→ كتاب الطهارة (مسألة 188 - 193) | ابن حزم - المحلى صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا (مسألة 194 - 199) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة (مسألة 200 - 206) ← |
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
194 - مسألة : فلو انغمس من عليه غسل واجب في ماء راكد ، ونوى الغسل أجزأه من الحيض ومن النفاس ومن غسل الجمعة ومن الغسل من غسل الميت ولم يجزه للجنابة ، فإن كان جنبا ونوى بانغماسه في الماء الراكد غسلا من هذه الأغسال ولم ينو غسل الجنابة أو نواه ، لم يجزه أصلا لا للجنابة ولا لسائر الأغسال ، والماء في كل ذلك طاهر بحسبه ، قل أو كثر ، مطهر له إذا تناوله ، ولغيره على كل حال ، وسواء في كل ما ذكرنا كان ماء قليلا في مطهرة أو جب أو بئر ، أو كان غديرا راكدا فراسخ في فراسخ ، كل ذلك سواء . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب ثنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ : { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } فقيل : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولا " . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن محمد بن عجلان قال : سمعت أبي يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة } . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال " كنا نستحب أن نأخذ من ماء الغدير ونغتسل به في ناحية " . قال أبو محمد ، فنهى رسول الله ﷺ الجنب عن أن يغتسل في الماء الدائم - في رواية أبي السائب عن أبي هريرة - جملة فوجب منه أن كل من اغتسل وهو جنب في ماء دائم ، فقد عصى الله تعالى إن كان عالما بالنهي ، ولا يجزيه لأي غسل نواه ، لأنه خالف ما أمره به رسول الله ﷺ جملة . وهذا الحديث أعم من حديث ابن عجلان عن أبيه ، لأنه لو لم يكن إلا حديث ابن عجلان لأجزأ الجنب أن يغتسل في الماء الدائم لغير الجنابة ، لكن العموم وزيادة العدل لا يحل خلافها . وممن رأى أن اغتسال الجنب في الماء الدائم لا يجزيه أبو حنيفة ، إلا أنه عم بذلك كل غسل وكل وضوء ، وخص بذلك ما كان دون الغدير الذي إذا حرك طرفه لم يتحرك الآخر ، ورأى الماء يفسد بذلك ، فكان ما زاد بذلك على أمر رسول الله ﷺ - من عموم كل غسل - خطأ ، ومن تنجيس الماء وكان ما نقص بذلك من أمره عليه السلام من تخصيصه بعض المياه الرواكد دون بعض - خطأ وكان ما وافق فيه أمره عليه السلام صوابا ، وقاله أيضا الحسن بن حي ، إلا أنه خص به ما دون الكر من الماء ، فكان هذا التخصيص خطأ . وقال به أيضا الشافعي ، إلا أنه خص به ما دون خمسمائة رطل ، فكان هذا التخصيص خطأ ، وعم به كل غسل ، فكان هذا الذي زاده خطأ ، ورأى الماء لا يفسد ، فأصاب ، وكره مالك ذلك . وأجازه إذا وقع ، فكان هذا منه خطأ ، لأن رسول الله ﷺ قال : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } ومن المحال أن يجزئ غسل نهى عنه رسول الله ﷺ عن غسل أمر به ، أبى الله أن تنوب المعصية عن الطاعة وأن يجزئ الحرام مكان الفرض . وقولنا هو قول أبي هريرة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم ، وما نعلم لهما في ذلك مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم . قال علي : فلو غسل الجنب شيئا من جسده في الماء الدائم لم يجزه ، ولو أنه شعرة واحدة ، لأن بعض الغسل غسل ، ولم ينه عليه السلام عن أن يغتسل غير الجنب في الماء الدائم { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } { وما كان ربك نسيا } فصح أن غير الجنب يجزيه أن يغتسل في الماء الدائم لكل غسل واجب أو غير واجب ، وبالله تعالى التوفيق .
