→ كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2101 - 2103) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2104 - 2112) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2113 - 2115) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2104 - مسألة: من استسقى قوما فلم يسقوه حتى مات
قال علي : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن الأشعث عن الحسن أن رجلا استسقى على باب قوم فأبوا أن يسقوه , فأدركه العطش فمات , فضمنهم عمر بن الخطاب عن ديته
قال أبو محمد : القول في هذا عندنا وبالله تعالى التوفيق هو أن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء له ألبتة إلا عندهم , ولا يمكنه إدراكه أصلا حتى يموت , فهم قتلوه عمدا وعليهم القود بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا ، ولا يدخل في ذلك من لم يعلم بأمره , ولا من لم يمكنه أن يسقيه , فإن كانوا لا يعلمون ذلك ويقدرون أنه سيدرك الماء , فهم قتلة خطأ , وعليهم الكفارة , وعلى عواقلهم الدية ، ولا بد.
برهان ذلك : قوله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} , وقال تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ,
وقال تعالى {والحرمات قصاص} , وبيقين يدري كل مسلم في العالم أن من استقاه مسلم وهو قادر على أن يسقيه فتعمد أن لا يسقيه إلى أن مات عطشا فإنه قد اعتدى عليه , بلا خلاف من أحد من الأمة , وإذا اعتدى فواجب بنص القرآن أن يعتدى على المعتدي بمثل ما اعتدى به فصح قولنا بيقين لا إشكال فيه.
وأما إذا لم يعلم بذلك فقد قتله , إذ منعه ما لا حياة له إلا به , فهو قاتل خطأ , فعليه ما على قاتل الخطأ.
قال أبو محمد : وهكذا القول , في الجائع , والعاري , ولا فرق وكل ذلك عدوان , وليس هذا كمن اتبعه سبع فلم يؤوه حتى أكله السبع , لأن السبع هو القاتل له , ولم يمت في جنايتهم , ولا مما تولد من جنايتهم , ولكن لو تركوه فأخذه السبع وهم قادرون على إنقاذه فهم قتلة عمد , إذ لم يمت من شيء إلا من فعلهم وهذا كمن أدخلوه في بيت ومنعوه حتى مات , ولا فرق وهذا كله وجه واحد وبالله تعالى التوفيق.
2105 - مسألة: دية الكلب
قال أبو محمد : حدثنا أحمد بن عمر ، حدثنا أبو ذر الهروي ، حدثنا أحمد بن عبدان الحافظ النيسابوري في داره بالأهواز ، حدثنا محمد بن سهل المقرئ ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين قال لي قتيبة : حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن إسماعيل ، هو ابن جساس أنه سمع عبد الله بن عمرو : قضى في كلب الصيد أربعين درهما.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يعلى بن عطاء عن إسماعيل بن جساس قال : كنت عند عبد الله بن عمرو فسأله رجل ما عقل كلب الصيد قال : أربعون درهما , قال : فما عقل كلب الغنم قال شاة من الغنم , قال : فما عقل كلب الزرع قال : فرق من الزرع قال : فما عقل كلب الدار قال : فرق من تراب حق على القاتل أن يؤديه , وحق على صاحبه أن يقبله , وهو ينقص من الأجر وفي الكلب الذي ينبح , ولا يمنع زرعا , ولا دارا إن طلبه صاحبه ففرق من تراب , والله إنا لنجد هذا في كتاب الله تعالى
قال أبو محمد : فهذا حكم صاحب لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنه مخالف إلا في الصائد خاصة لا فيما سواه
كما روينا عن عقبة بن عامر قال : قتل رجل في خلافة عثمان كلبا لصيد لا يعرف مثله في الكلاب , فقوم بثمانمائة درهم , فألزمه عثمان تلك القيمة.
قال أبو محمد : وبقي كلب الغنم , وكلب الزرع , وكلب الدار , لا نعرف مخالفا في شيء منه لعبد الله بن عمرو بن العاص , وهم يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة ، ولا سيما مثل هذا , وهم قد خالفوا هاهنا عبد الله بن عمرو كما ترى بلا مئونة.
