→ كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2027) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2027) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 2 مسألة 2027) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
قال أبو محمد رضي الله عنه: وأما قولنا يقتل قاتل العمد بأي شيء قتل به فإنه قد اختلف الناس في كل ذلك: فقالت طائفة كما قلنا: كما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا حفص، هو ابن غياث عن أشعث عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب: العمد كله قود.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا عبد الرحيم عن أشعث عن الشعبي، والحسن، وابن سيرين، وعمرو بن دينار، قالوا كلهم: العمد قود.
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عمن سمع الشعبي يقول: إذا مثل بالرجل ثم قتله فإنه يمثل به ثم يقتل.
ومن طريق حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية قال: كل شيء يقتله فإنه يقاد به نحو الحجر العظيم والخشبة العظيمة التي تقتل.
ومن طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة أنه حدثه أن ابنا لصهيب أخذ ابنا لحاطب بن أبي بلتعة فضربه بخشبة معه حتى ظن أنه قد قتله فذكر الحديث وأنه مات منها، وأن الصهيبي دفع إلى ولي حاطب، فضربه بعصا معه في الرأس حتى تطايرت شؤون رأسه فمات، وعروة بن الزبير جالس لا ينكره كان اسم الصهيبي: الحسن بن عثمان وكان اسم الحاطبي: يزيد بن المغيرة.
ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن سلمة عن أبي رجاء قال: قال قتادة: إن قتل بحجر قتل بحجر، وإن قتل بخشبة قتل بخشبة. وهو قول أبان بن عثمان، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.
ومن طريق حماد بن سلمة أنا حميد عن ميمون بن مهران: أن يهوديا قتله مسلم بفهر فكتب ميمون في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر يأمره بدفعه إلى أم اليهودي، فدفعه إليها، فقتلته بفهر. وبه يأخذ مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وابن المنذر، وأصحابهم، وغيرهم.
وقال مالك: إن قتله بحجر، أو عصا، أو بالنار، أو بالتغريق: قتل بمثل ذلك، يكرر عليه أبدا حتى يموت.
وقال الشافعي: إن ضربه بحجر حتى مات: ضربه بحجر أبدا حتى يموت، وإن حبسه بلا طعام، ولا شراب حتى يموت: حبس مثل تلك المدة حتى يموت، فإن لم يمت: قتل بالسيف، وهكذا إن غرقه، وهكذا إن ألقاه من مهواة عالية فإن قطع يديه ورجليه فمات: قطعت يدا القاطع ورجلاه، فإن مات وإلا قتل بالسيف.
قال أبو محمد رضي الله عنه: إن لم يمت ترك كما هو حتى يموت: لا يطعم، ولا يسقى وكذلك إن قتله جوعا أو عطشا: جوع وعطش حتى يموت، ولا بد، ولا تراعى المدة أصلا. وقال ابن شبرمة: إن غمسه في الماء حتى يموت: غمسته فيه حتى يموت وإن قتله ضربا ضربته مثل ضربه لا أكثر من ذلك. وقد كانوا يكرهون المثلة، ويقولون: السيف يجزئ من ذلك كله.
قال أبو محمد رضي الله عنه: بل أضربه حتى يموت، وقالت طائفة: لا يقتل في كل ذلك إلا بالسيف: كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري، أنه قال: لا قود إلا بحديدة.
ومن طريق وكيع أنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم النخعي فيمن قتل بخشبة أو بالشيء قال: السيف محل ذلك.
ومن طريق شعبة عن المغيرة عن إبراهيم لا قود إلا بالسيف.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا وكيع عن محمد بن قيس عن الشعبي لا قود إلا بحديدة، وروي نحو هذا عن سفيان.
