→ كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2075 - 2078) | ابن حزم - المحلى كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2079 - 2085) ابن حزم |
كتاب الدماء والقصاص والديات (مسألة 2086 - 2089) ← |
كتاب الدماء والقصاص والديات
2079 - مسألة: فيمن أمر آخر بقطع يده أو بقتل ولده , أو عبده أو بقتله نفسه
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار قال : إن رجلا قال لعبد : اقطع أذني وأنت شريكي في الدية ففعل. فاختصموا إلى ابن الزبير فقامت البينة على قوله فأبطل ديته ;
قال علي : قد أوجب الله تعالى في النفس الدية إن أرادها ولي المقتول على لسان نبيه ﷺ . وأوجب الله تعالى أيضا كذلك دية الأصابع على ما ذكرنا قبل. وحرم الله طاعة أحد من الناس في معصية الله تعالى ,
وقد ذكرنا كل ذلك بإسناده فيما سلف من ديواننا.
حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا أحمد بن فتح ، حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ، حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث ، هو ابن سعد عن عبيد الله ، هو ابن عمر عن نافع ، عن ابن عمر عن النبي ﷺ ، أنه قال : على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره , إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ، ولا طاعة
وبه إلى مسلم ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر غندر ، حدثنا شعبة عن زبيد عن سعد بن عبيد عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال : إنما الطاعة في المعروف
قال أبو محمد : فحرام على كل من أمر بمعصية أن يأتمر لها , فإن فعل فهو فاسق عاص لله تعالى وليس له بذلك عذر.
وكذلك الآمر في نفسه بما لم يبح الله تعالى له فهو عاص لله تعالى فاسق ، ولا عذر للمأمور في طاعته , بل الآمر والذي يؤمر سواء في ذلك , فالواجب أن يجب للآمر إنسانا بقطع يد الآمر نفسه بغير حق , أو بقتل عبده , أو بقتل ابنه , ما يجب له لو لم يأمر بذلك من القود أو الدية , لأن وجود أمره بذلك باطل لا حكم له في الإباحة أصلا
وكذلك من أباح لأخر أن يقتله ففعل فلأولياء المقتول القود أو الدية. وقد قال مالك : من أمر آخر بقتل عبده فقتله فلا شيء على المأمور.
وقال الشافعي : من أمر آخر بقطع يد الآمر فلا شيء على القاطع.
قال علي : وهذان القولان في غاية الفساد لما ذكرنا , والعجب أنهم أصحاب قياس بزعمهم , وهم لا يختلفون فيمن أمر إنسانا بأن يزني بأمة نفسه ففعل أن الحد عليه.
فإن قالوا : إن له بعد قطع يده , وقتل أبيه , وغلامه : أن يعفو وليس له أن يعفو بعد الزنى بأمته قيل لهم : إن وقت العفو لم يأت بعد , فليس له أن يعفو , وهم لا يختلفون فيمن قال : من قتل ابن عمي فلان بن فلان فقد عفوت عنه فقتله قاتل , فإن له القود , فبطل تنظيرهم وبالله تعالى التوفيق.
2080- مسألة: في قول الله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له}
قال الله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له} , قال علي : من قرأ : {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} بالرفع في ذلك كله , لا بالعطف على النفس بالنفس , فهو حكم ثابت علينا لازم لنا , ومن قرأها بالنصب في كل ذلك , فهو معطوف على أن النفس بالنفس ، وأن ذلك من حكم التوراة.
قال أبو محمد : وكلتا القراءتين حق مشهور من عند الله تعالى , فكلا المعنيين حق , فكان ذلك مكتوبا في التوراة. كل ذلك أيضا مكتوب علينا بحق , فإذ ذلك كذلك فواجب أن ينظر في معنى قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} , فوجدنا ما ناه حمام ، حدثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ، حدثنا عبد الله بن يونس المرادي ، حدثنا بقي بن مخلد ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن الهيثم بن الأسود عن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} قال : هدم عنه من ذنوبه مثل ذلك.
