→ كتاب الطهارة (مسألة 194 - 199) | ابن حزم - المحلى صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا (مسألة 200 - 206) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة (مسألة 207 - 211) ← |
كتاب الطهارة
صفة الغسل الواجب في كل ما ذكرنا
200 - مسألة : وأما قولنا في الرجلين فإن القرآن نزل بالمسح . قال الله تعالى : { وامسحوا برءوسكم وأرجلكم } وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرءوس : إما على اللفظ وإما على الموضع ، لا يجوز غير ذلك . لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة . وهكذا جاء عن ابن عباس : نزل القرآن بالمسح - يعني في الرجلين في الوضوء - وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف ، منهم علي بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم ، وهو قول الطبري ، ورويت في ذلك آثار . منها أثر من طريق همام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه - هو رفاعة بن رافع - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول : إنها { لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين } . وعن إسحاق بن راهويه ثنا عيسى بن يونس عن الأعمش عن عبد خير عن علي " كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله ﷺ يمسح ظاهرهما " . قال علي بن أحمد : وإنما قلنا بالغسل فيهما لما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { تخلف النبي ﷺ في سفر فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا } . كتب إلي سالم بن أحمد قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي ثنا عمر بن محمد السجستاني ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه ثنا جرير هو ابن عبد الحميد - عن منصور هو ابن المعتمر - عن هلال بن إساف عن أبي يحيى هو مصدع الأعرج - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال { خرجنا مع رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر ، فتوضئوا وهم عجال ، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء ، فقال رسول الله ﷺ : ويل للأعقاب من النار ، أسبغوا الوضوء } فأمر عليه السلام بإسباغ الوضوء في الرجلين ، وتوعد بالنار على ترك الأعقاب . فكان هذا الخبر زائدا على ما في الآية ، وعلى الأخبار التي ذكرنا ، وناسخا لما فيها ، ولما في الآية والأخذ بالزائد واجب ، ولقد كان يلزم من يقول بترك الأخبار للقرآن أن يترك هذا الخبر للآية ، ولقد كان يلزم من يترك الأخبار الصحاح للقياس أن يترك هذا الخبر : لأننا وجدنا الرجلين يسقط حكمهما في التيمم ، كما يسقط الرأس فكان حملهما على ما يسقطان بسقوطه ويثبتان بثباته أولى من حملهما على ما لا يثبتان بثباته . وأيضا فالرجلان مذكوران مع الرأس ، فكان حملهما على ما ذكرا معه أولى من حملهما على ما لم يذكرا معه . وأيضا فالرأس طرف والرجلان طرف ، فكان قياس الطرف على الطرف أولى من قياس الطرف على الوسط ، وأيضا فإنهم يقولون بالمسح على الخفين ، فكان تعويض المسح من المسح أولى من تعويض المسح من الغسل . وأيضا فإنه لما جاز المسح على ساتر للرجلين ولم يجز على ساتر دون الوجه والذراعين دل - على أصول أصحاب القياس - أن أمر الرجلين أخف من أمر الوجه والذراعين ، فإذ ذلك كذلك فليس إلا المسح ولا بد . فهذا أصح قياس في الأرض لو كان القياس حقا . وقد قال بعضهم : قد سقط حكم الجسد في التيمم ولم يدل ذلك على أن حكمه المسح . قال أبو محمد : فنقول صدقت وهذا يبطل قولكم بالقياس ، ويريكم تفاسده كله وبالله تعالى التوفيق . وهكذا كل ما رمتم الجمع بينهما بالقياس ، لاجتماعهما في بعض الصفات ، فإنه لا بد فيهما من صفة يفترقان فيها . قال علي : وقال بعضهم : لما قال الله تعالى في الرجلين { إلى الكعبين } كما قال في الأيدي { إلى المرافق } دل على أن حكم الرجلين حكم الذراعين ، قيل له : ليس ذكر المرفقين والكعبين دليلا على وجوب غسل ذلك ؛ لأنه تعالى قد ذكر الوجه ولم يذكر في مبلغه حدا وكان حكمه الغسل ، لكن لما أمر الله تعالى في الذراعين بالغسل كان حكمهما الغسل ، وإذا لم يذكر ذلك في الرجلين وجب أن لا يكون حكمهما ما لم يذكر فيهما إلا أن يوجبه نص آخر قال علي : والحكم للنصوص لا للدعاوى والظنون . وبالله تعالى التوفيق .