وقال أبو حنيفة، وأصحابه: بأي شيء قتله مما يوجب القود فلا يقاد إلا بالسيف
وهو قول أبي سليمان.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ظاهر ما روينا عن الحسن، والشعبي: إيجاب القود بالسيف، والرمح، والسكين، والمطرقة: فنظرنا فيما احتجت به الطائفة الأولى فوجدناهم يحتجون بقول الله عز وجل: {والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. وبقوله عز وجل: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وبقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. وبقوله عز وجل: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم}. وبقوله عز وجل: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}. وبقوله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. قالوا: فكلام الله تعالى كما أوردنا: موجب أن الغرض في القصاص في القتل فما دونه إنما هو بمثل ما اعتدى به، وأنه لا يحل تعدي ذلك إلى غير ما اعتدى به. قالوا: فمن قتل بالسيف من قتل متعديا بغير السيف، فقاتله بما لم يقتل به، متعد ظالم بنص القرآن، عاص لله عز وجل فيما أمر به. واحتجوا أيضا بما قد صح عن رسول الله ﷺ من قوله إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
قالوا: فمن قتل أحدا بغير السيف ظالما عامدا: فبشرة غير القاتل محرمة على المستقيد، وغيره، إذ قد صح تحريمها، ولم يأت نص، ولا إجماع بإباحتها، إنما حل من بشرة القاتل، ومن التعدي عليه مثل ما انتهك هو من بشرة غيره، ومثل ما تعدى عليه به قط ومن خالف هذا فهو كمن أفتى من فقئت عيناه ظلما بأن يجدع هو أشرف أذني فاقئ عينيه، ولا فرق.
ومن طريق مسلم أنا هداب بن خالد أنا همام أنا قتادة عن أنس بن مالك: أن جارية قد وجد رأسها قد رض بين حجرين، فسألوها من صنع هذا بك فلان فلان حتى ذكروا لها يهوديا، فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فأقر، فأمر النبي ﷺ أن ترض رأسه بين الحجارة. ورواه أيضا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس، ومعمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس.
ومن طريق مسلم: أنا أبو جعفر بن الصباح وأبو بكر بن أبي شيبة، واللفظ له، أخبرنا ابن علية عن الحجاج بن أبي عثمان أنا أبو رجاء مولى أبي قلابة حدثني أنس بن مالك: أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله ﷺ فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض، وسقمت أجسامهم، فقال لهم رسول الله ﷺ: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها فقالوا: بلى: فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فبعث في آثارهم فأدركوا، فجيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم، وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا. قال مسلم: حدثني الفضل بن سهل الأعرج مروزي، أخبرنا يحيى بن غيلان أنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال: إنما سمل رسول الله ﷺ أعين أولئك ; لأنهم سملوا أعين الرعاء فهذا حكم رسول الله ﷺ وأمره الذي لا يسع أحدا الخروج عنه.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا عبد الرحمن بن سليمان أنا إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول.
ومن طريق البخاري أنا أبو نعيم هو الفضل بن دكين أنا شيبان عن يحيى، هو ابن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى،
وأما أن يقاد.
قال أبو محمد رضي الله عنه: القود في لغة العرب: المقارضة بمثل ما ابتدأه به، لا خلاف بين أحد في أن قطع اليد باليد، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والنفس بالنفس، كل ذلك يسمى " قودا ". فقد صح يقينا أن رسول الله ﷺ إذا أمرنا بالقود فإنه إنما أمرنا بأن يعمل بالمعتدي في القتل فما دونه: مثل ما عمل هو سواء سواء هذا أمر تقتضيه الشريعة واللغة، ولا بد. ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى: فوجدناهم يعولون على ما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا عيسى بن يونس عن أشعث، وعمرو بن عبيد عن الحسن قال: قال رسول الله ﷺ: لا قود إلا بالسيف.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا مرسل، ولا يحل الأخذ بمرسل. وقالوا: الخبران عن أنس في الذين قتلوا الرعاء، وفي الذي رضخ رأس الجارية، فإنما كانا إذ كانت المثلة مباحة، ثم نسخها بتحريم المثلة. ويدل على ذلك: أن في رواية أيوب عن أبي قلابة عن أنس لذلك الخبر أن رسول الله ﷺ أمر بأن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات. قالوا: والرجم قد لا يصيب الرأس، فقد قتله بغير ما قتل هو به الجارية. وقد رويتم من طريق أبي داود أنا محمد بن المثنى أنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة عن الحسن عن الصباح بن عمران هو البرجمي أنه سمع سمرة بن جندب، وعمران يقولان: كان رسول الله ﷺ يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة.
