→ كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2060 - 2074) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2075 - 2078) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2079 - 2085) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2075 - مسألة: الجراح وأقسامها
قال أبو محمد : أولها الحارصة ثم الدامية ثم الدامعة ثم الباضعة ثم المتلاحمة ثم السمحاق وهي أيضا : الملطا. ثم الموضحة ثم الهاشمة ثم المنقلة ثم المأمومة وهي الآمة أيضا. وفي الجوف وحده : الجائفة وهي التي نفذت إلى الجوف. والحارصة التي تشق الجلد شقا خفيفا يقال : حرص القصار الثوب إذا شقه شقا لطيفا. والدامية هي التي ظهر فيها شيء من دم ولم يسل. والدامعة هي التي سال منها شيء من دم كالدمع. والباضعة هي التي شقت الجلد ووصلت إلى اللحم والمتلاحمة هي التي شقت الجلد وشرعت في اللحم. والسمحاق هي الملطا : وهي التي قطعت الجلد واللحم كله ووصلت إلى القشرة الرقيقة التي على العظم. والموضحة التي شقت الجلد واللحم وتلك القشرة وأوضحت عن العظم. والهاشمة التي قطعت الجلد واللحم والقشرة وأثرت في العظم فهشمت فيه. والمنقلة وهي المنقولة أيضا التي فعلت ذلك كله وكسرت العظم فصار يخرج منها العظام. والمأمومة التي نفذت ذلك كله وشقت العظم كله , فبلغت أم الدماغ هذا الكلام كله
هكذا حدثناه أحمد بن محمد بن الجسور قال : حدثنا محمد بن عيسى بن رفاعة قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو عبيد عن الأصمعي , وغيره , فذكر كما ذكرنا
قال أبو محمد : فقال بعض السلف كما قدمنا : لا قصاص في العمد في شيء منها إلا في الموضحة وحدها , وادعوا أن المماثلة في ذلك متعذرة. وقال آخرون : بل القصاص في كلها , والمماثلة ممكنة كما أمر الله تعالى.
وقد ذكرنا بطلان قول من منع من القصاص فيها برأيه قبل , فأغنى عن إعادته. ويكفي من ذلك عموم قول الله تعالى : {والجروح قصاص} برفع الحاء
وقال تعالى : {والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وما كان ربك نسيا فلو علم الله تعالى أن شيئا من ذلك لا تمكن فيه مماثلة لما أجمل لنا أمره بالقصاص في الجروح جملة , ولم يخص شيئا فنحن نشهد بشهادة الله تعالى التامة الصادقة , ونقطع قطع الموقن المصدق بكلام ربه تعالى : أن ربنا عز وجل لو أراد تخصيص شيء من الجروح بالمنع من القصاص في العمد لبينها لنا كما أخبر تعالى عن كتابه أنه أنزله تبيانا لكل شيء , فإذ لم يفعل ذلك , فنحن نقسم بالله تعالى قسما برا : أنه ما أراد قط تخصيص شيء من الجروح بالمنع من القصاص منه , إلا في الأعتداء به وبالله تعالى التوفيق.
2076 - مسألة: من قتل عمدا فعفي عنه وأخذ منه الدية , أو المفاداة
قال أبو محمد : اختلف الناس في هذا فقالت طائفة : يجلد مائة وينفى سنة كما ، حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عباس بن عبد الله أن عمر بن الخطاب قال في الذي يقتل عمدا : أنه لا يقع القصاص عليه بجلد مائة , قلت : كيف قال في الحر يقتل عمدا , أو في أشباه ذلك. وبه إلى ابن جريج عن عمرو بن شعيب : أن عمر جلد حرا قتل عبدا مائة ونفاه عاما وبه إلى ابن جريج عن إسماعيل بن أمية قال : سمعت أن الذي يقتل عبدا يسجن سنة ويضرب مائة. وبه إلى ابن جريج ، عن ابن شهاب قال : إن قتل الحر عبدا عوقب بجلد وجيع , وسجن , وبعتق رقبة , فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين , ولم تكن عليه عقوبة وقال الأوزاعي , والليث. ومالك : من قتل عمدا فعفا عنه الأولياء , أو فادوه بالدية ; فإنه يجلد مائة سوط مع ذلك , وينفى سنة إلى أن قال مالك : في القسامة يدعى على جماعة أنهم لا يقسمون إلا على واحد فإن أقسموا عليه قتلوه , وضرب الباقون كل واحد مائة سوط , وينفوا كلهم سنة سنة. وقال آخرون : لا شيء عليه : كما ، حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية قال الله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء} فالعفو : أن تقبل الدية في العمد ذلك تخفيف من ربكم ورحمة. قال : فعلى هذا أن يتبع بالمعروف , وعلى ذلك أن يؤدي إليه بإحسان فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .
وبه يقول أبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأبو سليمان , وأصحابهم.
وبه يقول إسحاق بن راهويه وسائر أصحاب الحديث. فلما اختلفوا كما ذكرنا نظرنا فيما احتجت به الطائفة الموجبة للأدب والنفي في ذلك , فوجدناهم يقولون أو من قال منهم : قال الله تعالى : {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب} قال : فشبه الله تعالى القتل بالزنى. ووجدنا الزنى فيه الرجم على المحصن , فإذا لم يكن محصنا سقط عنه العقل ووجب عليه مائة جلدة ونفي سنة. قالوا : فالواجب على من قتل فسقط عنه القتل مثل ذلك أيضا جلد مائة ونفي سنة. وذكروا : ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري ، حدثنا عبد الله بن الحسين بن عقال ، حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا محمد بن أحمد بن الجهم ، حدثنا محمد بن عبدوس ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن عمرو بن شعيب , وإبراهيم بن عبد الله بن حنين , قال : عمرو عن أبيه عن جده , وقال إبراهيم عن أبيه عن علي بن أبي طالب ثم اتفق علي , وجد عمرو بن شعيب كلاهما قال : أتي النبي ﷺ برجل قتل عبده متعمدا , فجلده مائة , ونفاه سنة , ومحا سهمه من المسلمين , ولم يقد منه.
قال أبو محمد : ما لهم شبهة غير هذا إلا ما ذكرنا آنفا في صدر هذا الباب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكل هذا لا حجة لهم فيه. أما تشنيعهم بذكر الله تعالى {ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} الآية. وتنظيرهم ما يجب على القاتل بما يجب على الزاني ففاسد جدا وتحريف لكلام الله تعالى وحكمه عن مواضعه خطأ بحت من عدة وجوه :
أولها أنه قياس , والقياس كله باطل.
والثاني أنه لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل , لأن الله تعالى لم يسو قط بين القاتل والزاني في الحكم , وإنما سوى بينهما في وعيد الآخرة فقط , وليست أحكام الدنيا كأحكام الآخرة , لأن من تاب من كل ذلك فقد سقط عنه الوعيد في الآخرة , ولم يسقط عنه حكم الدنيا باتفاقهم معنا. والثالث أنه لا خلاف في أن حكم الزاني يراعي الإحصان في ذلك وعدم الإحصان , ولا خلاف في أنه لا يراعى ذلك في القتل. والرابع أن حكم الزاني إذا وجب عليه القتل بلا خلاف ممن يعتد به القتل بالرجم خاصة , وليس ذلك حكم القاتل إذا استقيد منه بلا خلاف , إلا أن يكون قتل بحجر. والخامس أن الله تعالى قال في أول هذه الآية التي موهوا بإيراد بعضها دون بعض {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون} فيلزمهم إذا ساووا بين حكم القاتل والزاني , لأن الله تعالى قد ذكرهما معا في هذه الآية أن يساووا أيضا بين الكافر , والقاتل , والزاني , لأن الله تعالى قد ذكرهم كلهم معا , وساوى بينهم في وعيد الآخرة إلا من تاب , فيلزمهم إذا أسلم الكافر , والمرتد , فراجع الإسلام أن يجلد مائة سوط وينفى سنة , لأن القتل قد سقط عنه كما قد سقط عن القاتل المعفو عنه , وعن الزاني غير المحض.
فإن قالوا : الإجماع منع ذلك. قيل لهم : فقد أقررتم بأن الإجماع منع من قياسكم الفاسد وأبطله. فظهر فساد كلامهم هذا وبالله تعالى التوفيق.