قال أبو محمد : فهذا يدل على أنه كفارة لذنوب المجروح المتصدق بحقه. وبه : إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم النخعي في قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} قال : للمجروح. وبه : إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الحسن قال فمن تصدق به فهو كفارة له قال : للمجروح , وعن الشعبي قال : للذي تصدق به.
قال علي : وقيل غير هذا :
كما روينا بالسند المذكور إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الفضل بن دكين , ويحيى بن آدم عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى {فهو كفارة له} قال : للمجروح , وأجر المتصدق على الله تعالى. وعن جابر بن زيد قال : للمجروح وعن مجاهد في قوله تعالى {فهو كفارة له} وأجر المتصدق على الله.
ومن طريق وكيع ، حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم أنه سمعه يقول : إن عفا عنه , أو اقتص منه , أو قبل منه الدية فهو كفارة له.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا جرير , ، ووكيع , قال وكيع : عن سفيان , ثم اتفق جرير , وسفيان كلاهما عن منصور عن إبراهيم النخعي قال : كفارة للذي تصدق عليه , وأجر الذي أصيب على الله تعالى.
قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نفعل ما أمرنا الله تعالى به إذ يقول {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية ففعلنا , فوجدنا نص قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} جاء بلغة العرب. كما قال تعالى {بلسان عربي مبين}. ووجدنا في لغة العرب الضمير راجعا ، ولا بد إلى أقرب مذكور إلا بدليل. ووجدنا أقرب مذكور إلى فهو كفارة له الضمير الذي في تصدق به وهو ضمير المجني عليه المتصدق , فلا يجوز إخراجه عن هذا إلا بدليل , ولا دليل على ذلك.
وأما المتصدق عليه فإن الجاني فيما دون النفس إذا عفا عنه المجني عليه فإن غفر له , وتصدق بحقه عليه , فلا شك في أنه مغفور له , ومكفر عنه , لأن صاحب الحق قد أسقط حقه قبله.
وأما إذا لم يغفر له , ولكنه أخر طلبه إلى الآخرة , وأسقطه في الدنيا , فبلا شك ندري أن حقه باق له قبله , وأنه سيقتص يوم القيامة من حسناته.
وأما من قتل آخر فعليه حقان : حق المقتول في ظلمه إياه , وحق الولي في أخذ القود فإن عفا الولي فإنما عفا عن حق نفسه , ولا عفو له في حق غيره وهو لمقتول فحق المقتول باق عليه كما كان , لقول الله تعالى {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} وكما أخبر ﷺ.
روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة , وابن حجر , قالا جميعا : حدثنا إسماعيل ، هو ابن جعفر ، عن العلاء ، هو ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : أتدرون من المفلس قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ، ولا متاع , فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته , وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار , لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة , حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
ومن طريق البخاري ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش حدثني شقيق قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول " قال النبي ﷺ : أول ما يقضى بين الناس في الدماء.
وبه إلى البخاري ، حدثنا إسماعيل ، هو ابن أبي أويس ، حدثنا مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة " أن رسول الله ﷺ قال : من كانت له مظلمة لأخيه فليتحلله منها فإنه ليس ثم دينار ، ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم تكن له حسنات يؤخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه.
ومن طريق البخاري ، حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة , فوالذي نفس محمد بيده لاحدهم أهدى إلى منزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا.
قال علي : وأما إذا قتل قودا فقد انتصف منه كما أمر الله تعالى فلا تبعة عليه وبالله تعالى التوفيق.
2081 - مسألة: في امرأة نامت بقرب ابنها أو غيره فوجد ميتا
قال علي : حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عبد البصير ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي في امرأة شربت دواء فألقت ولدها قال : تكفر. وقال في امرأة أنامت صبيها إلى جنبها فطرحت عليه ثوبا فأصبحت وقد مات قال : أحب إلينا أن تكفر.
حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا مغيرة عن إبراهيم ، أنه قال في امرأة غطت وجه صبي لها فمات في نومه فقال : تعتق رقبة.
