→ كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2104 - 2112) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2113 - 2115) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2116 - 2118) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2113 – مسألة: جنايات الحيوان , والراكب , والسائس , والقائد
قال علي : قد ذكرنا الثابت عن رسول الله ﷺ من قوله العجماء جرحها جبار.
روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : قال رجل لشريح إن شاة هذا قطعت غزلي فقال : ليلا أو نهارا , فإن كان نهارا فقد برئ , وإن كان ليلا فقد ضمن , ثم قرأ إذ نفشت فيه غنم القوم قال : إنما كان النفش بالليل.
قال علي : قال مالك , والشافعي : ما أفسدت المواشي ليلا فهو مضمون على أهلها , وما أفسدت نهارا فلا ضمان فيه.
وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة.
وقال أبو حنيفة : وأبو سليمان , وأصحابهما : لا ضمان على أرباب الماشية فيما أفسدت ليلا أو نهارا. ولا يضمنون أكثر من قيمة الماشية
وروي عنه أنهم يضمنون ما أصابت نهارا. وقال الليث : يضمن أهل الماشية ما أصابت ليلا , ولا يضمنون أكثر من قيمة الماشية.
قال علي : احتج المضمنون ما جنت ليلا : ب
ما روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا معاوية بن هشام ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن عيسى عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب أن ناقة لأهل البراء أفسدت شيئا فقضى رسول الله ﷺ أن حفظ الثمار على أهلها بالنهار , وضمن أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل.
وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه , فقضى النبي ﷺ على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل.
ومن طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : قال ابن شهاب حدثني أبو أمامة بن سهل أن ناقة دخلت في حائط قوم فأفسدته فذهب أصحاب الحائط إلى النبي ﷺ فقال رسول الله ﷺ على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار , وعلى أهل الماشية حفظ مواشيهم بالليل وعليهم ما أفسدته. وذكر بعض الناس : أن الوليد بن مسلم روى هذا الحديث عن الزهري عن حرام بن محيصة : أن البراء أخبره.
قال علي : هذا خبر مرسل , أحسن طرقه : ما رواه مالك , ومعمر عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن ناقة للبراء. وما رواه ابن جريج عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل : أن ناقة دخلت. فلم يسند أحد قط من هاتين الطريقتين اللتين لو أسند منهما , أو من إحداهما لكان حجة يجب الأخذ بها , وإنما استند من طريق حرام بن سعد بن محيصة مرة عن أبيه ، ولا صحبة لأبيه ومرة عن البراء فقط , وحرام بن سعد بن محيصة مجهول لم يرو عنه أحد إلا الزهري , وما نعلم للزهري عنه غير هذا الحديث , ولم يوثقه الزهري وهو قد يروي عمن لا يوثق , كروايته عن سليمان بن قرم , ونبهان مولى أم سلمة , وغيرهما من المجاهيل , والهلكى.
ولا يحل أن يقطع على رسول الله ﷺ في الدين إلا بمن تعرف عدالته فسقط التعلق بهذا الخبر
قال علي : روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي عن حصين بن عبد الرحمن بن عامر الشعبي , قال : اختصم إلى علي بن أبي طالب في ثور نطح حمارا فقتله , فقال علي بن أبي طالب : إن كان الثور دخل على الحمار فقتله فقد ضمن وإن كان الحمار دخل على الثور فقتله فلا ضمان عليه.
قال علي : فهذا حكم من علي بن أبي طالب رضي الله عنه والقول عندنا في هذا كله هو ما حكم به رسول الله ﷺ وثبت عنه من أن العجماء جرحها جبار وعملها جبار فلا ضمان فيما أفسده الحيوان من دم أو مال لا ليلا ، ولا نهارا وبالله تعالى التوفيق. فإن أتى بها وحملها على شيء , وأطلقها فيه : ضمن حينئذ , لأنه فعله ليلا كان أو نهارا.
وأما الحيوان الضارية فقد جاءت فيها آثار :
كما روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم أن عمر بن الخطاب كان يقول برد البعير , أو البقرة , أو الحمار , أو الضواري , إلى أهلهن ثلاثا إذا حظر الحائط , ثم يعقرن. قال ابن جريج : وأخبرني من نظر في كتاب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الحجاج بن ذؤيب أن يحصن الحائط حتى يكون إلى نحو البعير. قال ابن جريج : وسمعت عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب كان يأمر بالحائط أن تحظر ويسد الحظر من الضاري المدل , ثم يرد إلى أهله ثلاث مرات , ثم يعقر. قال ابن جريج : وقلت لعطاء : الحظر يسد , ويحصن على الحائط , ثم لا يمتنع من الضاري المدل , أبلغك فيه شيء قال : لا.