195 - مسألة : ومن أجنب يوم الجمعة من رجل أو امرأة - فلا يجزيه إلا غسلان غسل ينوي به الجنابة ولا بد ، وغسل آخر ينوي به الجمعة ولا بد ، فلو غسل ميتا أيضا لم يجزه إلا غسل ثالث ينوي به ولا بد ، فلو حاضت امرأة بعد أن وطئت فهي بالخيار إن شاءت عجلت الغسل للجنابة وإن شاءت أخرته حتى تطهر ، فإذا طهرت لم يجزها إلا غسلان ، غسل تنوي به الجنابة وغسل آخر تنوي به الحيض ، فلو صادفت يوم جمعة وغسلت ميتا لم يجزها إلا أربعة أغسال كما ذكرنا فلو نوى بغسل واحد غسلين مما ذكرنا فأكثر ، لم يجزه ولا لواحد منهما ، وعليه أن يعيدهما ، وكذلك إن نوى أكثر من غسلين ، ولو أن كل من ذكرنا يغسل كل عضو من أعضائه مرتين إن كان عليه غسلان - أو ثلاثا - إن كان عليه ثلاثة أغسال - أو أربعا - إن كان عليه أربعة أغسال - ونوى في كل غسلة الوجه الذي غسله له أجزأه ذلك وإلا فلا ، فلو أراد من ذكرنا : الوضوء لم يجزه إلا المجيء بالوضوء بنية الوضوء مفردا عن كل غسل ذكرنا ، حاشا غسل الجنابة وحده فقط فإنه إن نوى بغسل أعضاء الوضوء غسل الجنابة والوضوء معا أجزأه ذلك ، فإن لم ينو إلا الغسل فقط لم يجزه للوضوء ولو نواه للوضوء فقط لم يجزه للغسل ، ولا يجزئ للوضوء ما ذكرنا إلا مرتبا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . برهان ذلك قول الله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وقول رسول الله ﷺ : { إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى } فصح يقينا أنه مأمور بكل غسل من هذه الأغسال ، فإذ قد صح ذلك فمن الباطل أن يجزئ عمل واحد عن عملين أو عن أكثر ، وصح يقينا أنه إن نوى أحد ما عليه من ذلك فإنما له - بشهادة رسول الله ﷺ الصادقة - الذي نواه فقط وليس له ما لم ينوه ، فإن نوى بعمله ذلك غسلين فصاعدا فقد خالف ما أمر به ، لأنه مأمور بغسل تام لكل وجه من الوجوه التي ذكرنا ، فلم يفعل ذلك ، والغسل لا ينقسم ، فبطل عمله كله ، لقول رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وأما غسل الجنابة والوضوء فإنه أجزأ فيهما عمل واحد بنية واحدة لهما جميعا للنص الوارد في ذلك ، كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن يوسف ثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي ﷺ { كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيده ، ثم يفيض الماء على جلده كله } . وهكذا رواه أبو معاوية وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وغيرهم عن هشام عن أبيه عن عائشة . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عيسى بن يونس ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال : حدثتني خالتي ميمونة قالت { أدنيت لرسول الله ﷺ غسله من الجنابة فغسل كفيه مرتين أو ثلاثا ، ثم أدخل يده في الإناء ، ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا ، ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفيه ، ثم غسل سائر جسده ، ثم تنحى عن مقامه ذلك فغسل رجليه ، ثم أتيته بالمنديل فرده } فهذا رسول الله ﷺ لم يعد غسل أعضاء الوضوء في غسله للجنابة ، ونحن نشهد الله أن رسول الله ﷺ ما ضيع نية كل عمل افترضه الله عليه ، فوجب ذلك في غسل الجنابة خاصة وبقيت سائر الأغسال على حكمها قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : يجزئ غسل واحد للجنابة والحيض . وقال بعض أصحاب مالك : يجزئ غسل واحد للجمعة والجنابة ، وقال بعضهم : إن نوى الجنابة يجزه من الجمعة ، وإن نوى الجمعة أجزأه ، من الجنابة قال علي : وهذا في غاية الفساد ، لأن غسل الجمعة عندهم تطوع ، فكيف يجزئ تطوع عن فرض ؟ أم كيف تجزئ نية في فرض لم تخلص وأضيف إليها نية تطوع ؟ إن هذا لعجب قال علي : واحتجوا في ذلك بأن قالوا : وجدنا وضوءا واحدا وتيمما واحدا يجزئ عن جميع الأحداث الناقضة للوضوء ، وغسلا واحدا يجزئ عن جنابات كثيرة ، وغسلا واحدا يجزئ عن حيض أيام ، وطوافا واحدا يجزئ عن عمرة وحج في القرآن ، فوجب أن يكون كذلك كل ما يوجب الغسل . قال أبو محمد : وهذا قياس والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنه لو صح القياس لم يكن القياس لأن يجزئ غسل واحد عن غسلين مأمور بهما على ما ذكروا في الوضوء : بأولى من أن يقاس حكم من عليه غسلان على من عليه يومان من - شهر رمضان ، أو رقبتان عن ظهارين ، أو كفارتان عن يمينين ، أو هديان عن متعتين ، أو صلاتا ظهر من يومين ، أو درهمان من عشرة دراهم عن مالين مختلفين ، فيلزمهم أن يجزئ في كل ذلك صيام يوم واحد ، ورقبة واحدة ، وكفارة واحدة ، وهدي واحد ، وصلاة واحدة ودرهم واحد ، وهكذا في كل شيء من الشريعة وهذا ما لا يقوله أحد ، فبطل قياسهم الفاسد . ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : أما الوضوء فإن رسول الله ﷺ قال : { لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ } وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده في باب الحدث في الصلاة ، فصح بهذا الخبر أن الوضوء من الحدث جملة ، فدخل في ذلك كل حدث . وقال تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فدخل في ذلك كل جنابة . وصح أيضا عن رسول الله ﷺ وضوء واحد للصلاة من كل حدث سلف ، من نوم وبول وحاجة المرء وملامسة ، وإنه عليه السلام كان يطوف على نسائه بغسل واحد كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا هشيم ثنا حميد الطويل عن أنس { أن رسول الله ﷺ كان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد } . وأما - طواف واحد وسعي واحد في القران عن الحج والعمرة ، فلقول رسول الله ﷺ : { طواف واحد يكفيك لحجك وعمرتك } وقوله عليه السلام : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } . والعجب كله من أبي حنيفة إذ يجزئ عنده غسل واحد عن الحيض والجنابة والتبرد ، ولا يجزئ عنده للحج والعمرة في القران إلا طوافان وسعيان . وهذا عكس الحقائق وإبطال السنن . قال أبو محمد " وممن قال بقولنا جماعة من السلف كما روينا عن عبد الرحمن بن مهدي قال : ثنا حبيب وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وعبد الأعلى وبشر بن منصور . قال حبيب عمرو بن هرم قال : سئل جابر بن زيد هو أبو الشعثاء - عن المرأة تجامع ثم تحيض ؟ قال عليها أن تغتسل - يعني للجنابة - وقال سفيان عن ليث والمغيرة بن مقسم وهشام بن حسان . قال ليث : عن طاوس ، وقال المغيرة عن إبراهيم النخعي . وقال هشام عن الحسن . قالوا كلهم في المرأة تجنب ثم تحيض أنها تغتسل - يعنون للجنابة - وقال ابن المبارك عن الحجاج عن ميمون بن مهران وعمرو بن شعيب في المرأة تكون جنبا ثم تحيض ، قالا جميعا : تغتسل ، يعنيان للجنابة ، قال وسألت عنها الحكم بن عتيبة قال : تصب عليها الماء ، غسلة دون غسلة وقال عبد الأعلى ثنا معمر ويونس بن عبيد وسعيد بن أبي عمرويه ، قال معمر عن الزهري ، وقال يونس عن الحسن وقال سعيد عن قتادة قالوا كلهم في المرأة تجامع ثم تحيض ، أنها تغتسل لجنابتها ، وقال بشر بن منصور عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح في المرأة تجامع ثم تحيض أنها تغتسل ، فإن أخرت فغسلان عند طهرها . فهؤلاء جابر بن زيد والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم وطاوس وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وميمون بن مهران ، وهو قول داود وأصحابنا .
