الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الأول/الصفحة الثانية عشر


كتاب الطهارة

واحتج أصحاب الشافعي لقولهم هذا بالحديث المأثور عن رسول الله ﷺ في { غسل الإناء من ولوغ الكلب وهرقه } ، { وبأمره ﷺ من استيقظ من نومه بغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه فإنه لا يدري أين باتت يده } ، { وبأمره ﷺ البائل في الماء ألا يتوضأ منه ولا يغتسل } ، وبقوله ﷺ : { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ولم يقبل الخبث } . قالوا : فدلت هذه الأحاديث على أن الماء يقبل النجاسة ما لم يبلغ حدا ما . قالوا فكانت القلتان حدا منصوصا عليه فيما لا يقبل النجاسة منه ، واحتج بهذا أيضا أصحاب أبي حنيفة في قولهم . ثم اختلفوا في تحديد القلتين ، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : القلة أعلى الشيء فمعنى القلتين ههنا القامتان ، وقال الشافعي - بما روى عن ابن جريج : إن القلتين من قلال هجر ، وإن قلال هجر القلة الواحدة قربتان أو قربتان وشيء ، قال الشافعي : القربة مائة رطل ، وقال أحمد بن حنبل بذلك ، ولم يحد في القلتين حدا أكثر من أنه قال مرة : القلتان أربع قرب ، ومرة قال : خمس قرب ، ولم يحدها بأرطال . وقال إسحاق : القلتان ست قرب ، وقال وكيع ويحيى بن آدم : القلة الجرة وهو قول الحسن البصري ، أي جرة كانت فهي قلة ، وهو قول مجاهد وأبي عبيد ، قال مجاهد القلة الجرة ، ولم يحد أبو عبيد في القلة حدا . وأظرف شيء تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري فإن احتجوا في ذلك بأن الماء الجاري إذا خالطته النجاسة مضى وخلفه طاهر : فقد علموا يقينا أن الذي خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو ، وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب ، والنجاسة قد خالطته بلا شك ، فوقعوا في نفس ما شنعوا وأنكروا . فإن قالوا : لم نحتج في الفرق بين الماء الجاري وغير الجاري إلا بأن النهي إنما ورد عن الماء الراكد الذي يبال فيه . قلنا : صدقتم ، وهذا هو الحق وبذلك الأمر نفسه في ذلك الخبر نفسه فرقنا نحن بين من ورد عليه النهي وهو البائل وبين من لم يرد عليه النهي وهو غير البائل ، ولا سبيل إلى دليل يفرق بين ما أخذوا به من ذلك الخبر وبين ما تركوا منه . وبالله تعالى التوفيق . واحتجوا بحديث الفأرة في السمن فيما ادعوه من قبول ما عدا الماء للنجاسة قال علي : هذا كل ما احتجوا به ، ما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا ، وكل هذه الأحاديث صحاح ثابتة لا مغمز فيها . وكلها لا حجة لهم في شيء منها . وكلها حجة عليهم لنا ، على ما نبين إن شاء الله عز وجل وبه تعالى نستعين . فأول ذلك أنهم كلهم أقوالهم مخالفة لما في هذه الأخبار ، ونحن نقول بها كلها والحمد لله على ذلك . أما حديث ولوغ الكلب في الإناء فإن أبا حنيفة وأصحابه خالفوه جهارا ، فأمر رسول الله ﷺ بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ، فقالوا هم : لا بل مرة واحدة فقط . فسقط تعلقهم بقول هم أول من عصاه وخالفه فتركوا ما فيه وادعوا فيه ما ليس فيه وأخطئوا مرتين . أما مالك فقال : لا يهرق إلا أن يكون ماء - فخالف الحديث أيضا علانية - وهو وأصحابه موافقون لنا على أن هذا الخبر لا يتعدى به إلى سواه وأنه لا يقاس شيء من النجاسات بولوغ الكلب ، وصدقوا في ذلك إذ من ادعى خلاف هذا فقد زاد في كلام رسول الله ﷺ ما لم يقله عليه السلام قط . وأما الشافعي فإنه قال : إن كان ما في الإناء من الماء خمسمائة رطل فلا يهرق ولا يغسل الإناء . وإن كان فيه غير الماء أهرق بالغا ما بلغ . هذا ليس في الحديث أصلا لا بنص ولا بدليل ، فقد خالف هذا الخبر وزاد فيه ما ليس فيه من أنه إن أدخل فيه يده أو رجله أو ذنبه أهرق وغسل سبع مرات إحداهن بالتراب ، وهذه زيادة ليست في كلامه عليه السلام أصلا ، وقال : إن ولغ في الإناء خنزير كان في حكمه حكم ما ولغ فيه الكلب : يغسل سبعا إحداهن بالتراب . قال فإن ولغ فيه سبع لم يغسل أصلا ولا أهرق . فقاس الخنزير على الكلب ، ولم يقس السباع على الكلب - وهو بعضها - وإنما حرم الكلب بعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع . فقد ظهر خلاف أقوالهم لهذا الخبر وموافقتنا نحن لما فيه ، فهو حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وظهر فساد قياسهم وبطلانه ، وأنه دعاوى لا دليل على شيء منها .