وأما الخبر الذي تعلقوا به ففي غاية البطلان والسقوط , لأنه عن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف جدا ، ولا سيما ما روي عن الحجازيين , فلا خير فيه عند أحد من أهل العلم. ثم هو عن إسحاق بن عبد الله بن فروة وهو متروك الحديث ولم يبق لهم إلا التعلق ب
ما روينا في ذلك عن عمر رضي الله عنه
فنظرنا فيه , فوجدناه لا حجة لهم فيه , لأنه لا يصح عن عمر أبدا , لأنه إما عن عمرو بن شعيب : أن عمر ,
وأما عن العباس بن عبد الله أن عمر , وكلاهما لم يولد إلا بعد موت عمر رضي الله عنه بدهر طويل.
وأيضا فقد صح ، عن ابن عباس خلافه , وإذا صح الخلاف عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، فليس قول بعضهم أولى من قول بعض , فالواجب حينئذ الرجوع إلى ما أمر الله تعالى به عند التنازع , إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} فكل قول عري من الأدلة فهو باطل بيقين , قال الله تعالى : {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ثم نظرنا في قول من لم ير على المعفو عنه بالدية , أو المفاداة , أو العفو المطلق جلدا ، ولا نفيا فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} فأوجب الله تعالى نصا لا خفاء به : أن من قتل عمدا فوجب عليه القصاص في القتل , ثم عفي عنه على مال , فواجب على الولي العافي أن يتبع القاتل المعفو عنه بالمعروف , وأوجب الله تعالى على القاتل المعفو عنه أن يؤدي ما عفي عنه عليه بإحسان وليس من المعروف والإحسان الضرب بالسياط , والنفي عن الأوطان سنة. ووجدناهم أيضا يذكرون قول رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام
فصح أن بشرة القاتل محرمة بتحريم الله تعالى فلا يحل جلده , ولا نفيه ; إذ لم يوجب ذلك قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , ولا دليل من الأدلة أصلا وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا هشيم ، حدثنا إسماعيل بن سالم عن علقمة بن وائل بن الأوزاعي عن أبيه قال : أتي رسول الله ﷺ برجل قد قتل رجلا فأقاد ولي المقتول منه , فانطلق به وفي عنقه نسعة يجرها , فلما أدبر الرجل قال رسول الله ﷺ القاتل والمقتول في النار فأتى رجل إلى الرجل فقال له مقالة النبي ﷺ فخلى عنه قال إسماعيل بن سالم : فذكرت ذلك لحبيب بن أبي ثابت. فقال : حدثني ابن أشوع أن النبي ﷺ إنما سأله أن يعفو عنه فأبى : ، حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عوف بن أبي جميلة وجامع بن مطر الحبطي قال عوف : حدثني حمزة العائذي أبو عمر , ثم اتفق جامع , وحمزة , كلاهما عن علقمة بن وائل بن حجر عن وائل قال : شهدت النبي ﷺ حين جيء بالقاتل يقوده ولي المقتول في نسعته , فقال رسول الله ﷺ لولي المقتول أتعفو عنه قال : لا , قال له : أتأخذ الدية قال : لا , قال : فتقتله قال : نعم , قال : اذهب به. فلما تولى من عنده دعاه قال له : أتعفو عنه قال : لا , قال له : فتأخذ الدية قال : لا , قال : فتقتله قال : نعم , قال : اذهب , فقال رسول الله ﷺ عند ذلك : أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبك , فعفا عنه وتركه , قال : فأنا رأيته يجر نسعته قال يحيى بن سعيد القطان وقد ذكر هذين الحديثين فقال عن حديث جامع : هو أحسن منه : يعني : أنه أحسن من حديث حمزة
قال علي : وهو كذلك , لأن حمزة العائذي شيخ مجهول لا يعرف قال ابن معين , ولم يوثقه أحد نعلمه ;