قال أبو محمد : فهذا حكم عمر بن الخطاب : يرد الضاري ثلاث مرات إلى صاحبه دون تضمين , ولم يخص ليلا ، ولا نهارا ثم يعقر. فخالفوا كلا الحكمين من حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهم يعظمون أقل من هذا إذا وافق تقليدهم.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر , قال : أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد الصنعاني : أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يحدث قال : قال رسول الله ﷺ : إن أهون أهل النار عذابا رجل يطأ جمرة يغلي منها دماغه , قال أبو بكر : وما كان ذنبه يا رسول الله قال : كانت له ماشية يعيث بها الزرع ويؤذيه , وحرم الله الزرع وما حوله غلاة سهم , فاحذروا أن لا يسحب الرجل ماله في الدنيا ويهلك نفسه في الآخرة , فلا تسحبوا أموالكم في الدنيا وتهلكوا أنفسكم في الآخرة.
قال علي : وهذا مرسل ، ولا حجة في مرسل , والقول عندنا في هذا أن الحيوان أي حيوان كان إذا أضر في إفساد الزرع أو الثمار , فإن صاحبه يؤدب بالسوط ويسجن , إن أهمله , فإن ثقفه فقد أدى ما عليه , وإن عاد إلى إهماله بيع عليه ، ولا بد , أو ذبح وبيع لحمه , أي ذلك كان أعود عليه أنفذ عليه ذلك.
برهان ذلك : قول الله تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} , ومن البر والتقوى : المنع من أذى الناس في زرعهم وثمارهم. ومن الإثم والعدوان : إهمال ذلك. فينظر في ذلك بما فيه حماية أموال المسلمين مما لا ضرر فيه على صاحب الحيوان بما لا يقدر على أصلح من ذلك كما أمر الله تعالى.
وأما من زرع في الشعواء , أو حيث المسرح , أو غرس هنالك غرسا فإنه يكلف أن يحظر على زرعه وغرسه بما يدفع عن ذلك من بناء أو غيره إذ لا ضرر عليه في ذلك , بل الحائط له , ودفع الإضاعة عن ماله. ولا يجوز أن يمنع الناس عن إرعاء مواشيهم هنالك , كما لا يجوز أن يمنع هو من إحياء ما قدر على إحيائه من ذلك الموات , وليس في طاقة أحد منع المواشي عن زرع , أو ثمر في وسط المسرح , فإذ ذلك ممتنع ليس في الوسع فقد بطل أن يكلفوا ضبطها , أو منعها : بقول الله تعالى {لا تكلف نفس إلا وسعها} , وهكذا القول فيما تعذر على أهل الماشية منع ماشيتهم منه في مرورها في طريقها إلى المسرح بين زرع الناس وثمارهم , فإن أهل الزرع والثمار يكلفون هاهنا بحظير ما ولي الطريق من زروعهم وثمارهم.
وأما الثمار المتصلة من الزرع والغرس التي لا مسرح فيها فليس عليهم تكليف الحظر , فإن أطلق مواشيه هنالك عامدا , أو مهملا : أدب الأدب الموجع , وبيعت عليه مواشيه إن عاد , وضمن ما باشر إطلاقها عليه. وبالله تعالى التوفيق. ولا يعقر الحيوان الضاري ألبتة , لأن رسول الله ﷺ نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله , ونهى عن إضاعة المال , والعقر إضاعة فيما يؤكل لحمه , وفيما لا يؤكل لحمه وبالله التوفيق.
وأما القائد , والراكب , والسائق فإن يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال : حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم بن حماد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم الهروي ، حدثنا هشيم ، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين عن شريح : أنه كان يضمن الفارس ما أوطأت دابته بيد أو رجل , ويبرئه من النفحة. قال هشيم : وحدثنا يونس , والمغيرة , قال يونس عن الحسن البصري , وقال المغيرة عن إبراهيم أنهما كانا يضمنان ما أوطأت الدابة بيد أو رجل , ولا يضمنان من النفحة. وعن إبراهيم , وشريح أنهما قالا : إذا نفحت الدابة برجلها فإن صاحبها لا يضمن. وقال الحكم والشعبي : يضمن ، ولا يطل دم المسلم. وعن محمد بن سيرين أن رجلا شرد له بعيران فأخذهما رجل فقرنهما في حبل فأخنق أحدهما فمات فقال شريح : إنما أراد الإحسان , لا يضمن إلا قائد أو راكب. وقال محمد بن سيرين في الدابة أفزعت فوطئت يضمن صاحبها , وإذا نفحت برجلها من غير أن تفزع لم يضمن. وعن الشعبي أنه سئل عن رجل أوثق على الطريق فرسا عضوضا فعقر فقال الشعبي : يضمن , ليس له أن يربط كلبا عضوضا على طريق المسلمين. وعن إبراهيم النخعي , وشريح قالا جميعا : يضمن الراكب , والسائق , والقائد. وعن أبي عون الثقفي أن رجلين كانا ينشران ثوبا فمر رجل فدفعه آخر فوقع على الثوب فخرقه , فارتفعوا إلى شريح فضمن الدافع , وأبرأ المدفوع , بمنزلة الحجر. وعن الشعبي قال : هما شريكان يعني الراكب والرديف. وعن الشعبي أيضا قال : من أوقف دابته في طريق المسلمين أو وضع شيئا فهو ضامن بجنايته. وعن إبراهيم النخعي , والشعبي , قالا جميعا : من ربط دابته في طريق فهو ضامن وعن إبراهيم في رجل استعار من رجل فرسا فركضه حتى قتله , قال : ليس عليه ضمان , لأن الرجل يركض فرسه. وعن عطاء قال : يغرم القائد , والراكب , عن يدها ما لا يغرمان عن رجلها , قلت : كانت الدابة عادية فضربت بيدها إنسانا وهي تقاد قال : نعم , ويغرم القائد , قلت : السائق يغرم عن اليد والرجل , قال : زعموا , فراددته قال : يقول : الطريق الطريق. وعن قتادة قال : يغرم القائد ما أوطأت بيد أو رجل , فإذا نفحت لم يغرم , والراكب كذلك , إلا أن تكون بالعنان فتنفح فيغرم. وعن الشعبي قال : يضمن الرديف مع صاحبه. وعن شريح قال : يضمن القائد , والسائق , والراكب , ولا يضمن الدابة إذا عاقبت , قلت : وما عاقبت قال : إذا ضربها رجل فأصابته. وعن مجاهد قال : ركبت جارية جارية فنخستها أخرى فوقعت فماتت فضمن علي بن أبي طالب الناخسة والمنخوسة.
وقال مالك , والشافعي : يضمن السائق , والقائد , والراكب ما أصابت الدابة , إلا أن ترمح من غير فعلهم , فلا ضمان عليهم.
وقال مالك , وأبو حنيفة : يضمن الرديف مع الراكب. وقال إسحاق بن راهويه لا يضمن الرديف.
وقال أحمد : أرجو أن لا شيء عليه إذا كان أمامه من يمسك العنان.
قال أبو محمد : فالواجب علينا عند تنازعهم ما افترض الله تعالى علينا , إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} , فنظرنا في الراكب فوجدناه مصرفا لدابته حاملا لها فما أصابت مما حملها عليه , فإن عمد فعليه القصاص في النفس فما دونها , لأنه متعد مباشر للجناية وإن كان مما لا يضمنه , فإن كان ذلك وهو لا يعلم بما بين يديه فهو إصابة خطأ يضمن المال , وعلى عاقلته الدية في النفس وعليه الكفارة , لأنه قاتل خطأ , وما أصابت برأسها , أو بعضتها , أو بذنبها , أو بنفحتها بالرجل , أو ضربت بيدها في غير المشي : فليس من فعله فلا ضمان عليه فيه , لقول رسول الله ﷺ : العجماء جرحها جبار.
وأما القائد : فإن كان يمسك الرسن أو الخطام فهو حامل للدابة على ما مشت عليه , فإن عمد فالقود كما
قلنا والضمان في المال , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ , فالدية على العاقلة , والكفارة عليه في ماله , ويضمن المال , فإن كانت الدواب مقصورة بعضها إلى بعض كذلك , فكذلك أيضا ، ولا فرق. وسواء كان على الدابة المقودة راكب أو لم يكن : لا ضمان على الراكب , إلا إن حملها أو أعان , فهو والقائد شريكان , وإلا فلا , فإن كان القائد لا رسن بيده , ولا عقال , فلا ضمان عليه ألبتة ; لأنه لم يتول شيئا , ولا باشر فيما أتلف من دم , أو مال شيئا أصلا وقد قال عليه الصلاة والسلام والعجماء جرحها جبار.
