الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الخامسة عشر


كتاب الطهارة

148 - مسألة : فإن سقط عنه اسم الماء جملة ، كالنبيذ وغيره ، لم يجز الوضوء به ولا الغسل ، والحكم حينئذ التيمم ، وسواء في هذه المسألة والتي قبلها ، وجد ماء آخر أم لم يوجد . برهان ذلك قول الله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } ولقول رسول الله ﷺ { وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } . ولما كان اسم الماء لا يقع على ما غلب عليه غير الماء حتى تزول عنه جميع صفات الماء التي منها يؤخذ حده ، صح أنه ليس ماء ، ولا يجوز الوضوء بغير الماء ، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وداود وغيرهم ، وقال به الحسن وعطاء بن أبي رباح وسفيان الثوري وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور وغيرهم . وروي عن عكرمة أن النبيذ وضوء إذا لم يوجد الماء ولا يتيمم مع وجوده . وقال الأوزاعي : لا يتيمم إذا عدم الماء ما دام يوجد نبيذ غير مسكر ، فإن كان مسكرا فلا يتوضأ به . وقال حميد صاحب الحسن بن حي : نبيذ التمر خاصة يجوز الوضوء به والغسل المفترض في الحضر والسفر ، وجد الماء أو لم يوجد ، ولا يجوز ذلك بغير نبيذ التمر ، وجد الماء أو لم يوجد . وقال أبو حنيفة في أشهر قوليه : إن نبيذ التمر خاصة إذا لم يسكر فإنه يتوضأ به ويغتسل - فيما كان خارج الأمصار والقرى خاصة - عند عدم الماء ، فإن أسكر ، فإن كان مطبوخا جاز الوضوء به والغسل كذلك ، فإن كان نيئا لم يجز استعماله أصلا في ذلك ، ولا يجوز الوضوء بشيء من ذلك ، لا عند عدم الماء ولا في الأمصار ولا في القرى أصلا - وإن عدم الماء - ولا بشيء من الأنبذة غير نبيذ التمر لا في القرى ولا في غير القرى ، ولا عند عدم الماء ، والرواية الأخرى عنه أن جميع الأنبذة يتوضأ بها ويغتسل ، كما قال في نبيذ التمر سواء سواء . وقال محمد بن الحسن : يتوضأ بنبيذ التمر عند عدم الماء ويتيمم معا . قال أبو محمد : أما قول عكرمة والأوزاعي والحسن بن حي ، فإنهم احتجوا بحديث رويناه من طريق ابن مسعود من طرق { أن رسول الله ﷺ قال له ليلة الجن : معك ماء ؟ قال ليس معي ماء ، ولكن معي إداوة فيها نبيذ ، فقال النبي ﷺ : تمرة طيبة وماء طهور ، فتوضأ ثم صلى الصبح } وفي بعض ألفاظه { أن رسول الله ﷺ توضأ بنبيذ وقال : تمرة طيبة وماء طهور } . وقال بعضهم : إن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ركبوا البحر فلم يجدوا إلا ماء البحر ونبيذا ، فتوضئوا بالنبيذ ولم يتوضئوا بماء البحر . وذكروا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات قال : ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا يزيد بن هارون ثنا عبد الله بن ميسرة عن مزيدة بن جابر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذا لم تجد الماء فلتتوضأ بالنبيذ . قال محمد بن المثنى : وحدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ثنا الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لا بأس بالوضوء بالنبيذ . قالوا : ولا مخالف لمن ذكرنا يعرف من الصحابة رضي الله عنهم ، فهو إجماع على قول بعض مخالفينا . وقالوا : النبيذ ماء بلا شك خالطه غيره ، فإذ هو كذلك فالوضوء به جائز . قال أبو محمد : هذا كل ما يمكن أن يشغبوا به ، ولا حجة لهم في شيء منه ، ولله الحمد . أما الخبر المذكور فلم يصح ؛ لأن في جميع طرقه من لا يعرف أو من لا خير فيه ، وقد تكلمنا عليه كلاما مستقصى في غير هذا الكتاب ، ثم لو صح بنقل التواتر لم يكن لهم فيه حجة ، لأن ليلة