وروينا نحوه أيضا: من طريق الحسن عن أبي برزة، وأبي بكرة، وأنس بن مالك، ومعقل بن يسار كلهم عن رسول الله ﷺ . قالوا: ما سمعناه عليه الصلاة والسلام قط خطبنا إلا وهو يأمر بالصدقة وينهى عن المثلة: أنا أحمد بن عمر العذري أنا أحمد بن علي بن الحسن الكسائي أنا علي بن غيلان الحراني أنا المفضل بن محمد أنا علي بن زياد ثنا أبو قرة، عن ابن جريج أخبرني إسماعيل ابن علية عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: من بدل دينه، أو رجع عن دينه: فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب الله أحدا يعني بالنار، ونهى عليه الصلاة والسلام عن المثلة. قالوا: والنهي عن المثلة ثابت من طرق. قالوا: وقد رويتم من طريق البخاري أنا موسى بن إسماعيل أنا همام عن قتادة عن أنس فذكر حديث الذين قتلوا الرعاء وقد أوردناه آنفا. قال قتادة: فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل نزول الحدود.
قال أبو محمد رضي الله عنه: لم نخالفهم قط في أن المثلة لا تحل، لكن
قلنا: إنه لا مثلة إلا ما حرم الله عز وجل وأما ما أمر به عز وجل ليس مثلة. ليت شعري: ما الفرق عند هؤلاء القوم، بين من قتل عامدا ظالما بالحجارة فقتل هو كذلك فقالوا: هذه مثلة وبين من زنى وهو محصن فقتل بالحجارة فقالوا: ليس هو مثلة، ألا يستحي ذو دين من هذا الكلام الظاهر فساده، فإن قالوا: إن الله عز وجل أمر بالرجم في الزنى، والإحصان، ورجم رسول الله ﷺ .
قلنا: والله سبحانه وتعالى أمر بالأعتداء على المعتدي بمثل ما اعتدى به، وبالمعاقبة بمثل ما عوقب به ظالما وقتل رسول الله ﷺ بالشدخ بالحجر من قتل ظالما كذلك، فهل من فرق وليت شعري: على ما يعهد الناس أيكون مثلة أعظم من قطع اليد والرجل من خلاف، وفقء العينين، وجدع الأنف، والأذنين، وبرد الأسنان، وقطع الشفتين وهم موافقون لنا على أن كل ذلك واجب أن يفعل بمن فعله بغيره ظالما، فلو تركوا التحكم لكان أولى ولقد قالوا: إن من قطع الطريق فقطعت يده ورجله من خلاف، فإن قطع بعد ذلك الطريق لم تقطع يده الثانية، ولا رجله. ونظن أنهم يقولون: إنه من قطع يد آخر ورجله: أنه تقطع يده ورجله، فإن قالوا ذلك، لاح تناقضهم، وإن لم يقولوه زادوا في الباطل ومنع الحق.
وأما قول ابن سيرين: كان ذلك قبل نزول الحدود فخطأ، وكلام من لم يحضر تلك المشاهد، ولا ذكر أنه أخبره من شهدها: فهو لا شيء. وحديث أنس الذي موهوا به لم يسمع رسول الله ﷺ قط يخطب إلا نهى عن المثلة أعظم حجة عليهم في كذبهم أنه ناسخ لفعله عليه الصلاة والسلام بالذين قتلوا الرعاء ; لأن أنسا صحب رسول الله ﷺ ولازمه خادما له من حين قدم عليه السلام المدينة إلى حين موته ﷺ فصح يقينا قطعا بلا شك أنه سمع أنس خطبته عليه الصلاة والسلام ونهيه عن المثلة قبل فعله عليه الصلاة والسلام بالذين قتلوا الرعاء فبطل ضرورة أن يكون المتقدم ناسخا للمتأخر، وبالله إن ضرب العنق بالسيف لاعظم مثلة ولقد شاهدناه فرأيناه منظرا وحشا، وكأنه جسد بأربعة أفخاذ. فظهر فساد احتجاجهم بالمثلة وصح أن كل ما أمر به عليه الصلاة والسلام فليس هو مثلة، إنما المثلة من فعل ما نهاه الله تعالى عنه متعديا، ولا مزيد.