وأما الخبر فيمن { استيقظ من نومه فيغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه فإن أحدكم لا يدري أين باتت } ، فإنهم كلهم مخالفون له ، وقائلون إن هذا لا يجب على المستيقظ من نومه . وقلنا نحن بل هو واجب عليه . وقالوا كلهم إن النجاسات التي احتجوا بهذه الأخبار في قبول الماء لها وفرقوا بها بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء على النجاسة فإنها تزال بغسلة واحدة . وهذا خلاف ما في هذين الخبرين جهارا ، لأن في أحدهما تطهير الإناء بسبع غسلات أولاهن بالتراب وفي الآخر تطهير اليد بثلاث غسلات ، وهم لا يقولون بهذا في النجاسات ، ولو كان هذان الخبران دليلين على قبول الماء للنجاسة لوجب أن يكون حكمهما مستعملا في إزالة النجاسات ، فبطل احتجاجهم بهذين الخبرين جملة ، والحمد لله . ومن الباطل المتيقن أن يكون ما ظنت به النجاسة من اليد لا يطهر إلا بثلاث غسلات ، وإذا تيقنت النجاسة فيها اكتفي في إزالتها بغسلة واحدة ، فهذا قولهم الذي لا شنعة أشنع منه ، وهم يدعون إنفاذ حكم العقول في قياساتهم ، ولا حكم أشد منافرة للعقل من هذا الحكم ، ولو قاله رسول الله ﷺ لسمعنا وأطعنا وقلنا : هو الحق ، لكن لما لم يقله رسول الله ﷺ وجب إطراحه والرغبة عنه ، وأن نوقن بأنه الباطل ومن المحال أيضا أن يكون الأمر للمتنبه بغسل اليد ثلاثا خوف أن تقع على نجاسة ، إذ لو كان كذلك لكانت رجله في ذلك كيده ولكان باطن فخذيه وباطن أليتيه أحق بذلك من يده . وأما مالك فموافق لنا في الخبر أنه ليس دليلا على قبول الماء للنجاسة ، فبطل تعلقهم أيضا بهذا الخبر جملة ، وصح أنه حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين ، فصح اتفاق جميعهم على أن هذين الخبرين لا يجعلان أصلا لسائر النجاسات ، وألا يقاس سائر النجاسات على حكمهما ، فبطل تعلقهم بهما . وأما حديث نهي البائل في الماء الراكد عن أن يتوضأ منه أو يغتسل ، فإنهم كلهم مخالفون له أيضا . أما أبو حنيفة فإنه قال : إن كان الماء بركة إذا حرك طرفها الواحد لم يتحرك طرفها الآخر . فإنه لو بال فيها ما شاء أن يبول فله أن يتوضأ منها ويغتسل ، فإن كانت أقل من ذلك لم يكن له ولا لغيره أن يتوضأ منها ولا أن يغتسل فزاد في الحديث ما ليس فيه من تحريم ذلك على غير البائل ، وخالف الحديث فيما فيه بإباحته - في بعض أحوال كثرة الماء وقلته - للبائل فيه أن يتوضأ منه ويغتسل وكذلك قول الشافعي في الماء إذا كان خمسمائة رطل أو أقل من خمسمائة رطل فخالف الحديث كما خالفه أبو حنيفة ، وزاد فيه كما زاد أبو حنيفة ، وأما مالك فخالفه كله . قال : إذا لم يتغير الماء ببوله فله أن يتوضأ منه ويغتسل ، وقال في بعض أقواله إذا كان كثيرا . فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة لمخالفتهم له . وأما نحن فأخذنا به كما ورد ، ولله الحمد كثيرا . وأما حديث الفأر في السمن فإنهم كلهم خالفوه ؛ لأن أبا حنيفة ومالكا والشافعي أباحوا الاستصباح به ، وفي الحديث { لا تقربوه } وأباح أبو حنيفة بيعه ، فبطل تعلقهم بجميع هذه الآثار وصح خلافهم لها ، وأنها حجة لنا عليهم . فإن قيل : فما معنى هذه الآثار إن كانت لا تدل على قبول الماء النجاسة وما فائدتها ؟ قلنا : معناها ما اقتضاه لفظها ، لا يحل لأحد أن يقول إنسانا من الناس ما لا يقتضيه كلامه ، فكيف رسول الله ﷺ الذي جاء الوعيد الشديد على من قوله ما لم يقل . وأما فائدتها فهي أعظم فائدة ، وهي دخول الجنة بالطاعة لها ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه . وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلا . أول ذلك أن رسول الله ﷺ لم يحد مقدار القلتين ، ولا شك في أنه عليه السلام لو أراد أن يجعلهما - حدا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها لما أهمل أن يحدها لنا بحد ظاهر لا يحيل ، وليس هذا مما يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره ، ولو كان ذلك لكانت كل قلتين - صغرتا أو كبرتا - حدا في ذلك . فأما أبو حنيفة وأصحابه فقالوا : القلة