→ كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2025 - 2026) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2027) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2027) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2027 - مسألة: ومن قتل مؤمنا عمدا في دار الإسلام أو في دار الحرب وهو يدري أنه مسلم فولي المقتول مخير إن شاء قتله بمثل ما قتل هو به وليه: من ضرب، أو طعن، أو رمي، أو صب من حالق، أو تحريق أو تغريق، أو شدخ، أو إجاعة أو تعطيش، أو خنق أو غم، أو وطء فرس، أو غير ذلك لا تحاش شيئا. وإن شاء عفا عنه أحب القاتل أم كره لا رأي له في ذلك، وليس عفو الولي عن القود وسكوته عن ذكر الدية بذلك بمسقط للدية، بل هي واجبة للولي، وإن لم يذكرها، إلا أن يلفظ بالعفو عن الدية أيضا. وإن شاء عفا عنه بما يتفقان عليه، فهاهنا خاصة إن لم يرضه القاتل لم يلزمه، ويكون للولي القود، أو الدية، فإن أبى الولي إلا أكثر من الدية لم يلزم القاتل أن يزيده على الدية وبرة فما فوقها.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وقد اختلف الناس في هذا: فقالت طائفة: ليس لولي المقتول إلا القود فقط، أو العفو، ولا تجب له الدية إلا برضا القاتل، فإن أبى الولي إلا أكثر من الدية ولو أضعافا كثيرة فإن رضي بذلك القاتل جاز ذلك، وإلا فلا صح هذا القول عن إبراهيم النخعي، وعن أبي الزناد
وهو قول أبي حنيفة، وسفيان الثوري ومالك، وابن شبرمة، والحسن بن حي، وأصحابهم. وصح قولنا، عن ابن عباس: روينا من طريق البخاري أنا قتيبة بن سعيد أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} قال: كان في بني إسرائيل القود، ولم تكن فيهم الدية، قال: فالعفو: أن يقبل الدية في العمد يطلب بمعروف، ويؤدي بإحسان.
ومن طريق حماد بن سلمة أنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد، عن ابن عباس في الآية المذكورة هو العمد يرضى أهله بالدية اتباعا من الطالب بالمعروف وأداء إليه من المطلوب بإحسان. وصح أيضا عن مجاهد، والشعبي، وعن عمر بن عبد العزيز: كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قاضي صنعاء قال: كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة قتلت رجلا إن أحب الأولياء أن يعفوا عفوا وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها، وأعطوا امرأته ميراثها من الدية.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، قال: يجبر القاتل على إعطاء الدية، فإن اتفقوا على ثلاث ديات: فهو جائز، إنما اشتروا به صاحبهم.
وهو قول سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين، والأوزاعي، والشافعي وأبي ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي سليمان، وأصحابهم، وجمهور أصحاب الحديث.
قال أبو محمد رضي الله عنه: فنظرنا فيما احتج به أهل هذا القول فوجدنا قول الله عز وجل: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. فالضمير في قوله تعالى: {له} وفي من أخيه راجع إلى القاتل، لا يجوز غير ذلك ; لأنه هو الذي عفي له من ذنبه في قتل أخيه المسلم. وما روينا من طريق البخاري أنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين أنا شيبان عن يحيى، هو ابن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة فذكر حديثا وفيه أن رسول الله ﷺ قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما يودى وأما أن يقاد.
ومن طريق أبي داود السجستاني، أخبرنا مسدد، أخبرنا يحيى بن سعيد القطان، أخبرنا ابن أبي ذئب أنا سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول في خبر فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا فهذا نص جلي لا يحتمل تأويلا بأن الخيار في الدية أو القود إلى ولي المقتول لا إلى القاتل، وقد وافقونا على أنه إن عفا واحد من الأولياء فأكثر: أن الدية واجبة للباقين أحب القاتل أم كره وكذلك عندهم: إذا بطل القود بأي وجه بطل، كالأب قتل ابنه، أو نحو ذلك، فأي فرق بين امتناع القود بهذا وبين امتناعه بعفو الولي. قالوا: ولا يصح خلاف ابن عباس في ذلك عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم،. ثم نظرنا فيما يشغب به أهل القول الذي ذكرنا أولا، فوجدناهم يحتجون: بما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء أنا سعيد بن سليمان أنا سليمان بن كثير أنا عمرو بن دينار عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: من قتل في رميا أو عميا يكون بينهم بحجر أو بسوط أو عصا فعقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فقود يديه، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله، وذكر الحديث.