وأما قولهم: إن في رواية أيوب أن رسول الله ﷺ أمر به فرجم بالحجارة حتى مات فلا شك، ولا خلاف، في أن تلك الروايات كلها هي في قصة واحدة، في مقام واحد، في إنسان واحد، فقول أيوب عن أبي قلابة عن أنس: فأمر به فرجم حتى مات. وقول شعبة عن هشام بن زيد عن أنس: فأمر به فرض رأسه بين حجرين. وقول همام عن قتادة عن أنس: فأمر رسول الله ﷺ أن ترض رأسه بين الحجارة: أخبار عن عمل واحد، وإذا رض رأسه بين حجرين فقد رض بالحجارة، وقد رجم رأسه حتى مات. فبطل تعلقهم باختلاف ألفاظ الرواة، إذ كلها معنى واحد ولله تعالى الحمد وكلهم ثقة، وإنما هذا تعلل في مخالفة رسول الله ﷺ بالباطل. واحتجوا أيضا بما روي من طريق أبي داود أنا مسلم بن إبراهيم أنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال: خصلتان سمعتهما من رسول الله ﷺ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذا صحيح، وغاية الإحسان في القتلة هو أن يقتله بمثل ما قتل هو وهذا هو عين العدل والإنصاف والحرمات قصاص
وأما من ضرب بالسيف عنق من قتل آخر خنقا، أو تغريقا، أو شدخا، فما أحسن القتلة، بل إنه أساءها أشد الإساءة، إذ خالف ما أمر الله عز وجل به، وتعدى حدوده، وعاقب بغير ما عوقب به وليه، وإلا فكله قتل، وما الإيقاف لضرب العنق بالسيف بأهون من الغم، والخنق، وقد لا يموت من عدة ضربات واحدة بعد أخرى هذا أمر قد شاهدناه ونسأل الله العافية فعاد هذا الخبر حجة عليهم. واحتجوا بما رويناه من طريق أبي داود أنا أبو داود الطيالسي أنا شعبة عن هشام بن زيد عن أنس: أنه كان معه فقال: نهى رسول الله ﷺ عن أن تصبر البهائم.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا من طريف ما موهوا به ومتى خالفناهم في أن العبث بالبهائم، وبغير البهائم لا يحل، إنما بهم أن يموهوا أنهم يحتجون وهم لا يأتون إلا بما نهوا عنه.
وأما بالباطل نعم، صبر البهائم لا يحل، إلا حيث أمر الله تعالى به من الذبح، والنحر والرمي فيما شرد بالنبل، والرماح، وإرسال الكلاب، وسباع الطير عليها فهذا كله حلال حسن بإجماع منا ومنهم.
وكذلك لا يحل العبث بابن آدم، فإذا عبث هو ظالما: اقتص منه بمثل فعله وكان حقا وعدلا ; والعجب كله أن ضرب العنق صبر بلا شك، والصلب أشنع الصبر، وهم يرون كل ذلك، فلو راجعوا الحق لكان أولى بهم. وهكذا القول فيما موهوا به مما رويناه من طريق عبد الله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن يعلى قال: غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فقال أبو أيوب الأنصاري: سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن قتل الصبر. وذكروا
ما روينا من طريق أبي داود أنا سعيد بن منصور، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن الحذامي عن أبي الزناد حدثني محمد بن حمزة الأسلمي عن أبيه أن رسول الله ﷺ أمره على سرية وقال: إن وجدتم فلانا فاقتلوه، ولا تحرقوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. ورويناه أيضا من طريق أبي داود أنا قتيبة بن سعيد: أن الليث بن سعد حدثهم عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ .
قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذا صحيح، ولا يحل أن يحرق أحد بالنار ابتداء، حتى إذا فعل المرء من ذلك ما حرمه الله تعالى عليه: وجب القصاص عليه بمثل ما فعل، كما أمر الله عز وجل. وذكروا ما روينا من طريق شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النبي ﷺ قال: لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا.
ومن طريق مسلم أنا أبو كامل أنا أبو عوانة عن أبي بشير عن سعيد بن جبير قال: مر ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال ابن عمر: لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله ﷺ قال: لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا.
قال أبو محمد رضي الله عنه: ونحن نقول: لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا إلا حيث أمر الله تعالى به من القصاص، فمن استحق لعنة الله لفعله ذلك، والأعتداء عليه بمثل ما اعتدى هو به وهم يوافقوننا في رمي العدو بالنبل، والمجانيق، واتخاذهم غرضا وهذا خارج عن ما نهى عنه رسول الله ﷺ . هكذا القول فيما ثبت عن رسول الله ﷺ أنه نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرا وقد علمنا: أن نحر الإبل، وذبح الحيوان، والقتل بالسيف في القصاص: كل ذلك قتل صبر، وكل ذلك خارج عن قتل الصبر المنهي عنه وهكذا سائر وجوه القصاص التي أمر الله تعالى به، ولا فرق. وذكروا
ما روينا من طريق أبي داود أنا زياد بن أيوب أنا هشيم عن سماك عن إبراهيم عن هنيء بن نويرة عن علقمة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: أعف الناس قتلة أهل الإيمان.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا وإن لم يصح لفظه، فإن فيه هنيء بن نويرة وهو مجهول فمعناه صحيح، ولا أعف قتلة ممن قتل كما أمره الله عز وجل فاعتدى بمثل ما اعتدى المقتص منه على وليه ظلما، وما أعف قط في قتلة من ضرب عنق من لم يضرب عنق وليه، بل هو معتد، ظالم، فاعل ما لم يبحه الله تعالى قط. وموهوا أيضا بما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي أنا حجاج بن المنهال أنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ وقف على حمزة رضي الله عنه حين استشهد، فذكر كلاما وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: والله، مع ذلك، لامثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل ﷺ ورسول الله ﷺ واقف بعد بخواتيم سورة النحل وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به .