القامة ، ومع ذلك فقد خالفوا هذا الخبر - على أن نسلم لهم تأويلهم الفاسد - لأن البئر وإن كان فيها قامتان أو ثلاث فإنها عندهم تنجس . وأما الشافعي فليس حده في القلتين بأولى من حد غيره ممن فسر القلتين بغير تفسيره وكل قول لا برهان له فهو باطل . وأما نحن فنقول بهذا الخبر حقا ونقول : إن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ولم يقبل الخبث والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين ، صغرتا أو كبرتا ، ولا خلاف في أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند العرب قلة . وليس في هذا الخبر ذكر لقلال هجر أصلا ، ولا شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا . فإن قيل إنه ﷺ قد ذكر قلال هجر في حديث الإسراء . قلنا : نعم ، وليس ذلك يوجب أنه ﷺ متى ما ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر ، وليس تفسير ابن جريج للقلتين بأولى من تفسير مجاهد الذي قال : هما جرتان ، وتفسير الحسن كذلك : إنها أي جرة كانت . وليس في قوله ﷺ هذا دليل ولا نص على أن ما دون القلتين ينجس ويحمل الخبث ومن زاد هذا في الخبر فقد قوله ﷺ ما لم يقل فوجب طلب حكم ما دون القلتين من غير هذا الخبر ، فنظرنا فوجدنا ما حدثنا حمام قال : ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة - وهو ثقة - ثنا عبد العزيز بن أبي حازم أبو تمام عن أبيه عن سهل بن سعد الساعدي قال { قالوا يا رسول الله إنا نتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والحائض والجيف ، فقال رسول الله ﷺ : الماء لا ينجسه شيء } . حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور أخبرنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن حذيفة قال : قال رسول الله ﷺ : { فضلنا على الناس بثلاث - وذكر ﷺ فيها - وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء } فعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء . فقالوا : فإنكم تقولون إن الماء إذا ظهرت فيه النجاسة فغيرت لونه وطعمه وريحه فإنه ينجس ، فقد خالفتم هذين الخبرين . قلنا : معاذ الله من هذا أن نقوله ، بل الماء لا ينجس أصلا ، ولكنه طاهر بحسبه ، لو أمكننا تخليصه من جملة المحرم علينا لاستعملناه ، ولكنا لما لم نقدر على الوصول إلى استعماله كما أمرنا سقط عنا حكمه ، وهكذا كل شيء كثوب طاهر صب عليه خمر أو دم أو بول ، فالثوب طاهر كما كان ، إن أمكننا إزالة النجس عنه صلينا فيه ، وإن لم يمكنا الصلاة فيه إلا باستعمال النجس المحرم سقط عنا حكمه ، ولم تبطل الصلاة للباس ذلك الثوب ، لكن لاستعمال النجاسة التي فيه ، وكذلك خبز دهن بودك خنزير ، وهكذا كل شيء حاشا ما جاء النص بتحريمه بعينه فتجب الطاعة له ، كالمائع يلغ فيه الكلب في الإناء ، وكالماء الراكد للبائل ، وكالسمن الذائب يقع فيه الفأر الميت ، ولا مزيد . وقد روينا من طريق قتادة أن ابن مسعود قال : لو اختلط الماء بالدم لكان الماء طهورا ، وبالله تعالى التوفيق . ولو كان الماء ينجس بملاقاة النجاسة للزم إذا بال إنسان في ساقية ما ألا يحل لأحد أن يتوضأ بما هو أسفل من موضع البائل ، لأن ذلك الماء الذي فيه البول أو العذرة منه يتوضأ بلا شك ، ولما تطهر فم أحد من دم أو قيء فيه ، لأن الماء إذا دخل في الفم النجس تنجس وهكذا أبدا ، والمفرق بين الماء وسائر المائعات في ذلك مبطل متحكم قائل بلا برهان . وهذا باطل . قال أبو محمد علي : وأما تشنيعهم علينا بالفرق بين البائل المذكور في الحديث وغير البائل الذي لم يذكر فيه ، وبين الفأر يقع في السمن المذكور في الحديث وبين وقوعه في الزيت أو وقوع حرام ما في السمن إذ لم يذكر شيء من ذلك في الحديث فتشنع فاسد عائد عليهم ، ولو تدبروا كلامهم لعلموا أنهم مخطئون في التسوية بين البائل الذي ورد فيه النص وغير البائل الذي لا نص فيه ، وهل فرقنا بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنا بين الماء الراكد المذكور في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر فيه ؟ وإلا فليقولوا لنا ما الذي أوجب الفرق بين الماء الراكد وغير الراكد ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل ؟ إلا أن ما ذكر في الحديث لا يتعدى بحكمه إلى ما لم يذكر فيه بغير نص ، وكفرقهم بين الغاصب للماء فيحرم عليه شربه واستعماله ، وهو حلال لغير الغاصب له ، وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني وغير الزاني والسارق وغير السارق والمصلي وغير المصلي ؟ لكل ذي اسم منها حكمه ، وهل الشنعة والخطأ الظاهر إلا أن يرد نص في البائل فيحمل ذلك الحكم على غير البائل وهل هذا إلا كمن حمل حكم السارق على غير السارق ، وحكم الزاني على غير الزاني ، وحكم المصلي على غير المصلي ، وهكذا في جميع الشريعة ونعوذ بالله من هذا . ولو أنصفوا أنفسهم لأنكر المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقهم بين مس الذكر بباطن الكف فينقض الوضوء ، وبين مس بظاهر الكف فلا ينقض الوضوء ، ولأنكر المالكيون على أنفسهم تفريقهم بين حكم الشريفة وحكم الدنية في النكاح ، وما فرق الله تعالى بين فرجيهما في التحليل والتحريم والصداق والحد ، ولأنكر المالكيون والشافعيون تفريقهم بين حكم التمر وحكم البسر في العرايا . وهؤلاء المالكيون يفرقون معنا بين ما أدخل فيه الكلب لسانه وبين ما أدخل فيه ذنبه المبلول من الماء ، ويفرقون بين بول البقرة وبول الفرس ، ولا نص في ذلك ، بل أشنع من ذلك تفريقهم بين خرء الدجاجة المخلاة وخرئها إذا كانت مقصورة وبين بول الشاة إذا شربت ماء نجسا وبين بولها إذا شربت ماء طاهرا ، وفرقوا بين الفول وبين نفسه ، فجعلوه في الزكاة مع الجلبان صنفا واحدا ، وجعلوهما في البيوع صنفين ، وكل ذي عقل يدري أن الفرق بين البائل والمتغوط بنص جاء في أحدهما دون الآخر أوضح من الفرق بين الفول أمس والفول اليوم ، وبين الفول ونفسه بغير نص ولا دليل أصلا .


وهؤلاء الشافعيون فرقوا بين البول في مخرجه من الإحليل ، فجعلوه يطهر بالحجارة ، وبين ذلك البول نفسه من ذلك الإنسان نفسه إذا بلغ أعلى الحشفة - فجعلوه لا يطهر إلا بالماء ، وفرقوا بين بول الرضيع وبين غائطه في الصب والغسل وهذا هو الذي أنكروا علينا ههنا بعينه . وهؤلاء الحنفيون فرقوا بين بول الشاة في البئر فيفسدها ، وبين ذلك المقدار نفسه من بولها بعينها في الثوب فلا يفسده ، وفرقوا بين بول البعير في البئر فيفسده ولو أنه نقطة ، فإن وقعت بعرتان من بعر ذلك الجمل في ماء البئر لم يفسد الماء ، وهذا نفس ما أنكروه علينا ، وفرقوا بين روث الفرس يكون في الثوب منه أكثر من قدر الدرهم البغلي فيفسد الصلاة ، وبين بول ذلك الفرس نفسه يكون في الثوب فلا يفسد الصلاة ، إلا أن يكون ربع الثوب عند أبي حنيفة ، وشبرا في شبر عند أبي يوسف فيفسدها حينئذ ، وزفر منهم يقول : بول ما يؤكل لحمه طاهر كله ورجيعه نجس ، وهذا هو الذي أنكروا علينا . وفرقوا بين ما يملأ الفم من القلس وبين ما لا يملأ الفم منه ، وفرقوا بين البول في الجسد فلا يزيله إلا الماء ، وبين البول في الثوب فيزيله غير الماء . ولو تتبعنا سقطاتهم لقام منها ديوان . فإن قالوا : من قال بقولكم هذا في الفرق بين البائل والمتغوط في الماء الراكد قبلكم ؟ قلنا : قاله رسول الله ﷺ - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - إذ بين لنا حكم البائل وسكت عن المتغوط والمتنخم والمتمخط ، ولكن أخبرونا : من قال من ولد آدم بفروقكم هذه قبلكم ؟ من الفرق بين بول الشاة في البئر وبولها في الثوب ، وبين بولها في الجسد وبولها في الثوب ؟ وبين بول الشاة تشرب ماء نجسا وبولها إذا شربت ماء طاهرا ؟ وبين البول في رأس الحشفة وبينه فوق ذلك ؟ فهذا هو الذي لم يقله أحد قط قبلهم وليتهم إذ قالوه مبتدئين قالوه بوجه يفهم أو يعقل ، وكذلك سائر فروقهم المذكورة والحمد لله رب العالمين . ونحن لا ننكر القول بما جاء به القرآن والسنة ، وإن لم نعرف قائلا مسمى به وهم ينكرون ذلك ويفعلونه ، فاللوائم لهم لازمة لا لنا ، وإنما ننكر غاية الإنكار القول في دين الله تعالى وعلى الله ما لم يقله تعالى قط ولا رسوله ﷺ فهذا والله هو المنكر حقا ، ولو قال أهل الأرض . وكذلك إن قالوا لنا : من فرق قبلكم بين السمن يقع فيه الفأر وبين غير السمن فجوابنا هو الذي ذكرنا بعينه ، فكيف وقد روينا الفرق بينهما عن ابن عمر ، كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا هشيم عن معمر عن أبان عن راشد مولى قريش عن ابن عمر أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال : إن كان مائعا فألقه كله ، وإن كان جامدا فألق الفأرة وما حولها وكل ما بقي . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر وسفيان الثوري كلاهما عن أيوب السختياني عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه سئل عن فأرة وقعت في عشرين فرقا من زيت ، فقال ابن عمر : استسرجوا به وادهنوا به الأدم . وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : الفأرة تقع في السمن الذائب فتموت فيه أو في الدهن ، فتؤخذ قد تسلخت أو قد ماتت وهي شديدة لم تتسلخ ؟ فقال سواء إذا ماتت فيه ، فأما الدهن فينش فيدهن به إن لم تقذره ، قلت : فالسمن أينش فيؤكل ؟ قال لا ، ليس ما يؤكل ، كهيئة شيء في الرأس يدهن به . قال أبو محمد : والزيت دهن بنص القرآن : قال تعالى : { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين } وقد رأى مالك غسل الزيت تقع فيه النجاسة ، ثم يؤكل . وقد روى ابن القاسم عن مالك في النقطة من الخمر تقع في الماء والطعام : أنه لا يفسد شيء من ذلك ، وأن ذلك الماء يشرب وذلك الطعام يؤكل . قال علي : ويقال للحنفيين : أنتم تخالفون بين أحكام النجاسات في الشدة والخفة بآرائكم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله ﷺ ولا من إجماع ولا قياس ، فبعضها عندكم لا ينجس الثوب والبدن والخف والنعل منه إلا مقدار أكبر من الدرهم البغلي وربما قل ، وبعضها لا ينجس هذه الأشياء إلا ما كان ربع الثوب ، ولا ندري ما قولكم في الجسد والنعل والخف والأرض ، وبعضها تفرقون بين حكمها في نفسها في الثوب والجسد وبين حكمها في نفسها في البئر ، فتقولون : إن قطرة خمر أو بول تنجس البئر ولا تنجس الثوب ولا الجسد حتى يكون ذلك أكثر من الدرهم البغلي ، فأخبرونا عن غدير إذا حرك طرفه الواحد لم يتحرك الآخر وقعت فيه نقطة بول كلب أو نقطة بول شاة أو حلمة ميتة أو فيل ميت متفسخ ، هل كل هذا سواء أم لا ؟ فإن ساووا بين ذلك كله نقضوا أصلهم في تغليظ بعض النجاسات دون بعض ، وتركوا قولهم إن بعرتين من بعر الإبل أو بعرتين من بعر الغنم لا تنجس البئر ، وإن فرقوا بين كل ذلك سألناهم تفصيل ذلك ليكون ذلك زيادة في السخرية والتخليط . قال علي : وقالوا لنا : ما قولكم في خمر أو دم أو بول وقع ذلك في الماء فلم يظهر لشيء من ذلك في الماء طعم ولا لون ولا ريح ، هل صار الخمر والبول والدم ماء ؟ أم بقي كل ذلك بحسبه ؟ فإن كان صار كل ذلك ماء فكيف هذا ؟ وإن كان بقي كل ذلك بحسبه فقد أبحتم الخمر والبول والدم ، وهذا عظيم وخلاف للإسلام ؟ قال أبو محمد : جوابنا وبالله تعالى التوفيق : إن العالم كله جوهرة واحدة تختلف أبعاضها بأعراضها وبصفاتها فقط . وبحسب اختلاف صفات كل جزء من العالم تختلف أسماء تلك الأجزاء التي عليها تقع أحكام الله عز وجل في الديانة . وعليها يقع التخاطب والتفاهم من جميع الناس بجميع اللغات ، فالعنب عنب وليس زبيبا ، والزبيب ليس عنبا ، وعصير العنب ليس عنبا ولا خمرا ، والخمر ليس عصيرا ، والخل ليس خمرا ، وأحكام كل ذلك في الديانة تختلف والعين الحاملة واحدة ، وكل ذلك له صفات ، منها يقوم حده ، فما دامت تلك الصفات في تلك العين فهي ماء وله حكم الماء . فإذا زالت تلك الصفات عن تلك العين لم تكن ماء ولم يكن لها حكم الماء وكذلك الدم والخمر والبول وكل ما في العالم لكل نوع منه صفات ما دامت فيه فهو خمر له حكم الخمر ، أو دم له حكم الدم ، أو بول له حكم البول أو غير ذلك ، فإذا زالت عنه لم تكن تلك العين خمرا ولا ماء ولا دما ولا بولا ولا الشيء الذي كان ذلك الاسم واقعا من أجل تلك الصفات عليه ، فإذا سقط