكم رواية عبد الواحد بيقين لا شك فيه ، وبالله تعالى التوفيق . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن فضيل ثنا عطاء بن السائب عن ميسرة النهدي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه - في الفأرة إذا وقعت في السمن فماتت فيه - قال : إن كان جامدا فاطرحها وما حولها وكل بقيته ، وإن كان ذائبا فأهرقه . قال علي : والمأخوذ مما حولها هو أقل ما يمكن أن يؤخذ وأرقه غلظا ، لأن هذا هو الذي يقع عليه اسم ما حولها ، وأما ما زاد على ذلك فمن المأمور بأكله والمنهي عن تضييعه . فإن قيل : فقد روي : { خذوا مما حولها قدر الكف . } قيل : هذا إنما جاء مرسلا من رواية أبي جابر البياضي - وهو كذاب - عن ابن المسيب فقط ، ومن رواية شريك بن أبي نمر - وهو ضعيف - عن عطاء بن يسار ، وشريك ضعيف ، ولا حجة في مرسل ولو رواه الثقات ، فكيف من رواية الضعفاء . ولا يجوز أن يحكم لغير الفأر في غير السمن ، ولا للفأر في غير السمن ولا لغير الفأرة في السمن بحكم الفأر في السمن ، لأنه لا نص في غير الفأر في السمن ، ومن المحال أن يريد رسول الله ﷺ - حكما في غير الفأر في غير السمن ثم يسكت عنه ولا يخبرنا به ، ويكلنا إلى علم الغيب والقول بما لا نعلم على الله تعالى ، وما يعجز عليه السلام قط عن أن يقول لو أراد : إذا وقع النجس أو الحرام في المائع فافعلوا كذا ، حاشا لله من أن يدع عليه السلام بيان ما أمره ربه تعالى بتبليغه . هذا هو الباطل المقطوع على بطلانه بلا شك . فإن قيل : فإنه قد روي { أن رسول الله ﷺ سئل عن فأرة وقعت في ودك فقال عليه السلام : اطرحوها وما حولها إن كان جامدا ، قيل : وإن كان مائعا ؟ قال : فانتفعوا به ولا تأكلوه } . قلنا : هذا لم يروه أحد إلا عبد الجبار بن عمر ، وهو لا شيء ، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم ، وأيضا فليس فيه إلا الفأر في الودك فقط ، وقد قيل : إن الودك في اللغة للسمن والمرق خاصة والدسم للشحم . وقال أبو حنيفة : إن وقعت خمر أو ميتة أو بول أو عذرة أو نجاسة في ماء راكد نجس كله قلت النجاسة أو كثرت ، ووجب هرقه كله ولم تجز صلاة من توضأ منه أو اغتسل منه ، ولم يحل شربه كثر ذلك الماء أو قل ، إلا أن يكون إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر ، فإنه طاهر حينئذ ، وجائز التطهر به وشربه ، فإن وقعت كذلك في مائع غير الماء حرم أكله وشربه وجاز الاستصباح به والانتفاع به وبيعه ، فإن وقعت النجاسة أو الحرام في بئر ، فإن كان ذلك عصفورا فمات ، أو فأرة فماتت ، فأخرجا ، فإن البئر قد تنجست ، وطهورها أن يستقى منها عشرون دلوا والباقي طاهر . فإن كانت دجاجة أو سنورا فأخرجا حين ماتا فطهورها أربعون دلوا والباقي طاهر ، فإن كانت شاة فأخرجت حين ماتت أو بعدما انتفخت أو تفسخت ، أو لم تخرج الفأرة ولا العصفور ولا الدجاجة أو السنور إلا بعد الانتفاخ أو الانفساخ ، فطهور البئر أن تنزح ، وحد النزح عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن يغلبه الماء ، وعند محمد بن الحسن مائتا دلو ، فلو وقع في البئر سنور أو فأر أو حنش فأخرج ذلك وهي أحياء ، فالماء طاهر يتوضأ به ، ويستحب أن ينزح منها عشرون دلوا ، فلو وقع فيها كلب أو حمار فأخرجا حيين فلا بد من نزح البئر حتى يغلبهم الماء ، فلو بالت شاة في البئر وجب نزحها حتى يغلبهم ، قل البول أو كثر . وكذلك لو بال فيها بعير عندهم ، فلو وقع فيها بعرتان من بعر الإبل أو بعر الغنم لم يضرها ذلك .