الجن كانت بمكة قبل الهجرة ولم تنزل آية الوضوء إلا بالمدينة في سورة النساء وفي سورة المائدة ، ولم يأت قط أثر بأن الوضوء كان فرضا بمكة ، فإذ ذلك كذلك فالوضوء بالنبيذ كلا وضوء ، فسقط التعلق به لو صح . وأما الذي رووه من فعل الصحابة رضي الله عنهم فهو عليهم لا لهم ؛ لأن الأوزاعي والحسن بن حي وأبا حنيفة وأصحابه كلهم مخالفون لما روي عن الصحابة في ذلك ، مجيزون للوضوء بماء البحر ، ولا يجيزون الوضوء بالنبيذ ، ما دام يوجد ماء البحر ، وكلهم - حاشا حميدا صاحب الحسن بن حي - لا يجيز الوضوء ألبتة بالنبيذ ما دام يوجد ماء البحر ، وحميد صاحب الحسن يجيز الوضوء بماء البحر مع وجود النبيذ ، فكلهم مخالف لما ادعوه من فعل الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ، ومن الباطل أن يرى المرء حجة على خصمه ما لا يراه حجة عليه . وأما الأثر عن علي رضي الله عنه فلا حجة في أحد غير رسول الله ﷺ . وأيضا فإن حميدا صاحب الحسن بن حي يخالف الرواية عن علي في ذلك ، لأنه يرى الوضوء بنبيذ التمر مع وجود الماء ، وهذا خلاف قول علي ، ويرى أن سائر الأنبذة لا يحل بها الوضوء أصلا ، وهذا خلاف الرواية عن علي . وأما قولهم : إن في النبيذ ماء خالطه غيره ، فهو لازم لهم في لبن مزج بماء ، وفي الحبر ؛ لأنه ماء مع عفص وزاج ، وفي الأمراق ؛ لأنها ماء وزيت وخل ، أو ماء وزيت ومري ونحو ذلك ، وهم لا يقولون بشيء من هذا ، فظهر تناقضهم في كل ما احتجوا به . ولله الحمد . وأما قول أبي حنيفة فهو أبعدهم من أن يكون له في شيء مما ذكرنا حجة . أما الحديث المذكور فليس فيه أن النبي ﷺ كان حين الوضوء بالنبيذ خارج مكة ، فمن أين له بتخصيص جواز الوضوء بالنبيذ خارج الأمصار والقرى ؟ وهذا خلاف لما في ذلك الخبر ، لا سيما وهو لا يرى التيمم فيما يقرب من القرية ، ولا قصر الصلاة إلا في ثلاثة أيام ، أحد وعشرين فرسخا فصاعدا ، ولا سبيل له إلى دليل في شيء من ذلك إلا ودليله في ذلك جار في جميع هذه المسائل . وأما قوله الثاني الذي قاس فيه جميع الأنبذة على نبيذ التمر ، فهلا قاس أيضا داخل القرية على خارجها وما المجيز له أحد القياسين والمانع له من الآخر ؟ لا سيما مع ما في الخبر من قوله { تمرة طيبة وماء طهور } فإذ هو ماء طهور فما المانع من استعماله مع وجود ماء غيره ، وكلاهما ماء طهور ؟ وهذا ما لا انفكاك منه . وإن كان لا يجيزه مع وجود الماء فليجزه للمريض في الحضر مع عدم الماء . وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم وقول علي فهو مخالف له ، لأنه لا يجيز الوضوء بالنبيذ مع وجود ماء البحر ، ولا يجيز الوضوء بالنبيذ وإن عدم الماء في القرى ، وليس هذا في قول علي ، ولم يخص علي نبيذ تمر من غيره ، وأبو حنيفة يخصه في أحد قوليه ، ولا أمقت في الدنيا والآخرة ممن ينكر على مخالفه ترك قول هو أول تارك له ولا سيما ومخالفه لا يرى ذلك الذي ترك حجة . قال الله تعالى : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } . وأما قولهم : إن النبيذ ماء وتمر فيلزمهم هذا كما قلنا في الأمراق وغيرها من الأنبذة وهو خلاف قوله . فظهر فساد قولي أبي حنيفة معا . الحمد لله رب العالمين . وأما قول محمد بن الحسن ففاسد ، لأنه لا يخلو أن يكون الوضوء بالنبيذ جائزا فالتيمم معه فضول . أو لا يكون الوضوء به جائزا فاستعماله فضول . لا سيما مع قوله : إنه إذا كان في ثوب المرء أكثر من قدر الدرهم البغلي من نبيذ مسكر بطلت صلاته . ولا شك أن المجتمع على جسد المتوضئ بالنبيذ أو المغتسل به وفي ثوبه أكثر من دراهم بغلية كثيرة . فإن قال من ينتصر له : إنا