ما ذكرتم من الخمر أو البول أو الدم في الماء أو في الخل أو في اللبن أو في غير ذلك ، فإن بطلت الصفات التي من أجلها سمي الدم دما والخمر خمرا والبول بولا ، وبقيت صفات الشيء الذي وقع فيه ما ذكرنا بحسبها ، فليس ذلك الجرم الواقع يعد خمرا ولا دما ولا بولا ، بل هو ماء على الحقيقة أو لبن على الحقيقة ، وهكذا في كل شيء . فإن غلب الواقع مما ذكرنا وبقيت صفاته بحسبها وبطلت صفات الماء أو اللبن أو الخل ، فليس هو ماء بعد ولا خلا ولا لبنا ، بل هو بول على الحقيقة أو خمر على الحقيقة أو دم على الحقيقة ، فإن بقيت صفات الواقع ولم تبطل صفات ما وقع فهو فيه ماء وخمر ، أو ماء وبول ، أو ماء ودم ، أو لبن وبول ، أو دم وخل ، وهكذا في كل شيء . ولم يحرم علينا استعمال الحلال من ذلك لو أمكننا تخليصه من الحرام ، لكنا لا نقدر على استعماله إلا باستعمال الحرام فعجزنا عنه فقط ، وإلا فهو طاهر مطهر حلال بحسبه كما كان . وهكذا كل شيء في العالم فالدم يستحيل لحما ، فهو حينئذ لحم وليس دما ، والعين واحدة ، واللحم يستحيل شحما فليس لحما بعد بل هو شحم والعين واحدة . والزبل والبراز والبول والماء والتراب يستحيل كل ذلك في النخلة ورقا ورطبا ، فليس شيء من ذلك حينئذ زبلا ولا ترابا ولا ماء ، بل هو رطب حلال طيب ، والعين واحدة ، وهكذا في سائر النبات كله ، والماء يستحيل هواء متصعدا وملحا جامدا ، فليس هو ماء بل ولا يجوز الوضوء به والعين واحدة ، ثم يعود ذلك الهواء وذلك الملح ماء . فليس حينئذ هواء ولا ملحا ، بل هو ماء حلال يجوز الوضوء به والغسل فإن أنكرتم هذا وقلتم : إنه وإن ذهبت صفاته فهو الذي كان نفسه لزمكم ولا بد إباحة الوضوء بالبول ، لأنه ماء مستحيل ، بلا شك ، وبالعرق ، لأنه ماء مستحيل . ولزمكم تحريم الثمار المغذاة بالزبل وبالعذرة ، وتحريم لحوم الدجاج ، لأنها مستحيلة عن المحرمات . فإن قالوا : فنحن نجد الدم يلقى في الماء أو الخمر أو البول فلا يظهر له لون ولا ريح ولا طعم فيواتر طرحه فتظهر صفاته فيه . فهلا صار الثاني ماء كما صار الأول ؟ قلنا لهم : هذا السؤال لسنا نحن المسئولين به لكن جريتم فيه على عادتكم الذميمة في التعقب على الله تعالى والاستدراك عليه في أحكامه تعالى وأفعاله ، وإياه تعالى تسألون عن هذا لا نحن ، لأنه هو الذي أحل الأول ولم يحل الثاني كما شاء لا نحن وجوابه عز وجل لكم على هذا السؤال يأتيكم يوم القيامة بما تطول عليه ندامة السائل ؛ لأن الله تعالى حرم هذا السؤال إذ يقول تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } ثم نحن نجيبكم قائمين لله تعالى كما افترض عز وجل علينا إذ يقول : { كونوا قوامين لله } فنقول لكم : هذا خلق الله تعالى ما خلق كله من ذلك كله كما شاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل . ونحن نجد الماء يصعده الهواء بالتجفيف فيصير الماء هواء مصعدا وليس ماء أصلا . حتى إذا كثر الماء المستحيل هواء في الجو عاد ماء كما كان وأنزله الله تعالى من السحاب ماء . وهذا نفس ما احتججتم به علينا من أن الدم يخفى في الماء والفضة تخفى في النحاس . فإذا توبع بهما ظهرا . ولا فرق بين هذا السؤال الأحمق وبين من سأل : لم خلق الله الماء يتوضأ به ولم يجعل ماء الورد يتوضأ به ؟ ولم جعل الصلاة إلى الكعبة والحج ولم يجعلهما إلى كسكر أو إلى الفرما أو الطور ؟ ولم جعل المغرب ثلاثا والصبح ركعتين بكل حال . والظهر في الحضر أربعا ؟ ولم جعل الحمار طويل الأذنين والجمل صغيرهما والفأر طويل الذنب والثعلب كذلك والمعزى قصيرة الذنب والأرنب كذلك ؟ ولم صار الإنسان يحدث من أسفل ريحا فيلزمه غسل وجهه وذراعيه ومسح رأسه وغسل رجليه ، ولا يغسل مخرج تلك الريح ؟ وهذا كله ليس من سؤال العقلاء المسلمين ، ولا يشبه اعتراضات العلماء المؤمنين ، بل هو سؤال نوكى الملحدين وحمقى الدهريين المتحيرين الجهال . وإذا أحلناكم وسائر خصومنا على العيان ومشاهدة الحواس في انتقال الأسماء بانتقال الصفات التي فيها تقوم الحدود ، ثم أريناكم بطلان الصفات التي لا تجب تلك الأسماء - عندكم وعندنا وعند كل من على أديم الأرض قديما وحديثا - على تلك الأعيان إلا بوجودها ، ثم أحلناكم على البراهين الضرورية العقلية على أن الله تعالى خالق كل ذلك على ما هو عليه كما شاء ، فاعتراضكم كله هوس وباطل يؤدي إلى الإلحاد . فقالوا : فما تقولون في فضة خالطها نحاس فلم يظهر له فيها أثر ولا غيرها ، أتزكى بوزنها وتباع بوزنها فضة محضة أم لا ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : القول في هذا كالقول في الماء سواء سواء ولا فرق ، إن بقيت صفات الفضة بحسبها ولم يظهر للنحاس فيها أثر ، فإنها تزكى بوزنها وتباع بوزنها من الفضة ، لا بأقل ولا بأكثر ولا نسيئة ، وإن غلبت صفات النحاس حتى لا يبقى للفضة أثر ، فهو كله نحاس محض لا زكاة فيه أصلا سواء كثرت تلك الفضة التي استحالت فيه أو لم تكثر ، وجائز بيعه بالفضة نقدا ونسيئة بأقل مما خالطه من الفضة وبمثل ذلك وبأكثر ، وإن ظهرت صفات النحاس وصفات الفضة معا فهو نحاس وفضة ، تجب الزكاة فيما فيه من الفضة ، خاصة إن بلغت خمس أواق وإلا فلا ، كما لو انفردت ، ولا يحل بيع تلك الجملة بفضة محضة أصلا لا بمقدار ما فيها من الفضة ولا بأقل ولا بأكثر ، لا نقدا ولا نسيئة ، لأننا لا نقدر فيها على المماثلة بالوزن ، وتباع تلك الجملة بالذهب نقدا لا نسيئة . فسألوا عن قدر طبخت بالخمر أو طرح فيها بول أو دم أو عذرة ولم يظهر من ذلك كله هنالك أثر أصلا ، فقلنا : من طرح في القدر شيئا من ذلك عمدا فهو فاسق عاص لله عز وجل ، لأنه استعمل الحرام المفترض اجتنابه ، وأما إذا بطل كل ذلك فما في القدر حلال أكله ، لأنه ليس فيه شيء من المحرمات أصلا ، وقد أبطل الله تعالى تلك المحرمات وأحالها إلى الحلال . ثم نقلب عليهم هذا السؤال في دن خل رمي فيه خمر فلم يظهر للخمر أثر ، فقولهم إن ذلك الذي في الدن كله حلال فهذا تناقض منهم وقول منهم بالذي شنعوا به فلزمهم التشنيع ، لأنهم عظموه ورأوه حجة ، ولم يلزمنا ، لأننا لم نعظمه ولا رأيناه حجة . ولله الحمد . قال علي : وأما متأخروهم فإنهم لما رأوا أنهم لا يقدرون على ضبط هذا المذهب لفساده وسخافته فروا إلى أن قالوا : إننا لا نفرق بين غدير كبير ولا بحر ولا غير ذلك ، لكن الحكم لغلبة الظن والرأي في الماء الذي يتوضأ منه ويغتسل منه ، فإن تيقنا أو غلب في ظنوننا أن النجاسة خالطته حرم استعماله ولو أنه ماء البحر ، وإن لم نتيقن ولا غلب في ظنوننا أن خالطته نجاسة توضأنا به . قال علي : وهذا المذهب أشد فسادا من الذي رغبوا عنه لوجوه أولها : أنهم مقرون بأنه حكم بالظن ، وهذا لا يحل ؛ لأن الله تعالى يقول : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } وقال رسول الله ﷺ : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } . ولا أسوأ حالا ممن يحكم في دين الله تعالى الذي هو الحق المحض بالظن الذي هو مقر بأنه لا يحققه . والثاني : أن يقال لهم : كما تظنون أن النجاسة لم تخالطه فظنوا أنها خالطته فاجتنبوه ، لأن الحكم بالظن أصل من أصولكم ، فما الذي جعل إحدى جنبتي الظن أولى من الأخرى ؟ والثالث : أن قولكم هذا تحكم منكم بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل . والرابع : أن نقول لهم : عرفونا ما معنى هذه المخالطة من النجاسة للماء ؟ فلسنا نفهمها ولا أنتم ولا أحد في العالم ولله الحمد ، فإن كنتم تريدون أن كل جزء من أجزاء الماء قد جاور جزءا من أجزاء النجاسة فهذه مجاورة لا مخالطة ، وهذا لا يمكن ألبتة إلا بأن يكون مقدار النجاسة كمقدار الماء سواء سواء وإلا فقد فضلت أجزاء من الماء لم يجاورها شيء من النجاسة . فإن قالوا : فقد تنجس كل ذلك وإن كان لم يجاوره من النجاسة شيء ، قلنا لهم : هذا لازم لكم في البحر بنقطة بول تقع فيه ولا فرق ، فإن أبوا من هذا قلنا لهم : فعرفونا بالمقدار من النجاسة الذي إذا جاوز مقدارا محدودا أيضا من الماء ولا بد نجسه ، فإن أقدموا على تحديد ذلك زادوا في الضلال والهوس ، وإن لم يقدموا على ذلك تركوا قولهم ، كالميتة فسادا ومجهولا لا يحل القول به في الدين .