196 - مسألة : ويكره للمغتسل أن يتنشف في ثوب غير ثوبه الذي يلبس ، فإن فعل فلا حرج ، ولا يكره ذلك في الوضوء . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن مفرج ثنا ابن السكن ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا أبو عوانة ثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس عن ميمونة بنت الحارث قالت { وضعت لرسول الله ﷺ غسلا وسترته - فذكرت صفة غسله عليه السلام قالت - وغسل رأسه ثم صب على جسده ، ثم تنحى فغسل قدميه ، فناولته خرقة ، فقال بيده هكذا ولم يردها } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا هشام ثنا أبو مروان ومحمد بن المثنى قالا حدثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال : { زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ أمر له سعد بغسل فاغتسل ، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها رسول الله ﷺ } . قال أبو محمد : هذا لا يضاد الأول ، لأنه عليه السلام اشتمل فيها فصارت لباسه حينئذ ، وقال بهذا بعض السلف ، كما روينا عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء : أنه سئل عن المنديل المهذب أيمسح به الرجل الماء ؟ فأبى أن يرخص فيه ، وقال هو شيء أحدث . قلت : أرأيت إن كنت أريد أن يذهب عني المنديل برد الماء قال فلا بأس به إذن ، ولم ينه عليه السلام عن ذلك في الوضوء فهو مباح فيه .
197 - مسألة : وكل غسل ذكرنا فللمرء أن يبدأ به من رجليه أو من أي أعضائه شاء ، حاشا غسل الجمعة والجنابة ، فلا يجزئ فيهما إلا البداءة بغسل الرأس أولا ثم الجسد ، فإن انغمس في ماء فعليه أن ينوي البداءة برأسه ثم بجسده ولا بد . برهان ذلك قول رسول الله ﷺ - الذي قد ذكرناه بإسناده { حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما ، يغسل رأسه وجسده } وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال { ابدءوا بما بدأ الله به } وسنذكره في ترتيب الوضوء بإسناده إن شاء الله تعالى . وقد بدأ عليه السلام بالرأس قبل الجسد ، وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح أن ما ابتدأ به رسول الله ﷺ في نطقه فعن وحي أتاه من عند الله تعالى ، فالله تعالى هو الذي بدأ بالذي بدأ به رسول الله ﷺ .
198 - مسألة : وصفة الوضوء أنه إن كان انتبه من نوم فعليه أن يغسل يديه ثلاثا كما قد ذكرنا قبل ، وأن يستنشق وأن يستنثر ثلاثا ليطرد الشيطان عن خيشومه كما قد وصفنا ، وسواء تباعد ما بين نومه ووضوئه أو لم يتباعد ، فإن كان قد فعل كل ذلك فليس عليه أن يعيد ذلك الوضوء من حدث غير النوم ، فلو صب على يديه من إناء دون أن يدخل يده فيه لزمه غسل يده أيضا ثلاثا إن قام من نومه ، ثم نختار له أن يتمضمض ثلاثا ، وليست المضمضة فرضا ، وإن تركها فوضوءه تام وصلاته تامة ، عمدا تركها أو نسيانا ، ثم ينوي وضوءه للصلاة كما قدمنا ، ثم يضع الماء في أنفه ويجبذه بنفسه ولا بد ، ثم ينثره بأصابعه ولا بد مرة فإن فعل الثانية والثالثة فحسن ، وهما فرضان لا يجزئ الوضوء ولا الصلاة دونهما ، لا عمدا ولا نسيانا ، ثم يغسل وجهه من حد منابت الشعر في أعلى الجبهة إلى أصول الأذنين معا إلى منقطع الذقن ويستحب أن يغسل ذلك ثلاثا أو ثنتين وتجزئ مرة ، ليس عليه أن يمس الماء ما انحدر من لحيته تحت ذقنه ، ولا أن يخلل لحيته ، ثم يغسل ذراعيه من منقطع الأظفار إلى أول المرافق مما يلي الذراعين ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ، وتجزئ مرة ، ولا بد ضرورة من إيصال الماء بيقين إلى ما تحت الخاتم بتحريكه عن مكانه ، ثم يمسح رأسه كيفما مسحه أجزأه ، وأحب إلينا أن يعم رأسه بالمسح ، فكيفما مسحه بيديه أو بيد واحدة أو بأصبع واحدة