الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة التاسعة والعشرون


كتاب الطهارة

كتاب التـــيمم

246 - مسألة : ومن كان محبوسا في حضر أو سفر بحيث لا يجد ترابا ولا ماء أو كان مصلوبا وجاءت الصلاة فليصل كما هو وصلاته تامة ولا يعيدها ، سواء وجد الماء في الوقت أو لم يجده إلا بعد الوقت . برهان ذلك قول الله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقول رسول الله ﷺ { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقوله تعالى : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } فصح بهذه النصوص أنه لا يلزمنا من الشرائع إلا ما استطعنا ، وأن ما لم نستطعه فساقط عنا ، وصح أن الله تعالى حرم علينا ترك الوضوء أو التيمم للصلاة إلا أن نضطر إليه ، والممنوع من الماء والتراب مضطر إلى ما حرم عليه من ترك التطهر بالماء أو التراب ، فسقط عنا تحريم ذلك عليه ، وهو قادر على الصلاة بتوفيتها أحكامها وبالإيمان ، فبقي عليه ما قدر عليه ، فإذا صلى كما ذكرنا فقد صلى كما أمره الله تعالى ، ومن صلى كما أمره الله تعالى فلا شيء عليه ، والمبادرة إلى الصلاة في أول الوقت أفضل لما ذكرنا قبل . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي فيمن هذه صفته : لا يصلي حتى يجد الماء متى وجده . قال أبو حنيفة : فإن قدر على التيمم تيمم وصلى ، ثم إذا وجد الماء أعاد ولا بد متى وجده ، وإن خشي الموت من البرد تيمم وصلى وأجزأه . وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي : يصلي كما هو ، فإذا وجد الماء أعاد متى وجده ، فإن قدر في المصر على التراب تيمم وصلى ، وأعاد أيضا ولا بد إذا وجد الماء . وقال زفر في المحبوس في المصر بحيث لا يجد ماء ولا ترابا أو بحيث يجد التراب : إنه لا يصلي أصلا حتى يجد الماء ، لا بتيمم ولا بلا تيمم ، فإذا وجد الماء توضأ وصلى تلك الصلوات ، وقال بعض أصحابنا : لا يصلي ولا يعيد ، وقال أبو ثور : يصلي كما هو ولا يعيد . قال علي : أما قول أبي حنيفة فظاهر التناقض ، لأنه لا يجيز الصلاة بالتيمم في المصر لغير المريض وخائف الموت ، كما لا يجيز له الصلاة بغير الوضوء والتيمم ولا فرق ، ثم فرق بينهما - وكلاهما عنده لا تجزيه صلاته - فأمر أحدهما بأن يصلي صلاة لا تجزيه ، وأمر الآخر بأن لا يصليها ، وهذا خطأ لا خفاء به ، فسقط هذا القول سقوطا لا خفاء به ، وما له حجة أصلا يمكن أن يتعلق بها . وأما قول أبي يوسف ومحمد فخطأ ، لأنهما أمراه بصلاة لا تجزيه ولا لها معنى ، فهي باطل ، وقد قال الله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } وأما قول زفر فخطأ أيضا ، لأنه أمره بأن لا يصلي في الوقت الذي أمر الله تعالى بالصلاة فيه ، وأمره أن يصلي في الوقت الذي نهاه الله تعالى عن تأخيره الصلاة إليه ، وقد أمره الله تعالى بالصلاة في وقتها أوكد أمر وأشده ، قال الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فلم يأمر تعالى بتخلية سبيل الكافر حتى يتوب من الكفر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، فلا يحل ترك ما هذه صفته عن الوقت الذي لم يفسح تعالى في تأخيره عنه ، فظهر فساد قول زفر وكل من أمره بتأخير الصلاة عن وقتها . وأما من قال : لا يصلي أصلا فإنهم احتجوا بقول رسول الله ﷺ " { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } وقال عليه السلام { لا يقبل الله صلاة بغير طهور } قالوا : فلا نأمره بما لم يقبله الله تعالى منه ، لأنه في وقتها غير متوضئ ولا متطهر ، وهو بعد الوقت محرم عليه تأخير الصلاة عن وقتها . قال علي : هذا كان أصح الأقوال ، لولا ما ذكرنا من أن النبي ﷺ أسقط عنا ما لا نستطيع مما أمرنا به ، وأبقى علينا ما نستطيع ، وأن الله تعالى أسقط عنا ما لا نقدر عليه ، وأبقى علينا ما نقدر عليه ، بقوله تعالى { : فاتقوا الله ما استطعتم } فصح أن قوله عليه السلام : { لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ } و { لا يقبل الله صلاة إلا بطهور } إنما كلف ذلك من يقدر على الوضوء أو الطهور بوجود الماء أو التراب ، لا من لا يقدر على وضوء ولا تيمم ، هذا هو نص القرآن والسنن ، فلما صح ذلك سقط عنا تكليف ما لا نطيق من ذلك ، وبقي علينا تكليف ما نطيقه ، وهو الصلاة فإذ ذلك كذلك فالمصلي كذلك مؤد ما أمر به ، ومن أدى ما أمر به فلا قضاء عليه . وبالله تعالى التوفيق . فكيف وقد جاء في هذا نص كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا النفيلي ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { بعث رسول الله ﷺ أسيد بن الحضير وأناسا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة ، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فأتوا النبي ﷺ فذكروا ذلك له ، فأنزلت آية التيمم . } حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا زكريا بن يحيى ثنا ابن نمير - هو عبد الله - ثنا هشام بن عروة عن أبيه { عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فبعث رسول الله ﷺ رجلا فوجدها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى آية التيمم } فهذا أسيد وطائفة من الصحابة مع حكم الله تعالى ورضاء نبيه ﷺ . وبالله تعالى التوفيق .


