→ كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة مسألة 2028) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات ( مسألة 2029 - 2030) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (تتمة 1 مسألة 2030) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2029 - مسألة: قال أبو محمد : وأما الدية في قتل الخطأ فعلى العصبة وهم العاقلة , وهذا مما لا خلاف فيه , إلا شيء ذكر عن عثمان البتي ، أنه قال : لا أدري ما العاقلة.
قال أبو محمد : وقد يمكن أن يحتج لهذا القول بقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
قال أبو محمد : لولا أثر عن النبي ﷺ لكان هذا القول الذي لا يجوز خلافه , ولكن رسول الله ﷺ هو الذي ولاه الله البيان عن مراده تعالى , فقال: {لتبين للناس ما نزل إليهم} فوجدنا ما ناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب أنا قتيبة ، حدثنا الليث بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : قضى رسول الله ﷺ في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة , ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت , فقضى رسول الله ﷺ بأن ميراثها لبنيها وزوجها , وأن العقل على عصبتها , فحكم رسول الله ﷺ بالعقل على العصبة كما ترى فوجب الوقوف عند ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : فمن لم تكن له عصبة فعلى بيت المال على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى وبه نتأيد.
اعتراض في قتل الذمي المسلم
قال أبو محمد : فإن قال قائل : إنكم تقولون : إن الذمي إذا قتل مسلما عمدا بطلت ذمته , وعاد حربيا , وقتل ، ولا بد , واستفيء ماله فكيف تقولون فيما حدثكم به عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا إسحاق بن منصور أنا بشر بن عمر قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ثني أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : أن عبد الله بن سهل , ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه قالوا : والله ما قتلناه , ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم , ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم , وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله ﷺ لمحيصة : كبر كبر يريد السن فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله ﷺ إما أن يدوا صاحبكم ,
وأما أن يؤذنوا بحرب وذكر باقي الخبر فهذا قتل كافر لمؤمن وفيه الدية.
قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إننا على يقين ولله الحمد من أن رسول الله ﷺ لا يلزم أحدا دية إلا قاتلا عمدا , أو عاقلة قاتل خطأ أو من بيت مال المسلمين عمن لا عاقلة له , فإلزامه عليه السلام اليهود الدية لا يخلو بيقين لا إشكال فيه مع أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكونوا قاتلي عمد , أو إما أن يكونوا عاقلة قاتلي خطأ هذا ما لا يمكن أن يكون سواه , فوجب أن ينظر أي الوجهين هو المراد في هذا المكان
فنظرنا في ذلك فوجدنا حكم قاتل العمد بيان من رسول الله ﷺ حكمه عند غيرنا القود , أو العفو فقط , أو ما تصالحوا به , وحكمه عند طائفة من أهل العلم أيضا بتخيير الولي بين القود , أو العفو , أو الدية , وحكمه عندنا التخيير بين القود , أو العفو , أو الدية , أو ما تصالحوا عليه , فالقود على كل هذه الأقوال حكم قتل العمد والدية بلا خلاف فيه في مال القاتل , وحكم قاتل الخطأ الدية , أو العفو عنها فقط. فلما وجدنا رسول الله ﷺ لم يذكر قودا أصلا في هذه الرواية , وما كان رسول الله ﷺ ليغفل حقا للحارثيين إلا ويذكره لهم , ولا يسكت عنه , فيبطل حقهم علمنا أن حكمه بالدية بذلك لا يخلو من أحد وجهين : من أن يكون قتل عمد ، ولا يعرف قاتله , فيحكم فيه بحكم ناقض الذمة , أو قتل خطأ فإن كان قتل عمد لا يعرف قاتله , فنحن على يقين من أنه عليه السلام لا يلزمهم دية لا تجب عليهم.
