|
تحرير |
ثورة رشيد عالي الكيلاني أو ثورة مايس هي سلسلة الاحداث الدستورية التي تصاعدت بسبب تضارب مدارس الحكم الملكي في العراق وتياراته مابين التيار الوطني الثوري التحرري و التيار الليبرالي الميال لموالاة بريطانيا في وقت كان العراق فيه يمثل زعامة ومدرسة سياسية يعتد بها في المنطقة العربية. وقد غيرت ثورة رشيد عالي الكيلاني مسار تاريخ العراق حيث أشاعت روح الوطنية العراقية وروح الوحدة مع الدول العربية الشقيقة للعراق، ورسخت مفهوم إنهاء التبعية البريطانية التي كان يعبر عنها بإنها نوع من التعاون والتحالف الاستراتيجي. أما تدخل بريطانيا في اللحظة الأخيرة للنيل من الإنتصار الساحق الذي حققه التيار الوطني والتحرري بقيادة رشيد باشا الكيلاني وضباط المربع الذهبي بمؤازرة رئيس الأركان العامة الفريق حسين فوزي، فقد أدى إلى إحتلال بريطانيا لبعض أجزاء من العراق لنصرة حلفائها الأمر الذي أدى إلى هيمنة المدرسة اللبرالية لمدة سبعة عشر عاما، ولّدت خلالها تأزم الوضع الداخلي وتفاقم المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مما أججت مشاعر المعارضة الشعبية للحكم الملكي ورموزه حيث نجم عنها حركة يوليو 1958 بقيادة تنظيم الضباط الوطنيين. وكان من تداعياتها أن إنطلق صداها إلى الدول العربية حكوماتا وجيوشا ومنظمات وجماهير ، حيث أصبحت نبراسا أقتدى به التحرريون من تسلط وهيمنة القوى الاستعمارية الكبرى. وحيث كانت الدافع للضباط الأحرار في مصر للقيام بحركة 23 يوليو \ تموز 1952م، وكذلك في اليمن الذي ثار في 1948م، وكذلك في سوريا ودفعا إضافيا لثوار الجزائر وتونس ، وكما كانت المحرك لتأسيس الكثير من الأحزاب والتنظيمات الثورية التي راجت في تلك الحقبة.
وأثرت على الشارع العراقي توجهات الملك غازي الأول 1933 – 1939 الوطنية ومن ثم وزارة رشيد عالي الكيلاني باشا 1941 المناهضة للمد البريطاني ، الذي أصيب بإحباط كبير عند دخول الجيش البريطاني وإسقاط الحكومة بغية تنفيذ استراتيجيات الحرب العالمية الثانية في العراق والمنطقة .
بعد قيام الحرب العالمية الثانية طلبت بريطانيا من العراق قطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا وإعتقال الجالية والدبلوماسيون الألمان المتواجدون على الأراضي العراقية، وتقديم المساعدات الضرورية التي تحتاجها بريطانيا وفقا لبنود معاهدة 1930. سارع نوري السعيد باشا رئيس الوزراء إلى تنفيذ تلك المطالب وأكد دعم حكومته الكامل لبريطانيا، بل أكثر من ذلك وضع العراق في حالة حرب في الوقت الذي لم تكن العمليات العسكرية تتصاعد سوى في بولندا في قلب أوروبا، حيث فرض حظر التجول ! واصدر قانون الحصة التموينية الحربية، وصادر بعض الممتلكات العائدة لدول المحور وفرض نظام الرقابة على الصحف والأحزاب والجمعيات وغيرها. بعبارة أخرى فرض نظام الطواريء والأحكام العرفية وعزز من سلطاته دون مبرر يذكر في تلك الآونة. فاصبح موقف نوري باشا هذا غريبا بعض الشيء، لابل منحازا في الوقت الذي فيه كان العراق أحوج مايكون إلى فترة بناء وإعمار البنية التحتية ودمل جراح أفراد المجتمع الذين أرهقتهم الحرب العالمية الاولى وتداعياتها كالأحتلال البريطاني وثورة العشرين والانتفاضات الأخرى، وأخذ ينظر إليه على انه سيسبب للعراق متاعب في غنى عنها ، كما فسر موقفه هذا على انه موقف انتهازي اراد ان يستثمر اندلاع الحرب ومبررات ودواعي الالتزام بمعاهدة 1930 مع بريطانيا ، لترتيب أوضاعه السياسية ضد خصومه لاسيما وانه كان في مستهل عمله السياسي كرئيس وزراء وله الكثير من المنافسين والخصوم والتيارات الفكرية المناوئة، والتي يتحتم عليه تسوية مواقفه معها الواحدة تلو الاخرى ليشق طريقه السياسي ويفرض مبادئه وبرنامج عمله وإستراتيجيته .
في المعسكر المقابل كان الفريق حسين فوزي رئيس الاركان العامة يقود التيارات المعارضة لسياسة نوري السعيد ،وتحالف مع الفريق فوزي عدد من قادة الجيش وبعض الاحزاب والشخصيات الوطنية بزعامة رشيد عالي الكيلاني باشا رئيس الديوان الملكي ، الذين تزعموا معارضةً برلمانيةً وسياسيةً مثلما كانت تقاوم وتنتقد في الشارع ايضا تلك التيارات الطامحة لفصل العراق عن التبعية لبريطانيا والتي رأت في سياسة الحكومة بزعامة نوري باشا خطرا على استقلال العراق وبقائه يدور في فلك بريطانيا وهيمنتها على العراق سياسيا واقتصاديا. وما لبث ان احتدم الصراع السياسي بين التيارين الذي ادى إلى استقالة نوري السعيد وتولي رشيد عالي رئاسة الوزراء بدلا عنه ، حيث صّعد نوري باشا الصراع ، وهو من موقع المعارضة شيئا فشيئا إلى مواجهة مسلحة بين التيارين مما ادى ببريطانيا للتدخل لمناصرة حلفائها في تيار نوري السعيد والوصي على العرش عبد الاله بعد دنو اجلهما وفشل تيارهما امام تيار رشيد باشا وحسين فوزي ثم هرب الوصي ونوري السعيد وباقي زعماء ذلك التيار إلى خارج العراق عندئذ ادركت بريطانيا بان العراق قد خرج عن دائرة طوعها واستراتيجياتها فتدخلت لاعادة الوصي ونوري باشا ، فشنت حربا لاسقاط حكومة رشيد باشا ادت إلى احتلال العراق. [1].
تمثلت قوى المعارضة ضد حكومة نوري السعيد من ضباط الجيش العراقي بزعامة الفريق حسين فوزي رئيس الأركان العامة والذي تؤيده كتلة المربع الذهبي، وهم مجموعة من الضباط يتزعمهم أربعة عقداء معروفين بشكيمتهم ووطنيتهم وعدم مهادنتهم لبريطانيا وهم ما يسمون بالعقداء الأربعة بزعامة صلاح الدين الصباغ وكل من فهمي سعيد وكامل شبيب ومحمود سليمان ويونس السبعاوي. وكان يعرف الجيش العراقي بإنه منظمة وطنية عقائدية نشأت في أروقة الجمعيات السرية أيام الحكم العثماني والتي كانت تنادي بأستقلال العراق وباقي الولايات العربية عن الدولة العثمانية وإنشاء دولة عربية واحدة بزعامة الشريف حسين الهاشمي قائد الثورة العربية. وكما عرف الجيش العراقي الأكثر تنظيما وتدريبا عدة وعددا ويشمل رتبا رفيعة من جنرالات وكولونيلات متمرسون، أنشقوا عن الفيالق العربية من الجيش العثماني وأشتركوا في حرب ضروس ضد العثمانيون مع الشريف حسين ولاحقا ضد الانجليز أبان الأحتلال البريطاني وثورة العشرين. [2]
تكتّل حول نوري سعيد مجموعة من قادة الضباط المساندون له لاسباب مختلفة منها شخصية دعو بجموعة السبعة ، والتي لم ترى ضيرا من تلك الاجراءات التي تبناها رئيس الوزراء نوري باشا. لابل أكثر من ذلك كانت تحبذ ازدياد نفوذ وسطوة نوري باشا ضد معارضيه لانها تنتمي إلى تيار نوري السعيد وتطمع لتقوية شوكته. اما نوري السعيد من جانبه فكان يبرر اما خصومه وعارضيه بانه يخلق نوع من التوازن بين نزعته القومية الوحدوية ووطنيته وبين ممالاة الانجليز.
تعاظمت الصيحات المعارضة لنوري السعيد جراء سياسته هذه وازداد عدد معارضوه في الحكومة والبرلمان وفي الاحزاب المعارضة وحتى الموالية وازداد سخط الشارع عليه الناقم على الانجليز . ومن أهم لاسباب التي أججت الرأي العام في تلك الفترة هي :
1. كانت الاجواء السائدة في العراق تميل للاستقرار وبناء لحمة المجتمع والنهوض بالبلد نحو العمران ، بعد انتهاء الانتداب ومنح عصبة الامم العراق الاستقلال عام 1932.