ومن طريق ابن وهب أخبرني سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن رسول الله ﷺ قال: من اغتبط مؤمنا قتلا فهو موديه إلا أن يرضى ولي المقتول وذكر الحديث وفي آخره: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله والرسول. وبما ناه أحمد بن قاسم حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم أنا جدي قاسم بن أصبغ أنا أحمد بن زهير أنا الحكم بن موسى، أخبرنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود الجزري عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ كتب في كتابه إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم فمن اغتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول. وب
ما روينا من طريق أبي داود أنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، أخبرنا يحيى بن سعيد هو القطان عن عوف الأعرابي عن حمزة أبي عمر العايذي الضبي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن الأوزاعي، قال: كنت عند رسول الله ﷺ إذ جيء بقاتل في عنقه النسعة فقال عليه الصلاة والسلام لمولى المقتول: أتعفو قال: لا، قال: أتأخذ الدية قال: لا، قال: أفتقتل قال: نعم، وفي آخر الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام قال له أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمك وإثم صاحبك فعفا عنه.
ومن طريق أبي داود أنا محمد بن عوف الطائي أنا عبد القدوس بن الحجاج ثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه أن رسول الله ﷺ أتي بقاتل فقال له: هل لك من مال تؤدي ديته قال: لا، قال: أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته قال: لا، قال: فمواليك يعطونك ديته قال: لا، قال لولي المقتول: خذه ثم قال عليه الصلاة والسلام: أما إنه إن قتله كان مثله، وذكر باقي الحديث وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام قال له أرسله يبوء بإثم صاحبك وإثمه، فيكون من أصحاب النار فأرسله.
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عيسى بن يونس الفاخوري أنا ضمرة عن عبد الله بن شوذب عن ثابت البناني عن أنس بن مالك، أن رجلا أتى بقاتل وليه إلى رسول الله ﷺ فقال له عليه الصلاة والسلام: اعف عنه فأبى، فقال: خذ الدية فأبى، قال: اذهب فاقتله، فإنك مثله فذكر الحديث وفيه أنه أرسله. قالوا: ففي حديث ابن عباس، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن حزم: القود إلا أن يرضى أولياء المقتول. وفي حديث وائل بن حجر، وأنس: الفرق بين العفو، وبين أخذ الدية. قالوا: فلو كانت الدية واجبة بالعفو وإن لم يذكرها الولي العامي لاستغنى عليه الصلاة والسلام عن إعادة ذكرها.
قالوا: وفي أحد حديثي وائل أنه استشار القاتل في إعطاء الدية، فلو كانت واجبة عليه ما استشاره في ذلك. قالوا: وقد رويتم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاووس قال: في الكتاب الذي هو عند أبي، وهو عن رسول الله ﷺ كالذي في حديث معمر، وهي في شبه العمد: ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وأربعون خلفة فتية سمينة إذا اصطلحوا في العمد، فهو على ما اصطلحوا عليه قالوا فلم يذكر في العمد دية. وقالوا: قال الله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}.