وأما جامع بن مطر فقال فيه أحمد بن حنبل : لا بأس به وما علمنا أحدا جرحه وقد روى عنه أئمة : يحيى , وعبد الصمد بن عبد الوارث , وحفص بن عمر الحوضي , وغيرهم. حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا عمرو بن منصور ، حدثنا حفص بن عمر هو الحوضي ، حدثنا جامع بن مطر عن علقمة بن وائل عن أبيه قال : كنت مع رسول الله ﷺ قاعدا عنده إذ جاءه رجل في عنقه نسعة فقال يا رسول الله إن هذا وأخي كانا في جب يحفرانها , فرفع المنقار فضرب به رأس صاحبه فقتله فقال , رسول الله ﷺ اعف عنه , فأبى وقام فقال : يا نبي الله إن هذا وأخي كانا في بئر يحفرانها فرفع المنقار فضرب بها رأس صاحبه فقتله قال : اعف عنه فأبى , ثم قال فقال : يا رسول الله هذا وأخي كانا في جب يحفرانها فرفع المنقار أراه قال : فضرب به رأس صاحبه فقتله , قال : اعف عنه فأبى , قال : اذهب إن قتلته كنت مثله , فخرج به حتى جاوز , فناديناه : أما تسمع ما يقول رسول الله ﷺ فرجع فقال : إن قتلته كنت مثله قال : نعم , اعف عنه , فخرج يجر نسعته حتى خفي علينا
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا عيسى بن يونس الفاخوري ، حدثنا ضمرة عن عبد الله بن شوذب عن ثابت البناني عن أنس أن رجلا أتى بقاتل وليه رسول الله ﷺ فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : اعف عنه فأبى , فقال : خذ الدية فأبى , قال : اذهب فاقتله فإنك مثله , فخلى سبيله , فمر الرجل وهو يجر نسعته
قال أبو محمد : أما حديث إسماعيل بن سالم , وجامع بن مطر , كلاهما عن علقمة , فجيدان تقوم الحجة بهما وفي كليهما إطلاق القاتل المعفو عنه , ومسيره حتى غاب عنهم , وخفي عنهم , لا ضرب ، ولا نفي. فصح قول من رأى أن لا جلد على القاتل ، ولا نفي إذا عفي عنه.
وهو قول ابن عباس , ولا يصح عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، خلاف له أصلا وهذا مما يستشنعه المالكيون إذا وافق تقليدهم , وإذا خالفه لم يبالوا به.
وأما قول مالك بذلك في القسامة فما عرف قط عن أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، وبالله تعالى التوفيق.
2077 - مسألة: في معنى قول النبي ﷺ في هذه الأخبار القاتل والمقتول في النار وإن قتلته كنت مثله
قال علي : قد أيقنا ولله الحمد أن رسول الله ﷺ لا يقول إلا الحق المتيقن , وأيقنا أنه ﷺ لا يقضي بباطل وهو يدري أنه باطل فإذ لا شك في هذين الوجهين , فالواجب علينا طلب وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بالقود في هذه الأخبار , وإطلاقه على القتل في ذلك , مع قوله الصادق وإن قتله كان مثله , والقاتل والمقتول في النار فإن للسائل أن يقول : كيف يقضي له رسول الله ﷺ بقود لا يحل له وهو يدري أنه لا يحل له حاش لله من هذا. وإذ لا يجوز هذا فكيف يكون في النار , ومثلا للقاتل , من استقاد كما أمره رسول الله ﷺ ومن اقتص بالحق
قال أبو محمد : أما تفسير ابن أشوع الذي ذكرناه آنفا من طريق مسلم عنه أن ذلك كان أن رسول الله ﷺ سأله العفو عنه فأبى , فإنه تفسير فاسد لا يجوز ألبتة ; لأنه ﷺ لا يخلو في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون شافعا في العفو ,
وأما أن يكون آمرا بالعفو , فإن كان شافعا فليس الممتنع من إسعاف شفاعته ﷺ عاصيا لله تعالى كما فعلت بريرة إذ قال لها رسول الله ﷺ وقد خيرها في البقاء مع زوجها أو فراقه فاختارت فراقه لو راجعتيه فإنه أبو ولدك. فقالت : أتأمرني يا رسول الله قال : لا , إنما أنا شافع. فقالت : لا أرجع إليه أبدا فلا خلاف بين أحد من الأمة أن بريرة ، رضي الله عنها ، لم تكن عاصية بذلك. فإن كان عليه الصلاة والسلام شافعا في هذا القاتل , فليس الممتنع عاصيا فإذ ليس عاصيا فليس في النار , ولا هو مثل القاتل الظالم , وإن كان ﷺ آمرا فهو بيقين لا يأمر إلا بواجب فرض. ومن الباطل أن يأمر عليه الصلاة والسلام بشيء ويطلق على خلافه , ولا يمنع من الحرام الذي هو خلاف أمر وهذا هو القضاء بالباطل , وقد أبعده الله تعالى عن هذا.
فإن قالوا : هو أمر على الندب.
قلنا : لا راحة لكم في هذا , لأن من ترك قبول الأمر بالندب الذي ليس فرضا فليس في النار , ولا هو مثل القاتل الظالم فبطل تفسير ابن أشوع. وهكذا القول فيما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة أنا علي بن الحكم البناني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير قال : إن الرجل قال : يا رسول الله قتل أخي فدخل النار , وإن قتلته دخلت النار فقال رسول الله ﷺ إنه قتل أخاك فدخل النار بقتله إياه , وإني نهيتك عن قتله , فإن قتلته دخلت النار بمعصيتك إياي.
قال أبو محمد : وهذا مرسل , والمرسل لا تقوم به حجة , والقول في إبطاله كالقول في حديث ابن أشوع ، ولا فرق وبه إلى حماد عن حميد عن الحسن أنه كان يعني بهذا الخبر إن قتلته فأنت مثله " كان يرى ذلك عاما
وكذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن السليم ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك قال : ما رأيت رسول الله ﷺ رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو. قال : فلو كان هذا أمر فرض وإيجاب لحرم القصاص جملة وهذا أمر متيقن أنه لا يقوله أحد من أهل الإسلام , فإن كان أمر ندب فلا يدخل النار , ولا يكون ظالما من ترك الندب غير راغب عنه , فإن تركه راغبا عنه فهو فاسق وربما كفر.
قال علي : والقول في هذا عندنا هو ما وجدناه في خبر آخر وهو الذي حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني الكوفي , وأحمد بن حرب ، واللفظ له قالا : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قتل رجل على عهد رسول الله ﷺ فرفع القاتل إلى النبي ﷺ فدفعه إلى ولي المقتول فقال القاتل : يا رسول الله لا , والله ما أردت قتله , فقال رسول الله ﷺ لولي المقتول : أما إنه إن كان صادقا ثم قتلته دخلت النار , فخلى سبيله وكان مكتوفا فخرج يجر نسعته , فسمي : ذا النسعة.
قال أبو محمد : فهذا بيان الأخبار الواردة في هذا الحكم , لا يجوز غير ذلك ألبتة , وهو أنه حكم عليه الصلاة والسلام بالقود والقتل قصاصا بظاهر البينة , أو الإقرار التام. وهذا هو الحق المفترض على الحكام المتيقن أن الله تعالى أمرهم به , ولم يكلفهم علم الغيب , فحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالحق في ذلك , فلما قال : إني لم أرد قتله وكان ذلك ممكنا أخبره عليه الصلاة والسلام بأنه إن كان كذلك فقاتله في النار وهو مثله , لأنه لا يحل له قتله حينئذ , فصار حكمه عليه الصلاة والسلام حقا , وقوله حقا. كما قال أيضا عليه الصلاة والسلام فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه , فإنما أقطع له قطعة من النار. وهو عليه الصلاة والسلام في ظاهر الحكم بالبينة , أو الإقرار , أو اليمين حاكم بالحق المتيقن لا بالظن , لكن بما أمره الله تعالى أن يحكم به ، ولا بد , وإن كان الباطن بخلاف ذلك مما لو علمه عليه الصلاة والسلام لم ينفذه , ولا تركه يمضي أصلا وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل : هذا وجه الجمع بين حكمه عليه الصلاة والسلام وقوله في ذلك فما وجه حكمه عليه الصلاة والسلام بأن القاتل والمقتول في النار , وأنه مثله وكيف يكون من قتل غير مريد للقتل في النار
قلنا وبالله تعالى التوفيق : هذا إخبار من النبي ﷺ بغيب أعلمه الله تعالى إياه , لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقول ألبتة إلا الحق , ولا يقول بالظن قاصدا إلى ذلك ومن قال هذا عليه ونسبه إليه : فهو كافر , فنقول : إن ذلك القاتل الذي لم يعمد القتل كان فاسقا من أهل النار بعمل له غير هذا القتل , أطلع الله تعالى نبيه ﷺ على عاقبته فيه , ولم يكن دمه يحل لهذا المستقيد , لأنه لم يعمد قتل أخيه , فلو قتله على هذا الوجه لكان قاتلا بغير الحق , ولاستحق النار , ولكان ظالما كالمقتول , إذ ليس كل ظالم يستحق القتل وبالله تعالى التوفيق.
2078 - مسألة: من قتل في الزحام , أو لم يعرف من قتله , أو أصابه سهم , أو حجر , لا يدرى من رماه , أو هرب قاتله
قال علي : حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، حدثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي : أن رجلا قتل في الطواف , فاستشار عمر الناس.
فقال علي : ديته على المسلمين , أو في بيت المال. وبه : إلى وكيع ، حدثنا وهب بن عقبة , ومسلم بن يزيد بن مذكور سمعاه من يزيد بن مذكور قال : إن الناس ازدحموا في المسجد الجامع بالكوفة يوم الجمعة , فأفرجوا عن قتيل , فوداه علي بن أبي طالب من بيت المال. حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي عن الأسود إن رجل قتل في الكعبة فسأل عمر عليا , فقال : من بيت المال يعني ديته.
ومن طريق ابن وهب حدثني سعيد بن عبد الله الثقفي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في رجلين ماتا في الزحام : أن يوديا من بيت المال , فإنما قتله يد , أو رجل. وقد روي هذا أيضا عن سعيد بن المسيب أيضا , وعروة بن الزبير. وقد روي غير هذا :
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : من قتل في زحام فإن ديته على الناس من حضر ذلك في جمعة , أو غيرها
قال علي : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما تحتج به كل طائفة فوجدنا أهل القول الأول يحتجون بما حدثناه حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن كتاب لعمر بن العزيز قال : بلغنا أن رسول الله ﷺ قضى فيمن قتل يوم أضحى , أو يوم فطر , فإن ديته على الناس جماعة. لأنه لا يدرى من قتله وهذا خبر مرسل , ولا حجة في مرسل. والذي نقول به : إن من ضغط في زحام حتى مات من ذلك الضغط فقد عرفنا أن الجماعة تلك بعينها كلهم قتله , إذ كلهم تضاغطوا حتى مات من ضغطهم , فإذ قد عرف قاتلوه فالدية واجبة على عواقلهم بلا شك , فإن قدر على ذلك فهو عليهم , وإن جهلوه فهم غارمون حيث كانوا , وحق الغارمين واجب في صدقات المسلمين , وفي سائر الأموال الموقوفة لجميع مصالح المسلمين. لقول الله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم} الآية.
وقال رسول الله ﷺ : من ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي. وإن كان مات من أمر لا يدرى من أصابه فديته واجبة على جميع الأموال الموقوفة لمصالح المسلمين , لأن مصيبه غارم , أو عاقلته , ولا بد. وهذا هو نص الخبر وإن كان لا يحتج به بإرساله لكن معناه صحيح بالنصوص التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : وقد حدثناه حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال : قضى هشام بن سليمان في قوم كانوا في ماء فتماقلوا فمات واحد منهم في الماء , فشهد اثنان على ثلاثة , وثلاثة على اثنين , فقضى بديته على جميعهم.
حدثنا حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن أبي عدي عن أشعث عن الحسن ، أنه قال في قوم تناضلوا فأصابوا إنسانا , لا يدرى أيهم أصابه. قال : الدية عليهم. ورويناه من طريق الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة أنا سلمة بن كهيل وحماد بن أبي سليمان أن علي بن أبي طالب قضى في ستة غلمة كانوا يتغاطون في النهر فغرق أحدهم , فشهد اثنان على ثلاثة أنهم غرقوه , وشهد ثلاثة على اثنين أنهما غرقاه فجعل علي بن أبي طالب ثلاثة أخماس الدية على الاثنين , وخمسي الدية على الثلاثة
قال علي : أما الرواية عن علي بن أبي طالب فلا تصح , ولو صحت لكان جميع الحاضرين من خصومنا مخالفين لحكمه فيها.
وأما القول عندنا فهو أن الله تعالى حرم الأموال إلا بيقين الحق , لقوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}
وقال رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام فلا يصح قضاء بدية على أحد إلا حيث أوجبها نص قرآن أو سنة عن رسول الله ﷺ . فإذا مات إنسان في تغاط , أو نضال , أو في وجه ماء , فإنه لا يحل أن يغرم من حضر شيئا من ديته , ولا عواقلهم , لأننا لا ندري أجميعهم قتله أم بعضهم وإذ لا ندري من القاتل له , فلا فرق بين الحاضرين وبين العابرين على السبيل , وإلزامهم ديته , أو عواقلهم ظلم لا شك , بل نوقن أن جميعهم لم يقتله , فنحن على يقين من أن إلزام جميعهم الدية ظلم لا شك فيه فحق هذا أن يؤدي من سهم الغارمين , أو من الأموال الموقوفة لمصالح جميع المسلمين , لأن الله تعالى افترض ديته بقوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله} فلا بد من دية مسلمة إلى أهله. وبقول رسول الله ﷺ الذي قد ذكرناه بإسناده في مواضع من كتابنا هذا ولله الحمد " من قتل له قتيل بعد مقالتي هذه فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل " أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فالعقل واجب على كل حال في العمد والخطأ ; ، ولا يخلو قتيل من أحد هذين الوجهين.
قال أبو محمد : وهكذا من أصابه حجر لا يدرى من رماه , أو سهم كذلك ، ولا فرق ولو أن امرأ خرج إليه عدو في طريق فقتله , وجماعة ثقات ينظرون إلى ذلك , إلا أنهم لا يعرفون القاتل من هو فلما رآهم القاتل هرب وصار خلف ربوة , أو في بيت , أو في خان , فاتبعته الجماعة فوجدوا خلف الرابية أو الخان أو البيت : جماعة من الناس , أو اثنين فصاعدا , فيهم ثقات وغير ثقات , فسألوهم : من دخل عندكم الساعة فقال كل امرئ منهم : لا ندري , كل امرئ منا مشغول بأمره.
فأما المالكيون يقولون : يقذف كل من كان في الخان , وكل من كان في البيت , وكل من كان خلف الرابية في السجن الدهر الطويل , حتى يكون موتهم خيرا لهم من الحياة وهذا ظلم عظيم متيقن , وخطأ عند الله تعالى بلا شك ; لأنهم على يقين من أنهم كلهم مظلومون إلا واحدا , فقد أقدموا على ظلم ألف إنسان بيقين , وهم يدرون أنهم ظالمون لهم خوف أن يفلت ظالم واحد لا يعرفونه بعينه.
قال أبو محمد : ويلزم من قال بهذا القول على كل حال أن يقصد إلى أهل كل سوق فيقذفهم في الحبس , لأننا ندري أن فيهم آكل ربا بيقين , وشارب خمر بيقين.
وكذلك يلزمهم في قتيل وجد في مدينة أو جزيرة أن يسجنوا جميع أهل تلك المدينة , وأهل الجزيرة , وإلا فقد تناقضوا أفحش تناقض. ورسول الله ﷺ قد أبطل هذا الحكم الفاسد بفعله في أهل خيبر , إذ قتل فيهم عبد الله بن سهل رضي الله عنه فما سجن أحد منهم , بل قنع منهم بالأيمان فقط على من ادعى عليه منهم أو بأيمانهم.
قال أبو محمد : ويبطل هذا أيضا قول الله تعالى {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}
وقوله تعالى {إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} وقول رسول الله ﷺ : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث فلا يحل لأحد الإقدام على أحد بالظن , فكيف وهم هاهنا قد أقدموا بالجور المحض والظلم المتيقن. والواجب في هذا أن لا يسجن واحد منهم , لكن من ادعي عليه حلف المدعون على حكم القسامة , فإن نكلوا حلف هو يمينا واحدة.
وكذلك لو ادعوا على جماعة بأعيانهم كل واحد منهم يحلف يمينا واحدة ويبرأ , لقول رسول الله ﷺ : لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه وإن كان وجد في دار قوم أيضا حكم هنالك بحكم القسامة وبالله تعالى التوفيق.