2. اثرت تداعيات انقلاب بكر صدقي على الرأي العام ، الذي أيده الملك غازي من طرف خفي والذي حدث جراء الإحتقان السياسي الذي تسببت به سياسة حكمت سليمان التعسفية ضد القبائل والشخصيات والأحزاب الوطنية، وما تلا ذلك من أحداث كإغتيال جعفر العسكري وزير الدفاع ورئيس الوزراء الأسبق تلك الشخصية السياسية المعروفة والمحسوبة على تكتل نوري السعيد ، كون الأخير صهره. ثم فشل الأنقلاب وإغتيال بكر صدقي في الموصل وهو في طريقه مسافرا إلى تركيا.
3. تفاعل الشارع السياسي مع الملك غازي والمجموعات المدنية والعسكرية الملتفة حوله من احزاب وضباط وشخصيات وطنية من أمثال رشيد عالي الكيلاني باشا وصلاح الدين الصباغ ، جراء تطلعاتها الوطنية والقومية وسياسته في اعمار العراق وبناءه وتعميق استقلاله بالابتعاد عن المعاهدات التي رأى فيها تكبيل العراق بعجلة المصالح البريطانية . منها اتخاذه لبعض الاجراءات الهامة كالتجنيد الالزامي ودعم الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني والهجرات الإسرائيلية إلى فلسطين ودعم استكمال تحرير سوريا ولبنان من الاحتلال الفرنسي ، العمل على اخراج الحامية البريطانية من الكويت والدعوة إلى وحدتها مع العراق، وايضا ميله إلى ألمانيا في مستهل الحرب العالمية الثانية ووقوفه علنا ضد بريطانيا ودول الحلفاء عام 1939 وهو تاريخ وفاته الغامض والذي راى فيه الشعب اغتيال مدبرتسبب في هياج متعاظم ضد بريطانيا في العراق.
4. محاولات بريطانيا الهيمنة على العراق وسياسته من خلال عقد المعاهدات كمعاهدة 1930م ، والعمل على إستغلال نفط العراق بأبخس الأثمان. كذلك من خلال الإبقاء على قطعات كبيرة من الجيش البريطاني في قواعد العراق كالحبانية في الفلوجة ، والشعيبة في البصرة. [3]
5. اغتيال وزير المالية رستم حيدر في يناير / كانون أول عام 1940 وهو من حلفاء نوري السعيد على يد موظف ولاسباب قبلية ، استثمرها نوري السعيد للايقاع بخصومه من خلال اتخاذه لاجراءات قاسية ضدهم .
بدات التوتر يشوب طرفي المعادلة السياسية المعارضون والموالون او التيار الوطني التحرري الذي يتزعمه رشيد عالي الكيلاني باشا ضد التيار الليبرالي الذي يتزعمه نوري السعيد . وفي المقابل حاول معارضو نوري السعيد حشد قادة الجيش والراي العام ضده بغية اقصائه عن الحكم من جراء سياساته الموالية لبريطانيا والتعسفية بحقهم.
تطورت الاحداث بشكل مضطرد ينبيء بحدوث شرخ كبير في الجيش والبرلمان والاحزاب السياسية ، مما انعكس ذلك على الشارع الناقم اساسا على الحكومة الموالية لبريطانيا. واخذ التصدع يتوسع ليشمل مجموعة السبعة من كبار القادة العسكريين المشاركين في الحكم لاسيما رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الفريق حسين فوزي ، وكذلك مجموعة المربع الذهبي ، مما ادى إلى نذر ازمة ثقة وزارية ترتب عليها ازمة دستورية سميت بازمةفبراير / شباط 1940 [4]
بعد تفاقم الازمة الدستورية ، لم يكن امام الحكومة سوى استقالة رئيس الوزراء نوري السعيد المسبب الاول بخلق الازمة وتفاقمها. الا انه حشد مؤيديه مدنيين وعسكريين وبالاتفاق سراً مع حليفه الوصي الامير عبد الاله الهاشمي ، في محاولة لاظهار نفسه على انه قائد جماهيري يتمتع بتاييد شعبي ، حيث طالب مؤيدوه ضرورة اعادة الوصي الالمير عبد الاله لتكليفه بتشكيل الوزارة الجديدة . تزايدت نقمة الشارع وامتعاض التيارات المناوئة لنوري السعيد من احزاب وقادة عسكريين من الذين يتمتعون بتاييد جماهيري حاشد ، وادى ذلك بالوصي إلى التردد بتكليف نور السعيد بتشكيل الحكومة الجديدة تحسبا لما قد يجر عليه من ازدياد النقمة التي قد تتحول إلى انتفاضة او انقلاب.
فسر انصار نوري السعيد التاخر بتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة بشكل خاطيء ،ادت إلى حالة من الاحتقان التي اسهمت في رفع درجة الغليان ، الامر الذي ادى إلى تسارع الامور بما لاتحمد عقباه ، حيث حشد مناصرو نوري باشا قواتهم العسكرية في معسكر الرشيد في الرصافة ، عاقدين العزم على احتلال العاصمة بغداد والسيطرة عليها وفرض سياسة الامر الواقع ، في المعسكر المقابل، اصدر رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الفريق حسين فوزي اوامره بوضع قواته في معسكر الوشاش في الكرخ في اهبة الاستعداد حفاظا على امن العاصمة ، وبدا المشهد مهيئاً للانفجار والمواجهة العسكرية ، بين الاطراف المتصارعة.
حزم الوصي امره بعد ان درس اين يكمن توازن القوى فالقوى الوطنية والتحررية المناوئة لنوري السعيد تملك التاييد الجماهيري الساحق بالمقابل القوى الليبرالية بزعامة نوري السعيد تملك الدعم البريطاني الذي لامناص منه حسب راي الامير عبد الاله. بناء على ذلك قرر الوقوف إلى جانب نوري السعيد المتحالف اصلا معه (5)، وتكليفه بتشكيل الوزارة حيث شكل نوري الوزارة الجديدة وانتقم من خصومه باقالة رئيس الاركان العامة للقوات المسلحة الفريق حسين فوزي والقادة العسكريين المناصرين له.
ادت تلك الاجراءات إلى تفاقم نقمة الجماهير والتيارات والوطنية والقومية والتحررية التواقة للخروج من ربقة الهيمنة البريطانية التي اخذت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلد منها تعيين الموظفين وهيمنة المستشارين على الوزارات والهيمنة الاقتصادية على السوق والعملة والنفط علاوة على السياسة العامة الداخلية والخارجية. واضحى الوضع قابل للانفجار في اي لحظة ، مما ادى إلى عزل الحكومة والتشكيك بوطنيتها.
حاول الوصي اتباع سياسة ترقيعية ، فبدلا عن ارضاء الجماهير الغاضبة ، عمد إلى اجتماع ضم كبار السياسيين في مارس / اذار 1940 الهدف منه تحجيم دور الجيش في القضايا السياسية والوطنية ، واصدار القرارات التي تحرم تلك الانشطة وجعله جيشا مهنيا فحسب. وكان المقصود بذلك مجموعة السبعة ومجموعة المربع الذهبي.
ولم يتمكن الوصي من اتخاذ اجراءات حاسمة للحد من نشاطات الجيش العراقي السياسية والوطنية بسبب تعاظم سيطرة الضباط الكبار في العملية السياسية والحكم. علاوة على نقمة الشارع وانهيار سمعة الوصي ونوري السعيد والحكومة. الامر الذي ادى إلى ممارسة القوى الوطنية من سياسيين وعسكريين ضغوطات كبيرة على الحكومة والوصي مما ادى به إلى محاولة ارضائهم باقالة وزارة نوري السعيد الضعيفة والمعزولة والتي تفتتت بسبب تقديم استقالات الشخوص البارزين فيها.
في نهاية المطاف بدأ الوصي بالتفكير لارضاء الجماهير الغاضبة والقوى الوطنية من احزاب وكتل سياسية وعسكرية ، بالبحث عن شخص ترضى به كل الاطرف فتوجه إلى رئيس الديوان الملكي حيث حاول اقناع رشيد عالي الكيلاني باشا بتكليفه بتشكيل الوزارة حيث يتميز الكيلاني بقبوله من جميع الاطراف كونه من الشخصيات البارزة في المجتمع والمعروف بمهابته وسمعة الجيدة وسياسته المتوازنة علاوة على ثقافته الواسعة وهدوئه وحنكته السياسية . كان الكيلاني يلقى تاييدا شعبيا كاسحا على خلاف نوري السعيد ، ومرد ذلك كون الكيلاني كان ينتمي لنفس المدرسة الوطنية للملك غازي فقد ارتبط بالملك بعلاقات خاصة وعامة اثرت كثيرا على مواقفهما معا كما سبق وان عملا سويةً في أكثر من مناسبة ، فكان الكيلاني رئيسا لديوان غازي وكاتم اسراره ، وعند مصرع الملك في ضروف غامضة دارت الشكوك والوساوس حول مقتله التي كان الشارع والساسة يعتقدون بان وراءه السفارة البريطانية والوصي ونوري السعيد بسبب مواقفه ضد بريطانية من جهة ، وبسبب تناقض حيثيات حادث مصرعه من جهة اخرى ، وكان لمصرع الملك الاثر الكبير على سياسة الكيلاني ومواقفه التي اراد منها التعبير عن وفائه واخلاصه للملك من خلال التشبث بسياسته وافكاره.