وأما نحن فلا حجة عندنا في قول أحد دون رسول الله ﷺ . وليس في الكلب إلا كلب مثله , قال تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} , إلا أن يكون أسود ذا نقطتين فلا شيء فيه أصلا , وقد أحسن من قتله.
وكذلك إن كان كلبا لا يغني زرعا , ولا ضرعا , ولا صيدا , فلا شيء فيه أصلا , لأن هذين ينهى عن اتخاذهما جملة وبالله تعالى التوفيق.
2106 - مسألة: إقالة ذي الهيئة عثرته
قال علي : حدثنا يوسف بن عبد الله النمري ، حدثنا يوسف بن أحمد ، حدثنا العقيلي ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا العطاف ثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله ﷺ : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ، حدثنا أحمد بن علي الكسائي النحوي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن محمد السري ، حدثنا إسماعيل بن محمد بن قيراط ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا عثمان ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة عن رسول الله ﷺ قال : أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم.
قال علي : عن العقيلي لا يصح في هذا شيء , والعطاف ضعيف , وعبد الرحمن بن محمد مجهول ضعيف
وكذلك الإسناد الآخر أيضا ضعيف.
قال علي : وليس فيه إسقاط حد , ولا قصاص , وقد قال رسول الله ﷺ : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ,
وقال الله تعالى {إنما المؤمنون إخوة} فإذا كانوا إخوة فهم نظراء في الحكم كله.
وقال رسول الله ﷺ : إنما هم كذلك بنو إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد , والذي نفسي بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها أو كما قال عليه الصلاة والسلام مما ذكرناه بإسناده فيما خلا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : فلو صح هذا وهو لا يصح لكان ذلك محمولا على ظاهره في العثرة تكون مما لا يوجب حدا ، ولا حكما في قود , أو قصاص وبالله تعالى التوفيق.
2107 - مسألة: قوم أقر كل واحد منهم بقتل قتيل وبرأ أصحابه
قال علي : روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل اتهم بقتله رجلان أخوان فخاف أبوهما أن يقتلا , فقال أبوهما : أنا قتلته فقال كل واحد من الأخوين : أنا قتلته وبرأ بعضهم بعضا فقال الزهري في ذلك إلى أولياء المقتول فيحلفون قسامة الدم على أحدهم.
قال أبو محمد : لسنا نقول هذا , بل نقول : إن أولياء المقتول إن صدقوهم كلهم فلهم القود من جميعهم , أو ممن شاءوا , ولهم الدية على ما قدمنا أو المفاداة فإن كذبوا بعضهم وصدقوا بعضهم فلهم على من صدقوه القود , أو الدية , أو المفاداة , وقد برئ من كذبوه.
برهان ذلك : أنهم إذا صدقوهم كلهم فقد صح لهم حق القود أو الدية , بإقرار كل واحد منهم , وكل حق وجب فلا يسقط إلا بنص , أو إجماع , ومن أقر بحق فلا يجوز تحليف المقر له بالحق , إذ إنما يحلف المدعى عليه إذا أنكر لا المدعي , فلا يجوز هاهنا تحليف من صدقت دعواه.
وأما إذا كذبوا منهم بعضا فقد برءوا من أكذبوه وسقط حكم الإقرار إذا لم يصدقه المقر له , كسائر الحقوق ، ولا فرق.
وكذلك لو كذبوهم كلهم فقد برئ المقرون وبطل إقرارهم , إذ قد أسقط المقر لهم حقهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وقول المقر : أنا وحدي قتلت فلانا ولم يقتله هذا معي , والآخر منكر لتبرئته إياه , ومقر بقتل ذلك المقتول , فواجب أن يلزم كل واحد منهما ما أقر به على نفسه , لأنه إقرار تام , وتكون تبرئته لمن أبرأ باطلا , لأنه ليس عدلا فتقبل شهادته , وحتى لو كان عدلا لما جاز هاهنا قبول شهادته , لأن الشهادة إنما تقبل في الإيجاب لا في النفي. ولا يختلف اثنان في أن رجلا لو ادعى على زيد مالا أو حقا فشهد له عدول بأنه لا شيء له عنده لكانت شهادته فاسدة لا تقبل , ولا تبرئ المشهود له بها إلا بأن يزيدوا في شهادتهم إيجابا , مثل أن يقولوا : وذلك أننا ندري أنه أبرأه من الحق , أو قد أداه إليه أو نحو هذا وبالله تعالى التوفيق.