وأيضا فإن كان الحكم عندكم لغالب الظن فإنه يلزمكم أن تقولوا في قدح فيه أوقيتان من ماء فوقعت فيه مقدار الصآبة من بول كلب ، إنه لم ينجس من الماء إلا مقدار ما يمكن أن تخالطه تلك النجاسة ، وليس ذلك إلا لمقدارها من الماء فقط ويبقى سائر ماء القدح طاهرا حلالا شربه والوضوء به . وهكذا في جب فيه كر ماء وقعت فيه أوقية بول ، فإنه على أصلكم لا ينجس إلا مقدار ما مازجته تلك الأوقية ، وبقي سائر ذلك طاهرا مطهرا حلالا ، نحن موقنون وأنتم أنها لم تمازج عشر الكر ولا عشر عشره ، فإن التزمتم هذا فارقتم جميع مذاهبكم القديمة والحديثة التي هي أفكار سوء مفسدة للدماغ ، فإن رجعتم إلى أن ما قرب من النجاسة ينجس ، لزمكم ذلك كما قد ألزمناكم في النيل والجيحون ، وفي كل ماء جار ، لأنه يتصل بعضه ببعض فينجس جميعه لملاقاته الذي قد تنجس ولا بد - نعم - وفي البحر من نقطة بول تقع في كل ذلك ، فاختاروا ما شئتم فإن قالوا : لسنا على يقين من أن النهر الكبير أو البحر تنجس ، ولا من أن المتوضئ به توضأ بماء خالطته النجاسة منه . قلنا لهم : هذا نفسه موجود في الجب والبئر وفي القلة وفي قدح فيه عشرة أرطال ماء إذا لم يظهر أثر النجاسة في شيء من ذلك ولا فرق ، ولا يقين في أن كل ماء فيما ذكرنا تنجس ، ولا في أن المتوضئ من ذلك والشارب توضأ بنجس أو شرب نجسا ، ثم حتى لو كان كما ذكروا لما وجب أن يتنجس الماء الطاهر الحلال أو المائع لذلك لمجاورة النجس أو الحرام له ، ما لم يحمل صفات الحرام أو النجس . وبالله تعالى التوفيق . قال علي : رأيت بعض من تكلم في الفقه ويميل إلى النظر يقول : إن كل ماء وقعت فيه نجاسة فلم يظهر لها فيه أثر فسواء كان قليلا أو كثيرا ، الحكم واحد ، وهو أن من توضأ بذلك الماء كله أو شربه حاشا مقدار ما وقع فيه من النجاسة ، فوضوءه جائز وصلاته تامة وشربه حلال ، وكذلك غسله منه ، إذ ليس على يقين من أنه استعمل نجاسة ولا أنه شرب حراما ، فإن استوعب ذلك الماء كله فلا وضوء له ولا طهر وهو عاص في شربه ؛ لأننا على يقين من أنه استعمل نجاسة وشرب حراما قال : وهكذا القول في البحر فما دونه ولا فرق ، قال : فإن توضأ بذلك الماء اثنان فصاعدا فاستوعباه أو استوعبوه كله بالغسل أو الوضوء أو الشرب فكل واحد منهما أو منهم وضوءه جائز في الظاهر ، وكذلك غسله أو شربه ، إلا أن فيهما أو فيهم من لا وضوء له ولا غسل ، ولا أعرف بعينه ، فلا ألزم أحدا منهم إعادة وضوء ولا إعادة صلاة بالظن . قال علي : وقد ناظرت صاحب هذا القول رحمه الله في هذه المسألة ، وألزمته على أصل آخر له كان يذهب إليه ، أن يكون يأمر جميعهم بإعادة الوضوء والصلاة ، لأن كل واحد منهم ليس على يقين من الطهارة وشك في الحدث ، بل على أصلنا وأصل كل مسلم من أن كل واحد منهم على يقين من الحدث وعلى شك من الطهارة ، فالواجب عليه أن يأتي بيقين الطهارة ، وأريته أيضا بطلان القول الأول بما قدمنا من استحالة الأحكام باستحالة الأسماء ، وإن استحالة الأسماء باستحالة الصفات التي منها تقوم الحدود ، وقلت له : فرق بين ما أجزت من هذا وبين إناءين في أحدهما ماء وفي الآخر عصير بعض الشجر ، وبين بضعتي لحم إحداهما من خنزير والثانية من كبش ، وبين شاتين إحداهما مذكاة والأخرى عقيرة سبع ميتة ، ولا يقدر على الفرق بين شيء من ذلك أصلا . قال علي : وممن روى عنه هذا القول بمثل قولنا - إن الماء لا ينجسه شيء - عائشة أم المؤمنين وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس والحسين بن علي بن أبي طالب وميمونة أم المؤمنين وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عن جميعهم ، والأسود بن يزيد وعبد الرحمن أخوه ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن جبير ومجاهد وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، والحسن البصري وعكرمة وجابر بن زيد وعثمان البتي وغيرهم ، فإن كان التقليد جائزا ، فتقليد من ذكرنا من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أولى من تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي .