→ كتاب الطهارة (مسألة 158 - 163) | ابن حزم - المحلى كتاب الطهارة (مسألة 164 - 168) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الطهارة (مسألة 169) ← |
كتاب الطهارة
164 - مسألة : وأكل لحوم الإبل نيئة ومطبوخة أو مشوية عمدا وهو يدري أنه لحم جمل أو ناقة فإنه ينقض الوضوء ، ولا ينقض الوضوء أكل شحومها محضة ولا أكل شيء منها غير لحمها ، فإن كان يقع على بطونها أو رءوسها أو أرجلها اسم لحم عند العرب نقض أكلها الوضوء وإلا فلا ، ولا ينقض الوضوء كل شيء مسته النار غير ذلك ، وبهذا يقول أبو موسى الأشعري وجابر بن سمرة ، ومن الفقهاء أبو خيثمة زهير بن حرب ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل الفضيل بن حسين الجحدري والقاسم بن زكريا ، قال الفضيل ثنا أبو عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب وقال القاسم حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب وأشعث بن أبي الشعثاء كلاهما عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال { سأل رجل رسول الله ﷺ أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم فتوضأ من لحوم الإبل } . وحدثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال { سئل رسول الله ﷺ : أنتوضأ من لحوم الإبل ، قال : نعم } . قال أبو محمد : عبد الله بن عبد الله الرازي أبو جعفر قاضي الري ثقة . قال أبو محمد : وقد مضى الكلام في الفصل الذي قبل هذا في إبطال قول من تعلل في رد السنن بأن هذا مما تعظم به البلوى ، وإبطال قول من قال : لعل هذا الوضوء غسل اليد ، فأغنى عن إعادته ، ولو أن المعترض بهذا ينكر على نفسه القول بالوضوء من القهقهة في الصلاة ولا يرى فيها الوضوء في غير الصلاة - : لكان أولى به . وأما الوضوء مما مست النار ، فإنه قد صحت في إيجاب الوضوء منه أحاديث ثابتة من طريق عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي هريرة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ، وقال به كل من ذكرنا وابن عمر وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وأبو مسعود ، وجماعة من التابعين منهم أهل المدينة جملة وسعيد بن المسيب وأبو ميسرة وأبو مجلز ويحيى بن يعمر والزهري وستة من أبناء النقباء من الأنصار والحسن البصري وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومعمر وأبو قلابة وغيرهم ، ولولا أنه منسوخ لوجب القول به . كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عمرو بن منصور ثنا علي بن عياش ثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله قال : { كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار } فصح نسخ تلك الأحاديث ولله الحمد . قال علي : وقد ادعى قوم أن هذا الحديث مختصر من الحديث الذي حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي ثنا حجاج قال : قال ابن جريج أخبرني محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول { قرب لرسول الله ﷺ خبز ولحم فأكل ثم دعا بوضوء فتوضأ به ثم صلى الظهر ثم دعا بفضل طعامه فأكل ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ } قال أبو محمد : القطع بأن ذلك الحديث مختصر من هذا قول بالظن ، والظن أكذب الحديث بل هما حديثان كما وردا . قال علي : وأما كل حديث احتج به من لا يرى الوضوء مما مست النار من { أن رسول الله ﷺ أكل كتف شاة ولم يتوضأ } ونحو ذلك - : فلا حجة لهم فيه لأن أحاديث إيجاب الوضوء هي الواردة بالحكم الزائدة على هذه التي هي موافقة لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء مما مست النار ، ولولا حديث شعيب بن أبي حمزة الذي ذكرنا لما حل لأحد ترك الوضوء مما مست النار . قال أبو محمد : فإن قيل : لم خصصتم لحوم الإبل خاصة من جملة ما نسخ من الوضوء مما مست النار ؟ قلنا : لأن الأمر الوارد بالوضوء من لحوم الإبل إنما هو حكم فيها خاصة ، سواء مستها النار أو لم تمسها النار ، فليس مس النار إياها - إن طبخت - يوجب الوضوء منها ، بل الوضوء واجب منها كما هي ، فحكمها خارج عن الأخبار الواردة بالوضوء مما مست النار ، وبنسخ الوضوء منه ، وبالله تعالى التوفيق . وأما أكلها بنسيان أو بغير علم أنه من لحوم الإبل فقد ذكرنا قول الله تعالى : { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } فمن فعل شيئا عن غير قصد فسواء ذلك وتركه إلا أن يأتي نص في إيجاب حكم النسيان فيوقف عنده ، وبالله تعالى التوفيق .