ولا خلاف بين الحاضرين من خصومنا في أن العاقلة لا تؤدي عن قاتل عمد , ولا أوجب ذلك نص , فبطل هذا الحكم. ولم يبق إلا أنه الوجه الثاني وهو قتل الخطأ , وهذا هو الحق , لأن القتل قد صح بلا شك , وممكن أن يكون بقصد , وممكن أن لا يكون بقصد , فلا يجوز أن يحكم عليهم بأنهم قصدوه إلا ببرهان من بينة , أو إقرار , أو نص موجب لذلك فبقي أنهم لم يقصدوه , وهذا هو الخطأ نفسه. ثم قول النبي ﷺ :
وأما أن يؤذنوا بحرب دليل على صحة ما قلناه من أنهم بخروجهم عما يجب عليهم ينقضون الذمة ويعودون حربيين.
قال علي : فبين لهم النبي ﷺ حكم الخطأ في القتل الموجود إن اعترفوا بذلك , ثم أعلمهم حكم العمد في غير هذه الرواية , وأعلمهم أنهم إن حلفوا على رجل منهم أسلم إليهم ولاح وجه الحديث وبالله تعالى التوفيق. فإن قال : فكيف تصنعون بالرواية الأخرى التي حدثكم بها عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى أنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , ورافع بن خديج : أن محيصة بن مسعود , وعبد الله بن سهل فذكر الحديث , وفيه أن رسول الله ﷺ قال لهم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف وذكر باقي الخبر.
قال أبو محمد : فإن هذا القول حق , ومعاذ الله أن نخالفه , بل هو نص قولنا , وقد حكم رسول الله ﷺ بأن يدفع القاتل منهم برمته , وهذا يقتضي قتله , ويقتضي أيضا استرقاقه , لأنه عموم لا يخرجه منه شيء مما يقع عليه مقتضى لفظه إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق.
باب ديات الجراحة والأعضاء فيما دون النفس في العمد والخطأ
2030 - مسألة: قال أبو محمد : فلنذكر الآن بعون الله تعالى وتأييده أن القصاص واجب في كل ما كان بعمد من جرح أو كسر , لأيجاب القرآن ذلك في كل تعد , وفي كل حرمة , وفي كل عقوبة , وفي كل سيئة , وورود السنن الثابتة عن رسول الله ﷺ . وبقي الكلام : هل في ذلك العمد دية يتخير المجني عليه فيها , أو في القصاص أم لا وهل في الخطأ في ذلك دية مؤقتة أم لا
قال علي : فنظرنا في هذا فوجدنا الله تعالى يقول {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}.
حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا الحسين بن عبد الله الجرجاني , قال : حدثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي , قال : أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق بكار بن قتيبة ، حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن ، حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ﷺ : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
قال أبو محمد : وهذا حديث مشهور من طريق الربيع عن بشر بن بكر عن الأوزاعي بهذا الإسناد متصلا وبهذا اللفظ رواه الناس هكذا.
وقال الله تعالى {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
وقال رسول الله إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فصح بكل ما ذكرنا أن الخطأ كله معفو عنه , لا جناح على الإنسان فيه , وإنما الأموال محرمة. فصح من هذا أن لا يوجب على أحد حكم في جناية خطأ إلا أن يوجب ذلك نص صحيح , أو إجماع متيقن , وإلا فهو معفو عنه. وصح بذلك أنه لا يجب على أحد غرامة في عمد ، ولا في خطأ إلا أن يوجب ذلك نص صحيح , أو إجماع متيقن , وإلا فالأموال محرمة والغرامة ساقطة , لما ذكرنا
فإن قال قائل : قد أوجب الله تعالى في قتل النفس خطأ الدية كاملة , وتحرير رقبة , أو صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد فإذا كان حكم النفس في الخطأ تجب فيه الدية فما دونها في الخطأ كذلك تجب أيضا
قلنا وبالله تعالى التوفيق : هذا قياس والقياس كله باطل , ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل , لوجوه أربعة :
أولها : أنه خطأ في القياس على أصول أصحاب القياس , لأنه يقال لهم : أنتم أصحاب تعليل , فماذا تقولون لمن قال لكم على أصولكم : إن النفس لا شيء أعظم من قتلها بعد الشرك عند الله تعالى , فلذلك عظم أمرها , وجعل في الخطأ فيها كفارة وإن كان لا ذنب لقاتل النفس خطأ بلا خلاف ,
وأما ما دون النفس فليس له عظم النفس عند الله تعالى , ولا حرمتها , فلا يجب في شيء من ذلك ما يجب في النفس , إذ ليس فيما دون النفس العلة التي في النفس.