247 - مسألة : ومن كان في سفر ولا ماء معه أو كان مريضا يشق عليه استعمال الماء فله أن يقبل زوجته وأن يطأها ، وهو قول ابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ، وجمهور أصحاب الحديث . وروي عن علي وابن مسعود وابن عوف وابن عمر النهي عن ذلك ، وقال عطاء إن كان بينه وبين الماء ثلاث ليال فأقل فلا يطؤها ، وإن كان بينه وبين الماء أربع ليال فله أن يطأها وقال الزهري إن كان مسافرا فلا يطؤها له وإن كان مغربا رحالا فله أن يطأها ، وإن كان لا ماء معه . وقال مالك : إن كان مسافرا فلا يطؤها ولا يقبلها إن كان على وضوء ، فإن كان به جراح يكون حكمه معها التيمم فله أن يطأها ويقبلها ، لأن أمر هذا يطول . قال : فإن كانت حائضا فطهرت فتيممت وصلت فليس لزوجها أن يطأها . قال : وكذلك لا يطؤها وإن كانت طاهرا متيممة . قال علي : أما تقسيم عطاء فلا وجه له ، لأنه لم يوجب ذلك الحد قرآن ولا سنة وكذلك تقسيم الزهري ، وأما قول مالك فكذلك أيضا ، لأنه تفريق لم يوجبه قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ولا إجماع ولا قول صاحب لم يخالف ولا قياس ولا احتياط ، لأن الله تعالى سمى التيمم طهرا ، والصلاة به جائزة ، وقد حض الله تعالى على مباضعة الرجل امرأته ، وصح أنه مأجور في ذلك ، وما خص الله تعالى بذلك من حكمه التيمم ممن حكمه الغسل أو الوضوء . قال أبو محمد : والعجب أنه يرى أنه يجزئ للجنابة وللوضوء وللحيض تيمم واحد ، ثم يمنع المحدثة والمتطهرة من الحيض بالتيمم والمحدث أن يطأ امرأته فقد أوجب أنهما عملان متغايران ، فكيف يجزئ عنده عنهما عمل واحد قال علي : ولا حجة للمانع من ذلك أصلا ، لأن الله تعالى جعل نساءنا حرثا لنا ولباسا لنا ، وأمرنا بالوطء في الزوجات وذوات الأيمان ، حتى أوجب تعالى على الحالف أن يطأ امرأته أجلا محدودا - إما أن يطأ وإما أن يطلق ، وجعل حكم الواطئ والمحدث الغسل والوضوء إن وجد الماء ، والتيمم إن لم يجد الماء ، لا فضل لأحد العملين على الآخر ، وليس أحدهما بأطهر من الآخر ولا بأتم صلاة ، فصح أن لكل واحد حكمه ، فلا معنى لمنع من حكمه التيمم من الوطء ، كما لا معنى لمنع من حكمه الغسل من الوطء ، وكل ذلك في النص سواء ، ليس أحدهما أصلا والثاني فرعا ، بل هما في القرآن سواء . وبالله تعالى التوفيق .