وقال رسول الله ﷺ: لا يحل مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه. قالوا: فدل هذان النصان على أن مال القاتل لا يجوز أخذ شيء منه إلا بطيب نفس منه. وقالوا: قال الله عز وجل: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. وقالوا: وليس مثل القتل إلا القتل، فلا مدخل للدية هاهنا إلا برضاهما معا. وقالوا:
قال الله عز وجل: {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل}. قالوا: فلم يذكر عز وجل إلا القتل فقط. وقالوا " لا يخلو ولي المقتول من أن يكون له القصاص أو يكون له أيضا أخذ الدية بدلا من القصاص، فإن قلتم هذا
قلنا: لم نجد قط حقا لأنسان أن يكون له أخذ بدل منه إلا برضا الذي عليه الحق، فإن قلتم: له إما القصاص وأما الدية. قلنا: لو كان ذلك لكان إن عفا عن أحدهما لم يجز عفوه ; لأنه لم يجب له بعد بعينه وإنما يجوز عفوه عنه إذا اختاره ثم عفا عنه بعد وجوبه له بعينه. وقالوا: قد روي عن عمر بن الخطاب كما رويتم من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: لا يمنع السلطان ولي الدم أن يعفو إن شاء أو يأخذ العقل إن اصطلحوا عليه، ولا يمنعه أن يقتل إن أبى إلا القتل بعد أن يحق له القتل في العمد. واعترضوا في قول الله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع}. وقالوا: إن الضمير الذي في له وفي من أخيه راجع إلى ولي المقتول، لا إلى القاتل، بمعنى: فمن سمح له القاتل بالدية. واعترضوا في خبر أبي هريرة بأن قالوا: قد رويتم هذا الخبر بعينه بخلاف ذلك اللفظ، لكن كما رويتم من طريق أحمد بن شعيب أنا العباس بن الوليد بن مزيد أرني أبي حدثني الأوزاعي، أخبرنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله ﷺ قال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يقاد، وإإما يفادى.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا الحسن بن موسى عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة أخبره في حديث " أن رسول الله ﷺ قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وأما أن يفادي أهل القتيل قالوا: فلم يذكر دية وهذا قولنا. واعترضوا في خبر أبي شريح الكعبي بأن قالوا: قد رويتموه كما حدثكم أحمد بن قاسم أنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال: أنا عبد الله بن روح أنا يزيد بن هارون، أخبرنا ابن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء السلمي عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله ﷺ: من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار في إحدى ثلاث أشياء: إما أن يعفو، وأما أن يقتص، وأما أن يأخذ العقل. قالوا: فلو وجبت الدية بالعفو وإن لم تذكر لما كان لذكره عليه الصلاة والسلام للدية مع ذكره للعفو مخيرا بينهما معنى. قالوا: ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام " إما أن يقاد
وأما أن يعقل " أن يرضى القاتل كما تقول: خذ بسلعتك كذا وكذا، أي يرضى البائع. هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه لهم، ولا حجة لهم في شيء منه على ما نذكر إن شاء الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما حديث سعيد بن سليمان عن سعيد بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاووس، عن ابن عباس: فلا حجة لهم فيه ; لأنه بإجماع منا ومنهم لم يذكر فيه عفوا، وإنما ذكر فيه القود فقط. فإن قالوا: قد ذكر العفو في غير هذا المكان
قلنا: وقد ذكرت الدية في غير هذا المكان، ولا فرق وزيادة العدل لا يجوز تركها والحنفيون يخالفون هذا الخبر ; لأنهم لا يرون القود للولد من الوالد، فخصه بلا
برهان وكذلك المالكيون ; لأنهم لا يرون القود للعبد من الحر فخصوه أيضا بلا
برهان. وأما حديث ابن أبي ليلى فمرسل، ولا حجة في مرسل ثم هو عن محمد بن عبد الرحمن، وهو سيئ الحفظ.
وأما حديث عمرو بن حزم فساقط ; لأن سليمان بن داود الذي رواه عن الزهري ضعيف الحديث مجهول الحال قال ابن معين وغيره: ثم لو صح هو وحديث ابن أبي ليلى لكانا حجة لنا لا لهم ; لأن فيه: إلا أن يرضى أولياء المقتول ونحن لا ننكر هذا، بل نقول: إنهم إن رضوا بالدية أو بأكثر من الدية، فلهم رضاهم. وخبر أبي شريح، وأبي هريرة: ففيهما زيادة عدل على هذين الخبرين، وزيادة عدلين لا يجوز تركها وكم قضية في خبر عمرو بن حزم المذكور، وقد خالفوها بآرائهم كما ذكرنا في " كتاب الزكاة " وبالله تعالى التوفيق.
وأما حديثا وائل بن حجر فساقطان: أحدهما من رواية أبي عمرو العايذي وهو مجهول وقد روي عن عوف أيضا عن أبي عمرو الضبي، فإن لم يكن ذلك فهو ضعيف وقد روي هذا الخبر مدلسا، ونحن نبينه إن شاء الله عز وجل عليه لئلا يموه به على جاهل بعلوم الحديث، وهو كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق عن عوف الأعرابي عن علقمة بن وائل عن أبيه، قال: جيء بالقاتل وذكر الحديث نفسه فأسقط بين عوف، وعلقمة: أبا عمرو المذكور.