قام رشيد عالي باشا باتخاذ إجراءات مهمة لإحتواء الوضع وامتصاص النقمة والاحتقان السياسي ، منها تشكيل ما سمي بالائتلاف الوطني الذي ضم كل من نوري السعيد باشا بمنصب وزير الخارجية ، وعدد من كبار الزعامات السياسية والعسكرية من كلا التيارين المتصارعين [5] . ومنها ايضا عدم تنفيذ كل اجراءات الحرب التي اصدرها نوري السعيد ، بل اكتفي بتطبيق ما ورد من بنود في معاهدة 1930 لعدم فسح المجال للظهور امام بريطانيا بمظهر الناكل لتنفيذ المعاهدة .
بعد ان نجح رشيد عالي باشا بتطبيق سياسة التوافق بين جميع الاطراف المتصارعة وضمها جميعا في حكومة الائتلاف الوطني ، ادرك مايترتب عليه من اجراءات للحفاظ على لعبة الموازنات المتشابكة المحلية والدولية بين التيارات المتصارعة التي تطمح لفرض ارائها ومبادئها السياسية في ممالاة الحلفاء في حربهم ضد المحور من جهة وفي المطالبة الملحة للتيارات المقابلة الطامحة لاستكمال استقلال العراق الذي بدا في عام 1932 ، من جهة اخرى . فكان لزاما على رشيد عالي ان يعيد التوازن في المشهد العراقي والذي فقد بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية وما ترتب عليها من اجراءات اتخذها نوري السعيد والتي خلفت الاحتقان السياسي جراء محاولاته اقصاء التيارات المعارضة لسياساته.
ومع تطور العمليات العسكرية في أوروبا والهزائم التي مني بها الحلفاء عامي 1940 و 1941 واحتلال ألمانيا لفرنسا ودخول إيطاليا الحرب مع ألمانيا ، تعالت الصيحات المطالبة بانهاء الوجود البريطاني في العراق والغاء معاهدة 1930 ، لابل أكثر من ذلك توالت الضغوط السياسية على حكومة الكيلاني المنادية بضرورة التحالف الاستراتيجي مع دول المحور لتحقيق تلك المطالب. الا ان الكيلاني من جهته كان مدركا لخطورة القوات البريطانية التي لايستهان بها في العراق على الرغم من الهزائم التي منوا بها في جبهات أوروبا. فكان لزاما عليه " اتباع سياسة عدم انحياز مدروسة والتي دعا لها "(انظر المراجع ..تقارير السفارة البريطانية..ملفات البلاط) ، في الوقت الذي وجد نفسه محاطا بمؤيدين متطوعين من المتعاطفين مع ألمحور اهمهم مجموعة المربع الذهبي والتي كانت تحوز على تعاطف القوات المسلحة، من قادة وامرين وقطعات مختلفة [6] . فوجد رئيس الوزراء نفسه محرجا من مبادلة الضباط الوطنين مشاعرهم وتنفيذ مطالب وطنية وهو شخصيا امن بها وبين واجبه السياسي في تنفيذ التزامات العراق المحلية مع الشركات البريطانية كشركات النفط والدولية في مساندة دول الحلفاء في حربهم ضد دول المحور من خلال معاهدة 1930 وغيرها . وشيئا فشيئا تعاظمت مطالب القوى الوطنية التي رأت في الكيلاني الملاذ لتخليصها من الهيمنة البريطانية فدفعته لاتخاذ مواقف أكثر حزما بالوقوف ضد المطالب البريطانية التي حددتها المعاهدة في اوقات الحرب.
أما بريطانيا فكانت قد دقت ناقوس الخطر من فقدان زمام هيمنتها على العراق وبالتالي فقدانه إلى الابد وهذا يعني خسارتها للكثير من المصالح الاستراتيجية والنفطية وغيرها والتي بذلت جهودا مضنية على مدار مائتي عام تمهيداً للهيمنة عليه والتي حققت طموحاتها في عام 1918م، ولحد محاولة ضمه للتاج البريطاني أسوة بباقي دول الكومنولث.
وفي يوليو / تموز 1940م، عمدت بريطانيا لأحداث أزمة بينها وبين حكومة رشيد عالي الكيلاني الهدف منها جس النبض للتعرف على هوى الحكومة وخططها والتعرف على مواقفها من مجمل العلاقات مع بريطانيا. حيث طالبت الحكومة فتح القواعد العراقية وتسخير وسائل النقل الممكنة على نقل القوات البريطانية الآتية من الهند والخليج عبر الأراضي العراقية لدعم القوات في الجبهة الأوروبية، تنفيذا لبنود المعاهدة. وبعد جدل طويل في البرلمان وأوساط الرأي العام وتيارات الحكومة والتي أججها الشعراء والأعلاميون والفنانون السياسيون كأعمال عزيز علي ومعروف الرصافي وغيرهم والتي كانت تشيد برشيد عالي ووطنيته وتدعوه لأتخاذ مواقف راديكالة لمقاومة الهيمنة البريطانية، وفي الجانب الآخر كانت كتلة نوري السعيد في الائتلاف الحكومي تضغط للمطالبة بتنفيذ كل المطالب البريطانية لا بل اعلان الحرب على دول المحور. الأمر الذي جعل الحكومة تشق طريقها بصعوبة بالغة من أجل مسك العصا من الوسط بغية تحقيق التوازن المحلي والدولي، وأخيرا قررت الحكومة تبني مواقف عقلانية متوازنة من خلال الموافقة على تنفيذ البنود الخاصة فقط بمرور القوات البريطانية دون دخول العراق طرفا في الحرب.
لقد تركت هذه التجربة الأنطباع لدى الانجليز بان رشيد عالي باشا من المعارضين لسياستها ولايمكن الوثوق به لتحقيق طموحاتها، ولم تظللها محاولاته في أرضاء القوى الموالية لها بزعامة نوري باشا. الذي أستمر بممارسة ضغوطاته التي كان الهدف منها جر العراق وأدخاله مع الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، فبصفته وزيرا للخارجة قدم طلبا صعقت به الحكومة والراي العام والقوى الوطنية، وذلك بالدعوة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيطاليا، وقد رفضت الحكومة الطلب مما عزز الاعتقاد بان رشيد عالي باشا بدا يتمحور مع القوى الوطنية ضد القوى الليبرالية. وبعبارة اخرى أصبح أكثر ميلا للوقوف ضد الهيمنة البريطانية في العراق بعد توالي الضربات الموجعة التي تلقتها بريطانيا على يد ألمانيا خصوصا الغارات المدمرة على العاصمة لندن تمهيدا لخطة زعيم ألمانيا هتلر المعلنة بإحتلال بريطانيا.
وأصبحت القوات البريطانية المتواجدة في القواعد العراقية مهزوزة أمام الجيش والشعب العراقي الذي أخذ يتندر عليها تشفيا منها جراء الهزائم المنكرة التي ألحقها بها الألمان في عقر دارها الذي أخذ يوصمها " بالجبن وبفئران الملاجيء" نسبة لملاجيء لندن التي أخذ يعيش فيها الانكليز لفترات تجاوزت السنة والنصف، بما فيهم بعض الجنود في الوحدات العسكرية التي لاقت الأمرين من شدة وضراوة الطائرات الالمانية (مسر شمت) والتي عرفت بسرعتها وشدة قصفها والتي لم ينجو منها حتى مجلس النواب البريطاني الذي أصبح ركاما مع ما يقارب أكثر من ثلتي لندن التي سويت بالارض بضمنها الوزارات والمصالح الحكومية الاخرى حيث أصبحت الدولة معطلة أو شبه منهارة تتوقع غزو قوات النازي في أي لحظة.
وما كان أمام القوات البريطانية المتواجدة في العراق من مناص إلا ان تتدخل لحسم موقفها مع الحكومة الذي بدأ يمس مصالحها وسمعتها المتهاوية، فصعدت من سقف مطالبها بضرورة أستقالة حكومة رشيد عالي الكيلاني. ومن جهته أعتبر موقف الضباط البريطانيين غير مسوغ فهم ليسو جهة دبلوماسة لإبداء ارائهم كالسفارة البريطانية، علاوة على إن هذا الموقف يعد تدخلا في الشؤون الداخلية حتى ولو كان من قبل جهة دبلوماسية طالما تنفذ الحكومة ماعليها من التزامات تجاه تطبيق بنود المعاهدة مع بريطانيا [7]
وأصبح موقف رشيد عالي أكثر صرامة ضد الأنكليز بعد موقف ضباطهم هذا، وأصبح عدم تخليه عن رئاسة الوزراء مسالة مبدأ لا يساوم عليه، وإلا أصبح أستسلاما لارادة بريطانيا التي تواجه الهزيمة والهوان على يد هتلر الذي أستهان بها وبجيشها الذي تمرغ في وحل هزائمه في معارك بلجيكا وفرنسا ولندن. وبعد هذه الحادثة أصبح الكيلاني رمزا وطنيا ألتفت حوله القوى والتيارات الوطنية والتحررية والقومية وأعتبرته زعيما لها.