والثاني : أنكم قد نقضتم هذا القياس وتركتموه جملة , ففي بعض الجنايات جعلتم ديات مؤقتة , وفي بعضها لم تجعلوا دية أصلا , إلا إما حكومة ,
وأما أجر الطبيب ,
وأما لا شيء , وهذا نقض منكم لقياسكم ما دون النفس على النفس , ولا قياس أفسد من قياس نقضه القائلون به. فإن قلتم : إنما أوجبنا دية مؤقتة حيث جاء نص عن رسول الله ﷺ
قلنا لهم : إن كان ذلك النص مما تقوم به الحجة لصحة إسناده فالقول به فرض , والطاعة له واجبة , وإن كان مما لا يصح كصحيفة عمرو بن حزم وصحيفة عمرو بن شعيب فلا حجة تقوم بشيء من ذلك , وأول من يشهد بهذا فأنتم , لأنكم تتركون كثيرا مما في تينك الصحيفتين. ومن المحال أن تجعلوا بعض حكم جاء مجيئا واحدا حجة وبعضه ليس بحجة بلا دليل أصلا إلا توهين ذلك : مرة إذا اشتهيتم ولم يوافق حكمها تقليدكم , وتوثيقها مرة إذا اشتهيتم ووافق تقليدكم حكمها. ونحن نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى كل ذلك فصلا فصلا.
وإن قالوا : إنما أوجبنا الدية المؤقتة حيث أوجبها الصحابة ، رضي الله عنهم ،.
قلنا : وبالله تعالى التوفيق : إن كان أوجب ذلك جميع الصحابة ، رضي الله عنهم ، فالسمع والطاعة لأجماعهم , لأن إجماعهم هو الحق المقطوع به على صحته , وأنه من عند رسول الله ﷺ عن الله تعالى , وإن كان هو قولا عن بعض الصحابة فأنتم معشر الحاضرين من خصومنا مخالفون لذلك , فقد جاء عن بعض الصحابة فيما دون الموضحة تحديد دية , وأنتم لا تقولون بذلك فالإضراب عما صححتموه خطأ وإفساد لأحتجاجكم.
فصح أنكم لم تتعلقوا هاهنا بقياس , ولا بقول صاحب , ولا بنص صحيح , ولا بنص تلتزمونه وإن لم يصح وما كان من الأقوال هكذا فهو غير صحيح بيقين مقطوع , على أنه باطل عند الله تعالى بلا شك. والثالث : أنكم قد أبطلتم هذا القياس أيضا , لأن النص في القرآن جاء في كفارة قتل النفس بالخطأ برقبة مؤمنة , أو بصيام شهرين متتابعين لمن لم يجد مع الدية ; فمن عجائب الدنيا أن تقيسوا ما دون النفس على النفس في إيجاب كفارة في بعض ذلك , أو إيجاب بعض الدية في بعض ذلك , ثم لا تقيسوا ما دون النفس على النفس في إيجاب كفارة في بعض ذلك حيث تجب الدية كاملة , أو بعض كفارة في بعض ذلك حيث تجب بعض الدية فهذا تحكم في القياس ما سمع بأسقط منه. ولئن كان قياس إيجاب الدية أو بعضها فيما دون النفس على وجوب ذلك في النفس حقا فإن قياس إيجاب الكفارة أو بعضها فيما دون النفس على وجوب ذلك في النفس لحق. ولئن كان أحد القياسين المذكورين باطلا لا يجوز فإن القياس الآخر باطل لا يجوز , وهذا ما لا خفاء به عن ناصح لنفسه , لا سيما والكفارة أوجب وأوكد من الدية , لأن الله تعالى لم يوجب الدية في القرآن إلا وقد أوجب معها الكفارة , وقد أوجب الله تعالى الكفارة وأسقط الدية. قال تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} ثم قال تعالى {فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} فأوجب تعالى الكفارة في قتل الخطأ الذي ذكر في القرآن فأوجب الدية في موضعين , وأسقط تعالى في الموضع الثالث.