165 - مسألة : ومس الرجل المرأة والمرأة الرجل بأي عضو مس أحدهما الآخر ، إذا كان عمدا ، دون أن يحول بينهما ثوب أو غيره ، سواء أمه كانت أو ابنته ، أو مست ابنها أو أباها ، الصغير والكبير سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك وكذلك لو مسها على ثوب للذة لم ينتقض وضوءه ، وبهذا يقول الشافعي وأصحاب الظاهر . برهان ذلك قول الله تبارك وتعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } . قال أبو محمد : والملامسة فعل من فاعلين ، وبيقين ندري أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية ، لا خلاف بين أحد من الأمة في هذا لأن أول الآية وآخرها عموم للجميع من الذين آمنوا ، فصح أن هذا الحكم لازم للرجال إذا لامسوا النساء ، والنساء إذا لامسن الرجال ، ولم يخص الله تعالى امرأة من امرأة ، ولا لذة من غير لذة ، فتخصيص ذلك لا يجوز ، وهو قول ابن مسعود وغيره . وادعى قوم أن اللمس المذكور في هذه الآية هو الجماع . قال أبو محمد : وهذا تخصيص لا برهان عليه ، ومن الباطل الممتنع أن يريد الله عز وجل لماسا من لماس فلا يبينه . نعوذ بالله من هذا . قال علي : واحتج من رأى اللماس المذكور في هذه الآية هو الجماع بحديث فيه { أن رسول الله ﷺ كان يقبل ولا يتوضأ } وهذا حديث لا يصح ؛ لأن راويه أبو روق وهو ضعيف ، ومن طريق رجل اسمه عروة المزني ، وهو مجهول ، رويناه من طريق الأعمش عن أصحاب له لم يسمهم عن عروة المزني ، وهو مجهول ولو صح لما كان لهم فيه حجة لأن معنى هذا الخبر منسوخ بيقين لأنه موافق لما كان الناس عليه قبل نزول الآية ، ووردت الآية بشرع زائد لا يجوز تركه ولا تخصيصه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين : أحدهما من طريق عائشة أم المؤمنين { التمست رسول الله ﷺ في الليل فلم أجده ، فوقعت يدي على باطن قدمه وهو ساجد } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الوضوء إنما هو على القاصد إلى اللمس ، لا على الملموس دون أن يقصد هو إلى فعل الملامسة ؛ لأنه لم يلامس ، ودليل آخر ، وهو أنه ليس في هذا الخبر أنه عليه السلام كان في صلاة ، وقد يسجد المسلم في غير صلاة ، لأن السجود فعل خير ، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام كان في صلاة - وهذا ما لا يصح - فليس في الخبر أنه عليه السلام لم ينتقض وضوءه ، ولا أنه صلى صلاة مستأنفة دون تجديد وضوء ، فإذا ليس في الخبر شيء من هذا فلا متعلق لهم به أصلا . ثم لو صح أنه عليه السلام كان في صلاة ، وصح أنه عليه السلام تمادى عليها أو صلى غيرها دون تجديد وضوء - وهذا كله لا يصح أبدا - فإنه كان يكون هذا الخبر موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية بلا شك ، وهي حال لا مرية في نسخها وارتفاع حكمه بنزول الآية ، ومن الباطل الأخذ بما قد تيقن نسخه وترك الناسخ ، فبطل أن يكون لهم متعلق بهذا الخبر . والحمد لله رب العالمين . والخبر الثاني من طريق أبي قتادة { أن رسول الله ﷺ حمل أمامة بنت أبي العاص - وأمها زينب بنت رسول الله ﷺ - على عاتقه يضعها ، إذا سجد ، ويرفعها إذا قام } قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه أصلا لأنه ليس فيه نص أن يديها ورجليها لمست شيئا من بشرته عليه السلام ، إذ قد تكون موشحة برداء أو بقفازين وجوربين ، أو يكون ثوبها سابغا يواري يديها ورجليها ، وهذا الأولى أن يظن بمثلها بحضرة الرجال ، وإذا لم يكن ما ذكرنا في الحديث فلا يحل لأحد أن يزيد فيه ما ليس فيه ، فيكون كاذبا ، وإذا كان ما ظنوا ليس في الخبر وما قلنا ممكنا ، والذي لا يمكن غيره ، فقد بطل تعلقهم به ، ولم يحل ترك الآية المتيقن وجوب حكمها لظن كاذب ، وقال تعالى : { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } . وأيضا فإن هذا الخبر والذي قبله ليس فيهما أيهما كان بعد نزول الآية ، والآية متأخرة النزول ، فلو صح أنه عليه السلام مس يديها ورجليها في الصلاة لكان موافقا للحال التي كان الناس عليها قبل نزول الآية ، وعلى كل حال فنحن على يقين من أن معنى هذا الخبر - لو صح لهم كما يريدون - فإنه منسوخ بلا شك ولا يحل الرجوع إلى المتيقن أنه منسوخ وترك الناسخ . فصح أنهم يوهمون بأخبار لا متعلق لهم بشيء منها ، يرومون بها ترك اليقين من القرآن والسنن . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء قبلة ولا ملامسة للذة كانت أو لغير لذة ، ولا أن يقبض بيده على فرجها كذلك ، إلا أن يباشرها بجسده دون حائل وينعظ فهذا وحده ينقض الوضوء . وقال مالك : لا وضوء من ملامسة المرأة الرجل ، ولا الرجل المرأة ، إذا كانت لغير شهوة ، تحت الثياب أو فوقها ، فإن كانت الملامسة للذة فعلى الملتذ منهما الوضوء سواء كان فوق الثياب أو تحتها ، أنعظ أو لم ينعظ ، والقبلة كالملامسة في كل ذلك ، وهو قول أحمد بن حنبل . وقال الشافعي كقولنا ، إلا أنه روي عنه أن مس شعر المرأة خاصة لا ينقض الوضوء . قال أبو محمد أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، ولا يمكنه التعلق بالتأويل الذي تأوله قوم في الآية : إن الملامسة المذكورة فيها هو الجماع فقط لأنه أوجب الوضوء من المباشرة إذا كان معها إنعاظ ، وأما مناقضته فتفريقه بين القبلة يكون معها إنعاظ فلا ينقض الوضوء . وبين المباشرة يكون معها إنعاظ فتنقض الوضوء ، وهذا فرق لم يؤيده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو مخالف لكل ذلك ، ومن مناقضاته أيضا أنه جعل القبلة لشهوة واللمس لشهوة بمنزلة القبلة لغير الشهوة ، واللمس لغير الشهوة لا ينقض الوضوء شيء من ذلك ، ثم رأى أن القبلة لشهوة واللمس لشهوة رجعة في الطلاق ، بخلاف القبلة لغير شهوة واللمس لغير شهوة ، وهذا كما ترى لا اتباع القرآن ، ولا التعلق بالسنة ولا طرد قياس ولا سداد رأي ولا تقليد صاحب ، ونسأل الله التوفيق . وأما قول مالك في مراعاة الشهوة واللذة ، فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا ضبط قياس ولا احتياط ، وكذلك تفريق الشافعي بين الشعر وغيره ، فقول لا يعضده أيضا قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس ، بل هو خلاف ذلك كله ، وهذه الأقوال الثلاثة كما أوردناها لم نعرف أنه قال بها أحد قبلهم ، وبالله تعالى التوفيق . فإن قيل : قد رويتم عن النخعي والشعبي : إذا قبل أو لمس لشهوة فعليه الوضوء وعن حماد : أي الزوجين قبل صاحبه والآخر لا يريد ذلك ، فلا وضوء على الذي لا يريد ذلك ، إلا أن يجد لذة ، وعلى القاصد لذلك الوضوء . قلنا : قد صح عن الشعبي والنخعي وحماد إيجاب الوضوء من القبلة على القاصد بكل حال ، وإذ ذلك كذلك فاللذة داخلة في هذا القول ، وبه نقول ، وليس ذلك قول مالك . والعجب أن مالكا لا يرى الوضوء من الملامسة إلا حتى يكون معها شهوة ، ثم لا يرى الوضوء يجب من الشهوة دون ملامسة فكل واحد من المعنيين لا يوجب الوضوء على انفراده فمن أين له إيجاب الوضوء عند اجتماعهما ؟
166 - مسألة : وإيلاج الذكر في الفرج يوجب الوضوء ، كان معه إنزال أو لم يكن . برهان ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ثنا هشام هو ابن عروة - عن أبيه عن أبي أيوب الأنصاري عن أبي بن كعب قال : { سألت رسول الله ﷺ عن الرجل يصيب من المرأة ثم يكسل ، قال : يغسل ما أصابه من المرأة ثم يتوضأ ويصلي } . ورويناه أيضا عن شعبة عن الحكم عن أبي صالح عن ذكوان عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ فالوضوء لا بد منه مع الغسل على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى .
167 - مسألة : وحمل الميت في نعش أو في غيره . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : { من غسل ميتا فليغتسل ومن حملها فليتوضأ } قال أبو محمد : يعني الجنازة . ورويناه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وإسحاق مولى زائدة ثقة مدني وتابعي ، وثقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره ، وروى عن سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة . ورويناه بالسند المذكور إلى حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : كنت مع عبد الله بن عتبة بن مسعود في جنازة ، فلما جئنا دخل المسجد ، فدخل عبد الله بيته يتوضأ ثم خرج إلى المسجد فقال لي : أما توضأت ؟ قلت : لا ، فقال : كان عمر بن الخطاب ومن دونه من الخلفاء إذا صلى أحدهم على الجنازة ثم أراد أن يصلي المكتوبة توضأ ، حتى إن أحدهم كان يكون في المسجد فيدعو بالطشت فيتوضأ فيها . قال أبو محمد : لا يجوز أن يكون وضوءهم رضي الله عنهم ، لأن الصلاة على الجنازة حدث ، ولا يجوز أن يظن بهم إلا إتباع السنة التي ذكرنا ، والسنة تكفي . وقد ذكرنا من أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي التي لم يقلها أحد قبلهم كثيرا ، كالأبواب التي قبل هذا الباب ببابين ، وكنقض الوضوء بملء الفم من القلس دون ما لا يملؤه منه ، وسائر الأقوال التي ذكرنا عنهم ، لم يتعلقوا فيها بقرآن ولا سنة ولا بقياس ولا بقول قائل . وبالله تعالى التوفيق .
168 - مسألة : وظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء ولا بد لكل صلاة تلي ظهور ذلك الدم سواء تميز دمها أو لم يتميز ، عرفت أيامها أو لم تعرف . برهان ذلك ما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي ﷺ : قالت يا رسول الله : إني أستحاض فلا أطهر ، فأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله ﷺ : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن أبي عدي من كتابه عن محمد هو ابن عمرو بن علقمة بن وقاص - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله ﷺ : إذا كان الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي فإنه عرق } . قال علي : فعم عليه السلام كل دم خرج من الفرج بعد دم الحيضة ولم يخص وأوجب الوضوء منه ، لأنه عرق . وممن قال بإيجاب الوضوء لكل صلاة على التي يتمادى بها الدم من فرجها متصلا بدم المحيض : عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسين وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . قالت عائشة رضي الله عنها : تغتسل وتتوضأ لكل صلاة رويناه من طريق وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن الشعبي عن امرأة مسروق عن عائشة ، ومن طريق عدي بن ثابت عن أبيه عن علي بن أبي طالب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة في التي يتمادى بها الدم إنها تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن محمد بن علي بن الحسين : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة في المتصلة الدم كما ذكرنا : إنها تتوضأ لدخول كل وقت صلاة ، فتكون طاهرا بذلك الوضوء ، حتى يدخل وقت صلاة أخرى فينتقض وضوءها ويلزمها أن تتوضأ لها . وروى عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في هذه : إذا توضأت إثر طلوع الشمس للصلاة أنها تكون طاهرا إلى خروج وقت الظهر ، وأنكر ذلك عليه أبو يوسف ، وحكى أنه لم يرو عن أبي حنيفة إلا أنها تكون طاهرا إلى دخول وقت الظهر . وغلب بعض أصحابه رواية محمد . قال أبو محمد : وليس كما قال . بل قول أبي يوسف أشبه بأقوال أبي حنيفة . وقال مالك : لا وضوء عليها من هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا ، وهي طاهر ما لم تحدث حدثا آخر . وقال الشافعي وأحمد : عليها فرضا أن تتوضأ لكل صلاة فرض وتصلي بين ذلك من النوافل ما أحبت ، قبل الفرض وبعده بذلك