والثاني من رواية سماك بن حرب وهو يقبل التلقين. ثم لو صحا لكانا حجة لنا عليهم ; لأن في أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام قال لولي القاتل: أتعفو قال: لا، قال: أفتأخذ الدية قال: لا، قال: أفتقتل قال: نعم. فجعل رسول الله ﷺ الخيار في العفو أو القود أو أخذ الدية لولي المقتول دون أن يستشير القاتل، أو يلتفت إلى رضاه وهذا قولنا لا قولهم. والآخر أن فيه عليه الصلاة والسلام قال للقاتل: ألك مال تؤدي ديته قال: لا: قال: أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته قال: لا، قال: فمواليك يعطونك ديته قال: لا.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ومن لا مال له، ولا يطمع في أن يجمع له الدية، لا الناس، ولا مواليه الذين لا شيء عليهم من جنايته فلا يجوز تكليفه ما لا يطيق.
وأما خبر أنس فساقط ; لأنه من طريق عبد الله بن شوذب وهو مجهول ثم لو صح لكان حجة لنا كما قلنا في خبر وائل ; لأن فيه تخيير الولي بين أخذ الدية أو القود أو العفو، فكيف وهما خبران موضوعان بلا شك ; لأن فيهما عن رسول الله ﷺ ما لا يمكن أن يقولوه من إيجاب النار على من أخذ حقه الذي أعطاه إياه رسول الله ﷺ ومن أمره عليه الصلاة والسلام إياه فقتل من نهاه عن قتله فهذا تناقض قد نزه الله عز وجل نبيه ﷺ عنه.
وأما قولهم: لو كانت الدية واجبة بالعفو وإن لم يذكر لما كررها عليه الصلاة والسلام فليس كما ظنوا، وإنما ذكر عليه الصلاة والسلام عفوا مطلقا عاما لا عفوا خاصا عن الدم فقط وكذلك نقول: إن عفا عن الدم وحده خاصة، فالدية باقية له، وإن عفا عفوا عاما عن الدم والدية فذلك له.
وأما خبر ابن طاووس عن أبيه فمرسل، ولا حجة في مرسل، ثم هو أعظم حجة على الحنفيين، والمالكيين لخلافهم لما فيه. أما الحنفيون فالدية عندهم في شبه العمد بخلاف ما فيه، لكن أرباعا جذاع، وحقاق، وبنات لبون، وبنات مخاض،
وأما المالكيون فلا يرون في شبه العمد شيئا أصلا. فمن أعجب ممن يحتج بما هو أول مخالف له، ويصححه على من لا يصححه ثم ليس فيه إلا كما في العمد ما اصطلحوا عليه إذا اصطلحوا، ونحن نقول بهذا، ولا نخالفه.
وأما ذكرهم قول الله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}. وقول رسول الله ﷺ: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه فصحيح كل ذلك وهو قولنا. وقد قال الله عز وجل: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. فإذا أوجب الله تعالى الدية، أو رسوله ﷺ فقد وجب أحدهما على رغم أنف الزاعم رضي الذي يؤخذ منه أو كره طابت نفسه، أو خبثت كما قلنا. وقالوا في العاقلة، والزكاة، والنفقات الواجبات، وغير ذلك. ولو أنهم احتجوا على أنفسهم بهذين النصين حيث أوجبوا الدية على عاقلة الصبي، والمجنون، وإن كرهوا ولم تطب أنفسهم، ولا رضوا، ولا أوجبها الله تعالى قط، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام لكان أولى بهم وهذا هو الأكل للمال بالباطل حقا.
وأما قوله عز وجل: {فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} {والحرمات قصاص} و {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} فحق كل ذلك. وقوله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}، وقول رسول الله ﷺ: إما أن يقاد وأما أن يودى حكم زائد على تلك الآيات، وأحكام الله عز وجل، وأحكام رسوله ﷺ كلها حق يضم بعضها إلى بعض، ولا يحل خلاف شيء منها. ولو أنهم احتجوا على أنفسهم بهذه الآيات حيث خالفوها من إسقاطهم القود للولد من أبيه، وإسقاط القود لمن لم يعف من أجل عفو واحد منهم، وإسقاط بعضهم القود للعبد من الحر: لكان أولى بهم.