قال أبو محمد : إن مات من فعلها مثل أن تجر اللحاف على وجهه ثم ينام فينقلب فيموت غما , أو وقع ذراعها على فمه , أو وقع ثديها على فمه , أو رقدت عليه وهي لا تشعر فلا شك أنها قاتلته خطأ فعليها الكفارة , وعلى عاقلتها الدية , أو على بيت المال , وإن كان لم يمت من فعلها فلا شيء عليها في ذلك , أو لا دية أصلا , فإن شكت أمات من فعلها أم من غير فعلها فلا دية في ذلك , ولا كفارة , لأننا على يقين من براءتها من دمه , ثم على شك أمات من فعلها أم لا والأموال محرمة إلا بيقين , والكفارة إيجاب شرع , والشرع لا يجب إلا بنص , أو إجماع فلا يحل أن تلزم غرامة , ولا صياما , ولا أن تلزم عاقلتها دية بالظن الكاذب. وبالله تعالى التوفيق.
2082 - مسألة: هل بين الأجير ومستأجره قصاص
قال علي : روي عن بعض التابعين : ليس بين الأجير ومستأجره قصاص إلا أن يتعدى فيجب العقل بعد القسامة وهذا خطأ , لأن الله تعالى لم يفرق بين المستأجر وغيره , وليس إلا خطأ أو عمد , فلا شيء في الخطأ إلا ما أوجبه الله تعالى في النفس.
وأما العمد ففيه القصاص سواء الأجير والمستأجر , كما قال الله تعالى {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
2083- مسألة: في ميراث الدية
قال علي : اختلف الناس في كيف تورث الدية. فقالت طائفة : الدية للعصبة. وقال آخرون : هي لجميع الورثة.
كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ، حدثنا عبد الله بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم الضرير عن ليث بن أبي سليم عن أبي عمرو العبدي عن علي بن أبي طالب قال : تقسم الدية على ما يقسم عليه الميراث. وبه إلى قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا موسى بن معاوية ، حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن عمار عمن سمع عليا يقول : لقد ظلم من منع الإخوة من الأم نصيبهم من الدية.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن سالم عن الشعبي عن عمر بن الخطاب ، أنه قال : يرث من الدية كل وارث , والزوج , والزوجة , في الخطأ والعمد. وبه إلى أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال في الرجل يقتل عمدا فيعفو بعض الورثة قال : لأمرأته ميراثها من الدية. من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أسباط بن محمد عن هشام عن الحسن قال : ترث المرأة من دم زوجها.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا معن بن عيسى ، عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال : إذا قبل العقل في العمد كان ميراثا ترثه الزوجة وغيرها. وعن أبي قلابة أنه كان يتحدث أن الدية سبيلها سبيل الميراث. وعن الشعبي قال : الدية للميراث. وعن ابن جريج قال : قلت لعطاء : العقل كهيئة الميراث قال : نعم , قلت : وترث الإخوة من الأم منه قال : نعم. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في الإخوة من الأم يرثون في الدية , وكل وارث.
قال أبو محمد : والقول الثاني كما حدثنا حمام ، حدثنا ابن مفرج ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا الدبري ، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، أنه قال : قال عمر بن الخطاب : ما أرى الدية إلا للعصبة , لأنهم يعقلون عنه , فهل سمع أحد منكم في ذلك من رسول الله ﷺ شيئا فقال الضحاك بن سفيان الكلابي وكان النبي ﷺ استعمله على الأعراب : كتب إلي رسول الله ﷺ أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فأخذ عمر بذلك. وبه إلى عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه كان لا يورث الإخوة من الأم من الدية شيئا.
قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم حجة كل طائفة منهم فنتبع الحق حيث كان بعون الله تعالى. فوجدنا حجة من قال : لا يرث من الدية إلا العصبة : أن ذكروا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن الأعرابي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : سمعت أبا شريح الكعبي يقول : قال رسول الله ﷺ : فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين , بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا.