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا لو صح ولم يكن من طريق صالح المري، ويحيى الحماني، وأمثالهما: لكان حجة لنا عليهم ; لأن فيه: أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يعاقب بمثل ما عوقب به وهذه إباحة التمثيل بمن مثل بحمزة رضي الله عنه فإنما نهاه الله عز وجل عن أن يمثل بسبعين منهم لم يمثلوا بحمزة وهذا قولنا لا قولهم.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وموهوا بخبر ساقط موضوع، وهو: ما روي من طريق أسد بن موسى عن سليمان بن حيان عن يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر أن النبي ﷺ أمر أن يستأنى بالجراح سنة. وأسد ضعيف، ويحيى بن أبي أنيسة كذاب. ثم هم أول مخالف لهذا الخبر ; لأنهم لا يرون الأستيفاء بالجراح سنة، فكيف يستحل مسلم، أو من له حياء: أن يحتج بشيء هو أول مبطل له، وأول من لا يرى العمل بما فيه وبحديث من طريق ابن المبارك عن عنبسة بن سعيد عن الشعبي عن جابر عن النبي ﷺ: لا يستقاد من الجرح حتى يبرأ.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا باطل ; لأن عنبسة هذا مجهول وليس هو عنبسة بن سعيد بن العاص ; لأن ابن المبارك لم يدركه، بل قد صح عن النبي ﷺ خلاف هذا. كما أنا أحمد بن محمد بن الجسور قال: أنا وهب بن مسرة، حدثنا ابن وضاح أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا إسماعيل ابن علية عن أيوب السختياني عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: إن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فأتى النبي ﷺ يستقيد فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل فاستقاد، فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي ﷺ فقيل له: ليس لك شيء إنك أبيت.
فصح أن تعجيل القود أو تأخيره إلى المجني عليه، فهذا ما موهوا به من الأخبار. واحتجوا من طريق النظر بأن قالوا: وجدنا من قطع يد آخر خطأ أنه إن برئ فله دية اليد، وإن مات فله دية النفس ويسقط حكم اليد، فوجب أن يكون العمد كذلك قياسا على الخطأ.
قال أبو محمد رضي الله عنه: القياس كله باطل، ثم لو صح لكان هذا منه عين الباطل ; لأن القياس عند القائلين به لا يجوز إلا على نظيره، لا على خلافه وضده، والعمد ضد الخطأ، فلا يجوز أن يقاس عليه عند من يقول بالقياس، فكيف والقياس كله باطل وقالوا: يلزمكم إن رمى إنسان آخر بسهم فقتله أن ترموه بسهم، فإن لم يمت فبآخر، ثم بآخر، وكذلك إن أجافه أن يوالي عليه بالجوائف حتى يموت وهذا أكثر مما فعل، وهذا لا يجوز .
فقلنا: هذا تمويه فاسد، وكلام محال، بل يطعن بسهم مثله، في الموضع الذي صادف فيه سهمه ظلما حتى يموت، وكذلك يجاف بجائفة موقن أنه يموت منها، ولا فرق. ثم نعكس عليهم هذا السؤال، فنقول لهم: إن ضرب بالسيف في عنقه فلم يقطع، أو قطع قليلا فأعيد عليه مرارا وهذا أشد مما قلتم وأمكن فهو أمر مشاهد يقع كثيرا جدا. وقالوا: أرأيتم إن استدبره بالأوتار .فقلنا: يستدبره بمثلها، وما ذلك على الله بعزيز. فقالوا: فإن نكحه حتى يموت قلنا: يستدبره بوتد حتى يموت ; لأن المثل محرم عليه وبالله تعالى التوفيق.