2108 - مسألة: الخشبة تخرج من الحائط والقصار ينضح والقصاب كذلك وإخراج شيء في طريق المسلمين , والرحى , والخفان , والنعلان في المسجد , والقاعد فيه , والقنديل , وظلال السوق , ومن رش أمام بابه
قال أبو محمد : روينا عن إبراهيم النخعي : إذا أخرج الرجل الصلاية أو الخشبة , في حائطه ضمن. وعن وكيع ، حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن شريح أنه كان يضمن بوري السوق وعموده. وعن وكيع ، حدثنا سفيان عن جابر عن عامر قال : إذا نضح القصار , أو القصاب ضمن. وعن الحسن أبي مسافر قال : إن كنيفا وقع على صبي فقتله أو جرحه قال شريح : لو أتيت به لضمنته. وعن محمد النفيلي : أن رجلا أخرج صلاية في حائطه فمزقت مزادة من أدم فضمنه شريح.
ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عتيبة عن علي بن أبي طالب قال : من أخرج رحى من ركن داره فعقرت رجلا ضمن. وعن الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن شريح مثله.
ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن مجاهد عن أبيه قال :
قال علي : من حفر بئرا , أو فرض غورا ضمن. وعن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب قال : ضمن شريح البادي , وظلال أهل السوق , إذا لم يكن في ملكهم , وضمن أهل العمود. وعن الحكم بن عتيبة عن حماد بن أبي سليمان عن رجل توضأ وصب ماءه في الطريق قال حماد : يضمن وقال الحكم : لا يضمن. وعن شعبة عن الحكم , وحماد في الرجل السوقي ينضح بين يدي بابه ماء فيمر به إنسان فيزلق قال حماد : يضمن وقال الحكم : لا يضمن.
قال أبو محمد : فهذا عن علي , وشريح , والنخعي , وحماد. وقال الحسن بن حي : من أحدث في الطريق حدثا من نضح , أو ماء , أو حجر , أو شيئا أخرجه من داره في الطريق من ظلة , أو جناح : فهو ضامن لما عطب فيه. وقال الأوزاعي : من أخرج كنيفا أو جذعا إلى الطريق فأعنت أحدا ضمن ذلك. وقال الليث : إن أخرج عودا , أو حجرا , أو خشبة , من جداره , فمر به إنسان فجرحه , أو قتله , فإن كان لا يعرف من صنيع الناس ضمن به.
وقال الشافعي : واضع الحجر في أرض لا يملكها ضامن.
وأما أبو حنيفة , وأصحابه , فلهم هاهنا أقوال طريفة نذكر منها ما يسر الله تعالى : فمنها ، أنه قال : من قعد في مسجد في غير صلاة فعطب به إنسان ضمن , فإن كان في صلاة لم يضمن , وإن كان في غير صلاة ضمن. وقال أبو يوسف , ومحمد : لا يضمن في كلا الوجهين. وقالوا كلهم : من أخرج من داره ميزابا فسقط على إنسان فقتله , فإن أصابه ما كان خارجا من الحائط ضمن , وإن أصابه ما كان في الحائط فلا شيء عليه , فإن جهل ما أصابه فالقياس أن لا يضمن ولكن قالوا : ندع القياس ونستحسن فنضمنه. وإن وضع في الطريق حجرا ضمن ما أصابه. قالوا : فإن استأجر رجلا على شيء يحدثه في فنائه , فعطب به إنسان ضمن , المستأجر فلو استأجره ليحفر في غير فنائه , فإن الضامن لما يتلف بذلك الأجير.
قال أبو محمد : أما عند أصحابنا فلا يضمن عندهم أحد في شيء من ذلك , فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب علينا أن ننظر في ذلك لنعلم الحق من ذلك فنتبعه.
فنظرنا في قول من قال بالتضمين فوجدناهم يذكرون :
ما روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن عيينة عن عمرو عن الحسن قال : قال رسول الله ﷺ : من أخرج من حده شيئا فأصاب إنسانا فهو ضامن. حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا محمد بن أيوب الرقي ، حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، حدثنا عمرو بن مالك الصائغ عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي ﷺ قال : من أخرج عن حده شيئا فأصاب به إنسانا فهو ضامن. وقد روي ذلك عن علي , ولا يعرف له مخالف من الصحابة ، رضي الله عنهم ،.
