→ كتاب الدماء والقصاص والديات | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2022 - 2024) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2025) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2022 - مسألة: لا ذنب عند الله عز وجل بعد الشرك أعظم من شيئين:
أحدهما: تعمد ترك صلاة فرض حتى يخرج وقتها.
الثاني: قتل مؤمن أو مؤمنة عمدا بغير حق.
أما الصلاة فقد ذكرناها في " كتاب الصلاة ". وأما القتل ؛ فقال عز وجل: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ}. وقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}.
روينا من طريق البخاري ؛ أخبرنا علي، هو ابن عبد الله، أخبرنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما.
قال البخاري: وحدثنا أحمد بن يعقوب، أخبرنا إسحاق، هو ابن سعيد المذكور عن أبيه أنه سمعه يحدث، عن ابن عمر، أنه قال " إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حله ".
2023 - مسألة: والقتل قسمان: عمد، وخطأ. برهان ذلك: الآيتان اللتان ذكرنا آنفا.
فلم يجعل عز وجل في القتل قسما ثالثا. وادعى قوم أن هاهنا قسما ثالثا، وهو عمد الخطأ وهو قول فاسد ; لأنه لم يصح في ذلك نص أصلا، وقد بينا سقوط تلك الآثار في " كتاب الإيصال " والحمد لله رب العالمين.
مع أن الحنفيين، والشافعيين القائلين بشبه العمد هم مخالفون لتلك الآثار الساقطة التي موهوا بها فيما فيها من صفة الدية، وغير ذلك على ما بينا في غير هذا الموضع وهو عندهم ينقسم قسمين:
أحدهما: ما تعمد به المرء مما قد يمات من مثله وقد لا يمات من مثله.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا عمد وفيه القود أو الدية، كما في سائر العمد ; لأنه عدوان، وقال عز وجل: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
والثاني: ما تعمد به مما لا يموت أحد أصلا من مثله، فهذا ليس قتل عمد، ولا خطأ، ولا شيء فيه إلا الأدب فقط. ومن عجائب الأقوال هاهنا أن الحنفيين يقولون: من أخذ حجرا من قنطار فضرب متعمدا رأس مسلم، ثم لم يزل يضربه به حتى شدخ رأسه كله: فإنه لا قود فيه، وليس قتل عمد.
وكذلك لو تعمد ضرب رأسه بعود غليظ حتى يكسره كله ويسيل دماغه ويموت، ولا فرق.
وقال المالكيون: من ضرب بيده في فخذ مسلم فمات المضروب إثر الضربة: ففيه القود، ويقتل الضارب. وسماع هذين القولين يكفي من تكلف الرد عليهما.
قال أبو محمد رضي الله عنه: فالخطأ من رمى شيئا فأصاب مسلما لم يرده بما قد يمات من مثله فمات المصاب، أو وقع على مسلم فمات من وقعته فهذا كله لا خلاف في أنه قتل خطأ لا قود فيه. أو قتل في دار الحرب إنسانا يرى أنه كافر فإذا به مسلم، أو قتل إنسانا متأولا غير مقلد وهو يرى أنه على الحق فإذا به على الخطأ.
برهان قولنا في القاتل في دار الحرب: قول الله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة}. " من " هاهنا بمعنى " في " لأنه لا خلاف بين أحد في أن قوما كفارا حربيين أسلم منهم إنسان وخرج إلى دار الإسلام فقتله مسلم خطأ: فإن فيه الدية لولده، والكفارة فصح بذلك ما قلنا والحمد لله رب العالمين.
وأما المتأول؛ فلما روينا من طريق أبي داود السجستاني، أخبرنا مسدد، أخبرنا يحيى بن سعيد القطان، أخبرنا ابن أبي ذئب حدثني سعيد، هو ابن أبي سعيد المقبري سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله ﷺ: يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله ومن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا.
قال أبو محمد رضي الله عنه: فلا شك أن خزاعة قتلوه متأولين أن لهم قتله وهكذا نقول فيمن قامت عليه الحجة من النص ثم قتل متماديا على تأويله الفاسد، المخالف للنص، أو على تقليد من تأول فأخطأ: فعليه القود.
وهذا الخبر زائد على خبر أسامة بن زيد وخالد - رضي الله عنهما في قتل خالد من قتل من بني خذيمة متأولا وفي قتل أسامة: الرجل الذي قال: لا إله إلا الله والزيادة لا يجوز تركها.
2024 - مسألة: ولا قود على مجنون فيما أصاب في جنونه، ولا على سكران فيما أصاب في سكره المخرج له من عقله، ولا على من لم يبلغ، ولا على أحد من هؤلاء: دية، ولا ضمان، وهؤلاء والبهائم سواء.