وكذلك لو وقع في الماء خرء حمام أو خرء عصفور لم يضره . قال أبو حنيفة : من توضأ من بئر ثم أخرج منها ميتة : فأرة أو دجاجة أو نحو ذلك فإن كانت لم تنفسخ أعاد صلاة يوم وليلة ، وإن كانت قد انفسخت أعاد صلاة ثلاثة أيام بلياليها ، فإن كان طائرا رأوه وقع في البئر ، فإن أخرج ولم يتفسخ لم يعيدوا شيئا وإن أخرج متفسخا أعادوا صلاة ثلاثة أيام بلياليها . فإن رمي شيء من خمر أو دم في بئر نزحت كلها ، فلو رمي في بئر عظم ميتة ، فإن كان عليه لحم أو دم تنجست البئر كلها ووجب نزحها ، فإن لم يكن عليه دم أو لحم لم تتنجس البئر ، إلا أن يكون عظم خنزير أو شعرة واحدة من خنزير ، فإن البئر كلها تتنجس ويجب نزحها ، كان عليهما لحم أو دسم أو لم يكن . وقال أبو يوسف ومحمد : لو ماتت فأرة في ماء في طست وصب ذلك الماء في بئر فإنه ينزح منها عشرون دلوا فقط ، فلو توضأ رجل مسلم طاهر في طست طاهر بماء طاهر وصب ذلك الماء في البئر ، قال أبو يوسف : قد تنجست البئر وتنزح كلها ، وقال محمد بن الحسن : ينزح منها عشرون دلوا كما ينزح من الفأرة الميتة ، فلو وقعت فأرة في خابية ماء فماتت ، فصب ذلك الماء في بئر ، فإن أبا يوسف قال : ينزح منها مثل الماء الذي رمي فيها فقط . وقال محمد بن الحسن : ينزح الأكثر من ذلك الماء أو من عشرين دلوا ، وقال أبو يوسف : لو ماتت فأرة في خابية فرميت الفأرة في بئر ورمي الماء في بئر أخرى ، فإن الفأرة تخرج ويخرج معها عشرون دلوا فقط ويخرج من الماء من البئر الأخرى مثل الماء الذي رمي فيها وعشرون دلوا زيادة فقط ، فلو أن فأرة وقعت في بئر فأخرجت وأخرج معها عشرون دلوا ، ثم رميت الفأرة وتلك العشرون دلوا معها في بئر أخرى فإنه يخرج الفأرة وعشرون دلوا فقط .
قالوا : فلو مات في الماء ضفدع أو ذباب أو زنبور أو عقرب أو خنفساء أو جراد أو نمل أو صرار أو سمك فطفا أو كل ما لا دم له ، فإن الماء طاهر جائز الوضوء به والغسل ، والسمك الطافي عندهم لا يحل أكله . وكذلك إن مات كل ذلك في مائع غير الماء فهو طاهر حلال أكله ، قالوا : فإن ماتت في الماء أو في مائع غيره حية فقد تنجس ذلك الماء وذلك المائع ، لأن لها دما ، فإن ذبح كلب أو حمار أو سبع ثم رمي كل ذلك في راكد لم يتنجس ذلك الماء ، وإن ذلك اللحم حرام لا يحل أكله ، وهكذا كل شيء إلا الخنزير وابن آدم ، فإنهما وإن ذبحا ينجسان الماء . قال علي : فمن يقول هذه الأقوال - التي كثير مما يأتي به المبرسم أشبه منها - ألا يستحي من أن ينكر على من اتبع أوامر رسول الله ﷺ وموجبات العقول في فهم ما أمر الله تعالى به على لسان نبيه ﷺ ولم يتعد حدود ما أمر الله تعالى به ولكن ما رأينا سنة مضاعة ، إلا ومعها بدعة مذاعة . وهذه أقوال لو تتبع ما فيها من التخليط لقام في بيان ذلك سفر ضخم ، إذ كل فصل منها مصيبة في التحكم والفساد والتناقض ، وإنها أقوال لم يقلها قط أحد قبلهم ، ولا لها حظ من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا من قياس يعقل ، ولا من رأي سديد ، ولا من باطل مطرد ، ولكن من باطل متخاذل في غاية السخافة . والعجب أنهم موهوا برواية عن ابن عباس وابن الزبير : أنهما نزحا زمزم من زنجي مات فيها ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن إبراهيم النخعي وعطاء والشعبي والحسن وحماد بن أبي سليمان وسلمة بن كهيل . قال علي بن أحمد : وكل ما روي عن هؤلاء الصحابة وهؤلاء التابعين رضي الله عنهم فمخالف لأقوال أبي حنيفة وأصحابه . أما علي