وكان من تداعيات ذلك إنحسار وتقوقع الوصي الأمير عبد الآله ونوري سعيد الذي لم يغير موقفه من بريطانيا رغم هزائمها وتأجج المشاعر الشعبية والوطنية ضدها مما أنعكس على موقف الشارع من نوري السعيد الذي بدأ ينظر إليه بعين الريبة لتمسكه بتحقيق المصالح البريطانية بل أكثر من ذلك أصبحت وطنية الوصي ونوري باشا على المحك.
وأمام هذا الشعور الوطني العارم ضد الانجليز ما كان من نوري السعيد إلا أن يختار أحد موقفين أما الإنتماء للتكتل الوطني ضد الانجليز واما أن يقدم أستقالته من وزارة الخارجية، معلنا ثباته على مواقفه. وقد أختار الأستقالة التي طالبته بها الجماهير والكتل الوطنية والنيابية المعارضة [8] .
تدخل الأمير عبد الآله لإنقاذ موقف الانجليز وضباطهم في القواعد العراقية من خلال دعم حليفه نوري السعيد، وذلك بقلب رأس المجن في خطوة غير مسبوقة بتنفيذ رغبة الضباط الانجليز، فأعلن في يناير / كانون الثاني 1941م، بإنه يجب على رشيد عالي الكيلاني الأستقالة هو ووزارته، مما اثار ذهول الرأي العام. وأصبحت الاصطفافات أكثر وضوحا من ذي قبل، فالتكتلات الأولى مابين ثورية وليبرالية وكانت تختلف على أسلوب تنفيذ المعاهدة وأولويات أعمار العراق، اما الآن وبسبب المواقف الحادة للوصي ونوري السعيد أصبحت الاصطفافات إما وطنية للعراق أو تخدم مصالح بريطانيا.
وأمام هذا الموقف العصيب والحساس وقف رشيد عالي باشا بهدوء أمام البرلمان معلنا بان لا صلاحية دستورية تخول الوصي بإقالة الوزارة. ورفض علنا الأستقالة معتمدا على دعم كتلة الوطنيين في الحكومة والبرلمان والأحزاب والمربع الذهبي في القوات المسلحة ضد الوصي ونوري باشا والانجليز ومن معهم من ضباط وكتل سياسية ضعيفة.
شعر الوصي بالإهانة أمام الشعب فأصر على أستقالة الكيلاني، ورفض الكيلاني الأستقالة مجددا، مما زاد من حرج الوصي، هنا تدخل الضابط القوي ذو السطوة في الجيش والكتل الوطنية زعيم مجموعة المربع الذهبي، العقيد صلاح الدين الصباغ، ملمحا بحسم الموقف عسكريا لصالح الكيلاني أذا الح الوصي على الأستقالة، فأضطر الوصي للأذعان على مضض لذلك التهديد المبطن. وأستقال نوري السعيد بدلا عن الكيلاني.
توجه نوري باشا لحشد المعارضين في البرلمان ضد الحكومة لحجب الثقة عنها من خلال مشاكستها برلمانيا بإعاقة طلباتها بالتصديق على القرارات والقوانين. فطلب رشيد عالي الكيلاني أيقاف هذه المهزلة بحل البرلمان وأنتخاب برلمان جديد يراعي فيه التطلعات الجديدة للرأي العام فطالب من الوصي رسميا حل البرلمان، مقدما مبرراته القانونية في إعاقة كتلة المعارضة لعمل البرلمان بمشاكسات لاتليق بعمل المجلس، إلا أن الوصي أخذ يماطل ثم ما لبث أن توارى عن الأنظار، حيث تبين لاحقا بأنه التجىء إلى إحدى الفرق العسكرية الموالية له في الديوانية خوفا من أنتقام المربع الذهبي بزعامة العقيد صلاح الدين الصباغ بالأطاحة به لعدم مؤازرته لرئيس الوزراء الكيلاني في حل البرلمان الذي سيسبب فقدان كتلة نوري السعيد أذا ما جرت انتخابات جديدة.
جراء هذا الوضع الحساس الذي تسبب به نوري السعيد والوصي على العرش مع من يؤازرهم من تكتل معارض للحكومة من موالين لبريطانيا، قرر رشيد عالي الكيلاني باشا تقديم أستقالته حقنا للدماء وتجنيب البلد المزيد من الفرقة والتوتر.
وخشي الوصي من تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة لأن ذلك سيؤجج مشاعر القوى الوطنية والقومية والتحررية فأوكل تشكيل الوزارة إلى الفريق طه الهاشمي، الذي يتمتع بعلاقات حسنة مع مجموعة المربع الذهبي، وحيث عرف طه الهاشمي بوطنيته ونزعته القومية وشعبيته بين أفراد الشعب والقوات المسلحة أضافة إلى إمتلاكه لسلسة من العلاقات المتشابكة التي ستعينه على النجاح في مهمته، وعلاوة على ثقافته الأكاديمية حيث كان متخصصا في الجغرافيا البشرية وعرف بتأليفه العديد من الكتب الرصينة، فعاد الوصي إلى بغداد بعد أن أطمأن على أنفراج الأوضاع لصالح كتلة نوري السعيد.
في مستهل عمله في الوزارة واجه الفريق طه الهاشمي قائمة طلبات الوصي عبد الاله المتمثلة بسحق المربع الذهبي ، وبعد ان كشف النقاب عن الخطة سارع رشيد عالي الكيلاني من موقع المعرضة اعتمادا على شعبيته المتعاظمة ، بالاتفاق مع الفريق امين زكي رئيس الاركان العامة بالوكالة مع اعضاء المربع الذهبي بالتحرك للاطاحة بالوصي والحكومة من خلال اجبارها على الاستقالة .
ففي فبراير/ نيسان 1941 بدات الثورة وأستمرت لغاية 2 مايس / ايار 1941 حيث احاطت قطعات عسكرية القصر الملكي واجبر طه الهاشمي على تقديم استقالته. وبعد بسط الجيش نفوذه على بغداد بتاييد جماهيري منقطع النظير ، هرب معارضو رشيد عالي الكيلاني إلى الأردن ليقودوا المعارضة من الخارج وهم ، نوري السعيد وجميل المدفعي وعلي جودت الايوبي. اما الوصي عبد الاله الذي نجح بالفرار إلى البصرة جراء السخط والاجواء الملتهبة حيث تحتم على بريطانيا تهريبه بالمدمرة "فالمون" إلى الأردن لتامين نجاته " وحسب الوثائق البرطانية".
اصبح العراق امام حالة فراغ دستوري بسبب استقالة الوزارة وهرب الوصي على العرش وعدد من الوزراء من كتلة نوري السعيد خارج البلد، اخذ الكيلاني زمام المبادرة فشكل حكومة مصغرة مؤقتة ريثما يعرض الموضوع على مجلس النواب اسماها حكومة الانقاذ الوطني ، لمعالجة القضايا الضرورية والطارئة حفاظا على وحدة البلاد وامنها بعد التصدع الذي لحق بها. اصدرت حكومة الانقاذ بيانا حملت الوصي على العرش مسؤولية الاوضاع المتفاقمة في البلد كما القت عليه باللائمة في اضعاف الجيش تسليحيا وعزله عن الاداء بمهامه الوطنية التي عرف بها منذ تاسيسه، وهذا ما ترتب عليه لاحقا من صعوبات واجهها في حربه في فلسطين عام 1948 على الرغم مما بذله من قتال في جبهات القتال. كما اتهم الوصي باحداث صدع في الوحدة الوطنية من اجل ممالاة البريطانيين ، وكذلك الاستهزاء بالقانون والدستور [9].
جراء بيان حكومة الانقاذ الوطني هذا الذي رفعت نسخة منه إلى البرلمان طلبت الحكومة اقالة الوصي عبد الاله جراء مواقفه هذه وهربه إلى الخارج من جهة اخرى ، وتم اقالة عبد الاله وتنصيب أحد اقارب الملك وهو الشريف شرف بدلا عنه والذي تم الموافقة عليه بالإجماع على الرغم من كون الاكثرية النيابية كانت من انصار الوصي عبد الاله ونوري السعيد وذلك لرصانته واحترامه من قبل الجميع.
وقع الشريف شرف مرسوما باقالة طه الهاشمي والسماح لرشيد عالي الكيلاني بتشكيل الوزارة الجديدةالتي غلبت عليها الشخصيات الوطنية المناهضة للهيمنة البريطانية ، ورغم ذلك حاول الكيلاني طمأنة بريطانيا بأنه لا يوجد اي اختلاف جوهري في سياسة العراق الخارجية ، وان العراق ملتزم بتعهداته مع بريطانيا بضمنها المعاهادة بالشكل الذي لايمس سيادة العراق واستقلاله.