قال علي : فوجدنا هذا الخبر لا حجة لهم فيه , لأن النبي ﷺ جعل الدية لمن له أن يستقيد , وأخبر أنهم أهله والإخوة للأم والزوج والزوجة يقع عليهم اسم " أهل " على ما نذكر إن شاء الله تعالى في " باب من له عن القود العفو أو القصاص ". وقد صح النص عن رسول الله ﷺ بخلاف ما قلتم :
كما روينا من طريق مسلم ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، هو ابن سعد ، عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه قضى رسول الله ﷺ في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد , أو أمة , غير أن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت , فقضى رسول الله ﷺ بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وأن العقل على عصبتها.
قال أبو محمد : فصح أن رسول الله ﷺ قضى بالميراث لغير من قضي عليه بالعقل فبطل قولهم بيقين. وقد حكم رسول الله ﷺ في قتل الخطأ بأن الدية لأهل المقتول مسلمة ، وأن الدية في العمد لأهل المقتول واجبة لهم إن أرادوا أخذها وصح أنه ليس للقتل نوع إلا عمد أو خطأ.
فصحت الدية بيقين لأهل المقتول والزوجة من أهله.
كما روينا من طريق البخاري ، حدثنا الأويسي ، حدثنا إبراهيم ، هو ابن سعد عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال أخبرني عروة , وابن المسيب , وعلقمة بن وقاص , وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا , قالت : ودعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب , وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما , وهو يستشيرهما في فراق أهله.
فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله.
وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك , والنساء سواها كثير , واسأل الجارية تصدقك , فقال : هل رأيت من شيء يريبك قالت : ما رأيت شيئا أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها , فتأتي الداجن فتأكله. فقام على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي وأنه ما علمت من أهلي إلا خيرا.
ومن طريق عروة قال : لما أخبرت عائشة بالأمر , قالت : يا رسول الله أتأذن لي أن أنطلق إلى أهلي فأذن لها وأرسل معها الغلام. فهذا رسول الله ﷺ قد سمى زوجته " أهلا " وأخبر أنها " أهله ". وقد قالت له بريرة : تنام عن عجين " أهلها ". وبلا شك أن رسول الله ﷺ كان له في ذلك العجين نصيب فهو عليه الصلاة والسلام " أهلها " أيضا. وقد أستأذنته في الأنطلاق إلى " أهلها " وقد كان لها أخ لأم معروف
فصح أن هؤلاء كلهم داخلون في " الأهل ". فإذ الدية بنص القرآن , ونص السنة للأهل , والزوجة , والزوج , والإخوة للأم " أهل " فحظهم في الدية واجب كسائر الورثة ,
ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها في أن الدية موروثة على حسب المواريث لمن وجبت له , وعلى هذا اعتمادنا في توريث من ذكرنا من الدية.
وأما الأحاديث الواردة في ذلك غير ما ذكرنا فواهية لا تصح , وأحسن ما فيها حديث الضحاك بن سفيان الضبابي الكلابي الذي ذكرنا آنفا وهو منقطع لم يسمعه منه سعيد بن المسيب.
قال أبو محمد : فلو أن امرأ نذر نذرا لله تعالى أن يتصدق بكل ما ورث عن فلان ثم قتل ذلك الفلان خطأ أو عمدا فإنه لا يلزمه أن يتصدق بما يقع له من ديته في العمد , والخطأ , لأنه لم يرثه عنه.
2084 - مسألة: في ذكر ما روي عن النبي ﷺ في المقتتلين أن يحتجزوا
حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، هو ابن راهويه ، حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي حدثني حصن حدثني أبو سلمة عن عائشة : أن رسول الله ﷺ قال : وعلى المقتتلين أن يحتجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة.
قال أبو محمد : فماج الناس في تفسير هذا الخبر وحكى أحمد بن محمد الطحاوي أنه سأل عن تفسير هذا الخبر محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , وأحمد بن أبي عمران وإبراهيم المزني.
فأما محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فلم يجبه بشيء واعترف له بأنه لا يدري ما معناه.
وأما أحمد بن أبي عمران فقال له : هذا يخرج منه جواز عفو النساء عن الدم.
وأما المزني فقال له : معناه النهي عن القتال في غير الحق.