قال أبو محمد : ما نعلم لهم شيئا غير هذا , وكل هذا لا شيء : أما الخبر المذكور فلا يصح , لأنه مرسل عن الحسن , والمرسل لا حجة فيه , ولم يسنده أحد إلا حماد بن مالك , وليس بالقوي , قاله البزار وغيره فسقط التعلق به.
وأما الرواية عن علي فباطلة , لأنها عن الحجاج بن أرطاة , وعبد الوهاب بن مجاهد وكلاهما في غاية السقوط ثم عن الحكم , ومجاهد وكلاهما لم يدرك علي بن أبي طالب فسقط الخبر جملة , إلا عن إبراهيم , وشريح , وحماد , وقول عن الشافعي لا يصح وقد صح عن الحكم في بعض ذلك أنه لا يضمن.
قال علي : فلم يبق للمضمنين حجة أصلا وقد صح أن الأموال محرمة , فلا يحل إلزام أحد غرامة لم يوجبها نص , أو إجماع , فوجب أن لا ضمان في شيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق.
2109 - مسألة: الحائط يقع فيتلف نفسا أو مالا
قال علي : روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان عن جابر الجعفي عن الشعبي عن شريح في الحائط إذا كان مائلا , قال : إن شهدوا عليه ضمن. وعن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في الجدار إذا كان مائلا إذا شهدوا على صاحبه فوقع على إنسان فقتله , فإنه يضمن. وعن إبراهيم النخعي مثل قول شريح في الجدار المائل. وقال آخرون غير هذا :
كما روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، هو ابن يزيد ، عن ابن شهاب ، أنه قال في رجل مال جدار لجاره , أو انصدع , فقال له : اكسر جدارك هذا فإنا نخافه فأبى عليه , ثم إن الجدار سقط فقتل عبد الذي نهاه , أو حرا من أهله قال : لا نرى عليه شيئا , وقد فرط وأساء.
وأما المتأخرون فإن ابن أبي ليلى قال : إن علم صاحب الجدار بميله وضعفه فتركه فهو ضامن , وإن لم يعلم لم يضمن .
وبه يقول أبو ثور. وقال سفيان الثوري : إن لم يشهدوا عليه لم يضمن , وإن كان معتدلا وهو مشقوق لم يجبر على نقضه. وقال إسحاق بن راهويه : يضمن ما أصاب جداره أشهد عليه أو لم يشهد.
وقال أبو حنيفة , ومالك , وأصحابهما , والحسن بن حي : إن أشهد عليه بهذا ضمن , وإن لم يشهد عليه لم يضمن.
وقال الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما : لا ضمان عليه أشهد عليه أو لم يشهد عليه.
قال علي : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى
فنظرنا فيمن فرق بين حكم الإشهاد عليه وحكم ترك الإشهاد عليه , فلم نجد لهما متعلقا لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة ، ولا سقيمة , ولا إجماع , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا نظر إلا أنهم قالوا : قد روي عن جماعة من التابعين وهذا ليس بشيء , لأننا قد أوردنا مما خالفوا فيه الطوائف من الصحابة ، رضي الله عنهم ، لا يعرف لهم منهم مخالف كثيرا جدا , فكيف ما اختلف فيه نفر من التابعين وقد أوردنا آنفا قول الزهري : أنه لا ضمان عليه مع أن القوم بزعمهم أصحاب قياس ، ولا يختلفون فيمن وضع دابة في ملكه فخرجت فقتلت من غير فعله أنه لا ضمان عليه أشهد أو لم يشهد عليه فما الفرق بين هذا وبين الجدار ينهدم من غير فعله فبطل هذا القول وظهر فساده وبالله تعالى التوفيق. ولم يبق إلا قول من ضمن ما أصاب الجدار أشهد عليه أو لم يشهد عليه أو قول من لم يضمنه ما أصاب أشهد عليه أو لم يشهد إذ قد صح أن التفريق بين الإشهاد وغير الإشهاد : لا معنى له ألبتة.