بريطانيا من ناحيتها وبناءا عل التقارير الدورية التي كانت ترفعها السفارة كانت تنظر بعين الشك والريبة لوجود عناصر وطنية وثورية وقومية في الوزارة بزعامة الكيلاني باشا. فامتنعت بريطانيا من الاعتراف بالوزارة الجديدة ، وبدلا عن ذلك صعدت الموقف بادخال قوات عسكرية اضافية إلى العراق دون اذن مسبق ، مما دعا الحكومة لعقد اجتماع طاريء لمناقشة التطورات الجديدة جراء هذا الاعتداء العسكري على سيادة العراق ، حيث طالب اعضاء الحكومة بزعامة المربع الذهبي اتخاذ اجراءات عملية للحد من تدفق القوات البريطانية على العراق .
وكان هدف بريطانيا هو التدخل العسكري لاعادة الوصي ونوري السعيد، فقامت بعملية انزال لقواتها في البصرة مما دعا الحكومة لشجب هذا التصرف وامهال بريطانيا فترة من الزمن لسحب قواتها ، ثم تلا ذلك انزال اخر في الحبانية ، حيث واجهته القوات العراقية بمحاصرتها ضمن حدود القاعدة الجوية. تلا ذلك تصعيد اخر من قبل الحكومة بانذار القوات البريطانية من مغبة تحليق طائراتها التي ستواجه باسقاطها فورا. وبهاذا كانت قد اعلنت الحرب على بريطانيا من قبل قادة ثورة مايس / ايار 1941 . حيث اخذت دار الاذاعة العراقية من بغداد تبث البيانات العسكرية والتي تخللتها الاناشيد الوطنية التي ادعت للمناسبة والاخرى التي سبق وان اوعز الملك غازي بنظمها عند انشائه لمنظمة الفتوة والشباب ، والاذاعة الخاصه به ، ومنها اناشيد "موطني ولاحت رؤس الحراب تلمع بين الروابي ونحن الشباب لنا الغدو ، و يا تراب الوطن ومقام الجدود ها نحن جينا لما دعينا للخلود". اضافة إلى ماقدمه الشعراء والفنانون السياسيون مثل ملا عبود الكرخي والرصافي وعزيز على واخرون من قصائد حماسية واعمال فنية لاثارة مشاعر الشعب للوقوف بوجه العدوان البريطاني [10].
رأت بريطانيا بان تطويق القوات العسكرية العراقية لقطعاتها في قاعدة الحبانية بمثابة اعلان لحالة الحرب حيث اتخذت تلك القوات مواقع لها استراتيجية حول للقاعدة الجوية البريطانية ، والتي كانت هناك تحت مبرر المناورات العسكرية ، واعطت بريطانيا مبرر اخر هو خرق العراق لبنود معاهدة 1930 ، بعرقلة عمليات التدريب التي تقوم بها تلك القوات في الحبانية ، فشنت القوات البريطانية هجوما على موقع سن الذبان الاستراتيجي فحدثت مواجهات ضارية بين الطرفين، ثم صدرت الاوامر للقطعات العسكرية العراقية بالتجمع واعادة التنظيم في الفلوجة القربيبة لاتخاذ خط دفاعي لبغداد حيث انسحبت القوات العراقية من حول القاعدة لتلتقي مع بقية القطعات هناك في الثاني من مايس/ ايار 1941والتي اعلن الحرب فيها رسميا بين القوات العراقية والبريطانية . اما البريطانيون فاستمروا من جانبهم بحشد القوات الآتية من الهند اضافى إلى القوات المتواجدة في الأردن المتاهبة لاحتلال العراق. اتفقت الكتل السياسية والعسكرية الوطنية على اغتنام الفرصة لالحاق الهزيمة بالقوات البريطانية التي تعاني من الهزائم في مواقع كثيرة في العالم حيث طلب رشيد عالي الكيلاني من دول المحور الدعم العسكري للوقوف بوجه الغزو البريطاني المرتقب فبعث ناجي شوكت إلى تركيا لهذا الغرض . على الرغم من تاييد ألمانيا وإيطاليا لحكومة رشيد عالي الكيلاني الا ان تاخر الدعم العسكري الذي كانت قد بدات بوادره بوصول طلائع الطائرات الالمانية إلى الموصل وبحدود ثلاثين طائرة مقاتلة طراز مسر شمت المقاتلة الانقضاضية ، الامر الذي اعطى مبررا أكبر لبريطانيا بشن الحرب واحتلال العراق واسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني لاعادة مجموعة الوصي ونوري السعيد إلى الحكم تحت ذريعة العمليات الحربية للحرب العالمية الثانية [11]
كانت ذريعة بريطانيا بانزال قواتها في العراق هو مرورها عبر الاراضي العراقية إلى فلسطين للاشتراك في المعارك الدائرة في أوروبا ، واستنادا لبنود المعاهدة العراقية -البريطانية لسنة 1930 كان لزاما على بريطانيا طلب موافقة يقدمه ملك بريطانيا إلى ملك العراق لانزال القوات البريطانية إلى الاراضي العراقية ولما كان الوصي عبد الاله قد فر إلى الأردن فلم يكن امام السفير البريطاني الا بالتعامل مع الشريف شرف ورشيد عالي الكيلاني نفسه . وافق رشيد عالي على نزول الوجبة الاولى من القطعات وهي عبارة عن اللواء العشرين البريطاني مع كتيبة مدفعية ميدان وسرابي من طائرات الفلانشيا وبعض افواج المشاة المتجحفلة معها بشرط خروج تلك القوات إلى خارج العراق ليتم استقدام قوات جديدة والا اعتبر انزال يقع تحت بند الاعمال العدائية الحربية. حيث ادرك رشيد عالي باشا بان البريطانيين لم يكن لهم ما يكفي من القوة المسلحة ليقاتلوا في العراق وكان عليه اولا اخراج القطعات الداخلة قبل السماح لدخول قوات اخرى لضمان عدم شنها عدوان على البلد .
وبعد عملية انزال القطعات والتي تمركزت في قاعدة الشعيبة في البصرة حيث طلب السفير ادخال لواء اخر ، وهنا اعترضت الحكومة ، وطلبت تنفيذ بنود المعاهدة بدقة والقاضية باخراج القطعات القديمة قبل المجيء بقطعات جديدة ولكن فوجئت الحكومة بوصول اللواء الاخر إلى البصرة من الهند يوم 28 فبراير/ نيسان 1941 .
كانت خطة الجيش العراقي تتلخص بالعمل باتجاهين الاول صد اي هجوم بريطاني قد تقوم به القطعات البريطانية من قاعدة الشعيبة في البصرة من قبل الفرقة الثالثة ضمن قاطع عمليات الجنوب مع القطعات الساندة المتجحفلة معها وباسناد جوي من قاعدة الرشيد الجوية في بغداد ومطار الكوت القريب نسبيا وهذا الهجوم ان حدث خطورته اقل بسبب طول المسافة من البصرة إلى بغداد المار عبر عدد من المعوقات كالانهار والاهوار والعشائر التي تسبب للجيش البريطاني الكثير من المشاكل وهو في طريقه إلى بغداد ، علاوة على خطورة انفتاحه في هذه الارض المنبسطة والطويلة مما يعرضه إلى القصف المدفعي والجوي اضافة إلى امكانية قطع خطوط امداداته .
فاستبعدت القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية ان بتبدا بريطانيا بالهجوم من الشعيبة ، وتوجه التفكير إلى القاعدة الاخرى التي تسيطر عليها بريطانيا وهي الاكثر خطورة واستراتيجية لقربها من بغداد ووقوعها على خطوط المواصلات مع فلسطين والادن الذين كانا تحت الانتداب البريطاني . وهذا هو الاتجاه الثاني للخطة حيث تركز الاهتمام على صد اي انزال او هجوم ينطلق من قاعدة الحبانية المجاورة والقريبة من الفلوجة والواقعة غرب بغداد بحوال 90 كيلو متر باتجاه الحدود الاردنية . حيت يمكن للقوات البريطانية الانطلاق لمهاجمة بغداد بعد تجميع قواتها المحمولة جوا والاتية من الهند في الحبانية ، او إرسال قوات برية من فلسطين والاردن وتجميعها في قاعدة الحبانية حيث كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني وفيها قطعات كبير ومجهزة وكذلك الأردن البلد الذي كان تحت الانتداب هو الاخر، حيث تتواجد فية هو الاخر قطعات بريطانية، كما كانت بريطانيا تمهد لتولية الأردن الامير عبد الله بن الحسين الهاشمي ملكا على عرش الأردن بناءا على رغبة الاردنيين وهو شقيق الامير زيد والد الوصي عبد الاله الاسرة الهاشمية حيث يتعاطف الامير مع الوصي عبد الاله ونوري السعيد اللاجئين اليه والطامحين لاسناده لاعادتهم للسلطة المفقودة بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني باشا .