وأما الرديف فإن كان يمسك العنان هو وحده ، ولا يمسكه المتقدم : فحابس العنان هو الضامن وحده , وعليه في العمد القود , وفي الخطأ الكفارة , والدية على العاقلة , ولا ضمان , ولا شيء على المتقدم , إلا أن يعين في ذلك.
وأما السائق فإن حملها بضرب , أو نخس , أو زجر على شيء ما , فإن عمد فالقود والضمان , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ كما
قلنا , فإن لم يحملها على شيء فلا ضمان عليه , لأنه لم يباشر وقد قال رسول الله ﷺ : جرح العجماء جبار. ومن أوثق دابته على طريق المسلمين فلا ضمان عليه ,
وكذلك لو أرسلها وهو يمشي , وليس كل مسيء ضامنا. وقد علمنا وعلم كل مسلم : أن عامل السلاح , وبائعها في الفتن : فمخالف ظالم , ومسيء , ومعين بذلك على قتل الناس , ولا خلاف في أنه لا ضمان عليه.
فإن قيل : إن غيره هو المتولي قيل لهم : والدابة هي المتولية أيضا , وجرحها جبار ,
وكذلك من حل دابة , أو طائرا عن رباطها : فلا ضمان عليه فيما أصابت , لأنه لم يعمد , ولا باشر , ولا تولى.
وأما من ركب دابته ولها فلو يتبعها فأصاب الفلو إنسانا , أو مالا : فهو الحامل له على ذلك , فإن عمد فالقود , وإن لم يعمد فهو قاتل خطأ.
برهان ذلك : أنه في إزالته أمه عند مستدع له إلى المشي وراءها , فهو مباشر لأستجلابه , فلو ترك الفلو اتباع أمه , وأخذ يلعب , أو خرج عن اتباعها , فلا ضمان على راكب أمه أصلا.
وكذلك من استدعى بهيمة بشيء تأكله وهو يدري أن في طريقها متاعا تتلفه , أو إنسانا راقدا فأتته , فأتلفت في طريقها شيئا , فالقود في العمد , وهو قاتل خطأ إن لم يعمد.
وكذلك من أشلى أسدا على إنسان أو حنشا وليس كذلك من أطلقهما دون أن يقصد بهما إنسانا. لأنه في إطلاقهما على الإنسان مباشر لأتلافه , قاصد لذلك وليس في إطلاقهما جانيا على أحد شيئا أصلا.
وأما ما قاله شريح في قارن البعيرين فصحيح ، ولا ضمان على من فعل ما أبيح له فعله , إلا أن يوجب ذلك نص أو إجماع.
وأما ما جاء عن علي رضي الله عنه في تضمين الناخسة فصحيح , لأنها هي الملقية للأخرى في الأرض وبالله تعالى التوفيق.
2114 - مسألة: من جناية الكلب وغيره , ونفار الدابة وغير ذلك , من الباب الذي قبل هذا
قال علي : روينا من طريق ابن وضاح ، حدثنا سحنون ، حدثنا ابن وهب أخبرني الحارث بن نبهان عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن أنس بن سيرين أن رجلا كان يسري بأمه فجاء رجل على فرس يركض فنفر الحمار من وقع حافر الفرس فوثب فوقعت المرأة فماتت فاستأذن عمر بن الخطاب فقال عمر رضي الله عنه: ضرب الحمار فقال : لا , فقال : أصاب الحمار من الفرس شيء قال : لا , قال : أمك أتت على أجلها فاحتسبها. قال ابن وهب : وأخبرني يونس أنه سأل أبا الزناد عن عقل الكلب , أو الفهد , أو السبع الداجن , أو الكبش النطاح , أو نطح الثور , أو البعير , أو الفرس الذي يعض , فيعقر مسكينا , أو زامرا , أو عابدا فقال أبو الزناد : إن قتل واحد من هذه الدواب , أو أصاب كسر يد , أو رجل , أو فقأ عينا , أو أي أمر جرح من ذلك بأحد من الناس فهو هدر قضى رسول الله ﷺ أن العجماء جرحها جبار إلا أن يكون قد استعدى في شيء من ذلك , فأمره السلطان بإيثاق ذلك فلم يفعل , فإن عليه أن يغرم ما حرج بالناس
فأما ما أصيب به الدابة أو بشيء منها , فلم يكن السلطان يتقدم إلى صاحبه , فإن على من أصابها غرم ما أصابها به.