لا ندري أيلزم الوضوء به فلا يجزئ تركه أو لا يحل الوضوء به فلا يجزئ فعله . فجمعنا الأمرين . قيل لهم : الوضوء بالماء فرض متيقن عند وجوده ، فلا يجوز تركه ، والوضوء بالتيمم عند عدم ما يجزئ الوضوء به فرض متيقن ، والوضوء بالنبيذ عندكم غير متيقن ، وما لم يكن متيقنا فاستعماله لا يلزم ، وما لا يلزم فلا معنى لفعله ، ولو جئتم إلى استعمال كل ما تشكون في وجوبه لعظم الأمر عليكم ، لا سيما وأنتم على يقين من أنه نجس يفسد الصلاة كونه في الثوب ، وأنتم مقرون أن الوضوء بالنجس المتيقن لا يحل . وأما المالكيون والشافعيون فإنهم كثيرا ما يقولون في أصولهم وفروعهم : إن خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم لا يحل . وهذا مكان نقضوا فيه هذا الأصل وبالله تعالى التوفيق . وأبو حنيفة يقول بالقياس ، وقد نقض ههنا أصله في القول به ، فلم يقس الأمراق ولا سائر الأنبذة على نبيذ التمر ، وخالف أيضا أقوال طائفة من الصحابة رضي الله عنهم كما ذكرنا دون مخالف يعرف لهم في ذلك ، وهذا أيضا هادم لأصله ، فليقف على ذلك من أراد الوقوف على تناقض أقوالهم ، وهدم فروعهم لأصولهم . وبالله تعالى التوفيق .


149 - مسألة : وفرض على كل مستيقظ من نوم - قل النوم أو كثر ، نهارا كان أو ليلا ، قاعدا أو مضطجعا أو قائما . في صلاة أو في غير صلاة ، كيفما نام - ألا يدخل يده في وضوئه - في إناء كان وضوءه أو من نهر أو غير ذلك - حتى يغسلها ثلاث مرات ويستنشق ويستنثر ثلاث مرات . فإن لم يفعل لم يجزه الوضوء ولا تلك الصلاة . ناسيا ترك ذلك أو عامدا . وعليه أن يغسلها ثلاث مرات ويستنشق كذلك ثم يبتدي الوضوء والصلاة ، والماء طاهر بحسبه . فإن صب على يديه وتوضأ دون أن يغمس يديه فوضوءه غير تام وصلاته غير تامة . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله ثنا أبو عيسى بن أبي عيسى ثنا أحمد بن خالد ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال { : إذا استيقظ أحدكم من نوم فلا يغمس - يعني يده - حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده } . قال أبو محمد : زعم قوم أن هذا الغسل خوف نجاسة تكون في اليد ، وهذا باطل لا شك فيه ، لأنه عليه السلام لو أراد ذلك لما عجز عن أن يبينه ، ولما كتمه عن أمته ، وأيضا فلو كان ذلك خوف نجاسة لكانت الرجل كاليد في ذلك ، ولكان باطن الفخذين وما بين الأليتين أولى بذلك . ومن العجب على أصولهم أن يكون ظن كون النجاسة في اليد يوجب غسلها ثلاثا ، فإذا تيقن كون النجاسة فيها أجزأه إزالتها بغسلة واحدة ، وإنما السبب الذي من أجله وجب غسل اليد هو ما نص عليه السلام من مغيب النائم عن درايته أين باتت يده فقط ، ويجعل الله تعالى ما شاء سببا لما شاء ، كما جعل تعالى الريح الخارج من أسفل سببا يوجب الوضوء وغسل الوجه ومسح الرأس وغسل الذراعين والرجلين . وادعى قوم أن هذا في نوم الليل خاصة لقوله { أين باتت يده } وادعوا أن المبيت لا يكون إلا بالليل . قال أبو محمد : وهذا خطأ ، بل يقال : بات القوم يدبرون أمر كذا ، وإن كان نهارا . وحدثنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري عن إبراهيم بن حمزة هو الزبيري - عن ابن أبي حازم هو عبد العزيز - عن يزيد بن عبد الله هو ابن أسامة بن الهاد - عن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . كتب إلي سالم بن أحمد بن فتح قال : ثنا عبد الله بن سعيد الشنتجالي قال : ثنا عمر بن محمد بن داود السجستاني ثنا محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني بشر بن الحكم ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي ثنا محمد بن زنبور المكي ثنا عبد العزيز بن أبي حازم ثنا يزيد بن الهاد أن محمد بن إبراهيم حدثه عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : { إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنشق ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خيشومه } . قال أبو محمد : أمر رسول الله ﷺ على الفرض . قال الله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ومن توضأ بغير أن يفعل ما أمره رسول الله ﷺ أن يفعله فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، ومن لم يتوضأ كذلك فلا صلاة له ، لا سيما طرد الشيطان عن خيشوم المرء ، فما نعلم مسلما يستسهل الأنس بكون الشيطان هناك . وقد أوجب المالكيون متابعة الوضوء فرضا لا يتم الوضوء والصلاة إلا به ، وأوجب الشافعي الصلاة على رسول الله ﷺ فرضا لا تتم الصلاة إلا به ، وأوجب أبو حنيفة الاستنشاق والمضمضة في غسل الجنابة فرضا لا يتم الغسل والصلاة إلا به . وكل هذا لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله ﷺ . فهذا الذي يجب أن ينكر لا فعل من أوجب ما أمر به رسول الله ﷺ . ولم يقل فيما قال له نبيه عليه السلام : افعل كذا ، فقال هو : لا أفعل إلا أن أشاء ، ودعوى الإجماع بغير يقين كذب على الأمة كلها . نعوذ بالله من ذلك . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أحق علي أن أستنشق ؟ قال نعم ، قلت كم ؟ قال ثلاثا ، قلت عمن ؟ قال عن عثمان . قال عبد الرزاق : ثنا معمر عن قتادة عن معبد الجهني قال في المضمضة والاستنشاق : إن كان جنبا فثلاثا ، وإن كان جاء من الغائط فاثنتين ، وإن كان جاء من البول فواحدة . وروي عن الحسن إعادة الوضوء والصلاة على من لم يغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في الوضوء ، وبه يقول داود وأصحابنا .

150 - مسألة : ولا يجزئ غسل الجنابة في ماء راكد ، فإن اغتسل فيه فلم يغتسل ، والماء طاهر بحسبه ، وله أن يعيد الغسل منه ، وكذلك لا يجزئ الجنب أن يغتسل لفرض غير الجنابة في ماء ركاد ، فإن كان غير جنب أجزأه الاغتسال في الماء الراكد ، والوضوء جائز في الماء الراكد ، فمن اغتسل وهو جنب في جون من أجوان النهر والنهر راكد لم يجزه ، وأما البحر فهو جار أبدا مضطرب متحرك غير راكد ، هذا أمر مشاهد عيانا ، وكذلك من بال في ماء راكد ثم سرح لذلك الماء فجرى فلا يحل له الوضوء منه ولا الاغتسال ، لأنه قد حرم عليه الاغتسال والوضوء من عين ذلك الماء بالنص ، ولو بال في ماء جار ثم أغلق صببه فركد جاز له الوضوء منه والاغتسال منه ، لأنه لم يبل في ماء راكد ، والاغتسال للجنابة وغيرها في الماء الجاري مباح ، وإن بال فيه لم يحرم عليه بذلك الوضوء منه وفيه والغسل منه وفيه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله ﷺ { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب } ، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولا " . فهذا أبو هريرة لا يرى أن يغتسل الجنب في الماء الدائم ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، إلا أن أبا حنيفة قال : إن فعل تنجس الماء ، وقد بينا فساد هذا القول قبل ، وكرهه مالك ، وأجاز غسله إن اغتسل كذلك ، وهذا خطأ ، لخلافه أمر رسول الله ﷺ . وسواء كان الماء الراكد قليلا أو كثيرا ، ولو أنه فراسخ في فراسخ ، لا يجزئ الجنب أن يغتسل فيه ، لأن رسول الله ﷺ لم يخص ماء من ماء ، ولم ينه عن الوضوء فيه ولا عن الغسل لغير الجنب فيه ، فهو مباح { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } .


151 - مسألة : وكل ماء توضأت منه امرأة - حائض أو غير حائض - أو اغتسلت منه فأفضلت منه فضلا ، لم يحل لرجل الوضوء من ذلك الفضل ولا الغسل منه ، سواء وجدوا ماء آخر أو لم يجدوا غيره ، وفرضهم التيمم حينئذ ، وحلال شربه للرجال والنساء ، وجائز الوضوء به والغسل للنساء على كل حال . ولا يكون فضلا إلا أن يكون أقل مما استعملته منه ، فإن كان مثله أو أكثر فليس فضلا ، والوضوء والغسل به جائز للرجال والنساء . وأما فضل الرجال فالوضوء به والغسل جائز للرجل والمرأة ، إلا أن يصح خبر في نهي المرأة عنه فنقف عنده ، ولم نجده صحيحا فإن توضأ الرجل والمرأة من إناء واحد أو اغتسلا من إناء واحد يغترفان معا فذلك جائز ، ولا نبالي أيهما بدأ قبل ، أو أيهما أتم قبل . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود هو السجستاني - ثنا محمد بن بشار ثنا أبو داود هو الطيالسي - ثنا شعبة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي حاجب هو سوادة بن عاصم - عن الحكم بن عمرو الغفاري " أن رسول الله ﷺ { نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة } أخبرني أصبغ قال ثنا إسحاق بن أحمد ثنا محمد بن عمر العقيلي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا معلي بن أسد ثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس { أن النبي ﷺ نهى أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة } . ولم يخبر عليه السلام بنجاسة الماء ، ولا أمر غير الرجال باجتنابه ، وبهذا يقول عبد الله بن سرجس والحكم بن عمرو ، وهما صاحبان من أصحاب رسول الله ﷺ وبه تقول جويرية أم المؤمنين وأم سلمة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب ، وقد روي عن عمر أنه ضرب بالدرة من خالف هذا القول . وقال قتادة : سألت سعيد بن المسيب والحسن البصري عن الوضوء بفضل المرأة ، فكلاهما نهاني عنه . وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لا بأس بفضل المرأة ما لم تكن حائضا أو جنبا . وقد صح { عن النبي ﷺ أنه كان يغتسل مع عائشة رضي الله عنها من إناء واحد معا حتى يقول أبقي لي وتقول له أبق لي } وهذا حق وليس شيء من ذلك فضلا حتى يتركه . هذا حكم اللغة بلا خلاف . واحتج من خالف هذا بخبر رويناه من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس { أن امرأة من نساء النبي ﷺ استحمت من جنابة فجاء النبي ﷺ فتوضأ من فضلها فقالت له : إني اغتسلت فقال : إن الماء لا ينجسه شيء } وبحديث آخر رويناه من طريق الطهراني عن عبد الرزاق : أخبرني ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة ، مختصر } قال أبو محمد : هكذا في نفس الحديث مختصر . قال أبو محمد : وهذان حديثان لا يصحان ، فأما الحديث الأول فرواية سماك بن حرب ، وهو يقبل التلقين ، شهد عليه بذلك شعبة وغيره ، وهذه جرحة ظاهرة ( والثاني ) أخطأ فيه الطهراني بيقين ؛ لأن هذا أخبرناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - ومحمد بن حاتم قال إسحاق أخبرنا محمد بن بكر وقال ابن حاتم حدثنا محمد بن بكر وهو البرساني ثنا ابن جريج ثنا عمرو بن دينار قال : أكبر علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني عن ابن عباس أنه أخبره { أن رسول الله ﷺ كان يغتسل بفضل ميمونة } . قال أبو محمد : فصح أن عمرو بن دينار شك فيه ولم يقطع بإسناده ، وهؤلاء أوثق من الطهراني وأحفظ بلا شك . ثم لو صح هذان الخبران ولم يكن فيهما مغمز لما كانت فيهما حجة ، لأن حكمهما هو الذي كان قبل نهي رسول الله ﷺ عن أن يتوضأ الرجل أو أن يغتسل بفضل طهور المرأة ، بلا شك في هذا ، فنحن على يقين من أن حكم هذين الخبرين منسوخ قطعا ، حين نطق عليه السلام بالنهي عما فيهما ، لا مرية في هذا ، فإذ ذلك كذلك فلا يحل الأخذ بالمنسوخ وترك الناسخ ، ومن ادعى أن المنسوخ قد عاد حكمه ، والناسخ قد بطل رسمه ، فقد