أجزأه . فلو مسح بعض رأسه أجزأه وإن قل ، ونستحب أن يمسح رأسه ثلاثا أو مرتين وواحدة تجزئ ، وليس على المرأة والرجل مس ما انحدر من الشعر عن منابت الشعر على القفا والجبهة ثم يستحب له مسح أذنيه ، إن شاء بما مسح به رأسه وإن شاء بماء جديد ، ويستحب تجديد الماء لكل عضو ، ثم يغسل رجليه من مبتدإ منقطع الأظفار إلى آخر الكعبين مما يلي الساق ، فإن غسل ذلك ثلاثا فحسن ، ومرتين حسن ومرة تجزئ ، وتستحب تسمية الله تعالى على الوضوء ، وإن لم يفعل فوضوءه تام . أما قولنا في المضمضة فلم يصح بها عن رسول الله ﷺ أمر ، وإنما هي فعل فعله عليه السلام ، وقد قدمنا أن أفعاله ﷺ ليست فرضا ، وإنما فيها الإيتار به عليه السلام ، لأن الله تعالى إنما أمرنا بطاعة أمر نبيه عليه السلام ولم يأمرنا بأن نفعل أفعاله . قال تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } وأما الاستنشاق والاستنثار فإن عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن منصور ثنا سفيان هو ابن عيينة - عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر } ورويناه أيضا من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة مسندا ، ومن طريق سلمة بن قيس عن رسول الله ﷺ قال علي : قال مالك والشافعي : ليس الاستنشاق والاستنثار فرضا في الوضوء ولا في الغسل من الجنابة ، وقال أبو حنيفة : هما فرض في الغسل من الجنابة وليسا فرضا في الوضوء ، وقال أحمد بن حنبل وداود : الاستنشاق والاستنثار فرضان في الوضوء وليسا فرضين في الغسل من الجنابة ، وليست المضمضة فرضا لا في الوضوء ولا في غسل الجنابة ، وهذا هو الحق . وممن صح عنه الأمر بذلك جماعة من السلف . روينا عن علي بن أبي طالب إذا توضأت فانثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ، وعن شعبة : قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض ويستنشق قال : يستقبل . وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض ويستنشق قال : أحب إلي أن يعيد يعني الصلاة . وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان وابن أبي ليلى قالا جميعا " إذا نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد " يعنون الصلاة - وعن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري من نسي المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد - يعني الصلاة - وعن ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر عن هشام عن الحسن في المضمضة والاستنشاق والاستنثار وغسل الوجه واليدين والرجلين : ثنتان تجزيان وثلاث أفضل . قال علي وشغب قوم بأن الاستنشاق والاستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى يقول : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } فكل ما أمر به رسول الله ﷺ فالله تعالى أمر به . وأما قولنا في الوجه ، فإنه لا خلاف في أن الذي قلنا فرض غسله قبل خروج اللحية ، فإذا خرجت اللحية فهي مكان ما سترت ، ولا يسقط غسل شيء يقع عليه اسم الوجه بالدعوى ، ولا يجوز أن يؤخذ بالرأي فرق بين ما يغسل الأمرد من وجهه والكوسج والألحى . وأما ما انحدر عن الذقن من اللحية وما انحدر عن منابت الشعر من القفا والجبهة ، فإنما أمرنا عز وجل بغسل الوجه ومسح الرأس وبالضرورة يدري كل أحد أن رأس الإنسان ليس في قفاه ، وأن الجبهة من الوجه المغسول ، لا حظ فيها للرأس الممسوح ، وأن الوجه ليس في العنق ولا في الصدر فلا يلزم في كل ذلك شيء ، إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة . وأما قولنا في غسل الذراعين وما تحت الخاتم والمرفقين ، فإن الله تعالى قال : { وأيديكم إلى المرافق } فمن ترك شيئا ولو قدر شعرة مما أمر الله تعالى