فإن قالوا : إن الإجماع قد صح على إسقاط الكفارة في ذلك
قلنا لهم : إذا صح هذا , فإن الإجماع قد أبطل هذا القياس فلا يجوز استعماله أصلا في الدية , ولا في الكفارة , إذ هو كله قياس واحد وباب واحد.
وأيضا : فإن جمهوركم لا يوجبون الكفارة في قتل العمد , ولم يأت إجماع بإسقاطها , فقد تركتم القياس في هذا المكان دون أن يمنع منه إجماع. والوجه الرابع : أن الله تعالى لم يوجب دية في كل قتل خطأ , بل قد جاء قتل المؤمن خطأ وهو من قوم عدو لنا , ولا دية فيه , فمن أين وقع لكم الحكم بالقياس على القتل الذي أوجب الله تعالى فيه دية دون أن تحكموا بالقياس على القتل الذي لم يوجب الله تعالى فيه دية وما الفرق بينكم وبين من قال : بل لا تجب دية في شيء مما دون النفس تصاب خطأ , قياسا على قتل المؤمن خطأ وهو من قوم عدو لنا , فإذا كانت علتكم غير مطردة فالقياس على أصولكم لا يجوز عليها , فبطل أن يكون فيما دون النفس دية , لا بقياس , ولا بقول صاحب , ولا بنص صحيح , لأنه غير موجود , ولا لضمان الأموال في الخطأ بنص ملتزم وإن لم يصح.
فإن قال قائل : قال الله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها}. قالوا : والجراح وإن كانت خطأ فهي سيئة فجزاؤها مثلها , والسيئة المماثلة قد تكون بغرامة المال , فإذا لم يكن هناك قود كانت المماثلة بالغرامة قلنا وبالله تعالى التوفيق :
وأما قول الله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} فحق ,
وأما قولكم : إن جناية الخطأ سيئة فباطل , ما السيئة إلا ما نهى الله تعالى عنه , وليس الخطأ مما نهى الله تعالى عنه , لأن الله تعالى يقول {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} وبالضرورة ندري أنه ليس في وسع أحد أن يمتنع من فعل الخطأ الذي لم يتعمده ، ولا قصده.
فإن قيل : قد اجتمعت الأمة على ضمان ما أتلف من الأموال بالخطأ وبالعمد , فما الفرق بين ضمان الجنايات في الأموال وبين ضمان الجنايات في الأعضاء والجراحات
قلنا وبالله تعالى التوفيق : إن هذا قياس والقياس كله باطل , ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل , لأن الإجماع قد صح على إبطال هذا القياس , لأنه لا خلاف بين أحد من الأمة كلها في تضمين كل ما أصيب من الأموال قل أو كثر , وليس كذلك الجنايات على الأعضاء والجراحات إذ لا خلاف في أن كثيرا منها ليس فيه تضمين بدية مؤقتة محدودة وكل قياس لم يطرد في نظرائه , وكل علة لم تجر في معلولاتها فهما خطأ عند أصحاب القياس , وأن المماثلة بين الأموال مدركة مضمونة معروفة , إما بالقيمة وأما بالكيل , وأما بالوزن , وأما بالذرع , وأما بالصفة , ولا تدرك المماثلة بين الأعضاء والجراحات وبين الأموال أبدا , إلا بنص وارد من الله تعالى في ذلك ; هذا أمر يعلم بالضرورة , بل المماثلة ممتنعة في ذلك جملة , لأنه لا يجوز أن يمثل ما يتملك مما لا يحل تملكه , فإذا الأمر كذلك فلا سبيل إلى الحكم بالمماثلة في ذلك , إلا بما صح فيه نص أو إجماع , ومن فعل ذلك فقد أخطأ بيقين , إذ حكم بالمثلية في شيئين ليس أحدهما مثلا للآخر , وأن تملك الأموال بالخطأ ممكن , واسترجاعها بأعيانها ممكن , واسترجاع أمثالها إن فاتت أعيانها ممكن , والأعضاء والجراح لا يصح للجاني تملكها لا عمدا ، ولا خطأ , ولا يصح استرجاعها أصلا , ولا استرجاع أمثالها , فقياس أحد هذين الوجهين على الآخر قياس فاسد , لأنه قياس الضد