وقال مالك : فيمن اقتنى كلبا في دار البادية فعقر ذلك الكلب إنسانا : إنه إن اقتناه وهو يدري أنه يفترس الناس فعقرهم فهو ضامن لما فرس الكلب.
قال أبو محمد : أما الرواية عن عمر فهي وإن لم تصح من طريق النقل فمعناها صحيح وبه نأخذ , لأن من لم يباشر ، ولا أمر : فلا ضمان عليه , والدابة إذا نفرت فليس للذي نفرت منه ذنب إلا أن يكون نفرها عامدا : فإن عليه القود فيما قتلت إذا قصد بذلك أن تطأ الذي أصابت , فإن لم يكن قصد ذلك فهو قاتل خطأ , والدية على العاقلة , والكفارة عليه , ويضمن المال في كلتا الحالتين , إذا تعمد تنفيرها , لأنه المحرك لها.
وأما قول أبي الزناد فصحيح كله , لأن جرح العجماء جبار بحكم رسول الله ﷺ وهو لم يتعمد إشلاء شيء من ذلك.
وأما قوله إلا أن يتقدم إليه السلطان في ذلك فليس بشيء , وتقدم السلطان لا يوجب غرامة لم يوجبها الله تعالى ، ولا رسوله ﷺ وإنما السلطان منفذ للواجب على من امتنع فقط , وليس شارعا شريعة.
وأما قول مالك فخطأ أيضا , لأنه ليس علم المقتني للكلب بأنه يفترس الناس بموجب عليه غرامة لم يوجبها القرآن ، ولا السنة , وهو وإن كان متعديا باقتنائه فإنه لم يباشر شيئا في الذي أتلفه الكلب. وهكذا من آوى رجلا قتالا محاربا فجنى جناية , فهو وإن كان متعديا بإيوائه إياه فليس مباشرا عدوانا في المصاب. وكل هذا باب واحد , وليس قياسا , ولكن خصومنا يقولون بقوله ويخالفونه في ذلك العمل نفسه , فإذا جمعنا لهم القولين لاح لهم تناقضهم فيها فعلى هذا نورد مثل هذه المسائل لا على أنها حجة قائمة بنفسها , وإنما الحجة في هذا قول رسول الله جرح العجماء جبار. وبالله تعالى التوفيق.
روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عباد بن العوام عن حجاج عن قتادة عن كعب بن سوار : أن رجلا كان على حمار فاستقبله رجل على بعير في زقاق فنفر الحمار فصرع الرجل فأصابه شيء فلم يضمن كعب بن سوار صاحب البعير شيئا
قال أبو محمد : وهذا كما قلنا وعن سفيان الثوري عن طارق قال : كنت عند شريح فأتاه سائل فقال : إني دخلت دار قوم فعقرني كلبهم وخرق جرابي فقال : إن كنت دخلت بإذنهم فهم ضامنون , وإن كنت دخلت بغير إذنهم فليس عليهم شيء. وعن الشعبي قال : إذا كان الكلب في الدار فأذن أهل الدار للرجل فعقره الكلب ضمنوا , وإن دخل بغير إذن فعقره فلا ضمان عليهم وأيما قوم غشوا غنما في مرابضها فعقرتهم الكلاب فلا ضمان على أصحاب الغنم , وإن عرضت لهم الكلاب في الطريق فعقرتهم الكلاب في الطريق ضمنوا.
وأما المتأخرون فإن أبا حنيفة , وسفيان الثوري , والحسن بن حي , والشافعي , وأبا سليمان , قالوا : من كان في داره كلب فدخل إنسان بإذنه أو بغير إذنه فقتله الكلب فلا ضمان في ذلك
وكذلك قال ابن أبي ذئب. وقد روى الواقدي نحو هذا عن مالك وروى عنه ابن وهب : أنه قال : إن اتخذ الكلب وهو يدري أنه يعقر الناس ضمن وأنه إن لم يعلم ذلك لم يضمن إلا أن يتقدم إليه السلطان
قال أبو محمد : اشتراط تقدم السلطان , أو علمه بأنه عقور لا معنى له , لأنه لم يوجب هذا نص قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع.