الوضوء . قال أبو محمد : أما قول مالك فخطأ ، لأنه خلاف للحديث الوارد في ذلك ، والعجب أنهم يقولون بالمنقطع من الخبر إذا وافقهم ، وههنا منقطع أحسن من كل ما أخذوا به ، وهو ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة وموسى بن معاوية عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت { جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله عليه السلام فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فاجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي ، وإن قطر الدم على الحصير } . قال : قالوا هذا على الندب ، قيل لهم : وكل ما أوجبتموه منا لاستطهار وغير ذلك لعله ندب ، ولا فرق ، وهذا قول يؤدي إلى إبطال الشرائع كلها مع خلافه لأمر الله تعالى في قوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وما نعلم لهم متعلقا في قولهم هذا ، لا بقرآن ولا بسنة ولا بدليل ولا بقول صاحب ولا بقياس . وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضا لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به ، ومخالف للمعقول وللقياس ، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت وتصح بكون الوقت قائما ، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا : قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارتهما بخروج الوقت المحدود لهما فنقيس عليهما المستحاضة . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ؛ لأنه قياس خطأ وعلى خطإ ، وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور بل هو طاهر كما كان ، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث ، وإنما جاءت السنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط ، لا بانتقاض طهارته ، ثم لو صح لهم ما ذكروا في الماسح - وهو لا يصح - لكان قياسهم هذا باطلا لأنهم قاسوا خروج وقت كل صلاة في السفر والحضر على انقضاء يوم وليلة في الحضر ، وعلى انقضاء ثلاثة أيام بلياليهن في السفر . وهذا قياس سخيف جدا ، وإنما كانوا يكونون قائسين على ما ذكروا لو جعلوا المستحاضة تبقى بوضوئها يوما وليلة في الحضر ، وثلاثة في السفر ، ولو فعلوا هذا لوجدوا فيما يشبه بعض ذلك سلفا ، وهو سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، فقد صح عنهم أنها تغتسل من الظهر إلى الظهر ، وأما قولهم هذا فعار من أن يكون لهم فيه سلف ، وما نعلم لقولهم حجة ، لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من معقول . وأما المسألة التي اختلف فيها عن أبي حنيفة فإن قول أبي يوسف أشبه بأصولهم ؛ لأن أثر طلوع الشمس ليس هو وقت صلاة فرض مارا إلى وقت الظهر ، وهو وقت تطوع ، فالمتوضئة فيه للصلاة كالمتوضئة لصلاة العصر في وقت الظهر ، ولا يجزيها ذلك عندهم . وأما قول الشافعي وأحمد فخطأ ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة ، هذا ما لا خفاء به وليس إلا طاهرا أو محدثا ، فإن كانت طاهرا فإنها تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل ، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا فرضا ولا نافلة . وأقبح من هذا يدخل على المالكيين في قولهم : من تيمم لفريضة فله أن يصلي بذلك التيمم بعد أن يصلي الفريضة ما شاء من النوافل ، وليس له أن يصلي نافلة قبل تلك الفريضة بذلك التيمم ، ولا أن يصلي به صلاتي فرض ، فهذا هو نظرهم وقياسهم وأما تعلق بأثر ، فالآثار حاضرة وأقواله حاضرة . قال أبو محمد ، وهم كلهم يشغبون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم وجميع الحنفيين والمالكيين والشافعيين قد خالفوا في هذه المسألة عائشة وعليا وابن عباس رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك وخالف المالكيون في ذلك فقهاء المدينة كما أوردنا ، فصارت أقوالهم مبتدأة ممن قالها بلا برهان أصلا . وبالله تعالى التوفيق .