قال أبو محمد : أما ابن عبد الحكم فأحسن , إذ سكت عن شيء لم يتبين له وجهه.
وأما ابن أبي عمران فقال قولا فاسدا , لأنه لا يفهم أحد من قول قائل " على المقتتلين أن يحتجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة " أنه يجوز عفو النساء من الدم أو لا يجوز , وهذا سمج جدا , وما يعجز أحد من أن يدعي فيما شاء ما شاء إذا لم يحجزه ورع أو حياء
وأما المزني فإنه قال الكلام الصحيح الذي لا يجوز لأحد أن يقول غيره , وهو مقتضى لفظ الخبر ومفهومه الذي لا يفهم منه غيره , وهو أنه واجب على المقتتلين أن ينحجز بعضهم عن بعض فلا يقتتلون , وأن يبدأ بالأنحجاز الأول فالأول , لأن الأولين من المقتتلين هم المتصادمون قبل الذين من خلفهم فغرض الأنحجاز واقع على الأول فالأول من المقتتلين ولو أنه امرأة لأن القتال فيما بيننا محرم. هذا على أن الخبر لا يصح , وحصن : مجهول.
2085 - مسألة: فيمن له العفو عن الدم ومن لا عفو له
اختلف الناس في هذا فقالت طائفة : العفو جائز لكل أحد ممن يرث , وللزوجة , والزوج , وغيرهما , فإن عفا أحد ممن ذكرنا فقد حرم القصاص ووجبت الدية لمن لم يعف. وقال آخرون : العفو للرجال خاصة دون النساء.
وقالت طائفة : من أراد القصاص فذلك له , ولا يلتفت إلى من أراد الدية أو العفو , ما لم يتفقوا على ذلك. فالقول الأول
كما روينا من طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب أن رجلا قتل امرأته ولها إخوة فعفا أحدهم فأجاز ذلك عمر بن الخطاب ورفع عن القاتل نصيب الذي عفا وغرمه نصيب الذي لم يعف. قال سعيد : وحدثنا سفيان بن عيينة , وأبو عوانة , كلاهما عن الأعمش عن زيد بن وهب بمثله.
وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب قال : رأى رجل مع امرأته رجلا فقتلها فرفع إلى عمر بن الخطاب , فوهب بعض إخوتها نصيبه له , فأمر عمر سائرهم أن يأخذوا الدية. وعن إبراهيم النخعي في رجل قتل رجلا متعمدا فعفا بعض الأولياء , فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال لعبد الله بن مسعود : قل فيها , فقال : أنت أحق أن تقول يا أمير المؤمنين , فقال عبد الله : إذا عفا بعض الأولياء فلا قود , يحط عنه بحصة الذي عفا ولهم بقية الدية , فقال عمر : ذلك الرأي , وافقت ما في نفسي.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن زيد بن وهب أن عمر بن الخطاب رفع إليه رجل قتل رجلا , فجاء أولياء المقتول , فأرادوا قتله , فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل : قد عفوت عن حصتي من زوجي , فقال عمر : عتق الرجل من القتل. وعن إبراهيم قال : عفو كل ذي سهم جائز. وعن ابن جريج قال : قال عطاء في رجل قتل رجلا عمدا فعفا أحد بني المقتول , وأبى الآخر : فإنه يعطى الذي لم يعف شطر الدية. وعن قتادة إذا عفا أحد الأولياء فإنما تكون دية , ويسقط عن القاتل بقدر حصة الذي عفا. وعن عمر بن عبد العزيز إذا عفا أحدهم فالدية.