فنظرنا في ذلك فوجدنا صاحب الجدار المائل لا يسمى " قاتلا " لمن قتله الجدار في لغة العرب وقد يكون غائبا بأقصى المشرق والحائط بأقصى المغرب , فإذ لا يسمى قاتل عمد , ولا قاتل خطأ فلا دية في ذلك , ولا كفارة , ولا ضمان لما تلف من مال , إذ الأموال محرمة , ولا يجوز الحكم بغرامة على أحد لم يوجبها عليه نص ، ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.
2110 - مسألة: الجرة توضع إلى باب , أو إنسان يستند إلى باب , فيفتح الباب فاتح فيفسد المتاع , أو يقع الإنسان فيموت
قال علي : قال قوم بالتضمين في هذا , وأسقط قوم فيه الضمان , والظاهر عندنا وبالله تعالى التوفيق أنه ضامن للمتاع , والدية على عاقلته , والكفارة عليه , لأنه مباشر لأسقاط المتاع , وإسقاط المسند قاصدا إلى ذلك وإن لم يعلم بخلاف ما ذكرنا قبل مما لم يباشر الإتلاف فيه , ولو أنه فعل هذا عمدا لكان عليه القود , وهذا والذي يزحم دابته في الطريق فيدفعها عن طريقه فتدوس إنسانا , أو تفسد متاعا , فإنه يضمن , لأنه مباشر للإفساد , ولا نبالي بتعدي مسند الجرة , والمتكئ إلى الباب لو كانا متعديين فكيف ، ولا عدوان في هذا. ولو أن امرأ رقد ليلا في طريق فداسه إنسان فقتله فإنه قاتل خطأ بلا شك.
وكذلك لو دخل دار إنسان ليسرق فداسه صاحب المنزل فقتله فهو مباشر لقتله , فعليه القود في العمد , لأنه لم يقتله محاربا له , والدية في ذلك , والكفارة على العاقلة في غير العمد. وبالله تعالى التوفيق.
مسائل من هذا الباب
2111 - مسألة: قال أبو محمد : من أغضب أحمق بما يغضب منه فقذف بالحجارة فقتل المغضب له أو غيره , أو أعطى أحمق سيفا فقتل به قوما , فلا شيء في كل ذلك , لأنه لم يباشر شيئا من الجناية , ولا يسمى في اللغة قاتلا. فلو أنه أمر الأحمق بقتل إنسان بعينه فقتله , فإن كان الأحمق فعل ذلك طاعة له , وكان ذلك معروفا فهو آمر , فالآمر عليه القود , وإن كان لم يفعل طائعا له فلا شيء في ذلك , لأنه لم يكن , لا عن أمره ، ولا عن فعله. فلو رمى حجرا فأصاب ذلك الحجر حجرا فقلعه , فتدهده ذلك الحجر فقتل وأفسد : فلا شيء في ذلك , لأنه إنما تولد عن رميه انقلاع الحجر فقط , فهو ضامن لرده إن كان موضوعا لمعنى ما فقط , وإنما يضمن المرء ما تولد عن فعله , ولا يضمن ما تولد عما تولد عن فعله. ولا يختلف اثنان من الأمة في أن من رمى سهما يريد صيدا فأصاب إنسانا أو مالا فأتلفه فإنه يضمن , ولو أنه صادف حمار وحش يجري فقتل إنسانا أو سقط الحمار إذ أصابه السهم فقتل إنسانا فإنه لا يضمن شيئا. ولو أن إنسانا يعمل في بئر وآخر يستقي فانقطع الحبل فوقعت الدلو فقتلت الذي في البئر , فإن كان ذلك لضعف الحبل فهو قاتل خطأ والدية على العاقلة , وعليه الكفارة , لأنه مباشر لقتله , فلو غلب فلم يقدر على إمساكه الدلو ففتح يديه فلا شيء عليه في ذلك , لأنه لم يباشر قتله ، ولا عمل شيئا.