فإن قيل : إنه باتخاذه الكلب العقور متعد
وكذلك هو باتخاذه حيث لم يبح له اتخاذه متعد أيضا
قلنا : هو متعد في اتخاذه في كلتا الحالتين ظالم إلا أنه ليس متعديا في إتلاف ما أتلف الكلب , ولا أوجب الله تعالى ، ولا رسوله ﷺ قط على ظالم غرامة مطلقة. وقد
قلنا : إن التعدي الموجب للضمان , أو للقود , أو للدية , هو ما سمي به المرء " قاتلا , أو مفسدا " وليس كذلك , إلا بالمباشرة , أو بالأمر , وهي في اتخاذه الكلب , كمن عمل سيفا وأعطاه لظالم , أو اقتنى خمرا في خابية فجلس إنسان إليها فانكسرت فقتلت الإنسان فكل هذا ليس يسمي هذا الظالم " قاتلا , ولا متلفا " فلا ضمان في شيء من ذلك. وعن إبراهيم النخعي ، أنه قال في رجل جمح به فرسه فقتل رجلا , قال : يضمن , هو بمنزلة الذي رمى بسهمه طائرا فأصاب رجلا فقتله.
قال أبو محمد : إذا جمح به فرسه , فإن كان هو المحرك له , المغالب له , فإنه يضمن كل ما جنى بتحريكه إياه , في القصد القود وفيما لم يقصده ضمان الخطأ
وأما إذا غلبته دابته فلم يحملها على شيء فلا شيء عليه أصلا في كل ما أصابت. ولو أن امرأ اتبع حيوانا ليأخذه فكل ما أفسد الحيوان في هروبه ذلك , مما هو حامله عليه , مما يوقن أن ذلك الحيوان إنما يراه ويهرب عنه : فهو ضامن له ما عمد وقصد بالقود , وما لم يقصد : فالدية على العاقلة والكفارة عليه
وأما ما أتلف ذلك الحيوان في جريه وهو لا يراه فلا ضمان على متبعه وبالله تعالى التوفيق.
2115 - مسألة: ولو أن إنسانا هيج كلبا , أو أطلق أسدا , أو أعطى أحمق سيفا فقتل رجلا : كل من ذكرنا فلا ضمان على المهيج , ولا على المطلق , ولا على المعطي السيف ; لأنهم لم يباشروا الجناية , ولا أمروا بها من يطيعهم. فلو أنه أشلى الكلب على إنسان , أو حيوان فقتله : ضمن المال وعليه القود مثل ذلك , ويطلق عليه كلب مثله حتى يفعل به مثل ما فعل الكلب بإطلاقه , لأنه هاهنا هو الجاني القاصد إلى إتلاف ما أتلف الكلب بإغرائه. ولو أن امرأ حفر حفرة وغطاها , وأمر إنسانا أن يمشي عليها , فمشى عليها ذلك الإنسان مختارا للمشي عالما , أو غير عالم : فلا ضمان على آمره بالمشي , ولا على الحافر , ولا على المعطي , لأنهم لم يمشوه , ولا باشروا إتلافه , وإنما هو باشر شيئا باختياره ، ولا فرق بين هذا بين من غر إنسانا فقال له : طريق كذا أمن هو فقال له : نعم , هو في غاية الأمن وهو يدري أن في الطريق المذكور أسدا هائجا , أو جملا هائجا , أو كلابا عقارة , أو قوما قطاعين للطريق , يقتلون الناس فنهض السائل مغترا بخبر هذا الغار له , فقتل وذهب ماله.
وكذلك : من رأى أسدا فأراد الهروب عنه فقال له إنسان من غر به : لا تخف , فإنه مقيد فاغتر بقوله ومشى , فقتله الأسد فهذا كله لا قود على الغار , ولا ضمان أصلا في دم ، ولا مال , لأنه لم يباشر شيئا , ولا أكره فلو أنه أكرهه على المشي على الحفرة فهلك فيها , أو طرحه إلى الأسد أو إلى الكلب فعليه القود. فلو طرحه إلى أهل الحرب , أو البغاة فقتلوه : فهم القتلة لا الطارح بخلاف طرحه إلى من لا يعقل , لأن من لا يعقل آلة للطارح.
وكذلك لو أمسكه لأسد فقتله , أو لمجنون فقتله , فالممسك هاهنا هو القاتل بخلاف إمساكه إياه لقتل من يعقل وبالله تعالى التوفيق.