وأما قوله عز وجل: {فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} فحق، وبه نقول: إذا اختار القود فليقتل قاتل وليه، ولا يحل له أن يسرف فيقتل غير قاتله وليس هاهنا ذكر الدية التي قد ورد حكمها في نص آخر.
وأما قولهم: لا يخلو ولي المقتول من أن يكون له القصاص، أو أخذ الدية بدلا من القصاص. قالوا: ولم نجد قط حقا لأنسان يكون له أخذ بدل منه بغير رضا الذي عليه الحق فهذيان نسوا فيه أقوالهم الفاسدة. إذ قالوا: من كسر قلب فضة لغيره فصاحب القلب يخير بين أخذ قلبه كما هو، ولا شيء له، وإن شاء ضمن قيمته مصوغا غير مكسور من الذهب أحب الكاسر أو أبى. وإذ قالوا: من غصب ثوبا لأخر فقطعه قطعا استهلكه به، كحرق أو خرق في بعضه فإن صاحب الثوب مخير بين أن يأخذ ثوبه وقيمة نقصانه، وإن شاء أعطاه للغاصب وألزمه قيمته صحيحا بخلاف الحكم لو قطعه قميصا. بخلاف القمح إذا طحنه دقيقا والدقيق إذا خبزه خبزا، واللحم إذا طبخه أو شواه، فلم يروا للمغصوب في كل هذا إلا قيمة ما غصب منه فقط وجعلوا القميص، والخبز، والطبخ، والشواء: حلالا للغاصب، بحكم إبليس اللعين. فهذه أبدال أوجبوها بآرائهم الفاسدة فرضا من حقوق واجبة بغير رضا الذي ألزموها إياها، ولا طيب نفسه.
وأما نحن فلا نعترض على أحكام الله عز وجل وأحكام رسوله ﷺ بهذه القضايا الخبيثة وبالله تعالى نتأيد.
وأما قولهم: إن كان له القود أو الدية فلا يجوز عفوه عن أحدهما حتى يختاره فقول سخيف، بل عفوه عن القود جائز، وتبقى له الدية، إلا أن العفو عنها كما أمر الله عز وجل ورسوله ﷺ كما أنه إذا اختار القود: فقد أسقط حقه في الدية، وإذا اختار الدية فقد أسقط حقه في القود، وإذا عفا عن القود بقي حكمه في القسم الآخر وهو الدية وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولهم: إن التخيير زيادة في النص، ولا تجوز الزيادة في النص إلا بما يجوز به النسخ: فصحيح، والنسخ جائز ; لما في القرآن بقرآن، أو سنة ثابتة بخبر الواحد. وهو جائز أيضا للسنة بالقرآن، وبخبر ثابت من طريق الثقات أيضا. فلو أنهم احتجوا على أنفسهم بهذا القول حيث زادوا على النسخ بالأخبار الواهية لكان أولى بهم، كالوضوء بالنبيذ، والمسح على الجبائر، والتدليك في الغسل وكإيجاب الديات في كثير من الأعضاء بقياس، أو رواية ساقطة أو تقليد بغير نص وبالله تعالى التوفيق.
وأما روايتهم ذلك عن عمر بن الخطاب فلا تصح ; لأنها عن عمر بن عبد العزيز، عن عمر بن الخطاب ولم يولد عمر رحمه الله تعالى إلا بعد موت عمر رضي الله تعالى عنه بنحو سبع وعشرين سنة ولو صح لكان الثابت، عن ابن عباس خلافا له.