أبطل وادعى غير الحق ، ومن المحال الممتنع أن يكون ذلك ولا يبينه رسول الله ﷺ وهو المفترض عليه البيان . وبالله تعالى التوفيق . على أن أبا حنيفة والشافعي - المحتجين بهذين الخبرين - مخالفان لما في أحدهما من قوله عليه السلام { الماء لا ينجس } ومن القبيح احتجاج قوم بما يقرون أنه حجة ثم يخالفونه وينكرون خلافه على من لا يراه حجة . وبالله تعالى التوفيق . وروينا إباحة وضوء الرجل من فضل المرأة عن عائشة وعلي ، إلا أنه لا يصح فأما الطريق عن عائشة ففيها العرزمي وهو ضعيف ، عن أم كلثوم وهي مجهولة لا يدرى من هي . وأما الطريق عن علي فمن طريق ابن ضميرة عن أبيه عن جده ، وهي صحيفة موضوعة مكذوبة لا يحتج بها إلا جاهل ، فبقي ما روي في ذلك عن ابن سرجس وغيره من الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم ، يصح ذلك عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق .


152 - مسألة : ولا يحل الوضوء بماء أخذ بغير حق ، ولا من إناء مغصوب أو مأخوذ بغير حق ، ولا الغسل ، إلا لصاحبه أو بإذن صاحبه ، فمن فعل ذلك فلا صلاة له ، وعليه إعادة الوضوء والغسل . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا بشر هو ابن عمر - ثنا عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه { قعد النبي ﷺ على بعير فقال - وذكر الحديث وفيه - : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ليبلغ الشاهد الغائب ، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه } . ورويناه أيضا من طريق جابر بن عبد الله وابن عمر مسندا صحيحا . ومن طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ { كل المسلم على المسلم حرام : دمه وعرضه وماله } . فكان من توضأ بماء مغصوب أو أخذ بغير حق أو اغتسل به أو من إناء كذلك فلا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أن استعماله ذلك الماء وذلك الإناء في غسله ووضوئه حرام ، وبضرورة يدري كل ذي حس سليم أن الحرام المنهي عنه هو غير الواجب المفترض عمله ، فإذ لا شك في هذا فلم يتوضأ الوضوء الذي أمره الله تعالى به ، والذي لا تجزئ الصلاة إلا به ، بل هو وضوء محرم ، هو فيه عاص لله تعالى ، وكذلك الغسل ، والصلاة بغير الوضوء الذي أمر الله تعالى به وبغير الغسل الذي أمر الله تعالى به لا تجزئ ، وهذا أمر لا إشكال فيه . ونسأل المخالفين لنا عمن عليه كفارة إطعام مساكين ، فأطعمهم مال غيره ، أو من عليه صيام أيام ، فصام أيام الفطر والنحر والتشريق ، ومن عليه عتق رقبة فأعتق أمة غيره : أيجزيه ذلك مما افترض الله تعالى عليه ؟ فمن قولهم : لا ، فيقال لهم : فمن أين منعتم هذا وأجزتم الوضوء والغسل بماء مغصوب وإناء مغصوب ؟ وكل هؤلاء مفترض عليه عمل موصوف في مال نفسه ، محرم عليه ذلك من مال غيره بإقراركم سواء سواء . وهذا لا سبيل لهم إلى الانفكاك منه . وليس هذا قياسا بل هو حكم واحد داخل تحت تحريم الأموال ، وتحت العمل بخلاف أمر الله تعالى وقد قال رسول الله ﷺ { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وكل هؤلاء عمل عملا ليس عليه أمر الله تعالى وأمر رسول الله ﷺ فهو مردود بحكم النبي ﷺ وهم في هذا ومن قال إنما يحرم من الأموال البر والتمر ، وأما الشعير والزبيب فلا ، وهذا تحكم فاسد . والعجب أن الحنفيين يبطلون طهارة من تطهر بماء مستعمل ، وكذلك الشافعيون وأن المالكيين يبطلون طهارة من تطهر بماء بل فيه خبز ، دون نص في تحريم ذلك ، ولا حجة بأيديهم إلا تشغيب يدعون أنه نهى عن هذين الماءين ثم يجيزون الطهارة بماء وإناء ، يقرون كلهم بأنه قد صح النهي عنه ، وثبت تحريمه وتحريم استعماله في الوضوء والغسل عليه ، وهذا عجب لا يكاد يوجد مثله وهذا مما خالفوا فيه النص والإجماع المتيقن الذين هم من جملة المانعين منه في الأصل ، وخالفوا أيضا القياس وما تعلقوا في جوازه بشيء أصلا . وبالله تعالى التوفيق .