وأما القول الثاني فكما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : العفو إلى الأولياء , ليس للمرأة عفو.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو خالد عن أشعث عن الزهري قال : صاحب الدم أولى بالعفو. وعن قتادة : لا عفو للنساء , فإذا كانت الدية فلها نصيبها. وعن الحسن البصري : ليس للنساء عفو. وعن عمر بن عبد العزيز , لا عفو للمرأة في العمد. وعن إبراهيم النخعي : ليس للزوج ، ولا للمرأة عفو. وعن الزهري , وربيعة , وأبي الزناد , قال ربيعة : ليس للأم عفو , والولي ولي حيث كان , والبنت تعفو مع ولاة الدم , ولا تعفو الولاة دونها. وقال الزهري : وليه أولى بذلك. وقال أبو الزناد : أما العفو فلولي المقتول إن شاء قتل وإن شاء عفا. أما المتأخرون فإن أبا حنيفة , وسفيان الثوري , والحسن بن حي , والأوزاعي , والشافعي , قالوا بما روي عن عمر بن الخطاب , وابن مسعود : أن لكل وارث عفوا ، ولا يقتل إلا باجتماعهم على قتله. وقال ابن شبرمة , والليث : ليس للنساء عفو. وقال ابن أبي ليلى : لكل وارث عفو إلا الزوج والزوجة فلا عفو لهما. قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يقتل عمدا وليس له ولاة إلا النساء والعصبة فأرادا أن يعفوا عن الدم , وأبى بنات المقتول فإنه لا عفو للعصبة , يقتل به قاتله. فإن أراد بنات المقتول أن يعفون وأبى العصبة فلا عفو للبنات , والقول ما قال العصبة , ويقتل القاتل إذا لم يجتمع على العفو.
وكذلك إن كانت له ابنة واحدة فأرادت القتل وعفا العصبة فيقتل ، ولا عفو للعصبة. ورأي : إذا كان للمقتول ابن وابنة : أنه لا عفو للأبنة مع الأبن , ولكن إن عفا الأبن جاز على الأبنة. ورأي : عفو الأقرب فالأقرب من العصبة جائز على الأبعد منهم.
قال أبو محمد : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها لنعلم الحق من ذلك :
فنظرنا فيما قالت به الطائفة القائلة بأن عفو كل ذي سهم جائز , فوجدناهم يقولون بقول الله تعالى {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} فلما كان العفو أقرب للتقوى وجب أن من دعى إلى من هو أقرب للتقوى كان قوله أولى. وذكروا في ذلك ما روي عن أنس بن مالك ، أنه قال : ما رأيت رسول الله ﷺ رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر بالعفو قالوا : فهذا رسول الله ﷺ قد أمر في كل قصاص رفع إليه بالعفو , فوجب أن يكون العفو مغلبا على القود. وهذا أيضا حكم قد جاء عن عمر , وابن مسعود بحضرة الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهما مخالف. فهذا كل ما احتجوا به , ما نعرف لهم شيئا غيره أصلا. ثم نظرنا في قول من قال : العفو لجميع الورثة إلا الزوج والزوجة فلم نجد لهم شبهة إلا أن يقولوا ليسا من العصبة , ولا يعقلان مع العاقلة. ونظرنا في قول من قال : العفو للرجال خاصة دون النساء , فلم نجد لهم شبهة أصلا , إلا أن يقولوا : إنهن لا يرثن الولاء , ولا الولاية في الإنكاح فكذلك لا عفو لهن
وأما من قال بالفرق بين الزوجين وبين سائر الورثة من أجل أن الزوجين ليسا من العصبة , فقول في غاية الفساد. ومن أين خرج لهم أن هذا الأمر للعصبة , وهذا حكم ما جاء به من عند الله تعالى أمر , ولا من عند رسول الله ﷺ فهو باطل.