201 - مسألة : وكل ما لبس على الرأس من عمامة أو خمار أو قلنسوة أو بيضة أو مغفر أو غير ذلك : أجزأ المسح عليها ، المرأة والرجل سواء في ذلك ، لعلة أو غير علة . برهان ذلك حديث المغيرة الذي ذكرنا آنفا ، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني الحكم بن موسى ثنا بشر بن إسماعيل عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف - حدثني عمرو بن أمية الضمري { أنه رأى رسول الله ﷺ يمسح على الخفين والعمامة } . ورويناه من طريق البخاري عن عبدان عن عبد الله بن داود الخريبي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه . وهذا قوة للخبر لأن أبا سلمة سمعه من عمرو بن أمية الضمري سماعا ، وسمعه أيضا من جعفر ابنه عنه كما فعل بكر بن عبد الله المزني الذي سمع حديث المغيرة من حمزة بن المغيرة وسمعه أيضا من الحسن عن حمزة . وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب محمد بن العلاء وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - قال أبو بكر وأبو كريب : ثنا معاوية وقال ابن راهويه ، ثنا عيسى بن يونس ، ثم اتفق أبو معاوية وعيسى كلاهما عن الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال { أن رسول الله ﷺ مسح على الخفين والخمار } وروينا أيضا من طريق أبي إدريس الخولاني عن بلال { أنه عليه السلام مسح على العمامة والموقين } وروينا أيضا من طريق أيوب السختياني عن أبي قلابة عن سلمان ومن طريق مخلد بن الحسين عن هشام بن حسان عن حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر { رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على الموقين والخمار } . فهؤلاء ستة من الصحابة رضي الله عنهم : المغيرة بن شعبة وبلال وسلمان وعمرو بن أمية وكعب بن عجرة وأبو ذر ، كلهم يروي ذلك عن رسول الله ﷺ بأسانيد لا معارض لها ولا مطعن فيها . وبهذا القول يقول جمهور الصحابة والتابعين ، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير وإسماعيل بن علية كلاهما عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي قال : رأيت أبا بكر الصديق يمسح على الخمار ، يعني في الوضوء . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عمران بن مسلم عن سويد بن غفلة قال : سأل نباتة الجعفي عمر بن الخطاب عن المسح على العمامة ؟ فقال له عمر بن الخطاب : إن شئت فامسح على العمامة وإن شئت فدع . وعن عبد الرحمن بن مهدي عن أبي جعفر عبد الله بن عبد الله الرازي عن زيد بن أسلم قال : قال عمر بن الخطاب : من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله . وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني وعبيد الله بن أبي بكر بن أنس كلاهما عن أنس بن مالك : أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة ، وهذه أسانيد في غاية الصحة . وعن الحسن البصري عن أمه : أن أم سلمة أم المؤمنين كانت تمسح على الخمار وعن سلمان الفارسي : أنه قال لرجل : امسح على خفيك وعلى خمارك ، وامسح بناصيتك . وعن أبي موسى الأشعري : أنه خرج من حدث فمسح على خفيه وقلنسوته وعن أبي أمامة الباهلي أنه كان يمسح على الجوربين والخفين والعمامة وعن علي بن أبي طالب : أنه سئل عن المسح على الخفين ؟ فقال نعم ، وعلى النعلين والخمار . وهو قول سفيان الثوري ، رويناه عن عبد الرزاق عنه قال : القلنسوة بمنزلة العمامة - يعني في جواز المسح عليها - وهو قول الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وغيرهم . وقال الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله ﷺ فبه أقول . قال علي : والخبر - ولله الحمد - قد صح فهو قوله . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يمسح على عمامة ولا خمار ولا غير ذلك وهو قول الشافعي ، قال : إلا أن يصح الخبر . قال علي : ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلا ، فإن قالوا جاء القرآن بمسح الرءوس ، قلنا نعم ، وبالمسح على الرجلين ، فأجزتم المسح على الخفين ، وليس بأثبت من المسح على العمامة ، والمانعون من المسح على الخفين من الصحابة رضي الله عنهم أكثر من المانعين من المسح على العمامة ، فما روي المنع من المسح على العمامة إلا عن جابر وابن عمر ، وقد جاء المنع من المسح على الخفين عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس ، وأبطلتم مسح الرجلين - وهو نص القرآن - بخبر يدعي مخالفنا ومخالفكم أننا سامحنا أنفسنا وسامحتم أنفسكم فيه ، وأنه لا يدل على المنع من مسحها ، وقد قال بمسحها طائفة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقلتم بالمسح على الجبائر ولم يصح فيه أثر عن رسول الله ﷺ وهذا تخليط . وقال بعضهم : حديث المغيرة بن شعبة فيه { إنه مسح بناصيته وعلى عمامته } فأما من لا يرى المسح على الناصية يجزئ فقد جاهر الله تعالى والناس في احتجاجه بهذا الخبر ، وهو عاص لكل ما فيه . وأما من يرى المسح على بعض الرأس يجزئ فإنهم قالوا : إن الذي أجزأه عليه السلام فهو مسح الناصية فقط وكان مسح العمامة فضلا . قال أبو محمد : رام هؤلاء أن يجعلوا كل ما في خبر المغيرة حكاية عن وضوء واحد وهذا كذب وجرأة على الباطل ، بل هو خبر عن عملين متغايرين ، هذا ظاهر الحديث ومقتضاه ، وكيف قد رواه جماعة غير المغيرة : وقال بعضهم أخطأ الأوزاعي في حديث عمرو بن أمية ، لأن هذا خبر رواه - عن يحيى بن أبي كثير شيبان وحرب بن شداد وبكر بن نضر وأبان العطار وعلي بن المبارك ، فلم يذكروا فيه المسح على العمامة . قال علي : فقلنا لهم فكان ماذا ؟ قد علم كل ذي علم بالحديث أن الأوزاعي أحفظ من كل واحد من هؤلاء ، وهو حجة عليهم ، وليسوا حجة عليه ، والأوزاعي ثقة ، وزيادة الثقة لا يحل ردها ، وما الفرق بينكم وبين من قال في كل خبر احتججتم به : إن راويه أخطأ فيه ، لأن فلانا وفلانا لم يرو هذا الخبر ؟ وقال بعضهم : لا يجوز المسح على العمامة كما لا يجوز المسح على القفازين . قال أبو محمد : وهذا قياس ، والقياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ، لأنهم يعارضون فيه ، فيقال لهم إن كان هذا القياس عندكم صحيحا فأبطلوا به المسح على الخفين ؟ لأن الرجلين باليدين أشبه منهما بالرأس ، فقولوا : كما لا يجوز المسح على القفازين كذلك لا يجوز المسح على الخفين ولا فرق . فإن قالوا : قد صح المسح على الخفين عن رسول الله ﷺ ، قيل لهم : وقد صح المسح على العمامة عن رسول الله ﷺ . ويعارضون أيضا بأن يقال لهم : إن الله تعالى قرن الرءوس بالأرجل في الوضوء وأنتم تجيزون المسح على الخفين فأجيزوا المسح على العمامة ، لأنهما جميعا عضوان يسقطان في التيمم ، ولأنه لما جاز تعويض المسح عندكم من غسل الرجلين فينبغي أن يكون يجوز تعويض المسح من المسح في العمامة على الرأس أولى ، ولأن الرأس طرف ، والرجلان طرف ، وأيضا فقد صح تعويض المسح من جميع أعضاء الوضوء فعوض المسح بالتراب في الوجه والذراعين من غسل كل ذلك ، وعوض المسح على الخفين من غسل الرجلين ، فوجب أيضا أن يجوز تعويض المسح على العمامة من المسح على الرأس ، لتتفق أحكام جميع أعضاء الوضوء في ذلك . قال علي : كل هذا إنما أوردناه معارضة لقياسهم الفاسد وأنه لا شيء من الأحكام قالوا فيه بالقياس إلا ولمن خالفهم - من التعلق بالقياس - كالذي لهم أو أكثر فيظهر بذلك بطلان القياس لكل من أراد الله توفيقه وقال بعضهم : إنما مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار لمرض كان في رأسه . قال علي : هذا كلام من لا مؤنة عليه من الكذب ، ومن يستغفر الله تعالى من مكالمة مثله ؛ لأنه متعمد للكذب والإفك بقول لم يأت به قط لا نص ولا دليل ، وقد عجل الله العقوبة لمن هذه صفته ، بأن تبوأ مقعده من النار ، لكذبه على رسول الله ﷺ . ثم يقال لهم : قولوا مثل هذا في المسح على الخفين ، إنه كان لعلة بقدميه ولا فرق على أن امرأ لو قال هذا لكان أعذر منهم ؛ لأننا قد روينا عن ابن عباس أنه قال في المسح على الخفين : لو قلتم ذلك في البرد الشديد أو السفر الطويل ، ولم يرو قط عن أحد من الصحابة أنه قال ذلك في المسح على العمامة والخمار ، فبطل قول من منع المسح على العمامة والخمار ، وصح خلافه للسنن الثابتة ، ولأبي بكر وعمر وعلي وأنس وأم سلمة وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة وغيرهم ، وللقياس إن كان من أهل القياس . فإن قال قائل : إنه لم يأت عن النبي ﷺ أنه مسح على غير العمامة والخمار ، فلا يجوز ترك ما جاء في القرآن من مسح الرأس لغير ما صح النص به ، والقياس باطل ، وليس فعله عليه السلام عموم لفظ فيحمل على عمومه . قلنا : هذا خطأ ؛ لأنه عليه السلام لم يقل إنه لا يمسح إلا على عمامة أو خمار ، لكن علمنا بمسحه عليها أن مباشرة الرأس بالماء ليس فرضا ، فإذ ذلك كذلك ، فأي شيء لبس على الرأس جاز المسح عليه . ثم نقول لهم : قولوا لنا لو أن الراوي قال مسح رسول الله ﷺ على عمامة صفراء من كتان مطوية ثلاث طيات ، أكان يجوز عندكم المسح على حمراء من قطن ملوية عشر مرات أم لا ؟ وكذلك لو قال مسح عليه السلام على خفين أسودين ، أكان يجوز على أبيضين أم لا ؟ فإن لزموا قول الراوي أحدثوا دينا جديدا ، وإن لم يراعوه رجعوا إلى قولنا .