153 - مسألة : ولا يجوز الوضوء ولا الغسل من إناء ذهب ولا من إناء فضة لا لرجل ولا لامرأة . حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حذيفة قال { نهانا رسول الله ﷺ عن الحرير والديباج وآنية الذهب والفضة ، وقال : هو لهم في الدنيا وهو لكم في الآخرة } وقد روينا أيضا عن البراء بن عازب { عن رسول الله ﷺ النهي عن آنية الفضة } . فإن قيل : إنما نهى عن الأكل فيها والشرب . قلنا : هذان الخبران نهي عام عنهما جملة ، فهما زائدان حكما وشرعا على الأخبار التي فيها النهي عن الشرب فقط أو الأكل والشرب فقط ، والزيادة في الحكم لا يحل خلافها . فإن قيل : فقد جاء أن الذهب والحرير { حرام على ذكور أمتي حل لإناثها } قلنا : نعم ، وحديث النهي عن آنية الذهب والفضة مستثنى من إباحة الذهب للنساء ، لأنه أقل منه ، ولا بد من استعمال جميع الأخبار ، ولا يوصل إلى استعمالها إلا هكذا ، وهم قد فعلوا هذا في الشرب في إناء الذهب والفضة ، فإنهم منعوا النساء من ذلك واستثنوه من إباحة الذهب لهن . فإن قيل : فقد صح عن النبي ﷺ { أن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرم شيئا } قلنا نعم ، هذا حق وبه نقول ، والماء الذي في إناء الذهب والفضة شربه حلال ، والتطهر به حلال ، وإنما حرم استعمال الإناء ، فلما لم يكن بد في الشرب منه وفي التطهر منه من معصية الله تعالى - التي هي استعمال الإناء المحرم - صار فاعل ذلك مجرجرا في بطنه نار جهنم بالنص ، وكان في حال وضوئه وغسله عاصيا لله تعالى بذلك التطهر نفسه ، ومن الباطل أن تنوب المعصية عن الطاعة ، وأن يجزئ تطهير محرم عن تطهير مفترض . ثم نقول لهم : إن من العجب احتجاجكم بهذا الخبر علينا ، ونحن نقول به وأنتم تخالفونه ، فأبو حنيفة والشافعي يحرمون الوضوء والغسل بماء في إناء كان فيه خمر لم يظهر منها في الماء أثر ، فقد جعلوا هذا الإناء يحرم هذا الماء ، خلافا للخبر الثابت وأما مالك فإنه يحرم النبيذ الذي في الدباء والمزفت ، وهو الذي أبطل هذا الخبر وفيه ورد ، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها إباحة الحلي للنساء ، وتحريم الإناء من الفضة أو الإناء المفضض عليهن . وهو قولنا وبالله تعالى التوفيق .

154 - مسألة : ولا يحل الوضوء من ماء بئار الحجر - وهي أرض ثمود - ولا الشرب ، حاشا بئر الناقة فكل ذلك جائز منها . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن مسكين ثنا يحيى بن حسان بن حيان ثنا سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال { لما نزل رسول الله ﷺ الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، قالوا : قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء } . وبه إلى البخاري : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره { أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا ، فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهريقوا ما استقوا من بئارها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة } قال أبو محمد : هي معروفة بتبوك .