لما ذكرنا في " الطلاق " وغيره من الخبر الثابت في رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق والسكران لا يعقل
وقد ذكرنا خبر حمزة رضي الله عنه في قوله لرسول الله ﷺ ما لو قاله في صحته لخرج بذلك عن الإسلام وعقره ناقتي علي رضي الله عنه فلم يجعل رسول الله ﷺ في ذلك ملامة، ولا غرامة.
وقال بعضهم: لو كان هذا ما شاء واحد أن يقتل أحدا أو يفسد ماله إلا تساكر حتى يبلغ ما يريد.
فقلنا لهم: فقولوا هذا الكلام في المجنون، فقولوا: لو كان هذا لما شاء أحد أن يقتل أحدا، أو يتلف ماله إلا تحامق وتجنن، حتى يبلغ من ذلك ما يريد، ولا فرق. فقالوا: ومن يعرف أنه سكران. فقلنا: ومن يعرف أنه مجنون
قال أبو محمد رضي الله عنه: والحق المتيقن في هذا: أن الأحكام لازمة لكل بالغ حتى يوقن أنه ذاهب العقل بجنون أو سكر.
وأما ما لم يوقن ذلك، فالأحكام له لازمة وحال ذهاب العقل بأحد هذين الوجهين لا يخفى على من يشاهده. وقد وافقنا المخالفون لنا في هذا المكان على أن لا يؤخذ السكران بارتداده عن الإسلام وهذا أشنع من كل ما سواه. فإن قالوا: فهلا جعلتم في ذلك دية. قلنا: لقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام. فأموال الصبي والمجنون والسكران حرام بغير نص، كتحريم دمائهم، ولا فرق، ولا نص في وجوب غرامة عليهم أصلا. وجاءت عمن دون رسول الله ﷺ في ذلك آثار:
أما الصبي فجاء عن علي بن أبي طالب أثر بأن ستة صبيان تغاطوا في النهر فغرق أحدهم فشهد اثنان على ثلاثة، وشهد الثلاثة على الاثنين، فجعل علي على الاثنين ثلاثة أخماس الدية، وجعل على الثلاثة خمسي الدية. وهذا لا يصح ألبتة ; لأنه من رواية سلمة بن كهيل، أو حماد بن أبي سليمان: أن علي بن أبي طالب وكلاهما لم يولد إلا بعد موت علي.
ومن طريق الحجاج بن أرطاة وهو هالك. ثم لو صح لكان المالكيون، والحنفيون، والشافعيون مخالفون له، وإنما يكون الشيء حجة على من صححه، لا على من لم يصححه.
وروي إيجاب الغرامة على عاقلة الصبي عن الزهري، وحماد بن أبي سليمان، وإبراهيم النخعي، وقتادة. وبه يقول أبو حنيفة.
وروي عن ربيعة، أنه قال: إذا كان الصبي صغيرا جدا فلا شيء على عاقلته، ولا في ماله وإن كان يعقل فالدية على عاقلته. وبه يقول مالك.
وقال الشافعي: هي في ماله بكل حال.
قال أبو محمد رضي الله عنه: فهذه مناقضات ظاهرة، وأقوال بلا دليل، لا من قرآن، ولا سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا رواية عن صاحب أصلا، ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل متيقن. وقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يقاس على العامد، وقياسه على الخطأ باطل لو كان القياس حقا ; لأنه لا يقاس عندهم الشيء إلا على نظيره ومشبهه، ولا شبه بين العاقل البالغ وبين الصبي المجنون أصلا فبطل كل ما قالوه وبالله تعالى التوفيق. وقد أجمعوا على سقوط الكفارة في ذلك عنه، فلو كان القياس حقا لكان إسقاط الدية قياسا على سقوط الكفارة في ذلك أصح قياس يوجد، ولكنهم لا النصوص يتبعون، ولا القياس يحسنون، ولا الصحابة يقلدون.
وأما المجنون فحدثنا أحمد بن عمر بن أنس أنا عبد الله بن الحسين بن عقال أنا إبراهيم بن محمد الدينوري أنا محمد بن أحمد بن الجهم أنا جعفر بن محمد الصائغ أنا عفان، هو ابن مسلم أنا صخر بن جويرية عن نافع مولى ابن عمر قال: إن مجنونا على عهد ابن الزبير دخل البيت بخنجر فطعن ابن عمه فقتله فقضى ابن الزبير بأن يخلع من ماله ويدفع إلى أهل المقتول.
ومن طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه: أن عبد الله بن الزبير قال: جناية المجنون في ماله.
قال أبو محمد: وهذان الأثران في غاية الصحة.