202 - مسألة : قال أبو محمد : وسواء لبس ما ذكرنا على طهارة أو غير طهارة قال أبو ثور : لا يمسح على العمامة والخمار إلا من لبسهما على طهارة ، قياسا على الخفين ، وقال أصحابنا كما قلنا قال علي : القياس باطل ، وليس هنا علة جامعة بين حكم المسح على العمامة والخمار والمسح على الخفين ، وإنما نص رسول الله ﷺ في اللباس على الطهارة ، على الخفين ، ولم ينص ذلك في العمامة والخمار ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } { وما كان ربك نسيا } فلو وجب هذا في العمامة والخمار لبينه عليه السلام ، كما بين ذلك في الخفين ، ومدعي المساواة في ذلك بين العمامة والخمار وبين الخفين ، مدع بلا دليل ، ويكلف البرهان على صحة دعواه في ذلك ، فيقال له من أين وجب ، إذ نص عليه السلام في المسح على الخفين أنه لبسهما على طهارة ، أن يجب هذا الحكم في العمامة والخمار ولا سبيل له إليه أصلا بأكثر من قضية من رأيه ، وهذا لا معنى له قال الله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } .
203 - مسألة : ويمسح على كل ذلك أبدا بلا توقيت ولا تحديد ، وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوقيت في ذلك ثابتا عنه ، كالمسح على الخفين وبه قال أبو ثور ، وقال أصحابنا كما قلنا . ولا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ ، والقياس باطل ، وقول القائل : لما كان المسح على الخفين موقتا بوقت محدود في السفر ووقت في الحضر وجب أن يكون المسح على العمامة كذلك ، دعوى بلا برهان على صحتها وقول لا دليل على وجوبه ، ويقال له ما دليلك على صحة ما تذكر من أن يحكم للمسح على العمامة بمثل الوقتين المنصوصين في المسح على الخفين ؟ وهذا لا سبيل إلى وجوده بأكثر من الدعوى ، وقد { مسح رسول الله ﷺ على العمامة والخمار ، ولم يوقت في ذلك وقتا ووقت في المسح على الخفين } ، فيلزمنا أن نقول ما قال عليه السلام وأن لا نقول في الدين ما لم يقله عليه السلام ، قال الله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } .
204 - مسألة : فلو كان تحت ما لبس على الرأس خضاب أو دواء جاز المسح عليهما كما قلنا ولا فرق ، وكذلك لو تعمد لباس ذلك ليمسح عليه جاز المسح أيضا ، وإنما المسح المذكور في الوضوء خاصة ، وأما في كل غسل واجب فلا ، ولا بد من خلع كل ذلك وغسل الرأس . برهان ذلك { أن رسول الله ﷺ مسح على العمامة وعلى الخمار } ، ولم يخص لنا حالا من حال ، فلا يجوز أن يخص بالمسح حال دون حال ، وإذا كان المسح جائزا فالقصد إلى الجائز جائز ، وإنما مسح عليه السلام في الوضوء خاصة ، فلا يجوز أن يضاف إلى ذلك ما لم يفعله عليه السلام ، ولا يجوز أن يزاد في السنن ما لم يأت فيها ، ولا أن ينقص منها ما اقتضاه لفظ الخبر بها ، وبالله تعالى التوفيق . وهكذا يقول خصومنا في المسح على الخفين سواء سواء .
205 - مسألة : ومن ترك مما يلزمه غسله في الوضوء أو الغسل الواجب ولو قدر شعرة عمدا أو نسيانا ، لم تجزه الصلاة بذلك الغسل والوضوء حتى يوعبه كله ، لأنه لم يصل بالطهارة التي أمر بها ، وقال عليه السلام { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } .
206 - مسألة : ومن نكس وضوءه أو قدم عضوا على المذكور قبله في القرآن عمدا أو نسيانا لم تجزه الصلاة أصلا ، وفرض عليه أن يبدأ بوجهه ثم ذراعيه ثم رأسه ثم رجليه ، ولا بد في الذراعين والرجلين من الابتداء باليمين قبل اليسار كما جاء في السنة ، فإن جعل الاستنشاق والاستنثار في آخر وضوئه أو بعد عضو من الأعضاء المذكورة لم يجز ذلك ، فإن فعل شيئا مما ذكرنا لزمه أن يعود إلى الذي بدأ به قبل الذي ذكره الله تعالى قبله فيعمله إلى أن يتم وضوءه ، وليس عليه أن يبتدئ من أول الوضوء ، وهو قول الشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق ، فإن انغمس في ماء جار وهو جنب ونوى الغسل والوضوء معا لم يجزه ذلك من الوضوء ولا من الغسل ، وعليه أن يأتي به مرتبا ، وهو قول إسحاق . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إبراهيم بن هارون البلخي ثنا حاتم بن إسماعيل ثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال : { دخلنا على جابر بن عبد الله فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله عليه السلام قال جابر خرجنا معه - فذكر الحديث وفيه - أن رسول الله ﷺ خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا إلى الصفا قال : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدءوا بما بدأ الله به } . قال علي : وهذا عموم لا يجوز أن يخص منه شيء ، وإنما قلنا : لا يجزئ في الأعضاء المغموسة معا لا الوضوء ولا الغسل إذا نوى بذلك الغمس كلا الأمرين فلأنه لم يأت بالوضوء كما أمر ، ولم يخلص الغسل فيجزيه ، لكن خلطه بعمل فاسد فبطل أيضا الغسل في تلك الأعضاء ؛ لأنه أتى به بخلاف ما أمره الله تعالى به ، وأما الاستنشاق والاستنثار فلم يأت فيهما في الوضوء ذكر بتقديم ولا تأخير ، فكيفما أتى بهما في وضوئه أو بعد وضوئه ، وقبل صلاته أو قبل وضوئه : أجزأه . قال علي : وقال أبو حنيفة : جائز تنكيس الوضوء والأذان والطواف والسعي والإقامة . وقال مالك : يجوز تنكيس الوضوء ولا يجوز تنكيس الطواف ولا السعي ولا الأذان ولا الإقامة . قال أبو محمد : لا يجوز تنكيس شيء من ذلك كله ، ولا يجزئ شيء منه منكسا فأما قول مالك فظاهر التناقض ؛ لأنه فرق بين ما لا فرق بينه ، وأما أبو حنيفة فإنه أطرد قولا ، وأكثر خطأ ، والقوم أصحاب قياس بزعمهم ، فهلا قاسوا ذلك على ما اتفق عليه من المنع من تنكيس الصلاة ؟ على أنه قد صح الإجماع في بعض الأوقات على تنكيس الصلاة ، وهي حال من وجد الإمام جالسا أو ساجدا ، فإنه يبدأ بذلك وهو آخر الصلاة ، وهذا مما تناقضوا فيه في قياسهم . وقد روينا عن علي بن أبي طالب وابن عباس جواز تنكيس الوضوء ، ولكن لا حجة في أحد مع القرآن إلا في الذي أمر ببيانه وهو رسول الله ﷺ ، وهذا مما تناقض فيه الشافعيون فتركوا فيه قول صاحبين لا يعرف لهما من الصحابة مخالف . وبالله تعالى التوفيق . والعجب كله أن المالكيين أجازوا تنكيس الوضوء الذي لم يأت نص من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ فيه ، ثم أتوا إلى ما أجاز الله تعالى تنكيسه فمنعوا من ذلك ، وهو الرمي والحلق والنحر والذبح والطواف ، فإن رسول الله ﷺ أجاز تقديم بعض ذلك على بعض ، كما سنذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الحج ، فقالوا : لا يجوز تقديم الطواف على الرمي ، ولا تقديم الحلق على الرمي ، وهذا كما ترى . حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي حدثني جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا أحمد بن واقد ثنا زهير بن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ { إذا توضأتم ولبستم فابدءوا بميامنكم } . وأما وجوب تقديم الاستنشاق والاستنثار ولا بد ، فلحديث رفاعة بن رافع أن رسول الله ﷺ قال : { لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله - عز وجل - ويغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين } فصح أن ههنا إسباغا عطف عليه غسل الوجه ، وليس إلا الاستنشاق والاستنثار .