وأما أنهما لا يعقلان مع العاقلة فنعم , فكان ماذا وما الذي أدخل حكم العاقلة في حكم العفو من الدم والعاقلة إنما هي في القتل في الخطأ خاصة والعفو إنما هو في العمد خاصة , فما الذي جمع بين حكم العمد والخطأ ثم نظرنا في قول من رأى العفو للرجال دون النساء , فوجدناه أيضا فاسدا , لأنه قياس , والقياس كله باطل. ثم نظرنا في قول مالك فوجدناه في غاية التناقض بلا دليل أصلا , لأنه مرة غلب من دعا إلى القتل , وذلك في الأبنة مع العصبة " فرأى : إن دعا العصبة إلى القتل وعفت الأبنة أن القول قول العصبة
واحتج بأنها قد يدخلها زوجها إلى العفو , وأمرها إلى الضعف , وإن عفا العصبة ودعت الأبنة إلى القتل فالقول قول الأبنة
واحتج بأنها المصابة بأبيها فمرة راعى ضعفها , وإدخال زوجها لها إلى العفو , ولم يراع مصيبتها ومرة غلب من دعا إلى العفو , وذلك في البنين يعفو أحدهم دون الآخرين ومرة غلب الرجال على النساء وذلك في البنات مع الأبن وهذه أقوال ظاهرة التناقض يهدم بعضها بعضا , لا حجة لشيء منها , لا في قرآن ، ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا قياس , ولا في إجماع , ولا في قول صاحب فكان هذا القول أسقط من سائر الأقوال. ثم نظرنا في حجة من أجاز عفو كل وارث وغلبه , فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ,
وقال تعالى {ولكم في القصاص حياة} فأعلى ما يريده أهل هذا القول أن يكون العفو أعظم أجرا , والقصاص بلا شك مباح وإذا كان كلاهما مباحا فلا يجوز بلا خلاف أن يجبر على الأفضل من لا يريده غير راغب فبطل أن يكون في هذه الآية دليل على سقوط حق من أراد القصاص إذا عفا أحد الورثة. وهكذا القول في حديث أنس إن صح أنه لم ير رسول الله ﷺ قط رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو لأنه لم يختلف اثنان من الأمة في أنه إن صح فإنه أمر ندب لا أمر إلزام , فإذ ذلك كذلك فلا خلاف في أنه لا يجوز أن يجبر على الأفضل من لا يريده غير راغب عنه إذا أراد ما أبيح له فبطل أن يكون لهم في هذا الخبر تعلق.
قال أبو محمد : فلما سقطت هذه الأقوال كلها وتعرت من الأدلة وجب علينا إذ تنازعوا أن نرجع إلى ما افترض الله تعالى علينا الرجوع إليه عند التنازع إذ يقول تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} الآية , ففعلنا فوجدنا الله تعالى قد قال : {ولكم في القصاص حياة} , وقال رسول الله ﷺ : من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا فجعل الله تعالى القصاص حقا , وجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام أهل القتيل بين خيرتين إما أخذ العقل , وأما القتل , فساوى بين الأمرين أيهما شاءوا وكما روينا من طريق مسلم ، حدثنا إسحاق بن منصور أنا بشر بن عمر هو الزهراني سمعت مالك بن أنس يقول : حدثني أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل بن أبي حثمة : أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : أن عبد الله بن سهل , ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى رسول الله ﷺ محيصة وأخبر : أن عبد الله بن سهل قتل وطرح في عين أو فقير فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه , قالوا : والله ما قتلناه , ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك , ثم أقبل هو وأخوه محيصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل , فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله ﷺ الكبر , الكبر , إما أن يدوا صاحبكم ,
وأما أن يؤذنوا بحرب , فكتب رسول الله ﷺ إليهم في ذلك , فكتبوا : إنا والله ما قتلناه , فقال رسول الله ﷺ أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا : لا. وذكر الحديث وبه : إلى مسلم حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود , وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل , فقتل عبد الله بن سهل , فاتهموا اليهود , فجاء أخوه عبد الرحمن , وابنا عمه حويصة , ومحيصة إلى رسول الله ﷺ فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغر منهم فقال رسول الله ﷺ كبر , الكبر , أو قال : ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما , فقال رسول الله ﷺ يقسم خمسون منكم على رجل عنهم فيدفع برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف وذكر باقي الخبر.