ومن طريق الحسين بن عبد الله بن ضمرة عن أبيه عن جده عن علي قال: جناية الصبي، والمجنون على عاقلتهما. وهذا لا يصح ; لأن الحسين بن عبد الله، وأباه، وجده: لا خير فيهم.
ومن طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري: أن مروان كتب إلى معاوية في مجنون قتل رجلا فكتب إليه معاوية: اعقله، ولا تقد منه. وهذا لا يصح ; لأن يحيى بن سعيد الأنصاري لم يولد إلا بعد موت معاوية.
وروينا عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار على المجنون العقل، ولا يصح عنهما ; لأنه عن مخرمة بن بكير عن أبيه، ولم يسمع من أبيه شيئا. ورويناه أيضا عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ومحمد بن جعفر بن الزبير جناية المجنون على عاقلته. ولا يصح عنهما ; لأنه عمن لم يسم عنهما إلا أنه صحيح عن الزهري، وأبي الزناد، ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ . وقد خالف الحنفيون، والمالكيون، والشافعيون في هذا ما صح، عن ابن الزبير، ولم يصح قط عن أحد من الصحابة خلافه. ولا حجة لهم فيما روي عن معاوية ; لأنه ليس فيه: أن الغرامة في مال المجنون، ولا أنها على عاقلته: إنما فيها: أنه أمر مروان بأن يعقله وظاهر الأمر أنه عقله من بيت المال، ولو فعل الإمام هذا لكان حسنا، وليس واجبا وهذا ما خالفوا فيه النصوص، ومما صح عن الصاحب الذي لا يصح لقوله خلاف عن أحد منهم، والقياس: إذ قاسوا ما جنى المجنون القاصد على ضده وهو ما جناه العاقل المخطئ ولم يقيسوا إسقاط الدية على إسقاطهم الكفارة في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
فأما السكران فروينا عن علي بن أبي طالب: أن سكارى تضاربوا بالسكاكين. وهم أربعة فجرح اثنان، ومات اثنان: فجعل علي دية الاثنين المقتولين على قبائلهما، وعلى قبائل اللذين لم يموتا، وقاص الحيين من ذلك بدية جراحهما، وأن الحسن بن علي رأى أن يقيد للحيين للميتين ولم ير علي ذلك، وقال: لعل الميتين قتل كل واحد منهما الآخر وهذا لا يصح عن علي ; لأنه من طريق فيها سماك بن حرب عن رجل مجهول، رواه حماد بن سلمة عن سماك، فقال: عن عبيد بن القعقاع. ورواه أبو الأحوص عن سماك فقال: عن عبد الرحمن بن القعقاع، وكلاهما لا يدرى من هو وسماك يقبل التلقين. ولو صح لكان مخالفا لقول الحنفيين، والشافعيين، والمالكيين.
ومن طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الرحمن بن أبي الزناد: أن معاوية أقاد من السكران، قال ابن أبي الزناد: وكان القاتل محمد بن النعمان الأنصاري والمقتول عمارة بن زيد بن ثابت.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذا لا يصح ; لأن يحيى لم يولد إلا بعد موت معاوية، وعبد الرحمن بن أبي الزناد في غاية الضعف، أول من ضعفه: مالك، ولا نعلم في هذا الباب عن أحد من الصحابة شيئا غير ما ذكرنا وصح عن الزهري، وربيعة.وبه يقول أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يقاد من السكران، ولا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ وهذا مما خالفوا فيه النصوص وما روي عن الصحابة، والقياس، كما ذكرنا.
قال أبو محمد رضي الله عنه: روينا من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: أن في كتاب لأبيه عن عمر بن الخطاب قال: لا قود، ولا قصاص، ولا حد، ولا جراح، ولا قتل، ولا نكال على من لم يبلغ الحلم حتى يعلم ما له في الإسلام، وما عليه. وقد صح عن عثمان بن عفان: أن السكران لا يلزمه طلاق فصح أنه عنده بمنزلة المجنون وبهذا يقول أبو سليمان، والمزني، والطحاوي، وغيرهم. وإيجاب الغرامة شرع، فإذا كان بغير نص قرآن أو سنة فهو شرع من الدين لم يأذن به الله ونعوذ بالله من هذا.
قال أبو محمد رضي الله عنه: إلا أن من فعل هذا من الصبيان، أو المجانين، أو السكارى في: دم، أو جرح، أو مال: ففرض ثقافه في بيت ليكف أذاه، حتى يتوب السكران، ويفيق المجنون، ويبلغ الصبي. لقول الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وتثقيفهم تعاون على البر والتقوى، وإهمالهم تعاون على الإثم والعدوان وبالله تعالى التوفيق.