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبائي أن رجلا رمى حدأة فخرت الحدأة على صبي فقتلته قال : هو على الذي رمى , وكل شيء يكون من فعل رجل فهو عليه قال : وبلغني عن يحيى بن سعيد ، أنه قال في رجل مر برجل وهو يحمل على ظهره حجرا فسقط منه فأصاب رجلا فقتله فعليه دية المقتول قال سحنون : هذه مسألة سوء قال ابن وهب : وسمعت مالكا يقول في الرجل يمسك الحبل للرجل يتعلق به في البئر قال : إن انقطع الحبل فلا شيء عليه , وإن انفلت من يد الممسك فسقط المتعلق فمات فهو ضامن له.
قال علي : لسنا نقول بشيء من هذا كله : أما الحدأة تقع , فإن الرامي بها لم يباشر إلقاءها كما ذكرنا.
وأما الذي سقط الحجر عن ظهره دون أن يكون هو ألقاه لكن ضعف أو عثر فلا شيء في ذلك ولو أنه هو تعمد إلقاءه فمات به إنسان , فإن كان عمدا وهو يدري فقاتل عمد , وعليه القود , وإن كان لم يعرف أن هنالك إنسانا فهو قاتل خطأ وعليه الكفارة , وعلى عاقلته الدية , لأنه مباشر قتله بلا شك.
وأما تعلق الرجل بحبل يمسك عليه آخر فلا شيء في ذلك , لا في انقطاع الحبل , ولا في ضعف الممسك عن إمساكه , لأنه في انقطاع الحبل جان على نفسه بجبذ الحبل , فإنما انقطع من فعله لا من فعل الواقف على البئر
فأما انفلات الحبل فلم يتول الواقف على رأس البئر إبقاءه , لكن غلب عليه فلم يباشر فيه شيئا أصلا :
روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني يزيد بن عياض , وابن لهيعة ، عن ابن أبي جعفر عن بكير بن الأشج أن عبد الله بن عمرو وقال يزيد بن عياض : عن عبد الملك بن عبيد عن مجاهد ، عن ابن عباس , ثم اتفقا : أن من سل سيفا على امرأة , أو صبي , ليفزعهما به , فماتا منه ففيه دية الخطأ.
قال علي : وهذا باطل لا يصح ، وابن لهيعة في غاية الضعف , ويزيد بن عياض مذكور بالكذب وهذا العمل لا يختلفون في أن من فعله غير قاصد إلى إفزاعهما ففزعا فماتا فلا شيء عليه ،
ولا خلاف في أن النية , والمعرفة لا يراعى شيء منهما في الخطأ , بل هما مطرحان فيه ,
ولا خلاف في أن القاتل إذا قصد به ونوى فإنه عمد. والذي سل سيفا على امرأة أو صبي يريد بذلك إفزاعهما فماتا , فبيقين يدري كل ذي عقل سليم أنه عامد قاصد إليهما بهذا الفعل , فإذ لا خلاف في أنه ليس عليه قود , ولا له حكم العمد الذي هو أقرب الصفات إلى فعله فمن المحال الممتنع أن يكون عليه حكم الخطأ الذي ليس لفعله فيه مدخل أصلا وهذا في غاية البيان وبالله تعالى التوفيق وليس فيه إلا الأدب فقط.
2112 - مسألة: من أدخل إنسانا دارا فأصابه شيء
قال علي : روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا محمد بن قيس عن الشعبي , قال : إذا أدخل الرجل الرجل داره فهو ضامن حتى يخرجه كما أدخله.
وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في رجل دخل بيت رجل , وفي البيت سكين فوطئ عليها فقتلته , قال : ليس على صاحب البيت شيء
قال علي : وبقول الزهري نقول , لأن النبي ﷺ يقول : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فلا يحل إلزام أحد غرامة مال بغير نص , أو إجماع وما لم يتيقن أن هذا الإنسان جناه بعمد , أو بخطأ , فلا شيء عليه , لأن دمه وماله حرام , فإن وجد في داره مقتولا فله حكم القسامة. وإن ادعى وهو حي على صاحب الدار فعليه حكم التداعي , وإن لم يخرج إلا ميتا لا أثر فيه , فالموت يغدو ويروح , ولا شيء به إلا التداعي , إذ قد يمكن أن يغم فلا يظهر فيه أثر , فإذا أمكن فهو من باب التداعي ولو أيقنا أنه مات حتف أنفه لم يكن هنالك شيء أصلا وبالله تعالى التوفيق.