ففي هذا الخبر الثابت أن رسول الله ﷺ جعل الحق في طلب الدم لأبن العم لسنه كما جعله للأخ للأب الوارث دون ابن العم , وأنه عليه الصلاة والسلام بدأ ابن العم لسنه فبطل بهذا قول من راعى أن الحق للأقرب فالأقرب , أو للوارث دون غيره. وصح أن الحق " للأهل " كما جاء في القرآن , والسنة الصحيحة , وابن العم من " الأهل " بلا شك في لغة العرب وهذا هو الإجماع الصحيح , لأنه كان بعلم الصحابة بالمدينة , إذ قتل مثل عبد الله بن سهل , وقيام بني حارثة في طلب دمه لا يمكن استتار مثله عن أحد من قومه , وعن المهاجرين , فإذا الحق للجميع سواء , فمن الباطل أن يغلب أحدهم على الآخرين منهم إلا بنص , أو إجماع ، ولا نص , ولا إجماع في ذلك. ثم نظرنا إذا عفا أحد " الأهل " ولم يعف غيره منهم بعد صحة الأتفاق من إجماع الأمة على أنهم كلهم إن اتفقوا على القود نفذ , وإن اتفقوا على العفو نفذ وقيام البرهان على أنهم إن اتفقوا على الدية أو المفاداة نفذ ذلك فوجدنا القود والدية قد ورد التخيير فيهما ورودا واحدا ليس أحدهما مقدما على الآخر , فلم يجز أن يغلب عفو العافي على إرادة من أراد القصاص على عفو العافي إلا بنص " أو إجماع ، ولا نص , ولا إجماع في تغليب العافي
فنظرنا في ذلك فوجدنا الله تعالى يقول : {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} فوجب بهذه الآية أن لا يجوز عفو العافي عمن لم يعف. ووجدنا القاتل قد حل دمه بنفس القتل : كما حدثنا عبد الله بن ربيع ، حدثنا عمر بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : كنا مع عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور فخرج إلينا وهو متغير لونه فقال : يتواعدوني بالقتل آنفا , وبم يقتلونني سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه , أو زنا بعد إحصان , أو قتل نفسا بغير نفس , فيقتل فوالله ما زنيت في جاهلية ، ولا إسلام قط , ولا أحببت أن لي بديني بدلا مذ هداني الله تعالى , ولا قتلت نفسا ".
قال أبو محمد : فصح بقول النبي ﷺ أن من قتل نفسا خرج دمه من التحريم إلى التحليل بنفس قتله من قتل , فإذ صح هذا فالقاتل متيقن تحليل دمه والداعي إلى أخذ القود داع إلى ما قد صح بيقين وذلك له , والعافي مريد تحريم دم قد صح تحليله بيقين فليس له ذلك , إلا بنص , أو إجماع , ومريد أخذ الدية دون من معه مريد إباحة أخذ مال , والأموال محرمة بقول رسول الله ﷺ : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام والنص قد جاء بإباحة دم القاتل , كما
قلنا بيقين قتله , ولم يأت نص بإباحة الدية إلا بأخذ " الأهل " لها , وهذا لفظ يقتضي إجماعهم على أخذها فالدية ما لم يجمع " الأهل " على أخذها , إذ لم يبحها نص , ولا إجماع فبطل بيقين. وصح أن من دعا إلى القود فهو له
وهو قول مالك في البنات مع العصبة , إلا أنه ناقض في ذلك مع البنين والبنات , وفي بعض البنين مع بعض.
قال أبو محمد : والذي نقول به أن كل ذلك سواء ، وأن الحكم للأهل وهم الذين يعرف المقتول بالأنتماء إليهم , كما كان يعرف عبد الله بن سهل بالأنتماء إلى بني حارثة وهم الذين أمرهم النبي ﷺ بأن يقسم منهم خمسون ويستحقون القود أو الدية , وأن من أراد منهم القود سواء كان ولدا أو ابن عم أو ابنة أو أختا , أو غير ذلك من أم , أو زوج , أو زوجة , أو بنت عم , أو عمة فالقود واجب , ولا يلتفت إلى عفو من عفا ممن هو أقرب , أو أبعد , أو أكثر في العدد لما ذكرنا. فإن اتفق الورثة كلهم على العفو فلهم الدية حينئذ ويحرم الدم , فإن أراد أحد الورثة العفو عن الدية فله ذلك , في حصته خاصة , إذ هو مال من ماله وبالله تعالى التوفيق.