155 - مسألة : وكل ماء اعتصر من شجر ، كماء الورد وغيره ، فلا يحل الوضوء به للصلاة ، ولا الغسل به لشيء من الفرائض ، لأنه ليس ماء ، ولا طهارة إلا بالماء والتراب أو الصعيد عند عدمه .

156 - مسألة : والوضوء للصلاة والغسل للفروض جائز بماء البحر وبالماء المسخن والمشمس وبماء أذيب من الثلج أو البرد أو الجليد أو من الملح الذي كان أصله ماء ولم يكن أصله معدنا . برهان ذلك أن كل ما ذكرنا يقع عليه اسم ماء ، وقال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } والملح كان ماء ثم جمد كما يجمد الثلج ، فسقط عن كل ذلك اسم الماء ، فحرم الوضوء للصلاة به والغسل للفروض ، فإذا صار ماء عاد عليه اسم الماء ، فعاد حكم الوضوء والغسل به كما كان ، وليس كذلك الملح المعدني ، لأنه لم يكن قط ماء . وبالله تعالى التوفيق . وفي بعض هذا خلاف قديم : روينا عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة أن الوضوء للصلاة والغسل من ماء البحر لا يجوز ولا يجزئ ، ولقد كان يلزم من يقول بتقليد الصاحب ويقول إذا وافقه قوله : " مثل هذا لا يقال بالرأي " أن يقول بقولهم ههنا . وكذلك من لم يقل بالعموم ، لأن الخبر { هو الطهور ماؤه الحل ميتته } لا يصح . ولذلك لم نحتج به . وروي عن مجاهد الكراهة للماء المسخن وعن الشافعي الكراهة للماء المشمس ، وكل هذا لا معنى له ، ولا حجة لا في قرآن أو سنة ثابتة أو إجماع متيقن ، وبالله تعالى التوفيق .

157 - مسألة : الأشياء الموجبة للوضوء ولا يوجب الوضوء غيرها . قال قوم : ذهاب العقل بأي شيء ذهب ، من جنون أو إغماء أو سكر من أي شيء سكر . وقالوا هذا إجماع متيقن . وبرهان ذلك أن من ذهب عقله سقط عنه الخطاب ، وإذا كان كذلك فقد بطلت حال طهارته التي كان فيها ، ولولا صحة الإجماع أن حكم جنابته لا يرجع عليه لوجب أن يرجع عليه ، وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، أما دعوى الإجماع فباطل ، وما وجدنا في هذا عن أحد من الصحابة كلمة ولا عن أحد التابعين ، إلا عن ثلاثة نفر : إبراهيم النخعي - على أن الطريق إليه واهية وحماد والحسن فقط ، عن اثنين منهم الوضوء وعن الثالث إيجاب الغسل ، روينا عن سعيد بن منصور عن سويد بن سعيد الحدثاني وهشيم ، قال سويد أخبرنا مغيرة عن إبراهيم في المجنون إذا أفاق : يتوضأ ، وقال هشيم عن بعض أصحابه عن إبراهيم مثله ، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان قال : إذا أفاق المجنون توضأ وضوءه للصلاة ، ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال : إذ أفاق المجنون اغتسل . فأين الإجماع ؟ ليت شعري ؟ فإن قالوا : قسناه على النوم ، قلنا : القياس باطل ، لكن قد وافقتمونا على أنه لا يوجب إحدى الطهارتين وهي الغسل ، فقيسوا على سقوطها سقوط الأخرى وهي الوضوء ، فهذا قياس ، يعارض قياسكم ، والنوم لا يشبه الإغماء ولا الجنون ولا السكر فيقاس عليه ، وقد اتفقوا على أنه لا يبطل إحرامه ولا صيامه ولا شيء من عقوده ، فمن أين لهم إبطال وضوئه بغير نص في ذلك ؟ وقد صح عن رسول الله ﷺ الخبر المشهور الثابت من طريق عائشة أم المؤمنين ، { أنه عليه السلام في علته التي مات فيها أراد الخروج للصلاة فأغمي عليه ، فلما أفاق اغتسل ، ولم تذكر وضوءا وإنما كان غسله ليقوى على الخروج فقط } .