يمكن وصف ساحة المعركة المرتقبة في الحبانية بانها عبارة عن ارض متموجة تتخللها اراضي منبسطة صحراوية الا من الحقول والمزارع والبساتين الكثيفة التي تكثر مع خط انهر الفرات الذي يقطعها من الشمال الغربي والذي تتفرع منه قناة إلى الجنوب منه سميت بناظم سن الذبان وتقع القاعدة الجوية البريطانية بين نهر الفرات وقناة سن الذبان وعند اقصى جنوب القناة توجد ربوة مرتفعة تقع بقربها قرية صغيرة تشرف هذه الربوة على القاعدة الجوية لذلك اولتها القوات العراقية والبريطانية اهمية سوقية في المعركة . والى الجنوب من القناة يقع الشارع الرئيسي الذي يصل بغداد بالحدود الاردنية مارا بالفلوجة الواقعة قبل الحبانية والذي يبعد حوالي 90 كيلومتر باتجاه بغداد. ويقع جنوب الشارع هضبة مرتفعة واسعة على شكل منحنى تشرف على نهر الفرات شمالا وعلى بحيرة الحبانية الواقعة إلى الجنوب منه والتي تشكل اهمية سوقية في المعركة . اما ربوة سن الذبان فانها تمنح القطعات العسكرية التي تحتلها ، قوة السيطرة والتحكم على القاعدة وذلك بامكان قصفها بسهولة ، كما انها تعد خطوطا دفاعية للقوات المهاجمة للقاعدة يمكن الاحتماء بها من اي تعرض بريطاني فيما اذا هاجمتها القطعات البريطانية القادمة من القاعدة . الا انها في الوقت نفسه لاتشكل اهمية للقوات البريطانية فيما اذا ارادت الاستلاء عليهما للهجوم على القوات العراقية ذلك لانها لاتوفر اي اطلالة مناسبة على الفلوجة حيث تتواجد القطعات الرئيسية العراقية ولكنها استنادا للمصطلحات العسكرية تعتبر مثابة - اي موطيء قدم يمكن مشاغلة القطعات العراقية منها قبل تجميع القوات واعادة تنظيمها تمهيدا لشن هجوم شامل مدبر[12].
تحركت القوات العراقية في اليوم التالي الموافق 29 فبراير/ نيسان من معسكر الرشيد في بغداد إلى الحبانية لتاخذ لمحاصرة القوات البريطانية التي ستاتي اليها جوا . واحتلت القوات العراقية منطقة الهضبة المشرفة على الحبانية وبهاذا تكون قد طوقت القاعدة التي تحدها الهضبة بشكل قوس من الجنوب والغرب ونهر الفرات من الشمال والشرق ، وكانت تتالف القوات العراقية من لواء مشاة ولواء مدفعية وكتيبة دروع ، اما القوة البريطانية فكانت تتالف من لواء مشاة آلي محمول جوا مع كتيبة مدفعية و كتيبتي دروع ، وكان واضحا تفوق القوة العراقية المجهزة باحدث انواع المدفعية وسائر الاسلحة .
بدأت القوات البريطانية تحرشاتها تحت ذريعة اجراء تدريبات روتينة على الطيران من القاعدة ، فامر قائد القوات العراقية الميداني متجاهلا المعاهدة العراقية - البريطانية بالتوقف عن اجراء التدريب ، وقام الطيران البريطاني بدلا عن ذلك باستفزاز القوات العراقية ، كما ابلغ قائد القوات البريطانية السلطات العراقية بان محاصرة قاعدة الحبانية من على الهضبة يعتبر اعلان الحرب فاعلمته السلطات العراقية بانها تقوم بمناورات في تلك المنطقة ، فطلب القائد البريطاني القيام بالمناورات في مكان اخر ، فرفضت السلطات العراقية الطلب بالمقابل . وعند الساعات الاولى لصباح يوم 2 مايس / ايار 1941 اقلعت طائرات التدريب البريطانية الصغيرة وهي تحمل بعض القنابل ، وفي الساعة الخامسة والدقيقة الخمسين من ذلك الصباح اسقطت أول قنبلة فوق الهضبة وفي ظرف دقائق ردت القوات العراقية على مصادر النيران وبشكل مكثف اثار رعب القوات البريطانية المحاصرة .
وقد ادركت القوات البريطانية بان سقوط القاعدة بيد القوات العراقية اصبحت مسألة وقت . كما ان تدمير برج خزان الماء الوحيد المخصص للشرب سيؤدي حتما إلى استسلام القاعدة ، وقد اعدت القوات العراقية العدة لشن هجوم شامل تسهم فيه كل الالوية المجهزة بالمدفعية والدبابات وباسناد الطائرات العراقية . وكان مخططا الزحف لاكتساح الابنية والمعسكر مما سيؤدي ذلك إلى التسليم الفوري للقوات البريطانية .
وفي هذه اللحظة وصلت الامدادات للقاعدة بطائرات من القوات البريطانية في الأردن وشرع الطيارون البريطانيون بمهاجمة القواعد الجوية العراقية التي كانت تقلع منها الطائرات العراقية المهاجمة ، كما هاجمت مرابض كتائب الدفاع الجوي العراقية وكتائب المدفعية الثقيلة الاخرى المحاصرة للقاعدة .
وبعد يومين من الاشتباكات العنيفة تلقت القطعات العراقية اوامر باعادة تنظيم القطعات وتجميعها مع الوية اخرى في خطة شاملة اعدتها القيادة العامة للقوات المسلحة للدفاع عن بغداد ، بعد تواتر الانباء عن قرب وصول تعزيزات بريطانية كبيرة اضافية قادمة من فلسطين والاردن لمهاجمة بغداد . وعند الساعات الاولى لليوم الثالث من المعارك اصبحت ارض الهضبة خالية الا من حامية صغيرة مدعومة باسناد من القطعات العراقية ، التي اتخذت لها مواقعا في المعسكر القريب بين الفلوجة وخان ضاري ، واصبح في وسعها التصدي لاي تقدم قد تشنه القوات البريطانية نحو بغداد .
اما من الناحية السوقية او ما يسمى بالاستراتيجية العسكرية فكان ماتبقى هو نقطة استراتيجية تدور عليها المعارك في منطقة قريبة من القاعدة وتسمى سن الذبان فوضع البريطانيون الخطة للاستيلاء على الموقع ، وفي الساعة السابعة والنصف من صباح اليوم نفسه كان الهجوم قد بدأ بشن الهجوم بعجلتين من سرايا الكتيبة الملكية الخاصة وبقيام دروع المحمولة جوا باحداث ثغرة في الهضبة لحماية الجناح الايمن غير ان المعركة لم تكن على ما يرام في مرحلتها الاولى لان الحامية العراقية المتبقية في الهضبة نفذت خطة تعبوية بالتوقف عن اطلاق النار من رشاشات الفيكرز والبرين من الامام ومن الجناح الايسر . فقامت القوة البريطانية بالتعرض على مواضع الكتيبة العراقية الاخرى المشرفة على مرتفع سن الذبان الاستراتيجي المطل على القاعدة ، لكن شدة مصادر النار التي اطلقتها الكتيبة العراقية اجبرت القوات البريطانية على الانسحاب بعد ان منيت بخسائر فادحة .
وفي عصر ذلك اليوم اعادت القوات البريطانية تنظيم ما تبقى من دروعها للتهيؤ لشن هجوم مقابل بالتسلل من البساتين الكثيفة الواقع شمال سن الذبان حيث قامت القطعات البريطانية بتجميع قواتها حتى المصابين منهم الذين كلفتهم باسناد المعركة من الخلفيات بالمدفعية وذلك للخسائر التي منيت بها بشريا والتي وكانت لاتزال عرضة للنيران المتقطعة العراقية فكانوا يتوقعون قيام القطعات العراقية بشن بهجوم اخر في أي لحظة .
وبدات القوات البريطانية هجومها المقابل عندما وصلت التعزيزات الاضافية من فلسطين والاردن في الوقت المناسب ، فزجت عجلات الكومر الكبيرة المجهزة بمدفع ميدان كبير إلى ساحة المعركة والتي هاجمت القوة العراقية في سن الذبان بنيران الرشاشات الا ان القوات العراقية تصدت للعجلات المهاجمة ملحقة بها خسائر كبيرة رغم الاضرار التي لحقت بالقوات العراقية ثم شنت القوات البريطانية هجوما ثانيا وباسناد جوي من طائرات الفلانشيا. قامت قوات المشاة البريطانية بفتح النار ، ثم تلا ذلك قيام كتيبة الدروع البريطانية بالتعرض على الجناح الايمن للكتيبة العراقية في سن الذبان مما اتاح لها التسلل إلى القرية المجاورة والسيطرة عليها ، فصدرت الاوامر للكتيبة العراقية بالانسحاب للتجحفل مع القوات العراقية في الفلوجة ، فاصبح الطريق سالكا للسيطرة على ربوة سن الذبان ، وبعد ان وجدتها القوات البريطانية خاليا من القطعات تركتها هي الاخرى لانها لاتشكل هدفا سوقيا بحد ذاتها سوى كونها خط دفاعي للقوات البريطانية.