248 - مسألة : وجائز أن يؤم المتيمم المتوضئين ، والمتوضئ المتيممين ، والماسح الغاسلين والغاسل الماسحين ، لأن كل واحد ممن ذكرنا قد أدى فرضه ، وليس أحدهما بأطهر من الآخر ، ولا أحدهما أتم صلاة من الآخر ، وقد أمر رسول الله ﷺ إذا حضرت الصلاة أن يؤمهم أقرؤهم ، ولم يخص عليه السلام غير ذلك ، ولو كان ههنا واجب غير ما ذكره عليه السلام لبينه ولا أهمله ، حاشا لله من ذلك ، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر وسفيان والشافعي وداود وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وروي ذلك عن ابن عباس وعمار بن ياسر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء والزهري وحماد بن أبي سليمان . وروي المنع في ذلك عن علي بن أبي طالب ، قال : لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد المطلقين ، وقال ربيعة : لا يؤم المتيمم من جنابة إلا من هو مثله ، وبه يقول يحيى بن سعيد الأنصاري . وقال محمد بن الحسن والحسن بن حي : لا يؤمهم . وكره مالك وعبيد الله بن الحسن أن يؤمهم ، فإن فعل أجزأه . وقال الأوزاعي : لا يؤمهم إلا إن كان أميرا . قال علي : النهي عن ذلك أو كراهته لا دليل عليه من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس ، وكذلك تقسيم من قسم ، وبالله تعالى التوفيق .

249 - مسألة : ويتيمم الجنب والحائض وكل من عليه غسل واجب كما يتيمم المحدث ولا فرق . وروينا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما : أن الجنب لا يتيمم حتى يجد الماء ، وعن الأسود وإبراهيم مثل ذلك . كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن واصل الأحدب والحكم بن عتيبة ، قال واصل : سمعت أبا وائل قال : كان عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود - وهما خير مني - يقولان : إن لم يجد الماء لم يصل - يعني الجنب - قال : وأنا لو لم أجد الماء لتيممت وصليت . وقال الحكم : سألت إبراهيم النخعي إذا لم تجد الماء وأنت جنب ؟ قال لا أصلي قال شعبة : وقلت لأبي إسحاق : أقال ابن مسعود إن لم أجد الماء شهرا لم أصل ؟ - يعني الجنب - فقال أبو إسحاق : قال نعم والأسود . وقال غيرهما من الصحابة يتيمم الجنب . حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا عوف - هو ابن أبي جميلة - ثنا أبو رجاء - هو العطاردي - عن عمران بن الحصين قال { كنا مع رسول الله ﷺ فذكر الحديث وأنه عليه السلام صلى بالناس فلما انفتل عليه السلام من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ قال أصابتني جنابة ولا ماء ، قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك . } واحتج من ذهب إلى قول ابن مسعود بقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } قال فلم يجعل للجنب إلا الغسل ، قلنا له : إن رسول الله ﷺ هو المبين عن الله عز وجل ، قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } وهو عليه السلام قد بين أن الجنب حكمه التيمم عند عدم الماء . فإن ذكروا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن أبي عدي ثنا شعبة عن المخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال : { جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني أجنبت فلم أصل ، فقال أحسنت . وجاءه آخر فقال : إني أجنبت فتيممت فصليت ، قال أحسنت } قلنا : هذا خبر صحيح ، والمخارق ثقة ، تابع ، وطارق صاحب ، صحيح الصحبة مشهور والخبر به نقول ، وهذا الذي أجنب فلم يصل لم يكن عليه حكم التيمم ، فأصاب إذ لم يصل بما لا يدري ، وإنما تلزم الشرائع بعد البلوغ . قال الله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } والذي تيمم علم فرض التيمم ففعله ، لا يجوز ألبتة أن يكون غير هذا ، فإما أن يكون التيمم فرض المجنب إذا لم يجد الماء ، فيخطئ من ترك الفرض ممن عليه ، أو يكون التيمم ليس فرض المجنب المذكور فيخطئ من فعله ، وقد صح أنه فرضه بما ذكرنا في خبر عمران بن الحصين فصح ما قلناه من أن أحدهما لم يعلمه والآخر علمه ، فأتى به ، وبالله تعالى التوفيق . وأما الحائض وكل من عليه غسل واجب ، فقد ذكرنا قول رسول الله ﷺ { جعلت لنا الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء } وكل مأمور بالطهور إذا لم يجد الماء فالتراب بنص عموم هذا الخبر ، وبالله تعالى التوفيق .