على ضده في الحكم , وإنما يقول أصحاب القياس بقياس الشيء على نظيره لا على ضده , وأنهم قد أطبقوا على إبطال هذا القياس , من حيث هو أقرب شبها بما قاسوه عليه , وذلك أنهم لا يختلفون فيمن غصب حرا فتملكه واسترقه , فمات في تملكه , فإنه لا يضمنه , ولا يضمن فيه قيمة ، ولا دية , إلا أنه روي عن مالك إن باعه ففات فلم يقدر عليه : أنه يودي ديته فإن كان غصب الحر لا يقاس على غصب المال لا في الخطأ , ولا في العمد , بلا خلاف , فالجراح , وكسر العضو , وقطعه أبعد من أن يقاس على الأموال وهذا لا خفاء به والحمد لله رب العالمين.
فإن ذكروا : ما حدثناه أبو عمر أحمد بن قاسم في منزله بمدينة قرطبة عند مسجد القصارين قال : حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم حدثني جدي قاسم بن أصبغ ، حدثنا عبد الله بن روح ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء السلمي عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله : من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار في إحدى ثلاث : إما أن يعفو , وأما أن يقتص , وأما أن يأخذ العقل. فإن أخذ شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فإن له النار خالدا فيها. وحدثناه عبد الله بن ربيع قال : حدثنا عمر بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن بكر البصري ، حدثنا سليمان بن الأشعث ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي أن النبي ﷺ قال : من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص , وأما أن يعفو , وأما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه فإن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. حدثنا حمام ، حدثنا عباس بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ، حدثنا حبيب بن خلف ، حدثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان عن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي قال : قال رسول الله ﷺ : من أصيب بقتل أو خبل يعني جراحا فهو بخير النظرين إن أحب أن يعفو عفا , وإن أحب أن يأخذ الدية أخذ.
قلنا : هذا لا يصح , لأنه لم يروه أحد إلا سفيان بن أبي العوجاء السلمي , وهو مجهول لا يدرى من هو ، ولا يعرف عنه غير هذا الحديث , فلو صح لقلنا به منشرحة صدورنا بذلك , ولما تركناه لقول أحد ,
وأما إذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به , ثم لو صح لكان حجة على جميع الحاضرين ومخالفا لقولهم , لأنه إنما جاء في جراح العمد وفيه القصاص منها جملة لم يستثن شيئا , وكلهم لا يرى القود منها , فيما دون الموضحة , وجمهورهم لا يرى القود منها , إلا في الموضحة فقط فقد خالفوا هذا الحديث كما ترى.
وأيضا إنه قد جاء في العمد فقط كما ذكرنا , لأن فيه التخيير بين القود والدية ,
ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن القود ليس إلا في العمد فقط وفيه الخيار في الدية في العمد وكلهم أو جمهورهم لا يرى في قطع الأعضاء في العمد إلا القود فقط وقد خالفوا هذا الخبر في هذا الوجه.
وأيضا فإن الحنفيين , والمالكيين لا يرون خيارا في قود أو دية في قتل العمد.
وأيضا إنه ليس فيه حكم شيء من جراح الخطأ , فلو صح هذا الخبر لكان وفاقه لنا أكثر من وفاقه لهم , ولكانوا مخالفين له من كل وجه.
قال أبو محمد : فبطل كل ما شغبوا به في هذا الباب والحمد لله رب العالمين.