فإننا روينا عنه أنه قال في فأرة وقعت في بئر فماتت : إنه ينزح ماؤها ، وأنه قال في فأرة وقعت في بئر فقطعت : يخرج منها سبع دلاء ، فإن كانت الفأرة كهيئتها لم تتقطع ينزح منها دلو أو دلوان ، فإن كانت منتنة ينزح من البئر ما يذهب الريح ، وهاتان الروايتان ليست واحدة منهما قول أبي حنيفة أصلا . وأما الرواية عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما ، فلو صح ذلك عن النبي ﷺ لم يجب بذلك فرض نزح البئر مما يقع فيها من النجاسات ، فكيف عمن دونه عليه السلام ، لأنه ليس فيه أنهما أوجبا نزحها ولا أمرا به ، وإنما هو فعل منهما قد يفعلانه عن طيب النفس ، لا على أن ذلك واجب ، فبطل تعلقهم بفعل ابن عباس وابن الزبير ، وأيضا فإن في الخبر نفسه أنه قيل لابن عباس : قد غلبتنا عين من جهة الحجر ، فأعطاهم كساء خز فحشوه فيها حتى نزحوها ، وليس هذا قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن حد النزح عند أبي حنيفة أن يغلبهم الماء فقط ، وعند محمد مائتا دلو فقط ، وعند أبي يوسف كقول أبي حنيفة ، فمن أضل ممن يحتج بخبر - يقضي بأنه حجة على من لا يراه حجة - ثم يكون المحتج به أول مخالف لما احتج فكيف ولو صح أنهما رضي الله عنهما أمرا بنزحها لما كان للحنفيين في ذلك حجة ، لأنه لا يجوز أن يظن بهم ، إلا أن زمزم تغيرت بموت الزنجي . وهذا قولنا ، ويؤيد هذا صحة الخبر عن ابن عباس الذي رويناه من طريق وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة عن الشعبي عن ابن عباس : أربع لا تنجس ، الماء والثوب والإنسان والأرض . وقد روينا عن عمر بن الخطاب أن الله جعل الماء طهورا . وأما التابعون المذكورون ، فإن إبراهيم النخعي قال : في الفأرة أربعون دلوا وفي السنور أربعون دلوا ، وقال الشعبي في الدجاجة سبعون دلوا ، وقال حماد بن أبي سليمان في السنور ثلاثون دلوا ، وفي الدجاجة ثلاثون دلوا . وقال سلمة بن كهيل في الدجاجة أربعون دلوا ، وقال الحسن في الفأرة أربعون دلوا ، وقال عطاء في الفأرة عشرون دلوا ، وفي الشاة تموت في البئر أربعون دلوا ، فإن تفسخت فمائة دلو أو تنزح ، وفي الكلب يقع في البئر ، إن أخرج منها حيا عشرون دلوا ، فإن مات فأخرج حين موته فستون دلوا ، فإن تفسخ فمائة دلو أو تنزح ، فهل من هذه الأقوال قول يوافق أقوال أبي حنيفة وأصحابه إلا قول عطاء في الفأرة دون أن يقسم تقسيم أبي حنيفة ، وقول إبراهيم في السنور دون أن يقسم أيضا تقسيم أبي حنيفة ، فلم يحصلوا إلا على خلاف الصحابة والتابعين كلهم فلا تعلق بشيء من السنن أو المقاييس . ومن عجيب ما أوردنا عنهم قولهم في بعض أقوالهم : إن ماء وضوء المسلم الطاهر النظيف أنجس من الفأرة الميتة ولو أوردنا التشنيع عليهم بالحق لألزمناهم ذلك في وضوء رسول الله ﷺ فإما أن يتركوا قولهم ، وإما أن يخرجوا عن الإسلام أو في وضوء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم . وقولهم : إن حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر ، فليت شعري هذه الحركة بماذا تكون أبإصبع طفل ، أم بتبنة ، أو بعود مغزل ، أو بعوم عائم ، أو بوقوع فيل ، أو بحصاة صغيرة أو بحجر منجنيق ، أو بانهدام جرف ؟ نحمد الله على السلامة من هذه التخاليط ، لا سيما فرقهم في ذلك بين الماء وسائر المائعات ، فإن ادعوا فيه إجماعا ، قلنا لهم : كذبتم ، هذا ابن الماجشون يقول : إن كل ماء أصابته نجاسة فقد تنجس ، إلا أن يكون غديرا إذا حرك وسطه لم تتحرك أطرافه .
وقال مالك في البئر تقع فيها الدجاجة فتموت فيها : إنه ينزف إلا أن تغلبهم كثرة الماء ، ولا يؤكل طعام عجن به ، ويغسل من الثياب ما غسل به ، ويعيد كل من توضأ بذلك الماء أو اغتسل به صلاة صلاها ما كان في الوقت . قال فإن وقعت في البئر الوزغة أو الفأرة فماتتا إنه يستقى منها حتى تطيب ، ينزفون منها ما استطاعوا ، فلو وقع خمر في ماء فإن من يتوضأ منه يعيد في الوقت فقط ، فلو وقع شيء من ذلك في مائع غير الماء لم يحل أكله ، تغير أو لم يتغير ، فإن بل في الماء خبز لم يجز الوضوء منه ، وأعاد من توضأ به أبدا ، فلو تغير الماء من النجاسة المذكورة أو من شيء طاهر ، أعاد من توضأ به وصلى أبدا ، فلو مات شيء من خشاش الأرض في ماء أو في طعام أو شراب أو غير ذلك لم يضره ، ويؤكل كل ذلك ويشرب ، وذلك نحو الزنبور والعقرب والصرار والخنفساء والسرطان والضفدع وما أشبه ذلك . وقال ابن القاسم صاحبه : قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، ويتيمم من لم يجد سواه ، فإن توضأ وصلى به لم يعد إلا في الوقت . قال علي : إن كان فرق بهذا القول بين ما ماتت فيه الوزغة والفأرة وبين ما ماتت فيه الدجاجة فهو خطأ ، لأنه قول بلا برهان ، وإن كان ساوى بين كل ذلك فقد تناقض قوله ، إذ منع من أكل الطعام المعمول بذلك الماء ، وإذ أمر بغسل ما مسه من الثياب ، ثم لم يأمر بإعادة الصلاة إلا في الوقت ، وهذا عنده اختيار لا إيجاب ، فإن كانت الصلاة التي يأمره بأن يأتي بها في الوقت تطوعا عنده ، فأي معنى للتطوع في إصلاح ما فسد من صلاة الفريضة ؟ فإن قال إن لذلك معنى ، قيل له : فما الذي يفسد ذلك المعنى إذا خرج الوقت ؟ وما الوجه الذي رغبتموه من أجله في أن يتطوع في الوقت ، ولم ترغبوه في التطوع بعد الوقت ؟ وإن كانت الصلاة التي يأمره أن يأتي بها في الوقت فرضا ، فكيف يجوز أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ؟ وما الذي أسقطها عنه إذا خرج الوقت ؟ وهو يرى أن الصلاة الفرض يؤديها التارك لها فرضا ولا بد وإن خرج الوقت . ثم العجب من تفريق أبي حنيفة ومالك بين ما لا دم له يموت في الماء وفي . المائعات وبين ما له دم يموت فيها وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا معقول ، والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم . فإن قالوا : أردنا ما له دم سائل ، قيل : وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات ؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام ، وبذلك جاء القرآن ، والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد ، فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات ؟ فقال بعضهم : قد أجمع المسلمون على أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت ، وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت وعلى أكل الخل وفيه الدود الميت ، وعلى أكل الجبن والتين كذلك ، وقد أمر رسول الله ﷺ بمقل الذباب في الطعام . قيل لهم وبالله تعالى التوفيق : إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم ، وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل الطعام يموت فيه الذباب كما زعمتم ، فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين : إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة . ويكون ما عدا ذلك بخلافه ، إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها ، وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر ، وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل ، وعلى الدود كل منساب . ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له ؟ فأخطأتم مرتين : إحداهما أن الذباب له دم ، والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له ، دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح . فإن قالوا : قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن . قيل لهم : ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر ؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل ، أو كل حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلا والعجب كله من حكمهم أن ما كان له دم سائل فهو النجس ، فيقال لهم : فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم ؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة ؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه . وأما قول ابن القاسم فظاهر الخطأ ، لأنه رأى التيمم أولى من الماء النجس . فوجب أن المستعمل له ليس متوضئا ، ثم لم ير الإعادة على من صلى كذلك إلا في الوقت ، وهو عنده مصل بغير وضوء . وقال الشافعي : إذا كان الماء غير جار ، فسواء البئر والإناء والبقعة وغير ذلك إذا كان أقل من خمسمائة رطل بالبغدادي ، بما قل أو كثر ، فإنه ينجسه كل نجس وقع فيه وكل ميتة ، سواء ما له دم سائل وما ليس له دم سائل ، كل ذلك ميتة نجس يفسد ما وقع فيه ، فإن كان خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه فإن كان ذلك في مائع غير الماء نجس كله وحرم استعماله ، كثيرا كان أو قليلا . وقال أبو ثور صاحبه : جميع المائعات بمنزلة الماء ، إذا كان المائع خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه ، إلا أن يغير لونه أو طعمه أو ريحه ، فإن كان أقل من خمسمائة رطل ينجس . ولم يختلف أصحاب الشافعي - وهو الواجب ولا بد على أصله - في أن إناء فيه خمسمائة رطل من ماء غير أوقية فوقع فيه نقطة بول أو خمر أو نجاسة ما فإنه كله نجس حرام ولا يجوز الوضوء فيه ، وإن لم يظهر لذلك فيه أثر ، فلو وقع فيه رطل بول أو خمر أو نجاسة ما فلم يظهر لها فيه أثر ، فالماء طاهر يجزئ الوضوء به ويجوز شربه .