وأما تعلقهم في قول الله عز وجل: {فمن عفي له من أخيه شيء} أن الضمير راجع إلى القاتل، فدعوى كاذبة، ومحال لا يجوز ; لأنها دعوى بلا دليل، وتكلف ظاهر البطلان مع أنه خلاف لقول المالكيين منهم ; لأن في الآية: فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فقالوا هم: بل نتبع بضرب مائة سوط ونفي سنة بلا نص أوجب ذلك أصلا، ولا رواية عن صاحب، ولا يشك ذو فهم أن المعفو له من ديته في أخيه هو القاتل، وأما ولي المقتول فلم يعف له شيء من أخيه، وحتى لو كان معناه ما تأولوه بالباطل لكان مخالفا لأقوالهم ; لأنه لا يوجب ذلك مراعاة رضا الولي، بل كان يكون الخيار حينئذ للقاتل فقط وهذا لا يقوله أحد على ظهر الأرض لا هم، ولا غيرهم فصح أن تأويلهم في الآية محال باطل ممتنع لا يحل القول به أصلا والحمد لله رب العالمين. وأما اعتراضهم في خبر أبي هريرة بأنه قد روى فيه أيضا: إما أن يقاد وأما أن يفادى أهل القتيل: فصحيح، وهو معنى ثالث، وبه نقول، وهو اتفاقهم كلهم القاتل وأولياء القتيل على فداء القاتل بأكثر من الدية، ولا يحل ترك شيء مما صح، ولا ضرب بعضه ببعض فهذا هو التلاعب بالدين، وكيد الإسلام جهارا ونعوذ بالله من ذلك. وليس ترك الصحيح مما في ذلك الخبر من أن يقاد أو يودى من أجل ما قد صح أيضا من أن يقاد أو يفادى بأولى من آخر خالف الحق، فترك قوله عليه الصلاة والسلام: أن يفادى من أجل قوله: أو يودى وكل ذلك باطل فصح أن أخذ كل ذلك، وضم بعضه إلى بعض: هو الحق الذي لا يجوز خلافه.
وأما اعتراضهم في خبر أبي شريح برواية سفيان بن أبي العوجاء: فسفيان مجهول لا يدرى من هو ثم العجب كله من احتجاجهم به، وهم مخالفون ما فيه ; لأن فيه: إيجاب القود في الجراح جملة، وهم لا يرون القود في شيء من الجراح إلا في الموضحة وحدها فقط، فيا للمسلمين في أي باب يقع احتجاج المرء على خصمه بما يخالف وهو يصححه وخصمه لا يصححه. ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم ; لأن فيه التخيير للمجروح، أو لولي المقتول بين القود، أو الدية، أو العفو دون اشتراط رضا الجاني وهذا عجب آخر، ورضا بالتمويه المفتضح من قرب ونسأل الله تعالى العافية.
وأما قولنا بأن كل ما ذكرنا فهو من قتل عمدا مسلما في دار الحرب، وهو يدري أنه مسلم في دار الحرب، كما لو فعل ذلك في دار الإسلام، ولا فرق، فلعموم نص القرآن، والسنة التي أوردنا في ذلك، ولم يخص إحدى الدارين من الأخرى وما كان ربك نسيا.
وهو قول مالك، والشافعي، وأبي سليمان، وجميع أصحابهم وبه نأخذ.
وأما أبو حنيفة فقال: إن قتل مسلم مسلما عمدا في أرض الحرب وكان المقتول غير ساكن في أرض الحرب فلا قود فيه أصلا، إنما فيه الدية فإن كان المسلم المقتول ساكنا في أرض الحرب فعلى قاتله عمدا وهو يدري أنه مسلم الكفارة فقط، ولا قود فيه، ولا دية.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ولا ندري من أين أخرج هذا القول السخيف، ولا من تقدمه إليه والعجب أن المبتلين من الله تعالى بتقليده موهوا في ذلك: بما رويناه من طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو خالد الأحمر عن الأعمش عن أبي ظبيان عن أسامة بن زيد، قال: بعثنا رسول الله ﷺ فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته لرسول الله ﷺ قال رسول الله ﷺ أقال: لا إله إلا الله وقتلته قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ. وبما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: بعث رسول الله ﷺ خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، وجعل خالد فيهم أسرا وقتلا، ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، حتى إذا أصبح يوما أمرنا خالد بن الوليد أن يقتل كل واحد منا أسيره، فقال ابن عمر: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، فقدمنا على رسول الله ﷺ فذكر له صنيع خالد فقال النبي ﷺ اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد.
ومن طريق أبي داود أنا هناد بن السري أنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بعث رسول الله ﷺ سرية إلى خثعم فاعتصموا بالسجود، فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي ﷺ فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله لم قال: لا تراءى ناراهما.
قال أبو محمد رضي الله عنه: لا يصح في هذا الباب شيء غير هذه الأحاديث:
وأما حديث اليمان والد حذيفة رضي الله عنه ففيه زياد بن عبد الله البكائي وليس بالقوي.