في اليوم التالي شنت القوات العراقية هجوما شاملا على الجناح الايمن للقوات البريطانية ، فتم نقل سرية المشاة الرابعة البريطانية باللوريات المدنية والعسكرية بسبب تدمير عجلات ناقلات الاشخاص في معركة سن الذبان ، وتحت قصف الطائرات العراقية المغيرة والسيل المنهمر لنيران الدروع العراقية ، حيث توجهت لتعزيز جناح القوات البريطانية الايمن الذي كان يتعرض لهجوم القوات العراقية ، وبدا تبادل النار بين القطعات العراقية المهاجمة والبريطانية الدفاعية التي انتشر جنودها وهاجموا مباشرة موقعين للقوات العراقية. وفي هذا الهجوم قتل وجرح عدد كبير من البريطانيين [13]
صدرت الاوامر باعلان بريطانيا حربها الشاملة على العراق التي اعتبرتها متممة للعمليات العسكرية للحرب العالمية الثانية وبعد حشد القطعات الكبيرة الاتية من الهند وفلسطين والاردن ، في قواعدها الجوية التي كانت تشغلها استنادا لمعاهدة 1930 فوضعت خطة للهجوم على بغداد . لم يكن اما القوات البريطانية الا استخدام خطة اخرى بديلة وهي تقليد ما قامت به القوات الالمانية بهجومها على هولندا وبلجيكا من خلال الالتفاف حول خط ماجينو من جهة فرنسا من الجنوب ، وهذا ما قرره الجنرالات الانجليز بسلوك الطريق الصحراوي شمال الحبانية والفلوجة والتوجه جنوب الثرثار ثم شمال بغداد ، تلافيا للاصطدام بالقطعات العراقية في الفلوجة وخان ضاري للتوجه إلى طريق الموصل – بغداد من جهة نهر الفرات قرب الفلوجة للهجوم على بغداد. وكان فوج المشاة البريطاني قد قويت عزيمتهم بعد ان زادت معداته بالنظر للامدادات الكبيرة التي دخلت العراق من الهند والاردن كما وكان الطيران البريطاني يعرقل وصول امدادات القطعات العراقية إلى الفلوجة[14].
وقد برزت هنا مشكلة اخرى اما القوات البريطانية في حال بدء الهجوم على بغداد، هي وجود المئات من البريطانيين محاصرين في السفارة البريطانية والمفوضية الامريكية عدا بعض منهم من تمكن من الفرار واللجوء إلى قاعدة الحبانية قبل احتدام المعارك وهم ايضا كانو محاصرين اثناء معارك الحبانية . وكان من الصعب حتى على القوات البريطانية في الحبانية ان تتمكن من الزحف إلى بغداد لانقاذهم ، غير ان القوات البريطانية كانت تواجه صعوبات تسير بها من سيء إلى اسوا، حيث بدا هبوب عاصفة رملية عاتية متجهة من الصحراء الاردنية باتجاه الحبانية وبغداد ، ومما زاد من تفاقم الوضع سوء على البريطانيين هو الغبار الكثيف المنبعث من سير العجلات العسكرية البريطانية في الصحراء والتي كانت تتحرك متجهة نحو الحدود العراقية عبر البادية من فلسطين والادن. وما ان وصلت هذه المعلومات إلى قيادة اركان القطعات العراقية حتى شرعت باستثمار ذلك بشن هجوم مباغت على الدبابات البريطانية المنهكة من الطريق الطويل الذي سبب لها المتاعب والاعطال. وكان الرتل المتقدم بقيادة امر اللواء البريطاني كينغستون من اللواء الرابع الالي مع سريتين من سرايا الفوج الاول وكتيبة الدروع للعقيد ايكس بالاضافة إلى ثلاث سرايا تعود إلى قوة الحدود البريطانية في الأردن وثماني عجلات مدرعة كانت قد ارسلت على عجل بعد سحبها من معركة العلمين في مصر ضد ألمانيا وكان مع هذه القوة بعض المراتب والضباط من الجيش الذي يقودهم كلوب باشا في الاردن[15].
وحالما حل الظلام حتى ابدات عملية نقل الارتال الذاهبة إلى طريق الموصل تؤازرها مفارز الهندسة الخاصة بوضع الجسورالعائمة . علمت القوات العراقية بالتحرك شمالا مع عدد كبير من القطعات لصد التحرك البريطاني باتجاه العصمة وما كان على القوات البريطانية في هذه الحالة الا الالتحام مع القوات العراقية المتقدمة شمالا والتقدم على طريق الفلوجة من جهة اخرى ، وقام الطيران البريطاني باسقاط مناشير على الفلوجة تطالب اهاليها بالاستسلام ثم قصفت البلدة قصفا شديدا راح ضحيته عدد كبير من المدنيين وفي منتصف النهار اصدر امر للواء غراهام بالتقدم ودخول الفلوجة عنوة، وبعد ان تقدم المشاة في طريقهم إلى الجسور واجهوا مقاومة عنيفة من القطعات العراقية والمتطوعين ، غير ان هجوما مقابلا قامت به القوات العراقية في الساعة الثانية من صباح يوم 31 وقد اسغلت القوات العراقي عددا المميزات الكثيرة التي ساعدهم على النجاح ، فقد كانوا يعرفون المدينة معرفة جيدة وكان يعمل معهم متطوعون مختبؤن من الاهالي فكانت تدمر أي دبابة تغامر بالدخول إلى الفلوجة بواسطة بنادق بويس . وبعد ان وصل اللواء كينغستون تولى قيادة الهجوم وتجميع باقي القطعات لاحتلال الفلوجة وصار من الممكن ان يبدأ الزحف نحو بغداد فقسمت القوة إلى رتلين بعد ان اشتبك مع القطعات العراقية بالقرب من التاجي وصل إلى موقع في شمال الكاظمية عندها تم تبادل نيران المدافع بين الطرفين في ضواحي بغداد [16] .
ادى الهجوم الشامل للقوات البريطانية على البصرة وبغداد ، إلى انسحاب الحكومة والمربع الذهبي من العاصمة لقيادة العمليات للقطعات المدافعة من خارج بغداد والتي انظمت اليها فرق المجاهدين من المتطوعين وافراد العشائر. وتدريجيا مع سيطرة القوات البريطانية وامدادها باعداد كبيرة من القطعات من الهند والاردن ، ضعفت مقاموة الحكومة وبدات تنسحب شيئا فشيئا من مواقعها القتالية امام تقدم القوات البريطانية . وفي بداية يونيه / حزيران 1941 طلبت القوات البريطانية الهدنة فاختير محافظ بغداد ارشد العمري لمفاوضتها ولجاء رشيد عالي الكيلاني إلى إيطاليا ومنها إلى ألمانيا مع حليفه مفتي القدس امين الحسيني ، ليبتدئا صفحة جديدة من كفاحهم ضد الاحتلال ، متخذا بعدا عربيا وقوميا ودوليا حيث خصص هتلر للكيلاني محطة اذاعة عربية من برلين سميت حيوا العرب من برلين بادارة الاعلامي العراقي المعروف يونس بحري [17] .
تشير وثائق السفارة البريطانية في بغداد في تقريرها المرفوع إلى ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في حينه ما مفاده:
" وضعت الخطط لاحتلال بغداد ولكن وجود القطعات العراقية بهذه الكثافة والتجهيز والمعنويات اصبح الزحف إلى العاصمة من الغرب امرا مستحيلا من وجهة نظر العمليات الحربية ، فاصبحت الفلوجة الهدف الثاني من العملية وتعد هذه المهمة شاقة حتى بالنسبة لقوة عسكرية لا تقيدها مشاكل قوة الرجال والمعدات لان الفلوجة تسيطر على الجسر المؤدي للضفة الاخرى المتصلة ببغداد ، ومالم يؤمن الاستيلاء على الجسر يعد الهجوم على الفلوجة شيئا مستحيلا ، يضاف إلى ذلك ان طائرات المسر شميت الالمانية المقاتلة والقاصفة كانت قد ظهرت في الجوا انذاك مما زاد من تعقيد العمليات الحربية " [18].
بعد ان احتل الانجليز الفلوجة عاد الوصي الامير عبد الاله إلى قاعدة الحبانية من الأردن يوم 30 مايس/ ايار 1941 ومعه نوري السعيد بعد سيطرة القوات البريطانية على مقاليد الامور، مع أتباعهما من السياسيين وظهروا امام المجتمع بمظهر المنتصر حيث اتخذوا سلسة اجراءات الهدف منها تقويض المد الوطني والقومي في البرلمان والاحزاب السياسية وفي الحكومة والجيش الذي شهد حملة شعواء لتطهيره واجتثاث العناصر المناوئة لبريطانيا منه. فتم تقويض الجيش ومحاكمة مجموعة المربع الذهبي واعدامهم شنقا ، حيث اعدم كامل شبيب ويونس السبعاوي أحد الضباط المتحالفين مع المربع الذهبي، ثم تم اعدام زعيم القادة العسكريين وقائد مجموعة المربع الذهبي العقيد صلاح الدين الصباغ الذي واجه المشنقة ببسالة حيث اهان الوصي قبل اعدامه متهما اياه بالعمالة قائلا:
" اهلا بالمشنقة ارجوحة الابطال .. لاتاسفن على غدر الزمان فكم رقصت على جثث الاسود كلاب.. يبقى الاسود اسود والكلاب كلاب".[19]
شن الوصي حملة لتقويض الجيش العراقي فتم حل الكثير من الوحدات والغيت الكثير من عقود التسليح ، وتم تسريح العديد من الضباط ذوي الرتب الكبيرة او سجنهم وحسب اسهامهم في الثورة كما تم نقل الضباط الصغار الرتب من المشاركين في الحركة إلى المحافظات البعيدة مثل الملازم أول عبد السلام عارف الذي شارك في الثورة ونقل إلى البصرة. واثرت تلك الاجراءات لاحقاً على نتائج الحرب مع إسرائيل عام 1948 ، فعلى الرغم من بسالة الجيش العراقي في المعركة والنتائج التي حققها ميدانيا الا ان ضعف تسليح الوحدات وحجمها لعبت دورا في حسم نتائج المعركة.