بغسله فلم يتوضأ كما أمره الله تعالى ، ومن لم يتوضأ كما أمره الله تعالى فلم يتوضأ أصلا ، ولا صلاة له فوجب إيصال الماء بيقين إلى ما ستر الخاتم من الأصبع ، وأما المرافق فإن " إلى " في لغة العرب التي بها نزل القرآن تقع على معنيين ، تكون بمعنى الغاية ، وتكون بمعنى مع ، قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } بمعنى مع أموالكم ، فلما كانت تقع " إلى " على هذين المعنيين وقوعا صحيحا مستويا ، لم يجز أن يقتصر بها على أحدهما دون الآخر ، فيكون ذلك تخصيصا لما تقع عليه بلا برهان ، فوجب أن يجزئ غسل الذراعين إلى أول المرفقين بأحد المعنيين ، فيجزئ ، فإن غسل المرافق فلا بأس أيضا . وأما قولنا في مسح الرأس فإن الناس اختلفوا ، فقال مالك بعموم مسح الرأس في الوضوء . وقال أبو حنيفة يمسح من الرأس فرضا مقدار ثلاث أصابع ، وذكر عنه تحديد الفرض مما يمسح من الرأس بأنه ربع الرأس ، وإنه إن مسح رأسه بأصبعين أو بأصبع لم يجزه ذلك ، فإن مسح بثلاث أصابع أجزأه . وقال سفيان الثوري : يجزئ من الرأس مسح بعضه ولو شعرة واحدة ، ويجزئ مسحه بأصبع وببعض أصبع ، وحد أصحاب الشافعي ما يجزئ من مسح الرأس بشعرتين ، ويجزئ بأصبع وببعض أصبع ، وأحب ذلك إلى الشافعي العموم بثلاث مرات . وقال أحمد بن حنبل : يجزئ المرأة أن تمسح بمقدم رأسها ، وقال الأوزاعي والليث : يجزئ مسح مقدم الرأس فقط ومسح بعضه كذلك ، وقال داود : يجزئ من ذلك ما وقع عليه اسم مسح . وكذلك بما مسح من أصبع أو أقل أو أكثر وأحب إليه العموم ثلاثا ، وهذا هو الصحيح ، وأما الاقتصار على بعض الرأس فإن الله تعالى يقول : { وامسحوا برءوسكم } والمسح في اللغة التي نزل بها القرآن هو غير الغسل بلا خلاف ، والغسل يقتضي الاستيعاب والمسح لا يقتضيه حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا التيمي هو سليمان - عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن هو البصري - عن ابن المغيرة بن شعبة هو حمزة - عن أبيه { أن رسول الله ﷺ توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة } حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي حدثنا أبو داود ثنا مسدد عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : سمعت أبي يحدث عن بكر بن عبد الله المزني عن الحسن عن ابن المغيرة بن شعبة عن أبيه { أن رسول الله ﷺ كان يمسح على الخفين وعلى ناصيته وعلى عمامته } قال بكر : وقد سمعته من ابن المغيرة . وممن قال بهذا جماعة من السلف . روينا عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر : أنه كان يدخل يده في الوضوء فيمسح به مسحة واحدة اليافوخ فقط . ورويناه أيضا من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر . وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير : إنها كانت تمسح عارضها الأيمن بيدها اليمنى ، وعارضها الأيسر بيدها اليسرى من تحت الخمار وفاطمة هذه أدركت جدتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وروت عنها . وعن وكيع عن قيس عن أبي هاشم عن النخعي قال : إن أصاب هذا - يعني مقدم رأسه وصدغيه - أجزأه - يعني في الوضوء - وعن وكيع عن إسماعيل الأزرق عن الشعبي قال : إن مسح جانب رأسه أجزأه وروي أيضا عن عطاء وصفية بنت أبي عبيد وعكرمة والحسن وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم . قال أبو محمد : ولا يعرف عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف لما رويناه عن ابن عمر في ذلك ، ولا حجة لمن خالفنا فيمن روى عنه من الصحابة وغيرهم مسح جميع رأسه ؛ لأننا لا ننكر ذلك بل نستحبه ، وإنما نطالبهم بمن أنكر الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء فلا يجدونه . قال علي : ومن خالفنا في هذا فإنهم يتناقضون ، فيقولون في المسح على الخفين : إنه خطوط لا يعم الخفين ، فما الفرق بين مسح الخفين ومسح الرأس ؟ وأخرى وهي أن يقال لهم : إن كان المسح عندكم يقتضي العموم فهو والغسل سواء ، وما الفرق بينه وبين الغسل ؟ وإن كان كذلك فلم تنكرون مسح الرجلين في الوضوء وتأبون إلا غسلهما إن كان كلاهما يقتضي العموم ؟ وأيضا فإنكم لا تختلفون في أن غسل الجنابة يلزم تقصي الرأس بالماء ، وأن ذلك لا يلزم في الوضوء ، فقد أقررتم بأن المسح بالرأس خلاف الغسل ، وليس هنا فرق إلا أن المسح لا يقتضي العموم فقط ، وهذا ترك لقولكم . وأيضا فما تقولون فيمن ترك بعض شعرة واحدة في الوضوء فلم يمسح عليها ؟ فمن قولهم : إنه يجزيه ، وهذا ترك منهم لقولهم . فإن قالوا : إنما نقول بالأغلب ، قيل لهم : فترك شعرتين أو ثلاثا ؟ وهكذا أبدا ، فإن حدوا حدا قالوا بباطل لا دليل عليه ، وإن تمادوا صاروا إلى قولنا ، وهو الحق . فإن قالوا : من عم رأسه فقد صح أنه توضأ ، ومن لم يعمه فلم يتفق على أنه توضأ قلنا لهم فأوجبوا بهذا الدليل نفسه الاستنشاق فرضا والترتيب فرضا ، وغير ذلك مما فيه ترك لجمهور مذهبهم . إن قالوا : مسحه عليه السلام مع ناصيته على عمامته يدل على العموم ، قلنا : هذا أعجب شيء لأنكم لا تجيزون ذلك من فعل من فعله ، فكيف تحتجون بما لا يجوز عندكم وأيضا فمن لكم بأنه فعل واحد ؟ بل هما فعلان متغايران على ظاهر الأخبار في ذلك . وأما تخصيص أبي حنيفة لربع الرأس أو لمقدار ثلاثة أصابع ففاسد ؛ لأنه قول لا دليل عليه ، فإن قالوا : هو مقدار الناصية ، قلنا لهم : ومن لكم بأن هذا هو مقدار الناصية ؟ والأصابع تختلف ، وتحديد ربع الرأس يحتاج إلى تكسير ومساحة وهذا باطل ، وكذلك قولهم في منع المسح بأصبع أو بأصبعين . فإن قالوا : إنما أردنا أكثر اليد ، قلنا لهم : أنتم لا توجبون المسح باليد فرضا ، بل تقولون إنه لو وقف تحت ميزاب فمس الماء منه مقدار ربع رأسه أجزأه ، فظهر فساد قولهم . ويسألون أيضا عن قولهم بأكثر اليد ؟ فإنهم لا يجدون دليلا على تصحيحه ، وكذلك يسألون عن اقتصارهم على مقدار الناصية ؟ فإن قالوا : اتباعا للخبر في ذلك ، قيل لهم : فلم تعديتم الناصية إلى مؤخر الرأس ؟ وما الفرق بين تعديكم الناصية إلى غيرها وبين تعدي مقدارها إلى غير مقدارها ؟ وأما قول الشافعي فإن النص لم يأت بمسح الشعر فيكون ما قال من مراعاة عدد الشعر ، وإنما جاء القرآن بمسح الرأس ، فوجب أن لا يراعى إلا ما يسمى مسح الرأس فقط ، والخبر الذي ذكرنا عن النبي ﷺ في ذلك هو بعض ما جاء به القرآن فالآية أعم من ذلك الخبر ، وليس في الخبر منع من استعمال الآية ، ولا دليل على الاقتصار على الناصية فقط . وبالله تعالى التوفيق .
199 - مسألة : وأما مسح الأذنين فليسا فرضا ، ولا هما من الرأس لأن الآثار في ذلك واهية كلها ، قد ذكرنا فسادها في غير هذا المكان ، ولا يختلف أحد في أن البياض الذي بين منابت الشعر من الرأس وبين الأذنين ليس هو من الرأس في حكم الوضوء ، فمن المحال أن يكون يحول بين أجزاء رأس الحي عضو ليس من الرأس ، وأن يكون بعض رأس الحي مباينا لسائر رأسه ، وأيضا فلو كان الأذنان من الرأس لوجب حلق شعرهما في الحج ، وهم لا يقولون هذا . وقد ذكرنا البرهان على صحة الاقتصار على بعض الرأس في الوضوء ، فلو كان الأذنان من الرأس لأجزأ أن يمسحا عن مسح الرأس . وهذا لا يقوله أحد ، ويقال لهم : إن كانتا من الرأس فما بالكم تأخذون لهما ماء جديدا وهما بعض الرأس ؟ وأين رأيتم عضوا يجدد لبعضه ماء غير الماء الذي مسح به سائره . ثم لو صح الأثر أنهما من الرأس لما كان علينا في ذلك نقض لشيء من أقوالنا . وبالله تعالى التوفيق .