وأما حديث ملجم بن قدامة وقتله عامر بن الأضبط، وإعطاء النبي ﷺ الدية فيه، ومنعه من القود، ففيه زياد بن ضميرة وهو مجهول بل إنه يصح في حديث ملجم المذكور: ما ناه حمام بن أحمد أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا أحمد بن زهير بن حرب أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع عن عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله ﷺ إلى أطم، فلقينا عامر بن الأضبط هو أشجعي فحيانا بتحية الإسلام فقام إليه الملجم بن جثامة هو ليثي كناني فقتله ثم سلبه، فلما قدمنا على رسول الله ﷺ أخبرناه فنزلت: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا .
قال أبو محمد رضي الله عنه: كل هذه الأخبار حجة عليهم ; لأن خالدا لم يقتل بني جذيمة إلا متأولا أنهم كفار، ولم يعرف أن قولهم: صبأنا، صبأنا إسلام صحيح،
وكذلك أسامة بلا شك، وحسبك بمراجعته رسول الله ﷺ في ذلك، وقوله: إنما قالها من خوف السلاح وهو والله الثقة الصادق الذي ثبت أنه لم يقل إلا ما في نفسه.
وكذلك السرية التي أسرعت بالقتل في خثعم وهم معتصمون بالسجود، وإذ هم متأولون فهم قاتلو خطأ بلا شك، فسقط القود. ثم نظرنا فيهم فوجدناهم كلهم في دار الحرب في قوم عدو لنا، فسقطت الدية بنص القرآن، ولم يبق إلا الكفارة، فلا بد من أحد أمرين ضرورة: إما أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بها فسكت الراوي عن ذلك.
وأما أن الآية التي فيها: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة لم تكن نزلت بعد، فلا شيء عليهم إلا الأستغفار والدعاء إلى الله عز وجل فقط.
فإن قيل: كيف يقول متأولا ورسول الله ﷺ يبرأ إلى الله تعالى من فعله
قلنا: نعم، قد برئ رسول الله ﷺ من كل خطأ خالف الحق، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل منه وإن كان فاعله مأجورا أجرا واحدا، ولم يبرأ رسول الله ﷺ من خالد قط، إنما برئ من فعله، وهكذا نقول نبرأ إلى الله عز وجل من كل تأويل أخطأ فيه المتأول، ولا نبرأ من المتأول ولو برئ عليه الصلاة والسلام من خالد لما أمره بعدها فصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
فإن قيل: فما وجه إعطاء رسول الله ﷺ خثعما نصف الدية
قلنا: فعل ذلك تفضلا، وصلة واستئلافا على الإسلام فقط، ولو وجبت لهم دية لما منعهم عليه الصلاة والسلام منها وبرة فما فوقها. فلما بطل احتجاج الحنفيين لقولهم الخبيث بهذه الأخبار في إسقاط القود، والدية عمن تعمد قتل مسلم يدري أنه مسلم وإن كان ساكنا في أرض الحرب وفي إسقاطهم القود فقط عن المتعمد قتل المسلم في عسكر المسلمين في دار الحرب، إذ قد صح أنها كلها قتل خطأ لا قتل عمد فظهر فساد قولهم بيقين.
فإن قيل: فقد برئ عليه الصلاة والسلام من كل مسلم سكن بين أهل دار الحرب
قلنا: لو كان هذا مبيحا لتعمد قتله لبطل قولكم في إيجاب الكفارة في ذلك، وإنما معناه: أنه جان على نفسه بذلك، فإن قتله من لا يدري أنه مسلم فلا قود، ولا دية، إنما فيه الكفارة فقط ; بنص القرآن. ثم زادوا ضلالا فاحتجوا في ذلك بخبر ساقط موضوع: أن النبي ﷺ قال: لا تقطع الأيدي في السفر فكان هذا عجبا ; لأنهم أول مخالف لهذا الخبر، فيقطعون الأيدي في السفر، فلا ندري من أين وقع لهم تخصيص دار الحرب بذلك ثم لو صح لهم ذلك لكان إسقاطهم القود، والدية، أو القود فقط على ترك قطع الأيدي هوسا ظاهرا وقد أعاذ الله رسوله عليه الصلاة والسلام من أن يريد النهي عن القود، والدية في قتل نفس المسلم عمدا في أرض الحرب فيدع ذكر ذلك ويقتصر على النهي عن قطع الأيدي في السفر هذا لا يضيفه إلى رسول الله ﷺ إلا كذاب ملعون متعمد الكذب عليه عليه الصلاة والسلام.