منذ الوقت الذي نزلت فيه أول طلائع القوات البريطانية في البصرة بدأت سلسلة من الاحداث العدائية لهذه القطعات ، فقد رمى الناس المتواجدون في شوارع البصرة القطعات البريطانية بالحجارة كما استهدف المواطنون شاحنات تقل الجنود من هنود "الكوركا" ثم حطمت الشاحنات ، كما هوجمت السيارات الخصوصية للجالية والسفارة البريطانية وبصق العراقيون على جنود مشاة البحرية البريطانية. وكانت روح الانتقام قد ارتفعت لاعلى مستوياتها فكانت واضحة لدى افراد العشائر، حيث حوصر القنصل البريطاني في احدى المصانع في محاولة للاعتداء عليه بعد ان اوسع شتما واهانة(5).
اما على الصعيد الشعبي ، فقد ازداد سخط العامة من تداعيات التدخل البريطاني لاسقاط حكومة رشيد عالي باشا حيث اعتقد الرأي العام بان وراء احتلال العراق واسقاط الحكومة من قبل الانكليز ورائه كتلة الوصي ونوري السعيد باشا من جهة والحركة الصهيونية من جهة ثانية ، الامر الذي جعل الدهماء يهاجمون المصالح البريطانية واليهودية في العراق حيث كانت الجالية اليهودية تمثل شريحة كبيرة في العراق ، تتحكم بالتجارة والصناعة ، فهاجم العوام من العمال البسطاء والفلاحين الساكنين في البيوت العشوائية في منطقة ما عرف بوراء السدة ، المصانع والشركات اليهودية ثم توسع الغوغاء ليشمل جميع البيوت اليهودية حيث تم حرق وسرقة العديد منها وتجلى ذلك بعد سقوط الحكومة وانفلات الامن ، وهذه الاحداث يعرفها البغداديون بما سمي بمصطلح "فرهود اليهود" ذلك المصطلح الذي ترجم حرفيا "Farhud" في كتابات المؤرخين الانجليز لتلك الحقبة
يقول ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عن هذه الاحداث: " كانت معاهدة 1930 العراقية- البريطانية تنص على اننا يجب ان نحتفظ في ايام السلم بالقواعد الجوية الكائنة بالقرب من البصرة وفي الحبانية ، وفي ايام الحرب لنا حق مرور القوات البريطانية وان تقدم لنا التسهيلات الممكنة كاستخدام سكك الحديد والانهر والموانئ والمطارات لمرور قواتنا المسلحة .
وعندما اندلعت الحرب كنا ننتظر من الحكومات العراقية ان تبدي تعاونها معنا تاكيدا لعلاقات التحالف والصداقة بين بلدينا فقطع العراق عندما كان نوري باشا رئيسا للوزراء علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا، لكنه لم يعلن الحرب عليها بسبب ضغوطات المعرضة في البرلمان وعندما دخلت إيطاليا الحرب لم تقم الحكومة العراقية التي رئسها رشيد عالي باشا حتى بقطع العلاقات معها وعلى هذا غدت المفوضية الايطالية في بغداد المركز الرئيسي لدعاية المحور، ولتغذية الشعور المعادي لبريطانيا وقد ساعدها في ذلك مفتي القدس أمين الحسيني وبانهيار فرنسا ووصول لجنة المحور للهدنة إلى سوريا انحط شأن النفوذ البريطاني إلى الدرك الاسفل فاثار هذا الوضع كثيرا من القلق في نفوسنا، لكننا كنا منشغلين في جبهات اخرى وكان موضوع اتخاذ تدابير عسكرية شيئا خارجا عن ارادتنا وبات لزاما علينا ان نسّير الامور ما نسطيع عليه وفق ما متيسر من امكانات . وفي مايس/ ايار 1941 غدا رشيد عالي باشا الذي كان يميل إلى ألمانيا رئيسا للوزارة واخذ يدير البلاد مع اربعة من ضباط العراق البارزين الذين اطلق عليهم لقب "المربع الذهبي" وفي نهاية شهر ماري/ اذار فر الوصي عبد الاله المتحالف معنا من بغداد فاصبح من المهم أكثر من اي وقت اخر ان نتاكد من بقاء البصرة في ايدينا وهي ميناء العراق الرئيس المطل على الخليج العربي وكانت مصلحتنا الرئيسة من إرسال القوات إلى العراق هي حماية قاعدة تجمع كبيرة في البصرة، حماية لهذا الانزال، وليس من الحكمة اعطاء اي تعهد عن إرسال القوات إلى بغداد اونقلها عبر البلاد إلى فلسطين.
نشط الكيلاني من ألمانيا للدعوة لأحداث ثورات في العالم العربي أسوة بالثورة التي قادها في العراق والتي تعتبر أول ثورة وطنية وتحررية ضد المحتل وحلفائه، حيث أصدر البيانات ذات الطابع القومي التحرري مناديا أحرار العرب من سياسيين وعسكريين إلى مقاومة المحتل كما نادى في أكثر من بيان الجيوش العربية للأنتفاض ضد الحكام الذين يأتمرون بأمر المحتل، حيث خص الكيلاني الجيش المصري للأنتفاض على نظام حكم الملك فاروق، كما خص أيضا الجيش السوري، وكذلك الجيش اليمني للأنتفاض، كما دعى إلى إعادة وحدة العرب وعدم الأستسلام لمخططات المحتل كأتفاقية (سايكس- بيكو).
لاقت دعوة الكيلاني صدىً كبيراً لدى الكثير من الأوساط الفكرية والسياسية والعسكرية والتي تأثرت بشعارات الثورة التي كانت تبثها بشكل ثوري وحماسي الأذاعة العربية من برلين. فتأثر بهذه الحركة مؤسسو الأحزاب القومية كصلاح الدين البيطار وأكرم الحوراني ، كما ألهمت هذه الثورة قادة ثورة 23 يوليو / تموز في مصر للإطاحة بالحكم الملكي خصوصا بعد فضيحة الأسلحة الفاسدة التي تسببت بالخسارة في حرب فلسطين عام 1948م. كما تأثر العراقيون بالحركة التي أدت إلى تأسيس خلايا تنظيم الضباط الوطنيين عام 1949م بزعامة العقيد رفعت الحاج سري الدين.
وأدى فشل ثورة مايو / مايس 1941م، بزعامة الشخصية الوطنية رشيد عالي الكيلاني، وما لقيه الضباط من التنكيل والإعدام، إلى أرتفاع درجة السخط بين صفوف الشعب الذي أنعكس على أبنائه في القوات المسلحة.
كما واجه الجيش العراقي حملات تقويض حيث تنبه الإنجليز إلى حالة السخط والغليان بين صفوف الشعب والجيش بشكل خاص بعد الضربة الموجعة بفشل ثورة رشيد عالي باشا عام 1941م، وتنبهوا إلى ذلك فاشعروا السراي الحكومي بضرورة تقليص عدد وحدات الجيش العراقي، وتسريح أعداد كبيرة من ضباطه ومراتبه ونقل الضباط الآخرين إلى وحدات نائية، وأشغال أفراده بالتدريبات، طوال فصول العام. وبدأت خلايا سرية من الضباط في العمل بين صفوف الجيش، ومحاولة التكتل لإنشاء تنظيم سري للضباط.
وبقي العراق لعبة بيد مراكز القوى السياسية كنوري السعيد والوصي عبد الاله، أما الاحزاب والقوى الوطنية فقد أنحسر دورها، وطفت على السطح الاحزاب الشكلية الخاوية من ايديولوجيات أو برامج العمل. كما أتهم الحكم الملكي بأضطهاد الأحرار والوطنيين، وربط العراق باحلاف سياسية ومعاهدات جديدة جائرة مع بريطانيا مست سيادته وهدرت ثرواته الوطنية، دون النظر إلى المصلحة العراقية الوطنية. كما كانت تتهم حكومات وزعامات الحكم الملكي بفساد النخبة السياسية من غير الملك وعائلته ، وانتشار المحسوبية والفساد الاداري والمالي . وكذلك يؤخذ على الحكم الملكي عدم حل المشكلات الداخلية كالتلكوء بمنح الاقليات الحقوق الثقافية ، على الرغم من الاسهام السياسي الواسع للاقليات العرقية والطائفية في الحكم [20] .